التّفسير الحديث - ج ٣

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٣

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٧

كافرون بكليهما. ومن المفسرين من روى أن اليهود أوعزوا إلى كفار قريش بأن يطلبوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيهم بمثل ما أتي به موسى عليه‌السلام ، بل منهم من روى أن جملة (إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) (٤٨) هي كلام كفار قريش واليهود معا ، وهو غريب (١).

ومهما يكن من أمر هذه الروايات واحتمال صحة شيء منها فالذي يتبادر لنا أن الآيات لم تنزل منفصلة عمّا سبقها وبسبب الروايات مباشرة ؛ وأن هذا الفصل وما سبقه بما في ذلك فصول القصة وما لحقها كل هذا كان بمثابة تعقيب على مشهد حجاجي وجاهي بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين فريق من الكفار ، وأن رسالة موسى عليه‌السلام ومعجزاته مما كان من مواضيع الحجاج. وإذا صح هذا الذي تقويه نصوص الآيات بدا في هذا الفصل أسلوب من أساليب التنزيل والنظم القرآني. وإلا فإنه يكون حكاية حال فريق من كفار العرب أو حكاية ما يمكن أن يقولوه ويحاجوا به من مثل هذه الأقوال. وقد حكي مثل ذلك في سور أخرى منها سورة طه في آياتها الأخيرة.

وهذا لا يمنع أن يكون كفار قريش قد سألوا اليهود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشهدوا بصدقه وقالوا إنه يتلقى عن الله عزوجل كما كان يتلقى نبيهم موسى عليه‌السلام على ما جاء في الرواية الأولى. وفي القرآن المكي آيات عديدة فيها استشهاد بأهل الكتاب وشهادة بأن رسالة النبي عليه‌السلام حق ، وصلته بالله تعالى صادقة ؛ مما أوردنا أمثلة منه في سياق تفسير آية سورة الأعراف [١٥٧] ومنه آية في سورة الأحقاف حكي فيها شهادة وإيمان أحد بني إسرائيل على سبيل تحدي الكفار وهي (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٠) ومنه الآيات التالية لهذه الآيات والتي من المحتمل جدّا أن يكون فيها ترديد وتسجيل لهذا الجواب مع إيمان الذين آمنوا به. والإلزام والإفحام والتنديد في الآيات قوي نافذ. والآيتان الأوليان والآية

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي والزمخشري.

٣٢١

الأخيرة بسبيل الإعذار والإنذار ، حتى لا يكون للناس على الله حجة. وقد انطوى في ذلك ما تكرر تقريره من حكمة إرسال الرسل وكون مهمتهم هي الإنذار. كذلك انطوى في التحدي الذي أمرت الآية [٤٩] النبي عليه‌السلام بتوجيهه إلى الكفار والتقرير الذي تبعه في الآية [٥٠] توقع العجز عن إجابة التحدي ولذلك حملت بقية الآية [٥٠] على الكفار حملة قوية مستحكمة.

وفي التنديد بالذين يتبعون أهواءهم غير مستندين إلى حق وعلم ويجحدون الحق عنادا ومكابرة تلقين قرآني مستمر المدى في تقبيح هذا الخلق والتحذير منه. مما تكرر كثيرا في القرآن ومرّ منه أمثلة عديدة.

وفي تحدي الكفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يأتي بما أتى به موسى دلالة على أنهم لم يكونوا يجهلون قصص موسى عليه‌السلام ورسالته إلى فرعون ومعجزاته. وهذا يؤيد ما قلناه غير مرة من أن القصص القرآنية لم تكن مجهولة من السامعين ، وإنها من أجل ذلك جاءت في القرآن لتكون موضوع عظة وعبرة وتمثيل ، ولم تأت للقصة ذاتها.

تعليق على جملة

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥٠)

وبمناسبة ورود هذه الجملة لأول مرة نقول إن هذه الجملة تكررت في سور أخرى مكية ومدنية كما تكرر أمثالها مثل (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) المائدة [١٠٨] و (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) المائدة [٦٧] و (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) يوسف [٥٢] و (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) يونس [٨١].

وقد أوّلنا الجملة الأولى هنا بما أوّلناها به في شرح الآيات لأنها تضمنت تقرير كون حرمان الله الظالمين من توفيقه وهداه وعطفه وعنايته قد ترتب على ما اقترفوه واتصفوا به وارتكسوا فيه من الظلم والانحراف عن جادة الحق والهدى عقوبة لهم. وهذا ينسحب على أمثال الجملة في السور الأخرى.

٣٢٢

ولقد جاء في سورة آل عمران هذه الآية (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٨٦) حيث انطوى فيها توضيح وتأييد لما ذكرناه.

وهذه الآية ومثالها المذكورة آنفا يصح أن تكون ضوابط لما جاء مطلقا في آيات أخرى من ضلال وهداية مثل (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) إبراهيم [٢٧] و (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) البقرة [٢٦] و (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) غافر [٧٤] اختار الظالمون والفاسقون والخائنون والكافرون مواقفهم رغم إنذارات الله ودعوة رسله فلم يعودوا يستحقون عناية الله واستحقوا غضبه وعدم توفيقه ثم عذابه.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥)) [٥٢ الى ٥٥]

(١) يدرؤون : يدفعون ويتقون أو يقابلون السيئة بالحسنة.

(٢) اللغو : الكلام الباطل.

(٣) الجاهلين : هنا بمعنى السفهاء أو الضالين.

احتوت الآيات خبر مشهد واقعي لفريق من أهل الكتاب. أعلنوا إيمانهم وتصديقهم برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن حينما تلي عليهم ؛ وتنويها بهم ؛ وخبر ما لقوه من سفهاء الكفار وما كانوا يبذلونه من صدقات ؛ فلهم أجرهم مضاعف بما صبروا وقابلوا الحسنة بالسيئة وأنفقوا مما رزقهم الله ، وبما كان منهم إزاء الجاهلين الذين كانوا يؤذونهم بأقوالهم السخيفة حيث كانوا يعرضون عنهم ولا يعبأون بهم

٣٢٣

ويقولون إنما نريد السلام ولا نتأثر بالجاهلين وأساليبهم ولغوهم ، أو لا شأن لنا معهم.

تعليق على آية

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) (٥٢) وما بعدها

ولقد تعددت الروايات (١) في هذا الفريق. فقيل إنهم وفد نصارى نجران. وقيل إنهم وفد نصارى الحبشة. وقيل إنهم وفد من نصارى الشام. وقيل إنهم خليط. وقد ذكرت الروايات أيضا أن هذه الآيات مدنية وأن المشهد من مشاهد المدينة. وسمت بعض أسماء الذين آمنوا وقالوا ما حكته الآيات وبعضهم يهود مثل عبد الله بن سلام وبعضهم نصارى مثل تميم الداري والجارود العبدي. وذكر في من ذكر سلمان الفارسي ، وبحيرا الراهب وأبرهة ، والأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع وتميم. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أيضا أن الآيات مدنية.

ونحن نشك في مدنية الآيات ومدنية المشهد. وقد يكون ما احتوته من أذى الجاهلين وسفاهتهم نحو المؤمنين من قرائن مكية الآيات بل من دلائلها. وهناك آيات عديدة لا اختلاف في مكيتها ذكرت مثل هذا الموقف منها آيات سورة الأنعام هذه (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١١٤) وآيات سورة الإسراء هذه (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (١٠٩). وبعض الأسماء التي ذكرها المفسرون ذكروها في سياق آيات مدنية احتوت تنويها بالذين أسلموا من علماء اليهود ، منها آية النساء هذه (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ

__________________

(١) انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والزمخشري والخازن وابن كثير.

٣٢٤

الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) (١٦٢) ونرجح بل نعتقد أن الآيات متصلة بالآيات السابقة لها موضوعا وسياقا ، وأنها نزلت لتكون ردّا عمليّا على الكفار العرب في مكة الذين كانوا يكابرون ويصدرون في مواقفهم عن عناد وهوى ، ويتحدون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإتيان بمثل ما أتى به موسى فلما قيل لهم إنكم كفرتم بالمبادئ التي جاء بها موسى نكصوا على رؤوسهم وقالوا إنّا كافرون بها وبما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فاحتوت الآيات ردّا مفاده أن كفار قريش إذا كانوا يقولون ما يقولون عنادا ومكابرة فالذين أوتوا العلم والكتاب يشهدون بصدق رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق صدور القرآن عن الله تعالى ، ويعلنون إيمانهم بهما تبعا لما كان من إسلامهم لله قبل ذلك ، ولعل الآيات كما قلنا قبل قليل تسجيل لشهادة اليهود الذين سألهم كفار قريش وأجابوهم بما أجابوا ؛ على ما ذكرته الرواية الأولى من الروايات السابق إيرادها في سياق الفصل السابق ، واليهود لم يكونوا محصورين في المدينة. والاحتمال بوجود أفراد وجالية منهم في مكة قوي.

ومن الشواهد على ذلك آية الأحقاف [١٠] (١) التي أوردنا نصّها قبل قليل. فإن لم يكن هذا الفريق يهوديا فيكون من النصارى الذين كان منهم جالية في مكة أيضا مما تواترت فيه الروايات وأشارت إليه بعض الآيات التي سقناها في سياق تفسير بعض آيات سورة الفرقان. وفحوى الآيات يلهم بقوة أن هذا الفريق كان من المقيمين في مكة المعروفين في أوساطها ومن ذوي اليسار أيضا. وقد ينفي هذا ما جاء في بعض الروايات من كونه وفدا حبشيا أو شاميا أو يمنيا (٢). ولا يمنع هذا من أن يكون قد وفد إلى مكة من نصارى هذه الأقطار وفود لاستطلاع النبأ العظيم ، أي بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطبيعة الحال.

__________________

(١) ذكرت بعض الروايات أن هذه الآية مدنية مع أنها موجهة إلى كفار مكة على سبيل التحدي مما يجعل هذه الرواية موضع شك كبير.

(٢) حياة محمد تأليف محمد حسين هيكل.

٣٢٥

مشهد يسجل فيه أثر الدعوة المحمدية والقرآن

في أهل الكتاب ودلالته

والآيات تنطوي في حدّ ذاتها على مشهد من مشاهد الدعوة النبوية وأثرها في الكتابين الذين سمعوا القرآن من النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مباشرة والذين لا بدّ من أنهم جادلوه وسبروا أمره ثم لم يسعهم إلّا التسليم والإيمان حينما شاهدوا أعلام نبوته الصادقة وسمعوا من تقريرات القرآن ما هو متطابق في جوهره مع جوهر الكتب التي عندهم دون مبالاة بتعنيف المشركين الأقوياء وتنديدهم. وتنطوي بالتالي على شهادة خالدة بأن الكتابيين حينما يكونون في معزل عن المؤثرات أو في قدرة على عدم المبالاة بها ، متجردين من الأنانية والهوى والمآرب وعلى شيء من حسن الإدراك وسعة الأفق وصفاء الطوية لا يسعهم إلّا الإقرار بما في الرسالة المحمدية من حق وبما في القرآن من صدق وبما في الدين الإسلامي من صفاء وجلاء وشفاء للنفوس الطيبة الصالحة ، ثم من حلول للمشكلات والإشكالات والتعقيدات الدينية والعقائدية والنفسية والدنيوية والأخروية ، ومن استجابة إلى الرغبات المشروعة ومن هدى ورحمة للناس أجمعين في كل مكان وزمان.

وإذا لوحظ أن هذا المشهد كان في مكة وهو ما نرجحه على ضوء الآيات المكية المماثلة على ما ذكرناه وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قلة وضعف أمام أكثرية ساحقة كافرة مناوئة ازداد مغزاه ومداه قوة وروعة وإفحاما لكل مكابرة.

ولقد روى البغوي في سياق هذه الآيات حديثا عن أبي موسى الأشعري قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين. رجل كانت له جارية فأدّبها فأحسن تأديبها ثمّ أعتقها وتزوّجها. ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمّد. وعبد أحسن عبادة الله ونصح لسيّده» (١) حيث ينطوي في الحديث توضيح لحكمة إيتاء المؤمنين من أهل الكتاب أجرهم مرتين ولقد علل هذا المفسر جملة

__________________

(١) أورد هذا الحديث ابن كثير أيضا وقال إنه ورد في الصحيح.

٣٢٦

(بِما صَبَرُوا) بأنهم صبروا على دينهم الأول إلى أن بعث محمد فآمنوا به. وقد تبادر لنا تعليل أوجه على ضوء ما احتوته الآيات ، فقد كانوا يسمعون من جاهلي المشركين أي سفهائهم ما يؤذيهم بسبب إيمانهم فكانوا يصبرون ويقولون سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦)) [٥٦]

تعليق على آية

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) إلخ

عبارة الآية واضحة ، وجمهور المفسرين يروون أن الآية نزلت في أبي طالب عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويوردون روايات عديدة في صدد ذلك. وهناك حديث يرويه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة نكتفي به عن الروايات قال «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمّه أبي طالب قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة ، قال لولا أن تعيّرني قريش يقولون إنّما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينيك فأنزل الله (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ)» (١) ومقتضى الحديث أن يكون ذلك عند حضور الموت أبا طالب.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٧٦ ـ ١٧٧ وننبه على أن الشيعة يروون أن أبا طالب قد أسلم قبل موته. وقال الطبرسي في سياق تفسيره الآية (٢٦) من سورة الأنعام إن آل البيت مجمعون على إيمان أبي طالب وإجماعهم حجة. وروي عن ابن عمر أن أبا بكر أتى بأبيه يوم الفتح إلى النبي فأسلم على يديه فقال له ألا تركت الشيخ فآتيه ، وكان أعمى ، فقال أبو بكر أردت أن يأجره الله ، والذي بعثك بالحق لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشدّ فرحا مني بإسلام أبي ، ألتمس بذلك قرة عينيك قال صدقت. ونحن نتمنى أن يكون ذلك صحيحا لما كان من مواقف أبي طالب من نصرة النبي ، ولكن الحديث الصحيح الذي أوردناه ينتقص هذا الخبر غير الموثق ، وجملة (إجماع أهل البيت) لا يمكن أخذها مسلمة. والله أعلم.

٣٢٧

ومما يتبادر لنا من سياق الآيات وفحواها أن الآية غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق أولا. وأن وفاة أبي طالب التي تذكر الروايات أن الآية نزلت في ظرفها ، إنما كانت في أواخر العهد المكي في حين أن هذه السورة نزلت في أواخر النصف الأول من هذا العهد على ما يمكن تخمينه من ترتيبها. وهذا يجعلنا نرجح أن الآية جاءت معقبة على الآيات السابقة جميعها ، وبقصد تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتهوين عليه بسبب حزنه وحسرته من مواقف العرب العنيدة وجحودهم وتعجيزاتهم على شدة رغبته في هدايتهم وبخاصة بعد أن أنذرهم وأقام الحجة عليهم. وأبو هريرة الذي يروي الشيخان عنه الحديث قد أسلم في أواخر العهد المكي ، وحديث الذي يذكر فيه أن الآية نزلت في مناسبة الموقف الذي حكاه ليس خبرا عن رسول الله أخبره به كما هو ظاهر من صيغته ، ونرجح أن اجتهادي منه ، والله أعلم.

ومع ذلك فليس من المستبعد أن يكون تمسك أبي طالب بدينه منذ البدء بالرغم من رغبة النبي في إسلامه وإلحاحه عليه في ذلك. وهذا أمر لا بد من أنه كان واقعا لا يتحمل شكا مما كان يؤلم نفسه فنزلت الآية على سبيل التسلية ، كما أنه ليس من المستبعد أن يكون هناك زعماء أو أشخاص آخرون كانوا محبين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولم يظهروا له جفاء شديدا وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرص على هدايتهم ويحزنه عدم استجابتهم إليه في العهد المكي ومنهم ذوو قرباه الأدنون مثل عمه العباس وأبنائه وابن عمه عقيل وغيرهم وغيرهم الذين كانوا نصراء له عصبيّة. وقد يكون في الآية التالية لهذه الآية قرينة ما على شيء من ذلك على ما سوف نشرحه بعد.

ومهما يكن من أمر فليس من شأن ذلك أن يجعل الصلة بين الآية وسياقها السابق واللاحق منقطعة كما هو المتبادر.

هذا ، وتعبير (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) يزيل ما يمكن أن يرد من توهم من جملة (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ويفسره. وقد انطوى في هذه الجملة معنى التسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فالله تعالى هو أعلم بالذين يرغبون في الهدى

٣٢٨

فيوفقهم إلى ما رغبوا فيه ويشرح صدرهم له فلا ينبغي له أن يحزن ويغتمّ من عدم إيمان من لا يؤمن أو من يحب هو أن يؤمن ، وهكذا يتسق المعنى مع المعاني المماثلة في مواضع القرآن الأخرى ومع المبادئ التي يقررها القرآن كما هو واضح ، وليس من محل والحال هذه للجدل الكلامي حول كون إيمان المؤمن وكفر الكافر يقعان بمشيئة الله وإرادته الأزليتين أو بدونهما ، فالآية لا تتحمل ذلك ولا تقصده ، ومع ذلك فإنه لما كان في القرآن آيات صريحة بأن إيمان المؤمن وكفر الكافر ينسبان إلى صاحبيهما ويقعان باختيارهما ويترتب عليهما العذاب والنعيم بسبب ذلك ، مما مرّ منه أمثلة كثيرة ومنه آيات سورة الكهف هذه (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) (٣١) فإن الأولى تأويل هذه الآية وأمثالها بأن الإنسان إنما يشاء بمشيئة الله أو أن كسبه لأعماله هو نتيجة ما اقتضته حكمة الله وإرادته من إقداره على التمييز والاختيار على ما ذكرناه في مناسبات سابقة ، لأن ذلك هو المنسجم المتسق مع الآيات القرآنية وروحها عامة ومع حكمة إرسال الرسل والتبشير والإنذار.

(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)) [٥٧]

(١) نتخطف من أرضنا : بمعنى نصبح عرضة للعدوان ونهبا للناهبين.

(٢) حرما آمنا : الحرم هو المكان المحمي من العدوان ، أو المحرم فيه العدوان أو المكان الواجب الحرمة وعدم البغي فيه على اختلاف أقوال أهل

٣٢٩

التأويل ، والجملة عبارة عن منطقة مكة التي كانت قبل الإسلام حرما آمنا يحرم فيه سفك الدم والظلم ، وذلك بسبب وجود الكعبة التي كان يحج إليها العرب ويقدسونها.

في هذه الآية صورة أخرى من صور الحجاج بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار ، وأسلوب آخر من أساليب الدعوة. فشقها الأول يحكي قول الكفار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنهم إن اتبعوا الهدى الذي يدعو إليه لن يلبثوا أن يصبحوا عرضة للمعتدين ونهبا للناهبين ، وشقها الثاني يرد عليهم متسائلا عما إذا لم يكن الله قد جعلهم آمنين من العدوان بالحرم الذي أحلّهم فيه ومكّنه لهم وآمنين كذلك من العوز بما يأتي إليه من ثمرات كل شيء من كل مكان ، ثم تنتهي الآية بتقرير أن أكثرهم لا يعلمون حكمة الله ولا يقدرون تدبيراته.

تعليق على آية

(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا)

وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل حيث قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّا لنعلم أن الذي تقول هو الحق ولكنا إن تبعناك نخشى أن يخرجنا العرب من أرض مكة ولسنا أكثر من أكلة رأس (١) ، وهذا متسق إجمالا مع روح الآية ، غير أن عطفها على ما سبقها يلهم أنها لم تنزل بسبب هذا القول مباشرة أو فورا ومنقطعة عن السياق السابق ؛ كما أن صيغة الجمع فيها قد تدل على أن هذا القول لم يصدر من شخص واحد أو على الأقل أنه معبر عن رأي فريق من الكفار ، فذكر في الآية في سياق ذكر مواقف الكفار وأقوالهم والتنديد بها والردّ عليها وإقامة الحجة على أصحابها.

ويظهر أن زعماء مكة كانوا يحسبون أن الدين الجديد الذي أتى به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيقضي فيما يقضي عليه على تقاليد الحج والأشهر الحرم وأمن حرم مكة وقدسية الكعبة التي كان جوفها وفناؤها مستقرا لأوثانهم التي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشن عليها حربا

__________________

(١) انظر تفسيرها في الطبري وابن كثير والطبرسي والخازن.

٣٣٠

شديدة ، وحينئذ تزول هيبة مكة وأهلها وزعامتها الدينية وأسباب اليسر والرزق والتجارة التي يتمتعون بها نتيجة لذلك ويصبحون نهبا للقبائل ، ولعلهم كانوا كذلك يتخوفون من جبل عداء العرب لهم وغدوّهم في عزلة وانفراد يسهل بهما العدوان عليهم.

وهكذا يمكن أن يقال إن مسألة تقاليد مكة وحجها وكعبتها وأمنها وأشهرها الحرم وامتيازاتها ومنافعها مما شغل أفكار زعماء مكة ودفعهم إلى الموقف الذي وقفوه من الدعوة النبوية.

وقد احتوت الآية تطمينا ببقاء واستمرار أمن الحرم وما ييسره من أمن وأسباب رزق ورغد مما يمكن أن يعد براعة استهلال لما أقر بقاءه القرآن فيما بعد من تلك التقاليد بعد تجريدها من شوائب الشرك والوثنية ؛ ولا سيما أنها كانت شديدة الرسوخ ، ونواة وحدة عربية عامة لأن العرب كانوا مندمجين فيها على اختلاف بيئاتهم ونحلهم وكانت هذه الوحدة من الأهداف التي استهدفتها الدعوة المحمدية.

وأسلوب الآية يمكن أن يدل على أن ما حكته صادر من زعماء معتدلين لا يكابرون فيما جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حق وهدى ولكنهم كانوا يعتذرون بأعذار يرونها معقولة متصلة بمصالحهم الخاصة والعامة ، وعلى هذا يمكن أن يقال إن كفار مكة أو زعماء كفارها كانوا فريقين ، واحدا معاندا مكابرا متكبرا ماكرا مؤذيا للأسباب التي أوردناها في سياق تفسير آية سورة فاطر [٤٣] ، وآخر معتدلا يرى فيما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقّا ولكنه لا يجد الجرأة على متابعته خوفا على نفسه أو مصالحه أو لاعتبارات يراها مشروعة وصائبة ، ومن هنا يتميز الرعيل الأول من المؤمنين من أبناء الأسر البارزة من قريش مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وسعيد وطلحة والزبير وعبد الرحمن وحمزة وجعفر وأبي عبيدة وأبي سلمة وعمرو بن سعيد بن العاص وأخيه خالد وعامر بن أبي وقاص وفراس بن النضر ومصعب بن عمير وعثمان بن مظعون وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص وأبي حذيفة عتبة بن ربيعة ورملة بنت أبي سفيان وفاطمة بنت الخطاب وفاطمة المخزومية وأم

٣٣١

سلمة وسهلة بنت أبي سهيل بن عمرو وريطة بنت الحارث وغيرهم وغيرهم رضي الله عنهم الذين رأوا الهدى والنور فاتبعوهما غير مبالين بآبائهم وأعمامهم وأخوالهم مضحين بما كانوا فيه من نعيم ومال وجاه ، معرّضين أنفسهم للسخط والأذى والقطيعة والحرمان مستعيضين من كل ذلك بلذة الإيمان الذي ملأ قلوبهم والذي رأوا فيه الغناء عن غيره فاستحقوا ثناء الله تعالى ورضوانه حيث قال فيهم (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) سورة التوبة : [١٠٠] ، ولعل شبابهم هو الذي جعلهم ينضوون إلى لواء الدعوة الجديدة الذي حمله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوحي الله وهو في أواخر عهد شبابه والتي كانت حربا على عقيدة الشرك السخيفة وكثير من تقاليد الجاهلية البعيدة عن الحق والمنطق وعلى الآثام والفواحش داعية إلى الله وحده ومكارم الأخلاق والتضامن في بناء مجتمع إنساني جديد يقوم على أسس العقل والحق والعدل والبرّ والرحمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والتسابق إليه وحل كل ما هو طيب وتحريم كل ما هو خبيث لأنهم لم يغدوا بعد أسرى التقاليد الدينية والاجتماعية التي كانت سائدة في بيئتهم كما كان شأن كبار أسرهم وزعمائها ، وفي هذا ما فيه من مدى ومغزى.

ولقد شرحنا مسألة أمن الحرم في سياق تفسير سورة قريش فلا محل للإعادة بمناسبة ما احتوته الآية. وإن كان من شيء نزيده هو أن الجملة في مقامها وجملة (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) بخاصة قد تفيد أن الحرم ليس فقط الكعبة ومكة بل هو منطقة مكة. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عباس يوجب على القادم من خارج مكة أن يحرم أي يلبس ثياب الإحرام من حدود معينة قبل مكة ، وهذا نصه «إنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشّام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم ، وقال هنّ لهم ولكلّ آت أتى عليهنّ من غيرهنّ ممّن أراد الحجّ والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتّى أهل مكّة من مكّة» (١)

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ١٠٤.

٣٣٢

حيث يمكن أن يفيد هذا أن هذه الحدود هي حدود حرم مكة أو منطقتها المحرمة التي عنتها جملة (حَرَماً آمِناً) والله تعالى أعلم.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١)) [٥٨ الى ٦١]

(١) قرية : بمعنى مدينة أيضا. وقد أتت بمعنى أمة أو قوم بقصد أهل القرية أو أهل المدينة.

(٢) بطرت : كفرت النعمة وتكبرت واغترت.

(٣) أمّها : عاصمتها ، وأم القرى عاصمة القرى ومركزها ، والاكتفاء بذكر إرسال الرسل إلى أم القرى يعلل بأن القرى مرتبطة بمركزها ارتباطا وثيقا وبأن هذا المركز هو قدوتها وإمامها.

(٤) متاع الحياة الدنيا : قصارى أمره أنه متعة في الحياة الدنيا وحسب.

(٥) من المحضرين : من المبعوثين والمحشورين إلى الجزاء والنار.

المتبادر أن الآيات متصلة بالسياق وأنها جاءت معقبة على الآيات السابقة وبخاصة على الآية السابقة لها مباشرة وفيها إنذار وتبكيت قويان : فكثير من القرى كانت متمتعة بالنعيم ووسائل العيش الناعم ؛ فغرّها ما هي فيه وأعماها فاستكبرت وجحدت فأهلكها الله ، ومساكن كثير منهم ما تزال أطلالا خربة ماثلة للعيان ، والله لا يهلك القرى إلّا بعد أن يبعث إلى عاصمتها التي هي بمثابة أمها رسولا ينذرهم ويبين لهم طريق الحق والهدى ، فإذا أصروا على الجحود والبغي أهلكهم ؛ وما

٣٣٣

تيسّر للسامعين ـ والمقصود بهم الكفار وزعماؤهم الذين هم موضوع الكلام ـ من أسباب العيش والأمن التي يتمسكون بها ويفضلونها على اتباع هدى الله ليست إلّا زينة ومتعة دنيويتين محدودتي الأمد والأفق ، ومن الواجب عليهم والأحجى بهم أن يدركوا ويعقلوا بأن ما عند الله هو خير لهم وأبقى ؛ ولا يتساوى ما وعده الله من وعود حسنة للمؤمنين سوف تتحقق لهم مع أولئك الذين تيسر لهم ما يتمتعون به في الحياة الدنيا القصيرة ثم يحشرون يوم القيامة ويساقون نحو مصيرهم الرهيب.

تعليق على الآية

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها)

وما بعدها وما فيها من تلقين وحكم

وأسلوب الآيات حجاجي هادئ قوي الإحكام ، ويلهم أنه موجه إلى ذوي عقل وإذعان أدّاهم اجتهاد خاطئ إلى موقف خاطئ ، وأريد به البرهنة على ما في هذا الاجتهاد والموقف من خطأ ، وهذا الأسلوب يتسق مع الأسلوب الذي حكى عن الكفار في الشق الأول من الآية السابقة والذي رجحنا أنه صادر من الفريق المعتدل من الزعماء ، ولذلك نرجح أن الآيات موجهة إليهم أيضا تعقيبا على تلك الآية ، ومع ذلك فإطلاق الكلام يفيد أنه موجه إلى جميع الكفار وزعمائهم أيضا.

وفي الآيتين الأولى والثانية حكمة قرآنية اجتماعية بالغة ومستمرة التلقين ، فالأمم إنما يهلكها بطرها واستكبارها وغفلتها عن الحق واستغراقها في شهواتها الدنيوية دون تدبر وتروّ ، وإنما يصلحها تدبرها وبصيرتها واعتدالها وسلوكها طريق الحق وتفكيرها في العواقب وعدم إسرافها في متع الحياة وشهواتها.

وليس من محل لتوهم التناقض بين ما جاء في الآيات وبين الخطة القرآنية في إباحة متع الحياة الدنيا وزينتها والطيبات من الرزق واستنكار تحريمها وحظرها التي احتوتها آيات سورة الأعراف [٣١ ـ ٣٣] فإن هذه الخطة مقيدة بالقصد والاعتدال

٣٣٤

وخلوها من الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي والإشراك بالله ، وعدم حيلولتها بين الإنسان وواجباته نحو الله والناس على ما شرحناه في مناسبتها السابقة.

والمتبادر أن تخصيص الرسل بأم القرى ينطوي على حكمة اجتماعية بليغة ، فقاعدة البلاد هي الإمام والقدوة لسائرها ، فإذا قنعت بأمر وسارت في طريق تابعها الناس ، وينطوي في هذا تقرير ما يكون على قاعدة البلاد من تبعة وما تلعبه من دور عظيم في حياة البلاد ؛ أخيرا كان أم شرّا أو صلاحا أم فسادا. ولقد كان هذا هو الواقع في الدعوة الإسلامية فعلا ، فقد ظلت الدعوة ضيقة النطاق ومحل مناوأة وأذى في الحجاز لأن أهل مكة أم القرى لم يستجيبوا إليها ، فلما توارى معظم الزعماء المكابرين الذين قادوا حركة المناوأة وفتح الله تعالى مكة لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودان أهلها بالإسلام زال السد ودخل الناس في دين الله أفواجا ، وإذا كانت المدينة المنورة استجابت إلى الدعوة وغدت مركزها الذي استمدت منه القوة فإنها كانت خارجة نوعا ما عن نفوذ مكة المادي والمعنوي من جهة ، ولأن مكة ظلت في نظر معظم العرب القائد والإمام ، وظلت تقود حركة المقاومة والمناوأة للدعوة بقوة وعناد ، وتحول ماديّا ومعنويّا دون انضواء العرب إليها.

وقد روى بعض المفسرين (١) أن الآية الأخيرة نزلت في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي جهل أو في علي وحمزة رضي الله عنهما وفي أبي جهل أو في عمار والوليد بن المغيرة. والآية معطوفة ومعقبة على ما قبلها ومرتبطة بها ، والكلام فيها عام بالنسبة للفريقين ، وهذا ما يحمل على التوقف في الرواية كسبب لنزولها لحدتها. ولقد قال ابن كثير الذي كان من جملة من روى ذلك من المفسرين (والظاهر أنها عامة) وهو الصواب. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي.

٣٣٥

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧)) [٦٢ الى ٦٧]

(١) قال الذين حق عليهم القول : قال المفسرون إنهم الشياطين وأئمة الكفر والرؤساء أو شياطين الإنس والجن.

(٢) ادعوا شركاءكم : من الدعاء أي ادعوهم لينصروكم ويخلصوكم.

(٣) فعميت عليهم الأنباء : بمعنى التبست عليهم الأمور فلم يعرفوا ما يقولون ، أو فقدوا الحجة.

(٤) لا يتساءلون : لا يستطيعون سؤال بعضهم بعضا أو لا يستطيعون التناصر والتضامن والتعاون.

الآيات معقبة كذلك على ما سبقها واستمرار للسياق. فقد انتهت الآيات السابقة بذكر يوم القيامة وجاءت هذه الآيات تحكي حالة الكفار فيه : فلسوف يناديهم الله تعالى ويسألهم في ذلك اليوم عن شركائهم الذين كانوا يشركونهم معه ويرجون شفاعتهم ؛ فيعترف الذين حق عليهم القول أنهم كانوا غاوين وأنهم أغووا الذين غووا كما غووا ، ثم يعلنون براءتهم منهم وكونهم لم يكونوا يعبدونهم ، ويؤمر الكفار بدعاء شركائهم ليأتوا وينصروهم فيدعونهم فلا يستجيبون إلى دعائهم ويرون مصيرهم من العذاب فتأخذهم الحسرة ويتمنون أن لو كانوا مهتدين. ولسوف يناديهم الله ثانية فيسألهم عن موقفهم من رسله فيبهتون ويلتبس عليهم الأمر فلا يدرون ما يقولون ، ولا يستطيع أحد منهم أن يستنصر بأحد أو يستمد قوة من نسب وحسب أو يسأل أحدا ، فلكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ويلهيه. وقد

٣٣٦

جاءت الآية الأخيرة كخاتمة تعقيبية للصورة التي احتوتها الآيات : فالذي يتوب إلى الله ويؤمن ويعمل صالحا فهو الذي يمكن أن ينجو من هذا الموقف العسير.

والمتبادر أن الآيات في جملتها استهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف والفزع في نفوس الكفار من المصير الرهيب الذي سوف يصيرون إليه ، والحرج الشديد الذي سوف يواجهونه يوم القيامة ، وحملهم على الارعواء والتوبة إلى الله تعالى ، وهم في متسع من الوقت حتى يضمنوا لأنفسهم النجاح والفلاح في ذلك اليوم ، وهذا مما ظل يتكرر في مختلف المواقف والمناسبات على اعتبار أنه الهدف الجوهري من الرسالة النبوية.

ولقد قال بعض المفسرين (١) إن المقصود من جملة (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) هم الشياطين الذين وسوسوا للناس وأغووهم حتى أشركوهم مع الله تعالى في العبادة والدعاء. كما قال بعضهم (٢) إنهم أئمة الكفر ورؤوس الضلالة الذين حرّضوا العامة على الكفر فأطاعوهم. والجملة تتحمل كلا التأويلين. ونحن نرجح الثاني استئناسا بآية في البقرة تحكي براءة المتبوعين من التابعين يوم القيامة كما تحكيها هذه الآيات وهي (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) (١٦٦) بل إن في سورة الصافات آيات تؤيد ترجيحنا بقوة وهي (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (٣٣).

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري.

(٢) المصدر نفسه.

٣٣٧

هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠)) [٦٨ الى ٧٠]

(١) الخيرة : بمعنى الاختيار. وتكون بمعنى المختار من الأشخاص والأشياء.

في الآيات تقريرات ربانية وجّه الخطاب فيها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبيل الالتفات الانتقالي ، والضمير في «لهم» عائد إلى الكفار الذين هم موضوع الكلام السابق. وهي والحالة هذه معطوفة على ما قبلها واستمرار للسياق. فالله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار ما يشاء وليس للكفار أن يختاروا ويطلبوا ما يرغبون. وهو يعلم ما تخفي صدورهم وما يعلنون. وهو الذي لا إله إلّا هو المستحق للحمد في كل وقت وله الحكم في كل شيء وإليه يرجع الناس جميعا.

تعليق على جملة

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)

وقد قال بعض المفسرين (١) إن الآية الأولى بسبيل تقرير حصر الخلق والاختيار لله بصورة مطلقة ونفي قدرة الاختيار عن غيره.

وقال بعضهم (٢) إنها بسبيل تقرير أن الله تعالى يختار لعباده ما هو الأصلح ويختار لرسالته من هو الأصلح ، وإنه ليس للكفار أن يرغبوا ويختاروا شيئا أو شخصا فيفعل الله ما يرغبون فيه ويختارونه ، وإن في الآية ردّا على الكفار الذين كانوا يعترضون على اختيار محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون إنه كان الأولى أن يختار واحدا من العظماء وينزل عليه القرآن ؛ وهو ما حكته عنهم آية سورة الزخرف هذه (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٣١).

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير ابن كثير.

(٢) انظر تفسير البغوي والزمخشري.

٣٣٨

والضمائر في الآيتين الأولى والثانية عائدة إلى الكفار الذين هم موضوع الكلام في الآيات السابقة كما هو واضح. وهذا يجعل القول الأول في تأويل الآية الأولى غير مستقيم لأنه يشمل جميع الناس مسلمهم وكافرهم. ويجعل للقول الثاني وجاهة ورجحانا. ومع أنه ليس في الآيات حكاية لاعتراض الكفار على اختيار محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تكون الآية ردّا على هذه النقطة بالذات مما جاء في القول الثاني فإننا نرجح على كل حال أن الآية بسبيل ردّ على شيء من مثل ذلك صدر من الكفار في ظروف نزول الآية.

وفي الآيات تطمين وتثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فكل ما يفعله الكفار ويسرّونه محصيّ عليهم ، والناس جميعهم راجعون إلى الله وله وحده الحكم والقضاء فليكن مطمئنّا ...

وقد يبدو أن هناك تناقضا بين ما احتوته الآية الأولى من تقرير المشيئة المطلقة والاختيار المطلق لله تعالى ونفي الاختيار عن غيره وبين آيات عديدة مرّت أمثلة منها قررت للإنسان مشيئة واختيارا ورتبت على ما يكسبه نتيجة لذلك ثوابا وعقابا. ولقد كان هذا من المسائل التي دار الجدل حولها بين علماء الكلام.

والمتبادر لنا استلهاما من فحوى الآية أنها ليست بسبيل تقرير عام وإنما هي بسبيل الردّ على اعتراض الكفار على اختيار الله تعالى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الجدل حولها في غير محله ، وأنه لا يصح أن يستنبط منها ما يتناقض مع التقريرات القرآنية الأخرى.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣)) [٧١ الى ٧٣]

(١) سرمدا : دائما أبدا.

٣٣٩

في الآيات أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسؤال الناس عما إذا كان هناك إله غير الله سبحانه وتعالى يستطيع أن يأتيهم بالضياء إذا شاء الله جعل الليل عليهم سرمديا ، أو يستطيع أن يأتيهم بليل يسكنون فيه إذا شاء جعل النهار عليهم سرمديا ؛ وتقرير رباني بما في تعاقب الليل والنهار على الوجه الذي دبره الله من رحمة ربانية في الراحة والسكون في الليل والضرب في الأرض ابتغاء فضل الله في النهار ؛ مما يستحق عليه الحمد والشكر.

وأسلوب الآيات يدل على أن السؤال موجه إلى الكفار على سبيل التبكيت والتقريع والتذكير وأنها ليست منقطعة الصلة بالسياق السابق. والمتبادر أنها جاءت لتبرهن بأسلوب آخر على ما قررته الآيات السابقة من قدرة الله ومطلق تصرفه وحكمه وقضائه.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥)) [٧٤ الى ٧٥]

(١) نزعنا : هنا بمعنى أخرجنا أو انتزعنا.

(٢) ضلّ : هنا بمعنى غاب عنهم.

الآية الأولى تكرار للآية [٦٢] والمقصود بها الكفار الذين حكت الآيات مواقفهم وأقوالهم. وتكرارها يدل على أن السياق متصل بعضه ببعض.

وأسلوب الآية هنا كما هو هناك أسلوب تحدّ وتقريع. أما الآية الثانية ففيها تقرير تعقيبي انطوى فيه صورة من صور الآخرة كما انطوى فيه تقريع وإنذار للكفار. فبعد أن يطلب منهم دعوة شركائهم الذين كانوا يزعمون أنهم شفعاء وناصرون لهم أو دعاؤهم لنصرتهم ويعجزن أو لا يستجاب لهم دعوة ودعاء يأتي

٣٤٠