زاد المسير في علم التفسير - ج ٤

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]

زاد المسير في علم التفسير - ج ٤

المؤلف:

أبي الفرج عبد الرحمن بن علي [ ابن الجوزي ]


المحقق: عبدالرزاق المهدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

سورة المجادلة

وهي مدنيّة في قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة وقتادة والجمهور. وروي عن عطاء أنه قال : العشر الأول منها مدنيّ ، والباقي مكّيّ. وعن ابن السّائب : أنها مدنيّة سوى آية ، وهي قوله عزوجل : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١))

قوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها).

(١٣٩٧) أما سبب نزولها ، فروى عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : تبارك الذي وسع سمعه الأصوات ، ولقد جاءت المجادلة فكلّمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا في جانب البيت أسمع كلامها ، ويخفى عليّ بعضه ، وهي تشتكي زوجها وتقول : يا رسول الله ، أبلى شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبر سنّي ، وانقطع ولدي ، ظاهر منّي ، اللهمّ إني أشكو إليك ، قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات.

فأمّا تفسيرها ، فقوله عزوجل : (قَدْ سَمِعَ اللهُ) قال الزّجّاج : إدغام الدال في السين حسن لقرب المخرجين لأنهما من حروف طرف اللسان ، وإدغام الدال في السين تقوية للحرف ، وإظهار الدال جائز

____________________________________

(١٣٩٧) صحيح. أخرجه النسائي ٦ / ٤٦ وفي «الكبرى» ١١٥٧٠ و«التفسير» ٥٩٠ وابن ماجة ١٨٨ و ٢٠٦٣ وأحمد ٦ / ٤٦ وعبد الرزاق في «التفسير» ١١١٨ والحاكم ٢ / ٤٨١ والطبري ٣٣٧٢٥ و ٣٣٧٢٦ والواحدي في «الأسباب» ٧٨٨ والبيهقي ٧ / ٣٨٢ من طرق عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة. وإسناده صحيح ، رجاله ثقات رجال البخاري ومسلم غير تميم ، فإنه من رجال مسلم ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وله شاهد من حديث يوسف بن عبد الله بن سلام عن خولة بنت ثعلبة. أخرجه أحمد ٦ / ٤١٠ وأبو داود ٢٢١٤ والبيهقي ٧ / ٣٨٩ والطبري ٣٣٧١٤ وابن حبان ٤٢٧٩ والواحدي في «الأسباب» ٧٩١ من طريق محمد بن إسحاق حدثني معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف به. وانظر «فتح القدير» للشوكاني ٢٤٦٣ و«أحكام القرآن» لابن العربي ٢٠٤٥ و ٢٠٤٧ و«الجامع لأحكام القرآن» ٥٨٣٨ وهي جميعا بتخريجنا ، ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) المجادلة : ٧.

٢٤١

لأنه وإن قرب من مخرج السين فله حيّز على حدة ، ومن موضع الدال الطاء والتاء ، فهذه الأحرف الثلاثة موضعها واحد ، والسين والزاي والصاد من موضع واحد ، وهي تسمّى حروف الصّفير. وفي اسم هذه المجادلة ونسبتها أربعة أقوال : أحدها : خولة بنت ثعلبة ، رواه مجاهد عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة وقتادة والقرظي. والثاني : خولة بنت خويلد ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث : خولة بنت الصّامت ، رواه العوفيّ عن ابن عباس. والرابع : خولة بنت الدّليج ، قاله أبو العالية ، واسم زوجها : أوس بن الصّامت ، وكانا من الأنصار.

(١٣٩٨) قال ابن عباس : كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية : أنت عليّ كظهر أمّي ، حرمت عليه ، فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس ، ثم ندم ، وقال لامرأته : انطلقي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسليه ، فأتته ، فنزلت هذه الآيات. فأمّا مجادلتها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه كان كلّما قال لها : قد حرمت عليه ، تقول : والله ما ذكر طلاقا ، فقال : ما أوحي إليّ في هذا شيء ، فجعلت تشتكي إلى الله. وتشتكي بمعنى تشكو. يقال : اشتكيت ما بي وشكوته ، بمعنى شكوى شاك أي أشكيته. وقالت : إنّ لي صبية صغارا ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا. فأمّا التّحاور ، فهو مراجعة الكلام. قال عنترة في فرسه :

لو كان يدري ما المحاورة اشتكى

ولكان لو علم الكلام مكلّمي

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤))

قوله عزوجل : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «يظّهّرون» بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء وفتحهما من غير ألف. وقرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائيّ : بفتح الياء وتشديد الظاء وبألف وتخفيف الهاء. وقرأ عاصم «يظاهرون» بضمّ الياء وتخفيف الظاء والهاء وكسر الهاء في الموضعين مع إثبات الألف. وقرأ ابن مسعود «يتظاهرون» بياء وتاء وألف. وقرأ أبيّ بن كعب «يتظهّرون» بياء وتاء وتخفيف الظاء وتشديد الهاء من غير ألف. وقرأ الحسن وقتادة والضّحّاك «يظهرون» بفتح الياء وفتح الظاء مخفّفة ، مكسورة الهاء مشدّدة. والمعنى : تقولون لهنّ : أنتنّ كظهور أمّهاتنا (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) قرأ الأكثرون بكسر التاء. وروى المفضّل عن عاصم رفعها. والمعنى ما اللواتي تجعلن كالأمّهات بأمّهات لهم (إِنْ أُمَّهاتُهُمْ) أي ما أمّهاتهم (إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) قال الفرّاء : وانتصاب «الأمّهات» هاهنا بإلقاء الباء ، وهي قراءة عبد الله «ما هنّ بأمهاتهم» ، ومثله : (ما هذا بَشَراً) (١) ، المعنى :

____________________________________

(١٣٩٨) أخرجه البيهقي ٧ / ٣٨٢ ـ ٣٨٣ من حديث ابن عباس ، وإسناده ضعيف لضعف أبي حمزة الثمالي ، لكن يشهد لأصله ما تقدم. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٤٦٢ بتخريجنا.

__________________

(١) يوسف : ٣١.

٢٤٢

ما هذا ببشر ، فلمّا ألقيت الباء أبقي أثرها ، وهو النّصب ، وعلى هذا كلام أهل الحجاز. فأمّا أهل نجد فإنهم إذا ألقوا الباء رفعوا ، فقالوا : «ما هن أمهاتهم» و«ما هذا بشر» أنشدني بعض العرب :

ركاب حسيل آخر الصّيف بدّن

وناقة عمرو ما يحلّ لها رحل

ويزعم حسل أنّه فرع قومه

وما أنت فرع يا حسيل ولا أصل

قوله عزوجل : (وَإِنَّهُمْ) يعني : المظاهرون (لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ) لتشبيههم الزوجات بالأمهات ، والأمهات محرّمات على التأبيد ، بخلاف الزّوجات (وَزُوراً) أي : كذبا (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) إذ شرع الكفارة لذلك.

قوله عزوجل : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) (١) اللام في «لما» بمعني «إلى» ، والمعنى : ثم يعودون إلى تحليل ما حرّموا على أنفسهم من وطء الزّوجة بالعزم على الوطء ، قال الفرّاء : معنى الآية : يرجعون عمّا قالوا ، وفي نقض ما قالوا. وقال سعيد بن جبير : المعنى : يريدون أن يعودوا للجماع الذي قد حرّموه على أنفسهم. وقال الحسن ، وطاوس ، والزّهري : العود : هو الوطء. وهذا يرجع إلى ما قلناه. وقال الشّافعيّ : هو أن يمسكها بعد الظّهار مدّة يمكنه طلاقها فيها فلا يطلّقها. فإذا وجد هذا ، استقرّت عليه الكفّارة ، لأنه قصد بالظّهار تحريمها ، فإن وصل إلى ذلك بالطلاق فقد جرى على ما ابتدأه ، وإن سكت عن الطّلاق ، فقد ندم على ما ابتدأ به ، فهو عود إلى ما كان عليه ، فحينئذ تجب الكفّارة. وقال داود : هو إعادة اللفظ ثانيا ، لأنّ ظاهر قوله عزوجل : (يَعُودُونَ) يدلّ على تكرير اللفظ. قال الزّجّاج : وهذا قول من لا يدري اللغة. وقال أبو عليّ الفارسي : ليس في هذا كما ادّعوا ، لأنّ العود قد يكون إلى شيء لم يكن الإنسان عليه قبل. وسمّيت الآخرة معادا ، ولم يكن فيها أحد ثم عاد إليها. قال الهذلي :

وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل

سوى الحقّ شيئا واستراح العواذل

وقد شرحنا هذا في قوله عزوجل : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٢). وقال ابن قتيبة : من توهّم أنّ الظّهار لا يقع حتى يلفظ به ثانية ، فليس بشيء ، لأنّ الناس قد أجمعوا أنّ الظّهار يقع بلفظ واحد. وإنما تأويل الآية : أنّ أهل الجاهلية كانوا يطلّقون بالظّهار ، فجعل الله حكم الظّهار في الإسلام خلاف حكمه عندهم في الجاهلية ، وأنزل قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) يريد في الجاهلية «ثم يعودون لما قالوا» في الإسلام ، أي : يعودون لما كانوا يقولونه من هذا الكلام ، (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) قال

__________________

(١) قال ابن العربي رحمه‌الله في «أحكام القرآن» ٤ / ١٩٢ : وهو حرف مشكل ، واختلف الناس فيه قديما وحديثا ، وأما القول بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا ، لا يصح ، وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه.

وقال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٨٠ : اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله تعالى : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) فقال بعض الناس : العود : هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره وهذا القول باطل ، وهو اختيار ابن حزم وقول داود. وقال الشافعي : هو أن يمسكها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق. وقال أحمد بن حنبل : هو أن يعود إلى الجماع والعزم على الجماع أو الإمساك ، فلا تحل له حتى يكفّر بهذه الكفارة. وقد حكي عن مالك أنه العزم على الجماع أو الإمساك وعنه : أنه الجماع ، وقال أبو حنيفة : هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية ، فمتى ظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريما لا يرفعه إلا الكفارة.

(٢) البقرة : ٢١٠.

٢٤٣

المفسّرون : المعنى : فعليهم ، أو فكفّارتهم تحرير رقبة (١) ، أي : عتقها. وهل يشترط أن تكون مؤمنة؟ فيه عن أحمد روايتان. قوله عزوجل : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) وهو : كناية عن الجماع ، على أنّ العلماء قد اختلفوا هل يباح للمظاهر الاستمتاع باللمس والقبلة؟ وعن أحمد روايتان. وقال أبو الحسن الأخفش : تقدير الآية : والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم.

فصل : إذا وطئ المظاهر قبل أن يكفّر أثم ، واستقرّت الكفّارة ، وقال أبو حنيفة : يسقط الظّهار والكفّارة. واختلف العلماء فيما يجب عليه إذا فعل ذلك ، فقال الحسن ، وسعيد بن المسيّب ، وطاوس ، ومجاهد ؛ وإبراهيم ، وابن سيرين : عليه كفّارة واحدة ، وقال الزّهري ، وقتادة في آخرين : عليه كفّارتان. فإن قال : أنت عليّ كظهر أمي اليوم ، بطل الظّهار بمضيّ اليوم ، هذا قول أصحابنا ؛ وأبي حنيفة ، والثّوري ، والشّافعي ، وقال ابن أبي ليلى ، ومالك ، والحسن بن صالح : هو مظاهر أبدا. واختلفوا في الظّهار من الأمة ، فقال ابن عباس : ليس من الأمة ظهار ، وبه قال سعيد بن المسيّب ، والشّعبي ، والنّخعي ، وأبو حنيفة ، والشّافعيّ ، وقال سعيد بن جبير ، وطاوس ، وعطاء ، والأوزاعي ، والثّوري ، ومالك : هو ظهار. ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال : لا يكون مظاهرا من أمته ، ولكن يلزمه كفّارة الظّهار ، كما قال في المرأة إذا ظاهرت من زوجها لم تكن مظاهرة ، وتلزمها كفّارة الظّهار. واختلفوا فيمن قال : أنت عليّ كظهر أبي ، فقال مالك : هو مظاهر ، وهو قول أصحابنا ، وقال أبو حنيفة والشّافعيّ : لا يكون مظاهرا. واختلفوا فيمن ظاهر مرارا ، فقال أبو حنيفة ، والشّافعيّ : إن كان في مجالس ، فكفّارات ، وإن كان في مجلس واحد ، فكفّارة : قال القاضي أبو يعلى : وعلى قول أصحابنا يلزمه كفّارة واحدة ، سواء كان في مجلس واحد ، أو في مجالس ، ما لم يكفّر ، وهذا قول مالك.

قوله عزوجل : (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) قال الزّجّاج : ذلكم التّغليظ توعظون به. والمعنى : أنّ غلظ الكفّارة وعظ لكم حتى تتركوا الظّهار. قوله عزوجل : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) يعني : الرّقبة (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ) أي : فعليه صيام شهرين (٢) (مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) الصيام فكفّارته إطعام (سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ) أي : الفرض ذلك الذي وصفنا (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي : تصدّقوا بأنّ الله أمر بذلك ، وتصدّقوا بما أتى به الرّسول (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) يعني : ما وصفه الله من الكفّارات في الظّهار (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال ابن عباس : لمن جحد هذا وكذّب به.

__________________

(١) قال ابن العربي رحمه‌الله في «أحكام القرآن» ٤ / ١٠٥ : وظاهر قوله تعالى ، يرتبط الوجوب بالعود ، وفيه يرتبط كيفما كانت حالة الارتباط ، بيد أنه للمسألة حرف جرى في ألسنة علمائنا من غير قصد ، وهو مقصود المسألة ، وذلك أن المعتبر في الكفارة صفة العبادة أو صفة العقوبة. والشافعي اعتبر صفة العقوبة ، ونحن اعتبرنا صفة القربة ، والقرب إنما يعتبر في حال الإجراء خاصة بحال الأداء ، كالطهارة والصلاة ، والذي يعتبر فيه حالة الوجوب هي الحدود ، والطهارة ليست مقصودة لنفسها ، وإنما تراد للصلاة ، فاعتبر حال فعل الصلاة فيها.

قلنا : وكذلك الكفارة ليست مقصودة لنفسها ، وإنما تراد لحل المسيس ، فإذا احتيج إلى المسيس اعتبرت الحالة المذكورة فيها.

(٢) قال ابن العربي رحمه‌الله في «أحكام القرآن» ٤ / ١٩٧ : يقتضي أن الوطء للزوجة في ليل الظهار يبطل الكفارة ، لأن الله سبحانه شرط في كفارة الظهار فعلها قبل التماس.

٢٤٤

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧))

قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) قد ذكرنا معنى المحادّة في التّوبة (١) ، ومعنى «كبتوا» في آل عمران عند قوله عزوجل : (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) (٢) ، وقال ابن عباس : أخزوا يوم الخندق بالهزيمة كما أخزي الذين من قبلهم ممّن قاتل الرّسل. قوله عزوجل : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي : من قبورهم (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) من معاصيه ، وتضييع فرائضه (أَحْصاهُ اللهُ) أي : حفظه الله عليهم (وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من أعمالهم في السّرّ والعلانية (شَهِيدٌ). (أَلَمْ تَرَ) أي : ألم تعلم. قوله عزوجل : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) وقرأ أبو جعفر «ما تكون» بالتاء. قال ابن قتيبة : النّجوى : السّرار. وقال الزّجّاج : ما يكون من خلوة ثلاثة يسرّون شيئا ، ويتناجون به (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) أي : عالم به. و«نجوى» الزّجّاج : ما يكون من خلوة ثلاثة يسرّون شيئا ، ويتناجون به (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) أي : عالم به. و«نجوى» مشتقّ من النّجوة ، وهو ما ارتفع. وقرأ يعقوب «ولا أكثر» بالرفع. وقال الضّحّاك : «إلّا هو معهم» أي : علمه معهم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))

قوله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) في سبب نزولها قولان :

(١٣٩٩) أحدهما : نزلت في اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين ، وينظرون إلى المؤمنين ، ويتغامزون بأعينهم ، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا : ما نراهم إلّا قد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السّرايا ، قتل أو موت ، أو مصيبة ، فيقع ذلك في قلوبهم ، ويحزنهم ، فلا يزالون كذلك حتى تقدّم أصحابهم. فلمّا طال ذلك وكثر ، شكا المؤمنون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين ، فلم ينتهوا عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس

____________________________________

(١٣٩٩) لم أره مسندا. وذكره الواحدي في «الأسباب» ٧٩٢ عن ابن عباس ومجاهد بدون إسناد ، فهو لا شيء.

__________________

(١) التوبة : ٦٣.

(٢) آل عمران : ١٢٧.

٢٤٥

والثاني : أنها نزلت في اليهود ، قاله مجاهد (١).

(١٤٠٠) قال مقاتل : وكان بين اليهود وبين رسول الله موادعة ، فإذا رأوا رجلا من المسلمين وحده تناجوا بينهم فيظنّ المسلم أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره فيترك الطريق من المخافة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنهاهم عن النّجوى فلم ينتهوا وعادوا إليها ، فنزلت هذه الآية. وقال ابن السّائب : نزلت في المنافقين (٢). والنّجوى : بمعنى المناجاة (ثُمَّ يَعُودُونَ) إلى المناجاة التي نهوا عنها (وَيَتَناجَوْنَ) قرأ حمزة ، ويعقوب إلّا زيدا ، وروحا «ويتنجّون» وقرأ الباقون «ويتناجون» بألف. وفي معنى تناجيهم (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) وجهان : أحدهما : يتناجون بما يسوء المسلمين ، فذلك الإثم والعدوان ، ويوصي بعضهم بعضا بمعصية الرّسول. والثاني : يتناجون بعد نهي الرسول لهم ، ذلك هو الإثم والعدوان ومعصية الرسول.

قوله عزوجل : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) اختلفوا فيمن نزلت على قولين :

(١٤٠١) أحدهما : أنها نزلت في اليهود. قالت عائشة رضي الله عنها : جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : السّام عليك يا أبا القاسم ، فقلت : السّام عليكم ، وفعل الله بكم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مه يا عائشة ، فإنّ الله لا يحبّ الفحش ، ولا التّفحّش ، فقلت : يا رسول الله ، ترى ما يقولون؟ فقال : ألست ترين أردّ عليهم ما يقولون ، وأقول : وعليكم ، قالت : فنزلت هذه الآية في ذلك. قال الزّجّاج : والسّام : الموت.

والثاني : أنها نزلت في المنافقين ، رواه عطيّة عن ابن عباس.

قال المفسّرون : ومعنى «حيّوك» سلّموا عليك بغير سلام الله عليك ، وكانوا يقولون : السّام عليك. فإذا خرجوا يقولون في أنفسهم ، أو يقول بعضهم لبعض : لو كان نبيّا عذّبنا بقولنا له ما نقول.

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ) فيها قولان : أحدهما : نزلت في المنافقين ، فالمعنى : يا أيّها الذين آمنوا بزعمهم ، وهذا قول عطاء ومقاتل. والثاني : أنها في المؤمنين ، والمعنى : أنه نهاهم عن فعل المنافقين واليهود ، وهذا مذهب جماعة ، منهم الزّجّاج.

قوله عزوجل : (فَلا تَتَناجَوْا) هكذا قرأ الجماعة بألف. وقرأ يعقوب وحده «فلا تتنجّوا». فأمّا «البرّ» فقال مقاتل : هو الطّاعة ، و«التقوى» ترك المعصية. وقال أبو سليمان الدّمشقي : «البرّ» الصدق ،

____________________________________

(١٤٠٠) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ساقط الرواية كذبه غير واحد.

(١٤٠١) صحيح. أخرجه البخاري ٦٤٠١ والبغوي في «شرح السنة» ٣٢٠٦ عن قتيبة بن سعيد به. وأخرجه البخاري ٢٩٣٥ و ٦٠٣٠ وفي «الأدب المفرد» ٣١١ من طريق أيوب عن ابن مليكة به. وأخرجه مسلم ٢١٦٥ ح ١١ والواحدي في «الوسيط» ٤ / ٢٦٢ من طريق مسروق عن عائشة به. وأخرجه البخاري ٦٠٢٤ و ٦٢٥٦ و ٦٣٩٥ ومسلم ٢١٦٥ والترمذي ٢٧٠١ وأحمد ٦ / ٣٧ و ١٩٩ وعبد الرزاق ١٩٤٦ وابن حبان ٦٤٤١ والبيهقي في «السنن» ٩ / ٢٠٣ وفي «الآداب» ٢٨٦ من طرق عن الزهري عن عروة عن عائشة به.

__________________

(١) انظر الأثر المتقدم.

(٢) عزاه المصنف لابن السائب الكلبي ، وهو متروك متهم.

ـ وورد مختصرا في ذكر المنافقين فحسب ، من مرسل قتادة ، أخرجه الطبري ٣٧٧٠.

٢٤٦

و«التقوى» ترك الكذب. ثم ذكر أن ما يفعله اليهود والمنافقون ، من الشيطان ، فقال عزوجل : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) أي : من تزيينه ، والمعنى : إنما يزيّن لهم ذلك (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) وقد بيّنّا آنفا ما كان يحزن المؤمنين من هذه النّجوى (وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً) أي : وليس الشيطان بضارّ المؤمنين شيئا (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : بإرادته (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي : فليكلوا أمورهم إليه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١))

قوله عزوجل : (إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) وقرأ عاصم «في المجالس» على الجمع ، وذلك أنّ كلّ جالس له مجلس ، فالمعنى : ليفسح كلّ رجل منكم في مجلسه (١).

(١٤٠٢) قال المفسّرون : نزلت في نفر من المؤمنين كانوا يسابقون إلى مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا أقبل المهاجرون وأهل السّابقة ، لم يجدوا موضعا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحبّ أن يليه أولو الفضل ليحفظوا عنه ، فبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم جمعة جالس في صفّة ضيّقة في المسجد ، جاء نفر من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شمّاس ، فسلّموا وانتظروا أن يوسّعوا لهم ، فأوسعوا لبعضهم ، وبقي بعضهم ، فشقّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : قم يا فلان ، قم يا فلان ، حتى أقام من المجلس على عدّة من هو قائم من أهل السابقة ، فرأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وجوه من أقامهم الكراهة ، وتكلّم المنافقون في ذلك وقالوا : والله ما عدل ، فنزلت هذه الآية.

وقال قتادة : كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا أقبل مقبل ضنّوا بمجلسهم ، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض. قال المفسّرون : ومعنى «تفسّحوا» توسّعوا وذلك أنهم كانوا يجلسون متصافّين حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يجد غيرهم مجلسا عنده ، فأمرهم أن يوسّعوا لغيرهم ليتساوى الناس في الحظّ منه ، ويظهر فضيلة المقرّبين إليه من أهل بدر وغيرهم.

وفي المراد «بالمجلس» هاهنا ثلاثة أقوال : أحدها : أنه مجلس الحرب ومقاعد القتال ، كان الرجل يأتي القوم في الصّفّ ، فيقول لهم : توسّعوا ، فيأبون عليه لحرصهم على القتال ، وهذا قول ابن عباس والحسن وأبي العالية والقرظي. والثاني : أنه مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله مجاهد. وقال قتادة : كان هذا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن حوله خاصّة. والثالث : مجالس الذّكر كلّها ، روي عن قتادة أيضا. وقرأ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأبو رزين وأبو عبد الرّحمن ومجاهد والحسن وعكرمة وقتادة وابن أبي عبلة والأعمش : «تفسحوا في المجالس» بألف على الجمع.

قوله عزوجل : (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أي : يوسّع الله لكم الجنّة ، والمجالس فيها. (وَإِذا قِيلَ

____________________________________

(١٤٠٢) عزاه ابن كثير ٤ / ٣٨٣ ـ ٣٨٤ لابن أبي حاتم عن مقاتل ، وهذا مرسل ، ومقاتل ذو مناكير ، وهذا منها.

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ١٨ : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين أن يتفسحوا في المجلس ، ولم يخصص بذلك مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون مجلس القتال ، وكلا الموضعين يقال له مجلس ، فذلك على جميع المجالس من مجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومجالس القتال.

٢٤٧

انْشُزُوا) قرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم «انشزوا فانشزوا» برفع الشين فيهما. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائيّ : بكسر الشين فيهما. ومعنى «انشزوا» قوموا. قال الفرّاء : وهما لغتان. وفي المراد بهذا القيام خمسة أقوال (١) : أحدها : أنه القيام إلى الصّلاة ، وكان رجال يتثاقلون عنها ، فقيل لهم : إذا نودي للصلاة فانهضوا ، هذا قول عكرمة ، والضّحّاك. والثاني : أنه القيام إلى قتال العدو ، قاله الحسن. والثالث : أنه القيام إلى كلّ خير ، من قتال ، أو أمر بمعروف ، ونحو ذلك ، قاله مجاهد.

(١٤٠٣) والرابع : أنه الخروج من بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أنهم كانوا إذا جلسوا في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطالوا ليكون كلّ واحد منهم آخرهم عهدا به ، فأمروا أن ينشزوا إذا قيل لهم : انشزوا ، قاله ابن زيد. والخامس : أنّ المعنى : قوموا وتحرّكوا وتوسّعوا لإخوانكم ، قاله الثّعلبي.

قوله عزوجل : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي : يرفعهم بإيمانهم على من ليس بمنزلتهم من أهل الإيمان (وَ) يرفع (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) على من ليس بعالم. وهل هذا الرفع في الدنيا ، أم في الآخرة؟ فيه وجهان : أحدهما : أنه إخبار عن ارتفاع درجاتهم في الجنّة. والثاني : أنه ارتفاع مجالسهم في الدنيا ، فيكون ترتيبهم فيها بحسب فضائلهم في الدّين والعلم. وكان ابن مسعود يقول : أيّها الناس : افهموا هذه الآية ولترغّبكم في العلم ، فإنّ الله يرفع المؤمن العالم فوق من لا يعلم درجات.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣))

قوله عزوجل : (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) في سبب نزولها قولان.

(١٤٠٤) أحدهما : أنّ الناس سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى شقّوا عليه ، فأراد الله أن يخفّف عن نبيّه ،

____________________________________

(١٤٠٣) باطل ، أخرجه الطبري ٣٣٧٨٥ عن عبد الرحمن بن زيد ، وهذا معضل ، وابن زيد واه ، والمتن باطل.

(١٤٠٤) ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «أسباب النزول» للسيوطي ١٠٨٣ من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وإسناده ضعيف لانقطاعه بينهما.

__________________

(١) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٨٤ : وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال :

فمنهم من رخّص في ذلك محتجا بحديث : «قوموا إلى سيدكم» اه. والأولى ترك القيام لما فيه من مخالفات وذرائع ينبغي سدّها ذلك ، وكثير من أهل العلم يجعلونه حتما لازما على الطالب وإن كانوا لا يقولونه صريحا.

فإنهم يؤكدون ذلك على أنه من باب احترام وإجلال العلم ، والصواب أن نفوسهم هي التي تطلب ذلك. وقد شاهدت حادثة أذكرها ليتبين ويظهر الأمر جليا في ذلك. كنا في صف وعلى مقاعد الدراسة ، وكان حصة القرآن الكريم الطالب يتلو والشيخ يسمع. إذ دخل شيخ آخر كبير وبدل أن يبقى الجميع على ما هم عليه قام الجميع على حين غفلة احتراما للشيخ وكما تعلم هؤلاء الطلبة مما أدى إلى وقوع كتاب الله عزوجل على الأرض وأخذه الطالب وكأن شيئا لم يحصل فهذا القيام وفي مثل هذه الحال غير جائز بالإجماع والعالم الذي يرى الطالب ، وقد قام له أثناء تلاوة القرآن عليه أن ينهاه عن ذلك وإلا فهو آثم عند جميع الفقهاء وأهل العلم.

وقد أجمع أهل الحديث وعلم المصطلح على كراهة القيام لأحد أثناء تلاوة الحديث فكيف أثناء تلاوة القرآن؟!!. نسأل الله أن يبصرنا بعيوبنا وأن ينفعنا بما علمنا إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.

٢٤٨

فأنزل هذه الآية ، قاله ابن عباس.

(١٤٠٥) والثاني : أنها نزلت في الأغنياء ، وذلك أنهم كانوا يكثرون مناجاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويغلبون الفقراء على المجالس ، حتى كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، فنزلت هذه الآية ، فأمّا أهل العسرة فلم يجدوا شيئا ، وأمّا أهل الميسرة فبخلوا ، واشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت الرّخصة ، قاله مقاتل بن حيّان.

(١٤٠٦) وإلى نحوه ذهب مقاتل بن سليمان ، إلّا أنه قال : فقدر الفقراء حينئذ على مناجاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يقدّم أحد من أهل الميسرة صدقة غير عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

(١٤٠٧) وروى مجاهد عن عليّ رضي الله عنه قال : آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ، ولن يعمل بها أحد بعدي ، آية النّجوى. كان لي دينار ، فبعته بعشرة دراهم ، فكلّما أردت أن أناجي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدّمت درهما ، فنسختها الآية الأخرى (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا) الآية.

قوله عزوجل : (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي : تقديم الصّدقة على المناجاة خير لكم ، لما فيه من

____________________________________

(١٤٠٥) ضعيف ، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» ٦ / ٢٧٢ عن مقاتل بن حيان ، وهذا مرسل ، فهو ضعيف.

(١٤٠٦) عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان ، وهو ممن يصنع الحديث ، فخبره لا شيء.

(١٤٠٧) ضعيف. أخرجه الطبري ٣٣٧٨٨ عن مجاهد مرسلا ، والمرسل من قسم الضعيف. وروي عن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية ، دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أما ترى دينارا؟ قلت : لا يطيقونه ، قال : فكم؟ قلت : حبة أو شعيرة ، قال : إنك لزهيد ، فنزلت : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) قال علي : فبي قد خفف الله عن هذه الأمة. أخرجه الترمذي ٣٣٠٠ وابن أبي شيبة ١٢ / ٨١ ـ ٨٢ وأبو يعلى ٤٠٠ وابن حبان ٦٩٤١ والعقيلي في «الضعفاء» ٣ / ٢٤٣ من طريق عبيد الله الأشجعي عن سفيان عن عثمان بن المغيرة الثقفي عن سالم بن أبي الجعد عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي بن أبي طالب به. وأخرجه الطبري ٣٣٧٩٦ وابن حبان ٦٩٤٢ والنسائي في «الخصائص» ١٥٢ عن سفيان الثوري بالإسناد المذكور. وأخرجه ابن عدي في «الكامل» ٥ / ٢٠٤ من طريق شريك عن عثمان المغيرة به. وفي إسناده علي بن علقمة. قال العقيلي : قال البخاري في حديثه نظر. وفي «الميزان» ٥٨٩٣ : وقال ابن المديني : لا أعلم له راويا غير سالم اه. وفي هذه إشارة إلى أنه مجهول. وقال عنه ابن حبان في «المجروحين» ٢ / ١٠٩ منكر الحديث يروي عن علي بما لا يشبه حديثه ، فلا أدري سمع منه ، أو أخذ ما يروي عنه عن غيره. والذي عندي ترك الاحتجاج به إلا حين وافق الثقات من أصحاب علي اه. وتابعه ابن أبي ليلى عند الحاكم ٢ / ٤٨١ ـ ٤٨٢ وصححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي! والصواب أن فيه يحيى بن المغيرة السعدي ، وهو لم يرو له الشيخان ، ولا أحدهما لكن وثقه أبو حاتم وابن حبان ، وللحديث علة أخرى ، وهي الإرسال ، حيث رواه ابن أبي ليلى بصيغة الإرسال ، وهو كثير الإرسال ، ثم وقع تخليط في هذه الرواية فقد جعله من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدل كونه من كلام علي ، وهذا دليل على أنها رواية واهية ليست بشيء. وأخرج عبد الرزاق في «التفسير» ٣١٧٨ والطبري ٣٣٧٨٩ و ٣٣٧٩١ والواحدي في «الوسيط» ٤ ، ٢٦٦ من طريق مجاهد عن علي بن أبي طالب قال : آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد قبلي ، ولن يعمل بها أحد غيري ، آية النجوى : كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكلما أردت أن أناجي رسول الله قدمت درهما ، فنسخت بالآية الأخرى (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) الآية. وإسناده ضعيف لانقطاعه بين مجاهد وعلي.

الخلاصة : هو خبر ضعيف ولا يحتج بمثل هذه الأخبار في هذه المواضع ، فلا يثبت بمثل ذلك سبب نزول آية ولا كونها خاصة. وانظر «أحكام القرآن» ٢٠٥٦ و ٢٠٥٧ بتخريجنا.

٢٤٩

طاعة الله ، وأطهر لذنوبكم (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) يعني : الفقراء (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إذ عفا عمّن لا يجد. قوله عزوجل : (أَأَشْفَقْتُمْ) أي : خفتم بالصّدقة الفاقة (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي : فتجاوز عنكم ، وخفّف بنسخ إيجاب الصّدقة. قال مقاتل بن حيّان : إنما كان ذلك عشر ليال. قال قتادة : ما كان إلّا ساعة من نهار.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠))

قوله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) نزلت في المنافقين الذين تولّوا اليهود ، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين.

(١٤٠٨) وقال السّدّيّ ، ومقاتل : نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق ، وذلك أنه كان يجالس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويرفع حديثه إلى اليهود ، فدخل عليه يوما ، وكان أزرق ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فعلت» فانطلق فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما سبّوه ، فأنزل الله هذه الآيات.

(١٤٠٩) وروى الحاكم أبو عبد الله في صحيحه من حديث ابن عباس ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في ظلّ حجرة من حجره ، وعنده نفر من المسلمين ، فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا أتاكم فلا تكلّموه ، فجاء رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : علام تشتمني أنت وفلان وفلان؟ فانطلق الرجل فدعاهم ، فحلفوا بالله واعتذروا إليه ، فأنزل الله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ) الآية.

فأمّا التفسير ، فالذين تولّوا : هم المنافقون ، والمغضوب عليهم : هم اليهود (ما هُمْ مِنْكُمْ) يعني : المنافقين ليسوا من المسلمين ، ولا من اليهود (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) وهو ما ذكرنا في سبب نزولها. وقال بعضهم : حلفوا أنهم ما سبّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تولّوا اليهود (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كذبة (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي : سترة يتّقون بها القتل. قال ابن قتيبة : المعنى : استتروا بالحلف ، فكلّما ظهر لهم شيء يوجب معاقبتهم حلفوا كاذبين. (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فيه قولان : أحدهما : صدّوا النّاس عن دين الإسلام ، قاله السّدّيّ. والثاني : صدّوا المؤمنين عن جهادهم بالقتل وأخذ مالهم. قوله عزوجل :

____________________________________

(١٤٠٨) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٩٨ عن السدي ومقاتل بدون إسناد ، وهذا مرسل.

وله شاهد من حديث ابن عباس وهو الآتي.

(١٤٠٩) حسن ، أخرجه أحمد ١ / ٢٤٠١ والحاكم ٢ / ٤٨٢ والطبري ٣٣٨٠٥ والواحدي ٧٩٩. صححه الحاكم على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في «المجمع» ٧ / ١٢٢ رجال أحمد رجال الصحيح اه.

٢٥٠

(فَيَحْلِفُونَ لَهُ) قال مقاتل ، وقتادة : يحلفون لله في الآخرة أنهم كانوا مؤمنين ، كما حلفوا لأوليائه في الدنيا (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) من أيمانهم الكاذبة (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) في قولهم وأيمانهم.

قوله عزوجل : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) قال أبو عبيدة : غلب عليهم ، وحاذهم ، وقد بيّنّا هذا في سورة النّساء عند قوله عزوجل : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) (١) ، وما بعد هذا ظاهر إلى قوله عزوجل : (أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) أي : في المغلوبين ، فلهم في الدنيا ذلّ ، وفي الآخرة خزي.

(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

قوله عزوجل : (كَتَبَ اللهُ) أي : قضى الله (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) وفتح الياء نافع ، وابن عامر. قال المفسّرون : من بعث من الرّسل بالحرب ، فعاقبة الأمر له ، ومن لم يبعث بالحرب ، فهو غالب بالحجّة (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي : مانع حزبه من أن يذلّ.

قوله عزوجل : (لا تَجِدُ قَوْماً) الآية. اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال :

(١٤١٠) أحدها : نزلت في أبي عبيدة بن الجرّاح ، قتل أباه يوم أحد ، وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز ، فقال : يا رسول الله دعني أكون في الرّعلة الأولى ، فقال : متّعنا بنفسك يا أبا بكر ، وفي مصعب بن عمير ، قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد ، وفي عمر قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر. وفي عليّ وحمزة قتلا عتبة وشيبة يوم بدر ، قاله ابن مسعود.

(١٤١١) والثاني : أنها نزلت في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه وذلك أنّ أبا قحافة سبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصكّه أبو بكر صكّة شديدة سقط منها ، ثم ذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو فعلته»؟ قال : نعم. قال : فلا تعد إليه ، فقال أبو بكر : والله لو كان السيف قريبا مني لقتلته ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن جريج.

(١٤١٢) والثالث : نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ، وذلك أنه كان جالسا إلى جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فشرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماء ، فقال عبد الله : يا رسول الله أبق فضلة من شرابك ، قال : وما تصنع

____________________________________

(١٤١٠) ضعيف ، عزاه البغوي في «التفسير» ٤ / ٣١٢ / ٢١٥٤ لمقاتل بن حيان عن مرة الهمداني عن ابن مسعود قوله : ومقاتل ذو مناكر ، وهو غير حجة.

(١٤١١) باطل ، أخرجه ابن المنذر كما في «أسباب النزول» ١٠٨٩ عن ابن جريج ، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٨٠٠ عن ابن جريج تعليقا ، وهذا واه ابن جريح مدلس ، لم يذكر من حدثه ، ومع ذلك هو معضل ، فالخبر شبه موضوع ، قال الإمام أحمد : هذه المراسيل التي يرسلها ابن جريج كأنها موضوعة.

ـ راجع «الميزان» في ترجمة ابن جريج واسمه عبد الملك بن عبد العزيز.

(١٤١٢) عزاه المصنف للسدي ، ولم أقف عليه ، وهو مرسل بكل حال فهو واه.

__________________

(١) النساء : ١٤١.

٢٥١

بها؟ فقال : أسقيها أبي ، لعلّ الله سبحانه يطهّر قلبه ، ففعل ، فأتى بها أباه ، فقال : ما هذا؟ قال : فضلة من شراب رسول الله جئتك بها لتشربها ، لعلّ الله يطهّر قلبك ، فقال : هلّا جئتني ببول أمّك! فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، ائذن لي في قتل أبي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارفق به ، وأحسن إليه ، فنزلت هذه الآية ، قاله السّدّيّ.

(١٤١٣) والرابع : أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكّة يخبرهم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عزم على قصدهم ، قاله مقاتل ، واختاره الفرّاء ، والزّجّاج.

وهذه الآية قد بيّنت أنّ مودّة الكفّار تقدح في صحة الإيمان ، وأنّ من كان مؤمنا لم يوال كافرا وإن كان أباه أو ابنه أو أحدا من عشيرته.

قوله عزوجل : (أُولئِكَ) ، يعني : الذين لا يوادّون من حادّ الله ورسوله (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) وقرأ المفضّل عن عاصم «كتب» برفع الكاف والنون من «الإيمان». وفي معنى «كتب» خمسة أقوال : أحدها : أثبت في قلوبهم الإيمان ، قاله الرّبيع بن أنس. والثاني : جعل ، قاله مقاتل. والثالث : كتب في اللّوح المحفوظ أنّ في قلوبهم الإيمان ، حكاه الماوردي. والرابع : حكم لهم بالإيمان. وإنما ذكر القلوب ، لأنها موضع الإيمان ، ذكره الثّعلبي. والخامس : جمع في قلوبهم الإيمان حتى استكملوه ، قاله الواحدي. قوله عزوجل : (وَأَيَّدَهُمْ) أي قوّاهم (بِرُوحٍ مِنْهُ) في المراد «بالرّوح» هاهنا خمسة أقوال : أحدها : أنه النّصر ، قاله ابن عباس والحسن. فعلى هذا سمّي النّصر روحا لأنّ أمرهم يحيا به. والثاني : الإيمان ، قاله السّدّيّ. والثالث : القرآن ، قاله الرّبيع. والرابع : الرّحمة ، قاله مقاتل. والخامس : جبريل عليه‌السلام أيّدهم به يوم بدر ، ذكره الماوردي. فأمّا (حِزْبُ اللهِ) فقال الزّجّاج : هم الدّاخلون في الجمع الذين اصطفاهم الله وارتضاهم ، و«ألا» كلمة تنبيه وتوكيد للقصة.

____________________________________

(١٤١٣) عزاه المصنف لمقاتل ، وهو ساقط الرواية متهم بالكذب ، وخبر حاطب في «الصحيحين» وليس فيه ذكر نزول هذه الآية.

٢٥٢

سورة الحشر

وهي مدنية كلها بإجماعهم ، وذكر المفسّرون أنّ جميعها نزل في بني النّضير. وكان ابن عباس يسمّي هذه السّورة «سورة بني النّضير ؛» وهذه الإشارة إلى قصّتهم.

(١٤١٤) ذكر أهل العلم بالتفسير والسّير : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى مسجد قباء ، ومعه نفر من أصحابه ، فصلّى فيه ، ثم أتى بني النّضير ، فكلّمهم أن يعينوه في دية رجلين كان قد آمنهما ، فقتلهما عمرو بن أميّة الضّمريّ وهو لا يعلم ، فقالوا : نفعل ، وهمّوا بالغدر به ، وقال عمرو بن جحاش : أنا أظهر على البيت ، فأطرح عليه صخرة ، فقال سلّام بن مشكم : لا تفعلوا ، والله ليخبرن بما هممتم به ، وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر ، فنهض سريعا ، فتوجّه إلى المدينة ، فلحقه أصحابه ، فقالوا : قمت ولم نشعر؟! فقال : همّت يهود بالغدر ، فأخبرني الله بذلك ، فقمت ، وبعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محمّد بن مسلمة : أن اخرجوا من بلدتي ، فلا تساكنوني ، وقد هممتم بما هممتم به ، وقد أجّلتكم عشرا. فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه ، فمكثوا أياما يتجهّزون ، فأرسل إليهم ابن أبيّ : لا تخرجوا ، فإنّ معي ألفين من قومي وغيرهم ، وتمدّكم قريظة ، وحلفاؤكم من غطفان ، وطمع حييّ فيما قال ابن أبيّ ، فأرسل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّا لا نخرج ، فاصنع ما بدا لك ، فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكبّر المسلمون لتكبيره ، وقال : حاربت يهود ، ثم سار إليهم في أصحابه ، فلمّا رأوه ، قاموا على حصونهم معهم النّبل والحجارة ، فاعتزلتهم قريظة ، وخذلهم ابن أبيّ وحلفاؤهم من غطفان ، وكان رئيسهم كعب بن الأشرف قد خرج إلى مكّة فعاقد المشركين على التظاهر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبر الله نبيّه بذلك ، فبعث محمّد بن مسلمة فاغترّه فقتله ، وحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقطع نخلهم ، فقالوا : نحن نخرج عن بلادك ، فأجلاهم عن المدينة ، فمضى بعضهم إلى الشّام ، وبعضهم إلى خيبر ، وقبض أموالهم وسلاحهم ، فوجد خمسين درعا ، وخمسين بيضة ، وثلاثمائة وأربعين سيفا.

فأمّا التفسير فقد ذكرنا فاتحة هذه السّورة في أوّل الحديد.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ

____________________________________

(١٤١٤) عزاه المصنف لأهل التفسير والسير ، ولم أره بهذا اللفظ ، والظاهر أنه ساقه بمعناه. وانظر «السيرة النبوية» ٣ / ١٥١ و«تفسير ابن كثير» ٤ / ٣٩١ و«الدر المنثور» ٦ / ٢٧٧ و«أسباب النزول» ٨٠٢.

٢٥٣

الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني : يهود بني النّضير (مِنْ دِيارِهِمْ) أي : من منازلهم (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) فيه أربعة أقوال : أحدها : أنهم أول من حشر وأخرج من داره ، قاله ابن عباس. وقال ابن السّائب : هم أول من نفي من أهل الكتاب. والثاني : أنّ هذا كان أوّل حشرهم ، والحشر الثاني : إلى أرض المحشر يوم القيامة ، قاله الحسن.

(١٤١٥) قال عكرمة : من شكّ أنّ المحشر إلى الشّام فليقرأ هذه الآية ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم يومئذ : اخرجوا ، فقالوا : إلى أين؟ قال : إلى أرض المحشر.

والثالث : أنّ هذا كان أول حشرهم وأن الحشر الثاني : نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، قاله قتادة. والرابع : هذا كان أول حشرهم من المدينة ، والحشر الثاني : من خيبر وجميع جزيرة العرب إلى أذرعات وأريحا من أرض الشّام في أيام عمر بن الخطّاب ، رضي الله عنه ، قاله مرّة الهمداني.

قوله عزوجل : (ما ظَنَنْتُمْ) يخاطب المؤمنين (أَنْ يَخْرُجُوا) من ديارهم لعزّهم ، ومنعتهم ، وحصونهم (وَظَنُّوا) : يعني : بني النّضير أنّ حصونهم تمنعهم من سلطان الله (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) وذلك أنّه أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتالهم وإجلائهم ، ولم يكونوا يظنّون أنّ ذلك يكون ، ولا يحسبونه (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) لخوفهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : لقتل سيّدهم كعب بن الأشرف (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) قرأ أبو عمرو «يخرّبون» بالتشديد. وقرأ الباقون «يخربون» بالتخفيف وهل بينهما فرق ، أم لا؟ فيه قولان : أحدهما : أنّ المشددة معناها : النّقض والهدم. والمخفّفة معناها : يخرجون منها ويتركونها خرابا معطّلة ، حكاه ابن جرير. وروي عن أبي عمرو أنه قال : إنما اخترت التشديد ، لأنّ بني النّضير نقضوا منازلهم ، ولم يرتحلوا عنها وهي معمورة. والثاني : أنّ القراءتين بمعنى واحد. والتّخريب والإخراب لغتان بمعنى ، حكاه ابن جرير عن أهل اللغة. وللمفسّرين فيما فعلوا بمنازلهم أربعة أقوال : أحدها : أنه كان المسلمون كلّما ظهروا على دار من دورهم هدموها ليتّسع لهم مكان القتال ، وكانوا هم ينقبون دورهم ، فيخرجون إلى ما يليها ، قاله ابن عباس. والثاني : أنه كان المسلمون كلّما هدموا شيئا من حصونهم نقضوا هم ما يبنون به الذي خربه المسلمون ، قاله الضّحّاك. والثالث : أنهم كانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم ، أو العمود ، أو الباب ، يستحسنونه ، فيهدمون

____________________________________

(١٤١٥) هو مرسل وورد موصولا. أخرجه البزار ٣٤٢٦ «كشف» من طريق أبي سعد البقال عن عكرمة عن ابن عباس. وإسناده ضعيف لضعف أبي سعد البقال. وقال الهيثمي في «المجمع» ١٠ / ٨٣٥٥ : فيه أبو سعيد البقال ، والغالب على حديثه الضعف. قلت : وكون المحشر في الشام ، ورد في أحاديث أخرى. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي ٥٨٧٣ بتخريجنا.

٢٥٤

البيوت ، وينزعون ذلك منها ، ويحملونه معهم ، ويخرب المؤمنون باقيها ، قاله الزهري. والرابع : أنهم كانوا يخربونها لئلّا يسكنها المؤمنون ، حسدا منهم ، وبغيا ، قاله ابن زيد.

قوله عزوجل : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) الاعتبار : النّظر في الأمور ، ليعرف بها شيء آخر من جنسها ، و«الأبصار» العقول. والمعنى : تدبّروا ما نزل بهم (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ) أي : قضى (عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) وهو خروجهم من أوطانهم. وذكر الماوردي بين الإخراج والجلاء فرقين : أحدهما : أنّ الجلاء : ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج : قد يكون مع بقاء الأهل والولد. والثاني : أنّ الجلاء لا يكون إلّا لجماعة. والإخراج : قد يكون لواحد ولجماعة. والمعنى : لو لا أنّ الله قضى عليهم بالخروج (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالقتل والسّبي ، كما فعل بقريظة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) مع ما حلّ بهم في الدنيا (عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ) الذي أصابهم (بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ) وقد سبق بيان الآية (١). قال القاضي أبو يعلى : فقد دلّت هذه الآية على جواز مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير سبي ولا استرقاق ، ولا جزية ، ولا دخول في ذمّة ، وهذا حكم منسوخ إذا كان في المسلمين قوة على قتالهم ، لأنّ الله تعالى أمر بقتال الكفار حتى يسلموا ، أو يؤدّوا الجزية. وإنّما يجوز هذا الحكم إذا عجز المسلمون عن مقاومتهم فلم يقدروا على إدخالهم في الإسلام أو الذّمّة ، فيجوز لهم حينئذ مصالحتهم على الجلاء من بلادهم. وفي هذه القصة دلالة على جواز مصالحتهم على مجهول من المال.

(١٤١٦) لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صالحهم على أرضهم ، وعلى الحلقة (٢) ، وترك لهم ما أقلّت الإبل ، وذلك مجهول.

وقوله عزوجل : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ).

(١٤١٧) سبب نزولها أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرق نخل بني النّضير وقطع ، فنزلت هذه الآية ، أخرجه البخاريّ ومسلم من حديث ابن عمر.

(١٤١٨) وذكر المفسّرون أنه لمّا نزلت ببني النّضير تحصّنوا في حصونهم ، فأمر بقطع نخيلهم ،

____________________________________

(١٤١٦) صحيح. أخرجه أبو داود ٣٠٠٤ مطولا عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإسناده على شرط البخاري ومسلم ، وجهالة الصحابي لا تضر.

وأخرجه الطبري ٣٣٨٢٥ عن الزهري مرسلا. وله شواهد كثيرة.

(١٤١٧) صحيح. أخرجه البخاري ٤٠٣١ والبغوي ٣٦٧٦ عن آدم به من حديث ابن عمر. وأخرجه البخاري ٤٨٨٤ ومسلم ١٧٤٦ وأبو داود ١٦١٥ والترمذي ٣٢٩٨ وابن ماجة ٢٨٤٤ والواحدي في «أسباب النزول» ٨٠٥ وأحمد ٢ / ١٢٣ من طرق عن الليث به. وأخرجه مسلم ١٧٤٦ ح ٣١ وابن ماجة ٢٨٤٥ والدارمي ٢ / ٢٢٢ من طريق عبيد الله عن نافع به. وأخرجه البخاري ٣٠٢١ ومسلم ١٧٤٦ وأحمد ٢ / ٧ ـ ٨ و ٥٢ و ٨٠ والطبري ٣٣٨٥٣ والواحدي ٨٠٦ والبيهقي ٩ / ٨٣ والبغوي في «شرح السنة» ٣٦٧٥ من طرق عن جويرية عن نافع به.

وأخرجه البيهقي ٩ / ٨٣ من طريق إسماعيل بن إبراهيم عن نافع.

(١٤١٨) ذكره الواحدي في «الأسباب» ٨٠٤ من غير عزو لقائل. وورد من مرسل قتادة ، أخرجه الطبري ٣٣٨٥١.

وورد من مرسل يزيد بن رومان ، أخرجه الطبري ٣٣٨٥٠.

__________________

(١) الأنفال : ١٣ ، ومحمد : ٣٢.

(٢) أي السلاح.

٢٥٥

وإحراقها ، فجزعوا ، وقالوا : يا محمّد زعمت أنك تريد الصّلاح ، أفمن الصّلاح عقر الشجر ، وقطع النّخل؟ وهل وجدت فيما أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فشقّ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووجد المسلمون في أنفسهم من قولهم. واختلف المسلمون ، فقال بعضهم : لا تقطعوا ، فإنه ممّا أفاء الله علينا. وقال بعضهم : بل نغيظهم بقطعها ، فنزلت الآية بتصديق من نهى عن قطعه ، وتحليل من قطعه من الإثم ، وأخبر أنّ قطعه وتركه بإذن الله تعالى.

وفي المراد «باللّينة» ستة أقوال (١) : أحدها : أنه النّخل كلّه ما خلا العجوة ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وبه قال عكرمة ، وقتادة ، والفرّاء. والثاني : أنها النّخل والشجر ، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث : أنها ألوان النّخل كلّها إلّا العجوة ، والبرنيّة ، قاله الزّهري ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة. وقال الزّجّاج : أهل المدينة يسمّون جميع النّخيل : الألوان ، ما خلا البرنيّ ، والعجوة. وأصل «لينة» لونة ، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. والرابع : أنها النّخل كلّه ، قاله مجاهد وعطيّة ، وابن زيد. قال ابن جرير : معنى الآية : ما قطعتم من ألوان النّخيل. والخامس : أنها كرام النّخل ، قاله سفيان. والسادس : أنها ضرب من النّخل يقال لتمرها : اللّون ، وهي شديدة الصّفرة ، ترى نواه من خارج ، وكان أعجب تمرهم إليهم ، قاله مقاتل. وفي عدد ما قطع المسلمون ثلاثة أقوال : أحدها : أنهم قطعوا وأحرقوا ستة نخلات ، قاله الضّحّاك. والثاني : أحرقوا نخلة وقطعوا نخلة ، قاله ابن إسحاق. والثالث : قطعوا أربع نخلات ، قاله مقاتل.

قوله عزوجل (فَبِإِذْنِ اللهِ) قال يزيد بن رومان ومقاتل : بأمر الله. قوله عزوجل : (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) يعني اليهود. وخزيهم : أن يريهم أموالهم يتحكّم فيها المؤمنون كيف أحبّوا. والمعنى : وليخزي الفاسقين أذن في ذلك ، ودلّ على المحذوف قوله : (فَبِإِذْنِ اللهِ).

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))

__________________

(١) قال الطبري رحمه‌الله في «تفسيره» ١٢ / ٣٣ : والصواب من القول في ذلك قول من قال : اللينة : النخلة ، وهي من ألوان النخل ما لم تكن عجوة. ووافقه القرطبي ، وقال ابن العربي : والصحيح ما قاله الزهري ومالك لوجهين ـ وهو اختيار الطبري ـ : أنهما أعرف ببلدهما وأشجارهما. والثاني : أن الاشتقاق يعضده ، وأهل اللغة يصححونه ، فإن اللينة وزنها لونه ، واعتلت على أصولهم فآلت إلى لينة فهي لون.

٢٥٦

قوله عزوجل : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) أي : ما ردّ عليهم (مِنْهُمْ) يعني : من بني النّضير (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) قال أبو عبيدة : الإيجاف : الإيضاع ، والرّكاب : الإبل. قال ابن قتيبة : يقال : وجف الفرس والبعير ، وأوجفته ، ومثله : الإيضاع ، وهو الإسراع في السّير. وقال الزّجّاج : معنى الآية : أنه لا شيء لكم في هذا ، إنما هو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّة.

قال المفسّرون : طلب المسلمون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخمّس أموال بني النّضير لمّا أجلوا ، فنزلت هذه الآية تبيّن أنها فيء لم تحصل لهم بمحاربتهم ، وإنما هو بتسليط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو له خاصّة ، يفعل فيه ما يشاء.

(١٤١٩) فقسمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المهاجرين ، ولم يعط الأنصار منه شيئا ، إلّا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة ، وهم : أبو دجانة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصّمّة.

ثم ذكر حكم الفيء فقال عزوجل : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي : من أموال كفّار أهل القرى (فَلِلَّهِ) أي : يأمركم فيه بما أحبّ ، (وَلِلرَّسُولِ) بتحليل الله إيّاه. وقد ذكرنا «ذوي القربى واليتامى» في الأنفال (١) وذكرنا هناك الفرق بين الفيء والغنيمة.

فصل (٢) : واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فذهب قوم إلى أنّ المراد بالفيء هاهنا : الغنيمة التي يأخذها المسلمون من أموال الكافرين عنوة ، وكانت في بدوّ الإسلام للذين سمّاهم الله هاهنا دون الغانمين الموجفين عليها ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى في الأنفال : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ

____________________________________

(١٤١٩) ذكره البغوي في «تفسيره» ٤ / ٢٩٢ بدون إسناد ، وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ٤ / ٥٠٥ ذكره الثعلبي بغير سند ، وروى الواقدي عن معمر عن الزهري عن خارجة بن زيد أم العلاء قالت : «لما غنم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني النضير قال لثابت بن قيس بن شماس : ادع لي الأنصار كلهم فقال : إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم ، فقال السعدان : بل تقسمه للمهاجرين ويكونوا في دورنا ، فرضيت الأنصار ، فأعطى المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا رجلين محتاجين سهل بن حنيف ، وأبا دجانة ، ونفل ابن الحقيق. سعد بن معاذ «وكان له ذكر عندهم ... اه وانظر «سنن أبي داود» ٣٠٠٤ حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) قال ابن كثير رحمه‌الله في «تفسيره» ٤ / ٣٩٦ : يقول تعالى : مبينا لمال الفيء ، وما صفته؟ وما حكمه؟ فالفيء : كل مال أخذ من الكفار بغير قتال ولا إيجاف خيل ، ولا ركاب كأموال بني النضير هذه ، فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، أي : لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فأفاءه الله على رسوله ، ولهذا تصرف فيه كما شاء ، فردّه على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله تعالى في هذه الآيات ، فقال : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) أي : من بني النضير (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) يعني الإبل ، (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : هو قدير لا يغالب ولا يمانع ، بل هو القاهر لكل شيء. ثم قال : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي جميع البلدان التي تفتح هكذا ، فحكمها حكم أموال بني النضير.

ولهذا قال : (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) إلى آخرها والتي بعدها. فهذه مصارف أموال الفيء ووجوهه.

٢٥٧

شَيْءٍ) الآية (١) ، هذا قول قتادة ويزيد بن رومان. وذهب قوم إلى أنّ هذا الفيء : ما أخذ من أموال المشركين ما لم يوجف عليه من خيل ولا ركاب ، كالصّلح ، والجزية ، والعشور ، ومال من مات منهم في دار الإسلام ولا وارث له ، فهذا كان يقسم في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسة أخماس ، فأربعة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل بها ما يشاء ، والخمس الباقي للمذكورين في هذه الآية.

واختلف العلماء فيما يصنع بسهم الرسول بعد موته على ما بيّنّاه في الأنفال ، فعلى هذا تكون هذه الآية مبيّنة لحكم الفيء ، والتي في الأنفال (٢) مبيّنة لحكم الغنيمة ، فلا يتوجّه النّسخ.

قوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ) يعني الفيء (دُولَةً) وهو اسم للشيء يتداوله القوم. والمعنى : لئلّا يتداوله الأغنياء بينهم فيغلبون الفقراء عليه. قال الزّجّاج : الدّولة : اسم الشيء يتداول. والدّولة ، بالفتح : الفعل والانتقال من حال إلى حال (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ) من الفيء (فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ) عن أخذه (فَانْتَهُوا) وهذا نزل في أمر الفيء ، وهو عامّ في كلّ ما أمر به ، ونهى عنه. قال الزّجّاج : ثم بيّن من المساكين الذين لهم الحقّ ، فقال عزوجل : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) قال المفسّرون : يعني بهم المهاجرين (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ) أي : رزقا يأتيهم (وَرِضْواناً) رضي ربّهم حين خرجوا إلى دار الهجرة (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في إيمانهم. ثم مدح الأنصار حين طابت نفوسهم عن الفيء ، فقال تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) يعني : دار الهجرة ، وهي المدينة (وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فيها تقديم وتأخير ، تقديره : والذين تبوءوا الدّار من قبلهم ، أي : من قبل المهاجرين ، والإيمان عطف على «الدّار» في الظاهر ، لا في المعنى ، لأنّ «الإيمان» ليس بمكان يتبوّأ ، وإنما تقديره : وآثروا الإيمان ، وإسلام المهاجرين قبل الأنصار ، وسكنى الأنصار المدينة قبل المهاجرين. وقيل : الكلام على ظاهره ، والمعنى : تبوّءوا الدّار والإيمان قبل الهجرة (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) وذلك أنهم شاركوهم في منازلهم ، وأموالهم (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً) أي : حسدا وغيظا ممّا أوتي المهاجرون. وفيما أوتوه قولان : أحدهما : مال الفيء ، قاله الحسن. وقد ذكرنا آنفا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسم أموال بني النّضير بين المهاجرين ، ولم يعط من الأنصار غير ثلاثة نفر. والثاني : الفضل والتقدّم ، ذكره الماورديّ.

قوله عزوجل : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) يعني الأنصار يؤثرون المهاجرين على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي فقر وحاجة ، فبيّن الله عزوجل أنّ إيثارهم لم يكن عن غنى. وفي سبب نزول هذا الكلام قولان :

(١٤٢٠) أحدهما : أنّ رجلا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أصابه الجهد ، فقال : يا رسول الله ، إني جائع فأطعمني ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أزواجه : هل عندكنّ شيء؟ فكلّهنّ قلن : والذي بعثك بالحقّ

____________________________________

(١٤٢٠) صحيح. أخرجه البخاري ٣٧٩٨ والبغوي في «التفسير» ٢١٦٥ من حديث أبي هريرة. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٨٠٩ من طريق نصر بن علي الجهضمي عن عبد الله بن داود به. وأخرجه البخاري ٤٨٨٩ ومسلم ٢٠٥٤ والترمذي ٣٣٠٤ والنسائي في «التفسير» ٦٠٢ وابن حبان ٥٢٨٦ والبيهقي ٤ / ١٨٥ وفي «الأسماء والصفات» ٩٧٩ والواحدي في الوسيط» ٤ / ٢٧٣ من طرق عن فضل بن غزوان به.

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) الأنفال : ٤١.

٢٥٨

ما عهدنا إلّا الماء ، فقال : ما عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يطعمك هذه الليلة. ثم قال : «من يضيف هذا هذه الليلة يرحمه‌الله؟» فقام رجل فقال : أنا يا رسول الله ، فأتى به منزله ، فقال لأهله : هذا ضيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأكرميه ولا تدّخري عنه شيئا ، فقالت : ما عندنا إلّا قوت الصّبية ، فقال : قومي فعلّليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئا ، ثم أصبحي سراجك فإذا أخذ الضّيف ليأكل ، فقومي كانّك تصلحين السّراج ، فأطفئيه ، وتعالى نمضغ ألسنتنا لأجل ضيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يشبع ، ففعلت ذلك ، فظنّ الضّيف أنهما يأكلان معه ، فشبع هو ، وباتا طاويين ، فلمّا أصبحا غدوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلمّا نظر إليهما تبسّم ، ثم قال : ضحك الله الليلة ، أو عجب من فعالكما ، فأنزل الله (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية. خرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة ، وفي بعض الألفاظ عن أبي هريرة. أنّ الضّيف كان من أهل الصّفّة ، والمضيف كان من الأنصار ، وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لقد عجب من فعالكما أهل السماء».

(١٤٢١) والثاني : أنّ رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهدي له رأس شاة ، فقال : إنّ أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا ، فبعث به إليه ، فلم يزل يبعث به واحد إلى واحد حتى تناولها سبعة أهل أبيات ، حتى رجعت إلى أولئك ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عمر.

(١٤٢٢) وروي نحو هذه القصة عن أنس بن مالك قال : أهدي لبعض الصحابة رأس شاة مشويّ ، وكان مجهودا ، فوجّه به إلى جار له فتناوله تسعة أنفس ، ثم عاد إلى الأول ، فنزلت هذه الآية.

قوله عزوجل : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) قرأ ابن السّميفع ، وأبو رجاء «ومن يوقّ» بتشديد القاف. قال المفسّرون : هو أن لا يأخذ مما نهاه الله عنه ، ولا يمنع شيئا أمره الله بأدائه. والمعنى : أنّ الأنصار ممّن وقي شحّ نفسه حين طابت أنفسهم بترك الفيء للمهاجرين.

فصل : وقد اختلف العلماء في الشحّ والبخل ، هل بينهما فرق ، أم لا؟ فقال ابن جرير : الشحّ في كلام العرب : هو منع الفضل من المال. وقال أبو سليمان الخطّابي : الشحّ أبلغ في المنع من البخل ، وإنما الشحّ بمنزلة الجنس والبخل بمنزلة النوع ، وأكثر ما يقال في البخل إنما هو في أفراد الأمور وخواصّ الأشياء ، والشّحّ عامّ ، فهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطّبع والجبلّة. وحكى الخطّابي عن بعضهم أنه قال : البخل : أن يضنّ بماله ، والشّحّ : أن يبخل بماله ومعروفه. وقد روى أبو الشّعثاء أنّ رجلا أتى ابن مسعود فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، قال : وما ذاك؟ قال :

أسمع الله يقول : «ومن يوق شحّ نفسه» وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يديّ شيء ، فقال : ليس ذاك بالشحّ الذي ذكره الله في القرآن ، الشّحّ : أن تأكل مال أخيك ظلما ، إنما البخل ، وبئس الشيء البخيل.

____________________________________

(١٤٢١) ضعيف. أخرجه الحاكم ٢ / ٤٨٤ وصححه! وتعقبه الذهبي بقوله : عبيد الله ضعفوه. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٨١٠ من طريق عبيد الله بن الوليد به. وعزاه السيوطي في «الدر» ٦ / ٢٨٩ للحاكم وابن مردويه.

(١٤٢٢) عزاه القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» ١٨ / ٢٥ ـ بتخريجنا للثعلبي عن أنس ، والثعلبي يروي الواهيات والموضوعات فهذا خبر لا شيء لخلوه عن كتب الحديث والأثر.

٢٥٩

(١٤٢٣) وروى أنس بن مالك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بريء من الشّحّ من أدّى الزكاة ، وقرى الضّيف ، وأعطى في النّائبة».

قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) يعني التّابعين إلى يوم القيامة. قال الزّجّاج : إنّ المعنى : ما أفاء الله على رسوله فلله وللرّسول ولهؤلاء المسلمين ، وللذين يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ما أقاموا على محبّة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودليل هذا قوله عزوجل : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : الذين جاءوا في حال قولهم : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا) فمن ترحّم على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن في قلبه غلّ لهم ، فله حظّ من فيء المسلمين ، ومن شتمهم ولم يترحّم عليهم ، أو كان في قلبه غلّ لهم ، فما جعل الله له حقّا في شيء من فيء المسلمين بنصّ الكتاب. وكذلك روي عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال : من تنقّص أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو كان في قلبه عليهم غلّ ، فليس له حقّ في فيء المسلمين ، ثم تلا هذه الآيات (١).

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧))

قوله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) يعني : عبد الله بن أبيّ وأصحابه (يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ) في الدّين ، لأنهم كفّار مثلهم ، وهم اليهود (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من المدينة (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) أي : في خذلانكم (أَحَداً أَبَداً) فكذّبهم الله تعالى في ذلك بقوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ثم ذكر أنهم يخلفونهم ما وعدوهم من الخروج والنّصر بالآية التي تلي هذه ، فكان الأمر على ما ذكر الله تعالى ، لأنهم أخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون ، وقوتلوا فلم ينصروهم ، ومعنى (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) : لئن قدّر وجود نصرهم ، لأنّ الله نفى نصرهم ، فلا يجوز وجوده. وقوله عزوجل : (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) يعني : بني النّضير.

قوله عزوجل : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ) يعني : المؤمنين أشدّ (رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ) وفيهم قولان :

____________________________________

(١٤٢٣) أخرجه الطبري ٣٣٨٨٣ والبيهقي في «الشعب» ١٠٨٤٢ من حديث أنس ، وإسناده ضعيف فيه سليمان بن عبد الرحمن روى مناكير ، وإسماعيل بن عياش روايته ضعيفة عن غير الشاميين ، وشيخه هنا مدني.

__________________

(١) انظر «تفسير القرطبي» ١٨ / ٣١.

٢٦٠