التّفسير الحديث - ج ٣

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٣

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

على أننا لا نرى إشكالا من جهة التعبير لورود جملة (إِلَّا بِإِذْنِهِ) لأن جملة (إِلَّا بِإِذْنِهِ) تحل كل إشكال. ومع ذلك فإننا لا نرى المقام يستدعي الإشكال في أصله. ونرى أن التعبير أسلوبي قصد به تصوير شدة الهول الأخروي وأثره. ويمكن أن يقال أيضا بالإضافة إلى واجب المسلم بالإيمان بما ذكره القرآن من مشاهد أخروية إن تنوع الأسلوب القرآني في أوصاف مشاهد الآخرة وحسابها وعذابها ونعيمها متأتّ من تنوع المشاهد والمواقف بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار أولا وأنه يمكن أن يكون قرينة على ما ذكرناه في مناسبات سابقة من أن الترهيب والترغيب مقصودان لذاتهما في الآيات القرآنية ثانيا. ولعل من القرائن على ذلك كون الأوصاف والصور والمشاهد الأخروية الواردة في القرآن هي في نطاق مألوف السامعين من مشاهد وصور وأوصاف دنيوية تتصل بالنعيم والعذاب ومجالس القضاء إلخ حتى يكون لها تأثير في السامعين الذين لا يتأثرون إلّا بما هو معروف ومجرب عندهم ولا يفهمون إلا ما هو في نطاق معارفهم. هذا مع تكرار تقرير كون الحياة الأخروية من المسائل الإيمانية الغيبية التي يجب الإيمان بما جاء عنها في القرآن مع الوقوف في ذلك عند ما وقف القرآن بدون تزيد ولا تخمين. مع تكرار القول أيضا إن آيات المشاهد الأخروية من المتشابهات التي تتحمل تأويلات عديدة ومنها ما لا يعلم تأويله إلا الله وأن هذا يوجب كذلك الوقوف عند ما وقف القرآن مع استشفاف الحكمة التي يتبادر أن منها ما مر ذكره والله أعلم.

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩)) [١٠٩]

في الآية تقرير بأن الكفار إنما يعبدون ـ كما كان يعبد آباؤهم ـ عبادات باطلة ، وإنه ليس في ذلك محل للشك والمراء ، وتوكيد بأن الله تعالى سوف يوفيهم استحقاقهم على ذلك بدون نقص.

واتصال الآية بما سبقها ظاهر من حيث إنها في صدد الكفار الذين كانوا موضع الحديث والإنذار كما يدل عليه الضمير الراجع إليهم.

٥٤١

تعليق على آية

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ

وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ)

ولم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه وقف عند الآية وبين سبب نهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشك فيما يعبد الكفار ، مع أن أسلوب الآية يستدعي ذلك.

وقد استلهمنا منها أن بعض المسلمين أو بعض الكفار كانوا يدافعون عن أنفسهم بأنهم مؤمنون بالله معتقدون بأنه الخالق الرازق المؤثر في كل شيء ، وبأنهم محترمون بيته وتقاليد ملة إبراهيم خليله ويفعلون المكرمات ؛ فأريد في الآية ردّ ذلك ما داموا يشركون مع الله غيره في العبادة والدعاء مهما كان القصد وتوكيد كونهم ضالين هم وآباءهم من قبلهم بسبب شركهم.

ومع أن الخطاب في أول الآية موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن هذا لا يمنع أن يكون موجها إلى المسلمين أيضا الذين قد يكون بينهم المدافع أو المعتذر أو المتسائل عن الأمر.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١)) [١١٠ ـ ١١١]

(١) لمّا : تعددت الأقوال في معنى هذا الحرف في الآية ، فقيل إنه بمعنى إلا وقيل إن في الآية محذوفا تقديره «وإن كلّا لما عملوا ليوفينهم ربك أعمالهم» ونحن نرى الأول أوجه.

في الآيات إشارة إلى ما كان من اختلاف في فهم الكتاب الذي آتاه الله تعالى موسى عليه‌السلام وتأويله ، وتنبيه إلى أنه لولا اقتضاء حكمة الله في التأجيل لقضى

٥٤٢

قضاءه في المختلفين فيه الذين هم في شك منه مريب ، وتوكيد بأن الله لا بدّ موف كل عامل جزاء عمله من خير وشر ، وهو الخبير بما يعمل الناس.

تعليق على الآية

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ)

والآية التالية لها

لقد أدار فريق من المفسرين القدماء (١) الكلام على الآيتين على اعتبار أن فيهما تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنذارا للكفار. فإذا كان الكفار قد كذّبوا بالقرآن فقد فعل أقوام قبلهم ذلك بالنسبة لكتاب الله تعالى الذي آتاه موسى عليه‌السلام. ولسوف يجزيهم الله بما يستحقون من حيث إنه لا بد من أن يجزي كل طائفة بما تستحق. ونتيجة لذلك صرفوا الضمير في (إنهم) إلى الكفار والضمير في (منه) إلى القرآن. وخالفهم فريق آخر فقال إن الجملة عائدة إلى الكتابيين الذين اختلفوا في كتاب موسى عليه‌السلام. واستدل على ذلك بآية سورة الشورى وهي : (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (١٤) وقد يكون هذا هو الأوجه. ولا سيما إن هناك آيات كثيرة مدنية ومكية غير آية سورة الشورى ذكرت اختلاف أهل الكتاب واليهود خاصة في ما نزل على أنبيائهم ، ومن ذلك ما مرّ في السور التي سبق تفسيرها لو لا أن يكون هذا يجعل الآيتين منقطعتين عن السياق السابق واللاحق لهما. وقد يتبادر لنا من فحوى الآيتين وروحهما ومقامهما احتمال آخر يجعلهما جزءا من السياق غير شاذين ومنقطعتين عنها وهو ما لا يستساغ. وهذا الاحتمال هو أن يكون الكفار قد تحدثوا عن كتاب موسى عليه‌السلام واختلاف بني إسرائيل فيه كأنما أرادوا أن يقولوا إن اتخاذهم الملائكة شفعاء لدى الله ـ وهو ما تضمنته الآيات السابقة وردته ـ هو اجتهاد وليس من شأنه أن ينفي

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والطبرسي والقاسمي.

٥٤٣

عنهم صفة الإيمان بالله وكونه الخالق الرازق كما يريد القرآن ، وإن بني إسرائيل قد اختلفوا عن اجتهاد في كثير مما احتواه كتابهم ؛ فاحتوت الآية الأولى ردا عليهم يتضمن تقرير كون اختلاف بني إسرائيل لم يكن اجتهادا في المبادئ لأن المبادئ التي من جملتها توحيد الله مطلقا لا تتحمل اختلافا وإنما كان اختلافهم نتيجة لتوسعهم في التأويل والتخريج. ثم أكدت الآية الثانية ما قررته الآية السابقة للآيتين بأن الله تعالى سيوفي كل الناس أعمالهم.

وهكذا تظهر صلة الآيتين بالسياق قوية وتكون الآية الأولى إذا صح استلهامنا ـ ونرجو أن يكون صحيحا ـ قد احتوت صورة طريفة من صور الجدال بين نبهاء الكفار والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ حيث كان كثير من هؤلاء النبهاء لم يجحدوا رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن غباء. وإنما عنادا واستكبارا على ما قررته آيات عديدة أوردناها في المناسبات السابقة.

ومع ما ذكرناه فليس ما يمنع أن تكون الآية الأولى قد تضمنت أيضا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث أرادت تقرير أن الله تعالى قد آتى موسى الكتاب فوقف الناس منه موقف المصدق والمكذب والمؤمن والشاك والمؤول والمختلف كما كان شأن العرب من القرآن ، وأن الله قادر على أن يعجل في القضاء على الشاكين المكذبين لولا أن حكمته اقتضت التأجيل إلى الحين المعين في علم الله.

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)) [١١٢ ـ ١١٥]

(١) ولا تطغوا : ولا تتجاوزوا ما أمرتم به.

(٢) ولا تركنوا : فسرها بعضهم بالميل وبعضهم بالاعتماد والاستناد وكلا

٥٤٤

التفسيرين وجيه وإن كان الثاني أوجه.

(٣) زلفا من الليل : الإزلاف بمعنى التقرب. والجملة بمعنى ساعات من الليل القريبة من النهار ، ويمكن أن يكون قصد بها وقت العشاء ووقت الفجر فهما أول الليل وآخره بحيث يكون ذلك مقابلة لجملة (طَرَفَيِ النَّهارِ).

الآيات تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستقامة على ما رسمه الله من مبادئ وحدود هو والمؤمنون معه وعدم الانحراف عن ذلك وتجاوزه ، وتؤكد أن الله بصير بما يعملونه ومراقبهم فيه ، وتنهاهم عن الميل والركون للظالمين وتنذرهم بأن هذا يجرهم إلى النار فضلا عن أنهم لا يمكن أن ينتصروا بذلك لأنهم ليس لهم ناصر من دون الله ، وتحث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إقامة الصلاة في أول النهار وآخره وفي أول الليل وآخره كذلك ، وتقرر أن ما يقدمه المرء من صالح الأعمال يمحو ما قد يكون بدر منه من هفوات وسيئات ، وأن في هذا تذكرة للذاكرين وترغيبا للراغبين ، ثم تثبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحثه على التمسك بالصبر وتطمئنه بأن الله تعالى لا يضيع أجر الصابرين المحسنين.

والمتبادر أن الآيات متصلة بسابقاتها اتصالا تعقيبيا ، وقد احتوت التفاتا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بالنصائح والمواعظ والتنبيهات التي من شأنها أن تثبت قلوبهم وتمنحهم رضاء الله بعد أن سبقتها آيات فيها وعيد وإفحام وردّ وتكذيب للكافرين. فعليهم أن يستقيموا على ما رسمه الله تعالى لهم من مبادئ وحدود دون أن يركنوا إلى الظالمين ففي ذلك خيرهم وسعادتهم وطمأنينتهم وفي الخروج عنه هلاكهم.

تعليق على آية

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا)

ومما ذكره المفسرون في سياق تفسير الآية [١١٢] أن ابن عباس رضي الله عنه قال : ما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية هي أشد عليه من هذه الآية حتى قال شيبتني هود وأخواتها فسئل عما شيبه منها فقال (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (١).

__________________

(١) انظر تفسير الآية في البغوي والطبرسي والزمخشري والخازن.

٥٤٥

والمتبادر إذا صحت الرواية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبه المؤمنين بذلك إلى ما قد تحتاج إليه الاستقامة على أوامر الله وحدوده من عزيمة قوية وإيمان عميق ، وذلك حق لا ريب فيه ، ومما قالوه في معنى (استقم) اثبت على أوامر الدين ونواهيه ولا تزغ عنها ولا تحتل فيها ، ولا شك في أن الكلمة تتحمل هذه المعاني أيضا.

ولقد روى البغوي في سياق الآية حديثا عن عبد الله الثقفي قال : «قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال قل آمنت بالله ثم استقم» ، وروي عن عمر بن الخطاب قوله : «إن الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تزوغ زوغان الثعلب».

ومن المفسرين (١) من فسر جملة (وَلا تَطْغَوْا) بمعنى التجاوز إلى ما فيه معصية وطغيان ، ومنهم من قال إنها تتضمن معنى التحذير من الغلو في الدين.

وأورد أصحاب القول الثاني في سياقها حديثا نبويا روى صيغة مقاربة من البخاري عن أبي هريرة جاء فيها : «إنّ الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه فسدّدوا وقاربوا وابشروا واستعينوا بالغدوة والرّوحة وشيء من الدّلجة» (٢).

وكلا التفسيرين وارد إلا أن روح الجملة تجعل القول الأول أكثر وجاهة وورودا. والحديث لم يرد كتفسير للآية ، وفيه في حدّ ذاته تلقين بليغ.

تعليق على جملة

(وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)

تعددت الأقوال في معنى (تركنوا) منها أنها بمعنى (تميلوا) ومنها أنها بمعنى (تستندوا) والثاني هو المتسق أكثر في مدى الركون اللغوي على ما حققه السيد رشيد رضا. وتعددت الأقوال كذلك في المقصود (بالذين ظلموا) حيث قيل إنهم الكافرون والمشركون كما قيل إنهم الظلمة البغاة. وقد رجح الطبري الأول وقد

__________________

(١) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي والخازن.

(٢) الخازن هو الذي أورد الحديث وقد نقلنا صيغته برواية البخاري من التاج ج ١ ص ٤١ ـ ٤٢.

٥٤٦

يكون هذا هو الأوجه في ظروف نزول الآية من حيث إنه لم يكن من المشركين الكافرين في العهد المكي من لا يوصف بغير الظلم في موقفه من الدعوة بقطع النظر عن شركه وكفره. وقد وصف الشرك في القرآن المكي بالظلم العظيم كما جاء في آية سورة لقمان [١٣] ووصف الكفار المشركون بالظالمين كما جاء في آيات عديدة منها آيات سورة الفرقان [٢٧] وسورة الأعراف [٩].

غير أنه يتبادر لنا أن للقول الأول وجاهة على المدى البعيد عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد يؤيد ذلك إطلاق العبارة القرآنية بحيث يصح القول إن في الجملة تلقينا مستمر المدى يوجب كل مسلم مخلص بعدم الميل والاستناد إلى الباغي المنحرف عن الحق والمرتكب للمعاصي سواء أكان مسلما أم غير مسلم. وعدم الاعتماد عليه والتناصر معه ومداهنته والتعاون معه. وكل هذا يدخل في مدى ومفهوم الركون بها وواجبه بالوقوف منه موقف المناوئ المناضل في نطاق قدرته ، وهذا الواجب يصبح أكثر لزاما على الجماعات الإسلامية.

ويلفت النظر بخاصة إلى جملة (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) التي أعقبت الجملة التي نحن في صددها فإنها ذات مدى ومغزى قويين في التنبيه والتحذير. فالركون إلى الذين ظلموا فضلا عن أن يجر إلى النار فإنه لن يضمن أي نصر ونجاح لأنه ليس غير الله يضمن ذلك. وليس غير الله ولي ونصير.

ولقد استطرد السيد رشيد رضا الذي توسع في هذه المسألة إلى موضوع طاعة أصحاب السلطان والتعاون معهم إذا كانوا بغاة منحرفين. وقد رأينا أن نرجئ الكلام على هذه المسألة إلى مناسبة آتية أكثر ملاءمة. ولقد سبق التعليق على الظلم في معنى البغي والعدوان والاغتصاب في سورة الفرقان بما يغني عن التكرار هذا من حيث نزولها ومقامها في السياق.

ولقد أورد المفسرون أحاديث وروايات وأقوالا عديدة في فحواها من ذلك عن مجاهد أن الحسنات التي تذهب السيئات هي «سبحان الله والحمد لله ولا إله

٥٤٧

إلّا الله والله أكبر» (١). ومن ذلك قول روي في صيغ عديدة عن أبي بكر وعثمان وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها الصلوات الخمس. أو الصلاة مطلقا. وساق الطبري حديثا رواه بطرق عن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جعلت الصلوات كفارات لما بينهن فإن الله قال إن الحسنات يذهبن السيئات». والقول إنها الصلاة أوجه من القول الأول. ومجيء الجملة بعد الأمر بإقامة الصلاة قرينة حاسمة على كونه الأوجه.

تعليق على آية

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ

اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)

المصحف الذي اعتمدنا عليه يذكر أن هذه الآية مدنية ، ويروي المفسرون في سياقها أحاديث نبوية عديدة منها ما ورد في الصحاح. ومن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن ابن مسعود جاء فيه : «أنّ رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر له ذلك فأنزلت الآية. فقال الرجل ألي هذه قال لمن عمل بها من أمّتي» (٢). وحديث رواه الترمذي عن أبي اليسر قال : «أتتني امرأة تبتاع تمرا فقلت لها إنّ في البيت تمرا أطيب منه فدخلت معي فملت عليها فقبّلتها فسألت أبا بكر فقال استر على نفسك ولا تخبر أحدا وتب إلى الله فلم أصبر وسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أخلفت غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا ، حتى تمنّى أنه لم يكن أسلم إلّا تلك الساعة حتى ظنّ أنه من أهل النار. وأطرق رسول الله طويلا حتى أوحي إليه

__________________

(١) هذه الصيغة مروية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن ليست على كونها تفسيرا للآية. وقد رواها الترمذي عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قلت يا رسول الله ما رياض الجنة؟ قال : المساجد ، قلت : وما الرتع؟ قال : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر». التاج ج ٥ ص ٩٠.

(٢) التاج ج ٤ ص ١٣١ ـ ١٣٢.

٥٤٨

بالآية فقرأها فقال أصحابه : يا رسول الله ألهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال : بل للناس عامة» (١).

ومقتضى الحديثين أن الآية نزلت في العهد المدني. ويلحظ أنها منسجمة في السياق ومعطوفة على ما قبلها. وبينها وبين ما قبلها مماثلة في الصيغة (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) و (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) حيث يبرر هذا الشك في مدنية الآية التي تبدو والجملة هذه مقحمة في سياق مكي.

وفي كتب تفسير الطبري والبغوي صيغ متعددة من باب الحديثين ، منها ما يفيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا الآية على الرجل تلاوة. وأمره بالوضوء والصلاة والتوبة حيث يتبادر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ الآية على سبيل التقوى وتطمين المذنب الذي جاء إليه معترفا بذنبه نادما تائبا وأن الذين رووا مدنيتها ونزولها في هذه المناسبة قد التبس الأمر عليهم.

ولقد أورد المفسرون في سياق الآية أحاديث أخرى في نفع الصلاة ، منها حديث رواه أيضا مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ما لم تغش الكبائر» (٢). ومنها حديث رواه الطبري بطرقه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان تحت شجرة فأخذ غصنا يابسا فهزّه حتى تحاتّ ورقه ثم قال لراوي الحديث ألا تسألني لم أفعل هذا يا سلمان؟ فقلت : ولم تفعله؟ فقال : إن المسلم إذ توضّأ فأحسن الوضوء ثم صلّى الصلوات الخمس تحاتّت خطاياه كما يتحاتّ هذا الورق ثم تلا هذه الآية : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)» (٣).

ويجب أن نستدرك أمرا فإن الربط بين الصلاة التي عدت حسنات وبين محو

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٣١ ـ ١٣٢.

(٢) التاج ج ١ ص ١١٩.

(٣) هناك أحاديث أخرى أوردناها في تعليقنا على الصلاة في سورة العلق وعلى جملة (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) في سورة مريم فنكتفي بما أوردناه.

٥٤٩

السيئات في الآية قائم على ما هو المتبادر على كون المرء الذي يبدر منه خطيئة حينما يقف أمام الله عزوجل يتذكر ما بدر منه فيشعر بالخجل والندم ويسوقه هذا إلى التكفير عن عمله والكف عنه. وفي الفقرة الأخيرة من الآية توضيح هذا المعنى أو قرينة عليه ، ففي ذكر الله قوة رادعة عن الشر دافعة إلى الخير. والصلاة أقوى وسيلة إلى ذكر الله. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الصلاة التي لا تؤدي إلى هذه النتيجة ليس من شأنها أن تمحو سيئة ما. وأن ما يتوهمه عوام الناس من أنهم يتلافون بقيامهم وركوعهم وسجودهم الآلي فقط نتائج ما يقترفونه من ذنوب في غير محله. فهدف الآية هو إصلاح النفس وإيقاظ الضمير بوسيلة الصلاة وذكر الله تعالى فيها. ولا يكون هذا مجديا إلّا إذا صلى المرء خاشعا شاعرا ذاكرا متأثرا نادما على ذنبه مصمما على توبته منه معتقدا ذلك فعلا. ومن الأحاديث النبوية التي وردت في هذا المعنى : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا» (١) و«من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له» (٢).

وقد يتبادر مع ذلك أن كلمة (السيئات) في الآيات والأحاديث قد عنت الهفوات الصغيرة التي سميت في القرآن باللمم أيضا التي قد يغفرها الله تعالى للمسلم بحسنات صلاته إذا أداها على وجهها واجتهد في الوقت نفسه في تجنب الكبائر على ما شرحناه في سياق سورة النجم بما يغني عن التكرار. وفي أحد الأحاديث التي مر إيرادها «إن الصلاة كفارة لما قبلها ما لم تغش الكبائر» حيث ينطوي في هذا تأييد لما قلناه.

وجملة (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) جاءت بأسلوب مطلق ، وهي في الوقت ذاته جملة تامة ، وقد تبادر لنا من ذلك أنها تتضمن في ذاتها مبدأ عاما ، وإن الصلاة على عظم خطورتها هي من الحسنات وليست كل الحسنات ، فالصدقات المفروضة (الزكاة) والتطوعية حسنة ، والجهاد حسنة ، ومساعدة الضعفاء والذبّ عنهم حسنة ، والبرّ بالوالدين حسنة ، والتعاون على الحق والخير والصبر والأمر

__________________

(١) انظر تفسير آية سورة العنكبوت في تفسير ابن كثير.

(٢) انظر تفسير آية سورة العنكبوت في تفسير ابن كثير.

٥٥٠

بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير حسنة إلخ ... وكما تذهب الصلاة الصادقة السيئات فإن مقتضى هذا المبدأ أن تذهب هذه الحسنات السيئات إذا ندم مقترفها وتاب عنها ، ومما يؤيد ذلك آية سورة الفرقان هذه : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٧٠) التي جاءت عقب تعداد الجرائم الكبيرة التي يحرمها الله وينذر مقترفيها بالعذاب المضاعف والهوان المخلد ، وآيات سورة التوبة هذه : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٠٣) وفي سورة النساء آية عظيمة في هذا الباب حيث تتضمن أن اجتناب المرء الكبائر مما يجعل الله عزوجل يغفر له الهفوات والسيئات وهي هذه : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) (٣١). ولقد ورد في حديث نبوي رواه الإمام أحمد عن معاذ رضي الله عنه : «يا معاذ أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» (١). وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه : «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» (٢). والحديثان يؤيدان ما قلناه من عمومية المبدأ الذي احتوته الآية وإطلاقه.

وهكذا يفتح هذا المبدأ وما ورد في سياقه من أحاديث وما أيده من آيات أفقا واسعا أمام المؤمن ، ويتضمن وسيلة عظمى من وسائل إصلاح المؤمن وحفزه على عمل الصالحات والحسنات إذا ما قارف ذنبا مهما بدا عظيما وندم عليه ، وهو إن كان يشبه التوبة التي شرحنا مداها في سياق سورة الفرقان ففيه زيادة من حيث حفزه على الحسنات في سبيل محو السيئات.

هذا ، ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في مدى

__________________

(١) انظر تفسير الآية في ابن كثير والحديث الثاني رواه الترمذي انظر التاج ج ٥ ص ٥٧.

(٢) المصدر نفسه.

٥٥١

جملة (طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) كما تعددت أقوالهم في عبارات مماثلة في سورتي الإسراء وطه على ما ذكرناه في تفسيرهما. ومما قيل إن (طَرَفَيِ النَّهارِ) هما الفجر إلى المغرب فيكون المقصود من ذلك صلوات الفجر والظهر والعصر ويكون المقصود من (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) صلوات المغرب والعشاء. كما قيل إن العبارة الأولى عنت صلاتي الفجر والمغرب والعبارة الثانية عنت صلاة العشاء. والمتبادر أن القول الأول هو أكثر ورودا والله تعالى أعلم.

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)) [١١٦ ـ ١١٧]

(١) فلو لا : هنا بمعنى فهلا للتنديد والتعجب.

(٢) أولو بقية : بمعنى أولو فضل وخير وتقوى وعقل.

(٣) الذين ظلموا : المتبادر المستلهم من روح الآية أن هذه الجملة بمعنى الذين بغوا وطغوا وعصوا.

(٤) ما أترفوا فيه : ما كان سببا لترفهم من الشهوات.

(٥) بظلم : هنا بمعنى بدون حق وسبب موجب.

في الآيات تقرير فيه معنى التعقيب على ما كان من أمر الأمم السابقة التي قصّ الله أنباءها ، فقد كان ينبغي أن يكون فيها أولو عقل وفضل وتقوى ينهون الناس عن الفساد في الأرض ؛ ولكن هؤلاء كانوا قليلين فلم يؤثروا ، وهم الذين أنجاهم الله وأنجى الذين ساروا على طريقتهم من بعدهم. أما سائرهم فقد كانوا ظالمين واستمروا في طريق الإجرام والبغي والشهوات والترف فأهلكهم الله. فالله تعالى لا يهلك القرى ويدمرها إذا كان أهلها صالحين لأن ذلك ظلم يتنزه عنه

٥٥٢

سبحانه وصلة الآيات والحالة هذه بالسياق ملموحة.

ويمكن أن يستلهم من مطلع الآية الأولى قصد تعليل بقاء الناس أجيالا بعد أجيال في حين أن منهم من ينتسب إلى الأمم التي أهلكها الله ، فلو لم يكن من القرون والأمم السابقة أناس ولو قليلون من ذوي العقول والتقوى والصلاح كانوا ينهون عن الفساد في الأرض لبادت أجيال الناس ولما بقي منهم ديّار.

وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى وتعليل اجتماعي بليغ كما فيه تنويه بالمؤمنين الذين آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قلتهم وتلقينهم أنهم قد تحفظ بهم الأجيال والديار فعليهم الصبر والله لا يضيع أجر المحسنين ، وفيه كذلك إنذار للكافرين الذين اتبعوا أهواءهم واستغرقوا في شهواتهم واستمروا في عنادهم ومكابرتهم وبغيهم. والمتبادر أن هذا وذاك هو استهدفته الآيات أو مما استهدفته.

تعليق على آية

(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ)

قال المفسرون في معنى الآية قولين أحدهما أن الله تعالى لا يهلك القرى إلّا إذا شذت عن الصلاح فكفرت بالله وكذبت الرسل واقترفت المنكرات. وثانيهما أن الله لا يهلك القرى إذا كان أهلها مصلحين يتعاطون الحق بينهم ولا يتظالمون وإن كانوا غير مؤمنين بالله ورسله وإنما يهلكهم إذا تظالموا. وروى الطبرسي حديثا نبويا مؤيدا للقول الثاني لم يرد في الصحاح جاء فيه : «وأهلها مصلحون أي ينصف بعضهم بعضا».

القول الثاني هو الأوجه كما هو المتبادر ومضمون الآية ، والآية التي قبلها يدعمه دعما قويا حيث اقتصر الكلام فيهما على الفساد في الأرض والإجرام والظلم واتباع الشهوات وأسباب الترف وجملة (وَهِيَ ظالِمَةٌ) في الآية [١٠٢] من السورة تدعم ذلك أيضا. وللسيد رشيد رضا قول سديد في ذلك حيث يحمل الجملة على معنى الصلاح الاجتماعي والعلمي والعمراني أو يجعل ذلك من ضمن ما يحمله

٥٥٣

معنى الجملة ويعلل بذلك عدم تذكير الله تعالى الأمم الصالحة على هذا الوجه مع كفرها وشركها ويقول إن الأمم تبقى مع الكفر ولا تبقى مع الظلم. وشيء من مثل هذا ملموح في كلام بعض المفسرين القدماء كالطبري وابن كثير والزمخشري ، والله أعلم.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩)) [١١٨ ـ ١١٩]

تعليق على الآية

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً)

والآية التالية لها

المتبادر أن الآيتين جاءتا كتعقيب على ما سبقهما وأنهما والحالة هذه متصلتان بالسياق. ولقد تعددت التأويلات التي قالها أو رواها المفسرون للآيتين. من ذلك أن الاختلاف المذكور في الأولى هو اختلاف الأديان والنحل. وأن الاستثناء الذي جاء في أول الآية الثانية عائد إلى الذين آمنوا برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن ذلك أن الاختلاف هو بسبيل وصف أهل الباطل والأشقياء بسبيل وصف أهل الحق. وأن هذا الاختلاف على أي قول هو من حكمة الله ومشيئته ليمتاز كل صنف عن الآخر وينال كل منهم ما يستحقه. ومن ذلك أن الاختلاف بسبيل بيان اختلاف الناس في الرزق ومراتب الحياة الاجتماعية. وإن حكمة الله اقتضته ليتسخر بعضهم لبعض.

والعبارة القرآنية تتحمل كل ذلك إذا اعتبرت جملة (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) وما بعدها كلاما مستأنفا مستقلا عن ما قبله. أما إذا اعتبرت جزءا من معنى عموم الآيتين فيكون القول الأول هو الأوجه. وهناك من أوّل الآيتين بمعنى أن الله قادر حمل الناس على الإيمان والحق ولكن حكمته اقتضت تركهم لاختيارهم. وأن الاختلاف كان نتيجة ذلك فاستحقوا الثواب والعقاب. وهذا أيضا وجيه بل يتبادر لنا أنه أوجه التأويلات للآيتين روحا ونصا وأنه المتسق مع مبادئ قرآنية مرّ على

٥٥٤

تقريرها وشرحها في السور التي سبق تفسيرها.

وقد يصح أن يضاف إلى ذلك في الوقت نفسه أن الآيتين انطوتا أولا على تطمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته عما كان من مواقف الكفار وعنادهم مع إنذار لهؤلاء. فلا محل لحزنه وغمّه. فإن الله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة وقسرهم على الإيمان والتصديق. ولكن حكمته اقتضت تركهم لاختيارهم فتكون جهنم مصير كل من اختار الكفر والبغي. وعلى ضوء هذا فتكون جملة (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) بسبيل التنويه بالذين آمنوا برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين تداركتهم رحمة الله فلم يكونوا من أهل جهنم بالإضافة إلى أنها عامة مستمرة المدى. ومثل هذا التطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتنويه بالمؤمنين قد تكرر كثيرا ومرّت أمثلة منه في السور التي سبق تفسيرها لأن المواقف التي تقتضيهما كانت تكرر.

وثانيا على رد على طريقة الأسلوب الحكيم على تساؤل كثير من الناس حيث احتوت تقرير كون اختلاف الناس هو مظهر طبيعي وناموس من نواميس الله فيهم لييسر كلا منهم حسب قابليته واختياره فلو شاء لخلقهم على جبلة واحدة ووتيرة واحدة وملة واحدة. وحينئذ لا يتميزون عن سائر الحيوانات. ولا يكون معنى لما اقتضته حكمة الله من جعلهم أهلا للتكليف وخلفاء في الأرض ليكونوا فيها أولي الأمر والشأن والانتفاع من مختلف مظاهر كونه ومن بعثهم يوم القيامة ليجزي كلا منهم بما كسب في الحياة الدنيا والله تعالى أعلم.

وقد يبدو لأول وهلة بين الآية الأولى وآية سورة يونس [١٩] التي جاء فيها : (وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) تناقض. ولسنا نرى ذلك فآية يونس في صدد وحدة فطرة الله التي فطر الناس عليها وما كان من اختلافهم وشذوذهم عنها على ما شرحناه في سياقها وفي هذه الآية تعليل لذلك الاختلاف والشذوذ. والله تعالى أعلم.

(وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢)

٥٥٥

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)) [١٢٠ ـ ١٢٣]

(١) في هذه : روى المفسرون في تأويل هذه الجملة ثلاثة أقوال منها أنها بمعنى هذه السورة. ومنها أنها بمعنى هذه الدنيا. ومنها أنها بمعنى هذه الأنباء. ولعل القول الأخير هو الأوجه لأن كلمة الأنباء هي الأقرب ذكرا.

في الآيات تعقيب على السياق والكلام السابق كما هو المتبادر ، فالله تعالى إنما يقص على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يقصه من أنباء الرسل السابقين ليثبت به فؤاده ، ويتبين حكمة الله في خلقه ، ولقد جاء في هذه الآيات الحق الذي فيه موعظة وتذكرة للمؤمنين. وعليه أن لا يبالي بالذين لم يؤمنوا لأن حكمة الله اقتضت أن يكون في الناس الصالح والطالح والمهتدي والضالّ والأخيار والأشرار ، وأن يقول لهم سيروا على الطريقة التي ترغبون ونحن نسير على الطريقة التي نرغب ، وانتظروا حكم الله وأمره ونحن من المنتظرين لهما أيضا. وعليه أن يتوكل على الله ويستمر في عبادته وذكره. فالأمر كله راجع إليه ، وهو المطلع على كل ما خفي وظهر في السموات والأرض ، وليس غافلا عما يفعل الناس مؤمنوهم وكفارهم.

والمتبادر أن الآيات استهدفت أيضا فيما استهدفته تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوكيد كونه غير مسؤول عن موقف الكفار. وكون ما نزل عليه هو الحق الذي يهتدي به الطيبون الصالحون في نواياهم وقلوبهم وأخلاقهم ، كما استهدفت إنذار الكفار وتوكيد كون الله محيطا بأعمالهم وكونهم راجعين إليه ومسؤولين أمامه.

كذلك جاءت خاتمة قوية لمواقف المناظرة والجدل التي حكتها فصول السورة وخاتمة قوية أيضا للسورة.

[تم بتوفيق الله الجزء الثالث ويليه إن شاء الله

تعالى الجزء الرابع وأوله تفسير سورة يوسف]

٥٥٦
٥٥٧
٥٥٨

فهرس محتويات الجزء الثالث

تفسير سورة الجن............................................................... ٧

شرح الفصل الأول من السورة والتعليق على مدى محتوياته........................... ٨

تعليق على مفهوم آيات الفصل ودلالته......................................... ١٧

تعليق على جملة (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا ...).................................... ١٩

تفسير سورة يس.............................................................. ٢٠

تعليق على آيات (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ ...).................................. ٢٣

تلقينات ودلالة مثل أصحاب القرية وآياته....................................... ٢٧

تعليق على محاولة استنباط النظريات العلمية من الآيات........................... ٣١

تعليق على تعبير (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ...)............................... ٣٢

نموذج آخر للتفسيرات الصوفية................................................ ٣٣

تعليق على حثّ القرآن على البرّ بالفقراء........................................ ٣٤

تعليق على نسبة العرب الشعر والشاعرية للنبي................................... ٣٩

تفسير سورة الفرقان........................................................... ٤٧

تعليق على زعم الكفار بأن أناسا يعاونون النبي................................... ٥٠

تعليق على نسبة المتعصبين من الكتابيين........................................ ٥٣

دلالة تعبيري (اكْتَتَبَها) و (تُمْلى عَلَيْهِ)...................................... ٦٣

تعليق على تحدي الكفار باستنزال ملك لتأييد النبي............................... ٦٥

٥٥٩

تعليق على ما يفرضه العرب من طبيعة للنبي تغاير طبيعة البشر..................... ٦٥

تعليق على تعبير (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ ...)........................... ٦٦

تعليق على تعبير (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً ...).................................. ٦٨

تعليق على تعبير (مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ)........................................... ٧١

تعليق على ما في القرآن من تكرار التنديد بالظالمين............................... ٧١

تعليق على جملة (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً)................................. ٧٦

تعليق على جملة (جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ).......................... ٨٠

تعليق على تحدي الكفار بإنزال القرآن جملة واحدة................................ ٨٢

تلقين الآيتين [٤٣ و ٤٤] وما بعدهما.......................................... ٨٦

تعليق على الأمر بالتوكل على الله.............................................. ٩٣

تعليق على اسم الرحمن........................................................ ٩٧

تعليق على روعة سلسلة عباد الرحمن وتلقيناتها.................................. ١٠٢

تعليق على تعبير (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ)........................................... ١٠٥

تفسير سورة فاطر............................................................ ١٠٧

تعليق على الأمر بعدم الاغترار بالدنيا......................................... ١١٠

تعليق على تعبير (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ...)............................... ١١١

تعليق على جملة (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ ...)......................... ١١٤

تعليق على جملة (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ)............................. ١١٨

تعليق على جملة (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ).......................... ١٢١

تعليق على جملة (أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا)............................. ١٢٥

تعليق على جملة (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ)..................................... ١٢٩

تعليق على جملة (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)..................................... ١٣١

تعليق على جملة (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ)............................... ١٣٢

سبب وقوف زعماء قريش موقف المعاداة....................................... ١٣٦

٥٦٠