في ظلال القرآن - ج ٥

سيّد قطب

في ظلال القرآن - ج ٥

المؤلف:

سيّد قطب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الشروق للنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٩٩

وهو الذي على يده مصرع فرعون وجنده!

(عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) ..

وهو الذي تخبئ لهم الأقدار من ورائه ما حذروا منه طويلا!

(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ..

فيا للقدرة القادرة التي تتحداهم وتسخر منهم وهم لا يشعرون!

وينتهي المشهد الثاني ويسدل الستار عليه إلى حين.

ذلك شأن موسى. فما بال أمه الوالهة وقلبها الملهوف؟

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً. إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ. لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقالَتْ لِأُخْتِهِ : قُصِّيهِ) ..

لقد سمعت الإيحاء ، وألقت بطفلها إلى الماء. ولكن أين هو يا ترى وما ذا فعلت به الأمواج؟ ولعلها سألت نفسها : كيف؟ كيف أمنت على فلذة كبدي أن أقذف بها في اليم؟ كيف فعلت ما لم تفعله من قبل أم؟ كيف طلبت له السلامة في هذه المخافة؟ وكيف استسلمت لذلك الهاتف الغريب؟

والتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة صورة حية : (فارِغاً) .. لا عقل فيه ولا وعي ولا قدرة على نظر أو تصريف!

(إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) .. وتذيع أمرها في الناس ، وتهتف كالمجنونة : أنا أضعته. أنا أضعت طفلى. أنا ألقيت به في اليم اتباعا لهاتف غريب!

(لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) .. وشددنا عليه وثبتناها ، وأمسكنا بها من الهيام والشرود.

(لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .. المؤمنين بوعد الله ، الصابرين على ابتلائه ، السائرين على هداه.

ولم تسكت أم موسى عن البحث والمحاولة!

(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ : قُصِّيهِ) .. اتبعي أثره ، واعرفي خبره ، إن كان حيا ، أو أكلته دواب البحر أو وحوش البر .. أو أين مقره ومرساه؟

وذهبت أخته تقص أثره في حذر وخفية ، وتتلمس خبره في الطرق والأسواق. فإذا بها تعرف أين ساقته القدرة التي ترعاه ؛ وتبصر به عن بعد في أيدي خدم فرعون يبحثون له عن ثدي للرضاع :

(فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ. فَقالَتْ : هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ؟) ..

إن القدرة التي ترعاه تدبر أمره ، وتكيد به لفرعون وآله ؛ فتجعلهم يلتقطونه ، وتجعلهم يحبونه ، وتجعلهم يبحثون له عن ظئر ترضعه ، وتحرم عليه المراضع ، لتدعهم يحتارون به ؛ وهو يرفض الثدي كلما عرضت عليه ، وهم يخشون عليه الموت أو الذبول! حتى تبصر به أخته من بعيد ، فتعرفه وتتيح لها القدرة فرصة لهفتهم على مرضع ، فتقول لهم : «هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون»؟ فيتلقفون كلماتها ، وهم يستبشرون ، يودون لو تصدق فينجو الطفل العزيز المحبوب!

وينتهي المشهد الرابع ؛ فنجدنا أمام المشهد الخامس والأخير في هذه الحلقة. وقد عاد الطفل الغائب لأمه الملهوفة. معافى في بدنه ، مرموقا في مكانته ، يحميه فرعون ، وترعاه امرأته ، وتضطرب المخاوف من حوله

١٤١

وهو آمن قرير. وقد صاغت يد القدرة الحلقة الأولى من تدبيرها العجيب :

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ ، كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ ، وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ..

* * *

ويسكت سياق القصة بعد هذا عن السنوات الطوال ما بين مولد موسى ـ عليه‌السلام ـ والحلقة التالية التي تمثل شبابه واكتماله. فلا نعلم ماذا كان بعد رده إلى أمه لترضعه. ولا كيف تربى في قصر فرعون. ولا كيف كانت صلته بأمه بعد فترة الرضاعة. ولا كيف كان مكانه في القصر أو خارجه بعد أن شب وكبر إلى أن تقع الأحداث التالية في الحلقة الثانية. ولا كيف كانت عقيدته ، وهو الذي يصنع على عين الله ، ويعد لوظيفته ، في وسط عباد فرعون وكهنته ..

يسكت سياق القصة عن كل هذا ويبدأ الحلقة الثانية مباشرة حين بلغ أشده واستوى ، فقد آتاه الله الحكمة والعلم ، وجزاه جزاء المحسنين :

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ..

وبلوغ الأشد اكتمال القوى الجسمية. والاستواء اكتمال النضوج العضوي والعقلي. وهو يكون عادة حوالي سن الثلاثين. فهل ظل موسى في قصر فرعون ، ربيبا ومتبنى لفرعون وزوجه حتى بلغ هذه السن؟ أم إنه افترق عنهما ، واعتزل القصر ، ولم تسترح نفسه للحياة في ظل تلك الأوضاع الآسنة التي لا تستريح لها نفس مصفاة مجتباة كنفس موسى ـ عليه‌السلام ـ؟ وبخاصة أن أمه لا بد أن تكون قد عرّفته من هو ومن قومه وما ديانته. وهو يرى كيف يسام قومه الخسف البشع والظلم الشنيع ، والبغي اللئيم ؛ وهو يرى أبشع صورة للفساد الشائع الأثيم.

ليس لدينا من دليل. ولكن سياق الحوادث بعد هذا يلهم شيئا من هذا كما سيجيء ؛ والتعقيب على إتيانه الحكمة والعلم : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) يشي كذلك بأنه أحسن فأحسن الله إليه بالحكمة والعلم :

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ، فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ : هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ؛ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ؛ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ. قالَ : هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ. قالَ : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ، فَاغْفِرْ لِي ، فَغَفَرَ لَهُ ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قالَ : رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) ..

ودخل المدينة .. والمفهوم أنها العاصمة وقتئذ .. فمن أي مكان جاء فدخلها؟ وهل كان من القصر في عين شمس؟ أم إنه كان قد اعتزل القصر والعاصمة ، ثم دخل إليها على حين غفلة من أهلها ، في وقت الظهيرة مثلا حين تغفو العيون؟

لقد دخل المدينة على كل حال (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ. هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ. فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) ..

وقد كان أحدهما قبطيا ـ يقال إنه من حاشية فرعون ، ويقال إنه طباخ القصر. والآخر إسرائيلي. وكانا يقتتلان. فاستغاث الإسرائيلي بموسى مستنجدا به على عدوهما القبطي. فكيف وقع هذا؟ كيف استغاث الإسرائيلي بموسى ربيب فرعون على رجل من رجال فرعون؟ إن هذا لا يقع إذا كان موسى لا يزال في القصر ، متبنى ، أو من الحاشية. إنما يقع إذا كان الإسرائيلي على ثقة من أن موسى لم يعد متصلا بالقصر ، وأنه قد عرف

١٤٢

أنه من بني إسرائيل. وأنه ناقم على الملك والحاشية ، منتصر لقومه المضطهدين. وهذا هو الأنسب لمن في مقام موسى ـ عليه‌السلام ـ فإنه بعيد الاحتمال أن تطيق نفسه البقاء في مستنقع الشر والفساد ..

(فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) ..

والوكز الضرب بجمع اليد. والمفهوم من التعبير أنها وكزة واحدة كان فيها حتف القبطي. مما يشي بقوة موسى وفتوته ، ويصور كذلك انفعاله وغضبه ؛ ويعبر عما كان يخالجه من الضيق بفرعون ومن يتصل به.

ولكن يبدو من السياق أنه لم يكن يقصد قتل القبطي ، ولم يعمد إلى القضاء عليه. فما كاد يراه جثة هامدة بين يديه حتى استرجع وندم على فعلته ، وعزاها إلى الشيطان وغوايته ؛ فقد كانت من الغضب ، والغضب شيطان ، أو نفخ من الشيطان :

(قالَ : هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ. إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) ..

ثم استطرد في فزع مما دفعه إليه الغضب ، يعترف بظلمه لنفسه أن حملها هذا الوزر ، ويتوجه إلى ربه ، طالبا مغفرته وعفوه :

(قالَ : رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) ..

واستجاب الله إلى ضراعته ، وحساسيته ، واستغفاره :

(فَغَفَرَ لَهُ. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ..

وكأنما أحس موسى بقلبه المرهف وحسه المتوفز في حرارة توجهه إلى ربه ، أن ربه غفر له. والقلب المؤمن يحس بالاتصال والاستجابة للدعاء ، فور الدعاء ، حين يصل إرهافه وحساسيته إلى ذلك المستوي ؛ وحين تصل حرارة توجهه إلى هذا الحد .. وارتعش وجدان موسى ـ عليه‌السلام ـ وهو يستشعر الاستجابة من ربه ، فإذا هو يقطع على نفسه عهدا ، يعده من الوفاء بشكر النعمة التي أنعمها عليه ربه :

(قالَ : رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) ..

فهو عهد مطلق ألا يقف في صف المجرمين ظهيرا ومعينا. وهو براءة من الجريمة وأهلها في كل صورة من صورها. حتى ولو كانت اندفاعا تحت تأثير الغيظ ، ومرارة الظلم والبغي.

ذلك بحق نعمة الله عليه في قبول دعائه ؛ ثم نعمته في القوة والحكمة والعلم التي آتاه الله من قبل.

وهذه الارتعاشة العنيفة ، وقبلها الاندفاع العنيف ، تصور لنا شخصية موسى ـ عليه‌السلام ـ شخصية انفعالية ، حارة الوجدان ، قوية الاندفاع. وسنلتقي بهذه السمة البارزة في هذه الشخصية في مواضع أخرى كثيرة.

بل نحن نلتقي بها في المشهد الثاني في هذه الحلقة مباشرة :

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ ؛ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ، قالَ لَهُ مُوسى : إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ. فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ : يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ ، وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) ..

لقد انتهت المعركة الأولى بالقضاء على القبطي ، وندم موسى على فعلته ، وتوجهه إلى ربه ، واستغفاره إياه ، ومغفرته له ، وعهده على نفسه ألا يكون ظهيرا للمجرمين.

ومر يوم وأصبح في المدينة خائفا من انكشاف أمره ، يترقب الافتضاح والأذى. ولفظ (يَتَرَقَّبُ) يصور

١٤٣

هيئة القلق الذي يتلفت ويتوجس ، ويتوقع الشر في كل لحظة .. وهي سمة الشخصية الانفعالية تبدو في هذا الموقف كذلك. والتعبير يجسم هيئة الخوف والقلق بهذا اللفظ ، كما أنه يضخمها بكلمتي «في المدينة» فالمدينة عادة موطن الأمن والطمأنينة ، فإذا كان خائفا يترقب في المدينة ، فأعظم الخوف ما كان في مأمن ومستقر! وحالة موسى هذه تلهم أنه لم يكن في هذا الوقت من رجال القصر. وإلا فما أرخص أن يزهق أحد رجال القصر نفسا في عهود الظلم والطغيان! وما كان ليخشى شيئا فضلا على أن يصبح (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) لو أنه كان ما يزال في مكانه من قلب فرعون وقصره.

وبينما هو في هذا القلق والتوجس إذا هو يطلع : (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ)!

إنه صاحبه الإسرائيلي الذي طلب بالأمس نصرته على القبطي. إنه هو مشتبكا مع قبطي آخر ؛ وهو يستصرخ موسى لينصره ؛ ولعله يريد منه أن يقضي على عدوهما المشترك بوكزة أخرى!

ولكن صورة قتيل الأمس كانت ما تزال تخايل لموسى. وإلى جوارها ندمه واستغفاره وعهده مع ربه. ثم هذا التوجس الذي يتوقع معه في كل لحظة أن يلحقه الأذى. فإذا هو ينفعل على هذا الذي يستصرخه ، ويصفه بالغواية والضلال :

(قالَ لَهُ مُوسى : إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) ..

غوي بعراكه هذا الذي لا ينتهي واشتباكاته التي لا تثمر إلا أن تثير الثائرة على بني إسرائيل. وهم عن الثورة الكاملة عاجزون ، وعن الحركة المثمرة ضعفاء. فلا قيمة لمثل هذه الاشتباكات التي تضر ولا تفيد.

ولكن الذي حدث أن موسى ـ بعد ذلك ـ انفعلت نفسه بالغيظ من القبطي ، فاندفع يريد أن يقضي عليه كما قضى على الأول بالأمس! ولهذا الاندفاع دلالته على تلك السمة الانفعالية التي أشرنا إليها ، ولكن له دلالته من جانب آخر على مدى امتلاء نفس موسى ـ عليه‌السلام ـ بالغيظ من الظلم ، والنقمة على البغي ، والضيق بالأذى الواقع على بني إسرائيل ، والتوفز لرد العدوان الطاغي ، الطويل الأمد ، الذي يحتفر في القلب البشري مسارب من الغيظ وأخاديد.

(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما ، قالَ : يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ ، وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) ..

وإنه ليقع حينما يشتد الظلم ، ويفسد المجتمع ، وتختل الموازين ، ويخيم الظلام ، أن تضيق النفس الطيبة بالظلم الذي يشكل الأوضاع والقوانين والعرف ؛ ويفسد الفطرة العامة حتى ليرى الناس الظلم فلا يثورون عليه ، ويرون البغي فلا تجيش نفوسهم لدفعه ؛ بل يقع أن يصل فساد الفطرة إلى حد إنكار الناس على المظلوم أن يدفع عن نفسه ويقاوم ؛ ويسمون من يدفع عن نفسه أو غيره (جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) كما قال القبطي لموسى. ذلك أنهم ألفوا رؤية الطغيان يبطش وهم لا يتحركون ، حتى وهموا أن هذا هو الأصل ، وأن هذا هو الفضل ، وأن هذا هو الأدب ، وأن هذا هو الخلق! وأن هذا هو الصلاح! فإذا رأوا مظلوما يدفع الظلم عن نفسه ، فيحطم السياج الذي أقامه الطغيان لحماية الأوضاع التي يقوم عليها .. إذا رأوا مظلوما يهب لتحطيم ذلك السياج المصطنع الباطل ولولوا ودهشوا ، وسمّوا هذا المظلوم الذي يدفع الظلم سفاكا أو جبارا ، وصبوا عليه لومهم ونقمتهم. ولم ينل الظالم الطاغي من نقمتهم ولومهم إلا القليل! ولم يجدوا للمظلوم عذرا ـ حتى على فرض تهوره ـ من ضيقه بالظلم الثقيل!

ولقد طال الظلم ببني إسرائيل ، فضاقت به نفس موسى ـ عليه‌السلام ـ حتى رأيناه يندفع في المرة الأولى

١٤٤

ويندم ، ثم يندفع في المرة الثانية لما ندم عليه حتى ليكاد يفعله ، ويهم أن يبطش بالذي هو عدو له ولقومه.

لذلك لم يتخل الله عنه ، بل رعاه ، واستجاب له ، فالله العليم بالنفوس يعلم أن للطاقة البشرية حدا في الاحتمال. وأن الظلم حين يشتد ، وتغلق أبواب النصفة ، يندفع المضطهد إلى الهجوم والاقتحام. فلم يهول في وصف الفعلة التي فعلها موسى ، كما تهول الجماعات البشرية التي مسخ الظلم فطرتها بإزاء مثل هذا العمل الفطري مهما تجاوز الحدود تحت الضغط والكظم والضيق.

وهذه هي العبرة التي تستشف من طريقة التعبير القرآنية عن الحادثتين وما تلاهما ، فهو لا يبرر الفعلة ولكنه كذلك لا يضخمها. ولعل وصفها بأنها ظلم للنفس إنما نشأ من اندفاع موسى بدافع العصبية القومية. وهو المختار ليكون رسول الله ، المصنوع على عين الله .. أو لعله كان لأنه استعجل الاشتباك بصنائع الطغيان ؛ والله يريد أن يكون الخلاص الشامل بالطريقة التي قضاها ، حيث لا تجدي تلك الاشتباكات الفردية الجانبية في تغيير الأوضاع. كما كف الله المسلمين في مكة عن الاشتباك حتى جاء الأوان.

ويبدو أن رائحة فاحت عن قتيل الأمس ، وأن شبهات تطايرت حول موسى. لما عرف عن كراهيته من قبل لطغيان فرعون وملئه ، إلى جانب ما يكون قد باح به صاحبه الإسرائيلي سرا بين قومه ، ثم تفشى بعد ذلك خارج بني إسرائيل.

نرجح هذا لأن قتل موسى لأحد رجال فرعون في معركة بينه وبين إسرائيلي في مثل هذه الظروف يعد حدثا مريحا لنفوس بني إسرائيل ، يشفى بعض غيظهم ، فيشيع عادة وتتناقله الألسنة في همس وفرح وتشف ، حتى يفشو ويتطاير هنا وهناك ، وبخاصة إذا عرف عن موسى من قبل نفرته من البغي ، وانتصاره للمظلومين.

فلما أراد موسى أن يبطش بالقبطي الثاني واجهه هذا بالتهمة ، لأنها عندئذ تجسمت له حقيقة ، وهو يراه يهم أن يبطش به ، وقال له تلك المقالة : «أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟».

أما بقية عبارته : «إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين» .. فتلهم أن موسى كان قد اتخذ له في الحياة مسلكا يعرف به أنه رجل صالح مصلح ، لا يحب البغي والتجبر. فهذا القبطي يذكره بهذا ويورّي به ؛ ويتهمه بأنه يخالف عما عرف عنه. يريد أن يكون جبارا لا مصلحا ، يقتل الناس بدلا من إصلاح ذات البين ، وتهدئة ثائرة الشر. وطريقة خطابه له وموضوع خطابه ، كلاهما يلهم أن موسى لم يكن إذ ذاك محسوبا من رجال فرعون. وإلا ما جرؤ المصري على خطابه بهذه اللهجة ، ولما كان هذا موضوع خطابه.

ولقد قال بعض المفسرين : إن هذا القول كان من الإسرائيلي لا من القبطي ، لأنه لما قال له موسى : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) ، ثم تقدم نحوه وهو غاضب ليبطش بالذي هو عدولهما ، حسب الإسرائيلي أنه غاضب عليه هو ، وأنه يتقدم ليبطش به هو ، فقال مقالته ، وأذاع بالسر الذي يعرفه وحده .. وإنما حملهم على هذا القول أن ذلك السر كان مجهولا عند المصريين.

ولكن الأقرب أن يكون القبطي هو الذي قال ما قال. وقد عللنا شيوع ذلك السر. وأنها قد تكون فراسة أو حدسا من المصري بمساعدة الظروف المحيطة بالموضوع (١).

والظاهر أن موسى لم يقدم بعد إذ ذكره الرجل بفعلة الأمس ، وأن الرجل أفلت لينهي إلى الملأ من قوم

__________________

(١) جريت على الرأي الأول في كتاب التصوير الفني في القرآن ولكني إلى هذا الرأي الأخير أميل الآن.

١٤٥

فرعون أن موسى هو صاحبها. فهنا فجوة في السياق بعد المشهد السابق. ثم إذا مشهد جديد. رجل يجيء إلى موسى من أقصى المدينة ، يحذره ائتمار الملأ من قوم فرعون به ، وينصح بالهرب من المدينة إبقاء على حياته :

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى. قالَ : يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ. فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) ..

إنها يد القدرة تسفر في اللحظة المطلوبة ، لتتم مشيئتها!

لقد عرف الملأ من قوم فرعون ، وهم رجال حاشيته وحكومته والمقربون إليه أنها فعلة موسى. وما من شك أنهم أحسوا فيها بشبح الخطر. فهي فعلة طابعها الثورة والتمرد ، والانتصار لبني إسرائيل. وإذن فهي ظاهرة خطيرة تستحق التآمر. ولو كانت جريمة قتل عادية ما استحقت أن يشتغل بها فرعون والملأ والكبراء. فانتدبت يد القدرة واحدا من الملأ. الأرجح أنه الرجل المؤمن من آل فرعون الذي يكتم إيمانه ، والذي جاء ذكره في سورة (غافر) (١) انتدبته ليسعى إلى موسى (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) في جد واهتمام ومسارعة ، ليبلغه قبل أن يبلغه رجال الملك : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ، فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) ..

(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ. قالَ : رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ..

ومرة أخرى نلمح السمة الواضحة في الشخصية الانفعالية. التوفز والتلفت. ونلمح معها ، التوجه المباشر بالطلب إلى الله ، والتطلع إلى حمايته ورعايته ، والالتجاء إلى حماه في المخافة ، وترقب الأمن عنده والنجاة : (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ..

ثم يتبعه السياق خارجا من المدينة ، خائفا يترقب ، وحيدا فريدا ، غير مزود إلا بالاعتماد على مولاه ؛ والتوجه إليه طالبا عونه وهداه :

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ : عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) ..

ونلمح شخصية موسى ـ عليه‌السلام ـ فريدا وحيدا مطاردا في الطرق الصحراوية في اتجاه مدين في جنوبي الشام وشمالي الحجاز. مسافات شاسعة ، وأبعاد مترامية ، لا زاد ولا استعداد ، فقد خرج من المدينة خائفا يترقب ، وخرج منزعجا بنذارة الرجل الناصح ، لم يتلبث ، ولم يتزود ولم يتخذ دليلا. ونلمح إلى جانب هذا نفسه متوجهة إلى ربه ، مستسلمة له ، متطلعة إلى هداه : (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) ..

ومرة أخرى نجد موسى ـ عليه‌السلام ـ في قلب المخافة ، بعد فترة من الأمن. بل من الرفاهية والطراءة والنعمى. ونجده وحيدا مجردا من قوى الأرض الظاهرة جميعا ، يطارده فرعون وجنده ، ويبحثون عنه في كل مكان ، لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفلا. ولكن اليد التي رعته وحمته هناك ترعاه وتحميه هنا ، ولا تسلمه لأعدائه أبدا. فها هو ذا يقطع الطريق الطويل ، ويصل إلى حيث لا تمتد إليه اليد الباطشة بالسوء :

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ، وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ. قالَ : ما خَطْبُكُما؟ قالَتا : لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ ، وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ. فَسَقى لَهُما ، ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ، فَقالَ : رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ..

لقد انتهى به السفر الشاق الطويل إلى ماء لمدين. وصل إليه وهو مجهود مكدود. وإذا هو يطلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة ، السليمة الفطرة ، كنفس موسى ـ عليه‌السلام ـ وجد الرعاة الرجال يوردون

__________________

(١) «وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله» الآية (٢٨).

١٤٦

أنعامهم لتشرب من الماء ؛ ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء. والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة ، أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامهما أولا ، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما.

ولم يقعد موسى الهارب المطارد ، المسافر المكدود ، ليستريح ، وهو يشهد هذا المنظر المنكر المخالف للمعروف. بل تقدم للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب :

(قالَ : ما خَطْبُكُما؟).

(قالَتا : لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) ..

فأطلعتاه على سبب انزوائهما وتأخرهما وذودهما لغنمهما عن الورود. إنه الضعف ، فهما امرأتان وهؤلاء الرعاة رجال. وأبوهما شيخ كبير لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال! وثارت نخوة موسى ـ عليه‌السلام ـ وفطرته السليمة. فتقدم لإقرار الأمر في نصابه. تقدم ليسقي للمرأتين أولا ، كما ينبغي أن يفعل الرجال ذوو الشهامة. وهو غريب في أرض لا يعرفها ، ولا سند له فيها ولا ظهير. وهو مكدود قادم من سفر طويل بلا زاد ولا استعداد. وهو مطارد ، من خلفه اعداء لا يرحمون. ولكن هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي المروءة والنجدة والمعروف ، وإقرار الحق الطبيعي الذي تعرفه النفوس :

(فَسَقى لَهُما) ..

مما يشهد بنبل هذه النفس التي صنعت على عين الله. كما يشي بقوته التي ترهب حتى وهو في إعياء السفر الطويل. ولعلها قوة نفسه التي أوقعت في قلوب الرعاة رهبته أكثر من قوة جسمه. فإنما يتأثر الناس أكثر بقوة الأرواح والقلوب.

(ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) ..

مما يشير إلى أن الأوان كان أوان قيظ وحر ، وأن السفرة كانت في ذلك القيظ والحر.

(فَقالَ : رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ..

إنه يأوي إلى الظل المادي البليل بجسمه ، ويأوى إلى الظل العريض الممدود. ظل الله الكريم المنان. بروحه وقلبه : «رب. إني لما أنزلت إلي من خير فقير». رب إني في الهاجرة. رب إني فقير. رب إني وحيد. رب إني ضعيف. رب إني إلى فضلك ومنك وكرمك فقير محووج.

ونسمع من خلال التعبير رفرفة هذا القلب والتجاءه إلى الحمى الآمن ، والركن الركين ، والظل الظليل. نسمع المناجاة القريبة والهمس الموحي ، والانعطاف الرفيق ، والاتصال العميق : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) ..

وما نكاد نستغرق مع موسى ـ عليه‌السلام ـ في مشهد المناجاة حتى يعجل السياق بمشهد الفرج ، معقبا في التعبير بالفاء ، كأنما السماء تسارع فتستجيب للقلب الضارع الغريب.

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ. قالَتْ : إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) ..

يا فرج الله : ويا لقربه ويا لنداه! إنها دعوة الشيخ الكبير استجابة من السماء لدعوة موسى الفقير. دعوة للإيواء والكرامة والجزاء على الإحسان. دعوة تحملها : (إِحْداهُما) وقد جاءته (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة النظيفة حين تلقى الرجال. (عَلَى اسْتِحْياءٍ). في غير ما تبذل ولا تبرج ولا تبجح ولا إغواء. جاءته لتنهي إليه دعوة في أقصر لفظ وأخصره وأدله ، يحكيه القرآن بقوله : (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ

١٤٧

لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا). فمع الحياء الإبانة والدقة والوضوح ؛ لا التلجلج والتعثر والربكة. وذلك كذلك من إيحاء الفطرة النظيفة السليمة المستقيمة. فالفتاة القويمة تستحي بفطرتها عند لقاء الرجال والحديث معهم ، ولكنها لثقتها بطهارتها واستقامتها لا تضطرب. الاضطراب الذي يطمع ويغري ويهيج ؛ إنما تتحدث في وضوح بالقدر المطلوب ، ولا تزيد.

وينهي السياق هذا المشهد فلا يزيد عليه ، ولا يفسح المجال لغير الدعوة من الفتاة ، والاستجابة من موسى. ثم إذا مشهد اللقاء بينه وبين الشيخ الكبير. الذي لم ينص على اسمه. وقيل : إنه ابن أخي شعيب النبي المعروف. وإن اسمه يثرون (١).

(فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ ، قالَ : لا تَخَفْ. نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ..

فقد كان موسى في حاجة إلى الأمن ؛ كما كان في حاجة إلى الطعام والشراب. ولكن حاجة نفسه إلى الأمن كانت أشد من حاجة جسمه إلى الزاد. ومن ثم أبرز السياق في مشهد اللقاء قول الشيخ الوقور : (لا تَخَفْ) فجعلها أول لفظ يعقب به على قصصه ليلقي في قلبه الطمأنينة ، ويشعره بالأمان. ثم بين وعلل : (نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فلا سلطان لهم على مدين ، ولا يصلون لمن فيها بأذى ولا ضرار.

ثم نسمع في المشهد صوت الأنوثة المستقيمة السليمة :

(قالَتْ إِحْداهُما : يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ. إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).

إنها وأختها تعانيان من رعي الغنم ، ومن مزاحمة الرجال على الماء ، ومن الاحتكاك الذي لا بد منه للمرأة التي تزاول أعمال الرجال. وهي تتأذى وأختها من هذا كله ؛ وتريد أن تكون امرأة تأوي إلى بيت ؛ امرأة عفيفة مستورة لا تحتك بالرجال الغرباء في المرعى والمسقى. والمرأة العفيفة الروح ، النظيفة القلب ، السليمة الفطرة ، لا تستريح لمزاحمة الرجال ، ولا للتبذل الناشئ من هذه المزاحمة.

وها هو ذا شاب غريب طريد وهو في الوقت ذاته قوى أمين. رأت من قوته ما يهابه الرعاء فيفسحون له الطريق ويسقي لهما. وهو غريب. والغريب ضعيف مهما اشتد. ورأت من أمانته ما يجعله عف اللسان والنظر حين توجهت لدعوته. فهي تشير على أبيها باستئجاره ليكفيها وأختها مؤنة العمل والاحتكاك والتبذل. وهو قوي على العمل ، أمين على المال. فالأمين على العرض هكذا أمين على ما سواه. وهي لا تتلعثم في هذه الإشارة ولا تضطرب ، ولا تخشى سوء الظن والتهمة. فهي بريئة النفس ، نظيفة الحس ؛ ومن ثم لا تخشى شيئا ، ولا تتمم ولا تجمجم وهي تعرض اقتراحها على أبيها.

ولا حاجة لكل ما رواه المفسرون من دلائل قوة موسى. كرفع الحجر الذي يغطي البئر وكان لا يرفعه ـ فيما قالوا ـ إلا عشرون أو أربعون أو أكثر أو أقل. فالبئر لم يكن مغطى ، إنما كان الرعاء يسقون فنحاهم وسقى للمرأتين ، أو سقى لهما مع الرعاء.

__________________

(١) سبق أن قلت مرة في الظلال : إن هذا الرجل هو شعيب. وقلت مرة : إنه قد يكون النبي شعيبا أو لا يكون .. وأنا الآن أميل إلى ترجيح أنه ليس هو وإنما هو شيخ آخر من مدين. والذي يحمل على هذا الترجيح أن هذا الرجل شيخ كبير. وشعيب شهد مهلك قومه ، المكذبين له ، ولم يبق معه إلا المؤمنون به. فلو كان هو شعيب ـ النبي ـ بين بقية قومه المؤمنين ، ما سقوا قبل بنتي نبيهم الشيخ الكبير. فليس هذا سلوك قوم مؤمنين ، ولا معاملتهم لنبيهم وبناته من أول جيل!

يضاف إلى هذا أن القرآن لم يذكر شيئا عن تعليمه لموسى صهره. ولو كان شعيبا النبي لسمعنا صوت النبوة في شيء من هذا مع موسى وقد عاش معه عشر سنوات.

١٤٨

ولا حاجة كذلك لما رووه عن دلائل أمانته من قوله للفتاة : امشي خلفي ودليني على الطريق خوف أن يراها. أو أنه قال لها هذا بعد أن مشى خلفها فرفع الهواء ثوبها عن كعبها .. فهذا كله تكلف لا داعي له ، ودفع لريبة لا وجود لها. وموسى ـ عليه‌السلام ـ عفيف النظر نظيف الحس ، وهي كذلك ، والعفة والأمانة لا تحتاجان لكل هذا التكلف عند لقاء رجل وامرأة. فالعفة تنضح في التصرف العادي البسيط بلا تكلف ولا اصطناع! واستجاب الشيخ لاقتراح ابنته. ولعله أحس من نفس الفتاة ونفس موسى ثقة متبادلة ، وميلا فطريا سليما ، صالحا لبناء أسرة. والقوة والأمانة حين تجتمعان في رجل لا شك تهفو إليه طبيعة الفتاة السليمة التي لم تفسد ولم تلوث ولم تنحرف عن فطرة الله. فجمع الرجل بين الغايتين وهو يعرض على موسى أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن يخدمه ويرعى ماشيته ثماني سنين. فإن زادها إلى عشر فهو تفضل منه لا يلزم به.

(قالَ : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ ، عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ. فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ. وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).

وهكذا في بساطة وصراحة عرض الرجل إحدى ابنتيه من غير تحديد ـ ولعله كان يشعر كما أسلفنا ـ أنها محددة ، وهي التي وقع التجاوب والثقة بين قلبها وقلب الفتى. عرضها في غير تحرج ولا التواء. فهو يعرض نكاحا لا يخجل منه. يعرض بناء أسرة وإقامة بيت وليس في هذا ما يخجل ، ولا ما يدعوا إلى التحرج والتردد والإيماء من بعيد ، والتصنع والتكلف مما يشاهد في البيئة التي تنحرف عن سواء الفطرة ، وتخضع لتقاليد مصطنعة باطلة سخيفة ، تمنع الوالد أو ولي الأمر من التقدم لمن يرتضي خلقه ودينه وكفايته لابنته أو أخته أو قريبته ؛ وتحتم أن يكون الزوج أو وليه أو وكيله هو الذي يتقدم ، أو لا يليق أن يجيء العرض من الجانب الذي فيه المرأة! ومن مفارقات مثل هذه البيئة المنحرفة أن الفتيان والفتيات يلتقون ويتحدثون ويختلطون ويتكشفون بعضهم لبعض في غير ما خطبة ولا نية نكاح. فأما حين تعرض الخطبة أو يذكر النكاح ، فيهبط الخجل المصطنع ، وتقوم الحوائل المتكلفة وتمتنع المصارحة والبساطة والإبانة!

ولقد كان الآباء يعرضون بناتهم على الرجال على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بل كانت النساء تعرض نفسها على النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أو من يرغب في تزويجهن منهم. كان يتم هذا في صراحة ونظافة وأدب جميل ، لا تخدش معه كرامة ولا حياء .. عرض عمر ـ رضي الله عنه ـ ابنته حفصة على أبي بكر فسكت وعلى عثمان فاعتذر ، فلما أخبر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بهذا طيب خاطره ، عسى أن يجعل الله لها نصيبا فيمن هو خير منهما. ثم تزوجها ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعرضت امرأة نفسها على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فاعتذر لها. فألقت إليه ولاية أمرها يزوجها ممن يشاء. فزوجها رجلا لا يملك إلا سورتين من القرآن ، علمها إياهما فكان هذا صداقها.

وبمثل هذه البساطة والوضاءة سار المجتمع الإسلامي يبني بيوته ويقيم كيانه. في غير ما تلعثم ولا جمجمة ولا تصنع ولا التواء.

وهكذا صنع الشيخ الكبير ـ صاحب موسى ـ فعرض على موسى ذلك العرض واعدا إياه ألا يشق عليه ولا يتعبه في العمل ؛ راجيا بمشيئة الله أن يجده موسى من الصالحين في معاملته ووفائه. وهو أدب جميل في التحدث عن النفس وفي جانب الله. فهو لا يزكي نفسه ، ولا يجزم بأنه من الصالحين. ولكن يرجو أن يكون كذلك ، ويكل الأمر في هذا لمشيئة الله.

وقبل موسى العرض وأمضى العقد ؛ في وضوح كذلك ودقة ، وأشهد الله :

١٤٩

(قالَ : ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ. وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ).

إن مواضع العقد وشروط التعاقد لا مجال للغموض فيها ، ولا اللعثمة ، ولا الحياء. ومن ثم يقر موسى العرض ، ويبرم العقد ، على ما عرض الشيخ من الشروط. ثم يقرر هذا ويوضحه : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ) .. سواء قضيت ثماني سنوات أو أتممت عشرا ، فلا عدوان في تكاليف العمل ، ولا عدوان في تحتيم العشر ؛ فالزيادة على الثمانية اختيار .. (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ). فهو الشهيد الموكل بالعدل بين المتعاقدين. وكفى بالله وكيلا.

بين موسى ـ عليه‌السلام ـ هذا البيان تمشيا مع استقامة فطرته ، ووضوح شخصيته ، وتوفية بواجب المتعاقدين في الدقة والوضوح والبيان. وهو ينوي أن يوفي بأفضل الأجلين كما فعل. فقد روي أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أخبر أنه : «قضى أكثرهما وأطيبهما» (١).

وهكذا اطمأن بموسى ـ عليه‌السلام ـ المقام في بيت حميه ؛ وقد أمن من فرعون وكيده. ولحكمة مقدرة في علم الله كان هذا الذي كان .. فلندع الآن هذه الحلقة تمضي في طريقها حتى تنقضي. فقد سكت السياق فيها عند هذا الحد وأسدل الستار ..

* * *

وتمضي السنوات العشر التي تعاقد عليها موسى ـ عليه‌السلام ـ لا يذكر عنها شيء في سياق السورة ، ثم تعرض الحلقة الثالثة بعد ما قضى موسى الأجل وسار بأهله ، عائدا من مدين إلى مصر ، يسلك إليها الطريق الذي سلكه منذ عشر سنوات وحيدا طريدا. ولكن جو العودة غير جو الرحلة الأولى .. إنه عائد ليتلقى في الطريق ما لم يخطر له على بال. ليناديه ربه ويكلمه ، ويكلفه النهوض بالمهمة التي من أجلها وقاه ورعاه ، وعلمه ورباه. مهمة الرسالة إلى فرعون وملئه ، ليطلق له بني إسرائيل يعبدون ربهم لا يشركون به أحدا ؛ ويرثون الأرض التي وعدهم ليمكن لهم فيها ؛ ثم ليكون لفرعون وهامان وجنودهما عدوا وحزنا ، ولتكون نهايتهم على يديه كما وعد الله حقا :

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً ، قالَ لِأَهْلِهِ : امْكُثُوا ، إِنِّي آنَسْتُ ناراً ، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ. فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ : أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ؛ وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ ، فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ، يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ ، إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ. اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ. قالَ : رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً ، فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ. قالَ : سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما. بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) ..

وقبل أن نستعرض هذين المشهدين في هذه الحلقة نقف قليلا أمام تدبير الله لموسى ـ عليه‌السلام ـ في هذه السنوات العشر ، وفي هذه الرحلة ذهابا وجيئة ، في هذا الطريق ..

لقد نقلت يد القدرة خطى موسى ـ عليه‌السلام ـ خطوة خطوة. منذ أن كان رضيعا في المهد حتى هذه

__________________

(١) أخرجه البخاري.

١٥٠

الحلقة. ألقت به في اليم ليلتقطه آل فرعون. وألقت عليه المحبة في قلب امرأته لينشأ في كنف عدوه. ودخلت به المدينة على حين غفلة من أهلها ليقتل منهم نفسا. وأرسلت إليه بالرجل المؤمن من آل فرعون ليحذره وينصحه بالخروج منها. وصاحبته في الطريق الصحراوي من مصر إلى مدين وهو وحيد مطارد على غير زاد ولا استعداد. وجمعته بالشيخ الكبير ليأجره هذه السنوات العشر. ثم ليعود بعدها فيتلقى التكليف ..

هذا خط طويل من الرعاية والتوجيه ، ومن التلقي والتجريب ، قبل النداء وقبل التكليف .. تجربة الرعاية والحب والتدليل. وتجربة الاندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس ، وتجربة الندم والتحرج والاستغفار. وتجربة الخوف والمطاردة والفزع. وتجربة الغربة والوحدة والجوع. وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد حياة القصور. وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من شتى التجارب الصغيرة ، والمشاعر المتباينة ، والخوالج والخواطر ، والإدراك والمعرفة .. إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم والحكمة.

إن الرسالة تكليف ضخم شاق متعدد الجوانب والتبعات ؛ يحتاج صاحبه إلى زاد ضخم من التجارب والإدراك والمعرفة والتذوق في واقع الحياة العملي ، إلى جانب هبة الله اللدنية ، ووحيه وتوجيهه للقلب والضمير.

ورسالة موسى بالذات قد تكون أضخم تكليف تلقاه بشر ـ عدا رسالة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فهو مرسل إلى فرعون الطاغية المتجبر ، أعتى ملوك الأرض في زمانه ، وأقدمهم عرشا ، وأثبتهم ملكا ، وأعرقهم حضارة ، وأشدهم تعبدا للخلق واستعلاء في الأرض.

وهو مرسل لاستنقاذ قوم قد شربوا من كؤوس الذل حتى استمرأوا مذاقه ، فمردوا عليه واستكانوا دهرا طويلا. والذل يفسد الفطرة البشرية حتى تأسن وتتعفن ؛ ويذهب بما فيها من الخير والجمال والتطلع ومن الاشمئزاز من العفن والنتن والرجس والدنس. فاستنقاذ قوم كهؤلاء عمل شاق عسير.

وهو مرسل إلى قوم لهم عقيدة قديمة ؛ انحرفوا عنها ، وفسدت صورتها في قلوبهم. فلا هي قلوب خامة تتقبل العقيدة الجديدة ببراءة وسلامة ؛ ولا هي باقية على عقيدتها القديمة. ومعالجة مثل هذه القلوب شاقة عسيرة. والالتواءات فيها والرواسب والانحرافات تزيد المهمة مشقة وعسرا.

وهو في اختصار مرسل لإعادة بناء أمة ، بل لإنشائها من الأساس. فلأول مرة يصبح بنو إسرائيل شعبا مستقلا ، له حياة خاصة ، تحكمها رسالة. وإنشاء الأمم عمل ضخم شاق عسير.

ولعله لهذا المعنى كانت عناية القرآن الكريم بهذه القصة ، فهي نموذج كامل لبناء أمة على أساس دعوة ، وما يعترض هذا العمل من عقبات خارجية وداخلية. وما يعتوره من انحرافات وانطباعات وتجارب وعراقيل.

فأما تجربة السنوات العشر فقد جاءت لتفصل بين حياة القصور التي نشأ فيها موسى ـ عليه‌السلام ـ وحياة الجهد الشاق في الدعوة وتكاليفها العسيرة.

إن لحياة القصور جوا خاصا ، وتقاليد خاصة ، وظلالا خاصة تلقيها على النفس وتطبعها بها مهما تكن هذه النفس من المعرفة والإدراك والشفافية. والرسالة معاناة لجماهير من الناس فيهم الغني والفقير ، والواجد والمحروم ، وفيهم النظيف والوسخ ، والمهذب والخشن ؛ وفيهم الطيب والخبيث والخير والشرير. وفيهم القوي والضعيف ، والصابر والجزوع .. وفيهم وفيهم .. وللفقراء عادات خاصة في أكلهم وشربهم ولبسهم ومشيهم ، وطريقة فهمهم للأمور ، وطريقة تصورهم للحياة ، وطريقة حديثهم وحركتهم ، وطريقة تعبيرهم عن مشاعرهم .. وهذه العادات تثقل على نفوس المنعمين ومشاعر الذين تربوا في القصور ؛ ولا يكادون يطيقون رؤيتها فضلا على معاناتها وعلاجها ، مهما تكن قلوب هؤلاء الفقراء عامرة بالخير مستعدة للصلاح ، لأن مظهرهم وطبيعة

١٥١

عاداتهم لا تفسح لهم في قلوب أهل القصور!

وللرسالة تكاليفها من المشقة والتجرد والشظف أحيانا .. وقلوب أهل القصور ـ مهما تكن مستعدة للتضحية بما اعتادته من الخفض والدعة والمتعة ـ لا تصبر طويلا على الخشونة والحرمان والمشقة عند معاناتها في واقع الحياة.

فشاءت القدرة التي تنقل خطى موسى ـ عليه‌السلام ـ أن تخفض مما اعتادته نفسه من تلك الحياة ؛ وأن تزج به في مجتمع الرعاة ، وأن تجعله يستشعر النعمة في أن يكون راعي غنم يجد القوت والمأوى ، بعد الخوف والمطاردة والمشقة والجوع. وأن ينزع من حسه روح الاشمئزاز من الفقر والفقراء ، وروح التأفف من عاداتهم وأخلاقهم وخشونتهم وسذاجتهم ؛ وروح الاستعلاء على جهلهم وفقرهم ورثاثة هيئتهم ومجموعة عاداتهم وتقاليدهم. وأن تلقي به في خضم الحياة كبيرا بعد ما ألقت به في خضم الأمواج صغيرا ، ليمون على تكاليف دعوته قبل أن يتلقاها ..

فلما أن استكملت نفس موسى ـ عليه‌السلام ـ تجاربها ، وأكملت مرانتها ودربتها ، بهذه التجربة الأخيرة في دار الغربة ، قادت يد القدرة خطاه مرة أخرى عائدة به إلى مهبط رأسه ، ومقر أهله وقومه ، ومجال رسالته وعمله ، سالكة به الطريق التي سلكها أول مرة وحيدا طريدا خائفا يتلفت. فما هذه الجيئة والذهوب في ذات الطريق؟ إنها التدريب والمرانة والخبرة حتى بشعاب الطريق. الطريق الذي سيقود فيه موسى خطى قومه بأمر ربه ، كي يستكمل صفات الرائد وخبرته ، حتى لا يعتمد على غيره ولو في زيادة الطريق. فقومه كانوا في حاجة إلى رائد يقودهم في الصغيرة والكبيرة ، بعد أن أفسدهم الذل والقسوة والتسخير ؛ حتى فقدوا القدرة على التدبير والتفكير.

وهكذا ندرك كيف صنع موسى على عين الله ، وكيف أعدته القدرة لتلقي التكليف. فلنتبع خطى موسى تنقلها يد القدرة الكبرى ، في طريقه إلى هذا التكليف.

* * *

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً. قالَ لِأَهْلِهِ : امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً ، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) ..

ترى أي خاطر راود موسى ، فعاد به إلى مصر ، بعد انقضاء الأجل ، وقد خرج منها خائفا يترقب؟ وأنساه الخطر الذي ينتظره بها ، وقد قتل فيها نفسا؟ وهناك فرعون الذي كان يتآمر مع الملأ من قومه ليقتلوه؟

إنها اليد التي تنقل خطاه كلها ، لعلها قادته هذه المرة بالميل الفطري إلى الأهل والعشيرة ، وإلى الوطن والبيئة ، وأنسته الخطر الذي خرج هاربا منه وحيدا طريدا. ليؤدي المهمة التي خلق لها ورعي منذ اللحظة الأولى.

على أية حال ها هو ذا عائد في طريقه ، ومعه أهله ، والوقت ليل ، والجو ظلمة ؛ وقد ضل الطريق ، والليلة شاتية ، كما يبدو من أنسه بالنار التي شاهدها ، ليأتي منها بخبر أو جذوة .. هذا هو المشهد الأول في هذه الحلقة.

فأما المشهد الثاني فهو المفاجأة الكبرى :

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) ..

فها هو ذا يقصد إلى النار التي آنسها ، وها هو ذا في شاطئ الوادي إلى جوار جبل الطور ، الوادي إلى يمينه ، (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) .. المباركة ، منذ هذه اللحظة .. ثم هذا هو الكون كله تتجاوب جنباته بالنداء العلوي الآتي لموسى (مِنَ الشَّجَرَةِ) ولعلها كانت الوحيدة في هذا المكان :

١٥٢

(أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) :

وتلقى موسى النداء المباشر. تلقاه وحيدا في ذلك الوادي العميق ، في ذلك الليل الساكن. تلقاه يتجاوب به الكون من حوله ، وتمتلئ به السماوات والأرضون. تلقاه لا ندري كيف وبأية جارحة وعن أي طريق. تلقاه ملء الكون من حوله ، وملء كيانه كله. تلقاه وأطاق تلقيه لأنه صنع على عين الله حتى تهيأ لهذه اللحظة الكبرى.

وسجل ضمير الوجود ذلك النداء العلوي ؛ وبوركت البقعة التي تجلى عليها ذو الجلال ؛ وتميز الوادي الذي كرّم بهذا التجلي ، ووقف موسى في أكرم موقف يلقاه إنسان.

واستطرد النداء العلوي يلقي إلى عبده التكليف :

(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) ..

وألقى موسى عصاه إطاعة لأمر مولاه ؛ ولكن ماذا؟ إنها لم تعد عصاه التي صاحبها طويلا ، والتي يعرفها معرفة اليقين. إنها حية تدب في سرعة ، وتتحرك في خفة ، وتتلوى كصغار الحيات وهي حية كبرى :

(فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) ..

إنها المفاجأة التي لم يستعد لها ؛ مع الطبيعة الانفعالية ، التي تأخذها الوهلة الأولى .. (وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) ولم يفكر في العودة إليها ليتبين ما ذا بها ؛ وليتأمل هذه العجيبة الضخمة. وهذه هي سمة الانفعالين البارزة تتجلى في موعدها!

ثم يستمع إلى ربه الأعلى :

(يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) ..

إن الخوف والأمن يتعاقبان سريعا على هذه النفس ، ويتعاورانها في مراحل حياتها جميعا. إنه جو هذه الحياة من بدئها إلى نهايتها ؛ وإن هذا الانفعال الدائم لمقصود في تلك النفس ، مقدر في هذه الحياة ، لأنه الصفحة المقابلة لتبلد بني إسرائيل ، ومرودهم على الاستكانة ذلك الأمد الطويل. وهو تدبير القدرة وتقديرها العميق الدقيق.

(أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) ..

وكيف لا يأمن من تنقل يد القدرة خطاه ، ومن ترعاه عين الله؟

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) ..

وأطاع موسى الأمر ، وأدخل يده في فتحة ثوبه عند صدره ثم أخرجها. فإذا هي المفاجأة الثانية في اللحظة الواحدة. إنها بيضاء لامعة مشعة من غير مرض ، وقد عهدها أدماء تضرب إلى السمرة. إنها إشارة إلى إشراق الحق ووضوح الآية ونصاعة الدليل.

وأدركت موسى طبيعته. فإذا هو يرتجف من رهبة الموقف وخوارقه المتتابعة. ومرة أخرى تدركه الرعاية الحانية بتوجيه يرده إلى السكينة. ذلك أن يضم يده على قلبه ، فتخفض من دقاته ، وتطامن من خفقاته :

(وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ).

وكأنما يده جناح يقبضه على صدره ، كما يطمئن الطائر فيطبق جناحه. والرفرفة أشبه بالخفقان ، والقبض أشبه بالاطمئنان. والتعبير يرسم هذه الصورة على طريقة القرآن.

١٥٣

والآن وقد تلقى موسى ما تلقى ، وقد شاهد كذلك ما شاهد ، وقد رأى الآيتين الخارقتين ، وقد ارتجف لهما ثم اطمأن .. الآن يعرف ما وراء الآيات ، والآن يتلقى التكليف الذي كان يعد من طفولته الباكرة ليتلقاه ..

(فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) ..

وإذن فهي الرسالة إلى فرعون وملئه. وإذن فهو الوعد الذي تلقته أم موسى وهو طفل رضيع : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) .. الوعد اليقين الذي انقضت عليه السنون. وعد الله لا يخلف الله وعده وهو أصدق القائلين.

هنا يتذكر موسى أنه قتل منهم نفسا ، وأنه خرج من بينهم طريدا ، وأنهم تآمروا على قتله فهرب منهم بعيدا. وهو في حضرة ربه. وربه يكرمه بلقائه ، ويكرمه بنجائه ، ويكرمه بآياته ، ويكرمه برعايته ، فما له لا يحتاط لدعوته خيفة أن يقتل فتنقطع رسالته :

(قالَ : رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) ..

يقولها لا ليعتذر ، ولا ليتقاعس ، ولا لينكص ؛ ولكن ليحتاط للدعوة ، ويطمئن إلى مضيها في طريقها ، لو لقي ما يخاف. وهو الحرص اللائق بموسى القوي الأمين :

(وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً ، فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ).

إن هارون أفصح لسانا فهو أقدر على المنافحة عن الدعوة. وهو ردء له معين ، يقوي دعواه ، ويخلفه إن قتلوه.

وهنا يتلقى موسى الاستجابة والتطمين :

(قالَ : سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ، وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما. بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) ..

لقد استجاب ربه رجاءه ؛ وشد عضده بأخيه. وزاده على ما رجاه البشارة والتطمين : (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) .. فهما لن يذهبا مجردين إلى فرعون الجبار. إنما يذهبان إليه مزودين بسلطان لا يقف له في الأرض سلطان ؛ ولا تنالهما معه كف طاغية ولا جبار : (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) .. وحولكما من سلطان الله سياج ، ولكما منه حصن وملاذ.

ولا تقف البشارة عند هذا الحد. ولكنها الغلبة للحق. الغلبة لآيات الله التي يجبهان بها الطغاة. فإذا هي وحدها السلاح والقوة ، وأداة النصر والغلبة : (بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ).

فالقدرة تتجلى سافرة على مسرح الحوادث ؛ وتؤدي دورها مكشوفا بلا ستار من قوى الأرض ، لتكون الغلبة بغير الأسباب التي تعارف عليها الناس ، في دنيا الناس ، وليقوم في النفوس ميزان جديد للقوى والقيم. إيمان وثقة بالله ، وما بعد ذلك فعلى الله.

* * *

وينتهي هذا المشهد الرائع الجليل ؛ ويطوى الزمان ويطوى المكان ، فإذا موسى وهارون في مواجهة فرعون ، بآيات الله البينات ؛ وإذا الحوار بين الهدى والضلال ؛ وإذا النهاية الحاسمة في هذه الدنيا بالغرق ، وفي الحياة الأخرى باللعنة. في سرعة واختصار :

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا : ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً ، وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ. وَقالَ مُوسى : رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ ، وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَقالَ فِرْعَوْنُ :

١٥٤

يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى ، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ. فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ. وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ ؛ وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) ..

إن السياق هنا يعجل بالضربة القاضية ؛ ويختصر حلقة السحرة التي تذكر في سور أخرى بتفصيل أو إجمال. يختصرها ليصل من التكذيب مباشرة إلى الإهلاك. ثم لا يقف عند الأخذ في الدنيا ، بل يتابع الرحلة إلى الآخرة .. وهذا الإسراع في هذه الحلقة مقصود ، متناسق مع اتجاه القصة في السورة : وهو تدخل يد القدرة بلا ستار من البشر ، فما إن يواجه موسى فرعون حتى يعجل الله بالعاقبة ، وتضرب يد القدرة ضربتها الحاسمة ، بلا تفصيل في المواجهة أو تطويل.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا : ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً ، وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) ..

وكأنما هي ذات القولة التي يقولها المشركون لمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في مكة يومذاك .. (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) .. فهي المماراة في الحق الواضح الذي لا يمكن دفعه. المماراة المكرورة حيثما واجه الحق الباطل فأعيا الباطل الجواب. إنهم يدعون أنه سحر ، ولا يجدون لهم حجة إلا أنه جديد عليهم ، لم يسمعوا به في آبائهم الأولين!

وهم لا يناقشون بحجة ، ولا يدلون ببرهان ، إنما يلقون بهذا القول الغامض الذي لا يحق حقا ولا يبطل باطلا ولا يدفع دعوى. فأما موسى ـ عليه‌السلام ـ فيحيل الأمر بينه وبينهم إلى الله. فما أدلوا بحجة ليناقشها ، ولا طلبوا دليلا فيعطيهم ، إنما هم يمارون كما يماري أصحاب الباطل في كل مكان وفي كل زمان ، فالاختصار أولى والإعراض أكرم ، وترك الأمر بينه وبينهم إلى الله :

(وَقالَ مُوسى : رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).

وهو رد مؤدب مهذب ، يلمح فيه ولا يصرح. وفي الوقت ذاته ناصع واضح ، مليء بالثقة والطمأنينة إلى عاقبة المواجهة بين الحق والباطل. فربه أعلم بصدقه وهداه ، وعاقبة الدار مكفولة لمن جاء بالهدى ، والظالمون في النهاية لا يفلحون. سنة الله التي لا تتبدل. وإن بدت ظواهر الأمور أحيانا في غير هذا الاتجاه. سنة الله يواجه بها موسى قومه ويواجه بها كل نبي قومه.

وكان رد فرعون على هذا الأدب وهذه الثقة ادعاء وتطاولا ، ولعبا ومداورة ، وتهكما وسخرية :

(وَقالَ فِرْعَوْنُ : يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي. فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى ، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) ..

يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى .. كلمة فاجرة كافرة ، يتلقاها الملأ بالإقرار والتسليم. ويعتمد فيها فرعون على الأساطير التي كانت سائدة في مصر من نسب الملوك للآلهة. ثم على القهر ، الذي لا يدع لرأس أن يفكر ، ولا للسان أن يعبر. وهم يرونه بشرا مثلهم يحيا ويموت ، ولكنه يقول لهم هذه الكلمة فيسمعونها دون اعتراض ولا تعقيب!

ثم يتظاهر بالجد في معرفة الحقيقة ، والبحث عن إله موسى ، وهو يلهو ويسخر : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) .. في السماء كما يقول! وبلهجة التهكم ذاتها يتظاهر بأنه شاك في صدق موسى ، ولكنه مع هذا الشك يبحث وينقب ليصل إلى الحقيقة : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ)!

١٥٥

وفي هذا الموضع كانت حلقة المباراة مع السحرة. وهي محذوفة هنا للتعجيل بالنهاية :

(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) ..

فلما توهموا عدم الرجعة إلى الله استكبروا في الأرض بغير الحق ، وكذبوا بالآيات والنذر (التي جاء ذكرها في مطلع هذه الحلقة ، ووردت بالتفصيل في سور أخرى).

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ).

هكذا في اختصار حاسم. أخذ شديد ونبذ في اليم. نبذ كما تحذف الحصاة أو كما يرمى بالحجر. اليم الذي ألقي في مثله موسى الطفل الرضيع ، فكان مأمنا وملجأ. وهو ذاته الذي ينبذ فيه فرعون الجبار وجنوده فإذا هو مخافة ومهلكة. فالأمن إنما يكون في جناب الله ، والمخافة إنما تكون في البعد عن ذلك الجناب.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) ..

فهي عاقبة مشهودة معروضة للعالمين. وفيها عبرة للمعتبرين ، ونذير للمكذبين. وفيها يد القدرة تعصف بالطغاة والمتجبرين في مثل لمح البصر ، وفي أقل من نصف سطر!

وفي لمحة أخرى يجتاز الحياة الدنيا ؛ ويقف بفرعون وجنوده في مشهد عجيب .. يدعون إلى النار ، ويقودون إليها الأتباع والأنصار :

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ..

فيا بئساها دعوة! ويا بئساها إمامة!

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) ..

فهي الهزيمة في الدنيا ، وهي الهزيمة في الآخرة ، جزاء البغي والاستطالة. وليست الهزيمة وحدها ، إنما هي اللعنة في هذه الأرض ، والتقبيح في يوم القيامة :

(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ).

ولفظة (الْمَقْبُوحِينَ) ترسم بذاتها صورة القبح والفضيحة والتشنيع ، وجو التفزز والاشمئزاز. ذلك في مقابل الاستعلاء والاستكبار في الأرض ، وفتنة الناس بالمظهر والجاه ، والتطاول على الله وعلى عباد الله.

* * *

ويعبر السياق هنا مرحلة الخروج ببني إسرائيل من مصر ، وما حدث خلالها من أحداث ، ليعجل بعرض نصيب موسى بعد عرض نصيب فرعون :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى ، بَصائِرَ لِلنَّاسِ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ..

هذا نصيب موسى. وهو نصيب عظيم. وهذه عاقبة موسى. وهي عاقبة كريمة .. كتاب من الله يبصر الناس كأنه بصائرهم التي بها يهتدون ، (وَهُدىً وَرَحْمَةً) .. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) .. يتذكرون كيف تتدخل يد القدرة بين الطغاة والمستضعفين ، فتختم للطغاة بالهلاك والتدمير ، وتختم للمظلومين بالخير والتمكين.

* * *

وهكذا تنتهي قصة موسى وفرعون في هذه السورة. شاهدة بأن الأمن لا يكون إلا في جانب الله. وأن المخافة لا تكون إلا في البعد عن الله. ذلك إلى تدخل يد القدرة سافرة متحدية للطغيان والطغاة ، حين تصبح القوة فتنة

١٥٦

يعجز عن صدها الهداة. وهي المعاني التي كانت الجماعة المسلمة الصغيرة المستضعفة في مكة في حاجة إلى الاطمئنان إليها. وكان المشركون المستكبرون في حاجة إلى تدبرها. وهي المعاني المتجددة الدائمة حيثما كانت دعوة إلى الهدى ، وحيثما كان طغيان يقف في وجه الهدى.

وهكذا يجيء القصص في القرآن مادة تربية للنفوس ، وتقرير لحقائق وسنن في الوجود (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ..

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ

١٥٧

آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٧٥)

مضت قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ بدلالاتها التي وضحت في الدرس الماضي. فأما في هذا الدرس فتبدأ التعقيبات عليها ؛ ثم يمضي السياق في طريقه على محور السورة الأصيل ، يبين أين يكون الأمن وأين تكون المخافة ؛ ويجول مع المشركين الذين يواجهون دعوة الإسلام بالشرك والإنكار والمعاذير. يجول معهم جولات

١٥٨

شتى في مشاهد الكون ، وفي مشاهد الحشر ، وفيما هم فيه من الأمر ؛ بعد أن يعرض عليهم دلائل الصدق فيما جاءهم به رسولهم ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكيف يتلقاه فريق من أهل الكتاب بالإيمان واليقين بينما هم يتلقونه بالكفران والجحود. وهو رحمة لهم من العذاب ، لو أنهم كانوا يتذكرون.

* * *

والتعقيب الأول على القصة يدور حول دلالتها على صدق دعوى الوحي. فرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يتلو عليهم تفصيلات الأحداث كما يقصها شاهد العيان ؛ وما كان حاضر أحداثها ، ولكنه الوحي يقصها عليه من لدن عليم خبير ، رحمة بقومه أن يصيبهم العذاب بما هم فيه من الشرك ، (فَيَقُولُوا : رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ..

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ، وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ. وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ؛ وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا ؛ وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، فَيَقُولُوا : رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا : لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى! أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؟ قالُوا : سِحْرانِ : تَظاهَرا. وَقالُوا : إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ. قُلْ : فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ؟ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ..

والغربي هو الجانب الغربي للطور الذي جعله الله ميقاتا مع موسى ـ عليه‌السلام ـ بعد أجل محدد .. ثلاثين ليلة ، أتمها بعشر. فكانت أربعين ليلة (على ما ذكر في سورة الأعراف) وفي هذا الميقات قضي الأمر لموسى في الألواح ، لتكون شريعته في بني إسرائيل. وما كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ شاهدا لهذا الميقات ، حتى يعلم نبأه المفصل ، كما ورد في القرآن الكريم وإن بينه وبين هذا الحادث لقرونا من الناس ـ أي أجيالا متطاولة : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ). فتلك دلالة على أن الذي نبأه به هو العليم الخبير ، الذي يوحي إليه بالقرآن الكريم.

ولقد تحدث القرآن كذلك بأنباء مدين ، ومقام موسى ـ عليه‌السلام ـ بها وتلاها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وما كان مقيما في أهل مدين ، يتلقى عنهم أخبار هذه الفترة بمثل ذلك التفصيل الذي جاءت فيه : (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) بهذا القرآن وما فيه من أنباء السابقين.

كذلك صوّر القرآن موقف المناداة والمناجاة من جانب الطور بدقة وعمق : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) وما سمع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ النداء ، وما سجل في وقتها تفصيلاته. ولكنها رحمة الله بقومه هؤلاء ، أن قص عليه تلك الأنباء الدالة على صدقه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يدعوهم إليه ، لينذر هؤلاء القوم الذين لم يأتهم نذير من قبله ـ فقد كانت الرسالات في بني إسرائيل من حولهم ، ولم يرسل إليهم رسول منذ أمد طويل ، منذ أبيهم إسماعيل : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

فهي رحمة الله بالقوم. وهي حجته كذلك عليهم ، كي لا يعتذروا بأنهم أخذوا على غرة ، وأنهم لم ينذروا قبل أخذهم بالعذاب ـ وما هم فيه من جاهلية وشرك ومعصية يستوجب العذاب ـ فأراد الله أن يقطع حجتهم ، وأن يعذر إليهم ، وأن يقفهم أمام أنفسهم مجردين من كل عائق يعوقهم عن الإيمان :

١٥٩

(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، فَيَقُولُوا : رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً ، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ ، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ!) ..

كذلك كانوا سيقولون لو لم يأتهم رسول. ولو لم يكن مع هذا الرسول من الآيات ما يلزم الحجة. ولكنهم حين جاءهم الرسول ، ومعه الحق الذي لا مرية فيه لم يتبعوه :

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا : لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى! أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؟ قالُوا : سِحْرانِ تَظاهَرا ، وَقالُوا : إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) ..

وهكذا لم يذعنوا للحق ، واستمسكوا بالتعللات الباطلة : (قالُوا : لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) إما من الخوارق المادية ، وإما من الألواح التي نزلت عليه جملة ، وفيها التوراة كاملة.

ولكنهم لم يكونوا صادقين في حجتهم ، ولا مخلصين في اعتراضهم : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ؟) ولقد كان في الجزيرة يهود ، وكان معهم التوراة ، فلم يؤمن لهم العرب ، ولم يصدقوا بما بين أيديهم من التوراة. ولقد علموا أن صفة محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مكتوبة في التوراة ، واستفتوا بعض أهل الكتاب فيما جاءهم به فأفتوهم بما يفيد أنه مطابق لما بين أيديهم من الكتاب ؛ فلم يذعنوا لهذا كله ، وادعوا أن التوراة سحر ، وأن القرآن سحر ، وأنهما من أجل هذا يتطابقان ، ويصدق أحدهما الآخر :

(قالُوا : سِحْرانِ تَظاهَرا. وَقالُوا : إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ)!

فهو المراء إذن واللجاجة ، لا طلب الحق ولا نقصان البراهين ، ولا ضعف الدليل.

ومع هذا فهو يسير معهم خطوة أخرى في الإفحام والإحراج. يقول لهم : إن لم يكن يعجبكم القرآن ، ولم تكن تعجبكم التوراة ؛ فإن كان عندكم من كتب الله ما هو أهدى من التوراة والقرآن فأتوا به أتبعه :

(قُلْ : فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)!

وهذه نهاية الإنصاف ، وغاية المطاولة بالحجة ، فمن لم يجنح إلى الحق بعد هذا فهو ذو الهوى المكابر ، الذي لا يستند إلى دليل :

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ. وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ؟ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ..

إن الحق في هذا القرآن لبين ؛ وإن حجة هذا الدين لواضحة ، فما يتخلف عنه أحد يعلمه إلا أن يكون الهوى هو الذي يصده. وإنهما لطريقان لا ثالث لهما : إما إخلاص للحق وخلوص من الهوى ، وعندئذ لا بد من الإيمان والتسليم. وإما مماراة في الحق واتباع للهوى فهو التكذيب والشقاق. ولا حجة من غموض في العقيدة ، أو ضعف في الحجة ، أو نقص في الدليل. كما يدعي أصحاب الهوى المغرضون.

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) ..

وهكذا جزما وقطعا. كلمة من الله لا راد لها ولا معقب عليها .. إن الذين لا يستجيبون لهذا الدين مغرضون غير معذورين. متجنون لا حجة لهم ولا معذرة ، متبعون للهوى ، معرضون عن الحق الواضح :

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ؟) ..

وهم في هذا ظالمون باغون :

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ..

١٦٠