الطّرائف في معرفة مذاهب الطوائف

السيّد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني الحلّي [ السيّد بن طاووس ]

الطّرائف في معرفة مذاهب الطوائف

المؤلف:

السيّد رضي الدين أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس الحسني الحلّي [ السيّد بن طاووس ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٣

فمنها في الكتاب المذكور في كتاب الرجاء والخوف في أواخر قول الغزالي بيان أقسام الخوف بالإضافة إلى ما يخاف منه ، فقال الغزالي في تشبيه عدم رحمة الله بعباده وقسوته عليهم وقلة مبالاته بهلاكهم ما هذا لفظه : إن السبع يخاف لا لجناية سبقت إليه منك بل لصفته وبطشته وسطوته وكبره وهيبته ، ولأنه يفعل ما يفعل ولا يبالي ، فإن قتلك لم يرق قلبه ولا يتألم بقتلك وإن خلاك لم يخلك شفقة عليك وإبقاء على روحك بل أنت عنده أخس من أن يلتفت إليك حيا كنت أو ميتا ، بل إهلاك ألف مثلك وإهلاك نملة عنده على وتيرة واحدة، إذ لا يقدح ذلك في عالم سبعيته وما هو موصوف به من قدرته وسطوته ، ولله المثل الأعلى ، ولكن من عرفه عرف بالمشاهدة الباطنة التي هي أقوى وأوثق وأجلى من المشاهدة الظاهرة أنه صادق في قوله : هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي ، ويكفيك من موجبات الهيبة والخوف المعرفة بالاستغناء وعدم المبالاة (١).

(قال عبد المحمود) : أنظر رحمك الله إلى هذا الخبر الذي قد تلقاه هذا الشيخ الموصوف بالعقل والفضل بالقبول ، ثم ما كفاه ذلك حتى ادعى أنه يعلم ذلك بالباطن ، وما أدري كيف التبس بطلان الخبر عليه وعلى هؤلاء الأربعة المذاهب وكل العقلاء مجمعون مع اختلاف مللهم وعقائدهم إن الله تعالى أرحم الراحمين ، وشهد المسلمون أن الأنبياء يشهدون أن الله أرحم الراحمين ، فمن ذلك في كتابهم قول موسى عليه السلام " رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين " (٢).

ومن ذلك قول يوسف عليه السلام " اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " (٣)

__________________

(١) إحياء علوم الدين : ٤ / ١٥٩ ـ ١٦٠.

(٢) الأعراف : ١٥١.

(٣) يوسف : ٩٢.

٣٢١

ومن ذلك قول أيوب عليه السلام " رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " (١).

فكيف صدق هؤلاء الأربعة المذاهب أن نبيهم يأتي بهذه الصفة العظيمة في الرحمة عن الله ويقول عن أرحم الراحمين إنه خلق خلقا لم يعصوه فيما مضى ولا يعصونه فيما يستقبل ولم يجعل لهم اختيارا في أنفسهم كما زعمت المجبرة بل كلما يقع منهم فإنه منه ، ثم يحملهم إلى النار ليعذبهم على غير الذنب أبد الأبدين ويقول هؤلاء إلى النار ولا أبالي ، أن لا يليق ذكره من رحيم فكيف من أرحم الراحمين.

ويدل على بطلان هذا الخبر ما رواه هؤلاء القوم في صحاحهم عن ثقات رجالهم.

فمن ذلك ما رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين في الحديث الحادي والعشرين من أفراد مسلم في مسند عمر بن الخطاب قال : قدم على رسول الله " ص " بسبي ، فإذا امرأة من السبي تسعى ، إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته ، فقال لنا رسول الله " ص " : أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا : لا والله وهي تقدر على أن لا تطرحه ، فقال رسول الله : الله أرحم بعباده من هذه المرأة بولدها (٢).

(قال عبد المحمود) : من يروي مثل هذا الخبر في وصف الله تعالى بهذه الرأفة والرحمة كيف يصدق قائلا ينقل هؤلاء إلى النار ولا أبالي على ما فسروه.

ومن ذلك ما رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين أيضا في الحديث السادس عشر من المتفق عليه من مسند أبي هريرة من حديث عطاء بن أبي رياح عن أبي هريرة عن النبي " ص " قال : إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة

__________________

(١) الأنبياء : ٨٣.

(٢) مسلم في صحيحه : ٤ / ٢١٠٩ كتاب التوبة.

٣٢٢

بين الجن والإنس والبهائم والهوام ، فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها ، وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة (١).

(قال عبد المحمود) : فهل ترى أيها العاقل هذه صفة من يقول هؤلاء إلى النار ولا أبالي.

ومن ذلك ما رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين في الحديث السادس والعشرين بعد المائة من أفراد مسلم من مسند أبي هريرة قال : قال رسول الله " ص " إن الله عز وجل يقول يوم القيامة : يا بن آدم مرضت فلم تعدني ، قال : يا رب كيف أعودك؟ وأنت رب العالمين. قال : أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده ، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا بن آدم استطعمتك فلم تطعمني.

قال : يا رب وكيف أطعمك؟ وأنت رب العالمين. قال : أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا بن آدم استسقيتك فلم تسقني. قال : يا رب كيف أسقيك؟ وأنت رب العالمين قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه ، أما علمت أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي (٢).

(قال عبد المحمود) : أنظر أيها العاقل كيف بلغت رحمة الله بعباده إلى أن جعل ما يصل إلى مريضهم وجائعهم وعطشانهم كأنه واصل إليه ، أما هذا من كمال رحمته لهم وعنايته بهم وشفقته عليهم ، أفيليق أن يقال عن هذا الرب الرحيم أنه قال هؤلاء إلى النار ولا أبالي.

ومن ذلك ما رواه الحميدي في الجمع الصحيحين في الحديث الحادي

__________________

(١) رواه مسلم في صحيحه : ٤ / ٢١٠٨.

(٢) مسلم في صحيحه : ٤ / ١٩٩٠ كتاب البر والصلة.

٣٢٣

والثلاثين من المتفق عليه من مسند عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله " ص " يقول: لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه ، فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته ، فطلبها حتى أدركه العطش ، ثم قال : أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه ، فأنام حتى أموت ، فوضع رأسه على ساعده ليموت ، فاستيقظ وعنده راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه ، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته عنده عليها زاده (١).

ورواه أيضا الحميدي من مسند براء بن عازب في الحديث السادس من أفراد مسلم(٢).

وروى الحميدي أيضا نحو ذلك من مسند النعمان بن بشير في الحديث الأول من أفراد مسلم (٣).

وروى الحميدي أيضا نحو ذلك في الحديث الثالث بعد المائة من المتفق عليه من مسند أنس بن مالك (٤).

(قال عبد المحمود) : فمن تبلغ رحمته إلى هذه الغاية كيف يقال عنه أنه قال : هؤلاء إلى النار ولا أبالي ، ما أقبح مناقضة هؤلاء الأربعة المذاهب في أقوالهم وما أطرف استمرارهم على ضلالهم.

ومن طرائف ما وقفت عليه في الجمع بين الصحيحين للحميدي في مسند عمر بن الخطاب في الحديث الرابع من أفراد مسلم المتضمن أن أول من قال بالقدر بالبصرة معبد الجهني ، وأن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحميدي لقيا عبد الله بن عمر بن الخطاب فسألاه فصدق المعبد الجهني.

وفي أواخر الحديث عن ابن عمر قال : حدثني عمر بن الخطاب أن

__________________

(١ ـ ٤) رواه مسلم في صحيحه : ٤ / ٢١٠٣ الباب الأول من كتاب التوبة.

٣٢٤

رسول الله " ص " قال : التقى آدم وموسى فقال موسى : أنت يا آدم الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه وأنزل عليك التوراة. قال : نعم. فقال : فوجدت قدره علي قبل أن يخلقني فحج آدم موسى.

ورواه الحميدي من عدة طرق لهذا الحديث من مسند أبي هريرة في الحديث الخامس والتسعين (١).

(قال عبد المحمود) : قد استطرفت رواية عمر لهذا الحديث عن نبيهم ، لأنه ينقض بعضه بعضا ، ويشهد حال نبيهم أنه ما قال ذلك ، وأهل بيت نبيهم الذين أمر بالتمسك بهم ينكرون تصديق هذا الحديث لأنه إذا كانت الأفعال والأقوال عند آدم وموسى كما يقوله المجبرة من الله وحده وليس لأحد من عباده فيها شئ ، وأن آدم وموسى ما فعلا شيئا ، فكيف أنكر موسى على آدم؟ وكيف تكلف آدم جواب موسى؟ وكيف يقول محمد " ص " نبيهم فحج آدم وموسى ويستحسن محمد " ص " ذلك.

هذا لا يصدقه عارف بمحمد " ص " أنه قاله أو تحدث به ، لأنه إذا كان لا فاعل سوى الله فكلام آدم وفعله من الله وكلام موسى وفعله من الله تعالى ، فأي معنى لقولهم من نبيهم فحج آدم موسى.

وإنما يكون على قولهم قد حج الله نفسه وغلب نفسه ، وإن كانت المجبرة تتجاهل إلى أن تقول إن الله قهر الثلاثة الأنبياء آدم وموسى ومحمد " ص " ا عليهم السلام على ترك الرضا بقضائه وقدره ، وقهر محمدا " ص " على أن يقول فحج آدم موسى ، وما يكون قد حجه فقد أقدموا على تكذيب نبيهم وادعوا أن الله قهره على أن يقول غير الحق ، وكفى المجبرة بذلك فضيحة في الدنيا

__________________

(١) راجع صحيح مسلم : ٤ / ٢٠٤٢ كتاب القدر.

٣٢٥

والآخرة ، وكفانا شماتة بهم بمثل هذا فثبت أن الحديث ما قاله نبيهم وإنه كذب عليه وكتابهم يتضمن " وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى " (١) فالكاذب عليه كاذب على الله ، وكتابهم يتضمن " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة " (٢) وكيف حسن من هؤلاء الأربعة المذاهب الذين يصححون هذا الخبر أن يقولوا عن خليفتهم عمر مثل ذلك.

حكايات من المجبرة واحتجاجات عليهم

ومن طريف محاسن حكايات جرت لبعض أهل العدل ما روي عن شيخ الإسلام بعد نبيهم وسيفه أمته وحافظ ناموسه علي بن أبي طالب عليه السلام فيما حكاه في القضاء والعدل عنه الخوارزمي في كتاب الفائق ، وهذا الخوارزمي من جملة علماء الأربعة المذاهب قال : عن أصبغ بن نباتة قال : قام إلى علي بن أبي طالب عليه السلام شيخ بعد انصرافه من صفين ، فقال : أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله وقدره؟ قال علي عليه السلام : والذي فلق الحبة وبرئ النسمة ما وطئنا موطئا ولا هبطنا واديا ولا علونا تلعة إلا بقضاء وقدر.

فقال الشيخ : عند الله احتسب عناي ، ما أرى لي من الأجر شيئا. فقال له : مه! أيها الشيخ ، بل الله أعظم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في حال من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين.

فقال الشيخ وكيف والقضاء والقدر ساقنا؟ فقال : ويحك ظننت قضاء

__________________

(١) النجم ٣.

(٢) الزمر : ٦٠.

٣٢٦

لازما وقدرا حتما ، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي، ولم يأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسئ ولا المسئ أولى بالذم من المحسن ، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب ، وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها ، إن الله تعالى أمر تخييرا ونهى تحذيرا وكلف يسرا ، ولم يكلف عسرا ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثا ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.

فقال الشيخ : وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما. قال : هو الأمر من الله تعالى والحكم ، ثم تلا قوله " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " (١) فنهض الشيخ مسرورا وهو يقول :

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النشور من الرحمن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا

جزاك ربك عنا فيه إحسانا (٢)

ومن الحكايات المذكورة ما رواه كثير من المسلمين عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام من عترة نبيهم أنه قال يوما لبعض المجبرة : هل يكون أحد أقبل للعذر الصحيح من الله؟ فقال : لا. فقال له : فما تقول فيمن قال ما أقدر وهو لا يقدر ، أيكون معذورا أم لا؟ فقال المجبر : يكون معذورا. قال له : فإذا كان الله يعلم من عباده أنهم ما قدروا على طاعته وقال لسان حالهم أو مقالهم لله يوم القيامة : يا رب ما قدرنا على طاعتك لأنك منعتنا منها ، أما يكون قولهم وعذرهم صحيحا على قول المجبرة؟ قال : بلى والله. قال : فيجب

__________________

(١) الإسراء : ٢٣.

(٢) نقله الصدوق في عيون أخبار الرضا : ١ / ١٣٩ ، والبحار : ٥ / ٧٥ عن الشافي.

٣٢٧

على قولك إن الله يقبل هذا العذر الصحيح ولا يؤاخذ أحدا أبدا ، وهذا خلاف قول أهل الملل كلهم فتاب المجبرة من قوله بالجبر في الحال (١).

ومن الحكايات المشار إليها ما روي في كتب المسلمين أن أبا حنيفة صاحب المذهب اجتاز على موسى بن جعفر المعروف بالكاظم عليه السلام وهو من علماء عترة نبيهم وكان يكتب ، فأراد أبو حنيفة امتحانه فقال له : المعصية ممن؟ فقال له موسى عليه السلام : اجلس حتى أخبرك ، فجلس أبو حنيفة بين يديه : فقال موسى بن جعفر عليهما السلام : لا بد أن يكون المعصية من العبد أو من ربه تعالى أو منهما جميعا ، فإن كانت من الله فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده الضعيف ويأخذه بما لم يفعله ، وإن كانت المعصية منهما فهو شريكه والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف ، وإن كانت المعصية من العبد وحده فعليه وقع الأمر وإليه توجه النهي وله حق الثواب والعقاب ووجبت له الجنة أو النار. فقال أبو حنيفة : ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم. وقد نظم بعض شعراء أهل البيت ذلك فقال :

لم تخل أفعالنا اللاتي نذم بها

إحدى ثلاث خصال حين نأتيها

أما تفرد بارينا بصنعتها

فيسقط اللوم عنا حين نبديها

أو كان يشركنا فيها فيلحقه

ما سوف يلحقنا من لائم

أولم يكن لإلهي في جنايتها

ذنب فما الذنب إلا ذنب جانيها (٢)

ومن الحكايات المشهورة المشار إليها ما روي عن بعض أهل العدل أن رجلا من المجبرة سأله عن آية في كتابهم ظاهرها أن الله أضلهم ، فقال له العدلي : إن تفصيل الجواب يطول عليك وربما لا تفهمه ولا تحفظه ، ولكن عرفني

__________________

(١) راجع البحار : ٥ / ٥٨.

(٢) نقل نحوه الصدوق في عيون أخبار الرضا : ١ / ١٣٨.

٣٢٨

ما تعتقد أنت وسائر المسلمين إن القرآن الذي نزل عليكم حجة لمحمد " ص " نبيكم على الكافرين والعاصين. فقال : بلى. فقال العدلي : فلو كان باطن الآيات التي يتعلق بها المجبرة مثل ظاهره وإن الله تعالى منع الكفار من الإيمان والإسلام ومنع العصاة من الطاعة ، فكان يكون القرآن حجة للكفار والعصاة على محمد " ص " نبيكم ، وكانوا يستغنون بهذه الآيات عن محاربته وقتل أنفسهم ، ويقولون إن ربك الذي جئت برسالته وكتابك الذي جئت به يشهدان أن الله قد منعنا من الإسلام والطاعة ، فلا تظلمنا وقل لربك يتركنا أن نقبل منك ونسلم لك ، فكان القرآن حجة الكفار على المسلمين وعليه فتقطع حجته وهذا خلاف مذهب الإسلام ، فأذعن العقل أن لهذه الآيات معنى يليق بالعدل ويناسب الرحمة والإنعام ، فانقطع المجبر.

ومن الحكايات المشار إليها ما رواه جماعة من العلماء أن الحجاج بن يوسف كتب إلى الحسن البصري وإلى عمر وبن عبيد وإلى واصل بن عطاء وإلى عامر الشعبي ، أن يذكروا ما عندهم وما وصل إليهم في القضاء والقدر ، فكتب إليه الحسن البصري : إن أحسن ما سمعت من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال : يا بن آدم أتظن أن الذي نهاك دهاك ، وإنما دهاك أسفلك وأعلاك والله برئ من ذلك. وكتب إليه عمرو بن عبيد : أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول علي بن أبي طالب عليه السلام : لو كان الوزر في الأصل محتوما كان الموزور في القصاص مظلوما. وكتب إليه واصل بن عطاء : أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال : أيدلك على الطريق ويأخذ عليك المضيق. وكتب إليه الشعبي : أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال : كلما

٣٢٩

استغفرت الله تعالى منه فهو منك وكل ما حمدت الله تعالى فهو منه ، فلما وصلت كتبهم إلى الحجاج ووقف عليها قال : لقد أخذوها من عين صافية ، مع ما كان عند الحجاج معه من العداوة والأمور الواهية.

ومن الحكايات المشار إليها ما روي أن رجلا سأل جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام عن القضاء والقدر فقال : ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه ولم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله ، يقول الله تعالى للعبد : لم عصيت؟ لم فسقت : لم شربت الخمر؟ لم زنيت؟ فهذا فعل العبد ، ولا يقول له : لم مرضت ، لم علوت؟ لم قصرت؟ لم ابيضضت؟ لم اسوددت؟ لأنه من فعل الله تعالى (١).

ومن الحكايات أيضا ما روي أن الفضل بن سهل سأل علي بن موسى الرضا عليه السلام بين يدي المأمون فقال : يا أبا الحسن الخلق مجبورون؟ فقال : الله أعدل من أن يجبر خلقه ثم يعذبهم ، قال : فمطلقون؟ قال : الله أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه (٢).

ومن الحكايات أيضا ما روي أنه قيل للمجبرة نرى الله تعالى قد استعظم في القرآن قول المشركين والكافرين فقال " تكاد السماوات يتفطرن وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا " (٣) ونحو ذلك مما استعظمه في الكتاب العزيز الذي لا يستطيع الجبرية له دفعا ولا ردا ، فإذا كان كل فعل وقول وقع منه وصدر عنه فكيف تقبل العقول السليمة والأذهان المستقيمة إنه جل جلاله يستعظم فعل نفسه على صورة الانكار والاستكبار ويبلغ إلى هذه الغاية من الاستعظام والاستكبار فلم يكن لأحدهم جوابا.

__________________

(١ ـ ٢) البحار : ٥ / ٥٩.

(٣) مريم : ٩٠.

٣٣٠

ومن الحكاية في ذلك ما روي أن بعض أهل العدل وقف على جماعة من المجبرة فقال لهم ما معناه هذا : أنا ما أعرف المجادلة والإطالة ، لكني أسمع في القرآن قوله تعالى " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " (١) ومفهوم هذا الكلام عند كل عاقل أن الموقد للنار غير الله تعالى وأن المطفئ لها هو الله ، فكيف تقبل العقول أن الكل منه؟ وأن الموقد هو المطفئ لها. فانقطعوا ولم يردوا جوابا. ومن الحكايات أيضا أنه قيل للمجبرة : إننا نرى الله تعالى يقول " قد أفلح من زكها * وقد خاب من دسيها " من هذا الشخص الذي يكون مصداقا لقوله قد خاب؟ فما كان له جواب.

ومن الحكايات المأثورة ما يقال أن بعض أهل العدل اجتاز على بعض المجبرة والعدلي راكب ، فقال له الجبري : انزل حتى أسألك مسألة ، فقال له العدلي : أفتقدر أن تسألني؟ قال : لا. قال : أفأقدر أن أسألك أو أجيبك؟ قال لا. قال : فكيف يطلب نزولي من لا يقدر على سؤالي ولا أقدر على نزولي عنده ولا جوابه ، فانقطع الجبري.

ومن الحكايات المأثورة أن عدليا قال لمجبر : ممن الحق؟ قال : من الله فقال له : فمن هو المحق. قال : هو الله. قال له : فممن الباطل؟ قال : من الله. قال : فمن هو المبطل؟ فانقطع الجبري ولم يقدر على أن يقول إن الله تعالى هو المبطل ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، فكان يلزمه ذلك على رأي المجبرة.

ومن الحكايات المأثورة أن مجبرا وعدليا اجتمعا للمناظرة وجعلا بينهما حكما ، فقال العدلي للجبري : هل من شئ غير الله وما خلق؟ قال الجبري : لا. قال العدلي : فهل يعذب الكفار والعصاة على أنه خلقهم. قال الجبري : لا. قال : يعذبهم على أنه ما خلقهم؟ قال : لا. قال : فعلا م يعذبهم؟ قال :

__________________

(١) المائدة : ٦٤.

٣٣١

لمعصيتهم إياه. قال العدلي : فقد جعلت ههنا شيئا ثالثا وأنت قلت إنه ليس في الوجود شئ غير الله وما خلق فهذا قولك يعصى من هو العاصي ، فانقطع الجبري وحكم الحاكم بينهما بانقطاع الجبري.

ومن الحكايات المأثورة أن جماعة من اليهود اجتمعوا إلى أبي بحر الخاقاني وقالوا له ما معناه : أنت سلطان عادل ومنصف من المسلمين وفي بلدك المجبرة وهم الذين يعولون عليهم في الأقوال والأفعال. وهم يشهدون لنا أننا لا نقدر على الإسلام ولا على الإيمان ، فكيف تؤخذ الجزية من قوم لا يقدرون على الإسلام ولا الإيمان؟ فجمع المجبرة وقال لهم : ما تقولون فيما قد ذكره اليهود من احتجاجهم عليكم؟ فقالوا : كذا نقول وإنهم لا يقدرون على الإسلام والإيمان ، فطالبهم بالدليل على قولهم فلم يقدروا عليه ، فنفاهم (١).

(قال عبد المحمود) مؤلف هذا الكتاب : ومما يقال للمجبرة إنا نسمع الله جل جلاله قد طلب التوبة من العباد ، وقد تاب قوم وامتنع آخرون والقرآن والأخبار مملوءة من ذلك وشاهدة به ، فإن كانت الأفعال فلم يطلب التوبة من غيره؟ وإن كانت التوبة منه أو كان شريكا للعبد في الأفعال جل وعلا عن قول الظالمين فليت شعري مما ذا تاب؟ وإن لم يكن التوبة منه ولا من غيره من العباد فمن هذا التائب النادم؟ ومن هذا المصر الممتنع من التوبة؟ إنني أرى المجبرة على صفة عجيبة من الجهالة وغريبة عظيمة من الضلالة.

ومما يقال للمجبرة : قد رحمناكم لشدة غفلتكم ، وخاصة الذين يقولون منكم لا فاعل سوى الله تعالى ، ثم يقولون إن العبد غير مختار وإنه مضطر فيما يصدر عنه ، ويا لله والعجب من جهالاتكم إذا كان لا فاعل سوى الله تعالى وعندكم وعند كافة أهل الإسلام إن الله تعالى مختار غير مضطر ولا ملجأ ، وكيف صارت

__________________

(١) البحار : ٥ / ٦٠.

٣٣٢

أفعاله الصادرة عن العباد في الصورة وهي صادرة عنه في التحقيق خارجة عن حكم اختياره وبطل على قولكم كونه مختارا وصرتم إلى مذهب الفلاسفة في أنه جل وعلا غير مختار.

ومما يقال : لمن قال إن الفعل مقضي على العباد تفسير المجبرة أوضح معنى قولك إنه مقضي ، أتريد أن الفعل من الله تعالى في التحقيق وقضاه على عبده أم لا؟ فإن أردت أن الله قضاه وهو فعل له سبحانه فإذا كان العبد ما استقل بالفعل ولا قام به وأن الله تعالى هو الفاعل له حقيقة ، فكيف يصير مقضيا لأنه ليس ههنا عبد فاعل عندهم أصلا حتى يكون فعل هذا العبد مقضيا عليه إلا هو عندهم فعل الله ، فليت شعري ومن قضى الفعل على الله حتى يسمى مقضيا وإن أردت أن الله ما انفرد بالفعل فقد تركت مذهبك وعدت إلى العدل والحمد لله ، وما يصير الفعل مقضيا بالتفسير يفسرونه ، لأنه لا يصح أن يقال إن العبد جعل نفسه مجبرا مقهورا في حال كونه مختارا وقضاه على نفسه ـ فسره المجبرة.

ومما يقال للمجبرة : وهو من طرائف ما يحتج به عليهم أنه لو كان الأمر كما تقول المجبرة من أن كلما في الوجود من الأفعال والأحوال الصادرة عن بني آدم أنها أفعال الله خاصة ما كان قد ورد في القرآن ولا في السنة لفظ ضلال أحد ولا كفره وفاحشة ولا منكر ولا فساد ولا ظلم ولا عناد ولا غير ذلك من أنواع النقائص والرذائل ، ولا كان يوجد كافر ولا جاحد ولا معاند ولا كان يقع في الكفار سب لله تعالى ولا لأنبيائه ، بل ما كان يقع بين اثنين والأكثر سباب ولا افتراق ولا منازعة ولا شقاق ، لأنه إذا كان كل ذلك من الله تعالى فكله هدى وإيمان وصلاح ووفاق وتمام واتفاق ولأنه ما كان الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا يسب نفسه ولا يجحد نفسه ولا يعاند نفسه ولا يعاقب نفسه ولا يخالف نفسه ولا يعادي

٣٣٣

نفسه ولا ينازع نفسه ولا يذم نفسه ، لأنه إذا كان الكل منه فهذه المنازعات والمناقضات بين من ومن ولمن ، وإذا اعتبرت أفعال العباد وما جرى منها ويجري فيها من الفساد والنقائص والتضاد علمت على اليقين إنها ليست أفعال إله واحد وفاعل واحد قد أطبق العارفون به إنه أحكم الحاكمين فكيف التبس ذلك على من يقال إنه من عقلاء المسلمين.

ومن عجيب ما يقطع به المجبرة عن المناظرة أن يقال له : هذه المناظرة بيني وبينك في التحقيق أو بين الله تعالى وبين نفسه ، فإن كانت بيني وبينك فقد بطل ما تدعونه من أنه لا فاعل سوى الله تعالى ، وإن كانت المناظرة بين الله تعالى وبين نفسه فهل تقبل العقول إن الله تعالى يناظر نفسه ليغلب نفسه ويعجز نفسه ، ولأن المناظرين إذا كان أحدهما محقا والآخر مبطلا وأحدهما عالما والآخر جاهلا وكانت المناظرة كما زعموا بين الله تعالى ونفسه فكيف يتصور أن يكون الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا ، من جانب مبطلا ومن جانب محقا ومن جانب يوصف بجهل ومن جانب يوصف بعلم وهو عالم لذاته ، أن هذا قول المجبرة مما لا يقدم عليه عارف بالله تعالى وبذاته وبصفاته.

ومن عجيب ما يقطع المجبرة المذكورة به أن يقال لهم : هذه الشكوك والجهالات التي تحصل للعباد حتى تحوج المناظرة أو اليقين لا ريب أنها أفعال ، فإن كانت لنا ومنا فقد بطل ما تدعونه من أنه لا فاعل سوى الله تعالى فإن قلتم إنها من الله تعالى فيكون كفرا صريحا واختلاطا قبيحا.

ومن عجيب ما يقحم به المجبرة الذين يقولون إنه لا فاعل سوى الله تعالى وإن كل فعل يظهر عن العباد فهو فعل الله تعالى على التحقيق ، أن يقال لهم : إن كل إنسان يعلم من نفسه أنه يكون جاهلا ثم يصير عالما ثم يكون شاكا فيصير متيقنا ثم يكون ظانا فيصير عالما ، ولا شبهة عند العقلاء إن الجهل

٣٣٤

والعلم والشك واليقين والظن والعلم أفعال ، فمن هذا الجاهل ومن هذا الشاك ومن هذا الظان؟ فإن قلتم إنه ربكم فقد كفرتم تحقيقا وصار كل منكم بهذا الاعتقاد زنديقا ، وإن قلتم إنه العبد ـ وهو الحق ـ فقد تركتم مذهبكم ورجعتم إلى الصدق.

ومن عجيب ما يقحم به المجبرة أن يقال لهم : قد أطبق أهل العقل والفضل من سائر أهل الملل على أن الوجود مشتمل على عبد ومعبود وأن العبد مشتق من التعبد والتذلل لمعبوده ، وإذا كان جميع الأعمال والعبادات من فعل الله تحقيقا فأين العبد أيها الجاهلون فلا يبقى على قولهم في الوجود سوى الله تعالى وفعله وذهبت بل استحال الحقيقة للعبد.

(قال عبد المحمود) مؤلف هذا الكتاب : ولعل بعض من يقف على المبالغة مني في الرد على المجبرة الذين يقولون إنه لا فاعل سوى الله تعالى ليقول أو يتوهم إن هذا الاعتقاد لا يعتقد أحد منهم أو يعتقد عوامهم ، وسوف أذكر ما ذكره أعظم علمائهم من الاعتقاد في بألفاظه.

فمن ذلك محمد الخطيب الرازي وهو من أعظم علمائهم مذهبه إنه لا يخرج إلى الوجود شئ إلا بقدرة الله تعالى وإن الله تعالى مريد لجميع الكائنات ، وقد وقفت على ما وصل إلينا من تصانيفه فوجدتها جميعا تشهد بذلك وقد ذكر في كتاب الأربعين وكان قد صنفه لولده العزيز فقال فيه ما هذا لفظه : المسألة الثالثة والعشرون في أنه لا يخرج شئ من العدم إلى الوجود إلا بقدرة الله تعالى (١). هذا لفظه.

ثم شرع يتحدث في ذلك ويريد تصحيحه ولا ينكر في أنه على قوله يريد النقض على الله بالله والنقص على الله بالله سبحانه وتعالى ، لأنه شرع أن المسألة فيها

__________________

(١) الأربعين : ٢٣٧.

٣٣٥

تنازع ، قوم يقولون بقول الرازي وذلك القول من الرازي من الله جل جلاله وقوم يقولون بخلاف قوله ويريدون نقض قوله ونقصانه وهذا النقض والنقصان عند الرازي أيضا من الله.

فعلى قوله هذا يكون الله تعالى قد نقض على نفسه بنفسه ونقص كماله وكمال حجته بنفسه ، ولو فكر فيما بنى عليه زال عن المعارضة لقول أحد ومذهب أحد واعتقاد أحد لأن ذلك عنده قول الله ومذهب الله واعتقاد الله ، ولكن الرازي ومن وافقه وتقدمه من القائلين بأنه لا فاعل سوى الله تعالى ربما يقولون في الجواب عما ذكرته الآن ما يريد النقض على الله بالله تعالى ولا يلزمه الزوال عن المعارضة ، لأنه يزعم أن الذي ينقض على نفسه وينقض نفسه ليس هو الرازي ولا من وافقه ولا من تقدمه من القائلين بقوله ، لأن الناقض والمنقوض به منه لأنها كلها أفعال والأفعال كلها منه.

وإذا بلغوا إلى هذه الغاية من أن الله تعالى ينقض على نفسه وينقص نفسه شهد ذلك عليهم بالخروج عن ملة الإسلام وإظهار الكفر والإلحاد والطعن على الله تعالى وعلى رسوله " ص " لأن رسول الله ما جاء رسولا عن رب ينقض على نفسه وينقص نفسه بغير خلاف عند أهل ملته والمصدقين برسالته ، فإن قال أحد منهم ينقض إحدى الدعويين بالأخرى ويثبت أحد إن هذا النقص ما يمكن أن يكون تاما وإن ذلك النقص كله لا يسمى نقصا ولا نقضا كابروا العيان وأثروا البهتان.

ومن ذلك قول الرازي أيضا في كتاب الأربعين ما هذا لفظه : المسألة الرابعة والعشرون في بيان أن الله تعالى مريد لجميع الكائنات ، مذهب المعتزلة إن الإرادة توافق الأمر ، فكل ما أمر الله تعالى به فقد أراده وكل ما نهى عنه فقد كرهه ، ومذهبنا إن الإرادة توافق العلم ، فكل ما علم الله وقوعه فهو مراد

٣٣٦

الوقوع وكل ما علم عدمه فهو مراد العدم ، فعلى هذا إيمان أبي جهل مأمور به وغير مراد وكفره منهي عنه وهو مراد. هذا لفظه وقد حكيناه بصورته (١).

(قال عبد المحمود) : لو صح ما قاله الرازي لكان أبو جهل غلب محمدا " ص " وأبطل رسالته إليه ، وكل كافر أيضا بأن يقولوا لمحمد ربك ما يريد منا الإسلام وأنت تريده ، واتباع إرادة ربك أوجب من اتباع إرادتك ، وكان قد انقطع محمد وبانقطاعه ينقطع حجة مرسله ، وإن كان الرازي المثكل يزعم أن محمدا " ص " ما يريد أيضا من الكفار الإيمان فتكون حجتهم قد ازدادت قوة ويقولون له إذا كان الله الذي أرسلك ما يريد الإيمان منا وأنت ما تريده منا فنحن أيضا ما نريد خلاف إرادتكما ، فعلام تحاربنا وتعادينا وقد وافقت إرادتنا إرادتك وإرادة من أرسلك ، فكان أبلغ في ظهور حجة الكفار عليه وانقطاع حجته وحجة مرسله.

وكان أهل الجاهلية أقل كفرا من هذا الاعتقاد ، والجاحدون لله والجاهلون به ما بلغوا إلى هذه الغاية من الكفر والفساد ، لأن أولئك ما عرفوه فما نسبوا إليه خيرا ولا شرا وهؤلاء المجبرة ادعوا معرفته ونسبوا كل شر وكفر وخير إليه ، فيعز على الله تعالى وعلى رسوله ما جنى هؤلاء عليه ، وكيف يقبل عقل الذين يعتقدون إن الله تعالى هو الفاعل لأفعال العباد أن يكون الله تعالى يبعث رسولا خلقه ويبعث معه ما يقيم أعذارهم في مخالفتهم فعل من أرسله وإنهم بريئون منها ، وهل كان يبقى للرسل حكم أو حجة.

ومن عجيب طرائف المجبرة إن كتبهم بالمهور والديون تتضمن أن المقرين أقروا طوعا في صحة من أمرهم غير مجبرين ولا مكرهين ويكتبون هذا الوصف للمقرين في شريعة الإسلام ومجلس قضائهم بشهادة معدليهم ، ثم يكتبون

__________________

(١) الأربعين : ٢٤٤.

٣٣٧

في آخر كتب المهور أن هذا القادر صالح والقادر هو المختار ، ثم إذا جرى حديث عقيدتهم أنكروا ما قد أقروا به وجحدوا ما اعترفوا بإثباته وادعوا إن المقرين مجبرون ومكرهون وما لهم اختيار ولا فعل ، ولا يفكرون في هذه المناقضات ولا لهم من يغافلهم عليها.

ومن طرائف ما يلزم الرازي وأهل مذهبه القائلين بأنه لا فاعل سوى الله تعالى أن يكون قولهم مثل قول النصارى في عيسى بن مريم عليه السلام والنصيرية في علي بن أبي طالب عليه السلام ، لأن عقلاء النصارى وعقلاء النصيرية ما كان يخفى عنهم إن لحم عيسى ولحم علي عليه السلام وعظمهما وجسدهما هو الله جل جلاله ، ولا أن الله تعالى صورة مجسمة ، بل لما رأوا الأعمال الصادرة عن عيسى وعلي عليه السلام الخارقة للعادات يستحيل وقوعها من نفس البشر وإنها أفعال إله قادر بالذات ، فنسبوا تلك الأفعال الصادرة من عيسى وعلي عليه السلام إلى أنها فعل الله تعالى ، فيلزمهم التصديق للنصارى والنصيرية في أن أفعال عيسى وأفعال علي عليه السلام فعل الله تعالى ولا فاعل سوى الله تعالى الذي يستحق العبادة.

فهل ترى قول الرازي وأهل مذهبه في أنه لا فاعل سوى الله إلا قول النصارى والنصيرية وإن حالهم كحالهم.

ومن عجيب ما بلغني أن محمد بن الخطيب الرازي المذكور تحدى يوما على علماء العالمين وأعجبته نفسه لحفظه للألفاظ وصياغته للمباني ، وما أدري أنه ليس كل من حفظ لفظا عرف معناه واستوفاه ، وقد سمى الله تعالى الذين حفظوا الألفاظ ولم يراعوا المعاني بالحمار فقال " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا " (١).

__________________

(١) الجمعة : ٥.

٣٣٨

وما علم الرازي أيضا أنه ليس كل من صاغ حلية أو بني بناء عرف قيمة الجواهر وسائر آلات البناء ومن حررها ودبرها وبدأها بالإنشاء ، فلما تحدى الرازي العلماء بلغ ذلك إلى بعض الزهاد من لسان بعض تلامذة الرازي فقال له الزاهد للتلميذ استادك الرازي لا يعرف الله ، فثقل على التلميذ ذلك وقال للزاهد : عن إذنك أعرفه. فقال الزاهد : نعم ، فعرفه التلميذ الرازي فركب في جمعه ومماليكه وكان صاحب دنيا وسيعة وجاء إلى الزاهد فقال له : قد بلغني عنك أنك إنني لا أعرف الله تعالى.

فقال الزاهد : نعم قلت. فقال له الرازي من أين عرفت إنني لا أعرف الله تعالى؟ فقال له الزاهد : لأنك لو عرفته كما تدعي كمال المعرفة والتحقيق شغلتك معرفته وخدمته ومراقبته عن هذه الدنيا الفانية التي تعبدها من دونه ، فانقطع الرازي وعرف لزوم الحجة له.

قلت أنا : ومن وقف وصية الرازي عند موته إن كتبه التي صنفها جميعا ما اكتسب منها دينا ولا حصل منها يقينا زهده ذلك في ترك التعلم منها ووجب عليه الإعراض عنها.

ومن علماء المجبرة أبو حامد محمد بن محمد الغزالي وهو من أعظم علمائهم ومن الذين صنفوا لهم في علم الكلام وعلم الجدل وعلم أصول الفقه وفي الفقه ، وكان له ثلاثمائة تلميذ ، وعاد وصنف في الزهد فقال في أعظم كتاب صنفه في ذلك وسماه كتاب (إحياء علوم الدين) في كتاب قواعد العقائد وهو الكتاب الثاني من كتاب إحياء علوم الدين في الأصل الثالث منه ما هذا لفظه : ولا يجري في الملك والملكوت طرفة عين ولا لفتة خاطر ولا فلتة ناظر إلا بقضاء الله وقدره وبإرادته ومشيته ، ومنه الخير والشر والنفع والضر والإسلام والكفر والعرفان والمنكر والفوز والخسران والغواية والرشد والطاعة والعصيان

٣٣٩

والشرك والإيمان (١) هذا لفظ الغزالي.

وصنف في آخر عمره كتابا سماه منهاج العابدين وهو آخر كتاب صنفه وما خص به إلا خواص أصحابه ، فقال في أواخر الباب الأول منه ما هذا لفظه : ولا يكون في الملك والملكوت فلتة خاطر ولا لفتة ناظر إلا بقضاء الله وقدره ومشيته ، فمنه الخير والشر والنفع والضر والإيمان والكفر والعز والشكر والفوز والخسر والغواية والرشد والطاعة والعصيان والشرك والإيمان. هذا لفظه في المعنى.

(قال عبد المحمود) : وإذا اعتبرت كلام هذا الشيخ في كتب الزهد وخاصة كتاب الإحياء وجدته يشهد صريحا وتلويحا إنه يعلم من سريرته إن العباد مختارون وفاعلون وإنما غلب عليه حب المذهب والمنشأ فإنه في كتاب الإحياء يصف أسقام الدين ويذكر الترغيب والحث على استعمال الدواء والتحريص بذلك ويظهر أنه يعتقد كونهم مختارين فاعلين يقدرون على الفعل وعلى الترك ، فإن شككت فاعتبر مقالاته لأنك تجده يوافق أهل العدل فعلا وقولا ويخالفهم قولا غفلة وجهلا.

ومما يدل على ذلك منه قوله في العارض الثاني من الباب الرابع من كتاب منهاج العابدين ما هذا لفظه : فإن قيل : هل يكون المفوض مختارا؟ فاعلم أن الصحيح عند علمائنا أنه يكون مختارا ولا يقدح في تفويضه ذلك. هذا لفظه تصريح بالاختيار وتصديق لأهل العدل والاعتبار.

بل قد زاد على القائلين بالاختيار لأن المفوض معناه أن يعزل نفسه عن الاختيار ويجعل الاختيار لنفسه إلى الله ، فإذا كان من يعزل نفسه عن اختيارها ويجعل الاختيار لله يكون مختارا ، فيجب أن يكون من لم يفوض إلى الله تعالى

__________________

(١) إحياء علوم الدين : ١ / ١١١.

٣٤٠