زاد المسير في علم التفسير - ج ٤

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٤

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

قرأ ابن كثير ، وابن عامر وأبو عمرو ، وأبو بكر وأبان عن عاصم : «الساعة ادخلوا» بالضمّ ، وضمّ الخاء على معنى الأمر لهم بالدخول ، والابتداء على قراءة هؤلاء بضمّ الألف. وقرأ الباقون : بالقطع مع كسر الخاء على جهة الأمر للملائكة بإدخالهم ، وهؤلاء يبتدئون بفتح الألف.

(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢))

قوله تعالى : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) المعنى : واذكر لقومك يا محمّد إذ يختصمون ، يعني أهل النّار ، والآية مفسّرة في إبراهيم (١). والّذين استكبروا هم القادة. ومعنى (إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي : نحن وأنتم ، (إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) أي : قضى هذا علينا وعليكم. ومعنى قول الخزنة لهم : (فَادْعُوا) أي : نحن لا ندعو لكم (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي : إنّ ذلك يبطل ولا ينفع. (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ ذلك بإثبات حججهم. والثاني : بإهلاك عدوّهم. والثالث : بأنّ العاقبة تكون لهم. وفصل الخطاب : أنّ نصرهم حاصل لا بدّ منه ، فتارة يكون بإعلاء أمرهم كما أعطى داود وسليمان من الملك ما قهرا به كلّ كافر ، وأظهر محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مكذّبيه ، وتارة يكون بالانتقام من مكذّبيهم بإنجاء الرّسل وإهلاك أعدائهم ، كما فعل بنوح وقومه وموسى وقومه ، وتارة يكون بالانتقام من مكذّبيهم بعد وفاة الرّسل ، كتسليطه بختنصّر على قتلة يحيى بن زكريّا. وأمّا نصرهم يوم يقوم الأشهاد ، فإنّ الله منجّيهم من العذاب ، وواحد الأشهاد شاهد ، كما أنّ واحد الأصحاب صاحب. وفي الأشهاد ثلاثة أقوال : أحدها : الملائكة ، شهدوا للأنبياء بالإبلاغ وعلى الأمم بالتّكذيب ، قاله مجاهد ، والسّدّيّ. قال مقاتل : وهم الحفظة من الملائكة. والثاني : الملائكة والأنبياء ، قاله قتادة. والثالث : أنهم أربعة : الأنبياء والملائكة والمؤمنون والجوارح ، قاله ابن زيد.

قوله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : «تنفع» بالتاء ، والباقون بالياء ؛ لأنّ المعذرة والاعتذار بمعنى (الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) أي : لا يقبل منهم إن اعتذروا (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي : البعد من الرّحمة. وقد بيّنّا في الرّعد (٢) أنّ «لهم» بمعنى «عليهم» ، و (سُوءُ الدَّارِ) : النّار.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ

__________________

(١) إبراهيم : ٢١.

(٢) الرعد : ٢٥.

٤١

يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨))

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) من الضّلالة ، يعني التّوراة (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) بعد موسى ، وهو التّوراة أيضا في قول الأكثرين ، وقال ابن السّائب : التّوراة والإنجيل والزّبور ، والذّكرى بمعنى التّذكير. (فَاصْبِرْ) على أذاهم (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) في نصرك ، وهذه الآية في هذه السّورة في موضعين (١) ، وقد ذكروا أنها منسوخة بآية السيف. ومعنى «سبّح» : صلّ. وفي المراد بصلاة العشيّ والإبكار ثلاثة أقوال : أحدها : أنها الصّلوات الخمس ، قاله ابن عباس. والثاني : صلاة الغداة وصلاة العصر ، قاله قتادة. والثالث : أنها صلاة كانت قبل أن تفرض الصّلوات ، ركعتان غدوة ، وركعتان عشيّة ، قاله الحسن.

وما بعد هذا قد تقدّم آنفا (٢) إلى قوله : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) الآية ، نزلت في قريش ؛ والمعنى : ما يحملهم على تكذيبك إلّا ما في صدورهم من التكبّر عليك ، وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر ، لأنّ الله تعالى مذلّهم ، (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) من شرّهم ؛ ثمّ نبّه على قدرته بقوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) أي : من إعادتهم ، وذلك لكثرة أجزائها وعظم جرمها ، فنبّههم على قدرته على إعادة الخلق. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) يعني الكفّار حين لا يستدلّون بذلك على

__________________

(١) غافر : ٥٥ ، ٧٧.

(٢) غافر : ٤.

٤٢

التوحيد. وقال مقاتل (١). عظّمت اليهود الدّجّال وقالوا : إنّ صاحبنا يبعث في آخر الزّمان وله سلطان ، فقال الله : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) لأنّ الدّجّال من آياته ، (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) أي : بغير حجّة ، فاستعذ بالله من فتنة الدّجّال. قال : والمراد ب «خلق الناس» : الدّجّال ، وإلى نحو هذا ذهب أبو العالية ، والأول أصحّ (٢).

وما بعد هذا ظاهر إلى قوله : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) فيه قولان : أحدهما : وحّدوني واعبدوني أثبكم ، قاله ابن عباس. والثاني : سلوني أعطكم ، قاله السّدّيّ. (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) فيه قولان : أحدهما : عن توحيدي. والثاني : عن دعائي ومسألتي (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ) قرأ ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، وعباس بن الفضل عن أبي عمرو : «سيدخلون» بضمّ الياء ، والباقون بفتحها ، والدّاخر : الصّاغر. وما بعد هذا قد سبق في مواضع متفرّقة (٣) إلى قوله : (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) وهو أجل الحياة إلى الموت (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) توحيد الله وقدرته.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤))

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) يعني القرآن ، يقولون : ليس من عند الله ، (أَنَّى يُصْرَفُونَ) أي : كيف صرفوا عن الحقّ إلى الباطل؟! وفيهم قولان : أحدهما : أنهم المشركون ، قاله ابن عباس. والثاني : أنهم القدريّة ، ذكره جماعة من المفسّرين ، وكان ابن سيرين يقول : إن لم تكن نزلت في القدريّة فلا أدري فيمن نزلت.

وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو رزين ، وأبو مجلز ، والضّحّاك ، وابن يعمر ، وابن أبي عبلة : «والسلاسل يسحبون» بفتح اللام والياء. وقال ابن عباس : إذا سحبوها كان أشدّ عليهم.

قوله تعالى : (يُسْجَرُونَ) قال مجاهد : توقد بهم النار فصاروا وقودها.

قوله تعالى : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) مفسّر في الأعراف (٤). وفي قوله : (لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) قولان : أحدهما : أنهم أرادوا أنّ الأصنام لم تكن شيئا ، لأنها لم تكن تضرّ ولا تنفع ، وهو قول الأكثرين. والثاني : أنهم قالوه على وجه الجحود ، قاله أبو سليمان الدّمشقي ، (كَذلِكَ) أي : كما أضلّ الله هؤلاء يضلّ الكافرين.

__________________

(١) عزاه لمقاتل ، وهو متروك متهم.

(٢) مراد المصنف ، أنها نزلت في قريش ، هو الأصح. والله أعلم. وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٠٠ : وقال كعب وأبو العالية : نزلت هذه الآية في اليهود. وهذا قول غريب ، وفيه تعسف بعيد ، وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم في كتابه ، والله أعلم.

(٣) يونس : ٦٧ ، القصص : ٧٣ ، الأنعام : ٩٥ ، النمل : ٦١ ، الأعراف : ٢٩ ، الحج : ٥.

(٤) الأعراف : ١٩٠.

٤٣

(ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

(ذلِكُمْ) العذاب الذي نزل بكم (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي : بالباطل (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) وقد شرحنا المرح في بني إسرائيل (١) ، وما بعد هذا قد تقدّم بتمامه (٢) إلى قوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) وذلك لأنهم كانوا يقترحون عليه الآيات (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) وهو قضاؤه بين الأنبياء وأممهم ، و (الْمُبْطِلُونَ) : أصحاب الباطل.

قوله تعالى : (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ) أي : حوائجكم في البلاد. قوله تعالى : (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ) استفهام توبيخ. قوله تعالى : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) في «ما» قولان : أحدهما : أنها للنّفي. والثاني : أنها للاستفهام ، ذكرهما ابن جرير.

قوله تعالى : (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) في المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم الأمم المكذّبة ، قاله الجمهور ، ثم في معنى الكلام قولان : أحدهما : أنهم قالوا : نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نحاسب ، قاله مجاهد. والثاني : فرحوا بما كان عندهم أنه علم ، قاله السّدّيّ. والقول الثاني : أنهم الرّسل ، والمعنى : فرح الرّسل لمّا هلك المكذّبون ونجوا بما عندهم من العلم بالله إذ جاء تصديقه ، حكاه أبو سليمان وغيره. قوله تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ) يعني بالمكذّبين العذاب الذي كانوا به يستهزئون. والبأس : العذاب. ومعنى (سُنَّتَ اللهِ) : أنه سنّ هذه السّنّة في الأمم ، أي : أنّ إيمانهم لا ينفعهم إذا رأوا العذاب ، (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ).

فإن قيل : كأنهم لم يكونوا خاسرين قبل ذلك؟ فعنه جوابان. أحدهما : أنّ «خسر» بمعنى «هلك» ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه إنما بيّن لهم خسرانهم عند نزول العذاب ، قاله الزّجّاج.

__________________

(١) الإسراء : ٣٧.

(٢) النحل : ٢٩ ، يونس : ١٠٩ ، النساء : ١٦٤.

٤٤

سورة فصّلت

مكية كلها بإجماعهم ، ويقال لها : سجدة المؤمن ، ويقال لها : المصابيح.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤))

(وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨))

قوله تعالى : (تَنْزِيلٌ) قال الفرّاء : يجوز أن يرتفع «تنزيل» ب (حم) ، ويجوز أن يرتفع بإضمار «هذا». وقال الزّجّاج : (تَنْزِيلٌ) مبتدأ ، وخبره (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) ، هذا مذهب البصريّين ، و (قُرْآناً) منصوب على الحال ، المعنى : بيّنت آياته في حال جمعه ، (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي لمن يعلم. قوله تعالى : (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) يعني أهل مكّة (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) تكبّرا عنه ، (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أي : في أغطية فلا نفقه قولك. وقد سبق بيان «الأكنّة» و«الوقر» في الأنعام (١). ومعنى الكلام : إنّا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم ، (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أي : حاجز في النّحلة والدّين. قال الأخفش : «ومن» هاهنا للتوكيد.

قوله تعالى : (فَاعْمَلْ) فيه قولان : أحدهما : اعمل في إبطال أمرنا إنّا عاملون على إبطال أمرك. والثاني : اعمل على دينك إنّا عاملون على ديننا. (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي : لو لا الوحي لما دعوتكم. (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) أي : توجّهوا إليه بالطاعة. واستغفروه من الشّرك.

قوله تعالى : (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) فيه خمسة أقوال (٢) : أحدها : لا يشهدون أن «لا إله إلّا

__________________

(١) الأنعام : ٢٥.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «التفسير» ١١ / ٨٦ : والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا : معناه : لا يؤدون زكاة أموالهم ، وذلك أن ذلك هو الأشهر من معنى الزكاة.

ـ وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١٠٩ : قال قتادة : يمنعون زكاة أموالهم. وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين ، واختاره ابن جرير. وفيه نظر. لأن إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة ، على ما ذكره غير واحد ، وهذه الآية مكية ، اللهم إلا أن يقال : لا يبعد أن يكون أصل الصدقة والزكاة

٤٥

الله» ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة ، والمعنى : لا يطهّرون أنفسهم من الشّرك بالتوحيد. والثاني : لا يؤمنون بالزّكاة ولا يقرّون بها ، قاله الحسن ، وقتادة. والثالث : لا يزكّون أعمالهم ، قاله مجاهد ، والرّبيع. والرابع : لا يتصدّقون ، ولا ينفقون في الطّاعات ، قاله الضّحّاك ، ومقاتل. والخامس : لا يعطون زكاة أموالهم ، قال ابن السّائب : كانوا يحجّون ويعتمرون ولا يزكّون. قوله تعالى : (غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي : غير مقطوع ولا منقوص.

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢))

قوله تعالى : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) قال ابن عباس : في يوم الأحد والاثنين ، وبه قال عبد الله بن سلام ، والسّدّيّ ، والأكثرون. وقال مقاتل : في يوم الثلاثاء والأربعاء.

(١٢٤٠) وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي ، فقال : «خلق الله عزوجل التّربة يوم السّبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشّجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النّور يوم الأربعاء ، وبثّ فيها الدّوابّ يوم الخميس» ، وهذا الحديث يخالف ما تقدّم وهو أصحّ.

قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) قد شرحناه في البقرة (١) ، و (ذلِكَ) الذي فعل ما ذكر (رَبُّ الْعالَمِينَ). (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) أي : جبالا ثوابت من فوق الأرض ، (وَبارَكَ فِيها) بالأشجار والثّمار والحبوب والأنهار ، وقيل : البركة فيها : أن ينمي فيها الزّرع ، فتخرج الحبّة حبّات ، والنّواة نخلة (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) قال أبو عبيدة : هي جمع قوت ، وهي الأرزاق وما يحتاج إليه. وللمفسّرين في هذا التّقدير خمسة أقوال (٢) : أحدها : أنه شقّق الأنهار وغرس الأشجار ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه قسم أرزاق العباد والبهائم ، قاله الحسن. والثالث : أقواتها من المطر ، قاله مجاهد. والرابع : قدّر لكلّ بلدة ما لم

____________________________________

(١٢٤٠) تقدم تخريجه في الجزء الأول ، وهو أحد الأحاديث التي تكلم فيها ، وهو في صحيح مسلم ٢٧٨٩.

__________________

مأمورا به في ابتداء البعثة ، كقوله : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) فأما الزكاة ذات النصب والمقادير فإنما بيّن أمرها بالمدينة ، ويكون هذا جمعا بين القولين ، كما أن أصل الصلاة كان واجبا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في ابتداء البعثة ، فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف فرض الله على رسوله الصلوات الخمس ، وفصّل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك شيئا فشيئا ، والله أعلم.

(١) البقرة : ٢٢.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ٩٠ : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى أخبر أنه قدّر في الأرض أقوات أهلها ، وذلك ما يقوتهم من الغذاء ، ويصلحهم من المعاش ، ولم يخصص جل ثناؤه بقوله : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) ، ولا قول في ذلك أصح مما قال جل ثناؤه : قدّر في الأرض أقوات أهلها لما وصفنا من العلة.

٤٦

يجعله في الأخرى كما أنّ ثياب اليمن لا تصلح إلّا ب «اليمن» والهرويّة ب «هراة» ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة ، قاله عكرمة والضّحّاك. والخامس : قدّر البرّ لأهل قطر ، والتّمر لأهل قطر ، والذّرة لأهل قطر ، قاله ابن السّائب. قوله تعالى : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي : في تتمة أربعة أيّام. قال الأخفش : ومثله أن تقول : تزوّجت أمس امرأة ، واليوم ثنتين ، وإحداهما التي تزوّجتها أمس. قال المفسّرون : يعني : الثلاثاء والأربعاء ، وهما مع الأحد والاثنين أربعة أيام. قوله تعالى : (سَواءً) قرأ أبو جعفر : «سواء» بالرفع. وقرأ يعقوب ، وعبد الوارث : «سواء» بالجرّ. وقرأ الباقون من العشرة : بالنّصب. قال الزّجّاج : من قرأ بالخفض ، جعل «سواء» من صفة الأيّام ؛ فالمعنى : في أربعة أيّام مستويات تامّات ؛ ومن نصب ، فعلى المصدر ؛ فالمعنى : استوت سواء واستواء ؛ ومن رفع ، فعلى معنى : هي سواء. وفي قوله : (لِلسَّائِلِينَ) وجهان : أحدهما : للسائلين القوت ، لأنّ كلّا يطلب القوت ويسأله. والثاني : لمن يسأل : في كم خلقت الأرض؟ فيقال : خلقت في أربعة أيّام سواء ، لا زيادة ولا نقصان. قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) قد شرحناه في البقرة (١) (وَهِيَ دُخانٌ) وفيه قولان : أحدهما : أنه لمّا خلق الماء أرسل عليه الرّيح فثار منه دخان فارتفع وسما ، فسمّاه سماء. والثاني : أنه لمّا خلق الأرض أرسل عليها نارا ، فارتفع منها دخان فسما. قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ) قال ابن عباس : قال للسّماء : أظهري شمسك وقمرك ونجومك ، وقال للأرض : شقّقي أنهارك ، وأخرجي ثمارك ، (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) قال الزّجّاج : هو منصوب على الحال ، وإنما لم يقل : طائعات ، لأنهنّ جرين مجرى ما يعقل ويميّز ، كما قال في النّجوم : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٢) ، قال : وقد قيل : أتينا نحن ومن فينا طائعين. (فَقَضاهُنَ) أي : خلقهنّ وصنعهنّ ، قال أبو ذؤيب الهذلي :

وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السّوابغ تبّع (٣)

معناه : عملهما وصنعهما.

قوله تعالى : (فِي يَوْمَيْنِ) قال ابن عباس وعبد الله بن سلام : وهما يوم الخميس ويوم الجمعة. وقال مقاتل : الأحد والاثنين ، لأنّ مذهبه أنها خلقت قبل الأرض. وقد بيّنا مقدار هذه الأيام في الأعراف (٤). (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) فيه قولان : أحدهما : أوحى ما أراد ، وأمر بما شاء ، قاله مجاهد ، ومقاتل. والثاني : خلق في كلّ سماء خلقها ، قاله السّدّيّ.

قوله تعالى : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي : القربى إلى الأرض (بِمَصابِيحَ) وهي النّجوم ، والمصابيح : السّرج ، فسمّي الكوكب مصباحا ، لإضاءته (وَحِفْظاً) قال الزّجّاج : معناه : وحفظناها من استماع الشياطين بالكواكب حفظا.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ

__________________

(١) البقرة : ٢٩.

(٢) يس : ٤٠.

(٣) في «اللسان» يقال : رجل صنع وامرأة صناع ، إذا كان لهما صنعة يعملانها بأيديهما ويكسبان بها.

(٤) الأعراف : ٥٤.

٤٧

فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨))

قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن الإيمان بعد هذا البيان (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) الصّاعقة : المهلك من كلّ شيء ؛ والمعنى : أنذرتكم عذابا مثل عذابهم. وإنّما خصّ القبيلتين ، لأنّ قريشا يمرّون على قرى القوم في أسفارهم. (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) أي : أتت آباءهم ومن كان قبلهم (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي : من خلف الآباء ، وهم الذين أرسلوا إلى هؤلاء المهلكين (أَلَّا تَعْبُدُوا) أي بأن لا تعبدوا (إِلَّا اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا) أي لو أراد دعوة الخلق (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً).

قوله تعالى : (فَاسْتَكْبَرُوا) أي : تكبّروا عن الإيمان وعملوا بغير الحقّ. وكان هود قد تهدّدهم بالعذاب فقالوا : نحن نقدر على دفعه بفضل قوّتنا. والآيات هاهنا : الحجج. وفي الرّيح الصّرصر أربعة أقوال : أحدها : أنها الباردة ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والضّحّاك. وقال الفرّاء : هي الرّيح الباردة تحرق كالنار ، وكذلك قال الزّجّاج : هي الشديدة البرد جدّا ؛ فالصّرصر متكرّر فيها البرد ، كما تقول : أقللت الشيء وقلقلته ، فأقللته بمعنى رفعته ، وقلقلته : كرّرت رفعه. والثاني : أنها الشّديدة السّموم ، قاله مجاهد. والثالث : الشّديدة الصّوت ، قاله السّدّيّ ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة. والرابع : الباردة الشديدة ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو : «نحسات» بإسكان الحاء ؛ وقرأ الباقون : بكسرها. قال الزّجّاج : من كسر الحاء ، فواحدهن «نحس» ، ومن أسكنها ، فواحدهنّ «نحس» ؛ والمعنى : مشؤومات. وفي أوّل هذه الأيّام ثلاثة أقوال (١) : أحدها : غداة يوم الأحد ، قاله السّدّيّ. والثاني : يوم الجمعة ، قاله الرّبيع بن أنس. والثالث : يوم الأربعاء ، قاله يحيى بن سلام. والخزي : الهوان.

قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : بيّنّا لهم ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير. وقال قتادة : بيّنّا لهم سبيل الخير والشرّ. والثاني : دعوناهم ، قاله مجاهد. والثالث : دللناهم على مذهب الخير ، قاله الفرّاء. قوله تعالى : (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى) أي اختاروا الكفر على الإيمان (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ) أي ذي الهوان ، وهو الذي يهينهم.

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ

__________________

(١) وهذا من الشؤم المنهي عنه ، حيث لا دليل عليه ، وإنما هي روايات إسرائيلية ، ولا يصح تعيين اسم هذا اليوم ، والقرآن لم يذكر ذلك. قال ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ١١٢ : وقوله (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) أي متتابعات ، (سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) : أي ابتدءوا بهذا العذاب في يوم نحس عليهم ، واستمر بهم هذا النحس سبع ليال وثمانية أيام ، حتّى أبادهم عن آخرهم ، واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب الآخرة.

٤٨

وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥))

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ) وقرأ نافع : «نحشر» بالنّون «أعداء» بالنّصب. قوله تعالى : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي : يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا. (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) يعني النّار التي حشروا إليها (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) ، وفي المراد بالجلود ثلاثة أقوال : أحدها : الأيدي والأرجل. والثاني : الفروج ، رويا عن ابن عباس. والثالث : أنه الجلود نفسها ، حكاه الماوردي. وقد أخرج مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قال :

(١٢٤١) كنّا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضحك فقال : «هل تدرون ممّ أضحك؟» قال : قلنا : الله ورسوله أعلم. قال : «من مخاطبة العبد ربّه ، يقول : يا ربّ ألم تجرني من الظّلم؟ قال : يقول : بلى ، قال : فيقول : فإنّي لا أجيز عليّ إلّا شاهدا منّي ، قال : فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا ، وبالكرام الكاتبين شهودا ، قال : فيختم على فيه ، فيقال لأركانه : انطقي ، قال : فتنطق بأعماله ، قال : ثمّ يخلّى بينه وبين الكلام ، فيقول : بعدا لكنّ وسحقا ، فعنكنّ كنت أناضل».

قوله تعالى : (قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي : ممّا نطق. وهاهنا تمّ الكلام. وما بعده ليس من جواب الجلود.

قوله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ).

(١٢٤٢) روى البخاريّ ومسلم في «الصّحيحين» من حديث ابن مسعود قال : كنت مستترا بأستار الكعبة ، فجاء ثلاثة نفر ، قرشيّ وختناه ثقفيّان ، أو ثقفيّ وختناه قرشيّان ، كثير شحم بطونهم ، قليل فقه قلوبهم ، فتكلّموا بكلام لم أسمعه ، فقال أحدهم : أترون الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخران : إنّا إذا

____________________________________

(١٢٤١) صحيح. أخرجه مسلم ٢٩٦٩ عن أبي بكر بن أبي النضر من حديث أنس. وأخرجه أبو يعلى ٣٩٧٧ وابن حبان ٧٣٥٨ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٤٦٧ من طرق عن أبي بكر بن أبي النضر به.

(١٢٤٢) صحيح. أخرجه البخاري ٤٨١٧ والبغوي في «التفسير» ١٨٦٤ عن الحميدي من حديث ابن مسعود.

وأخرجه البخاري ٤٨١٦ و ٧٥٢١ ومسلم ٢٧٧٥ والترمذي ٣٢٤٥ والطيالسي ١٩٧٢ والنسائي في «التفسير» ٤٨٨ والطبري ٣٠٤٩٦ والبيهقي في «الأسماء الصفات» ١٧٧ والواحدي في «أسباب النزول» ٧٣٢ من طرق عن منصور به. وأخرجه مسلم ٢٧٧٥ وأحمد ١ / ٣٨١ و ٤٢٦ و ٤٤٢ و ٤٤٤ وأبو يعلى ٥٢٠٤ والطبري ٣٠٤٩٧ والواحدي في «أسباب النزول» ٧٣٣ من طريق الأعمش عن عمارة عن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود به. وأخرجه الحميدي ٨٧ من طريق سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به.

٤٩

رفعنا أصواتنا سمعه ، وإن لم نرفع لم يسمع ، وقال الآخر : إن سمع منه شيئا سمعه كلّه ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ) إلى قوله : (مِنَ الْخاسِرِينَ).

ومعنى «تستترون» : تستخفون «أن يشهد» أي : من أن يشهد «عليكم سمعكم» لأنّكم لا تقدرون على الاستخفاء من جوارحكم ، ولا تظنّون أنها تشهد (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) قال ابن عباس : كان الكفّار يقولون : إنّ الله لا يعلم ما في أنفسنا ، ولكنه يعلم ما يظهر ، (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ) أي : أنّ الله لا يعلم ما تعملون ، (أَرْداكُمْ) أهلككم. (فَإِنْ يَصْبِرُوا) أي : على النّار فهي مسكنهم ، (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) أي : يسألوا أن يرجع لهم إلى ما يحبّون ، لم يرجع لهم ، لأنهم لا يستحقّون ذلك. يقال : أعتبني فلان ، أي : أرضاني بعد إسخاطه إيّاي. واستعتبته ، أي : طلبت منه أن يعتب ، أي : يرضى. قوله تعالى : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) أي : سبّبنا لهم قرناء من الشياطين (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا جنّة ولا نار ولا بعث ولا حساب ، وما خلفهم من أمر الدنيا ، فزيّنوا لهم اللّذات وجمع الأموال وترك الإنفاق في الخير. والثاني : ما بين أيديهم من أمر الدنيا ، وما خلفهم من أمر الآخرة ، على عكس الأول. والثالث : ما بين أيديهم : ما فعلوه ، وما خلفهم : ما عزموا على فعله. وباقي الآية قد تقدّم تفسيره (١).

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨))

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) أي : لا تسمعوه (وَالْغَوْا فِيهِ) أي : عارضوه باللّغو ، وهو الكلام الخالي عن فائدة. وكان الكفّار يوصي بعضهم بعضا : إذا سمعتم القرآن من محمّد وأصحابه فارفعوا أصواتكم حتى تلبّسوا عليهم قولهم. وقال مجاهد : والغوا فيه بالمكاء والصّفير والتّخليط من القول على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فيسكتون.

قوله تعالى : (ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) يعني العذاب المذكور. وقوله : (النَّارُ) بدل من الجزاء (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) أي : دار الإقامة. قال الزّجّاج : النّار هي الدّار ، ولكنه كما تقول : لك في هذه الدّار دار السّرور ، وأنت تعني الدّار بعينها ، قال الشاعر :

أخو رغائب يعطيها ويسألها

يأبى الظّلامة منه النّوفل الزّفر (٢)

__________________

(١) الأعراف : ٣٨ ، الإسراء : ١٦.

(٢) البيت لأعشى باهلة كما في «الأصمعيات» ٨٩ و«خزانة الأدب» ١ / ٨٩. والرغائب : العطايا الواسعة. والنّوفل : السيد المعطاء. والزفر : السيد. وقال في «اللسان» لأنه يزدفر بالأموال في الحمالات مطيقا له ، والمعنى : يأبى الظلامة لأنه النوفل الزفر.

٥٠

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢))

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) لمّا دخلوا النّار (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) وقرأ ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم : «أرنا» بسكون الراء. قال المفسّرون : يعنون إبليس وقابيل ، لأنهما سنّا المعصية ، (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) أي : في الدّرك الأسفل ، وهو أشدّ عذابا من غيره. ثم ذكر المؤمنين فقال : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي : وحّدوه (ثُمَّ اسْتَقامُوا) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : استقاموا على التوحيد ، قاله أبو بكر الصّديق ، ومجاهد. والثاني : على طاعة الله وأداء فرائضه ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة. والثالث : على الإخلاص والعمل إلى الموت ، قاله أبو العالية ، والسّدّيّ.

(١٢٤٣) وروى عطاء عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصّدّيق ، وذلك أنّ المشركين قالوا : ربّنا الله ، والملائكة بناته ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، فلم يستقيموا ، وقالت اليهود : ربّنا الله ، وعزير ابنه ، ومحمّد ليس بنبيّ ، فلم يستقيموا ، وقالت النّصارى : ربّنا الله ، والمسيح ابنه ، ومحمّد ليس بنبيّ ، فلم يستقيموا ، وقال أبو بكر : ربّنا الله وحده ، ومحمّد عبده ورسوله ، فاستقام.

قوله تعالى : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا) أي : بأن لا تخافوا. وفي وقت نزولها عليهم قولان (١) : أحدهما : عند الموت ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ؛ فعلى هذا في معنى (أَلَّا تَخافُوا) قولان : أحدهما : لا تخافوا الموت ، ولا تحزنوا على أولادكم ، قاله مجاهد. والثاني : لا تخافوا ما أمامكم ، ولا تحزنوا على ما خلفكم ، قاله عكرمة ، والسّدّيّ. والقول الثّاني : تتنزّل عليهم إذا قاموا من القبور ، قاله قتادة ؛ فيكون معنى (أَلَّا تَخافُوا) : أنهم يبشّرونهم بزوال الخوف والحزن يوم القيامة. قوله تعالى : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ) قال المفسّرون : هذا قول الملائكة لهم ، والمعنى : نحن الذين كنّا نتولّاكم في الدّنيا ، لأنّ الملائكة تتولّى المؤمنين وتحبّهم لما ترى من أعمالهم المرفوعة إلى السماء ، (وَفِي الْآخِرَةِ) أي : ونحن معكم في الآخرة لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنّة. وقال السّدّيّ : هم الحفظة على ابن آدم ، فلذلك قالوا : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) ؛ وقيل : هم الملائكة الذين يأتون لقبض الأرواح. قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها) أي : في الجنّة. (نُزُلاً) قال الزّجّاج : معناه : أبشروا بالجنّة تنزلونها نزلا. وقال الأخفش : لكم فيها ما تشتهي أنفسكم أنزلناه نزلا.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما

____________________________________

(١٢٤٣) ذكره الواحدي بدون إسناد في «أسباب النزول» ٧٣٤ ، ولم أره مسندا ، فهو لا شيء ، لخلوه عن الإسناد ، والصحيح عموم الآية ، وذكر اليهود والنصارى في هذا الخبر منكر جدا.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١١٧ : قال زيد بن أسلم : يبشرونه عند موته ، وفي قبره ، وحين يبعث.

وهذا القول يجمع الأقوال كلها. وهو حس جدا ، وهو الواقع.

٥١

يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦))

قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) فيمن أريد بهذا ثلاثة أقوال (١) : أحدها : أنهم المؤذّنون. روى جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

(١٢٤٤) «نزلت في المؤذّنين» ، وهذا قول عائشة ، ومجاهد ، وعكرمة.

(١٢٤٥) والثاني : أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا إلى شهادة أن لا إله إلّا الله ، قاله ابن عباس ، والسّدّيّ ، وابن زيد. والثالث : أنه المؤمن أجاب الله إلى ما دعاه ، ودعا الناس إلى ذلك (وَعَمِلَ صالِحاً) في إجابته ، قاله الحسن.

وفي قوله تعالى : (وَعَمِلَ صالِحاً) ثلاثة أقوال : أحدها : صلّى ركعتين بعد الأذان ، وهو قول عائشة ، ومجاهد ، وروى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) قال : الأذان (وَعَمِلَ صالِحاً) قال : الصّلاة بين الأذان والإقامة. والثاني : أدّى الفرائض وقام لله بالحقوق ، قاله عطاء. والثالث : صام وصلّى ، قاله عكرمة.

قوله تعالى : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) قال الزّجّاج : (لا) زائدة مؤكّدة ؛ والمعنى : ولا تستوي الحسنة والسّيّئة ، وللمفسّرين فيهما ثلاثة أقوال : أحدها : أنّ الحسنة : الإيمان ، والسّيّئة : الشّرك ، قاله ابن عباس .. والثاني : الحلم والفحش ، قاله الضّحّاك. والثالث : النّفور والصّبر ، حكاه الماوردي.

قوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وذلك كدفع الغضب بالصّبر ، والإساءة بالعفو ، فإذا فعلت ذلك صار الذي بينك وبينه عداوة كالصّديق القريب (٢). وقال عطاء. هو السّلام على من تعاديه إذا

____________________________________

(١٢٤٤) لم أره في شيء من كتب التفسير والأثر ، والأشبه أن المصنف أخذه من تفسير الكلبي أو مقاتل أو نحوهما ، فإن المتن باطل. والصحيح العموم في كل داع يدعو إلى الله تعالى.

(١٢٤٥) أثر واه. أخرجه الطبري ٣٠٥٤٢ عن ابن زيد ، واسمه عبد الرحمن ، وهو متروك ، ليس بشيء.

وأخرجه ٣٠٥٤١ عن السدي به ، ولم أره عن ابن عباس. ولا يصح ، وانظر التعليق المتقدم.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ١١٨ ـ ١١٩ : وهذه عامة في كل من دعا إلى خير ، وهو في نفسه مهتد ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أولى الناس بذلك. وقال بعد أن ذكر الأقوال فيمن نزلت : والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم ، فأما حال نزول هذه الآية فإنه لم يكن الأذان مشروعا بالكلية ، لأنها مكية ، والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة ، حين أريه عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري في منامه ، فقصه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره أن يلقيه على بلال فإنه أندى صوتا.

(٢) قال ابن كثير في «تفسيره» ٣ / ١١٩ : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي : من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ، وقوله (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) وهو الصديق ، أي : إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك ، والحنو عليك ، حتى يصير كأنه ولي لك حميم ، أي : قريب إليك. من الشفقة عليك والإحسان إليك وقال في ٢ / ٣٤٩ : وقال بعض العلماء : الناس رجلان : فرجل محسن ، فخذ ما عفا لك من إحسانه ، ولا تكلّفه فوق طاقته ولا ما يحرجه ، وإما مسيء فمره بالمعروف ، فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله ، فأعرض عنه ، فلعل ذلك أن يردّ كيده.

٥٢

لقيته. قال المفسّرون : وهذه الآية منسوخة بآية السّيف. قوله تعالى : (وَما يُلَقَّاها) أي : ما يعطاها. قال الزّجّاج : ما يلقّى هذه الفعلة : وهي دفع السّيّئة بالحسنة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) على كظم الغيظ (وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من الخير. وقال السّدّيّ : إلّا ذو جدّ. وقال قتادة : الحظّ العظيم : الجنّة ؛ فالمعنى : ما يلقّاها إلّا من وجبت له الجنّة.

قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) قد فسّرناه في الأعراف (١).

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩))

قوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) أي : تكبّروا عن التوحيد والعبادة (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني الملائكة (يُسَبِّحُونَ) أي : يصلّون. و«يسأمون» بمعنى يملّون. وفي موضع السّجدة قولان (٢) : أحدهما : أنه عند قوله : «يسأمون» ، قاله ابن عباس ، ومسروق ، وقتادة ، واختاره القاضي أبو يعلى ، لأنه تمام الكلام. والثاني : أنه عند قوله : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ، روي عن أصحاب عبد الله ، والحسن ، وأبي عبد الرّحمن.

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) قال قتادة : غبراء متهشّمة ، قال الأزهري : إذا يبست الأرض ولم تمطر ، قيل : خشعت. قوله تعالى : (اهْتَزَّتْ) أي : تحرّكت بالنّبات (وَرَبَتْ) أي علت ، لأنّ النّبت إذا أراد أن يظهر ارتفعت له الأرض ؛ وقد سبق بيان هذا (٣).

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) قال مقاتل : نزلت في أبي جهل ، وقد شرحنا معنى الإلحاد في النحل (٤) ؛ وفي المراد به هاهنا خمسة أقوال : أحدها : أنه وضع الكلام على غير موضعه ،

__________________

(١) الأعراف : ٢٠٠.

(٢) قال القرطبي في «تفسيره» ١٥ / ٣١٧ : وقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ...) الآية ، هذه الآية آية سجدة بلا خلاف ، واختلفوا في موضع السجود منها فقال مالك : موضعه (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) لأنه متصل بالأمر وكان علي وابن مسعود رضي الله عنهما وغيرهم يسجدون عند قوله : (تَعْبُدُونَ). وقال ابن وهب والشافعي : موضعه (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) لأنه تمام الكلام وغاية العبادة والامتثال وبه قال أبو حنيفة ، وكان ابن عباس يسجد عند قوله : (يَسْأَمُونَ). وقال ابن عمر : اسجدوا بالآخرة منهما. وكذلك يروى عن مسروق وأبي عبد الرحمن السلمي وإبراهيم النخعي قال ابن العربي : والأمر قريب.

(٣) الحج : ٥.

(٤) النحل : ١٠٣.

٥٣

رواه العوفيّ عن ابن عباس. والثاني : أنه المكاء والصّفير عند تلاوة القرآن ، قاله مجاهد. والثالث : أنه التكذيب بالآيات ، قاله قتادة. والرابع : أنه المعاندة ، قاله السّدّيّ. والخامس : أنه الميل عن الإيمان بالآيات ، قاله مقاتل.

قوله تعالى : (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) هذا وعيد بالجزاء (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ) وهذا عامّ ، غير أنّ المفسّرين ذكروا فيمن أريد به سبعة أقوال : أحدها : أنه أبو جهل وأبو بكر الصّدّيق ، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. والثاني : أبو جهل وعمّار بن ياسر ، قاله عكرمة. والثالث : أبو جهل ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله ابن السّائب ، ومقاتل. والرابع : أبو جهل وعثمان بن عفّان ، حكاه الثّعلبي. والخامس : أبو جهل وحمزة ، حكاه الواحدي. والسادس : أبو جهل وعمر بن الخطّاب. والسابع : الكافر والمؤمن ، حكاهما الماوردي.

قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) قال الزّجّاج : لفظه لفظ الأمر ، ومعناه الوعيد والتّهديد. قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) يعني القرآن ؛ ثمّ أخذ في وصف الذّكر ؛ وترك جواب «إنّ» ، وفي جوابها هاهنا قولان : أحدهما : أنه (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ، ذكره الفرّاء. والثاني : أنه متروك ، وفي تقديره قولان : أحدهما : إنّ الذين كفروا بالذّكر لمّا جاءهم كفروا به. والثاني : إنّ الذين كفروا يجازون بكفرهم.

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) فيه أربعة أقوال : أحدها : منيع من الشيطان لا يجد إليه سبيلا ، قاله السّدّيّ. والثاني : كريم على الله ، قاله ابن السّائب. والثالث : منيع من الباطل ، قاله مقاتل. والرابع : يمتنع على الناس أن يقولوا مثله ، حكاه الماوردي.

قوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) فيه ثلاثة أقوال. أحدها : التكذيب ، قاله سعيد بن جبير. والثاني : الشيطان. والثالث : التّبديل ، رويا عن مجاهد. قال قتادة : لا يستطيع إبليس أن ينقص منه حقّا ولا يزيد فيه باطلا ، وقال مجاهد : لا يدخل فيه ما ليس منه. وفي قوله : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) ثلاثة أقوال : أحدها : بين يدي تنزيله وبعد نزوله. والثاني : أنه ليس قبله كتاب يبطله ولا يأتي بعده كتاب يبطله. والثالث : لا يأتيه الباطل في إخباره عمّا تقدّم ولا في إخباره عمّا تأخّر.

(ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤))

قوله تعالى : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) فيه قولان : أحدهما : أنه قد قيل فيمن أرسل قبلك : ساحر وكاهن ومجنون. وكذّبوا كما كذّبت ، هذا قول الحسن ، وقتادة ، والجمهور. والثاني : ما تخبر إلّا بما أخبر الأنبياء قبلك من أنّ الله غفور ، وأنه ذو عقاب ، حكاه الماوردي. قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ) يعني الكتاب الذي أنزل عليه (قُرْآناً أَعْجَمِيًّا) أي : بغير لغة العرب (لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي : هلّا بيّنت آياته بالعربية حتى نفهمه؟! (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «آعجمي» بهمزة ممدودة ، وقرأ حمزة ، والكسائيّ ؛ وأبو بكر

٥٤

عن عاصم : «أأعجمي» بهمزتين ، والمعنى : أكتاب أعجميّ ونبيّ عربيّ؟! وهذا استفهام إنكار ؛ أي : لو كان كذلك لكان أشدّ لتكذيبهم. (قُلْ هُوَ) يعني القرآن (لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً) من الضّلالة (وَشِفاءٌ) للشّكوك والأوجاع. و«الوقر» : الصّمم ؛ فهم في ترك القبول بمنزلة من في أذنه صمم. (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أي : ذو عمى. قال قتادة : صمّوا عن القرآن وعموا عنه ، (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي : إنهم لا يسمعون ولا يفهمون كالذي ينادى من بعيد.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) هذه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ والمعنى : كما آمن بكتابك قوم وكذّب به قوم. فكذلك كتاب موسى ، (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) في تأخير العذاب إلى أجل مسمّى وهو القيامة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بالعذاب الواقع بالمكذّبين (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍ) من صدقك وكتابك ، (مُرِيبٍ) أي : موقع لهم الرّيبة.

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨))

قوله تعالى : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) سبب نزولها أنّ اليهود قالوا للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبرنا عن السّاعة إن كنت رسولا كما تزعم ، قاله مقاتل (١). ومعنى الآية : لا يعلم قيامها إلّا هو ، فإذا سئل عنها فعلمها مردود إليه. (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ) قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم : «من ثمرة». وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «من ثمرات» على الجمع (مِنْ أَكْمامِها) أي : أوعيتها. قال ابن قتيبة : أي : من المواضع التي كانت فيها مستترة ، وغلاف كلّ شيء : كمّه ، وإنما قيل : كمّ القميص ، من هذا. قال الزّجّاج : الأكمام : ما غطّى ، وكلّ شجرة تخرج ما هو مكمّم فهي ذات أكمام ، وأكمام النّخلة : ما غطّى جمّارها من السّعف والليف والجذع ، وكلّ ما أخرجته النّخلة فهو ذو أكمام ، فالطّلعة كمّها قشرها ، ومن هذا قيل للقلنسوة : كمّة ، لأنها تغطّي الرأس ، ومن هذا كمّا القميص ، لأنهما يغطّيان اليدين.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) أي : ينادي الله تعالى المشركين (أَيْنَ شُرَكائِي) الذين كنتم تزعمون (قالُوا آذَنَّاكَ) قال الفرّاء ، وابن قتيبة : أعلمناك ، وقال مقاتل : أسمعناك (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) فيه قولان : أحدهما : أنه من قول المشركين ؛ والمعنى : ما منّا من شهيد بأنّ لك شريكا ، فيتبرّؤون يومئذ ممّا كانوا يقولون ، هذا قول مقاتل. والثاني : أنه من قول الآلهة التي كانت تعبد ؛ والمعنى : ما منّا من شهيد لهم بما قالوا ، قاله الفرّاء ، وابن قتيبة.

__________________

(١) باطل. عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ممن يضع الحديث ، والمتن باطل فإن السورة مكية بإجماع ، وأخبار يهود وسؤالاتهم كانت في المدينة.

٥٥

قوله تعالى : (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي بطل عنهم في الآخرة (ما كانُوا يَدْعُونَ) أي يعبدون في الدنيا (وَظَنُّوا) أي أيقنوا (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) وقد شرحنا المحيص في سورة النّساء (١).

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢))

قوله تعالى : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ) قال المفسّرون : المراد به الكافر ؛ فالمعنى : لا يملّ الكافر (مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أي : من دعائه بالخير ، وهو المال والعافية. (وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ) وهو الفقر والشّدّة ، والمعنى : إذا اختبر بذلك يئس من روح الله وقنط من رحمته. وقال أبو عبيدة : اليؤوس ، فعول من يأس ، والقنوط ، فعول من قنط.

قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا) أي : خيرا وعافية وغنى ، (لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي : هذا واجب لي بعملي وأنا محقوق به ، ثم يشكّ في البعث فيقول : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي : لست على يقين من البعث (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) يعني الجنّة ، أي : كما أعطاني في الدنيا يعطيني في الآخرة (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : لنخبرنّهم بمساوئ أعمالهم. وما بعده قد سبق (٢) إلى قوله تعالى : (وَنَأى بِجانِبِهِ) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، «ونأى» مثل «نعى» ، وقرأ ابن عامر : «وناء» مفتوحة النون ، ممدودة والهمزة بعد الألف. وقرأ حمزة : «نئي» مكسورة النون والهمزة. (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) قال الفرّاء ، وابن قتيبة : معنى العريض : الكثير ، وإن وصفته بالطّول أو بالعرض جاز في الكلام. (قُلْ) يا محمّد لأهل مكّة (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ) القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ) أي خلاف للحقّ (بَعِيدٍ) عنه؟ وهو اسم ؛ والمعنى : فلا أحد أضلّ منكم. وقال ابن جرير : معنى الآية : ثمّ كفرتم به ، ألستم في شقاق للحقّ وبعد عن الصّواب؟! فجعل مكان هذا باقي الآية.

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤))

قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) فيه خمسة أقوال (٣) : أحدها : في الآفاق :

__________________

(١) النساء : ١٢١.

(٢) إبراهيم : ١٧ ، الإسراء : ٨٣.

(٣) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١١ / ١٢٥ : إن الله وعد نبيه أن يري هؤلاء المشركين الذين كانوا به مكذبين آيات في الآفاق ، وغير معقول أن يكون تهديدهم بأن يريهم ما هم راؤوه ، بل الواجب أن يكون ذلك وعدا منه لهم أن يريهم ما لم يكونوا أراءوه قبل من ظهور نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أطراف بلدهم وعلى بلدهم. ووافقه ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ١٢٣ وقال : ويحتمل أيضا أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركّب منه وفيه وعليه من

٥٦

فتح أقطار الأرض ، وفي أنفسهم : فتح مكّة ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والسّدّيّ. والثاني : أنها في الآفاق : وقائع الله في الأمم الخالية ، وفي أنفسهم : يوم بدر ، قاله قتادة ، ومقاتل. والثالث : أنّها في الآفاق : إمساك القطر عن الأرض كلّها ، وفي أنفسهم : البلايا التي تكون في أجسادهم ، قاله ابن جريج. والرابع : أنها في الآفاق : آيات السماء كالشمس والقمر والنّجوم ، وفي أنفسهم : حوادث الأرض ، قاله ابن زيد. وحكي عن ابن زيد ؛ أنّ التي في أنفسهم : سبيل الغائط والبول ، فإنّ الإنسان يأكل ويشرب من مكان واحد ، ويخرج من مكانين. والخامس : أنها في الآفاق : آثار من مضى قبلهم من المكذّبين ، وفي أنفسهم : كونهم خلقوا نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما إلى أن نقلوا إلى العقل والتمييز ، قاله الزّجّاج.

قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) في هاء الكناية قولان : أحدهما : أنها ترجع إلى القرآن. والثاني : إلى جميع ما دعاهم إليه الرسول. وقال ابن جرير : معنى الآية : حتى يعلموا حقيقة ما أنزلنا على محمّد وأوحينا إليه من الوعد له بأنّا مظهر ودينه على الأديان كلّها. (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي : أو لم يكف به أنه شاهد على كلّ شيء؟! قال الزجّاج : المعنى : أو لم يكفهم شهادة ربّك؟! ومعنى الكفاية هاهنا : أنه قد بيّن لهم ما فيه كفاية في الدّلالة على توحيده وتثبيت رسله.

____________________________________

المواد والأخلاط والهيئات العجيبة. كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع ـ تبارك وتعالى ـ وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة. من حسن وقبيح وبين ذلك. وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله وقوته وحيله وحذره أن يحوزها ولا يتعدّاها.

٥٧

سورة الشّورى

وتسمى : سورة حم ، عسق. وهي مكّيّة ، رواه العوفيّ وغيره عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والجمهور. وحكي عن ابن عباس وقتادة قالا : إلّا أربع آيات نزلن بالمدينة ، أوّلها : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) (١) وقال مقاتل : فيها من المدنيّ قوله : (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله : (بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢) وقوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) إلى قوله : (مِنْ سَبِيلٍ) (٣).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦))

قوله تعالى : (حم) قد سبق تفسيره. قوله تعالى : (عسق) فيه ثلاثة أقوال (٤). أحدها : أنه قسم أقسم الله به ، وهو من أسمائه ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني : أنه حروف من أسماء ؛ ثم فيه خمسة أقوال : أحدها : أنّ العين علم الله ، والسين سناؤه ، والقاف قدرته ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، وبه قال الحسن. والثاني : أنّ العين فيها عذاب ، والسين فيها مسخ ، والقاف فيها قذف ، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والثالث : أنّ الحاء من حرب ، والميم من تحويل ملك ، والعين من عدوّ مقهور ، والسين استئصال بسنين كسنيّ يوسف ، والقاف من قدرة الله في ملوك الأرض ، قاله عطاء. والرابع : أن العين من عالم ، والسين من قدّوس ، والقاف من قاهر ، قاله سعيد بن جبير. والخامس : أنّ العين من العزيز ، والسين من السّلام ، والقاف من القادر ، قاله السّدّيّ. والثالث : أنه اسم من أسماء القرآن ، قاله قتادة.

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

(٢) الشورى : ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) الشورى : ٣٩ ـ ٤١.

(٤) قال الشوكاني رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٦٠٢ : قد تقدم الكلام في أمثال هذه الفواتح ، واختلفوا في (حم عسق) وقيل فيها ، مما هو متكلف متعسف لم يدل عليه دليل ولا جاءت به حجة ولا شبهة حجة ، وقد ذكرنا قبل ذلك ما روي من ذلك مما لا أصل له.

٥٨

قوله تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ) فيه أربعة أقوال (١) : أحدها : أنه كما أوحيت (حم عسق) إلى كلّ نبيّ ، كذلك نوحيها إليك ، قاله أبو صالح عن ابن عباس (٢). والثاني : كذلك نوحي إليك أخبار الغيب كما أوحينا إلى من قبلك ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث : أنّ «حم عسق» نزلت في أمر العذاب ، فقيل : كذلك نوحي إليك أنّ العذاب نازل بمن كذّبك كما أوحينا ذلك إلى من كان قبلك ، قاله مقاتل. والرابع : أنّ المعنى : هكذا نوحي إليك ، قاله ابن جرير.

وقرأ ابن كثير : «يوحى» بضمّ الياء وفتح الحاء كأنه إذا قيل : من يوحي؟ قيل : الله. وروى أبان عن عاصم : «نوحي» بالنون وكسر الحاء.

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة : «تكاد» بالتاء «يتفطّرن» بياء وتاء مفتوحة وفتح الطاء وتشديدها. وقرأ نافع ، والكسائيّ ، «يكاد» بالياء «يتفطّرن» مثل قراءة ابن كثير. وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر عن عاصم : «تكاد» بالتاء «ينفطرن» بالنون وكسر الطاء وتخفيفها ، أي : يتشقّقن (مِنْ فَوْقِهِنَ) أي : من فوق الأرضين من عظمة الرّحمن ؛ وقيل : من قول المشركين : «اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً». ونظيرها التي في مريم (٣). (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) قال بعضهم : يصلّون بأمر ربّهم ؛ وقال بعضهم : ينزّهونه عمّا لا يجوز في صفته (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) فيه قولان : أحدهما : أنه أراد المؤمنين ، قاله قتادة ، والسّدّيّ. والثاني : أنهم كانوا يستغفرون للمؤمنين ، فلمّا ابتلي هاروت وماروت استغفروا لمن في الأرض. ومعنى استغفارهم : سؤالهم الرّزق لهم ، قاله ابن السّائب. وقد زعم قوم منهم مقاتل أنّ هذه الآية منسوخة بقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) (٤) ، وليس بشيء ، لأنهم إنّما يستغفرون للمؤمنين دون الكفّار ، فلفظ هذه الآية عامّ ، ومعناها خاصّ ، ويدلّ على التّخصيص قوله :

(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) لأنّ الكافر لا يستحقّ أن يستغفر له.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) يعني كفّار مكّة اتّخذوا آلهة فعبدوها من دونه (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) أي : حافظ لأعمالهم ليجازيهم بها (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي : لم نوكّلك بهم فتؤخذ بهم. وهذه الآية عند جمهور المفسّرين منسوخة بآية السّيف ، ولا يصحّ.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩))

__________________

(١) قال الزمخشري رحمه‌الله في «الكشاف» ٤ / ٢١٣ : (كذلك يوحى إليك) أي مثل ذلك الوحي. أو مثل ذلك الكتاب يوحي إليك وإلى الرسل (من قبلك) يعني أن ما تضمنته هذه السورة من المعاني قد أوحى الله إليك مثله في غيرها من السور ، وأوحاه من قبلك إلى رسله ، على معنى : أن الله تعالى كرر هذه المعاني في القرآن في جميع الكتب السماوية ، لما فيها من التنبيه البليغ واللطف العظيم لعباده في الأولين والآخرين ، ولم يقل : أوحي إليك ، ولكن على لفظ المضارع ، ليدل على أن إيحاء مثله عادته.

(٢) أبو صالح غير ثقة وبخاصة في ابن عباس ، وروايته الكلبي ، وهو وضاع.

(٣) مريم : ٩٠.

(٤) غافر : ٧.

٥٩

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ) أي : ومثل ما ذكرنا (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) ليفهموا ما فيه (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى) يعني مكّة ، والمراد : أهلها ، (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) أي : وتنذرهم يوم الجمع ، وهو يوم القيامة ، يجمع الله فيه الأوّلين والآخرين وأهل السموات والأرضين (لا رَيْبَ فِيهِ) أي : لا شكّ في هذا الجمع أنه كائن ، ثم بعد الجمع يتفرّقون ، وهو قوله : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ). ثم ذكر سبب افتراقهم فقال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً) أي على دين واحد ، كقوله : (لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) (١) (وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) أي في دينه (وَالظَّالِمُونَ) وهم الكافرون (ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍ) يدفع عنهم العذاب (وَلا نَصِيرٍ) يمنعهم منه. (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ) أي بل اتّخذ الكافرون من دون الله (أَوْلِياءَ) يعني آلهة يتولّونهم (فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) أي وليّ أوليائه ، فليتّخذوه وليّا دون الآلهة ؛ وقال ابن عباس : وليّك يا محمّد ووليّ من اتّبعك.

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤))

قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) أي : من أمر الدّين ؛ وقيل : بل هو عامّ (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) فيه قولان : أحدهما : علمه عند الله. والثاني : هو يحكم فيه. قال مقاتل : وذلك أنّ أهل مكّة كفر بعضهم بالقرآن وآمن بعضهم ، فقال الله : أنا الذي أحكم فيه (ذلِكُمُ اللهُ) الذي يحكم بين المختلفين هو (رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في مهمّاتي (وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي أرجع في المعاد. (فاطِرُ السَّماواتِ) قد سبق بيانه (٢) ، (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من مثل خلقكم (أَزْواجاً) نساء (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) أصنافا ذكورا وإناثا ، والمعنى أنه خلق لكم الذّكر والأنثى من الحيوان كلّه (يَذْرَؤُكُمْ) فيها ثلاثة أقوال : أحدها : يخلقكم ، قاله السّدّيّ. والثاني : يعيّشكم ، قاله مقاتل. والثالث : يكثّركم ، قاله الفرّاء. وفي قوله (فِيهِ) قولان : أحدهما : أنها على أصلها ، قاله الأكثرون. فعلى هذا في هاء الكناية ثلاثة أقوال : أحدها : أنها ترجع إلى بطون الإناث وقد تقدّم ذكر الأزواج ، قاله زيد بن أسلم. فعلى هذا يكون المعنى : يخلقكم في بطون النّساء ، وإلى نحو هذا ذهب ابن قتيبة ، فقال : يخلقكم في الرّحم أو في الزّوج ؛ وقال ابن جرير : يخلقكم فيما جعل لكم من أزواجكم ؛ ويعيّشكم فيما جعل لكم من الأنعام.

__________________

(١) الأنعام : ٣٥.

(٢) الأنعام : ١٤.

٦٠