في ظلال القرآن - ج ٥

سيّد قطب

في ظلال القرآن - ج ٥

المؤلف:

سيّد قطب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٩

الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) (٦٨)

هذه السورة المكية ـ كسابقتها ـ قصيرة الفواصل ، سريعة الإيقاع ، كثيرة المشاهد والمواقف ، متنوعة الصور والظلال ، عميقة المؤثرات ، وبعضها عنيف الوقع ، عنيف التأثير.

وهي تستهدف ـ كسائر السور المكية ـ بناء العقيدة في النفوس ، وتخليصها من شوائب الشرك في كل صوره وأشكاله. ولكنها ـ بصفة خاصة ـ تعالج صورة معينة من صور الشرك التي كانت سائدة في البيئة العربية الأولى. وتقف أمام هذه الصورة طويلا ؛ وتكشف عن زيفها وبطلانها بوسائل شتى .. تلك هي الصورة التي كانت

٤٤١

جاهلية العرب تستسيغها ، وهي تزعم أن هناك قرابة بين الله ـ سبحانه ـ وبين الجن. وتستطرد في تلك الأسطورة فتزعم أنه من التزاوج بين الله ـ تعالى ـ والجنة ولدت الملائكة. ثم تزعم أن الملائكة إناث ، وأنهن بنات الله!

هذه الأسطورة تتعرض لحملة قوية في هذه السورة ؛ تكشف عن تهافتها وسخفها. ونظرا لأنها هي الموضوع البارز الذي تعالجه السورة ، فإنها تبدأ بالإشارة إلى طوائف من الملائكة : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) .. ويتلوها حديث عن الشياطين المردة ، وتعرضهم للرجم بالشهب الثاقبة كي لا يقربوا من الملأ الأعلى. ولا يتسمعوا لما يدور فيه ؛ ولو كانوا حيث تزعم لهم أساطير الجاهلية ما طوردوا هذه المطاردة! كذلك يشبه ثمار شجرة الزقوم التي يعذب بها الظالمون في جهنم بأنها كرؤوس الشياطين في معرض التقبيح والتفظيع! وفي نهاية السورة تأتي الحملة المباشرة على تلك الأسطورة المتهافتة : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ؟ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ : وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ .. سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ!) ..

وإلى جانب علاج هذه الصورة الخاصة من صور الشرك الجاهلية تتناول السورة جوانب العقيدة الأخرى التي تتناولها السور المكية. فتثبت فكرة التوحيد مستذلة بالكون المشهود : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) .. وتنص على أن الشرك هو السبب في عذاب المعذبين في ثنايا مشهد من مشاهد القيامة : (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ. إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ. إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ : لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ ؛ وَيَقُولُونَ : أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ؟ بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ. إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ. وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ..

كذلك تتناول قضية البعث والحساب والجزاء. (وَقالُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) .. ثم تعرض بهذه المناسبة مشهدا مطولا فريدا من مشاهد القيامة الحافلة بالمناظر والحركات والانفعالات والمفاجئات!

وتعرض لقضية الوحي والرسالة الذي ورد من قولهم : (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ؟) والرد عليهم : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) ..

وبمناسبة ضلالهم وتكذيبهم. تعرض سلسلة من قصص الرسل : نوح وإبراهيم وبنيه. وموسى وهارون. وإلياس. ولوط. ويونس. تتكشف فيها رحمة الله ونصره لرسله وأخذه للمكذبين بالعذاب والتنكيل : (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) ..

وتبرز في هذا القصص قصة إبراهيم خاصة مع ابنه إسماعيل. قصة الذبح والفداء وتبرز فيها الطاعة والاستسلام لله في أروع صورها وأعمقها وأرفعها ؛ وتبلغ الذروة التي لا يبلغها إلا الإيمان الخالص الذي يرفع النفوس إلى ذلك الأفق السامق الوضيء.

* * *

والمؤثرات الموحية التي تصاحب عرض موضوعات السور وقضاياها ، تتمثل بشكل واضح في :

مشهد السماء وكواكبها وشهبها ورجومها : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) ..

وفي مشاهد القيامة ومواقفها المثيرة ، ومفاجآتها الفريدة ، وانفعالاتها القوية. والمشاهد التي تحويها هذه السورة

٤٤٢

ذات طابع فريد حقا سنلمسه عند استعراضه تفصيلا في مكانه من السورة.

وفي القصص ومواقفه وإيحاءاته. وبخاصة في قصة إبراهيم وولده الذبيح إسماعيل ـ عليهما‌السلام ، وترتفع المؤثرات الموحية هنا إلى الذروة التي تهز القلوب هزا عميقا عنيفا.

ذلك إلى الإيقاع الموسيقي في السورة وهو ذو طابع مميز يتفق مع صورها وظلالها ومشاهدها ومواقفها وإيحاءاتها المتلاحقة العميقة.

* * *

ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة أشواط رئيسية :

الشوط الأول يتضمن افتتاح السورة بالقسم بتلك الطوائف من الملائكة : والصافات صفا. فالزاجرات زجرا. فالتاليات ذكرا على وحدانية الله رب المشارق ، مزين السماء بالكواكب. ثم تجيء مسألة الشياطين وتسمعهم للملأ الأعلى ورجمهم بالشهب الثاقبة. يتلوها سؤال لهم : (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أم تلك الخلائق : الملائكة والسماء والكواكب والشياطين والشهب؟ للتوصل من هذا إلى تسفيه ما كانوا يقولونه عن البعث ، وإثبات ما كانوا يستبعدونه ويستهزئون بوقوعه. ومن ثم يعرض ذلك المشهد المطول للبعث والحساب والنعيم والعذاب. وهو مشهد فريد ..

والشوط الثاني يبدأ بأن هؤلاء الضالين لهم نظائر في السابقين ، الذين جاءتهم النذر فكان أكثرهم من الضالين. ويستطرد في قصص أولئك المنذرين من قوم نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس ولوط ويونس ؛ وكيف كانت عاقبة المنذرين وعاقبة المؤمنين.

والشوط الثالث يتحدث عن تلك الأسطورة التي مر ذكرها : أسطورة الجن والملائكة. ويقرر كذلك وعد الله لرسله بالظفر والغلبة : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) .. وينتهي بختام السورة بتنزيه الله سبحانه والتسليم على رسله والاعتراف بربوبيته : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) .. وهي القضايا التي تتناولها السورة في الصميم ..

والآن نأخذ في التفصيل :

* * *

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ، فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ، فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ، إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) ..

والصافات والزاجرات والتاليات .. طوائف من الملائكة ذكرها هنا بأعمالها التي يعلمها. والتي يجوز أن تكون هي الصافات قوائمها في الصلاة ، أو أجنحتها في ارتقاب أمر الله. والزاجرات لمن يستحق الزجر من العصاة في أثناء قبض أرواحهم مثلا أو عند الحشر والسوق إلى جهنم أو في أية حالة وفي أي موضع. والتاليات للذكر .. القرآن أو غيره من كتب الله أو المسبحات بذكر الله.

يقسم الله سبحانه بهذه الطوائف من الملائكة على وحدانيته : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) .. ومناسبة هذا القسم ـ كما أسلفنا ـ هو تلك الأسطورة التي كانت شائعة في جاهلية العرب من نسبة الملائكة إلى الله ، واتخاذهم آلهة بما أنهم ـ بزعمهم ـ بنات الله!

ثم يعرف الله عباده بنفسه في صفته المناسبة للوحدانية :

٤٤٣

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) ..

وهذه السماوات والأرض قائمة حيال العباد ؛ تحدثهم عن الخالق البارئ المدبر لهذا الملكوت الهائل ؛ الذي لا يدعي أحد أنه يملك خلقه وتدبيره ؛ ولا يملك أحد أن يهرب من الاعتراف لخالقه بالقدرة المطلقة والربوبية الحقة. (وَما بَيْنَهُما) .. من هواء وسحاب ، وضوء ونور ، ومخلوقات دقيقة يعرف البشر شيئا منها الحين بعد الحين ، ويخفى عليهم منها أكثر مما يكشف لهم!

والسماوات والأرض وما بينهما من الضخامة والعظمة والدقة والتنوع والجمال والتناسق بحيث لا يملك الإنسان نفسه أمامها ـ حين يستيقظ قلبه ـ من التأثر العميق ، والروعة البالغة ، والتفكر الطويل. وما يمر الإنسان بهذا الخلق العظيم من غير ما تأثر ولا تدبر إلا حين يموت قلبه ، فيفقد التأثر والاستجابة لإيقاعات هذا الكون الحافل بالعجائب.

(وَرَبُّ الْمَشارِقِ) ..

ولكل نجم مشرق ، ولكل كوكب مشرق ، فهي مشارق كثيرة في كل جانب من جوانب السماوات الفسيحة .. وللتعبير دلالة أخرى دقيقة في التعبير عن الواقع في هذه الأرض التي نعيش عليها كذلك. فالأرض في دورتها أمام الشمس تتوالى المشارق على بقاعها المختلفة ـ كما تتوالى المغارب ـ فكلما جاء قطاع منها أمام الشمس كان هناك مشرق على هذا القطاع ، وكان هناك مغرب على القطاع المقابل له في الكرة الأرضية. حتى إذا تحركت الأرض كان هناك مشرق آخر على القطاع التالي ومغرب آخر على القطاع المقابل له وهكذا .. وهي حقيقة ما كان يعرفها الناس في زمان نزول القرآن الكريم ؛ ولكن خبرهم بها الله في ذلك الزمان القديم!

وهذا النظام الدقيق في توالي المشارق على هذه الأرض. وهذا البهاء الرائع الذي يغمر الكون في مطالع المشارق .. كلاهما جدير بأن يوقع في القلب البشري من التأثرات الموحية ، ما يهتف به إلى تدبر صنعة الصانع المبدع ، وإلى الإيمان بوحدانية الخالق المدبر ، بما يبدو من آثار الصنعة الموحدة التي لا اختلاف في طابعها الدقيق الجميل.

تلك هي مناسبة ذكر هذه الصفة من صفات الله الواحد في هذا المقام. وسنرى أن ذكر السماء وذكر المشارق له مناسبة أخرى فيما يلي هذه الآيات من السورة. عند الحديث عن الكواكب والشهب والشياطين والرجوم ..

* * *

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ، وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ ، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ ، دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ ، إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ).

بعد ما مس في مطلع السورة شطر الأسطورة الخاص بالملائكة ، عاد يمس هنا شطرها الثاني وهو الخاص بالشياطين. وكانوا يزعمون أن بين الله وبين الجنة نسبا. وبعضهم كانوا يعبدون الشياطين على هذا الأساس. وعلى أساس أن الشياطين يعرفون الغيب لاتصالهم بالملأ الأعلى ..

وبعد ذكر السماوات والأرض وما بينهما وذكر المشارق .. إما مشارق النجوم والكواكب. وإما المشارق المتوالية على قطاعات الأرض .. وإما هذه وتلك وأنوارها وأضوائها .. يجيء ذكر الكواكب :

(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) ..

ونظرة إلى السماء كافية لرؤية هذه الزينة ؛ ولإدراك أن الجمال عنصر مقصود في بناء هذا الكون ؛ وأن

٤٤٤

صنعة الصانع فيه بديعة التكوين جميلة التنسيق ؛ وأن الجمال فيه فطرة عميقة لا عرض سطحي ؛ وأن تصميمه قائم على جمال التكوين كما هو قائم على كمال الوظيفة سواء بسواء. فكل شيء فيه بقدر ، وكل شيء فيه يؤدي وظيفته بدقة ؛ وهو في مجموعه جميل.

والسماء. وتناثر الكواكب فيها ، أجمل مشهد تقع عليه العين. ولا تمل طول النظر إليه. وكل نجمة توصوص بضوئها وكل كوكب يوصوص بنوره ؛ وكأنه عين محبة تخالسك النظر ؛ فإذا أنت حدقت فيها أغمضت وتوارت ؛ وإذا أنت التفت عنها أبرقت ولمعت! وتتبع مواقعها وتغير منازلها ليلة بعد ليلة وآنا بعد آن متعة نفسية لا تملها النفس أبدا!

ثم تقرر الآية التالية أن لهذه الكواكب وظيفة أخرى ، وأن منها شهبا ترجم بها الشياطين كي لا تدنو من الملأ الأعلى :

«وحفظا من كل شيطان مارد. لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب. إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب» ..

فمن الكواكب رجوم تحفظ السماء من كل شيطان عات متمرد وتذوده عن الاستماع إلى ما يدور في الملأ الأعلى ؛ فإذا حاول التسمع تلقفته الرجوم من كل جانب ، فتدحره دحرا ، وله في الآخرة عذاب موصول لا ينقطع. ولقد يخطف الشيطان المارد خطفة سريعة مما يدور في الملأ الأعلى ، فيتبعه شهاب يلاحقه في هبوطه فيصيبه ويحرقه حرقا.

ونحن لا نعرف كيف يتسمع الشيطان المارد ؛ ولا كيف يخطف الخطفة ؛ ولا كيف يرجم بالشهاب الثاقب. لأن هذه كلها غيبيات تعجز طبيعتنا البشرية عن تصور كيفياتها ؛ ومجالنا فيها هو تصديق ما جاء من عند الله فيها. وهل نعلم عن شيء في هذا الكون إلا القشور؟!

والمهم أن هذه الشياطين التي تمنع من الوصول إلى الملأ الأعلى ، ومن التسمع لما يدور فيه هي التي يدعي المدعون أن بينها وبين الله نسبا ، ولو كان شيء من هذا صحيحا لتغير وجه المعاملة. ولما كان مصير الأنسباء والأصهار ـ بزعمهم ـ هو المطاردة والرجم والحرق أبدا!

* * *

وبعد ذكر الملائكة. وذكر السماوات والأرض وما بينهما. وذكر الكواكب التي تزين السماء الدنيا. وذكر الشياطين المردة والقذائف التي تلاحقها .. يكلف الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يسألهم أهم أشد خلقا أم هذه الخلائق؟ وإذا كانت هذه الخلائق أشد وأقوى ففيم يدهشون لقضية البعث ويسخرون منها ، ويستبعدون وقوعها ، وهي لا تقاس إلى خلق تلك الخلائق الكبرى :

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا؟ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ. بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ. وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ. وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ : وَقالُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟).

فاستفتهم واسألهم إذا كانت الملائكة والسماوات والأرض وما بينهما والشياطين والكواكب والشهب كلها من خلق الله. فهل خلقهم هم أشد وأصعب من خلق هذه الأكوان والخلائق؟

ولا ينتظر منهم جوابا ، فالأمر ظاهر ؛ إنما هو سؤال الاستنكار والتعجيب من حالهم العجيب. وغفلتهم عما حولهم ، والسخرية من تقديرهم للأمور. ومن ثم يعرض عليهم مادة خلقهم الأولى. وهي طين رخو لزج

٤٤٥

من بعض هذه الأرض ، التي هي إحدى تلك الخلائق :

(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) ..

فهم قطعا ليسوا أشد خلقا من تلك الخلائق! وموقفهم إذن عجيب. وهم يسخرون من آيات الله ، ومن وعده لهم بالبعث والحياة. وسخريتهم هذه تثير العجب في نفس الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهم في موقفهم سادرون :

(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ. وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ. وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) ..

وحق لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يعجب من أمرهم. فإن المؤمن الذي يرى الله في قلبه كما يراه محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ويرى آيات الله واضحة هذا الوضوح ، كثيرة هذه الكثرة ، يعجب ـ لا شك ـ ويدهش كيف يمكن أن تعمى عنها القلوب؟ وكيف يمكن أن تقف منها هذا الموقف العجيب!

وبينهما رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعجب منهم هذا العجب ، إذا هم يسخرون من القضية الواضحة التي يعرضها عليهم ، سواء في وحدانية الله ، أو في شأن البعث والنشور. وإذا هم مطموسون لا تتفتح قلوبهم للتذكير وإذا هم يتلقون آيات الله بالسخرية الشديدة ، والتعجيب ممن يريهم إياها ، واستدعاء أسباب السخرية وطلبها طلبا كما يوحي لفظ (يَسْتَسْخِرُونَ)!

ومن ذلك وصفهم القرآن بأنه سحر ، وعجبهم مما يعدهم به من البعث :

(وَقالُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟) ..

لقد غفلوا عن آثار قدرة الله فيما حولهم ، وفي ذات أنفسهم. غفلوا عن آثار هذه القدرة في خلق السماوات والأرض وما بينهما ؛ وفي خلق الكواكب والشهب ؛ وفي خلق الملائكة والشياطين ؛ وفي خلقهم هم أنفسهم من طين لازب. غفلوا عن آثار القدرة في هذا كله ووقفوا يستبعدون على هذه القدرة أن تعيدهم إذا ماتوا وصاروا ترابا وعظاما ، هم وآباءهم الأولين! وما في هذا البعث والإعادة من غريب على تلك القدرة ولا بعيد ؛ لمن يتأمل هذا الواقع ويتدبره أقل تدبر ؛ في ضوء هذه المشاهدات التي تحيط بهم في الآفاق وفي أنفسهم.

* * *

وإذ كانوا لا يتدبرون هذه المشاهدات في هوادة ويسر ، وفي طمأنينة وهدوء. فهو يوقظهم إذن بشدة وعنف ، على مشهدهم في الآخرة مبعوثين. ويصور لهم ذلك المشهد وهم فيه يضطربون (١) :

«قل : نعم وأنتم داخرون» ..

نعم ستبعثون أنتم وآباؤكم الأولون. ستبعثون وأنتم داخرون ، ذلولون ، مستسلمون. غير مستعصين ولا متأبين .. نعم .. ثم يدخل في استعراض ذلك كيف يكون. وإذا هم أمام مشهد من المشاهد المطولة المتعددة الجوانب. المتنوعة الأساليب. المزدحمة بالمناظر الحية والحركات المتتابعة. يلتقي فيها الوصف بالحوار. فتسير على نسق الحكاية فترة ، ثم تنتقل إلى نسق الحوار أخرى. ويتخلل عرض الأحداث والحركات تعليقات وتعقيبات عليها. وبذلك يستكمل المشهد كل سمات الحياة :

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) ..

__________________

(١) نستعير هنا في تفسير هذا المشهد صفحات من كتاب : «مشاهد القيامة في القرآن» نشر «دار الشروق» مع تصرف قليل.

٤٤٦

هكذا في ومضة خاطفة بمقدار ما تنبعث صيحة واحدة. تسمى «زجرة» للدلالة على لون من الشدة فيها ، والعنف في توجيهها ، والاستعلاء في مصدرها .. «فإذا هم ينظرون» .. فجأة وبلا تمهيد أو تحضير. وإذا هم يصيحون مبهوتين :

«وقالوا : يا ويلنا. هذا يوم الدين» ..

وبينما هم في بهتتهم وبغتتهم إذا صوت يحمل إليهم التقريع من حيث لا يتوقعون :

«هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون» ..!

وهكذا ينتقل السياق من الخبر إلى الخطاب موجها لمن كانوا يكذبون بيوم الدين. وإن هي إلا تقريعة واحدة حاسمة. ثم يوجه الأمر إلى الموكلين بالتنفيذ :

«احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فأهدوهم إلى صراط الجحيم. وقفوهم إنهم مسؤولون».

احشروا الذين ظلموا ومن هم على شاكلتهم من المذنبين ، فهم أزواج متشاكلون .. وفي الأمر ـ على ما فيه من لهجة جازمة ـ تهكم واضح في قوله : «فاهدوهم إلى صراط الجحيم» .. فما أعجبها من هداية خير منها الضلال. وإنها لهي الرد المكافئ لما كان منهم من ضلال عن الهدى القويم. وإذ لم يهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم ، فليهتدوا اليوم إلى صراط الجحيم!

وها هم أولاء قد هدوا. هدوا إلى صراط الجحيم. ووقفوا على استعداد للسؤال. وها هو ذا الخطاب يوجه إليهم بالتقريع في صورة سؤال بريء!

«ما لكم لا تناصرون؟»!

ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا ، وأنتم هنا جميعا؟ وكلكم في حاجة إلى الناصر المعين؟! ومعكم آلهتكم التي كنتم تعبدون!

ولا جواب بطبيعة الحال ولا كلام! إنما يرد التعليق والتعقيب :

«بل هم اليوم مستسلمون» ..

عابدين. ومعبودين!!!

ثم يعود السياق مرة أخرى إلى الحكاية ، ويعرض مشهدهم يجادل بعضهم بعضا :

«وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. قالوا : إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين» ..

أي كنتم توسوسون لنا عن يميننا ـ كما هو المعتاد في حالة الوسوسة بالأسرار غالبا ـ فأنتم مسؤولون عما نحن فيه.

وعندئذ ينبري المتهمون لتسفيه هذا الاتهام ، وإلقاء التبعة على موجهيه :

«قالوا : بل لم تكونوا مؤمنين» ..

فلم تكن وسوستنا هي التي أغوتكم بعد إيمان ، وأضلتكم بعد هدى ..

«وما كان لنا عليكم من سلطان» ..

نرغمكم به على قبول ما نراه ، ونضطركم إليه اضطرارا لا ترغبون فيه.

«بل كنتم قوما طاغين» ..

٤٤٧

متجاوزين للحق ، ظالمين لا تقفون عند حد.

«فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون» ..

فاستحققنا نحن وأنتم العذاب ، وحق علينا الوعيد بأن نذوق العذاب.

وقد انزلقتم معنا بسبب استعدادكم للغواية ، وما فعلنا بكم إلا أنكم اتبعتمونا في غوايتنا :

«فأغويناكم إنا كنا غاوين» ..

وهنا يرد تعليق آخر ، وكأنه حكم يعلن على رؤوس الأشهاد ، يحمل أسبابه ، ويعرض ما كان منهم في الدنيا مما حقق قول الله عليهم في الآخرة :

«فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون. إنا كذلك نفعل بالمجرمين. إنهم كانوا إذا قيل لهم : لا إله إلا الله يستكبرون ؛ ويقولون : أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون» ..

ثم يكمل التعليق متوجها فيه بالتأنيب والتقبيح لقائلي هذا الكلام المرذول :

«بل جاء بالحق وصدق المرسلين. إنكم لذائقو العذاب الأليم. وما تجزون إلا ما كنتم تعملون. إلا عباد الله المخلصين» ..

وعلى ذكر عباد الله المخلصين ـ الذين استثناهم من تذوق العذاب الأليم يعرض صفحة هؤلاء العباد المخلصين في يوم الدين. ويعود العرض متبعا نسق الإخبار المصور للنعيم الذي يتقلبون في أعطافه ـ في مقابل ذلك العذاب الأليم للمكذبين ـ :

«أولئك لهم رزق معلوم. فواكه وهم مكرمون. في جنات النعيم. على سرر متقابلين. يطاف عليهم بكأس من معين. بيضاء لذة للشاربين. لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون. وعندهم قاصرات الطرف عين. كأنهن بيض مكنون ..».

وهو نعيم مضاعف يجمع كل مظاهر النعيم. نعيم تستمتع به النفس ويستمتع به الحس. وتجد فيه كل نفس ما تشتهيه من ألوان النعيم.

فهم ـ أولا ـ عباد الله المخلصون. وفي هذه الإشارة أعلى مراتب التكريم. وهم ـ ثانيا ـ «مكرمون» في الملأ الأعلى. ويا له من تكريم! ثم إن لهم «فواكه» وهم على «سرر متقابلين». وهم يخدمون فلا يتكلفون شيئا من الجهد في دار الراحة والرضوان والنعيم : «يطاف عليهم بكأس من معين. بيضاء لذة للشاربين. لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون» .. وتلك أجمل أوصاف الشراب ، التي تحقق لذة الشراب ، وتنفي عقابيله. فلا خمار يصدع الرؤوس ، ولا منع ولا انقطاع يذهب بلذة المتاع! «وعندهم قاصرات الطرف عين» حور حييات لا تمتد أبصارهن إلى غير أصحابهن حياء وعفة ، مع أنهن «عين» واسعات جميلات العيون! وهن كذلك مصونات مع رقة ولطف ونعومة : «كأنهن بيض مكنون» .. لا تبتذله الأيدي ولا العيون!

ثم يمضي في الحكاية المصورة ؛ فإذا عباد الله المخلصون هؤلاء ـ بعد ما يسرت لهم كل ألوان المتاع ـ ينعمون بسمر هادئ ، يتذاكرون فيه الماضي والحاضر ـ وذلك في مقابل التخاصم والتلاحي الذي يقع بين المجرمين في أول المشهد ـ وإذا أحدهم يستعيد ماضيه ، ويقص على إخوانه طرفا مما وقع له :

«قال قائل منهم : إني كان لي قرين. يقول : أإنك لمن المصدقين. أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون؟» ..

لقد كان صاحبه وقرينه ذاك يكذب باليوم الآخر ، ويسائله في دهشة : أهو من المصدقين بأنهم مبعوثون

٤٤٨

فمحاسبون بعد إذ هم تراب وعظام؟!

وبينما هو ماض في قصته يعرضها في سمره مع إخوانه ، يخطر له أن يتفقد صاحبه وقرينه ذاك ليعرف مصيره. وهو يعرف بطبيعة الحال أنه قد صار إلى الجحيم. فيتطلع ويدعو إخوانه إلى التطلع معه :

قال : «هل أنتم مطلعون؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم» ..

عندئذ يتوجه إلى قرينه الذي وجده في وسط الجحيم. يتوجه إليه ليقول له : يا هذا. لقد كدت توردني موارد الردى بوسوستك. لولا أن الله قد أنعم علي ، فعصمني من الاستماع إليك :

«قال : تالله إن كدت لتردين. ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين» ..

أي لكنت من الذين يساقون إلى الموقف وهم كارهون.

وتثير رؤيته لقرينه في سواء الجحيم شعوره بجزالة النعمة التي نالها هو وإخوانه من عباد الله المخلصين. فيحب أن يؤكدها ويستعرضها ، ويطمئن إلى دوامها ، تلذذا بها وزيادة في المتاع بها فيقول :

«أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى؟ وما نحن بمعذبين؟ إن هذا لهو الفوز العظيم» ..

وهنا يرد تعليق يوقظ القلوب ويوجهها إلى العمل والتسابق لمثل هذا المصير :

«لمثل هذا» النعيم الذي لا يدركه فوت ، ولا يخشى عليه من نفاد ، ولا يعقبه موت ، ولا يتهدده العذاب. لمثل هذا فليعمل العاملون .. فهذا هو الذي يستحق الاحتفال. وما عداه مما ينفق فيه الناس أعمارهم على الأرض زهيد زهيد حين يقاس إلى هذا الخلود.

ولكي يتضح الفارق الهائل بين هذا النعيم الخالد الآمن الدائم الراضي ؛ والمصير الآخر الذي ينتظر الفريق الآخر. فإن السياق يستطرد إلى ما ينتظر هذا الفريق بعد موقف الحشر والحساب الذي ورد في مطلع المشهد الفريد :

«أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم! إنا جعلناها فتنة للظالمين. إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم. طلعها كأنه رؤوس الشياطين. فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون. ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم. ثم إن مرجعهم لإلي الجحيم» ..

أذلك النعيم المقيم خير منزلا ومقاما أم شجرة الزقوم؟

وما شجرة الزقوم؟

«إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم. طلعها كأنه رؤوس الشياطين» ..

والناس لا يعرفون رؤوس الشياطين كيف تكون! ولكنها مفزعة ولا شك. ومجرد تصورها يثير الفزع والرعب. فكيف إذا كانت طلعا يأكلونه ويملأون منه البطون؟!

لقد جعل الله هذه الشجرة فتنة للظالمين. فحين سمعوا باسمها سخروا وقالوا : كيف تنبت شجرة في الجحيم ولا تحترق. وقال قائل منهم هو أبو جهل ابن هشام يسخر ويتفكه : «يا معشر قريش هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟ قالوا : لا. قال : عجوة يثرب بالزبد! والله لئن استمكنا منها لنزقمنها تزقما! ولكن شجرة الزقوم هذه شيء آخر غير ذلك الطعام الذي كانوا يعرفون!

«فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون» ..

فإذا شاكت حلوقهم وهي كرؤوس الشياطين ـ وحرقت بطونهم ـ وهي تنبت في أصل الجحيم ولا تحترق

٤٤٩

لأنها من نوع الجحيم! ـ وتطلعوا إلى برد الشراب ينقع الغلة ويطفئ اللهيب. فإنهم لشاربون عليها ماء ساخنا مشوبا غير خالص : «ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم» ..

وبعد هذه الوجبة يغادرون تلك المائدة عائدين إلى مقرهم المقيم. ويا له من نزل! ويا له من معاد!

«ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم» ..

بذلك يختم المشهد الفريد. وينتهي الشوط الأول من السورة. وكأنما كان قطعة من الواقع المشهود.

(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨)

٤٥٠

سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١٤٨)

في هذا الدرس يعود السياق من الجولة الأولى في ساحة الآخرة ، وفي مجالي النعيم ودارات العذاب ، يعود ليستأنف جولة أخرى في تاريخ البشر مع آثار الذاهبين الأولين ، يعرض فيها قصة الهدى والضلال منذ فجر البشرية الأولى ؛ فإذا هي قصة مكرورة معادة ؛ وإذا القوم الذين يواجهون الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في مكة بالكفر والضلال بقية من أولئك المكذبين الضالين. ويكشف لهؤلاء عما جرى لمن كان قبلهم ، ويلمس قلوبهم بهذه الصفحات المطوية في بطون التاريخ. ويطمئن المؤمنين برعاية الله التي لم تتخل في الماضي عن المؤمنين.

٤٥١

وفي هذا السياق يستعرض طرفا من قصص نوح ، وإبراهيم ، وإسماعيل وإسحاق ، وموسى وهارون ، وإلياس ، ولوط ، ويونس .. ويقف وقفة أطول أمام قصة إبراهيم وإسماعيل. يعرض فيها عظمة الإيمان والتضحية والطاعة ، وطبيعة الإسلام الحقيقية كما هي في نفسي إبراهيم وإسماعيل ، في حلقة لا تعرض في غير هذه السورة ، ولا ترد إلا في هذا السياق .. وهذا القصص هو قوام هذا الدرس الأصيل ..

* * *

«إنهم ألفوا آباءهم ضالين ، فهم على آثارهم يهرعون. ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين. ولقد أرسلنا فيهم منذرين. فانظر كيف كان عاقبة المنذرين. إلا عباد الله المخلصين» ..

إنهم عريقون في الضلالة ، وهم في الوقت ذاته مقلدون لا يفكرون ولا يتدبرون ؛ بل يطيرون معجلين يقفون خطى آبائهم الضالين غير ناظرين ولا متعقلين :

«إنهم ألفوا آباءهم ضالين ، فهم على آثارهم يهرعون» ..

وهم وآباؤهم صورة من صور الضلال التي يمثلها أكثر الأولين :

«ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين».

وكان ضلالهم بعد الإنذار والتحذير :

«ولقد أرسلنا فيهم منذرين» ..

ولكن كيف كانت العاقبة؟ كيف كانت عاقبة المكذبين؟ وكيف كانت عاقبة عباد الله المخلصين؟ إنها معروضة في سلسلة القصص. وهذا الإعلان في مقدمتها للتنبيه :

«فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ، إلا عباد الله المخلصين» ..

* * *

ويبدأ بقصة نوح في إشارة سريعة تبين العاقبة ، وتقرر عناية الله بعباده المخلصين :

«ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون. ونجيناه وأهله من الكرب العظيم. وجعلنا ذريته هم الباقين. وتركنا عليه في الآخرين ، سلام على نوح في العالمين. إنا كذلك نجزي المحسنين. إنه من عبادنا المؤمنين. ثم أغرقنا الآخرين».

وتتضمن هذه الإشارة توجه نوح بالنداء إلى ربه ، وإجابة دعوته إجابة كاملة وافية. إجابتها من خير مجيب. الله سبحانه. «فلنعم المجيبون». وتتضمن نجاته هو وأهله من الكرب العظيم. كرب الطوفان الذي لم ينج منه إلا من أراد له الله النجاة وقدر له الحياة .. وتتضمن قدر الله بأن يجعل من ذرية نوح عمارا لهذه الأرض وخلفاء. وأن يبقى ذكره في الأجيال الآتية إلى آخر الزمان : «وتركنا عليه في الآخرين» ... وتعلن في الخافقين سلام الله على نوح. جزاء إحسانه : «سلام على نوح في العالمين. إنا كذلك نجزي المحسنين» .. وأي جزاء بعد سلام الله. والذكر الباقي مدى الحياة! أما مظهر الإحسان وسبب الجزاء فهو الإيمان : «إنه من عبادنا المؤمنين» .. وهذه هي عاقبة المؤمنين .. فأما غير المؤمنين من قوم نوح فقد كتب الله عليهم الهلاك والفناء : «ثم أغرقنا الآخرين» .. ومضت سنة الله منذ فجر البشرية البعيد. وفق ذلك الإجمال في مقدمة القصص : «ولقد أرسلنا فيهم منذرين. فانظر كيف كان عاقبة المنذرين. إلا عباد الله المخلصين» ..

* * *

ثم تجيء قصة إبراهيم. تجيء في حلقتين رئيسيتين : حلقة دعوته لقومه ، وتحطيم الأصنام ، وهمهم به

٤٥٢

ليقتلوه ، وحماية الله له وخذلان شانئيه ـ وهي حلقة تكررت من قبل في سور القرآن ـ وحلقة جديدة لا تعرض في غير هذه السورة. وهي الخاصة بحادث الرؤيا والذبح والفداء ، مفصلة المراحل والخطوات والمواقف ، في أسلوبها الأخاذ وأدائها الرهيب! ممثلة أعلى صور الطاعة والتضحية والفداء والتسليم في عالم العقيدة في تاريخ البشرية الطويل.

«وإن من شيعته لإبراهيم. إذ جاء ربه بقلب سليم. إذ قال لأبيه وقومه : ماذا تعبدون؟ أإفكا آلهة دون الله تريدون؟ فما ظنكم برب العالمين؟» ..

هذا هو افتتاح القصة ، والمشهد الأول فيها .. نقلة من نوح إلى إبراهيم. وبينهما صلة من العقيدة والدعوة والطريق. فهو من شيعة نوح على تباعد الزمان بين الرسولين والرسالتين ؛ ولكنه المنهج الإلهي الواحد ، الذي يلتقيان عنده ويرتبطان به ويشتركان فيه.

ويبرز من صفة إبراهيم سلامة القلب وصحة العقيدة وخلوص الضمير :

«إذ جاء ربه بقلب سليم» ..

وهي صورة الاستسلام الخالص. تتمثل في مجيئه لربه. وصورة النقاء والطهارة والبراءة والاستقامة تتمثل في سلامة قلبه. والتعبير بالسلامة تعبير موح مصور لمدلوله ، وهو في الوقت ذاته بسيط قريب المعنى واضح المفهوم. ومع أنه يتضمن صفات كثيرة من البراءة والنقاوة ، والإخلاص والاستقامة .. إلا أنه يبدو بسيطا غير معقد ، ويؤدي معناه بأوسع مما تؤديه هذه الصفات كلها مجتمعات! وتلك إحدى بدائع التعبير القرآني الفريد.

وبهذا القلب السليم ، استنكر ما عليه قومه واستبشعه. استنكار الحس السليم لكل ما تنبو عنه الفطرة الصادقة من تصور ومن سلوك :

«إذ قال لأبيه وقومه : ماذا تعبدون؟ أإفكا آلهة دون الله تريدون؟ فما ظنكم برب العالمين؟ .. وهو يراهم يعبدون أصناما وأوثانا. فيهتف بهم هتاف الفطرة السليمة في استنكار شديد. «ماذا تعبدون؟» ماذا؟ فإن ما تعبدون ليس من شأنه أن يعبد ، ولا أن يكون له عابدون! وما يعبده الإنسان في شبهة من حق. إنما هو الإفك المحض. والافتراء الذي لا شبهة فيه. فهل أنتم تقصدون إلى الإفك قصدا وإلى الافتراء عمدا : «أإفكا آلهة دون الله تريدون؟» وما هو تصوركم لله؟ وهل يهبط وينحرف إلى هذا المستوي الذي تنكره الفطرة لأول وهلة : «فما ظنكم برب العالمين؟» .. وهي كلمة يبدو فيها استنكار الفطرة السليمة البريئة ، وهي تطلع على الأمر البين الذي يصدم الحس والعقل والضمير.

ويسقط السياق هنا ردهم عليه ، وحوارهم معه ؛ ويمضي مباشرة في المشهد التالي إلى عزيمته التي قررها في نفسه تجاه هذا الإفك المكشوف :

«فنظر نظرة في النجوم. فقال : إني سقيم. فتولوا عنه مدبرين. فراغ إلى آلهتهم فقال : ألا تأكلون؟ مالكم لا تنطقون؟ فراغ عليهم ضربا باليمين» ..

ويروى أنه كان للقوم عيد ـ ربما كان هو عيد النيروز ـ يخرجون فيه إلى الحدائق والخلوات ، بعد أن يضعوا الثمار بين يدي آلهتهم لتباركها. ثم يعودون بعد الفسحة والمرح فيأخذون طعامهم المبارك! وأن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بعد أن يئس من استجابتهم له ؛ وأيقن بانحراف فطرتهم الانحراف الذي لا صلاح له ، اعتزم أمرا. وانتظر هذا اليوم الذي يبعدون فيه عن المعابد والأصنام لينفذ ما اعتزم. وكان الضيق بما هم فيه من انحراف قد بلغ منه أقصاه وأتعب قلبه وقواه ، فلما دعي إلى مغادرة المعبد ، قلب نظره إلى السماء ، وقال : «إني

٤٥٣

سقيم» .. لا طاقة لي بالخروج إلى المتنزهات والخلوات. فإنما يخرج إليها طلاب اللذة والمتاع ، أخلياء القلوب من الهم والضيق ـ وقلب إبراهيم لم يكن في راحة ونفسه لم تكن في استرواح.

قال ذلك معبرا عن ضيقه وتعبه. وأفصح عنه ليتركوه وشأنه. ولم يكن هذا كذبا منه. إنما كان له أصل في واقع حياته في ذلك اليوم. وإن الضيق ليمرض ويسقم ذويه!

وكان القوم معجلين ليذهبوا مع عاداتهم وتقاليدهم ومراسم حياتهم في ذلك العيد ؛ فلم يتلبثوا ليفحصوا عن أمره ، بل تولوا عنه مدبرين ، مشغولين بما هم فيه. وكانت هذه هي الفرصة التي يريد.

لقد أسرع إلى آلهتهم المدعاة. وأمامها أطايب الطعام وبواكير الثمار. فقال في تهكم : «ألا تأكلون؟» .. ولم تجبه الأصنام بطبيعة الحال. فاستطرد في تهكمه وعليه طابع الغيظ والسخرية : «ما لكم لا تنطقون؟» .. وهي حالة نفسية معهودة. أن يوجه الإنسان كلامه إلى ما يعلم حقيقته ، ويستيقن أنه لا يسمع ولا ينطق! إنما هو الضيق بما وراء الآلهة المزعومة من القوم وتصورهم السخيف! .. ولم تجبه الآلهة مرة أخرى!! وهنا أفرغ شحنة الغيظ المكتوم حركة لا قولا : «فراغ عليهم ضربا باليمين» .. وشفى نفسه من السقم والهم والضيق ...! وينتهي هذا المشهد فيليه مشهد جديد. وقد عاد القوم فاطلعوا على جذاذ الآلهة! ويختصر السياق ما يفصله في سورة أخرى من سؤالهم عمن صنع بآلهتهم هذا الصنع ، واستدلالهم في النهاية على الفاعل الجريء. يختصر هذا ليقفهم وجها لوجه أمام إبراهيم!

«فأقبلوا إليه يزفون» ..

لقد تسامعوا بالخبر ، وعرفوا من الفاعل ، فأقبلوا إليه يسرعون الخطى ويحدثون حوله زفيفا .. وهم جمع كثير غاضب هائج ، وهو فرد واحد. ولكنه فرد مؤمن. فرد يعرف طريقه. فرد واضح التصور لإلهه. عقيدته معروفة له محدودة. يدركها في نفسه ، ويراها في الكون من حوله. فهو أقوى من هذه الكثرة الهائجة المائجة ، المدخولة العقيدة ، المضطربة التصور. ومن ثم يجبههم بالحق الفطري البسيط لا يبالي كثرتهم وهياجهم وزفيفهم! «قال : أتعبدون ما تنحتون؟ والله خلقكم وما تعملون؟» ..

إنه منطق الفطرة يصرخ في وجههم : «أتعبدون ما تنحتون؟» .. والمعبود الحق ينبغي أن يكون هو الصانع لا المصنوع : «والله خلقكم وما تعملون» .. فهو الصانع الوحيد الذي يستحق أن يكون المعبود.

ومع وضوح هذا المنطق وبساطته ، إلا أن القوم في غفلتهم وفي اندفاعهم لم يستمعوا له ـ ومتى استمع الباطل إلى صوت الحق البسيط؟ ـ واندفع أصحاب الأمر والنهي فيهم يزاولون طغيانهم في صورته الغليظة :

«قالوا : ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم» ..

إنه منطق الحديد والنار الذي لا يعرف الطغاة منطقا سواه ؛ عند ما تعوزهم الحجة وينقصهم الدليل. وحينما تحرجهم كلمة الحق الخالصة ذات السلطان المبين.

ويختصر السياق هنا ما حدث بعد قولتهم تلك ، ليعرض العاقبة التي تحقق وعد الله لعباده المخلصين ووعيده لأعدائهم المكذبين :

«فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين» ..

وأين يذهب كيد العباد إذا كان الله يريد؟ وماذا يملك أولئك الضعاف المهازيل ـ من الطغاة والمتجبرين وأصحاب السلطان وأعوانهم من الكبراء ـ إذا كانت رعاية الله تحوط عباده المخلصين؟ ..

٤٥٤

ثم تجيء الحلقة الثانية من قصة إبراهيم .. لقد انتهى أمره مع أبيه وقومه. لقد أرادوا به الهلاك في النار التي أسموها الجحيم ، وأراد الله أن يكونوا هم الأسفلين ؛ ونجاه من كيدهم أجمعين.

عندئذ استدبر إبراهيم مرحلة من حياته ليستقبل مرحلة ؛ وطوى صفحة لينشر صفحة :

«وقال : إني ذاهب إلى ربي سيهدين» ..

هكذا .. إني ذاهب إلى ربي .. إنها الهجرة. وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية. هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته. يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض ، وبهؤلاء الناس. ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل. ويهاجر إلى ربه متخففا من كل شيء ، طارحا وراءه كل شيء ، مسلما نفسه لربه لا يستبقي منها شيئا. موقن أن ربه سيهديه ، وسيرعى خطاه ، وينقلها في الطريق المستقيم.

إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال ، ومن وضع إلى وضع ، ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزحمها في النفس شيء. إنه التعبير عن التجرد والخلوص والاستسلام والطمأنينة واليقين.

وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيدا لا عقب له ؛ وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى ، والصحبة والمعرفة. وكل مألوف له في ماضي حياته ، وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها ، والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم! فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه. اتجه إليه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح :

«رب هب لي من الصالحين» ..

واستجاب الله دعاء عبده الصالح المتجرد ، الذي ترك وراءه كل شيء ، وجاء إليه بقلب سليم ..

«فبشرناه بغلام حليم».

هو إسماعيل ـ كما يرجح سياق السيرة والسورة ـ وسنرى آثار حلمه الذي وصفه ربه به وهو غلام. ولنا أن نتصور فرحة إبراهيم الوحيد المفرد المهاجر المقطوع من أهله وقرابته. لنا أن نتصور فرحته بهذا الغلام ، الذي يصفه ربه بأنه حليم.

والآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم. بل في حياة البشر أجمعين. وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحي الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم ..

«فلما بلغ معه السعي. قال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ، فانظر ماذا ترى. قال : يا أبت افعل ما تؤمر : ستجدني إن شاء الله من الصابرين» ..

يا لله! وبالروعة الإيمان والطاعة والتسليم ..

هذا إبراهيم الشيخ. المقطوع من الأهل والقرابة. المهاجر من الأرض والوطن. ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام. طالما تطلع إليه. فلما جاءه جاء غلاما ممتازا يشهد له ربه بأنه حليم. وها هو ذا ما يكاد يأنس به ، وصباه يتفتح ، ويبلغ معه السعي ، ويرافقه في الحياة .. ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد ، حتى يرى في منامه أنه يذبحه. ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية. فماذا؟ إنه لا يتردد ، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة ، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم .. نعم إنها إشارة. مجرد إشارة. وليست وحيا صريحا ، ولا أمرا مباشرا. ولكنها إشارة من ربه .. وهذا يكفي .. هذا يكفي ليلبي ويستجيب. ودون أن يعترض. ودون أن

٤٥٥

يسأل ربه .. لما ذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟!

ولكنه لا يلبي في انزعاج ، ولا يستسلم في جزع ، ولا يطيع في اضطراب .. كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء. يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب :

«قال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك. فانظر ماذا ترى» ..

فهي كلمات المالك لأعصابه ، المطمئن للأمر الذي يواجهه ، الواثق بأنه يؤدي واجبه. وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن ، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه ، في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي ، ويستريح من ثقله على أعصابه!

والأمر شاق ـ ما في ذلك شك ـ فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة. ولا يطلب إليه أن يكلفه أمرا تنتهي به حياته .. إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده. يتولى ماذا؟ يتولى ذبحه .. وهو ـ مع هذا ـ يتلقى الأمر هذا التلقي ، ويعرض على ابنه هذا العرض ؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره ، وأن يرى فيه رأيه! إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه. وينتهي. إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر. فالأمر في حسه هكذا. ربه يريد. فليكن ما يريد. على العين والرأس. وابنه ينبغي أن يعرف. وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاما ، لا قهرا واضطرارا. لينال هو الآخر أجر الطاعة ، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم! إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها ؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى ..

فماذا يكون من أمر الغلام ، الذي يعرض عليه الذبح ، تصديقا لرؤيا رآها أبوه؟

إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه :

«قال : يا أبت افعل ما تؤمر. ستجدني ـ إن شاء الله ـ من الصابرين» ..

إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب. ولكن في رضى كذلك وفي يقين ..

«يا أبت» .. في مودة وقربى. فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده. بل لا يفقده أدبه ومودته.

«افعل ما تؤمر» .. فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه. يحس أن الرؤيا إشارة. وأن الإشارة أمر. وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب.

ثم هو الأدب مع الله ، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال ؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية ، ومساعدته على الطاعة :

«ستجدني إن شاء الله من الصابرين» ..

ولم يأخذها بطولة. ولم يأخذها شجاعة. ولم يأخذها اندفاعا إلى الخطر دون مبالاة. ولم يظهر لشخصه ظلا ولا حجما ولا وزنا .. إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه ، وأصبره على ما يراد به : «ستجدني ـ إن شاء الله ـ من الصابرين» ..

يا للأدب مع الله! ويا لروعة الإيمان. ويا لنبل الطاعة. ويا لعظمة التسليم!

ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام .. يخطو إلى التنفيذ :

«فلما أسلما وتله للجبين» ..

ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة. وعظمة الإيمان. وطمأنينة الرضى وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان ..

إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعدادا. وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعا. وقد وصل الأمر

٤٥٦

إلى أن يكون عيانا.

لقد أسلما .. فهذا هو الإسلام. هذا هو الإسلام في حقيقته. ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم .. وتنفيذ .. وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم.

إنها ليست الشجاعة والجراءة. وليس الاندفاع والحماسة. لقد يندفع المجاهد في الميدان ، يقتل ويقتل. ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود. ولكن هذا كله شيء والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل هنا شيء آخر .. ليس هنا دم فائر ، ولا حماسة دافعة ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص! إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد ، العارف بما يفعل ، المطمئن لما يكون. لا بل هنا الرضى الهادئ المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل!

وهنا كان إبراهيم وإسماعيل قد أديا. كانا قد أسلما. كانا قد حققا الأمر والتكليف. ولم يكن باقيا إلا أن يذبح إسماعيل ، ويسيل دمه ، وتزهق روحه .. وهذا أمر لا يعني شيئا في ميزان الله ، بعد ما وضع إبراهيم وإسماعيل في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما ..

كان الابتلاء قد تم. والامتحان قد وقع. ونتائجه قد ظهرت. وغاياته قد تحققت. ولم يعد إلا الألم البدني. وإلا الدم المسفوح. والجسد الذبيح. والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء. ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء. ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم فقد أدوا ، وقد حققوا التكليف ، وقد جازوا الامتحان بنجاح.

وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما. فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا :

«وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم» ..

قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلا. فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه ، ولو كان هو الابن فلذة الكبد. ولو كانت هي النفس والحياة. وأنت ـ يا إبراهيم ـ قد فعلت. جدت بكل شيء. وبأعز شيء. وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين. فلم يبق إلا اللحم والدم. وهذا ينوب عنه ذبح. أي ذبح من دم ولحم! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت. يفديها بذبح عظيم. قيل : إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلا من إسماعيل!

وقيل له : «إنا كذلك نجزي المحسنين» .. نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء. ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء. ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء. ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء! ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى ، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان. وجمال الطاعة. وعظمة التسليم. والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم ، الذي تتبع ملته ، والذي ترث نسبه وعقيدته. ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها ، ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لما ذا؟ ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه. ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئا ، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم!.

ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء ؛ ولا أن يؤذيها بالبلاء ، إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية مؤدية. مستسلمة لا تقدم بين يديه ، ولا تتألى عليه ، فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات

٤٥٧

والآلام. واحتسبها لها وفاء وأداء. وقبل منها وفدّاها. وأكرمها كما أكرم أباها ..

«وتركنا عليه في الآخرين» ..

فهو مذكور على توالي الأجيال والقرون. وهو أمة. وهو أبو الأنبياء. وهو أبو هذه الأمة المسلمة. وهي وارثة ملته. وقد كتب الله لها وعليها قيادة البشرية على ملة إبراهيم. فجعلها الله له عقبا ونسبا إلى يوم الدين.

«سلام على إبراهيم» ..

سلام عليه من ربه. سلام يسجل في كتابه الباقي. ويرقم في طوايا الوجود الكبير.

«كذلك نجزي المحسنين» ..

كذلك نجزيهم بالبلاء .. والوفاء والذكر. والسّلام. والتكريم.

«إنه من عبادنا المؤمنين» ..

وهذا جزاء الإيمان. وتلك حقيقته فيما كشف عنه البلاء المبين.

ثم يتجلى عليه ربه بفضله مرة أخرى ونعمته فيهب له إسحاق في شخوخته. ويباركه ويبارك إسحاق. ويجعل إسحاق نبيا من الصالحين.

«وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين. وباركنا عليه وعلى إسحاق» ..

وتتلاحق من بعدهما ذريتهما. ولكن وراثة هذه الذرية لهما ليست وراثة الدم والنسب إنما هي وراثة الملة والمنهج : فمن اتبع فهو محسن. ومن انحرف فهو ظالم لا ينفعه نسب قريب أو بعيد :

«ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين» ..

* * *

ومن ذريتهما موسى وهارون :

«ولقد مننا على موسى وهارون. ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم. ونصرناهم فكانوا هم الغالبين. وآتيناهما الكتاب المستبين. وهديناهما الصراط المستقيم. وتركنا عليهما في الآخرين. سلام على موسى وهارون. إنا كذلك نجزي المحسنين. إنهما من عبادنا المؤمنين» ..

وهذه اللمحة من قصة موسى وهارون تعنى بإبراز منة الله عليهما باختيارهما واصطفائهما. وبنجاتهما وقومهما «من الكرب العظيم» الذي تفصله القصة في السور الأخرى. وبالنصر والغلبة على جلاديهم من فرعون وملئه. وبإعطائهما الكتاب الواضح المستبين. وهدايتهما إلى الصراط المستقيم. صراط الله الذي يهدي إليه المؤمنين. وبإيقاء ذكرهما في الأجيال الآتية والقرون الأخيرة وتنتهي هذه اللمحة بالسلام من الله على موسى وهارون. والتعقيب المتكرر في السورة لتقرير نوع الجزاء الذي يلقاه المحسنون ، وقيمة الإيمان الذي يكرم من أجله المؤمنون ..

* * *

وتعقب تلك اللمحة لمحة مثلها عن إلياس ، والأرجح أنه النبي المعروف في العهد القديم باسم إيلياء. وقد أرسل إلى قوم في سورية كانوا يعبدون صنما يسمونه بعلا. وما تزال آثار مدينة بعلبك تدل على آثار هذه العبادة.

«وإن إلياس لمن المرسلين. إذ قال لقومه ألا تتقون؟ أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين. الله ربكم ورب آبائكم الأولين؟ فكذبوه فإنهم لمحضرون. إلا عباد الله المخلصين. وتركنا عليه في الآخرين. سلام على إلياسين. إنا كذلك نجزي المحسنين. إنه من عبادنا المؤمنين» ..

٤٥٨

ولقد دعا إلياس قومه إلى التوحيد ، مستنكرا عبادتهم لبعل ، وتركهم «أحسن الخالقين» ربهم ورب آبائهم الأولين. كما استنكر إبراهيم عبادة أبيه وقومه للأصنام. وكما استنكر كل رسول عبادة قومه الوثنيين.

وكانت العاقبة هي التكذيب. والله سبحانه يقسم ويؤكد أنهم سيحضرون مكرهين ليلقوا جزاء المكذبين. إلا من آمن منهم واستخلصه الله من عباده فيهم.

وتختم اللمحة القصيرة عن إلياس تلك الخاتمة المكررة المقصودة في السورة ، لتكريم رسل الله بالسلام عليهم من قبله. ولبيان جزاء المحسنين. وقيمة إيمان المؤمنين.

وسيرة إلياس ترد هنا لأول مرة في مثل تلك اللمحة القصيرة. ونقف لنلم بالناحية الفنية في الآية : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) فقد روعيت الفاصلة وإيقاعها الموسيقي في إرجاع اسم إلياس بصيغة (إِلْ ياسِينَ) على طريقة القرآن في ملاحظة تناسق الإيقاع في التعبير (١).

* * *

ثم تأتي لمحة عن قصة لوط. التي ترد في المواضع الأخرى تالية لقصة إبراهيم :

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ. ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ. وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) ..

وهي أشبه باللمحة التي جاءت عن قصة نوح. فهي تشير إلى رسالة لوط ونجاته مع أهله إلا امرأته. وتدمير المكذبين الضالين. وتنتهي بلمسة لقلوب العرب الذين يمرون على دار قوم لوط في الصباح والمساء ولا تستيقظ قلوبهم ولا تستمع لحديث الديار الخاوية. ولا تخاف عاقبة كعاقبتها الحزينة!

* * *

وتختم هذه اللمحات بلمحة عن يونس صاحب الحوت :

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ. فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ. وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ. وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) ..

ولا يذكر القرآن أين كان قوم يونس. ولكن المفهوم أنهم كانوا في بقعة قريبة من البحر. وتذكر الروايات أن يونس ضاق صدرا بتكذيب قومه. فأنذرهم بعذاب قريب. وغادرهم مغضبا آبقا. فقاده الغضب إلى شاطئ البحر حيث ركب سفينة مشحونة. وفي وسط اللجة ناوأتها الرياح والأمواج. وكان هذا إيذانا عند القوم بأن من بين الركاب راكبا مغضوبا عليه لأنه ارتكب خطيئة. وأنه لا بد أن يلقى في الماء لتنجو السفينة من الغرق. فاقترعوا على من يلقونه من السفينة. فخرج سهم يونس ـ وكان معروفا عندهم بالصلاح. ولكن سهمه خرج بشكل أكيد فألقوه في البحر. أو ألقى هو نفسه. فالتقمه الحوت وهو (مُلِيمٌ) أي مستحق للوم ، لأنه تخلى عن المهمة التي أرسله الله بها ، وترك قومه مغاضبا قبل أن يأذن الله له. وعند ما أحس بالضيق في بطن الحوت سبح الله واستغفره وذكر أنه كان من الظالمين. وقال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). فسمع الله دعاءه واستجاب له. فلفظه الحوت. (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). وقد خرج من بطن الحوت سقيما عاريا على الشاطئ. (وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ). وهو القرع. يظلله

__________________

(١) يراجع فصل التناسق الفني في كتاب : «التصوير الفني في القرآن» فقرة الإيقاع الموسيقي «دار الشروق».

٤٥٩

بورقه العريض ويمنع عنه الذباب الذي يقال إنه لا يقرب هذه الشجرة. وكان هذا من تدبير الله ولطفه. فلما استكمل عافيته رده الله إلى قومه الذين تركهم مغاضبا. وكانوا قد خافوا ما أنذرهم به من العذاب بعد خروجه ، فآمنوا ، واستغفروا ، وطلبوا العفو من الله فسمع لهم ولم ينزل بهم عذاب المكذبين : (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) وكانوا مائة ألف يزيدون ولا ينقصون. وقد آمنوا أجمعين (١).

وهذه اللمحة بسياقها هنا تبين عاقبة الذين آمنوا ، بجانب ما تبينه القصص السابقة من عاقبة الذين لا يؤمنون. فيختار قوم محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إحدى العاقبتين كما يشاءون!!

وكذلك ينتهي هذا الشوط من السورة بعد تلك الجولة الواسعة على مدار التاريخ من لدن نوح ، مع المنذرين : المؤمنين منهم وغير المؤمنين ..

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٢)

__________________

(١) تراجع القصة في سورة الأنبياء الجزء السابع عشر.

٤٦٠