زاد المسير في علم التفسير - ج ٤

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٤

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧))

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) و«من» صلة ، قوله : (مِنْ وُجْدِكُمْ) قرأ الجمهور بضمّ الواو. وقرأ أبو هريرة ، وأبو عبد الرّحمن ، وأبو رزين ، وقتادة ، وروح عن يعقوب بكسر الواو. وقال ابن قتيبة : أي : بقدر وسعكم. وقرأ ابن يعمر ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة : بفتح الواو. والوجد : المقدرة ، والغنى ؛ يقال : افتقر فلان بعد وجد. قال الفرّاء : يقول : على ما يجد ، فإن كان موسّعا عليه ، وسّع عليها في المسكن والنّفقة ، وإن كان مقتّرا عليه ، فعلى قدر ذلك.

قوله عزوجل : (وَلا تُضآرُّوهُنَ) بالتّضييق عليهنّ في المسكن ، والنّفقة ، وأنتم تجدون سعة. قال القاضي أبو يعلى : والمراد بهذا : المطلّقة الرّجعيّة دون المبتوتة ، بدليل قوله عزوجل : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) (١) وقوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (٢) فدلّ ذلك على أنه أراد الرّجعيّة.

وقد اختلف الفقهاء في المبتوتة (٣) : هل لها سكنى ، ونفقة في مدّة العدّة ، أم لا؟ فالمشهور عند أصحابنا : أنه لا سكنى لها ولا نفقة ، وهو قول ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة : لها السّكنى ، والنّفقة. وقال مالك والشّافعيّ : لها السّكنى ، دون النّفقة. وقد رواه الكوسج عن الإمام أحمد رضي الله عنه ويدلّ على الأول.

(١٤٦٣) حديث فاطمة بنت قيس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها : إنما النّفقة للمرأة على زوجها ما كانت له

____________________________________

(١٤٦٣) صحيح. أخرجه مسلم ١٤٨٠ ح ٣٦ وأبو داود ٢٢٨٤ والنسائي ٦ / ٧٥ ـ ٧٦ وأحمد ٦ / ٤١٢ والشافعي ٢ / ١٨ ـ ١٩ و ٥٤ وابن حبان ٤٢٩٠ وابن الجارود ٧٦٠ والطبراني ٢٤ / (٩١٣) والبيهقي ٧ / ١٣٥ و ١٧٧ و ١٨١ و ٤٧١ من طرق عن مالك به. وأخرجه مسلم ١٤٨٠ ح ٣٨ وأبو داود ٢٢٨٥ و ٢٢٨٦ و ٢٢٨٧ والنسائي ٦ / ١٤٥ والطبراني ٢٤ / (٩٢٠) وابن حبان ٤٢٥٣ والبيهقي ٧ / ١٧٨ من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة به. وأخرجه مسلم ١٤٨٠ ح ٤٨ والنسائي ٦ / ١٥٠ والترمذي ١١٣٥ وابن ماجة ٢٠٣٥ وأحمد

__________________

(١) الطلاق : ١.

(٢) الطلاق : ٢.

(٣) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١٨ / ١٤٨ ـ ١٤٩ : قال أشهب عن مالك : يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل ، لقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَ) فلو كان معها ما قال أسكنوهن. وقال ابن نافع : قال مالك في قول الله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) يعني المطلقات اللاتي بك من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن وليست حاملا. فلها السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة ، لأنها بائن منه ، لا يتوارثان ولا رجعة له عليها. وإن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن حتى تنقضي عدتها. فأما من لم تبن منهن فإنهن نساؤهم يتوارثون ، ولا يخرجن إلا أن يأذن لهن أزواجهن ما كن في عهدتهن ، ولم يؤمروا بالسكنى لهن لأن ذلك لازم لأزواجهن مع نفقتهن وكسوتهن ، حوامل كن أو غير حوامل إنما أمر الله بالسكنى للائي بن من أزواجهن مع نفقتهن ، قال تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) فجعل الله عزوجل للحوامل اللائي قد بنّ من أزواجهن السكنى والنفقة. قال ابن العربي : وبسط ذلك وتحقيقه أن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة. فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل ، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها. وهي مسألة عظيمة وهذا مأخذها من القرآن.

٣٠١

عليها الرّجعة ، فإذا لم يكن له عليها الرّجعة ، فلا نفقة ولا سكنى. ومن حيث المعنى : إنّ النّفقة إنما تجب لأجل التّمكين من الاستمتاع ، بدليل أنّ النّاشز لا نفقة لها.

واختلفوا في الحامل ، والمتوفّى عنها زوجها ، فقال ابن مسعود ، وابن عمر ، وأبو العالية ، والشّعبي ، وشريح ، وإبراهيم : نفقتها من جميع المال ، وبه قال مالك ، وابن أبي ليلى ، والثّوريّ. وقال ابن عباس ، وابن الزّبير ، والحسن ، وسعيد بن المسيّب ، وعطاء : نفقتها في مال نفسها ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه. وعن أحمد كالقولين.

قوله عزوجل : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) يعني : أجرة الرّضاع. وفي هذا دلالة على أنّ الأمّ إذا رضيت أن ترضعه بأجرة مثله ، لم يكن للأب أن يسترضع غيرها (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) ، أي : لا تشتطّ المرأة على الزوج فيما تطلبه من أجرة الرّضاع ، ولا يقصّر الزّوج عن المقدار المستحقّ (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) في الأجرة ، ولم يتراض الوالدان على شيء (فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) لفظه لفظ الخبر ، ومعناه : الأمر : أي : فليسترضع الوالد غير والدة الصبي. (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أمر أهل التّوسعة أن يوسّعوا على نسائهم المرضعات أولادهن على قدر سعتهم. وقرأ ابن السّميفع «لينفق» بفتح القاف. (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) أي : ضيّق عليه من المطلّقين. وقرأ أبيّ بن كعب ، وحميد «قدر عليه» بضمّ القاف ، وتشديد الدال. وقرأ ابن مسعود ، وابن أبي عبلة «قدر» بفتح القاف وتشديد الدال «رزقه» بنصب القاف. (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) على قدر ما أعطاه من المال (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) أي : على قدر ما أعطاها من المال (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي : بعد ضيق وشدّة ، غنى وسعة ، وكان الغالب عليهم حينئذ الفقر ، فأعلمهم أنه سيفتح عليهم بعد ذلك.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١))

قوله عزوجل : (وَكَأَيِّنْ) أي : وكم (مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) ، أي : عن أمر رسله. والمعنى : عتا أهلها. قال ابن زيد : عتت ، أي : كفرت ، وتركت أمر ربّها ، فلم تقبله.

وفي باقي الآية قولان : أحدهما : أنّ فيها تقديما ، وتأخيرا. والمعنى : عذّبناها عذابا نكرا في الدنيا بالجوع ، والسيف ، والبلايا ، وحاسبناها حسابا شديدا في الآخرة ، قاله ابن عباس ، والفرّاء في آخرين. والثاني : أنها على نظمها ، والمعنى : حاسبناها بعملها في الدنيا ، فجازيناها بالعذاب على مقدار عملها ، فذلك قوله عزوجل : (وَعَذَّبْناها) فجعل المجازاة بالعذاب محاسبة. والحساب الشديد : هو

____________________________________

٦ / ٤١١ وابن حبان ٤٢٥٤ والطبراني ٢٤ / (٩٢٩) والبيهقي ٧ / ١٣٦ و ٤٧٣ من طرق عن سفيان عن أبي بكر بن أبي الجهم عن فاطمة بنت قيس به مطوّلا ومختصرا. وأخرجه مالك في «الموطأ» ٢ / ٥٨٠ والبغوي في «شرح السنة» ٢٣٧٨ عن عبد الله بن يزيد به.

٣٠٢

الذي لا عفو فيه ، والنكر : المنكر (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) أي : جزاء ذنبها (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) في الدنيا ، والآخرة ، وقال ابن قتيبة : الخسر : الهلكة.

قوله عزوجل : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) أي : قرآنا (رَسُولاً) أي : وبعث رسولا ، قاله مقاتل. وإلى نحوه ذهب السّدّيّ. وقال ابن السّائب : الرسول هاهنا : جبرائيل ، فعلى هذا : يكون الذّكر والرسول جميعا منزّلين. وقال ثعلب : الرسول : هو الذّكر. وقال غيره : معنى الذّكر هاهنا : الشّرف. وما بعده قد تقدّم (١) إلى قوله عزوجل : (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) يعني : الجنّة التي لا ينقطع نعيمها.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

قوله : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) أي : وخلق الأرض بعددهنّ. وجاء في الحديث : أنّ كثافة كلّ سماء مسيرة خمسمائة عام ، وما بينها وبين الأخرى كذلك ، وكثافة كلّ أرض خمسمائة عام ، وما بينها وبين الأرض الأخرى كذلك.

(١٤٦٤) وقد روى أبو الضّحى عن ابن عباس قال : في كلّ أرض آدم مثل آدمكم ، ونوح مثل نوحكم ، وإبراهيم مثل إبراهيمكم ، وعيسى كعيسى ، فهذا الحديث تارة يرفع إلى ابن عباس ، وتارة يوقف على أبي الضّحى ، وليس له معنى إلّا ما حكى أبو سليمان الدّمشقيّ ، قال : سمعت أنّ معناه : إنّ في كلّ أرض خلقا من خلق الله لهم سادة ، يقوم كبيرهم ومتقدّمهم في الخلق مقام آدم فينا ، وتقوم ذرّيّته في السّنّ والقدم كمقام نوح. وعلى هذا المثال سائرهم. وقال كعب : ساكن الأرض الثانية : الريح العقيم ، وفي الثالثة : حجارة جهنّم ، والرابعة : كبريت جهنّم ، والخامسة : حيّات جهنّم ، والسادسة : عقارب جهنّم ، والسابعة : فيها إبليس (٢).

قوله عزوجل : (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) ، في الأمر قولان : أحدهما : أنه قضاء الله وقدره ، قاله الأكثرون. قال قتادة : في كلّ أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقه ، وأمر من أمره ، وقضاء من قضائه. والثاني : أنه الوحي ، قاله مقاتل.

قوله عزوجل : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) المعنى أعلمكم هذا لتعلموا قدرته على كلّ شيء وعلمه بكلّ شيء.

____________________________________

(١٤٦٤) هذا الأثر من الإسرائيليات ، وهو باطل لا أصل له. فلا يوجد في باطن الأرض كنبينا ولا غيره ، بل وليس في باطن الأرض بشرا ، وليست صالحة للحياة أصلا. والإسناد إلى أبي الضحى صحيح كما في «تفسير الطبري» ٣٤٣٧١ وأبو الضحى ثقة ، وعلى هذا يكون ابن عباس تلقاه عن أهل الكتاب ، فقد ثبت أنه روى عن كعب الأحبار وغيره. لا فائدة من هذه الأقوال لأنها إسرائيلية.

__________________

(١) البقرة : ٢٥٧ ، والأحزاب : ٤٣ ، والتغابن : ٩.

(٢) هذا كسابقه من الإسرائيليات التي نقلها كعب وغيره عن كتب الأقدمين. والله أعلم.

٣٠٣

سورة التّحريم

وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥))

قوله عزوجل : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) في سبب نزولها قولان :

(١٤٦٥) أحدهما : أنّ حفصة ذهبت إلى أبيها تتحدّث عنده ، فأرسل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جاريته ، فظلّت

____________________________________

(١٤٦٥) ورد من وجوه متعددة بألفاظ متقاربة منها :

حديث ابن عباس : أخرجه الطبري ٣٤٣٩٢ وإسناده واه لأجل عطية العوفي. وورد من وجه آخر بنحوه ، أخرجه الطبري ٣٤٣٩٧ ، ورجاله ثقات ، لكن فيه عنعنة ابن إسحاق. وورد من وجه آخر ، أخرجه الهيثم بن كليب في «مسنده» كما في «تفسير ابن كثير» ٤ / ٤٥٦ وقال ابن كثير : إسناده صحيح.

٢ ـ مرسل الضحاك ، أخرجه الطبري ٣٤٣٨٩.

٣ ـ مرسل عبد الرحمن بن زيد ، أخرجه الطبري ٣٤٣٨٨.

٤ ـ مرسل الشعبي ، أخرجه الطبري ٣٤٣٩٠.

٥ ـ مرسل أبي عثمان ، أخرجه الطبري ٣٤٣٩٤.

٦ ـ مرسل قتادة والحسن ، أخرجه الطبري ٣٤٣٩٥.

٧ ـ مرسل زيد بن أسلم ، أخرجه الطبري ٣٤٣٨٢.

٨ ـ مرسل مسروق ، أخرجه الطبري ٣٤٣٨٣.

٩ ـ حديث أنس ، وهو مختصر ، أخرجه النسائي في «التفسير» ٦٢٧ والحاكم ٢ / ٤٩٣ وإسناده حسن ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي. وله شواهد أخرى ، انظر «الكشاف» ١٢٠٧ بتخريجي.

الخلاصة : هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده. وانظر «أحكام القرآن» ٢١٥٦ بتخريجنا.

٣٠٤

معه في بيت حفصة ، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة ، فرجعت حفصة ، فوجدتها في بيتها ، فجعلت تنتظر خروجها ، وغارت غيرة شديدة. فلما دخلت حفصة قالت : قد رأيت من كان عندك. والله لقد سؤتني ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والله لأرضينّك ، وإني مسرّ إليك سرّا فاحفظيه» ، قالت : وما هو؟ قال : «إني أشهدك أنّ سرّيّتي هذه عليّ حرام رضى لك» ، وكانت عائشة وحفصة متظاهرتين على نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانطلقت حفصة إلى عائشة ، فقالت لها : أبشري ، إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حرّم عليه فتاته. فنزلت هذه الآية رواه العوفيّ عن ابن عباس.

(١٤٦٦) وقد روي عن عمر نحو هذا المعنى ، وقال فيه : فقالت حفصة : كيف تحرّمها ، عليك ،؟! فحلف لها أن لا يقربها ، فقال لها : «لا تذكريه لأحد» فذكرته لعائشة ، فآلى أن لا يدخل على نسائه شهرا ، فنزلت هذه الآية.

(١٤٦٧) وقال الضّحّاك : قال لها : «لا تذكري لعائشة ما رأيت» فذكرته ، فغضبت عائشة ، ولم تزل بنبيّ الله حتى حلف أن لا يقربها ، فنزلت هذه الآية ، وإلى هذا المعنى : ذهب سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، والشّعبيّ ، ومسروق ، ومقاتل ، والأكثرون.

(١٤٦٨) والثاني : ما روى عروة عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبّ الحلواء والعسل ، وكان إذا انصرف من صلاة العصر دخل على نسائه ، فدخل على حفصة بنت عمر ، واحتبس عندها ، فسألت عن ذلك ، فقيل لي : أهدت لها امرأة من قومها عكّة من عسل (١) ، فسقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : أما والله لنحتالنّ له ، فقلت لسودة : إنه سيدنو منك إذا دخل عليك ، فقولي له : يا رسول الله أكلت مغافير ، فإنه سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسل ، فقولي : جرست نحله العرفط (٢) وسأقول ذلك ؛ وقولي أنت يا صفيّة ذلك ، فلمّا دنا من سودة قالت له ذلك ولمّا دخل عليّ قلت له مثل ذلك فلما دار إلى صفيّة قالت له مثل ذلك فلما دار إلى حفصة قالت له : يا رسول الله أسقيك منه؟ قال : لا حاجة لي فيه. قالت : تقول سودة : سبحان الله ، والله لقد حرمناه. قلت لها : اسكتي. أخرجه البخاريّ ومسلم في «الصحيحين».

(١٤٦٩) وفي رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس : أنّ التي شرب عندها العسل سودة ، فقالت له

____________________________________

(١٤٦٦) أخرجه الطبري ٣٤٣٩٧ بهذا اللفظ عن ابن عباس عن عمر. وفيه محمد بن إسحاق مدلس ، وقد عنعن ، وهو في الصحيح بغير هذا السياق ، انظر «صحيح البخاري» ٤٩١٣ ، ٤٩١٤ ، ٤٩١٥ ومسلم ١٤٧٩ عن ابن عباس عن عمر مطولا. وانظر «فتح القدير» ٢٥٤٨ بتخريجنا.

(١٤٦٧) انظر الحديث المتقدم ١٤٦٥.

(١٤٦٨) صحيح. أخرجه البخاري ٦٩٧٢ عن عبيد بن إسماعيل بن عن عائشة. وأخرجه مسلم ١٤٧٤ ح ٢١ وأبو داود ٣٧١٥ وأبو يعلى ٤٨٩٦ من طرق عن أبي أسامة به. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٨٣٢ من طريق علي بن مسهر عن هشام بن عروة به.

(١٤٦٩) أخرجه الطبراني ١٢٢٦ من حديث ابن عباس ، وقال الهيثمي في «المجمع» ١١٤٢٦ : رجاله رجال

__________________

(١) العكة : آنية السمن ، أو القربة الصغيرة.

(٢) جرست : أكلت ، والعرفط : شجر ينضح الصمغ المعروف بالمنافير.

٣٠٥

عائشة : إني لأجد منك ريحا ، ثم دخل على حفصة ، فقالت : إني أجد منك ريحا ، فقال : إني أراه من شراب شربته عند سودة ، والله لا أشربه ، فنزلت هذه الآية.

(١٤٧٠) وفي حديث عبيد بن عمير عن عائشة أنّ التي شرب عندها العسل زينب بنت جحش ، فتواطأت حفصة وعائشة أن تقولا له ذلك القول. قال أبو عبيدة : المغافير : شيء شبيه بالصّمغ فيه حلاوة. وخرج الناس يتمغفرون : إذا خرجوا يجتنونه. ويقال : المغاثير بالثاء ، مثل جدث ، وجدف. وقال الزّجّاج : المغافير : صمغ متغير الرائحة. فخرج في المراد بالذي أحلّ الله له قولان (١) : أحدهما : أنه جاريته. والثاني : العسل.

قوله عزوجل : (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) أي : تطلب رضاهنّ بتحريم ذلك. (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

____________________________________

الصحيح ، وصححه السيوطي في «الدر» ٦ / ٢٦٦. وفي ذلك نظر فهو معارض بحديث عائشة المتقدم ، وأنه عليه الصلاة والسلام شرب ذلك عند زينب. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٥٤٥ بتخريجنا.

(١٤٧٠) صحيح. أخرجه البخاري ٥٢٦٧ والبغوي في «شرح السنة» عن الحسن بن محمد به. وأخرجه البخاري ٦٦٩١ ومسلم ١٤٧٤ وأبو داود ٣٧١٤ والنسائي ٦ / ١٥١ و ٧ / ١٣ و ٧١ وأحمد ٦ / ٢٢١ من طرق عن الحجاج به وأخرجه البخاري ٤٩١٢ من طريق هشام بن يوسف عن ابن جريج به.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ١٥٠ : والصواب من القول في ذلك أن يقال : كان الذي حرّمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسه شيئا كان الله قد أحلّه له ، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه ما كان له قد أحله ، وبين له تحلة يمينه في يمين كان حلف بها مع تحريمه ما حرّم على نفسه. وقال القرطبي رحمه‌الله في «الجامع لأحكام القرآن» ١٨ / ١٥٩ : أصح الأقوال ـ ما ثبت في الصحيحين فيما ورد عن العسل ـ وأما من روى أنه حرّم مارية القبطية فهو أمثل في السند وأقرب إلى المعنى ، لكنه لم يدوّن في الصحيح ، وروي مرسلا. وقوله تعالى : (لِمَ تُحَرِّمُ) إن كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّم ولم يحلف فليس ذلك بيمين عندنا. ولا يحرّم قول الرجل : «هذا عليّ حرام» شيئا حاشا الزوجة. وقال أبو حنيفة : إذا أطلق حمل على المأكول والمشروب دون الملبوس ، وكانت يمينا توجب الكفارة. وقال زفر : هو يمين في الكل حتى في الحركة والكون. وعوّل المخالف على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرّم العسل فلزمته الكفارة. وقد قال الله تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) فسماه يمينا ودليلنا قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) [المائدة : ٨٧] وقوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) [يونس : ٥٩] فذم الله المحرّم للحلال ولم يوجب عليه كفارة. قال الزجاج : ليس لأحد أن يحرّم ما أحل الله ولم يجعل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحرّم إلا ما حرّم الله عليه. فمن قال لزوجته أو أمته : أنت عليّ حرام ، ولم ينو طلاقا ولا ظهارا فهذا اللفظ يوجب كفارة اليمين. ولو خاطب بهذا اللفظ جمعا من الزوجات والإماء فعليه كفارة واحدة. ولو حرّم على نفسه طعاما أو شيئا آخر لم يلزمه بذلك كفارة عند الشافعي ومالك وتجب بذلك كفارة عند ابن مسعود والثوري وأبي حنيفة. وجاء في «الجامع لأحكام القرآن» ١٨ / ١٦٣ : قوله تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) تحليل اليمين كفارتها. أي إذا أحببتم استباحة المحلوف عليه ، ويتحصل من هذا أن من حرّم شيئا من المأكول والمشروب لم يحرم عليه عندنا ، لأن الكفارة لليمين لا للتحريم على ما بيناه. وأبو حنيفة يراه يمينا في كل شيء ، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه. فإذا حرم طعاما فقد حلف على أكله ، أو أمه فعلى وطئها ، أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية ، وإن نوى الظهار فظهار ، وإن نوى الطلاق فبائن. وإن قال نويت الكذب ، دين فيما بينه وبين الله تعالى. ولا يراه الشافعي يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن. وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده. فإن حلف ألا يأكله حنث ويبر بالكفارة.

٣٠٦

غفر الله لك التحريم (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ) قال مقاتل : قد بيّن لكم (تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي : كفّارة أيمانكم ، وذلك البيان في المائدة (١) قال المفسّرون : وأصل «تحلّة» تحللة على وزن تفعلة ، فأدغمت ، والمعنى : قد بيّن الله لكم تحليل أيمانكم بالكفّارة ، فأمره الله أن يكفّر يمينه ، فأعتق رقبة. واختلفوا هل حرّم مارية على نفسه بيمين ، أم لا؟ على قولين : أحدهما : أنه حرّمها من غير ذكر يمين ، فكان التحريم موجبا لكفّارة اليمين ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه حلف يمينا حرّمها بها ، قاله الحسن. والشّعبيّ ، وقتادة ، (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) أي : وليّكم وناصركم.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) يعني : حفصة من غير خلاف علمناه.

وفي هذا السّرّ ثلاثة أقوال : أحدها : أنه قال لها : إني مسرّ إليك سرّا فاحفظيه ، سرّيّتي هذه عليّ حرام ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال عطاء ، والشّعبيّ ، والضّحّاك ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، وابنه ، والسّدّيّ (٢).

(١٤٧١) والثاني : أنه قال لها : أبوك ، وأبو عائشة ، واليا الناس من بعدي ، فإيّاك أن تخبري أحدا ، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.

والثالث : أنه أسرّ إليها أنّ أبا بكر خليفتي من بعدي ، قاله ميمون بن مهران (٣).

قوله عزوجل : (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أي : أخبرت به عائشة (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) أي : أطلع الله نبيّه على قول حفصة لعائشة ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غضبا شديدا ، لأنه استكتم حفصة ذلك ، ثم دعاها ، فأخبرها ببعض ما قالت ، فذلك قوله عزوجل : (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) وفي الذي عرّفها إيّاه قولان :

(١٤٧٢) أحدهما : أنه حدّثها ما حدّثتها عائشة من شأن أبي بكر وعمر ، وسكت عمّا أخبرت

____________________________________

(١٤٧١) باطل لا أصل له ، أخرجه ابن عدي ٣ / ٤٣٦ عن سيف بن عمر عن عطية بن الحارث عن أبي أيوب عن علي. وعن الضحاك عن ابن عباس. وعن عمرو بن محمد عن الشعبي وسعيد بن جبير عن ابن عباس به.

وإسناده ضعيف جدا. مداره على سيف بن عمر وهو متروك متهم ، وبه أعله ابن عدي. ثم إن المتن موضوع.

فلو كان هذا الحديث عند علي لما تأخر ستة أشهر عن بيعة الصديق. وكذا تأخر بنو هاشم ، ومنهم ابن عباس عن البيعة ، فهذا خبر باطل والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصرح باسم الخليفة من بعده ، باتفاق العلماء ، وإنما هناك إشارات إلى إمارة أبي بكر ، منها أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يؤم الناس ، وذلك في مرضه الأخير.

وورد من وجه آخر أخرجه الدار قطني في «سننه» ٤ / ١٥٣ و ١٥٤ وفيه الكلبي ، وهو محمد بن السائب ، متهم بالكذب ، وشيخه أبو صالح أقرّ بأنه حدث عن ابن عباس بأشياء كذب. راجع الميزان للذهبي. ثم إن المتن منكر كما تقدم. وورد من وجه آخر أخرجه الطبراني في «الكبير» ١٢٦٤٠ من حديث ابن عباس وله ثلاث علل : ١ ـ إسماعيل بن عمرو البجلي ، وهو ضعيف. ٢ ـ وفيه أيضا أبو سنان سعيد بن سنان فيه ضعف. ٣ ـ الضحاك لم يلق ابن عباس. انظر «تفسير ابن كثير» ٤ / ٤٦٠ بتخريجي عند هذه الآية. وانظر أيضا «تفسير الشوكاني» ٢٥٥١ بتخريجي ولله الحمد والمنة.

(١٤٧٢) لا أصل له ، وهو بعض المتقدم.

__________________

(١) المائدة : ٨٩.

(٢) انظر الحديث المتقدم ١٤٦٥.

(٣) انظر الحديث المتقدم ١٤٧١.

٣٠٧

عائشة من تحريم مارية ، لأنه لم يبال ما أظهرت من ذلك ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

(١٤٧٣) والثاني : أنّ الذي عرّف : تحريم مارية ، والذي أعرض عنه : ذكر الخلافة لئلّا ينتشر ، قاله الضّحّاك ، وهذا اختيار الزّجّاج : قال : ومعنى (عَرَّفَ بَعْضَهُ) عرّف حفصة بعضه وقرأ الكسائيّ «عرف» بالتخفيف. قال الزجاج : على هذه القراءة قد عرف كل ما أسرّه ، غير أنّ المعنى جار على بعضه ، كقوله عزوجل : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) (١) ، أي : يعلمه ويجازي عليه ، وكذلك : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٢) أي : ير جزاءه. فقيل : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلّق حفصة تطليقة ، فكان ذلك جزاءها عنده ، فأمره الله أن يراجعها.

(١٤٧٤) وقال مقاتل بن حيّان : لم يطلّقها ، وإنما همّ بطلاقها ، فقال له جبريل : لا تطلّقها ، فإنها

____________________________________

(١٤٧٣) عزاه المصنف للضحاك ، وقد ساقه بمعناه. وصدره ورد عن الضحاك ، أخرجه ابن المنذر كما في «الدر» ٦ / ٣٧٠ ، وهو مرسل ، لكن له شواهد.

وعجزه ، أخرجه أبو نعيم في «فضائل الصحابة» كما في «الدر» ٦ / ٣٧٠ عن الضحاك ، وهو مرسل ، فهو ضعيف ، والمتن باطل.

(١٤٧٤) أصل الحديث صحيح ، لكن قول مقاتل «لم يطلقها» باطل ، لم يتابع عليه. ذكره المنصف هاهنا عن مقاتل بن حيان معلقا ، وسنده إليه في أول الكتاب ، وهذا واه بمرة ، ليس بشيء ، وقد خولف مقاتل.

وأخرج الحاكم ٤ / ١٥ وابن سعد في «الطبقات» ٨ / ٨٤ والدارمي ٢٢٦٥ والطحاوي في «المشكل» ٤٦١٥ من حديث أنس. وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة تطليقة ، فأتاه جبريل فقال : «يا محمد طلقت حفصة تطليقة ، وهي صوامة قوامة وهي زوجتك في الدنيا وفي الجنة». وأخرج الطحاوي ١٦١٤ من طريق موسى بن علي عن أبيه عن عقبة بن عامر «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة ، فأتاه جبريل فقال : راجعها فإنها صوّامة قوّامة». وأخرج الطبراني ١٧ / (٨٠٤) نحوه من حديث عقبة بلفظ «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة ، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، فوضع التراب على رأسه ، وقال : ما يعبأ الله بك يا ابن الخطاب بعدها ، فنزل جبريل عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن الله يأمرك أن تراجع حفصة رحمة لعمر».

قال الهيثمي في «المجمع» ٤ / ٣٣٤ : وفيه عمرو بن صالح الحضرمي ، ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات.

أخرج الحاكم ٤ / ١٥ (٦٧٥٣ وابن سعد ٨ / ٦٧ والطبراني ١٨ / (٩٣٤) عن قيس بن زيد «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة بنت عمر فدخل عليها خالاها قدامة وعثمان ابنا مظعون فبكت وقالت : والله ما طلقني عن شبع ، وجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : قال لي جبريل عليه‌السلام : راجع حفصة ، فإنها صوّامة قوامة ، وإنها زوجتك في الجنة».

وسكت عليه الحاكم ، وكذا الذهبي ، وكذا الحافظ في «تخريج الكشاف» ٤ / ٥٦٣ ورجاله ثقات غير قيس بن زيد فهو تابعي صغير مجهول. وأن عثمان بن مطعون توفي قبل أحد ، وقبل أن يتزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة.

وأخرج أبو داود ٢٢٨٣ والنسائي ٦ / ٢١٣ وابن ماجة ٢٠١٦ والدارمي ٢٢٦٤ وأبو يعلى ١٧٤ والحاكم ٢ / ١٩٧ وابن حبان ٤٢٧٥ والطحاوي في «المشكل» ٤٦١١ والبيهقي ٧ / ٣٢١ ـ ٣٢٢ من طرق عن يحيى بن زكريا عن ابن أبي داود عن صالح بن صالح عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة ثم راجعها».

الخلاصة : قول مقاتل «لم يطلقها» باطل ، ليس بشيء ، والصحيح أنه طلقها كما في الروايات المذكورة ، وهو خبر حسن صحيح بطرقه وشواهده لكن بالألفاظ التي أوردتها ، وانظر «أحكام القرآن» ٢١٣٨ بتخريجي.

أخرجه ابن سعد ٨ / ١٤٩ ـ ١٥٠ عن ابن عباس بنحوه ، وفيه الواقدي ، وهو متروك. وأخرج الدار قطني ٤ /

__________________

(١) البقرة : ١٧٩.

(٢) الزلزلة : ٧.

٣٠٨

صوّامة قوّامة. وقال الحسن : ما استقصى كريم قطّ ، ثم قرأ (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) ، وقرأ ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وابن السّميفع «عرّاف» برفع العين ، وتشديد الراء وبألف ، «بعضه» بالخفض.

قوله عزوجل : (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) أي : أخبر حفصة بإفشائها السّرّ (قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) أي : من أخبرك بأني أفشيت سرّك؟ (قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) ثم خاطب عائشة وحفصة ، فقال : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) أي : من التعاون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإيذاء (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) قال ابن عباس : زاغت ، وأثمت. قال الزّجّاج : عدلت ، وزاغت عن الحقّ. قال مجاهد : كنّا نرى قوله عزوجل : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) شيئا هيّنا حتى وجدناه في قراءة ابن مسعود : فقد زاغت قلوبكما. وإنما جعل القلبين جماعة لأنّ كلّ اثنين فما فوقهما جماعة. وقد أشرنا إلى هذا في قوله عزوجل : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) (١) وقوله تعالى : (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (٢). قال المفسّرون : وذلك أنهما أحبّا ما كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اجتناب جاريته ، (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) وقرأ ابن مسعود ، وأبو عبد الرّحمن ومجاهد ، والأعمش «تظاهرا» بتخفيف الظاء ، أي : تعاونا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإيذاء (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) أي : وليّه في العون ، والنّصرة (وَجِبْرِيلُ) وليّه (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) وفي المراد بصالح المؤمنين ستة أقوال : أحدها : أنهم أبو بكر وعمر ، قاله ابن مسعود ، وعكرمة ، والضّحّاك. والثاني : أبو بكر ، رواه مكحول عن أبي أمامة. والثالث : عمر بن الخطّاب قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد. والرابع : خيار المؤمنين ، قاله الرّبيع بن أنس. والخامس : أنهم الأنبياء ، قاله قتادة ، والعلاء بن زياد العدويّ ، وسفيان. والسادس : أنه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، حكاه الماورديّ ، قاله الفرّاء : «وصالح المؤمنين» موحّد في مذهب جميع ، كما تقول : لا يأتيني إلا سائس الحرب ، فمن كان ذا سياسة للحرب ، فقد أمر بالمجيء ، ومثله قوله عزوجل : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) (٣) ، قوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) (٤) ، وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) (٥) في كثير من القرآن يؤدي معنى الواحد عن الجميع.

قوله عزوجل : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) أي : ظهرا ، وهذا مما لفظه لفظ الواحد ، ومعناه الجمع ، ومثله ثم (يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) (٦) ، وقد شرحناه هناك. ثم خوّف نساءه ، فقال عزوجل : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ).

____________________________________

١٥٣ والطبراني في «الكبير». ١٢٦٤ من حديث ابن عباس في قوله عزوجل : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) قال : اطلعت حفصة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أم إبراهيم عليه‌السلام فقال : «لا تخبري عائشة» ، وقال لها : «إن أباك وأباها سيملكان ، أو سيليان بعدي ، فلا تخبري عائشة» فانطلقت حفصة فأخبرت عائشة ...» الحديث. وفي إسناده الكلبي ، وهو كذاب. وورد من حديث علي ، أخرجه ابن عدي ٣ / ٤٣٦ ، وكرره عن ابن عباس ومدارهما على سيف بن عمر ، وهو متروك متهم ، وبه أعله ابن عدي. والصواب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يخبر على من سيخلفه ، وإنما هناك أمارات على أنه أبو بكر ، والله أعلم.

الخلاصة : هذا خبر باطل لا أصل له ، والصحيح في ذلك ما رواه الشيخان من وجوه في شربه عليه‌السلام العسل عند زينب ، وكذا يليه في الصحة خبر مارية المتقدم برقم ٢٢٣٨.

وانظر «فتح القدير» ٢٥٥١ و«الجامع لأحكام القرآن» ٦٠٣٦ بتخريجي والله الموفق.

__________________

(١) النساء : ١١.

(٢) ص : ١١.

(٣) المائدة : ٣٨.

(٤) النساء : ١٦.

(٥) المعارج : ١٩.

(٦) غافر : ٦٧.

٣٠٩

(١٤٧٥) وسبب نزولها ما روى أنس عن عمر بن الخطّاب قال : بلغني بعض ما آذى به رسول الله نساؤه ، فدخلت عليهنّ ، فجعلت أستقرئهنّ ، واحدة واحدة ، فقلت : والله لتنتهنّ ، أو ليبدلنّه الله أزواجا خيرا منكنّ ، فنزلت هذه الآية. والمعنى : واجب من الله (إِنْ طَلَّقَكُنَ) رسوله (أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ) أي : خاضعات لله بالطاعة (مُؤْمِناتٍ) مصدّقات بتوحيد الله (قانِتاتٍ) أي : طائعات (سائِحاتٍ) فيه قولان : أحدهما : صائمات ، قاله ابن عباس ، والجمهور. وقد شرحنا هذا المعنى عند قوله عزوجل : (السَّائِحُونَ) (١). والثاني : مهاجرات ، قاله زيد بن أسل وابنه. «والثيبات» جمع ثيّب ، وهي المرأة التي قد تزوّجت ، ثم ثابت إلى بيت أبويها ، فعادت كما كانت غير ذات زوج. «والأبكار» : العذارى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨))

قوله عزوجل : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) وقاية النّفس : بامتثال الأوامر ، واجتناب النّواهي ، ووقاية الأهل : بأن يؤمروا بالطاعة ، وينهوا عن المعصية. وقال عليّ رضي الله عنه : علّموهم وأدّبوهم ، قوله : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) قد ذكرناه في البقرة (٢) قوله (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ) وهم خزنتها (غِلاظٌ) على أهل النّار (شِدادٌ) عليهم. وقيل : غلاظ القلوب شداد الأبدان.

(١٤٧٦) وروى أبو صالح عن ابن عباس قال : خزنة النّار تسعة عشر ، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة ، وقوّته أن يضرب بالمقمعة ، فيدفع بتلك الضّربة سبعين ألفا ، فيهوون في قعر جهنّم (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) أي : لا يخالفونه فيما يأمر (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) فيه قولان : أحدهما : لا يتجاوزون ما يؤمرون. والثاني : يفعلونه في وقته لا يؤخّرونه ، ولا يقدّمونه. ويقال لأهل النّار : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ).

قوله عزوجل : (تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) قرأ أبو بكر عن عاصم ، وخارجة عن نافع (نَصُوحاً) بضمّ النون. والباقون بفتحها. قال الزّجّاج : فمن فتح فعلى صفة التّوبة ، ومعناه : توبة بالغة في النّصح ،

____________________________________

(١٤٧٥) صحيح. أخرجه الطبري ٣٤٤٢٦ من حديث أنس عن عمر ، وإسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم. وكرره الطبري ٣٤٤٢٧ وإسناده صحيح.

(١٤٧٦) باطل ، عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس ، وأبو صالح واه ، وراويته هو الكلبي ، وقد أقر أنه روى عن أبي صالح عن ابن عباس تفسيرا ليس له أصل عن ابن عباس.

__________________

(١) التوبة : ١١٢.

(٢) البقرة : ٢٣.

٣١٠

و«فعول» من أسماء الفاعلين التي تستعمل للمبالغة في الوصف. تقول : رجل صبور ، وشكور. ومن قرأ بالضمّ ، فمعناه : ينصحون فيها نصوحا ، يقال : نصحت له نصحا ، ونصاحة ، ونصوحا. وقال غيره : من ضمّ أراد : توبة نصح لأنفسكم. وقال عمر بن الخطّاب : التوبة النّصوح : أن يتوب العبد من الذّنب وهو يحدّث نفسه أنّه لا يعود. وسئل الحسن البصريّ عن التّوبة النّصوح ، فقال : ندم بالقلب ، واستغفار باللسان ، وترك بالجوارح ، وإضمار أن لا يعود. وقال ابن مسعود : التوبة النّصوح تكفّر كلّ سيئة ، ثم قرأ هذه الآية.

قوله عزوجل : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) قد بيّنّا معنى «الخزي» في آل عمران (١) وبيّنّا معنى قوله عزوجل : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) في الحديد (٢) (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) وذلك إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ سألوا الله تعالى أن يتمّم لهم نورهم ، ويبلّغهم به الجنّة. قال ابن عباس : ليس أحد من المسلمين إلّا يعطى نورا يوم القيامة. فأمّا المنافق فيطفأ نوره ، والمؤمن مشفق ممّا رأى من إطفاء نور المنافق ، فهم يقولون : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا).

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

قوله عزوجل : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) قد شرحناه في براءة (٣).

قوله عزوجل : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ) قال المفسّرون منهم مقاتل : هذا المثل يتضمّن تخويف عائشة وحفصة أنهما إن أغضبتا ربّهما لم يغن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهما شيئا. قال مقاتل : اسم امرأة نوح «والهة» وامرأة لوط «واهلة».

قوله عزوجل : (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) : نوحا ولوطا عليهما‌السلام (فَخانَتاهُما).

(١٤٧٧٧) قال ابن عباس : ما بغت امرأة نبيّ قطّ ، إنما كانت خيانتهما في الدّين ، كانت امرأة نوح تخبر الناس أنه مجنون ، وكانت امرأة لوط تدلّ على الأضياف ، فإذا نزل بلوط ضيف بالليل أوقدت النار ، وإذا نزل بالنهار دخّنت لتعلم قومه أنه قد نزل به ضيف. وقال السّدّيّ : كانت خيانتهما : كفرهما.

____________________________________

(١٤٧٧) أخرجه الحاكم ٢ / ٤٩٦ والطبري ٣٤٤٦١ و ٣٤٤٦٢ و ٣٤٤٦٤ من طرق عن ابن عباس ، وهو صحيح ، وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي.

__________________

(١) آل عمران : ١٩٢.

(٢) الحديد : ١٢.

(٣) التوبة : ٧٣.

٣١١

وقال الضّحّاك : نميمتهما ، وقال ابن السّائب : نفاقهما.

قوله عزوجل : (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) ، أي : يدفعا عنهما من عذاب الله شيئا. وهذه الآية تقطع طمع من ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره. ثم أخبر أنّ معصية الغير لا تضرّ المطيع بقوله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) وهي آسية بنت مزاحم. وقال يحيى بن سلام : ضرب الله المثل الأول يحذّر به عائشة وحفصة رضي الله عنهما. ثم ضرب لهما هذا المثل يرغّبهما في التّمسّك بالطاعة. وكانت آسية قد آمنت بموسى. قال أبو هريرة : ضرب فرعون لامرأته أوتادا في يديها ورجليها ، وكانوا إذا تفرّقوا عنها أظلّتها الملائكة ، فقالت : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) فكشف الله لها عن بيتها في الجنّة حتى رأته قبل موتها ، قوله : (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) فيه قولان : أحدهما : أنّ عمله : جماعه. والثاني : أنه دينه رويا عن ابن عباس ، قوله : (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يعني أهل دينه المشركين.

قوله عزوجل : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) قد ذكرنا فيه قولين في سورة الأنبياء (١) فمن قال : هو فرج ثوبها ، قال «الهاء» في قوله تعالى : (فَنَفَخْنا فِيهِ) ترجع إليه ، وذلك أنّ جبريل مدّ جيب درعها ، فنفخ فيه ، ومن قال : هو مخرج الولد ، قال : «الهاء» كناية عن غير مذكور ، لأنه إنما نفخ في درعها لا في فرجها.

قوله عزوجل : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) وفيه قولان : أحدهما : أنه قول جبريل (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) (٢). والثاني : الكلمات هي التي تضمّنتها كتب الله المنزّلة. وقرأ أبيّ بن كعب ، وأبو مجلز ، وعاصم الجحدريّ «بكلمة ربها» على التوحيد (وَكُتُبِهِ) قرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ؛ والكسائيّ ، وأبو بكر عن عاصم «وكتابه» على التوحيد ، وقرأ أبو عمرو ، وحفص عن عاصم ، وخارجة عن نافع «وكتبه» جماعة ، وهي التي أنزلت على الأنبياء ، ومن قرأ «وكتابه» فهو اسم جنس على ما بيّنّا في خاتمة البقرة (٣) وقد بيّنّا فيها القنوت مشروحا (٤). ومعنى الآية (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) ، ولذلك لم يقل : من القانتات.

__________________

(١) الأنبياء : ٩٢.

(٢) مريم : ١٩.

(٣) البقرة : ٢٨٥.

(٤) البقرة : ١١٦.

٣١٢

سورة الملك

وهي مكيّة كلّها بإجماعهم

(١٤٧٨) قال ابن مسعود : هي المانعة من عذاب القبر.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١))

قوله عزوجل : (تَبارَكَ) قد شرحناه في الأعراف (١).

قوله عزوجل : (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) قال ابن عباس : يعني : السّلطان يعزّ ويذلّ.

قوله عزوجل : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) قال الحسن : خلق الموت المزيل للحياة ، والحياة التي

____________________________________

(١٤٧٨) أخرجه الطبراني ١٠٢٥٤ عن ابن مسعود قال : «كنا نسميها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المانعة» وقال الهيثمي ٧ / ١٢٧ ـ ١٢٨ : رجاله ثقات اه وصححه الحاكم ٢ / ٤٦٨ ووافقه الذهبي. وأخرجه النسائي في «اليوم والليلة» ٧١٦. وورد من حديث ابن عباس مرفوعا : أخرجه الترمذي ٢٨٩٠ والبيهقي في «الدلائل» ٧ / ٤١ من حديث ابن عباس ، وضعفه الترمذي بقوله : غريب من هذا الوجه ، وكذا ضعفه البيهقي فقال : تفرد به يحيى بن عمرو النكري ، وهو ضعيف. وأخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا وتفرد ابن مردويه به يدل على وهنه.

وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٥٥٩ و ٢٥٦٠ بتخريجنا.

__________________

(١) الأعراف : ٥٤.

٣١٣

هي ضدّ الموت (١) قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) قد شرحناه في هود (٢) ، قال الزّجّاج : والمعلّق ب (أَيُّكُمْ) مضمر تقديره : ليبلوكم ، فيعلم أيّكم أحسن عملا وهذا علم وقوع. وارتفعت «أي» بالابتداء ، ولا يعمل فيها ما قبلها ، لأنها على أصل الاستفهام ، ومثله (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) (٣). والمعنى : خلق الحياة ليختبركم فيها. وخلق الموت ليبعثكم ويجازيكم. وقال غيره : اللام في «ليبلوكم» متعلّق بخلق الحياة دون خلق الموت ، لأنّ الابتلاء بالحياة. قوله : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي : خلقهنّ مطابقات ، أي : بعضها فوق بعض (ما تَرى) يا ابن آدم (فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) قرأ حمزة والكسائيّ : «من تفوّت» بتشديد الواو من غير ألف. وقرأ الباقون بألف. قال الفرّاء : وهما بمنزلة واحدة ، كما تقول : تعاهدت الشيء وتعهّدته والتّفاوت : الاختلاف. وقال ابن قتيبة : التّفاوت : الاضطراب والاختلاف ؛ وأصله من الفوت ؛ وهو أن يفوت شيء شيئا ، فيقع الخلل ، ولكنه متّصل بعضه ببعض.

قوله عزوجل : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) كرّر البصر (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) وقرأ أبو عمرو ، وحمزة والكسائيّ «هل ترى» بإدغام اللام في التاء ، أي : هل ترى فيها فروجا وصدوعا.

قوله عزوجل : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أي : مرّة بعد مرّة (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) قال ابن قتيبة : أي : مبعدا ، من قولك : خسأت الكلب : إذا باعدته (وَهُوَ حَسِيرٌ) أي : كليل منقطع عن أن يلحق ما نظر إليه. وقال الزّجّاج : قد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللا.

قوله عزوجل : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) قد شرحناه في حم السّجدة (٤). قوله : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) أي : يرجم بها مسترقو السّمع. وقد سبق بيان هذا المعنى (٥) (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ) : في الآخرة (عَذابَ السَّعِيرِ) وهذا وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله : (سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) أي : صوتا مثل صوت الحمار. وقد بيّنّا معنى الشّهيق في هود (٦) (وَهِيَ تَفُورُ) أي : تغلي بهم كغلي المرجل (تَكادُ تَمَيَّزُ) أي : تتقطّع من تغيّظها عليهم (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) أي : جماعة منهم (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) وهذا سؤال توبيخ.

قوله عزوجل : (إِنْ أَنْتُمْ) أي : قلنا للرّسل : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي : في ذهاب عن الحقّ بعيد. قال الزّجّاج : ثم اعترفوا بجهلهم فقالوا : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) أي : سماع من يعي ويفكّر (أَوْ نَعْقِلُ)

__________________

(١) قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ١٨ / ١٨١ : قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) قيل : المعنى خلقكم للموت والحياة ، يعني للموت في الدنيا والحياة في الآخرة وقدّم الموت على الحياة ، لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم. قال العلماء : الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف ، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته ، وحيلولة بينهما وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار ، والحياة عكس ذلك. قلت : وفي التنزيل (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) السجدة : ١١ وقال : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) [الأنفال : ٥٠] وقال : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزمر : ٤٢] فالوسائط ملائكة مكرمون صلوات الله عليهم. وهو سبحانه المميت على الحقيقة.

(٢) هود : ٧.

(٣) الكهف : ١٢.

(٤) فصلت : ١٢.

(٥) الحجر : ١٨.

(٦) هود : ١٠٦.

٣١٤

عقل من يميّز وينظر (ما كُنَّا) من أهل النار (فَسُحْقاً). وهو منصوب على المصدر ، المعنى : أسحقهم الله سحقا ، أي : باعدهم الله من رحمته مباعدة ، والسّحيق : البعيد. وكذلك روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس «فسحقا» أي : بعدا. وقال سعيد بن جبير ، وأبو صالح : السّحق : واد في جهنّم يقال له : سحق.

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥))

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) قد شرحناه في سورة الأنبياء (١) (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) وهو : الجنّة. ثم عاد إلى خطاب الكفّار ، فقال عزوجل : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) قال ابن عباس : نزلت في المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيخبره جبريل بما قالوا ، فيقول بعضهم : أسرّوا قولكم حتى لا يسمع إله محمّد (٢).

قوله عزوجل : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) أي : ألا يعلم ما في الصدور خالقها؟! و (اللَّطِيفُ) مشروح في الأنعام (٣) و (الْخَبِيرُ) في سورة البقرة (٤).

قوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) أي : مذلّلة سهلة لم يجعلها ممتنعة بالحزونة والغلظ.

قوله عزوجل : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) فيه ثلاثة أقوال : أحدها : طرقاتها ، رواه العوفيّ عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد. والثاني : جبالها ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال قتادة ، واختاره الزّجّاج ، قال : لأنّ المعنى : سهّل لكم السّلوك فيها ، فإذا أمكنكم السّلوك في جبالها ، فهو أبلغ في التذليل. والثالث : في جوانبها ، قاله مقاتل ، والفرّاء ، وأبو عبيدة ، واختاره ابن قتيبة ، قال : ومنكبا الرّجل : جانباه.

قوله عزوجل : (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أي : إليه تبعثون من قبوركم.

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩))

ثم خوّف الكفّار فقال : (أَأَمِنْتُمْ) قرأ ابن كثير : «وإليه النشور أأمنتم» وقرأ نافع ، وأبو عمرو :

__________________

(١) الأنبياء : ٤٩.

(٢) عزاه المصنف لابن عباس ، وكذا الواحدي في «الأسباب» ٨٣٥. ساقه بدون إسناد ، وهو باطل ، فإن سباق الآيات وسياقها يدل على أن المراد بالآية المؤمنون.

(٣) الأنعام : ١٠٣.

(٤) البقرة : ٢٣٤.

٣١٥

«النشور آمنتم» بهمزة ممدودة. وقرأ عاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ : «أأمنتم» بهمزتين ، (مَنْ فِي السَّماءِ) قال ابن عباس : أمنتم عذاب من في السماء ، وهو الله عزوجل؟! و (تَمُورُ) بمعنى : تدور. قال مقاتل : والمعنى : تدور بكم إلى الأرض السّفلى.

قوله عزوجل : (أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) وهي : الحجارة ، كما أرسل على قوم لوط (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي : كيف كانت عاقبة إنذاري لكم في الدنيا إذا نزل بكم العذاب (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني : كفّار الأمم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي : إنكاري عليهم بالعذاب.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) أي : تصفّ أجنحتها في الهواء ، وتقبض أجنحتها بعد البسط ، وهذا معنى الطّيران ، وهو بسط الجناح وقبضه بعد البسط (ما يُمْسِكُهُنَ) أن يقعن (إِلَّا الرَّحْمنُ).

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧))

قوله عزوجل : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) هذا استفهام إنكار. ولفظ «الجند» موحّد ، فلذلك قال عزوجل : «هذا الذي هو» والمعنى : لا جند لكم (يَنْصُرُكُمْ) أي : يمنعكم من عذاب الله إن أراده بكم ، (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) وذلك أنّ الشيطان يغرّهم ، فيقول : إنّ العذاب لا ينزل بكم ، (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) المطر وغيره (إِنْ أَمْسَكَ) الله ذلك عنكم (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ) أي : تماد في كفر (وَنُفُورٍ) عن الإيمان.

ثم ضرب مثلا ، فقال عزوجل : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) قال ابن قتيبة : أي لا يبصر يمينا ، ولا شمالا ؛ ولا من بين يديه. يقال : أكبّ الله فلانا على وجهه ، بالألف ، وكبّه الله لوجهه ، وأراد : الأعمى. قال المفسّرون : هذا مثل للمؤمن ، والكافر ، و«السّويّ» : المعتدل ، أي : الذي يبصر الطريق. وقال قتادة : هذا في الآخرة يحشر الله الكافر مكبّا على وجهه ، والمؤمن يمشي سويّا.

قوله عزوجل : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) فيه قولان : أحدهما : أنهم لا يشكرون ، قاله مقاتل : والثاني : أنهم يشكرون قليلا ، قاله أبو عبيدة.

قوله عزوجل : (ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي : خلقكم (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) يعنون الوعد : بالعذاب (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) أي : رأوا العذاب قريبا منهم (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال الزّجّاج : أي : تبيّن فيها السّوء. وقال غيره : قبّحت بالسّواد (وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) فيه قولان : أحدهما : أن «تدّعون» بالتشديد ، بمعنى تدعون بالتخفيف ، وهو «تفتعلون» من الدعاء. يقال : دعوت ، وادّعيت ، كما يقال : خبرت واختبرت ، ومثله : يدّكرون ، ويذكرون ، هذا قول الفرّاء ، وابن قتيبة. والثاني : أنّ المعنى : هذا الذي كنتم من أجله تدّعون الأباطيل والأكاذيب ، تدّعون أنكم إذا متّم لا تبعثون؟! وهذا اختيار الزّجّاج.

٣١٦

وقرأ أبو رزين ، والحسن ، وعكرمة ، وقتادة والضّحّاك ، وابن أبي عبلة ، ويعقوب : «تدعون» بتخفيف الدال ، وسكونها ، بمعنى تفعلون من الدّعاء. وقال قتادة : كانوا يدعون بالعذاب.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

قوله عزوجل : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ) بعذاب (وَمَنْ مَعِيَ) من المؤمنين (١). قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «معي» بفتح الياء. وقرأ أبو بكر عن عاصم ، والكسائيّ : «معي» بالإسكان (أَوْ رَحِمَنا) فلم يعذّبنا (فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ) أي يمنعهم ويؤمّنهم (مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ومعنى الآية : إنّا مع إيماننا ، بين الخوف والرّجاء : فمن يجيركم مع كفركم من العذاب؟! أي : لأنه لا رجاء لكم كرجاء المؤمنين (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ) الذي نعبد (فَسَتَعْلَمُونَ) وقرأ الكسائيّ : «فسيعلمون» بالياء عند معاينة العذاب من الضّالّ نحن أم أنتم.

قوله عزوجل : (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) قد بينّاه في الكهف (٢) (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي : بماء ظاهر تراه العيون ، وتناله الأرشية.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٧١ : يقول الله تعالى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي : خلّصوا أنفسكم ، فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة والإنابة والرجوع إلى دينه ، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنّكال ، فسواء عذّبنا الله أو رحمنا ، فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم. ثم قال : (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) كما قال : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) ثم قال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي : ذاهبا في الأرض إلى أسفل ، فلا ينال بالفؤوس الحداد ، ولا السواعد الشداد ، والغائر عكس النابع. ولهذا قال : (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي : نابع وسائح جار على وجه الأرض ، أي : لا يقدر على ذلك إلا الله عزوجل. فمن فضله وكرمه أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض ، بحسب ما يحتاج العباد إليه ، من القلة والكثرة ، فله الحمد والمنّة.

(٢) الكهف : ٤١.

٣١٧

سورة القلم

وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم

إلّا ما حكي عن ابن عباس وقتادة أن فيها من المدني قوله عزوجل : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) إلى قوله عزوجل : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧))

قوله عزوجل : (ن) قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، وحفص : (ن وَالْقَلَمِ) النون في آخر الهجاء من نون ظاهرة عند الواو ، وهذا اختيار الفرّاء. وروى أبو بكر عن عاصم أنه كان لا يبين النون من «نون». وبها قرأ الكسائيّ ، وخلف ، ويعقوب ، وهو اختيار الزّجّاج. وقرأ ابن عباس ، وأبو رزين ، وقتادة ، والأعمش : «نون والقلم» بكسر النون وقرأ الحسن ، وأبو عمران ، وأبو نهيك : «ن والقلم» برفع النون ..

وفي معنى (نون) سبعة أقوال (١) : أحدها : أنها الدّواة.

(١٤٧٩) روى أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أول ما خلق الله القلم ، ثم خلق النّون ،

____________________________________

(١٤٧٩) صدره قوي بشواهده ، وعجزه باطل. أخرجه ابن عدي ٦ / ٢٦٩ من طريق محمد بن وهب عن الوليد بن مسلم به ، وأعله بمحمد بن وهب ، وحكم ببطلانه ، ووافقه الذهبي في «الميزان» ٤ / ٦١. وأخرجه الآجري في «الشريعة» ٣٥٨ من طريق الحسن بن يحيى الخشني عن الحسين أبي عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده ضعيف لضعف الحسن بن يحيى الخشني ، وكذا ذكره ابن كثير في «تفسيره» ٤ / ٤٢٨ من هذا الوجه ونسبه لابن أبي حاتم وقال : غريب جدا. ولقوله «أول ما خلق الله القلم» شواهد كثيرة والمنكر فيه لفظ «النون وهي الدواة» ويشهد لصدره حديث عبادة بن الصامت : أخرجه أبو داود ٤٧٠٠ والترمذي ٢١٥٦ وأحمد ٥ / ٣١٧ والآجري ٣٥٩. وحديث ابن عباس : أخرجه أبو يعلى ٢٣٢٩ والبيهقي ٩ / ٣ وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١٩٠ وقال : رواه البزار ، ورجاله ثقات. وانظر «الجامع لأحكام القرآن»

__________________

(١) الراجح في هذه الأقوال القول الأول ، يدل على ذلك ذكر القلم ، والله تعالى أعلم.

٣١٨

وهي الدّواة» وهذا قول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ، وبه قال الحسن وقتادة.

والثاني : أنه آخر حروف الرحمن ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث : أنه الحوت الذي على ظهر الأرض ، وهذا المعنى في رواية أبي ظبيان عن ابن عباس ، وهو مذهب مجاهد ، والسّدّيّ ، وابن السّائب (١). والرابع : أنه لوح من نور ، قاله معاوية بن قرّة. والخامس : أنه افتتاح اسمين «نصير» ، و«ناصر» قاله عطاء. والسادس : أنه قسم بنصرة الله للمؤمنين ، قاله القرظيّ. والسابع : أنه نهر في الجنّة ، قاله جعفر الصّادق.

وفي «القلم» قولان (٢) : أحدهما : أنه الذي كتب به في اللّوح المحفوظ. والثاني : أنه الذي يكتب به الناس. وإنما أقسم به ، لأنّ كتبه إنما تكتب و (يَسْطُرُونَ) بمعنى : يكتبون.

وفي المشار إليهم قولان : أحدهما : أنهم الملائكة. وفيما أرادوا بما يكتبونه قولان : أحدهما : أنه الذّكر ، قاله مجاهد ، والسّدّيّ. والثاني : أعمال بني آدم ، قاله مقاتل. والقول الثاني : أنهم جميع الكتبة ، حكاه الثّعلبيّ ، قوله : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) أي : ما أنت بإنعام ربّك عليك بالإيمان والنّبوّة بمجنون. قال الزّجّاج : هذا جواب قولهم : إنك لمجنون. وتأويله : فارقك الجنون بنعمة الله.

قوله عزوجل : (وَإِنَّ لَكَ) بصبرك على افترائهم عليك. ونسبتهم إيّاك إلى الجنون (لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي : غير مقطوع ولا منقوص ، (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فيه ثلاثة أقوال (٣) :

أحدها : دين الإسلام ، قاله ابن عباس. والثاني : أدب القرآن ، قاله الحسن. والثالث : الطّبع الكريم. وحقيقة «الخلق» : ما يأخذ به الإنسان نفسه من الآداب ، فسمّي خلقا ، لأنه يصير كالخلقة في صاحبه. فأمّا ما طبع عليه فيسمى : «الخيم» فيكون الخيم : الطّبع الغريزيّ. والخلق : الطّبع المتكلّف. هذا قول الماوردي.

(١٤٨٠) وقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان خلقه القرآن. تعني : كان على ما أمره الله به في القرآن.

____________________________________

٦٠٦٤ و ٦٠٦٥ و«أحكام القرآن» ٢١٦٨.

الخلاصة : هو باطل بهذا اللفظ ، وذكر القلم قوي له شواهد.

(١٤٨٠) صحيح. أخرجه مسلم ٧٤٦ وأبو داود ١٣٤٢ و ١٣٤٣ وعبد الرزاق ٤٧١٤ و ٤٧٥١ من حديث عائشة مطولا. وأخرجه الحاكم ٢ / ٣٩٢ من حديث عائشة بلفظ : أن سعيد بن هشام سألها عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان خلقه القرآن ، ألست تقرأ القرآن : قد أفلح المؤمنون.

__________________

(١) هذه الروايات جميعا مصدرها الإسرائيليات ، وهي من أباطيل الإسرائيليين وترّهاتهم.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٧٣ : وقوله : (وَالْقَلَمِ) الظاهر أنه جنس القلم يكتب به كقوله : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) فهو قسم منه تعالى ، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم.

(٣) قال القرطبي رحمه‌الله في «تفسيره» ١٨ / ١٩٩ : أصح الأقوال ما ذكرته عائشة في صحيح مسلم.

وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٤٧٥ : ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن ، أمرا ونهيا ، سجية له ، وخلقه تطبعه ، وترك طبعه الجبلّيّ فمهما أمره القرآن فعله ، ومهما نهاه عنه تركه. هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم ، من الحياء والكرم ، والشجاعة ، والصفح ، والحلم ، وكل خلق جميل.

٣١٩

قوله عزوجل : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) يعني : أهل مكّة. وهذا وعيد لهم بالعذاب. والمعنى : سترى ويرون إذا نزل بهم العذاب ببدر. (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) وفيه أربعة أقوال : أحدها : الضّالّ ، قاله الحسن. والثاني : الشيطان ، قاله مجاهد. والثالث : المجنون ، قاله الضّحّاك. والمعنى : الذي قد فتن بالجنون. والرابع : المعذّب ، حكاه الماورديّ.

وفي الباء قولان : أحدهما : أنها زائدة ، قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة. وأنشدوا :

نحن بنو جعدة أصحاب الفلج

نضرب بالسّيف ونرجو بالفرج (١)

والثاني : أنها أصلية ، وهذا قول الفرّاء ، والزّجّاج. قال الزّجّاج : ليس كونها لغوا بجائز في العربية في قول أحد من أهلها.

وفي الكلام قولان للنّحويين : أحدهما : أنّ «المفتون» هاهنا : الفتون. والمصادر تجيء على المفعول. تقول العرب : ليس هذا معقود رأي ، أي : عقد رأي ، تقول : دعه إلى ميسوره ، أي : يسره. والمعنى : بأيّكم الجنون. والثاني : بأيّكم المفتون بالفرقة التي أنت فيها ، أم بفرقة الكفّار؟ فيكون المعنى : في أيّ الفرقتين المجنون. وقد ذكر الفرّاء نحو ما شرحه الزّجّاج. وقد قرأ أبيّ بن كعب ، وأبو عمران ، وابن أبي عبلة : «في أي المفتون». ثم أخبر أنه عالم بالفرقتين بما بعد هذا.

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦))

قوله عزوجل : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) وذلك أنّ رؤساء أهل مكّة دعوه إلى دين آبائه ، فنهاه الله أن يطيعهم (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) فيه سبعة أقوال (٢) : أحدها : لو ترخص فيرخصون ، قاله ابن عباس.

__________________

(١) البيت لراجز من بني جعدة ، كما في «مجاز القرآن» ٢ / ٥ و«الخزانة» ٤ / ١٦٠ والفلج : موضع بنجد.

(٢) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ١٨٢ : وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ود هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم ، فيلبون لك في عبادتك إلهك ، كما قال جل ثناؤه (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) وإنما هو مأخوذ من الدهن شبّه التليين في القول بتليين الدهن.

وقال ابن العربي رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٠٥ : وقال أهل اللغة : الإدهان هو التلبيس ، معناه : ودوا لو تلبس إليهم في عملهم وعقدهم فيميلون إليك. وحقيقة الإدهان إظهار المقاربة مع الاعتقاد للعداوة ، فإن كانت المقاربة باللين فهي مداهنة ، وإن كانت مع سلامة الدين فهي مداراة أي مدافعة. وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنه استأذن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ائذنوا له ، بئس أخو العشيرة هو ، أو ابن العشيرة ، فلما دخل ألان له الكلام ، فقلت : يا رسول الله ، قلت ما قلت ، ثم ألنت له في القول! فقال لي : «يا عائشة ، إن شر الناس منزلة من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه».

قلت : حديث صحيح. أخرجه البخاري ٦٠٥٤ و ٦١٣١ ومسلم ٢٥٩١ وأبو داود ٤٧٩١ والترمذي ١٩٩٦ وأحمد ٦ / ٣٨ والحميدي ٢٤٩ وابن حبان ٤٥٣٨ والبيهقي ١٠ / ٣٤٥ والبغوي ٣٥٦٣ من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن عروة بن الزبير عن عائشة به.

٣٢٠