في ظلال القرآن - ج ٥

سيّد قطب

في ظلال القرآن - ج ٥

المؤلف:

سيّد قطب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٩

وعجز عن الانفعال والاستجابة الآخذين من النبع الحقيقي ، المؤثرين في سير الحياة!

ولكل طبيعته ولكل جزاؤه ، ولن يستوي عند الله هذا وذاك.

* * *

وهنا يلتفت إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعزيه ويسري عنه ، بتقرير حدود عمله وواجبه في دعوة الله. وترك ما تبقى بعد ذلك لصاحب الأمر يفعل به ما يشاء :

(إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ. وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ. إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً ، وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ. ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا. فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ؟) ..

إن الفوارق أصيلة في طبيعة الكون وفي طبيعة النفس. واختلاف طباع الناس واختلاف استقبالهم لدعوة الله أصيل أصالة الفوارق الكونية في البصر والعمى ، والظل والحرور ، والظلمات والنور ، والحياة والموت. ووراء ذلك كله تقدير الله وحكمته. وقدرته على ما يشاء.

وإذن فالرسول ليس إلا نذيرا. وقدرته البشرية تقف عند هذا الحد. فما هو بمسمع من في القبور. ولا من يعيشون بقلوب ميتة فهم كأهل القبور! والله وحده هو القادر على إسماع من يشاء ، وفق ما يشاء ، حسبما يشاء. فماذا على الرسول أن يضل من يضل ، ويعرض من يعرض متى أدى الأمانة ، وبلغ الرسالة ، فسمع من شاء الله أن يسمع ، وأعرض من شاء الله أن يعرض؟

ومن قبل قال الله لرسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ).

لقد أرسله الله بالحق بشيرا ونذيرا. شأنه شأن إخوانه من الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ وهم كثير. فما من أمة إلا سبق فيها رسول :

(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ).

فإن لقي من قومه التكذيب ، فتلك هي طبيعة الأقوام في استقبال الرسل ؛ لا عن تقصير من الرسل ، ولا عن نقص في الدليل :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) ..

والبينات الحجج في صورها الكثيرة ، ومنها الخوارق المعجزة التي كانوا يطلبون أو يتحداهم بها الرسول. والزبر الصحف المتفرقة بالمواعظ والنصائح والتوجيهات والتكاليف. والكتاب المنير. الأرجح أنه كتاب موسى. التوراة. وكلهم كذبوا بالبينات والزبر والكتاب المنير.

هذا كان شأن أمم كثيرة في استقبال رسلهم وما معهم من دلائل الهدى. فالأمر إذن ليس جديدا ، وليس فريدا ، إنما هو ماض مع سنة الأولين.

وهنا يعرض على المشركين مصائر المكذبين. لعلهم يحذرون :

(ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ..

ويسأل سؤال تعجيب وتهويل :

(فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ؟) ..

٤٠١

ولقد كان النكير شديدا ، وكان الأخذ تدميرا. فليحذر الماضون على سنة الأولين ، أن يصيبهم ما أصاب الأولين!

إنها لمسة قرآنية ينتهي بها هذا المقطع. وتختم بها هذه الجولة. ثم تبدأ جولة جديدة في واد جديد ..

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٣٨)

وهذه الجولة قراءات في كتاب الكون وفي الكتاب المنزل. قراءات في كتاب الكون في صحائفه المعجبة الرائعة ، المتنوعة الألوان والأنواع والأجناس. الثمار المتنوعة الألوان ، والجبال الملونة الشعاب ، والناس والدواب والأنعام وألوانها المتعددة الكثيرة .. هذه اللفتة العجيبة إلى تلك الصحائف الرائعة في كتاب الكون المفتوح ..

٤٠٢

وقراءات في الكتاب المنزل وما فيه من الحق المصدق لما بين يديه من الكتب المنزلة. وتوريث هذا الكتاب للأمة المسلمة. ودرجات الوارثين. وما ينتظرهم جميعا من نعيم بعد عفو الله وغفرانه للمسيئين ؛ ومشهدهم في دار النعيم. ومقابلهم مشهد الكافرين الأليم. وتختم الجولة العجيبة المديدة المنوعة الألوان بتقرير أن ذلك كله يتم وفقا لعلم الله العليم بذات الصدور ..

* * *

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها ؛ وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ. إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ. إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) ..

إنها لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب. لفتة تطوف في الأرض كلها تتبع فيها الألوان والأصباغ في كل عوالمها. في الثمرات. وفي الجبال. وفي الناس. وفي الدواب والأنعام. لفتة تجمع في كلمات قلائل ، بين الأحياء وغير الأحياء في هذه الأرض جميعا ، وتدع القلب مأخوذا بذلك المعرض الإلهي الجميل الرائع الكبير الذي يشمل الأرض جميعا.

وتبدأ بإنزال الماء من السماء ، وإخراج الثمرات المختلفات الألوان. ولأن المعرض معرض أصباغ وشيات ، فإنه لا يذكر هنا من الثمرات إلا ألوانها (فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) .. وألوان الثمار معرض بديع للألوان يعجز عن إبداع جانب منه جميع الرسامين في جميع الأجيال. فما من نوع من الثمار يماثل لونه لون نوع آخر. بل ما من ثمرة واحدة يماثل لونها لون أخواتها من النوع الواحد. فعند التدقيق في أي ثمرتين أختين يبدو شيء من اختلاف اللون!

وينتقل من ألوان الثمار إلى ألوان الجبال نقلة عجيبة في ظاهرها ؛ ولكنها من ناحية دراسة الألوان تبدو طبيعية. ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار وتنوعها وتعددها ، بل إن فيها أحيانا ما يكون على شكل بعض الثمار وحجمها كذلك حتى ما تكاد تفرق من الثمار صغيرها وكبيرها!

(وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) ..

والجدد الطرائق والشعاب. وهنا لفتة في النص صادقة ، فالجدد البيض مختلف ألوانها فيما بينها. والجدد الحمر مختلف ألوانها فيما بينها. مختلف في درجة اللون والتظليل والألوان الأخرى المتداخلة فيه ، وهناك جدد غرابيب سود ، حالكة شديدة السواد.

واللفتة إلى ألوان الصخور وتعددها وتنوعها داخل اللون الواحد ، بعد ذكرها إلى جانب ألوان الثمار ، تهز القلب هزا ، وتوقظ فيه حاسة الذوق الجمالي العالي ، التي تنظر إلى الجمال نظرة تجريدية فتراه في الصخرة كما تراه في الثمرة ، على بعد ما بين طبيعة الصخرة وطبيعة الثمرة ، وعلى بعد ما بين وظيفتيهما في تقدير الإنسان. ولكن النظرة الجمالية المجردة ترى الجمال وحده عنصرا مشتركا بين هذه وتلك ، يستحق النظر والالتفات.

ثم ألوان الناس. وهي لا تقف عند الألوان المتميزة العامة لأجناس البشر. فكل فرد بعد ذلك متميز اللون بين بني جنسه. بل متميز من توأمه الذي شاركه حملا واحدا في بطن واحدة!

وكذلك ألوان الدواب والأنعام. والدواب أشمل والأنعام أخص. فالدابة كل حيوان. والأنعام هي الإبل

٤٠٣

والبقر والغنم والماعز ، خصصها من الدواب لقربها من الإنسان. والألوان والأصباغ فيها معرض كذلك جميل كمعرض الثمار ومعرض الصخور سواء.

هذا الكتاب الكوني الجميل الصفحات العجيب التكوين والتلوين ، يفتحه القرآن ويقلب صفحاته ويقول : إن العلماء الذين يتلونه ويدركونه ويتدبرونه هم الذين يخشون الله :

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) ..

وهذه الصفحات التي قلبها في هذا الكتاب هي بعض صفحاته ، والعلماء هم الذين يتدبرون هذا الكتاب العجيب. ومن ثم يعرفون الله معرفة حقيقية. يعرفونه بآثار صنعته. ويدركونه بآثار قدرته. ويستشعرون حقيقة عظمته برؤية حقيقة إبداعه. ومن ثم يخشونه حقا ويتقونه حقا ، ويعبدونه حقا. لا بالشعور الغامض الذي يجده القلب أمام روعة الكون. ولكن بالمعرفة الدقيقة والعلم المباشر .. وهذه الصفحات نموذج من الكتاب .. والألوان والأصباغ نموذج من بدائع التكوين الأخرى وبدائع التنسيق التي لا يدركها إلا العلماء بهذا الكتاب. العلماء به علما واصلا. علما يستشعره القلب ، ويتحرك به ، ويرى به يد الله المبدعة للألوان والأصباغ والتكوين والتنسيق في ذلك الكون الجميل.

إن عنصر الجمال يبدو مقصودا قصدا في تصميم هذا الكون وتنسيقه. ومن كمال هذا الجمال أن وظائف الأشياء تؤدى عن طريق جمالها. هذه الألوان العجيبة في الأزهار تجذب النحل والفراش مع الرائحة الخاصة التي تفوح. ووظيفة النحل والفراش بالقياس إلى الزهرة هي القيام بنقل اللقاح ، لتنشأ الثمار. وهكذا تؤدي الزهرة وظيفتها عن طريق جمالها! .. والجمال في الجنس هو الوسيلة لجذب الجنس الآخر إليه ، لأداء الوظيفة التي يقوم بها الجنسان. وهكذا تتم الوظيفة عن طريق الجمال.

الجمال عنصر مقصود قصدا في تصميم هذا الكون وتنسيقه. ومن ثم هذه اللفتات في كتاب الله المنزل إلى الجمال في كتاب الله المعروض.

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) ..

عزيز قادر على الإبداع وعلى الجزاء. غفور يتدارك بمغفرته من يقصرون في خشيته ، وهم يرون بدائع صنعته.

* * *

ومن كتاب الكون ينتقل الحديث إلى الكتاب المنزل ، والذين يتلونه ، وما يرجون من تلاوته ، وما ينتظرهم من جزاء :

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ، يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ. لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ. إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) ..

وتلاوة كتاب الله تعني شيئا آخر غير المرور بكلماته بصوت أو بغير صوت. تعني تلاوته عن تدبر ، ينتهي إلى إدراك وتأثر ، وإلى عمل بعد ذلك وسلوك. ومن ثم يتبعها بإقامة الصلاة ، وبالإنفاق سرا وعلانية من رزق الله. ثم رجاؤهم بكل هذا (تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) .. فهم يعرفون أن ما عند الله خير مما ينفقون. ويتاجرون تجارة كاسبة مضمونة الربح. يعاملون فيها الله وحده وهي أربح معاملة ؛ ويتأجرون بها في الآخرة وهي أربح تجارة. تجارة مؤدية إلى توفيتهم أجورهم ، وزيادتهم من فضل الله .. (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) .. يغفر التقصير ويشكر الأداء. وشكره ـ تعالى ـ كناية عما يصاحب الشكر عادة من الرضا وحسن الجزاء. ولكن التعبير

٤٠٤

يوحي للبشر بشكر المنعم. تشبها واستحياء. فإذا كان هو يشكر لعباده حسن الأداء أفلا يشكرون له هم حسن العطاء؟!

* * *

ثم إشارة إلى طبيعة الكتاب ، وما فيه من الحق ، تمهيدا للحديث عن ورثة هذا الكتاب :

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ. إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) ..

ودلائل الحق في هذا الكتاب واضحة في صلبه ؛ فهو الترجمة الصحيحة لهذا الكون في حقيقته ، أو هو الصفحة المقروءة والكون هو الصفحة الصامتة. وهو مصدق لما قبله من الكتب الصادرة من مصدره. والحق واحد لا يتعدد فيها وفيه. ومنزله نزله للناس وهو على علم بهم ، وخبرة بما يصلح لهم ويصلحهم : (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) ..

هذا هو الكتاب في ذاته. وقد أورثه الله لهذه الأمة المسلمة ، اصطفاها لهذه الوراثة ، كما يقول هنا في كتابه :

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) ..

وهي كلمات جديرة بأن توحي لهذه الأمة بكرامتها على الله ؛ كما توحي إليها بضخامة التبعة الناشئة عن هذا الاصطفاء وعن تلك الوراثة. وهي تبعة ضخمة ذات تكاليف ، فهل تسمع الأمة المصطفاة وتستجيب؟

إن الله سبحانه قد أكرم هذه الأمة بالاصطفاء للوراثة ؛ ثم أكرمها بفضله في الجزاء حتى لمن أساء :

(فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ. وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ. وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) ..

فالفريق الأول ـ ولعله ذكر أولا لأنه الأكثر عددا ـ (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) تربى سيئاته في العمل على حسناته. والفريق الثاني وسط (مُقْتَصِدٌ) تتعادل سيئاته وحسناته. والفريق الثالث (سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) ، تربى حسناته على سيئاته .. ولكن فضل الله شمل الثلاثة جميعا. فكلهم انتهى إلى الجنة وإلى النعيم الموصوف في الآيات التالية. على تفاوت في الدرجات.

ولا ندخل هنا في تفصيل أكثر مما أراد القرآن عرضه في هذا الموضع من كرامة هذه الأمة باصطفائها ، وكرم الله سبحانه في جزائها. فهذا هو الظل الذي تلقيه النصوص هنا ، وهي النهاية التي تنتهي إليها هذه الأمة جميعا ـ بفضل الله ـ ونطوي ما قد يسبق هذه النهاية من جزاء مقدر في علم الله.

نطوي هذا الجزاء المبدئي لنخلص إلى ما قدره الله لهذه الأمة بصنوفها الثلاثة من حسن الجزاء :

(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ. وَقالُوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ. إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ. الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ ..)

إن المشهد (١) يتكشف عن نعيم مادي ملموس ، ونعيم نفسي محسوس. فهم (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) .. وذلك بعض المتاع ذي المظهر المادي ، الذي يلبي بعض رغائب النفوس. وبجانبه ذلك الرضا وذلك الأمن وذلك الاطمئنان : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) .. والدنيا بما فيها من

__________________

(١) عن كتاب : مشاهد القيامة في القرآن ص ١٠٠ ، ١٠١. «دار الشروق».

٤٠٥

قلق على المصير ، ومعاناة للأمور تعد حزنا بالقياس إلى هذا النعيم المقيم. والقلق يوم الحشر على المصير مصدر حزن كبير. (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) .. غفر لنا وشكر لنا أعمالنا بما جازانا عليها. (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ) .. للإقامة والاستقرار (مِنْ فَضْلِهِ) فما لنا عليه من حق ، إنما هو الفضل يعطيه من يشاء. (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) .. بل يجتمع لنا فيها النعيم والراحة والاطمئنان.

فالجو كله يسر وراحة ونعيم. والألفاظ مختارة لتتسق بجرسها وإيقاعها مع هذا الجو الحاني الرحيم. حتى (الْحَزَنَ) لا يتكأ عليه بالسكون الجازم. بل يقال (الْحَزَنَ) بالتسهيل والتخفيف. والجنة (دارَ الْمُقامَةِ). والنصب واللغوب لا يمسانهم مجرد مساس. والإيقاع الموسيقي للتعبير كله هادئ ناعم رتيب.

ثم نتلفت إلى الجانب الآخر. فنرى القلق والاضطراب وعدم الاستقرار على حال :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ ، لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) ..

فلا هذه ولا تلك. حتى الرحمة بالموت لا تنال!

(كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) ..

ثم ها نحن أولاء يطرق أسماعنا صوت غليظ محشرج مختلط الأصداء ، متناوح من شتى الأرجاء. إنه صوت المنبوذين في جهنم :

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) ..

وجرس اللفظ نفسه يلقي في الحس هذه المعاني جميعا .. فلنتبين من ذلك الصوت الغليظ ماذا يقول. إنه يقول :

(رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) ..

إنه الإنابة والاعتراف والندم إذن. ولكن بعد فوات الأوان. فها نحن أولاء نسمع الرد الحاسم يحمل التأنيب القاسي :

(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ؟) ..

فلم تنتفعوا بهذه الفسحة من العمر ، وهي كافية للتذكر لمن أراد أن يتذكر.

(وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) ..

زيادة في التنبيه والتحذير. فلم تتذكروا ولم تحذروا.

(فَذُوقُوا. فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) ..

إنهما صورتان متقابلتان : صورة الأمن والراحة ، تقابلها صورة القلق والاضطراب. ونغمة الشكر والدعاء تقابلها ضجة الاصطراخ والنداء. ومظهر العناية والتكريم ، يقابله مظهر الإهمال والتأنيب. والجرس اللين والإيقاع الرتيب ، يقابلهما الجرس الغليظ والإيقاع العنيف. فيتم التقابل ، ويتم التناسق في الجزئيات وفي الكليات سواء (١).

وأخيرا يجيء التعقيب على هذه المشاهد جميعا ، وعلى ما سبقها من اصطفاء وتوريث :

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

__________________

(١) عن كتاب مشاهد القيامة في القرآن ص ١٠٠ ـ ١٠١. «دار الشروق».

٤٠٦

والعلم الشامل اللطيف الدقيق أنسب تعقيب على تنزيل الكتاب. وعلى اصطفاء من يرثونه ويحملونه. وعلى تجاوز الله عن ظلم بعضهم لنفسه. وعلى تفضله عليهم بذلك الجزاء. وعلى حكمه على الذين كفروا بذلك المصير .. فهو عالم غيب السماوات والأرض. وهو عليم بذات الصدور. وبهذا العلم الشامل اللطيف الدقيق يقضي في كل هذه الأمور ..

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) (٤٥)

هذا المقطع الأخير في السورة يشتمل على جولات واسعة المدى كذلك ، ولمسات للقلب وإيحاءات شتى : جولة مع البشرية في أجيالها المتعاقبة ، يخلف بعضها بعضا. وجولة في الأرض والسماوات للبحث عن أي أثر للشركاء الذين يدعونهم من دون الله. وجولة في السماوات والأرض كذلك لرؤية يد الله القوية القادرة تمسك

٤٠٧

بالسماوات والأرض أن تزولا. وجولة مع هؤلاء المكذبين بتلك الدلائل والآيات كلها وهم قد عاهدوا الله من قبل لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ، ثم نقضوا هذا العهد وخالفوه فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا. وجولة في مصارع المكذبين من قبلهم وهم يشهدون آثارهم الدائرة ولا يخشون أن تدور عليهم الدائرة وأن تمضي فيهم سنة الله الجارية .. ثم الختام الموحي الموقظ الرهيب : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ). وفضل الله العظيم في إمهال الناس وتأجيل هذا الأخذ المدمر المبيد ..

* * *

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ. فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ. وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً. وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً).

إن تتابع الأجيال في الأرض ، وذهاب جيل ومجيء جيل ، ووراثة هذا لذاك ، وانتهاء دولة وقيام دولة ، وانطفاء شعلة واتقاد شعلة. وهذا الدثور والظهور المتواليان على مر الدهور .. إن التفكير في هذه الحركة الدائبة خليق أن يجد للقلب عبرة وعظة ، وأن يشعر الحاضرين أنهم سيكونون بعد حين غابرين ، يتأمل الآتون بعدهم آثارهم ويتذاكرون أخبارهم ، كما هم يتأملون آثار من كانوا قبلهم ويتذاكرون أخبارهم. وجدير بأن يوقظ الغافلين إلى اليد التي تدير الأعمار ، وتقلب الصولجان ، وتديل الدول ، وتورث الملك ، وتجعل من الجيل خليفة لجيل. وكل شيء يمضي وينتهي ويزول ، والله وحده هو الباقي الدائم الذي لا يزول ولا يحول.

ومن كان شأنه أن ينتهي ويمضي ، فلا يخلد ولا يبقى. من كان شأنه أنه سائح في رحلة ذات أجل ؛ وأن يعقبه من بعده ليرى ماذا ترك وماذا عمل ، وأن يصير في النهاية إلى من يحاسبه على ما قال وما فعل. من كان هذا شأنه جدير بأن يحسن ثواءه القليل ، ويترك وراءه الذكر الجميل ، ويقدم بين يديه ما ينفعه في مثواه الأخير.

هذه بعض الخواطر التي تساور الخاطر ، حين يوضع أمامه مشهد الدثور والظهور ، والطلوع والأفول ، والدول الدائلة ، والحياة الزائلة ، والوراثة الدائبة جيلا بعد جيل :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) ..

وفي ظل هذا المشهد المؤثر المتتابع المناظر ، يذكرهم بفردية التبعة ، فلا يحمل أحد عن أحد شيئا ، ولا يدفع أحد عن أحد شيئا ؛ ويشير إلى ما هم فيه من إعراض وكفر وضلال ، وعاقبته الخاسرة في نهاية المطاف :

(فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ. وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً. وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً).

والمقت أشد البغض. ومن يمقته ربه فأي خسران ينتظره؟ وهذا المقت في ذاته خسران يفوق كل خسران؟!

* * *

والجولة الثانية في السماوات والأرض ، لتقصّي أي أثر أو أي خبر لشركائهم الذين يدعونهم من دون الله ، والسماوات والأرض لا تحس لهم أثرا ، ولا تعرف عنهم خبرا :

(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؟ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ؟ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً).

والحجة واضحة والدليل بيّن. فهذه الأرض بكل ما فيها ومن فيها. هذه هي مشهودة منظورة. أي جزء فيها أو أي شيء يمكن أن يدعي مدع أن أحدا ـ غير الله ـ خلقه وأنشأه! إن كل شيء يصرخ في وجه هذه

٤٠٨

الدعوى لو جرؤ عليها مدع. وكل شيء يهتف بأن الذي أبدعه هو الله ؛ وهو يحمل آثار الصنعة التي لا يدعيها مدع ، لأنه لا تشبهها صنعة ، مما يعمل العاجزون أبناء الفناء!

(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟) ..

ولا هذه من باب أولى! فما يجرؤ أحد على أن يزعم لهذه الآلهة المدعاة مشاركة في خلق السماوات ، ولا مشاركة في ملكية السماوات. كائنة ما كانت. حتى الذين كانوا يشركون الجن أو الملائكة .. فقصارى ما كانوا يزعمون أن يستعينوا بالشياطين على إبلاغهم خبر السماء. أو يستشفعوا بالملائكة عند الله. ولم يرتق ادعاؤهم يوما إلى الزعم بأن لهم شركا في السماء!

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ؟) ..

وحتى هذه الدرجة ـ درجة أن يكون الله قد آتى هؤلاء الشركاء كتابا فهم مستيقنون منه ، واثقون بما فيه ـ لم يبلغها أولئك الشركاء المزعومون .. والنص يحتمل أن يكون هذا السؤال الإنكاري موجها إلى المشركين أنفسهم ـ لا إلى الشركاء ـ فإن إصرارهم على شركهم قد يوحي بأنهم يستمدون عقيدتهم هذه من كتاب أوتوه من الله فهم على بينة منه وبرهان. وليس هذا صحيحا ولا يمكن أن يدعوه. وعلى هذا المعنى يكون هناك إيحاء بأن أمر العقيدة إنما يتلقى من كتاب من الله بيّن. وأن هذا هو المصدر الوحيد الوثيق. وليس لهم من هذا شيء يدعونه ؛ بينما الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قد جاءهم بكتاب من عند الله بيّن. فما لهم يعرضون عنه ، وهو السبيل الوحيد لاستمداد العقيدة؟!

(بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) ..

والظالمون يعد بعضهم بعضا أن طريقتهم هي المثلى ؛ وأنهم هم المنتصرون في النهاية. وإن هم إلا مخدوعون مغرورون ، يغر بعضهم بعضا ، ويعيشون في هذا الغرور الذي لا يجدي شيئا ..

* * *

والجولة الثالثة ـ بعد نفي أن يكون للشركاء ذكر ولا خبر في السماوات ولا في الأرض ـ تكشف عن يد الله القوية الجبارة تمسك بالسماوات والأرض وتحفظهما وتدبر أمرهما بلا شريك :

(إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ. إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ..

ونظرة إلى السماوات والأرض ؛ وإلى هذه الأجرام التي لا تحصى منتثرة في ذلك الفضاء الذي لا تعلم له حدود. وكلها قائمة في مواضعها ، تدور في أفلاكها محافظة على مداراتها ، لا تختل ، ولا تخرج عنها ، ولا تبطئ أو تسرع في دورتها ، وكلها لا تقوم على عمد ، ولا تشد بأمراس (١) ، ولا تستند على شيء من هنا أو من هناك .. نظرة إلى تلك الخلائق الهائلة العجيبة جديرة بأن تفتح البصيرة على اليد الخفية القاهرة القادرة التي تمسك بهذه الخلائق وتحفظها أن تزول.

ولئن زالت السماوات والأرض عن مواضعها ، واختلت وتناثرت بددا ، فما أحد بقادر على أن يمسكها بعد ذلك أبدا. وذلك هو الموعد الذي ضربه القرآن كثيرا لنهاية هذا العالم. حين يختل نظام الأفلاك وتضطرب وتتحطم وتتناثر ؛ ويذهب كل شيء في هذا الفضاء لا يمسك أحد زمامه.

__________________

(١) الأمراس : الحبال المتينة.

٤٠٩

وهذا هو الموعد المضروب للحساب والجزاء على ما كان في الحياة الدنيا. والانتهاء إلى العالم الآخر ، الذي يختلف في طبيعته عن عالم الأرض اختلافا كاملا.

ومن ثم يعقب على إمساك السماوات والأرض أن تزولا بقوله :

(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ..

(حَلِيماً) يمهل الناس ، ولا ينهي هذا العالم بهم ، ولا يأخذ بنواصيهم إلى الحساب والجزاء إلا في الأجل المعلوم. ويدع لهم الفرصة للتوبة والعمل والاستعداد. (غَفُوراً) لا يؤاخذ الناس بكل ما اجترموا ، بل يتجاوز عن كثير من سيئاتهم ويغفرها متى علم فيهم خيرا. وهو تعقيب موح ينبه الغافلين لاقتناص الفرصة قبل أن تذهب فلا تعود.

* * *

والجولة الرابعة مع القوم وما عاهدوا الله عليه ، ثم ما انتهوا بعد ذلك إليه من نقض للعهد ، وفساد في الأرض. وتحذير لهم من سنة الله التي لا تتخلف ، ولا تبديل فيها ولا تحويل :

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ. فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً. اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ـ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ـ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ؟ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) ..

ولقد كان العرب يرون اليهود أهل كتاب يجاورونهم في الجزيرة ؛ وكانوا يرون من أمر انحرافهم وسوء سلوكهم ما يرون ؛ وكانوا يسمعون من تاريخهم وقتلهم رسلهم ، وإعراضهم عن الحق الذي جاءوهم به. وكانوا إذ ذاك ينحون على اليهود ؛ ويقسمون بالله حتى ما يدعون مجالا للتشديد في القسم : (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) .. يعنون اليهود. يعرضون بهم بهذا التعبير ولا يصرحون!

ذلك كان حالهم وتلك كانت أيمانهم .. يعرضها كأنما يدعو المستمعين ليشهدوا على ما كان من هؤلاء القوم في جاهليتهم. ثم يعرض ما كان منهم بعد ذلك حينما حقق الله أمنيتهم ، وأرسل فيهم نذيرا :

(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً. اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ!) ..

وإنه لقبيح بمن كانوا يقسمون هذه الأيمان المشددة أن يكون هذا مسلكهم استكبارا في الأرض ومكر السيّء. والقرآن يكشفهم هذا الكشف ، ويسجل عليهم هذا المسلك. ثم يضيف إلى هذه المواجهة الأدبية المزرية بهم ، تهديد كل من يسلك هذا المسلك الزري :

(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ..

فما يصيب مكرهم السيّء أحدا إلا أنفسهم ؛ وهو يحيط بهم ويحيق ويحبط أعمالهم.

وإذا كان الأمر كذلك فماذا ينتظرون إذن؟ إنهم لا ينتظرون إلا أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم ، وهو معروف لهم. وإلا أن تمضي سنة الله الثابتة في طريقها الذي لا يحيد :

(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) ..

* * *

والأمور لا تمضي في الناس جزافا ؛ والحياة لا تجري في الأرض عبثا ؛ فهناك نواميس ثابتة تتحقق ، لا تتبدل ولا تتحول. والقرآن يقرر هذه الحقيقة ، ويعلمها للناس ، كي لا ينظروا الأحداث فرادى ، ولا

٤١٠

يعيشوا الحياة غافلين عن سننها الأصيلة ، محصورين في فترة قصيرة من الزمان ، وحيز محدود من المكان. ويرفع تصورهم لارتباطات الحياة ، وسنن الوجود ، فيوجههم دائما إلى ثبات السنن واطراد النواميس. ويوجه أنظارهم إلى مصداق هذا فيما وقع للأجيال قبلهم ؛ ودلالة ذلك الماضي على ثبات السنن واطراد النواميس.

وهذه الجولة الخامسة نموذج من نماذج هذا التوجيه بعد تقرير الحقيقة الكلية من أن سنة الله لا تتبدل ولا تتحول :

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ـ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ـ وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ. إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً).

والسير في الأرض بعين مفتوحة وقلب يقظ ؛ والوقوف على مصارع الغابرين ، وتأمل ما كانوا فيه وما صاروا إليه .. كل أولئك خليق بأن تستقر في القلب ظلال وإيحاءات ومشاعر وتقوى ..

ومن ثم هذه التوجيهات المكررة في القرآن للسير في الأرض والوقوف على مصارع الغابرين ، وآثار الذاهبين. وإيقاظ القلوب من الغفلة التي تسدر فيها ، فيها فلا تقف. وإذا وقفت لا تحس. وإذا أحست لا تعتبر. وينشأ عن هذه الغفلة غفلة أخرى عن سنن الله الثابتة. وقصور عن إدراك الأحداث وربطها بقوانينها الكلية. وهي الميزة التي تميز الإنسان المدرك من الحيوان البهيم ، الذي يعيش حياته منفصلة اللحظات والحالات ؛ لا رابط لها ، ولا قاعدة تحكمها. والجنس البشري كله وحدة أمام وحدة السنن والنواميس.

وأمام هذه الوقفة التي يقفهم إياها على مصارع الغابرين قبلهم ـ وكانوا أشد منهم قوة ـ فلم تعصمهم قوتهم من المصير المحتوم. أمام هذه الوقفة يوجه حسهم إلى قوة الله الكبرى. القوة التي لا يغلبها شيء ولا يعجزها شيء ؛ والتي أخذت الغابرين وهي قادرة على أخذهم كالأولين :

(وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) ..

ويعقب على هذه الحقيقة بما يفسرها ويعرض أسانيدها :

(إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) ..

يحيط علمه بكل شيء في السماوات والأرض ؛ وتقوم قدرته إلى جانب علمه. فلا يند عن علمه شيء ، ولا يقف لقدرته شيء. ومن ثم لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض. ولا مهرب من قدرته ولا استخفاء من علمه : (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) ..

* * *

وأخيرا يجيء ختام السورة ، يكشف عن حلم الله ورحمته إلى جانب قوته وقدرته ؛ ويؤكد أن إمهال الناس عن حلم وعن رحمة ، لا يؤثر في دقة الحساب وعدل الجزاء في النهاية :

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ. وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) ..

إن ما يرتكبه الناس من كفر لنعمة الله ، ومن شر في الأرض وفساد ، ومن ظلم في الأرض وطغيان. إن هذا كله لفظيع شنيع ولو يؤاخذ الله الناس به ، لتجاوزهم ـ لضخامته وشناعته وبشاعته ـ إلى كل حي على ظهر هذه الأرض. ولأصبحت الأرض كلها غير صالحة للحياة إطلاقا. لا لحياة البشر فحسب ، ولكن لكل حياة أخرى!

٤١١

والتعبير على هذا النحو يبرز شناعة ما يكسب الناس وبشاعته وأثره المفسد المدمر للحياة كلها لو آخذهم الله به مؤاخذة سريعة.

غير أن الله حليم لا يعجل على الناس :

(وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ..

يؤخرهم أفرادا إلى أجلهم الفردي حتى تنقضي أعمارهم في الدنيا. ويؤخرهم جماعات إلى أجلهم في الخلافة المقدرة لهم حتى يسلموها إلى جيل آخر. ويؤخرهم جنسا إلى أجلهم المحدد لعمر هذا العالم ومجيء الساعة الكبرى. ويفسح لهم في الفرصة لعلهم يحسنون صنعا.

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) ..

وانتهى وقت العمل والكسب ، وحان وقت الحساب والجزاء ، فإن الله لن يظلمهم شيئا :

(فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) ..

وبصره بعباده كفيل بتوفيتهم حسابهم وفق عملهم وكسبهم ، لا تفوت منهم ولا عليهم كبيرة ولا صغيرة.

* * *

هذا هو الإيقاع الأخير في السورة التي بدأت بحمد الله فاطر السماوات والأرض. (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ) يحملون رسالة السماء إلى الأرض. وما فيها من تبشير وإنذار فإما إلى جنة وإما إلى نار ..

وبين البدء والختام تلك الجولات العظام في تلك العوالم التي طوفت بها السورة. وهذه نهاية المطاف. ونهاية الحياة. ونهاية الإنسان ..

انتهى الجزء الثاني والعشرون

ويليه الجزء الثالث والعشرون

مبدوءا بسورة يس

٤١٢
٤١٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سور يس

والصّافات وص

الجزء الثالث والعشرون

٤١٤
٤١٥

(٣٦) سورة يس مكيّة

وآياتها ثلاث وثمانون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ

٤١٦

فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)

هذه السورة المكية ذات فواصل قصيرة. وإيقاعات سريعة. ومن ثم جاء عدد آياتها ثلاثا وثمانين ، بينما هي أصغر وأقصر من سابقتها ـ سورة فاطر ـ وعدد آياتها خمس وأربعون.

وقصر الفواصل مع سرعة الإيقاع يطبع السورة بطابع خاص ، فتتلاحق إيقاعاتها ، وتدق على الحس دقات متوالية ، يعمل على مضاعفة أثرها ما تحمله معها من الصور والظلال التي تخلعها المشاهد المتتابعة من بدء السورة إلى نهايتها. وهي متنوعة وموحية وعميقة الآثار.

والموضوعات الرئيسية للسورة هي موضوعات السور المكية. وهدفها الأول هو بناء أسس العقيدة. فهي تتعرض لطبيعة الوحي وصدق الرسالة منذ افتتاحها : (يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ..). وتسوق قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون ، لتحذر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة ؛ وتعرض هذه العاقبة في القصة على طريقة القرآن في استخدام القصص لتدعيم قضاياه. وقرب نهاية السورة تعود إلى الموضوع ذاته : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) ..

كذلك تتعرض السورة لقضية الألوهية والوحدانية. فيجيء استنكار الشرك على لسان الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة ليحاج قومه في شأن المرسلين وهو يقول : (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ؟ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) .. وقرب ختام السورة يجيء ذكر هذا الموضوع مرة أخرى : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ. لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) ..

والقضية التي يشتد عليها التركيز في السورة هي قضية البعث والنشور ، وهي تتردد في مواضع كثيرة في السورة. تجيء في أولها : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) .. وتأتي في قصة أصحاب القرية ، فيما وقع للرجل المؤمن. وقد كان جزاؤها العاجل في السياق : (قِيلَ : ادْخُلِ الْجَنَّةَ. قالَ : يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) .. ثم ترد في وسط السورة : (وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) .. ثم يستطرد السياق إلى مشهد كامل من مشاهد القيامة. وفي نهاية السورة ترد هذه القضية في صورة حوار : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ. قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) ..

هذه القضايا المتعلقة ببناء العقيدة من أساسها ، تتكرر في السور المكية. ولكنها تعرض في كل مرة من زاوية معينة ، تحت ضوء معين ، مصحوبة بمؤثرات تناسب جوها ، وتتناسق مع إيقاعها وصورها وظلالها.

٤١٧

هذه المؤثرات منتزعة في هذه السورة من مشاهد القيامة ـ بصفة خاصة ـ ومن مشاهد القصة ومواقفها وحوارها. ومن مصارع الغابرين على مدار القرون. ثم من المشاهد الكونية الكثيرة المتنوعة الموحية : مشهد الأرض الميتة تدب فيها الحياة. ومشهد الليل يسلخ منه النهار فإذا هو ظلام. ومشهد الشمس تجري لمستقر لها. ومشهد القمر يتدرج في منازله حتى يعود كالعرجون القديم. ومشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين. ومشهد الأنعام مسخرة للآدميين. ومشهد النطفة ثم مشهدها إنسانا وهو خصيم مبين! ومشهد الشجر الأخضر تكمن فيه النار التي يوقدون!

وإلى جوار هذه المشاهد مؤثرات أخرى تلمس الوجدان الإنساني وتوقظه : منها صورة المكذبين الذين حقت عليهم كلمة الله بكفرهم فلم تعد تنفعهم الآيات والنذر : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ؛ وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ). ومنها صورة نفوسهم في سرهم وفي علانيتهم مكشوفة لعلم الله لا يداريها منه ستار .. ومنها تصوير وسيلة الخلق بكلمة لا تزيد : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ) .. وكلها مؤثرات تلمس القلب البشري وهو يرى مصداقها في واقع الوجود.

* * *

ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة أشواط :

يبدأ الشوط الأول بالقسم بالحرفين : «يا. سين» وبالقرآن الحكيم ، على رسالة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وأنه على صراط مستقيم. يتلو ذلك الكشف عن النهاية البائسة للغافلين الذين يكذبون. وهي حكم الله عليهم بألا يجدوا إلى الهداية سبيلا ، وأن يحال بينهم وبينها أبدا. وبيان أن الإنذار إنما ينفع من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ؛ فاستعد قلبه لاستقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان .. ثم يوجه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى أن يضرب لهم مثلا أصحاب القرية ، فيقص قصة التكذيب وعاقبة المكذبين. كما يعرض طبيعة الإيمان في قلب الرجل المؤمن وعاقبة الإيمان والتصديق ..

ومن ثم يبدأ الشوط الثاني بنداء الحسرة على العباد الذين ما يفتأون يكذبون كل رسول ويستهزئون به. غير معتبرين بمصارع المكذبين ، ولا متيقظين لآيات الله في الكون وهي كثير .. وهنا يعرض تلك المشاهد الكونية التي سبقت الإشارة إليها في تقديم السورة ، كما يعرض مشهدا مطولا من مشاهد القيامة فيه الكثير من التفصيل.

والشوط الثالث يكاد يلخص موضوعات السورة كلها. فينفي في أوله أن ما جاء به محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شعر ، وينفي عن الرسول كل علاقة بالشعر أصلا. ثم يعرض بعض المشاهد واللمسات الدالة على الألوهية المتفردة ، وينعى عليهم اتخاذ آلهة من دون الله يبتغون عندهم النصر وهم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة المدعاة!. ويتناول قضية البعث والنشور فيذكرهم بالنشأة الأولى من نطفة ليروا أن إحياء العظام وهي رميم كتلك النشأة ولا غرابة! ويذكرهم بالشجر الأخضر الذي تكمن فيه النار وهما في الظاهر بعيد من بعيد! وبخلق السماوات والأرض وهو شاهد بالقدرة على خلق أمثالهم من البشر في الأولى والآخرة .. وأخيرا يجيء الإيقاع الأخير في السورة : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ. فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

والآن نأخذ بعد هذا العرض المجمل في التفصيل ..

* * *

٤١٨

(يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ. وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ، وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) ..

يقسم الله سبحانه بهذين الحرفين : «يا. سين» كما يقسم بالقرآن الحكيم. وهذا الجمع بين الأحرف المقطعة والقرآن يرجح الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور ؛ والعلاقة بين ذكرها وذكر القرآن. وأن آية كونه من عند الله ، الآية التي لا يتدبرونها فيردهم القرآن إليها ، أنه مصوغ من جنس هذه الأحرف الميسرة لهم ؛ ولكن نسقه التفكيري والتعبيري فوق ما يملكون صياغته من هذه الحروف.

ويصف القرآن ـ وهو يقسم به ـ بأنه (الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ). والحكمة صفة العاقل. والتعبير على هذا النحو يخلع على القرآن صفة الحياة والقصد والإرادة. وهي من مقتضيات أن يكون حكيما. ومع أن هذا مجاز إلا أنه يصور حقيقة ويقربها. فإن لهذا القرآن لروحا! وإن له لصفات الحي الذي يعاطفك وتعاطفه حين تصفي له قلبك وتصغي له روحك! وإنك لتطلع منه على دخائل وأسرار كلما فتحت له قلبك وخلصت له بروحك! وإنك لتشتاق منه إلى ملامح وسمات ، كما تشتاق إلى ملامح الصديق وسماته ، حين تصاحبه فترة وتأنس به وتستروح ظلاله! ولقد كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يحب أن يسمع تلاوة القرآن من غيره ؛ ويقف على الأبواب ينصت إذا سمع من داخلها من يرتل هذا القرآن. كما يقف الحبيب وينصت لسيرة الحبيب! والقرآن حكيم. يخاطب كل أحد بما يدخل في طوقه. ويضرب على الوتر الحساس في قلبه. ويخاطبه بقدر. ويخاطبه بالحكمة التي تصلحه وتوجهه.

والقرآن حكيم. يربي بحكمة ، وفق منهج عقلي ونفسي مستقيم. منهج يطلق طاقات البشر كلها مع توجيهها الوجه الصالح القويم. ويقرر للحياة نظاما كذلك يسمح بكل نشاط بشري في حدود ذلك المنهج الحكيم.

يقسم الله سبحانه بياء وسين والقرآن الحكيم على حقيقة الوحي والرسالة إلى الرسول الكريم :

(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ..

وما به سبحانه من حاجة إلى القسم. ولكن هذا القسم منه ـ جل جلاله ـ بالقرآن وحروفه ، يخلع على المقسم به عظمة وجلالا ، فما يقسم الله سبحانه إلا بأمر عظيم ، يرتفع إلى درجة القسم به واليمين!

(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) .. والتعبير على هذا النحو يوحي بأن إرسال الرسل أمر مقرر ، له سوابق مقررة. فليس هو الذي يراد إثباته. إنما المراد أن يثبت هو أن محمدا ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من هؤلاء المرسلين. ويخاطبه هو بهذا القسم ـ ولا يوجهه إلى المنكرين المكذبين ـ ترفعا بالقسم وبالرسول وبالرسالة عن أن تكون موضع جدل أو مناقشة. إنما هو الإخبار المباشر من الله للرسول.

(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ..

وهذا بيان لطبيعة الرسالة بعد بيان حقيقة الرسول. وطبيعة هذه الرسالة الاستقامة. فهي قائمة كحد السيف لا عوج فيها ولا انحراف ، ولا التواء فيها ولا ميل. الحق فيها واضح لا غموض فيه ولا التباس. ولا يميل مع هوى ولا ينحرف مع مصلحة. يجده من يطلبه في يسر وفي دقة وفي خلوص.

وهي لاستقامتها ـ بسيطة لا تعقيد فيها ولا لف ولا دوران. لا تعقد الأمور ولا توقع في إشكالات من القضايا

٤١٩

والتصورات والأشكال الجدلية. وإنما تصدع بالحق في أبسط صورة من صوره ، وأعراها عن الشوائب والأخلاط ، وأغناها عن الشرح ، وتفصيص العبارات وتوليد الكلمات ، والدخول بالمعاني في الدروب والمنحنيات! يمكن أن يعيش بها ومعها البادي والحاضر ، والأمي والعالم ، وساكن الكوخ وساكن العمارة ؛ ويجد فيها كل حاجته ؛ ويدرك منها ما تستقيم به حياته ونظامه وروابطه في يسر ولين.

وهي مستقيمة مع فطرة الكون وناموس الوجود ، وطبيعة الأشياء والأحياء حول الإنسان ، فلا تصدم طبائع الأشياء ، ولا تكلف الإنسان أن يصدمها ، إنما هي مستقيمة على نهجها ، متناسقة معها ، متعاونة كذلك مع سائر القوانين التي تحكم هذا الوجود وما فيه ومن فيه.

وهي من ثم مستقيمة على الطريق إلى الله ، واصلة إليه موصلة به ، لا يخشى تابعها أن يضل عن خالقه ، ولا أن يلتوي عن الطريق إليه. فهو سالك دربا مستقيما واصلا ينتهي به إلى رضوان الخالق العظيم.

والقرآن هو دليل هذا الصراط المستقيم. وحيثما سار الإنسان معه وجد هذه الاستقامة في تصويره للحق ، وفي التوجيه إليه ، وفي أحكامه الفاصلة في القيم ، ووضع كل قيمة في موضعها الدقيق.

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ..

يعرف الله عباده بنفسه في مثل هذه المواضع ، ليدركوا حقيقة ما نزل إليهم. فهو العزيز القوي الذي يفعل ما يريد. وهو الرحيم بعباده الذي يفعل بهم ما يفعل ، وهو يريد بهم الرحمة فيما يفعل.

فأما حكمة هذا التنزيل فهي الإنذار والتبليغ :

(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) ..

والغفلة أشد ما يفسد القلوب. فالقلب الغافل قلب معطل عن وظيفته. معطل عن الالتقاط والتأثر والاستجابة. تمر به دلائل الهدى أو يمر بها دون أن يحسها أو يدركها. ودون أن ينبض أو يستقبل. ومن ثم كان الإنذار هو أليق شيء بالغفلة التي كان فيها القوم ، الذين مضت الأجيال دون أن ينذرهم منذر ، أو ينبههم منبه. فهم من ذرية إسماعيل ولم يكن لهم بعده من رسول. فالإنذار قد يوقظ الغافلين المستغرقين في الغفلة ، الذين لم يأتهم ولم يأت آباءهم نذير.

ثم يكشف عن مصير هؤلاء الغافلين ؛ وعما نزل بهم من قدر الله ، وفق ما علم الله من قلوبهم ومن أمرهم. ما كان منه وما سيكون :

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ..

لقد قضي في أمرهم ، وحق قدر الله على أكثرهم ، بما علمه من حقيقتهم ، وطبيعة مشاعرهم. فهم لا يؤمنون. وهذا هو المصير الأخير للأكثرين. فإن نفوسهم محجوبة عن الهدى مشدودة عن رؤية دلائله أو استشعارها.

وهنا يرسم مشهدا حسيا لهذه الحالة النفسية ، يصورهم كأنهم مغلولون ممنوعون قسرا عن النظر ، محال بينهم وبين الهدى والإيمان بالحواجز والسدود ، مغطى على أبصارهم فلا يبصرون :

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً ، فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ ، فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا. فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) ..

إن أيديهم مشدودة بالأغلال إلى أعناقهم ، موضوعة تحت أذقانهم. ومن ثم فإن رؤوسهم مرفوعة قسرا ، لا يملكون أن ينظروا بها إلى الأمام! ومن ثم فهم لا يملكون حرية النظر والرؤية وهم في هذا المشهد العنيف!

٤٢٠