منهاج الأصول - ج ٤

محمّد ابراهيم الكرباسي

منهاج الأصول - ج ٤

المؤلف:

محمّد ابراهيم الكرباسي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

بالزائد على ما علم تفصيلا مشكوك من اول الامر ولم يكن عندنا بالنسبة الى ذلك التكليف بالزائد علم اجمالي فيكون المقام كباب الأقل والاكثر على نهج واحد من غير فرق بينهما قلت من هذه الجهة المقام مع بالاقل والاكثر على نحو واحد ولم يكن فرق بينهما ولكن من جهة اخرى قد حصل الفرق بينهما وهو ان الشك بالنسبة الى الأقل والأكثر في حدوث التكليف وبالنسبة الى المقام في انطباق المعلوم بالاجمال بعد الفراغ عن ثبوت التكليف فحينئذ يصح في المقام ان يقال ان التكليف بالنجس لو لم يكن في اناء زيد المعلوم بالتفصيل على فرض المحال فهو في اناء عمرو بخلاف الأقل والأكثر فان الشك في الزائد إنما هو في حدوثه لا في انطباقه بعد الفراغ عن ثبوته وحدوثه فظهر مما ذكرنا ان ملاك عدم الانحلال حقيقة موجود في المقام بخلاف باب الأقل والأكثر الاستقلاليين كما ظهر مما ذكرنا انه لا فرق بين ان يكون العلم الاجمالى والتفصيلي حصلا دفعة واحدة بان وقعت قطرتان من الدم دفعة واحدة قطعا إلا أن احدهما وقعت في اناء زيد المعين والاخرى وقعت في أحد الإناءين أو حصلا على نحو التعاقب بان علم وقوع القطرة في اناء زيد ثم وقوع قطرة في أحد الإناءين او بالعكس بان علم وقوع القطرة في اناء زيد ثم وقوع قطرة في أحد الإناءين او بالعكس بان علم أولا بوقوع القطرة في أحد الإناءين ، ثم وقعت قطرة في اناء زيد وان اردت توضيح ذلك فاجعل المقام من قبيل ما إذا ورد خطاب متعلق بموضوع مردد بين شخصين كما لو قال اكرم زيدا وتردد بين كون زيد ابن عمر أو زيد ابن بكر ثم ورد آخر معين بان قال اكرم زيد بن عمر فان كان الخطاب الثاني مبينا وشارحا للخطاب الأول فلا اشكال في كونه حاكما عليه ومبينا لاجماله وان لم يكن شارحا ومبينا لاجماله فيكونان خطابين وردا من المولى وفرض كون سندهما قطعيا لكي يشبه المقام فانه لا اشكال في عدم كون خطاب الثاني رافعا لاجمال الاول فيبقى الخطاب

١٢١

الاول مؤثرا وحيث انه قابل للانطباق على الطرق الاخرى فيجب الاجتناب عنه لبقاء العلم الاجمالي.

ودعوى بعض الاعاظم بان العلم الاجمالي تعلق بالجامع بين التكليفين والعلم التفصيلي تعلق بالتكليف الخاص ، والتكليف الخاص عبارة عن الجامع مع الخصوصية فتعلقه بالتكليف الخاص موجب للانحلال مدفوعة بان هذا إنما يتم لو كان متعلق العلم التفصيلي هو عين العلم الاجمالى ولكنك قد عرفت ان متعلق العلم الفصيلي هو التكليف المقيد بالخصوصية والعلم الاجمالى قد تعلق بالتكليف المجرد وهما بحسب الذهن صورتان احدهما لا دخل له بالآخر وان كانا بحسب الخارج متحدين وقد عرفت ان الخارج ظرف السقوط ، وليس ظرف الثبوت فالذي هو متعلق التكليف والعلم التفصيلي والاجمالي والشك والظن والوهم إنما هو الصور الذهنية التى ترى خارجية فاذا كان المتعلق فيها هو الصور الذهنية فهي بحسب وعائها متعددة غير متحدة وحينئذ كيف يمكن ان يدعى الانحلال الحقيقي الذى ملاكه اتحاد ما هو المعلوم بالاجمال مع ما هو معلوم بالتفصيل.

ومما ذكرنا يظهر ضعف ما ادعاه بعض من علق على فرائد الشيخ الانصاري قدس‌سره بما حاصله ان قيام الامارة على أحد الاطراف مما يوجب الانحلال لانا نقطع بعدم وجود تكليف في غير ما قامت عليه الامارة لان احتمال التكليف في الطرف الآخر اما أن يكون من جهة احتمال وجود تكليف زائد على المعلوم بالاجمال ، واما ان يكون من جهة خطأ الامارة وكونها مخالفة للواقع ، اما الاول فهو منتف باصل البراءة.

واما الثاني فهو ايضا منتف بمقتضى دليل حجية الامارة باعتبار ان مفادها الغاء احتمال الخلاف وبالجملة ليس لنا دليل على وجوب تكليف في الطرف الآخر هذا غاية ما يقال من انحلال العلم الاجمالي.

١٢٢

واما ضعفه فقد عرفت مما ذكرناه سابقا من ان الشك إنما هو في انطباق المعلوم بالاجمال وهو المنشأ لاحتمال وجود التكليف في الطرف الآخر وبعبارة اخرى ان احتمال التكليف في الطرف الذي لم تقم عليه الحجة ليس منحصرا بما ذكر من الوجهين بل كما يكون من الوجهين كذلك يكون هذا الاحتمال من شيء آخر وهو احتمال انطباق المعلوم بالاجمال ببيان ان عندنا ثلاثة أشياء توجب احتمال وجود التكليف في الطرف الآخر شك ناشئ من وجود التكليف المتعلق بالزائد وهذا منتف باصل البراءة ، وشك ناشئ من عدم مطابقة الامارة للواقع وهو منتف بدليل حجية تلك الامارة ، وشك في انطباق المعلوم بالاجمال على الطرف الآخر ولم يكن لهذا الشك الاخير رافع فاذا لم يكن له رافع فيبقى المعلوم بالاجمال على حاله في مقام التأثير. فتحصل من جميع ما ذكرنا ان الانحلال الحقيقي للعلم الاجمالي فيما لو قامت حجة على أحد اطرافه غير معقول من غير فرق بين ما تكون الحجة علم تفصيلي او امارة او أصل شرعي أو عقلي.

إذا عرفت ان الانحلال الحقيقي غير معقول فيقع الكلام في الانحلال الحكمي هل هو معقول ام لا في جميع تلك الصور بمعنى ان قيام العلم التفصيلى او امارة او أصل شرعي قام على اطراف ما علم اجمالا هل يوجب رفع اليد عنه بنحو يكون رافعا لتنجزه ام لا؟ وتحقيق المقام يستدعي بيان مقدمتين.

الاولى ـ ان كل منجز يتعلق بامر هل يوجب تنجزه في الآن الذي تعلق به ام يكفي في تنجزه نفس حدوثه وبعبارة اخرى ان حدوث المنجز هل يكفي في تنجزه في الآن الثاني ام لا بد في تنجزه من بقائه بحيث لو فرض انعدامه لا يكون التكليف منجزا في ظرف انعدامه كما لم يكن منجزا قبل وجوده الظاهر هو الأول إذ كل منجز مقصور في تنجزه على وجوده فبعد انعدامه يرجع الى منجز آخر لو كان وإلا فالتكليف ليس بمنجز فلا يكفي في التنجز في البقاء صرف الحدوث

١٢٣

ويدل على ما ذكرنا انه لو علم بتكليف ثم شك في نسخه فانه لا اشكال في جريان الاستصحاب إذ لم يتوهم أحد بجريان البراءة والاحتياط ولو كان حدوث المنجز كافيا في التنجيز فلا بد للاصحاب من جريان الاحتياط. فمن ذلك يظهر ضعف ما ذكره الاستاذ في الكفاية من ان قيام المنجز على احد الاطراف فالذي علم اجمالا بتكليف يسقط العلم عن المنجزية من اول الامر ، وبيان ضعفه ما عرفت ان قيام كل منجز إنما يؤثر في الآن الذي هو فيه لا قبله ولا بعده ، وعليه يكون قيام المنجز على احد الاطراف إنما يمنع تأثير العلم من زمان قيامه لا من زمان قيام العلم.

المقدمة الثانية ان اثر الطبيعة إنما يكون مستندا اليها لو كان الاثر مترتبا على تقدير وجوده في هذا الفرد وذاك الفرد ، واما لو كان الأثر مترتبا على هذا الفرد على تقدير حلول الطبيعة في هذا الفرد دون ذاك الفرد فيستكشف بانه ليس لخصوص الطبيعة بل كان الاثر مترتبا على الطبيعة التوأم مع أحد الخصوصيتين ، نظير ذلك ما اذا كان شيء علة في التأثير في الجامع بنحو يكون علة تامة في التأثير لو كان الجامع اينما حل يكون ذلك علة تامة ، وأما لو كان علة تامة على تقدير حلول الجامع في فرد دون ذاك يستكشف انه لم يكن علة تامة للجامع بل كان للحصة من الطبيعة التي هي توأم مع أحد الخصوصيتين.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان العلم الاجمالي لما اقترن معه العلم التفصيلي قد تعلق باحد الاطراف او اقترن بامارة او أصل شرعي أو عقلي لا يكون العلم الاجمالي المتعلق بالطبيعة القابلة للانطباق على كل من الطرفين منجزا بل كان تنجيزه على تقدير دون تقدير فعلى تقدير كونه في غير ما قام عليه العلم التفصيلي أو امارة أو اصل يكون منجزا وعلة تامة ، واما على تقدير كونه في ضمن ما قام عليه العلم التفصيلي او امارة أو أصل يكون جزء المؤثر لاتمام المؤثر

١٢٤

فيسقط العلم عن المؤثرية لان شرط مؤثريته ان يكون مؤثرا على كل تقدير وهنا على تقدير دون تقدير.

فظهر مما ذكرنا ان قيام منجز يوجب الانحلال الحكمي لا الحقيقي من غير فرق بين ان يكون المنجز مقارنا او متقدما او متأخرا.

ومما ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره الشيخ الانصاري (قده) في فرائده من الانحلال الحقيقي لو قام علم تفصيلي والانحلال الحكمي لو قامت امارة او أصل لما عرفت من عدم معقولية الانحلال الحقيقي ، وان كان من جهة التقارن والتقدم والتأخر فان ذلك لا يوجب فرقا فيما نحن فيه إلا انه ربما يدعى الفرق بين التقدم والتقارن وبين التأخر بناء على ان حدوث المنجز يكفي في المنجزية بحسب البقاء بدعوى انه مع تأخر المنجز يكون العلم الاجمالي منجزا ومع تنجزه يمنع من تنجز المتأخر فلا يكون موجبا للانحلال إلا انك قد عرفت فساد المبنى.

وبالجملة انه لا وجه لدعوى لدعوى الانحلال الحقيقي فيما لو قام العلم التفصيلي على أحد الاطراف والحكمي فيما لو قامت امارة أو اصل لعدم الفرق بينهما ان قلنا بان قيام المنجز يوجب رفع اليد عن العلم الاجمالي فان ذلك يوجب الانحلال الحكمي من غير فرق بينهما. اللهم إلا ان يقال ان قيام العلم التفصيلي يوجب الانحلال الحقيقي بتقريب ان العلم التفصيلي إنما يتعلق بالطبيعة والخصوصية ، ومتعلق العلم الاجمالي نفس الطبيعة ، والخصوصية خارجة عن المتعلق فمع قيام التفصيلي على احد الاطراف يعين متعلق العلم الاجمالي في ضمن تلك الخصوصية التي صارت متعلقة للعلم التفصيلي قهرا حينئذ لا تبقى الطبيعة المطلقة القابلة للانطباق على الاجمال بل تنطبق على الخصوصية قهرا فيتخذ العلمان في شيء واحد وذلك يوجب الانحلال الحقيقي ولكنك قد عرفت ان متعلق العلم التفصيلي ليس الطبيعة مع الخصوصية وإنما الطبيعة الملحوظة مع الخصوصية بنحو تكون توأم معها فلم تكن من

١٢٥

الطبيعة السارية بخلاف الطبيعة المعلومة بالاجمال وإنما هي طبيعة سارية مطلقة فعليه كيف يكون متعلق العلم التفصيلي معينا لذلك الاجمال ، ولو امكن القول بالانحلال الحقيقي في صورة قيام العلم التفصيلي فاي فرق بين الصور الثلاثة فما فرق به الشيخ الانصارى في غير محله هذا على القول بالانحلال الحقيقي.

واما على ما هو المختار من عدم معقولية الانحلال الحقيقي والقول بالانحلال الحكمي ربما يقال بانه لا فرق بين انحاء الطرق بل حتى في الاصول المثبتة لاشتراك الجميع في تحقق ملاك الانحلال الحكمي إذ قيام منجز في أحد الاطراف باي نحو كان المنجز يوجب خروج العلم الاجمالي عن تمام التأثير لما عرفت من عدم تحمل تكليف واحد لتنجيزين ومع خروجه عن تمام المؤثرية فلا يكون مستقلا في التأثير نعم يكون تأثيره على تقدير دون تقدير وذلك مشكوك من اول الامر إذ لا يكون التكليف على ذاك التقدير متعلقا للعلم فما هو المعلوم الذي هو الجامع القابل للانطباق على كل واحد من الافراد غير قابل للتأثير وما هو القابل الذي هو الجامع المنطبق على الطرف الآخر لا يكون من أول الأمر معلوما لعدم تحقق القابلية على الانطباق على الطرف المعلوم بالتفصيل كما انه لا فرق بين كون ما قام عليه الطريق سابقا وبين ما هو مقارن إذ كونه سابقا لا يكون منشأ للانحلال إلا باعتبار بقائه الى حدوث العلم الاجمالي لان المنجز لا يكون حدوثه منجزا الى الابد بل منجزيته ما دام باقيا فلو كان حادثا ثم ارتفع تنجزه لا يوجب انحلاله فلا بد من أن يكون موجبا للانحلال إذا بقى على التنجيز ما دام منجزا حال حصول العلم الاجمالي فيرجع الى المقارن. واما اذا كان المنجز متأخرا عن العلم الاجمالي فقد وقع الكلام في انه يوجب الانحلال ام لا الظاهر عدم كونه موجبا للانحلال إذ العلم الاجمالي عند حدوثه قد أثر في التنجيز في جميع الاطراف والمنجز المتأخر غير قابل لرفع ما تقدمه من التنجيز اللهم ان يقال بناء على

١٢٦

ما ذكرنا من حدوث المنجز إنما يمتنع من تأثيره حين قيامه لا قبله فعليه يكون العلم الاجمالي علة للاشتغال بالتكليف المردد الى الابد ودوران تأثيره في كل آن مدار وجوده في ذاك الآن وبقائه على صفة تأثيره فالعلم التفصيلي ولو كان تعبديا بالتكليف في الطرف المعين من حين وجوده يكون من قبيل العلم المقارن فيمتنع عن استقلال العلم الاجمالي في مقام التنجيز فيسقط العلم الاجمالي عن التأثير في الجامع ، فعليه لا تجب رعاية الاحتياط في الطرف الآخر ، ولكن لا يخفى ان ذلك وان كان يوجب الانحلال إلا انه عندنا علم اجمالي آخر غير منحل يسمى بالتدريجي تارة وبالمورب اخرى.

بيان ذلك هو انا نعلم بنجاسة اناء مردد بين اناء زيد واناء عمرو مثلا ويفرض ذلك في ثلاثة اوقات اول الصبح ، وأول الزوال ، وأول الغروب فيكون عندنا ثلاثة علوم اجمالية حسب تعدد الوقت على نحو التدريج فحينئذ مقتضى تحقق العلم الاجمالي في الاوقات الثلاثة يجب الاجتناب عن الاناء المردد بين اناء زيد واناء عمرو وهذا العلم ينحل الى علوم عرضية وطولية اما العرضية فهي ثلاثة : علم اجمالي مردد بين الإناءين في أول الصبح ، وأول الظهر وأول الغروب وطولية وهي علم اجمالى مردد بين اناء زيد في اول الصبح ، وبين اناء عمرو في أول الظهر. أو بين اناء زيد أول الظهر مع اناء زيد اول الغروب ، او بالعكس الى غير ذلك من العلوم الاجمالية المسماة عند بعض (بالمورب) فلو قام منجز كالعلم التفصيلي او امارة او اصل على نجاسة اناء زيد في اول الزوال يسقط العلم الاجمالي الذي كان في حين قيام المنجز الذي هو عبارة عن العلم الاجمالي في اول الزوال بنجاسة اناء زيد مردد بين الإناءين الذي هو من العلوم العرضية ولا يسقط العلم الاجمالي وبين اناء زيد في اول الصبح واناء عمرو اول الزوال الذي هو من العلوم الطولية التدريجية فانه يبقى على تنجز العلم الاجمالي لما عرفت من عدم صلاحية المنجز

١٢٧

التفصيلي للتأثير في تنجيز العلوم السابقة لسبق تأثيره وتنجيزه فان العقل لما حكم بالاشتغال استدعى الجزم بالفراغ ما دام العلم باقيا وعدم انقلابه بالشك البدوي بالحدوث بنحو يكون من الشك السارى.

وبالجملة قيام المنجز في اول الزوال على نجاسة اناء زيد لا يرفع وجوب الاجتناب عن اناء عمرو في اول الزوال إذ قيامه اوجب زوال العلم الاجمالي العرضي وهو انا نعلم بنجاسة أحد الإناءين في أول الزوال ، واما العلم الاجمالي بنجاسة اناء زيد في أول الصبح وبين اناء عمرو أول الزوال لم يرتفع لعدم قيام المنجز على أحد طرفي هذا العلم الاجمالي التدريجي فيكون باقيا على تنجزه والحاصل انه لو قلنا بعدم معقولية الانحلال الحقيقي وان قيام المنجز إنما يمنع عن تنجزه لا عن وجوده فهو وان كان قيامه تفصيلا يمنع عن تأثيره وتنجيزه إلا ان ذلك يرفع العلم الاجمالي مع قيامه على اطرافه واما مع عدم قيامه على أحد اطرافه كما فرض ذلك في العلم الاجمالي التدريجي فلا يكون موجبا لسقوط مثل ذلك العلم الاجمالي فيبقى على تأثيره فيجب الاحتياط في الطرف الآخر.

فظهر مما ذكرنا انه مع القول بالانحلال الحكمي كما هو الحق يجب الاحتياط عن الطرف الآخر لوجود العلم الاجمالي التدريجي المسمى بالمورب اللهم إلا ان يقال بعدم تنجز العلم الاجمالي المورب أي التدريجي لدورانه بين ما هو محل للابتلاء وما هو خارج عن محل الابتلاء فان العلم الاجمالي بنجاسة اناء زيد في اول الظهر الذي هو خارج عن محل الابتلاء واناء عمرو في أول الصبح الذي هو خارج عن محل الابتلاء فان مثل هذا العلم الاجمالي بخروج بعض اطرافه ليس بمنجز إذ من شرط تنجزه أن تكون جميع اطرافه محلا للابتلاء وهذا الشرط ليس مختصا بالعلم المورب بل يجري في جميع أقسام العلم الاجمالي في ان شرط تنجزه ان

١٢٨

تكون جميع الاطراف محلا للابتلاء من غير فرق بين أن تكون العلوم عرضية أو تدريجية ، ولكن لا يخفى ان الخروج عن محل الابتلاء إنما يضر بتنجز العلم لو كان حاصلا من غير جهة الاطاعة والعصيان واما لو كان ناشئا من جهة الاطاعة والعصيان لا يضر بتنجز العلم الاجمالي كما في المقام.

بيان ذلك ان ما يكون حاصلا من غير جهة الاطاعة والعصيان إنما يكون مضرا بمقام الاشتغال ويكون مانعا عن تنجز التكليف بخلاف ما يكون ناشئا من جهة الاطاعة والعصيان فانما يكون مانعا ومضرا بمقام الفراغ من غير جهة التنجز نظير جعل البدل على ما هو التحقيق بانه يضر بعالم الفراغ لا بعالم الاشتغال.

وبالجملة حصول الخروج عن العهدة ان كان قبل العلم الاجمالي يكون مانعا من التنجز واما لو كان حاصلا بعد العلم الاجمالي فلا يضر بتنجزه وبعد معرفة ما ذكرنا فاعلم ان قيام المنجز على بعض اطراف العلم الاجمالي فان كان قبل العلم الاجمالي فيمنع من تنجزه مع بقاء ذلك المنجز الى حين حدوث العلم الاجمالي ليكون من قبيل المقارن الذي هو معلوم عدم تنجزه وإلا فلا إلا أن يكون هناك علم اجمالي مورب وعند التأمل يكون المنجز لم يقم على احد اطراف ذلك العلم الاجمالي التدريجي المسمى بالمورب فكون العلم من المورب هو الفارق بين كون المنجز قبل العلم أو بعده.

ومما ذكرنا ظهر حال ما لو اضطر الى بعض الاطراف او تلف بعضها فانه يجب رعاية الاحتياط في الطرف الآخر وليس ذاك إلا من جهة العلم الاجمالي التدريجي الموجب لكون جميع الآنات الباقية من اطراف العلم الاجمالي.

وبالجملة العمدة في المقام وباب الاضطرار والتلف هو رعاية الاحتياط في الطرف الآخر لأجل العلم الاجمالي التدريجي المردد بين ثبوت التكليف في الآن الاول في طرف وبين بقائه في الآنات الباقية لحكم العقل بمثله بالاشتغال بمتعلقه

١٢٩

المردد بينهما فيجب الاحتياط في الطرف الآخر ولو حصل الشك في السقوط إذ العقل لا يعتني بالسقوط مع العلم بالاشتغال بل يستدعي الفراغ اليقيني بعد تحقق اليقين بالاشتغال.

ومما ذكرنا من مؤثرية العلم الاجمالي المورب هو الذي اقتضى الاجتناب عن الطرف الآخر انه لا وجه لدعوى الفرق بين قيام الامارة والأصل بتقريب ان الامارة دالة على احتمال الخلاف فتدل على تعيين المعلوم بالاجمال في مؤداها بخلاف الاصول فان لسانها ترخيص فلا يوجب انحلال العلم الاجمالي وحاصل الفرق ان دليل اعتبار الامارة تدل بالدلالة الالتزامية على تعيين المعلوم بالاجمال في مؤداها بخلاف الاصل فانه ليس له تلك الدلالة بل ربما يقال ان الاصحاب جوزوا قيام الامارة على احد اطراف العلم الاجمالي ومنعوا من جريان الاصل في أحد الاطراف ببيان ان الامارة يستفاد منها تلك الدلالة الالتزامية فيوجب انحلاله بخلاف الأصل فانه غير متضمن لتلك الدلالة وان العلم الاجمالي علة للتنجز فلذا لا يمكن جريان الاصل في أحد الاطراف ولاجل ذلك صار منشأ للقول بالانحلال عند قيام الامارة وعدم الانحلال عند جريان الأصل ولكنك قد عرفت ان منجزية العلم الاجمالى في التدريجات يوجب الاجتناب عن الطرف الآخر وذلك موجب لعدم انحلاله الى علم تفصيلي وشك بدوي.

ثم لا يخفى ان محل الكلام في انحلال العلم الاجمالي لو تقارن معه العلم التفصيلي فيما إذا لم يكن ناشئا منه ، واما لو كان ناشئا منه كما لو علمت تفصيلا بوجوب الطهارة وكان ناشئا من العلم الاجمالي بالوجوب المردد بين كون الوجوب مقدمة للصلاة او وجوبا نفسيا فلا يوجب العلم التفصيلي المتولد من العلم الاجمالي انحلال العلم الاجمالي ولو كان مقارنا إذ العلم الاجمالي في هذا الفرض هو علة لتحقق العلم التفصيلي ومع كونه علة يلزم ان يكون مقدما عليه طبعا

١٣٠

فالاثر يستند الى العلة لتقدمها على المعلول فلا تصل النوبة الى المعلول لكي يكون موجبا للانحلال. إذا عرفت بان العلم الاجمالي المقارن للعلم التفصيلي يوجب الانحلال والمتأخر لا يوجب الانحلال بالبيان السابق فربما يقال بتمامية استدلال الاخباريين بدليل العقل حيث ان العلم الاجمالي بوجود تكاليف واقعية يكون منجزا ولا ينحل بالعلم التفصيلي بالمحرمات بمقدار المعلوم بالاجمال لتأخره عنه إذ لم يحصل ذلك إلا بتتبع الاخبار وملاحظة الاجماعات والاصول المثبتة للتكاليف فيكون هذا العلم التفصيلي متأخرا عن العلم الاجمالي ومع فرض تأخره لا يوجب الانحلال ويكون منجزا فيجب الأخذ بالاحتياط فيما لم تكن هناك امارة تدل على الحرمة.

وبالجملة الاحتياط يجب في كل ما يشك في كونه من المحرمات بعد حصول العلم التفصيلي بمقدار من المحرمات وبذلك يتم دليل الاخباري على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية ولكن لا يخفى ان ذلك في محل المنع إذ في المقام منجز متحقق مقارن مع العلم الاجمالي بنحو يمنع تأثيره وتنجزه وهو حكم العقل بمنجزية الاحتمال بمناط الشبهة قبل الفحص وحينئذ يكون العلم الاجمالي مع هذا الاحتمال كالعلم الاجمالي المقارن مع العلم التفصيلي فكما ان مقارنة العلم التفصيلي يوجب انحلاله ولا يجعله مؤثرا فكذلك الاحتمال في الشبهة قبل الفحص فانه يوجب انحلاله لكونه من المنجز المقارن الموجب للانحلال فتكون الشبهة بعد الفحص من الشبهات البدوية التي هي من موارد جريان البراءة وبذلك تعرف ان الشبهات بعد الفحص ليست من اطراف العلم الاجمالي المنجز إذ الاحتمال اسقط تنجزه فلا تجب رعاية العلم الاجمالي لانحلاله الى مؤديات الطرق التي حصلت بالفحص وشك بدوي وهي الشبهات التي حصلت بعد الفحص فيكون حينئذ من موارد جريان البراءة فلا تغفل.

١٣١

الوجه الثانى من دليل العقل هو ان احتمال التكليف الوجوبي أو التحريمي مساوق لاحتمال الضرر على مخالفته فيحكم بدفع الضرر المحتمل وقد جعل ذلك اصلا قال الشيخ الانصاري (قده) ما لفظه ان الاصل في الافعال غير الضرورية الحظر كما نسب الى طائفة من الامامية فيعمل به حتى يثبت من الشرع الاباحة ولم يرد فيما لا نص فيه وما ورد على تقدير تسليم دلالته معارض بما ورد من الامر بالتوقف والاحتياط فالمرجع الى الاصل (١) وقد أجاب (قده) بما حاصله ان الضرر ان

__________________

(١) وقد أجاب المحقق الخراساني بثلاثة اجوبة :

الاول ـ أن الاستدلال بما هو محل الخلاف والاشكال ... الخ. وحاصله ان الاستدلال بمثل ذلك مصادرة لا يصار اليها وإلّا لصح الاستدلال على البراءة بان الاصل في الاشياء الاباحة حتى يرد النهي كما هو مفاد كل شيء مطلق حتى يرد النهى.

الثاني ـ انه ثبتت الاباحة شرعا لما عرفت من عدم صلاحية ما دل على التوقف ... الخ. وحاصله اعتراض على قول المستدل بانه لو سلمنا ان الاصل في الافعال غير الضرورية هو الحظر حتى يثبت من الشرع الاباحة فنقول انه ثبتت الاباحة بالادلة الدالة على البراءة من الآيات والروايات.

الثالث ـ انه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة للقول بالاحتياط في هذه المسألة ... الخ.

بيان ذلك ان النزاع في تلك المسألة في حكم العقل عند النظر الى نفس الشيء باعتبار كونه مشتملا على المصلحة مع قطع النظر عن العناوين الثانوية وفي هذه المسألة في حكم العقل باعتبار كونها من العناوين الثانوية فالوقف هناك لا يستلزم الوقف في هذه المسألة إذ من المعلوم ان العقل يتوقف عن الحكم

١٣٢

كان هو العقوبة فنمنع الصغرى لاستقلال العقل بدفعها لقبح العقاب من دون بيان وان كانت غيرها فنمنع الكبرى لعدم وجوب دفعها فيما إذا لم تدخل تحت عنوان المؤاخذة المترتبة على الجهل إذ العقل لا يحكم بوجوب الاحتراز عن المضرة الدنيوية بل جوزوا الاقتحام في بعض الموارد إذا كانت لبعض الدواعي

__________________

بالاباحة أو الحظر بالنظر الى نفس الشيء بعنوانه الاولى وذلك لا يستلزم توقفه عن الحكم بذلك بالنظر لعنوانه الثانوى فيجوز ان يحكم بالبراءة لقاعدة قبح العقاب من دون بيان.

ثم ان المحقق النائيني (قده) منع من كون الاصل في الاشياء الحظر وقال بان الاصل فيها الاباحة واستدل عليه بعموم قوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) وقد اشكل بعض في شرحه على الرسائل بان الاستدلال بالآية على الاصل المذكور محل نظر بما حاصله ان الظاهر منها ان هذه المخلوقات كانت لبنى آدم من جهة الآثار التكوينية وإلا يلزم تخصيص الاكثر إذ المحللات قليلة بالنسبة الى المحرمات ولكن لا يخفى ما فيه اذ مقتضى عموم الآية تشمل الآثار التكوينية والآثار التشريعية فلا مانع من التمسك بها للاصل المذكور فعليه لا وجه لدعوى اختصاصها بالآثار التكوينية والناظر الى تفسير الآيات يجد صدق ما ادعيناه من الاخذ بعمومها ولا يؤخذ بتخصيصها إلا مع دليل يدل عليه ولو كان رواية وقد شاع تخصيصها بالروايات الواردة من الأئمة سلام الله عليهم ولا يلزم كثرة التخصيص بناء على هذا التعميم لدخول اكثرها تحت عنوان يكون بذاك العنوان مخصصا وكيف كان فدعوى التخصيص من دون دليل عليه يكون من التفسير بالرأي والامور الاستحسانية او الاعتبارات لا توجب ظهورا لكى يؤخذ بها كما لا يخفى ، التحقيق ان مسألة الحظر والاباحة مع مسألة البراءة

١٣٣

النفسانية وعلى تقدير استقلال العقل فالمقام يكون من الشبهات الموضوعية التي يجب التحرز عنها عند الجميع. على انه بالنسبة الى الضرر المتدارك لا يجب التحرز عنه.

المسألة الثانية : فيما لو شك في حرمة شيء من جهة اجمال النص فنقول : ان الاجمال تارة يكون ناشئا من اجمال الهيئة كما لو تعقب النهي عقيب توهم الوجوب لتردده بين دلالته على التحريم أو غيره ، واخرى يكون الاجمال في المادة من حيث الاطلاق والتقييد كما لو علم بحرمة المسكر وشك في كونه في خصوص الخمر المسكر ، أو مطلق المسكر ، وثالثة يكون الاجمال ناشئا من المادة من حيث اجمال المفهوم كالغناء. فان الغناء مردد بين أن يكون الصوت المطرب

__________________

او الاحتياط مختلفان موضوعا ومحمولا وملاكا واثرا ومع هذا الاختلاف كيف يقال بان الحكم في احدهما يستلزم الحكم في الآخر.

بيان ذلك ان الموضوع في مسألة الحظر والاباحة هو الفعل بذاته مع قطع النظر عن ورود الحكم الشرعي والموضوع في مسألة البراءة والاحتياط هو قبح العقاب في البراءة ودفع الضرر في الاحتياط واما ملاكا ففي الحظر ان العقل يحكم بان العبد مملوك لله تعالى وناصيته بيده فلا يصح ان يتصرف إلا باذنه اذنا مالكيا فلو فعل مع عدم الاذن يخرج عن زي الرقية فيكون فعله قبيحا مذموما عند العقلاء ، وملاك الاباحة ان الفعل مع عدم الاذن لا يوجب الخروج عن زي الرقية لعدم وصول التكليف اليه إذ لا تكليف لكي يتحقق المنع واما اختلافهما محمولا فالمحمول هو الحظر والاباحة في المسألة الاولى ونفي العقوبة وايجاب الاحتياط في الثانية وقيل في الاولى واقعية وفي الثانية ظاهرية واما اختلافهما اثرا فلان الحظر في المسألة الاولى من حيث كونه خروجا عن زي الرقية لعدم الاذن المالكي فهو معاقب على أى حال بخلاف الاحتياط في المسألة الثانية فانه من حيث تنجيز التكليف فيدور مدار مصادفة الواقع على تفصيل ذكرناه في حاشيتنا على الكفاية.

١٣٤

مع الترجيع ، أو مطلق الصوت المطرب ، وعلى كل ان متعلق النهي تارة يكون الطبيعة السارية فينحل النهي المتعلق بالطبيعة السارية الى نواهي عديدة بنحو يكون كل واحد لا ربط له بالآخر ، واخرى يكون النهي يتعلق بصرف الوجود بنحو يكون عصيانا واحدا واطاعة واحدة بخلاف الاول فانه يكون لكل فرد من افراد النهي له اطاعة وله عصيان.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان جميع ما ذكر في الشبهة التحريمية الحكمية من جهة فقد النص يجري هنا من دون فرق بينهما سوى ما يتوهم بان النهي إذا كان بنحو الاخير يكون المطلوب صرف الوجود فيكون المطلوب وجوب الاجتناب عن كل ما يحتمل كونه فردا من افراد الطبيعة المنهي عنها ، وهو عبارة عن القول بالاحتياط ، وقد اجاب الاستاذ (قده) في الكفاية بما حاصله ان التكليف إنما يكون منجزا فيما دل عليه الخطاب ، لو لم يكن هناك قدر متيقن وإلا يكون الزائد عليه عقابا بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان ، هذا ويمكن تقرير الاشكال على وجه لا يرد عليه ما ذكره الاستاذ (قده) وهو انه لو بني على النحو الثاني وهو ان يكون متعلق النهي صرف الوجود ، فيكون اطاعة واحدة وعصيانا واحدا ، فالشك فيه يكون من الشك في القدر الواجب ، أي شك في تحقق المتعلق ، فيجب الاجتناب فيه لان الشك يكون في الخروج عن العهدة بعد العلم باشتغال الذمة وشغل الذمة اليقينية يستدعي الفراغ اليقينى ، اللهم إلا ان يقال بان صرف الوجود عبارة عن قابلية الانطباق على الكثير أو القليل ، إلا انه إذا انطبق على القليل يكون عين القليل ، واذا انطبق على الكثير يكون عين الكثير فيرجع الشك في فردية ما في الخارج للطبيعة الى الشك في شمول متعلق التكليف بنحو يسع هذا المشكوك ام لا؟ ومرجع ذلك الى الشك في التكليف الذي هو مجرى البراءة ، ولا يكون المقام من الشك في المحصل ، بل هو

١٣٥

اجنبي عنه ، إذ الشك في المحصل شك في تحصيل الواجب الموجب لتحصيله باليقين ، إذ اشتغال الذمة اليقينية ، تستدعي الفراغ اليقيني ، وليس المقام من ذاك القبيل لرجوعه الى الشك في التكليف الذي هو مجرى للبراءة ، وبالجملة جميع افراد ما يكون الاشتباه لاجل اجمال النص ، تجري فيه البراءة ، إلا ما كان اجمال المتعلق من قبيل دوران الامر بين المتباينين ، فانه مجرى لقاعدة الاشتغال وسيأتي ان شاء الله تعالى مزيد توضيح في قاعدة الاشتغال.

المسألة الثالثة ـ فيما لو شك في حرمة شيء لاجل تعارض النصين والكلام فيها تارة مع عدم ملاحظة الاخبار العلاجية واخرى مع ملاحظتها اما على الاول فالقاعدة تقتضي فى مورد التعارض التساقط ومع التساقط تكون هذه المسألة من صغريات فقد النص والحكم فيها كما ذكرنا في تلك المسألة إذ المناط فيها فقد الحجة من غير فرق بين ان لا يكون نص اصلا او سقط عن الحجية بالتعارض واما على الثاني فينبغى ان لا تعد هذه المسألة من مسئلة اصل البراءة لان مجراها في ظرف عدم البيان والعمل بالترجيح او التخيير ليس عملا من دون دليل.

بيان ذلك ان كان في احد الخبرين مزية وخصوصية فيؤخذ بها ويعمل على طبقها وذلك ليس عملا من غير دليل لكي تجرى البراءة كما ان الاخذ بالاحتياط ليس الاخذ به من غير دليل على ان الاحتياط ليس مرجعا بل يؤخذ به لاجل كونه مرجعا لاحد الخبرين فيكون عملا بالخبر الموافق فلا يكون من موارد عدم الدليل لكي يكون الاخذ بالاحتياط مؤيدا للقول بالاحتياط في تلك المسألة نعم لو كان الاخذ بالاحتياط مرجعا بمعنى عدم العمل بالخبرين وطرحهما يؤخذ به فحينئذ يندرج المقام بمسألة فقد النص وان لم يكن في أحد الخبرين مرجح فيحكم التخيير وليس ذلك عملا من دون دليل

١٣٦

ولا تجري البراءة لعدم كونها من موارد عدم الدليل لقيام الدليل على التخيير فيما نحن فيه مع عدم المرجح ولم يحكم بتساقط الدليلين لكي يندرج المقام تحت مسألة فقد النص وان كان المقام مع قيام الدليل على التخيير نتيجته نتيجة أصل البراءة إلا انه ليس من مواردها على انه ربما يقال باختلاف النتيجة ايضا اذ التخيير في المقام هو التخيير الابتدائي لكونه تخييرا في المسألة الاصولية والتخيير في مسألة البراءة تخيير استمراري لكونه تخييرا في المسألة الفرعية فكم فرق بين المسألتين.

هذا كله بناء على ان التخيير والترجيح يجري في مطلق المتعارضين واما على ما هو المختار من انهما في خصوص تعارض الخبرين فحينئذ يدخل تعارض الآيتين أو الاجماعين تحت المسألة المذكورة فافهم وتأمل.

الشبهة الموضوعية

المسألة الرابعة فيما لو شك في الحكم الشرعي من جهة الاشتباه في الموضوع الخارجي كما لو شك في مائع خاص انه خمر ام خل؟ فلا خلاف حتى عند الاخباريين بان مقتضى الاصل هي الاباحة وتجري البراءة بالنسبة الى الحرمة المشكوكة وعليه تدل جميع الأدلة المتقدمة من الكتاب والسنة والاجماع والعقل بل بعضها ظاهرة الاختصاص بالشبهة الموضوعية كرواية مسعدة بن صدقة هذا ولكن الشيخ الانصاري (قده) حكي عن بعض المحققين جريان البراءة في الشبهات الحكمية وعدم جريانها في الشبهات الموضوعية بما حاصله ان الشك في الشبهة الموضوعية ليس في توجه الحكم وإنما الشك في مقام الامتثال والتطبيق فلا بد من الرجوع الى الاحتياط بخلاف الشك في الحكمية فان الشك راجع الى نفس التكليف فيكون

١٣٧

من موارد جريان البراءة وقد دفع هذا التوهم بما حاصله ان النهي عن الخمر كان بنحو الكبرى الكلية الذي أوجب تنجز حرمة جميع الصغريات المعلومة تفصيلا أو اجمالا فالاجتناب عن الاول لا يحتاج الى المقدمة العلمية بخلاف الثاني فانه يحتاج الى المقدمة العلمية التي هي اطراف العلم الاجمالي فما احتمل خمرية شيء لما لم تكن معلومة تفصيلا وليس من اطراف المعلوم اجمالا فلم يكن النهي منجزا بالنسبة اليه لكي يجب الاجتناب عنه فيكون من موارد جريان البراءة وحيث ان كلامه لا يتم على الاطلاق لذا عدل الاستاذ (قده) في الكفاية بما حاصله ان النهي عن الشيء على قسمين فتارة يكون انحلاليا بنحو يكون كل فرد من افراد الطبيعة محكوما بحكم مستقل واخرى لا يكون انحلاليا بل يكون حكما واحدا متعلقا بمجموع التروك وعلى الاول يكون الشك في انطباق الطبيعة على الموضوع الخارجي فيكون الشك في محتمل فرديته من الشك في التكليف الذي هو مجرى البراءة وعلى الثاني ان التكليف قد تعلق بترك الطبيعة وذلك لا يحرز امتثاله إلا بترك كل ما يحتمل فرديته تحصيلا للقطع بفراغ الذمة.

بيان ذلك ان متعلق النهي تارة يكون بنحو الطبيعة السارية ، واخرى يكون بنحو صرف الوجود فان كان على الاول فلا اشكال في ان ما شك في كونه من متعلق النهي موردا لجريان البراءة من غير فرق بين ان يكون الاشتباه في الامور الخارجية ، كما هو فيما نحن فيه ، او الاشتباه في الحكم لاجل فقد النص ، أو اجماله ، إذ النهي المتعلق في الطبيعة السارية ينحل الى نواه متعددة ، فتكون المسألة من صغريات دوران الأمر بين الاقل والاكثر ، ففي الأقل يؤخذ به ، وفي ما عداه تجري البراءة ، وان كان النهي على النحو الثاني بان يكون علي نحو صرف الوجود ، فيمنع من جريان البراءة ، إذ مرجعه الى الشك في المحصل ، لان ترك الطبيعة لا يحصل إلا من مجموع التروك ، فالشك في فرد يكون شكا في

١٣٨

المحصل ، ولا اشكال في جريان قاعدة الاشتغال ، لانه يكون من الشك في الخروج عن العهدة ، بعد اشتغال الذمة قطعا ، وشغل الذمة اليقينية يستدعي الفراغ اليقيني ، اللهم إلا ان يقال : بان ترك الطبيعة ليس أمرا بسيطا يحصل من مجموع التروك بل هو نفس التروك ، فكما ان وجود الطبيعي عين افراده كذلك ترك وجود الطبيعي عين ترك تلك الافراد ، فمرجع الشك في فرد الطبيعة الى الشك في سعته فحينئذ يكون من دوران الامر بين الاقل والاكثر فيؤخذ بالاقل ويترك الاكثر المشكوك لكونه من الشك في التكليف فيكون العقاب عليه عقابا من دون بيان (١) هذا بالنسبة الى النهي. واما بالنسبة الى الأمر

__________________

(١) هذا في التكليفي التحريمى واما في الحكم الوضعى بان يستفاد من النهي الشرطية تارة والمانعية اخرى وعلى الثاني فتارة يكون النهى انحلاليا واخرى صرف الوجود وثالثة أمر بسيط يحصل من جميع التروك فان كان على النحو الاول فمرجعه الى الشك في الشرطية وذلك يحتاج الى احراز ولا يحصل إلا باتيان ما تيقن بحصول الشرطية وحينئذ يكون من موارد جريان قاعدة الاشتغال كما انه على النحو الاخير يكون من الشك في المحصل إذ العدم البسيط الحاصل من مجموع التروك لا يحصل إلا بترك جميع ما يحتمل انه منهى عنه وهو من موارد قاعدة الاشتغال واما على الوجه الاول من المانعية يكون مرجعه الى الشك في تعلق النهي لفرض ان النهي كان بنحو الانحلال فيكون من الشك في المانعية ومن الواضح انه من موارد البراءة لكونه من الشك في التكليف وهكذا على الوجه الثاني منها إذ مرجعه الى الشك في تعلق التكليف به بمعني انا نشك في كون الترك المشكوك مما اعتبر ضمه الى بقية التروك فيكون من الشك في تعلق التكليف الضمنى وهو من موارد جريان البراءة إذ مجراها الشك في التكليف من غير فرق بين كونه استقلاليا أو ضمنيا.

١٣٩

فتارة يكون المتعلق هو صرف الوجود واخرى يكون المتعلق الطبيعة السارية فان كان على النحو الاول يكون التكليف قد تعلق بصرف الوجود ، فالشك في تحققه يكون من الشك في الخروج عن العهدة ، وذلك مجرى للاشتغال للاستقلال العقل بالاتيان به والخروج عن عهدته بعد العلم باصل الخطاب من دون اجمال في ناحية الحكم والتكليف ، ولا من ناحية الموضوع والمتعلق هذا إذا لم يكن له تعلق بموضوع خارجى ، اما إذا كان له تعلق بموضوع خارجى فان كان التكليف مطلقا

__________________

إذا عرفت ذلك فاعلم ان النزاع المعروف في اللباس المشكوك كونه مما لا يؤكل لحمه هل تصح فيه الصلاة ام لا؟ مبني على ما ذكرنا فان قلنا بالشرطية بمعنى انه يشترط في الصلاة ألا يكون مما لا يؤكل لحمه ، فيجب احراز ذلك بخلاف ما لو قلنا بالمانعية بناء على الانحلال فانه لا يجب احراز كونه مما يؤكل بل نفس الشك يوجب ان يشك في تعلق النهي وهو من الشك في التكليف الذي هو من موارد جريان البراءة قيل بالاول استنادا الى ما ورد في ذيل رواية ابن بكير (لا يقبل الله تلك الصلاة حتى يصليها في غيره مما قد أحل الله اكله فان الظاهر منها اعتبار المأكولية فحينئذ يجب احراز ذلك ولكن لا يخفى ان ذيلها وان كان ظاهرا في الشرطية إلا ان صدرها مع بقية الروايات ظاهرة في المانعية والذيل يحمل على ان الصلاة الواقعة في اجزاء الحيوان بعد الحكم بالبطلان إذا وقعت في غير المأكول فحينئذ لا بد من وقوعها في المأكول. فلذا اخترنا في الفقه ان النهي إنما هو على نحو المانعية والظاهر ان المانعية على نحو الانحلال إذ الظاهر من النواهي في المقام هو ذلك ولا ينافي كونها للارشاد إذ لا فرق في ظهور النهي في الانحلال بين كونه للارشاد وبين غيره.

وبالجملة النواهي الدالة على الحكم التكليفي التحريمي تدل على الانحلال كذلك النواهي الدالة على الحكم الوضعي المستفاد منها الارشاد كما اذا شك في

١٤٠