أحكام القرآن - ج ١

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٣

بما أنعم به علينا من تفضيله لنا باسم العدالة ، وتوليته خطّة الشهادة على جميع الخليفة ، فجعلنا أولا مكانا وإن كنّا آخرا زمانا ، كما قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : نحن الآخرون السابقون. وهذا دليل على أنه لا يشهد إلا العدول (١) ، ولا ينفذ على الغير قول الغير إلا أن يكون عدلا ، وذلك فيما يأتى بعد إن شاء الله تعالى.

الآية الرابعة والعشرون ـ قوله تعالى (٢) : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ).

اتفق العلماء على أنها نزلت فيمن مات وهو يصلّى إلى بيت المقدس ، واختلفوا في تأويلها ؛ فمنهم من قال : وما كان الله ليضيع إيمانكم بالتوجّه إلى القبلة وتصديقكم [٢٥] لنبيكم ، قاله محمد بن إسحاق ، وتابعه عليه معظم المتكلمين (٣) ، والأصوليون.

وقد روى ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم وأشهب عن مالك ـ أن المراد به صلاتكم ، زاد أشهب ، وابن عبد الحكم : قال مالك : أقام الناس يصلّون نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ؛ ثم أمروا بالبيت ، فقال الله سبحانه وتعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) ؛ أى في صلاتكم إلى البيت المقدس.

قال : وإنى لأذكره بهذه الآية قول المرجئة : إن الصلاة ليست من الإيمان.

فإن قيل : فإن كانت الصلاة من الإيمان فلم قال مالك : إنّ تاركها غير كافر. وهذا تناقض ، فحقّقوا وجه التقصي عنه (٤).

فالجواب إنّا وإن قلنا إن الصلاة من الإيمان لم يبعد ذلك تسمية ، وقد جاء ذلك في القرآن ؛ قال الله تعالى (٥) : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ... إلى قوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ... إلى قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ).

وكذلك لا يبعد أن يسمّى تاركها كافرا. قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : بين (٦) العبد وبين الكفر ترك الصلاة.

وقد قال علماؤنا الأصوليون : في ذلك وجهان :

__________________

(١) في م هنا : مسألة العدالة شرط في الشهادة.

(٢) الآية الثالثة والأربعون بعد المائة. وفي م هنا تقديم وتأخير لعله من الناسخ

(٣) في ا : المسلمين.

(٤) في م : التفضى.

(٥) سورة الأنفال ، آية ٢ ، ٣ ، ٤

(٦) في صحيح مسلم.

(٨٨) : بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة.

٤١

أحدهما ـ أن تكون تسمية الصلاة إيمانا وتركها كفرا مجازا (١).

الثاني ـ أن يرجع ذلك إلى اعتقاد وجوب الصلاة أو اعتقاد نفى وجوبها ؛ وهذا لا يحتاج إليه ؛ بل يقول علماؤنا من الفقهاء : إنها تسمّى إيمانا ، وهي من أركان الإيمان وعهد الإسلام (٢). ولكنّ الفرق بين علماء الأصول والمرجئة أن المرجئة قالت : ليست من الإيمان وتاركها في الجنة ، وهؤلاء قالوا : ليست من الإيمان وتاركها في المشيئة ، وعلماؤنا الفقهاء قالوا : هي من الإيمان وتاركها في المشيئة ، قضت بذلك آي القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى (٣) : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ). وقال النبي صلى الله عليه وسلم : خمس صلوات كتبهنّ الله على عباده في اليوم والليلة ، من جاء بهنّ لم يضيع شيئا منهن استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له.

فقضت هذه الآية وهذا الحديث ونظائرهما على كل متشابه جاء معارضا في الظاهر لهما ؛ ولم يمتنع أن تسمى الصلاة إيمانا في إطلاق اللفظ ويحكم لتاركها بالمغفرة تخفيفا ورحمة.

ويحمل ما جاء من الألفاظ الكفرة ؛ كقوله عليه السلام : من ترك الصلاة فقد كفر ونحوه على ثلاثة أوجه : الأول على التغليظ. الثاني أنه قد فعل فعل الكافر. الثالث أنه قد أباح دمه ، كما أباحه الكافر ؛ والله أعلم.

الآية الخامسة والعشرون ـ قوله تعالى (٤) : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ).

الشّطر في اللغة يقال على النّصف من الشيء ، ويقال على القصد ، وهذا خطاب لجميع المسلمين ، من كان منهم معاينا للبيت ومن كان غائبا عنه.

وذكر الباري سبحانه المسجد الحرام ، والمراد به البيت ، كما ذكر في قوله تعالى (٥) : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) الكعبة ، والمراد به الحرم ، لأنه تعالى خاطبنا

__________________

(١) العبارة في م : أن يكون تسمية الإيمان صلاة والصلاة إيمانا وتركها كفرا مجازا.

(٢) في م : وتاركها من أهل الإسلام.

(٣) سورة النساء ، آية ١١٦

(٤) الآية الرابعة والأربعون بعد المائة.

(٥) سورة البقرة ، آية ١٢٥

٤٢

بلغة العرب ، وهي تعبّر عن الشيء بما يجاوره أو بما يشتمل عليه ؛ وإنما أراد سبحانه أن يعرّف أن من بعد عن البيت فإنه يقصد (١) الناحية لا عين البيت ، فإنه يعسر [نظره و] (٢) قصده ؛ بل لا يمكن أبدا إلّا للمعاين ، وربما التفت المعاين يمينا أو شمالا فإذا به قد زهق (٣) عنه ، فاستأنف الصلاة ؛ وأضيق ما تكون القبلة عند معاينة القبلة.

وقد (٤) اختلف العلماء : هل فرض الغائب عن الكعبة استقبال العين؟ [أو استقبال الجهة؟ فمنهم من قال : فرضه استقبال العين] (٥) ؛ وهذا ضعيف ؛ لأنه تكليف لما لا يصل إليه. ومنهم من قال الجهة ؛ وهو الصحيح لثلاثة أمور :

أحدها ـ أنه المكن الذي يرتبط به التكليف.

الثاني ـ أنه المأمور به في القرآن ، إذ قال (٦) : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). فلا يلتفت إلى غير ذلك.

الثالث ـ أنّ العلماء احتجّوا بالصفّ الطويل الذي يعلم قطعا أنه أضعاف عرض البيت ، ويجب أن يعوّل على ما تقدم ؛ فإن الصفّ الطويل إذا بعد عن البيت أو طال وعرض أضعافا مضاعفة لكان ممكنا أن يقابل [جميع] (٧) البيت.

الآية السادسة والعشرون ـ قوله تعالى (٨) : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها).

وهي مشكلة لباب الكلام فيها في مسألتين :

المسألة الأولى ـ أنّ الوجهة هي هيئة التوجّه كالقعدة ـ بكسر القاف : هيئة القعود ، والجلسة : هيئة الجلوس ، وفي المراد بها ثلاثة أقوال :

الأول ـ أن المراد بذلك أهل الأديان ؛ المعنى لأهل كل ملّة حالة في التوجه إلى القبلة ؛ روى عن ابن عباس.

الثاني ـ أنّ المعنى لكلّ وجهة في الصلاة إلى بيت المقدس ، وفي الصلاة إلى الكعبة ؛ قاله قتادة.

__________________

(١) في م : يستقبل.

(٢) من م.

(٣) زهق : ذهب وخرج وبعد عنه.

(٤) هنا في م : مسألة هل الفرض استقبال عين الكعبة أو الجهة.

(٦) سورة البقرة ، آية ١٤٤

(٨) الآية الثامنة والأربعون بعد المائة.

٤٣

الثالث ـ أن المراد به (١) جميع المسلمين ، أى لأهل كل جهة من الآفاق وجهة ممّن بمكة وممن بعد (٢) ، ليس بعضها مقدّما على البعض في الصواب ؛ لأن الله تعالى هو الذي ولّى جميعها [٢٤] وشرع جملتها ، وهي وإن كانت متعارضة في الظاهر والمعاينة فإنها متفقة في القصد وامتثال الأمر.

وقرئ : هو مولّاها ، يعنى المصلى ؛ التقدير المصلى هو موجّه نحوها ، وكذلك قيل في قراءة من قرأ هو موليها ؛ إن المعنى أيضا أن المصلى هو متوجّه نحوها ؛ والأول أصحّ في النظر ، وأشهر في القراءة والخبر.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ).

معناه : افعلوا الخيرات ، من السّبق ، وهو المبادرة إلى الأوّلية ، وذلك حثّ على المبادرة والاستعجال إلى الطاعات ، ولا خلاف فيه بين الأمة في الجملة.

وفي التفضيل اختلاف ؛ وأعظم مهمّ اختلفوا في تفضيله الصلاة ؛ فقال الشافعى (٣) : أول الوقت فيها أفضل من غير تفصيل ؛ لظاهر هذه وغيرها ، كقوله تعالى (٤) : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

وقال أبو حنيفة : آخر الوقت أفضل ؛ لأنه عنده وقت الوجوب حسبما مهّدناه في مسائل الخلاف.

وأمّا مالك ففصّل القول ؛ فأما الصبح والمغرب فأول الوقت فيهما أفضل عنده من غير خلاف. وأما الظهر والعصر فلم يختلف قوله : إن أول الوقت أفضل للفذّ (٥) ، وإن الجماعة تؤخّر على ما في حديث عمر رضى الله عنه ؛ والمشهور في العشاء أن تأخيرها أفضل لمن قدر عليه ، ففي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخّرها ليلة حتى رقد الناس واستيقظوا ، ثم قال (٦) : لو لا أن أشقّ على أمتى لأخّرتها هكذا.

وأما الظهر فإنها تأتى الناس على غفلة فيستحبّ تأخيرها قليلا حتى يتأهّبوا ويجتمعوا.

وأما العصر فتقديمها أفضل.

__________________

(١) في ا : المراد به في جميع المسلمين.

(٢) في م : يليه.

(٣) هنا في م : مسألة التفضيل يتعلق بأول وقت الصلاة.

(٤) سورة آل عمران ، آية ١٣٣

(٥) الفذ : الفرد.

(٦) صحيح مسلم : ٤٤٤

٤٤

ولا خلاف في مذهبنا أن تأخير الصلاة لأجل الجماعة أفضل من تقديمها ؛ فإنّ فضل الجماعة مقدّر معلوم ، وفضل أول الوقت مجهول ، وتحصيل المعلوم أولى.

وأما الصبح فتقديمها أفضل ، لحديث عائشة رضى الله عنها في الصبح (١) : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى الصبح فينصرف النساء ملتفّات بمروطهنّ ما يعرفن من الغلس(٢).

ولحديث جابر رضى الله عنه [في الصبح أيضا] (٣) : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم في صلاة العشاء قد اجتمعوا عجّل ، وإذا رآهم أبطئوا أخر. والصبح كانوا أو كان (٤) النبي صلى الله عليه وسلم يصلّيها بغلس ؛ معناه كانوا مجتمعين أولم يكونوا مجتمعين كان يغلّس بها (٥).

وأما المغرب فلمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم فيها على الصلاة عند غروب الشمس اقتدى به في ذلك أو امتثل أمره.

وبالجملة فلا يعادل المبادرة إلى أول الوقت شيء. قال الله تعالى ـ مخبرا عن موسى صلى الله عليه وسلم : (٦) (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى).

وروى الدارقطني عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه لما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم : أول الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله. قال : رضوان الله أحبّ إلينا من عفوه ؛ فإن رضوانه للمحسنين ، وعفوه للمقصّرين.

وفي الصحيح عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى الظهر إذا زالت الشمس. ولعله في السفر إذا اجتمع أصحابه ، إذ قد صحّ عنه أنه قال : أبردوا حتى رأينا فيء (٧) التلول.

الآية السابعة والعشرون ـ قوله تعالى (٨) : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ).

وفي السورة التي بعدها : (٩) (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً). تعلّق بعضهم في أن الشهيد لا يغسّل ولا يصلّى الله عليه بهذه (١٠) الآية ؛ لأن الميت هو الذي

__________________

(١) في م : الصحيح. والحديث في صحيح مسلم : ٤٤٦

(٢) المرط : كساء من صوف أو خز ، جمعه مروط. والغلس : ظلمة آخر الليل.

(٣) ليس في م. (٤) في م : إذا كان.

(٥) صحيح مسلم ٤٤٧

(٦) سورة طه ، آية ٨٤

(٧) الإبراد : انكسار الوهج والحر (النهاية). والفيء : الظل.

(٨) الآية الرابعة والخمسون بعد المائة.

(٩) سورة آل عمران ، آية ١٦٩

(١٠) هنا في هامش م : مسألة : الشهيد لا يغسل ولا يصلى عليه.

٤٥

يفعل ذلك به ، والشهيد حىّ ، وبه قال مالك والشافعى.

وقال أبو حنيفة : لا يصلّى الله عليه ، وكما أن الشهيد في حكم الحىّ فلا يغسل ، فكذلك لا يصلّى الله عليه ؛ لأن الغسل تطهير ، وقد طهر بالقتل ، فكذلك الصلاة شفاعة وقد أغنته عنها الشهادة ، يؤكّده أنّ الطهارة [٢٦] إذا سقطت مع القدرة عليها سقطت الصلاة ؛ لأنها شرطها ، وسقوط الشرط دليل على سقوط المشروط ، وما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى عليهم لا يصحّ فيه طريق ابن عباس ولا سواه ، وقد استوفيناها في مسائل الخلاف.

الآية الثامنة والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ).

فيها ستّ مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها : روى شعبة عن عاصم ، قال : سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة ، فقال : كانا من شعائر الجاهلية ، فلما كان الإسلام أمسكوا عنهما ، فنزلت الآية.

المسألة الثانية ـ قال علماء اللغة : قوله تعالى : (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ؛ يعنى من معالم الله في الحجّ ، واحدتها شعيرة ، ومنه إشعار الهدى ؛ أى إعلامه بالجرح وما يصدق عليه (٢) ، والمعنى فيه عندي ما حصل به العلم لإبراهيم عليه السلام وأشعر به إبراهيم ، أى أعلم.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ).

الجناح في اللغة عبارة عن الميل كيفما تصرّف ، ولكنه خصّ بالميل إلى الإثم ، ثم عبّر به عن الإثم في الشريعة ، وقد استعملته العرب في الهمّ والأذى ، وجاء في أشعارها وأمثالها.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما).

وهي معارضة الآية ، وروى ابن شهاب عن عروة قلت لعائشة رضى الله عنها : أرأيت قول الله تبارك وتعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله ... الآية ؛ فو الله ما على أحد جناح ألا يطّوّف بهما.

قالت عائشة رضى الله عنها : بئس ما قلت يا بن أختى (٣) ، إنها لو كانت على ما تأوّلتها لكان فلا جناح عليه ألا يطّوف بهما ، إنما كان هذا الحىّ من الأنصار قبل أن يسلموا

__________________

(١) الآية الثامنة والخمسون بعد المائة.

(٢) في م : وما يعلق عليه.

(٣) في م : يا ابن أخى.

والمثبت في صحيح مسلم ٩٢٩ أيضا.

٤٦

يهلّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدون عند المشلّل (١) ، فكان من أهل لمناة يتحرّج أن يطوف بالصّفا والمروة ، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقالوا : يا رسول الله ، إنّا كنّا نتحرّج أن نطوف بالصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : إنّ الصفا والمروة .... الآية ، ثم سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس ينبغي لأحد أن يدع الطواف بينهما.

قال ابن شهاب : فذكرت ذلك لأبى بكر بن عبد الرحمن ، فقال : إنّ هذا العلم ، أى ما سمعت به.

(تحقيق هذا الحديث وتفهيمه) : اعلموا وفّقكم الله تعالى ـ أنّ قول القائل : لا جناح عليك أن تفعل ، إباحة للفعل. وقوله : فلا جناح عليك ألا تفعل إباحة لترك الفعل ؛ فلما سمع عروة رضى الله عنه قول الله سبحانه : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ـ قال: هذا دليل على أن ترك الطواف جائز ، ثم رأى الشريعة مطبقة (٢) على أنّ الطواف لا رخصة في تركه ، فطلب الجمع بين هذين المتعارضين ، فقالت له عائشة رضى الله عنها : ليس قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) دليلا على ترك الطّواف ؛ إنما كان يكون الدليل (٣) على تركه لو كان «فلا جناح عليه ألا يطوف» ؛ فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف ، ولا فيه دليل عليه ، وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان يتحرّج منه في الجاهلية ، أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصدا للأصنام التي كانت فيه ؛ فأعلمهم الله تعالى أنّ الطواف ليس بمحظور إذا لم يقصد الطائف قصدا باطلا.

فأدت الآية إباحة الطواف بينهما ، وسلّ سخيمة الحرج التي كانت في صدور المسلمين منها قبل الإسلام [٢٧] وبعده ، وقال الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ؛ أى من معالم (٤) الحجّ ومناسكه ومشروعاته ، لا من مواضع الكفر ، وموضوعاته ؛ فمن جاء البيت حاجّا أو معتمرا فلا يجد في نفسه شيئا من الطواف بهما.

(وهم وتفسير) : [قال الفراء] (٥) : معنى قوله (٦) : لا جناح عليه ألّا يطّوف بهما ، معناه

__________________

(١) جبل يهبط تنه إلى قديد من ناحية البحر.

(٢) في ا : منطبقة.

(٣) في ق : إنما يكون دليلا على تركه لو كان «فلا جناح عليه ألا يطوف بهما» ، فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف.

(٤) في ا : ومعالم.

(٥) من م.

(٦) معاني القرآن للفراء : ١ ـ ٩٥

٤٧

أن يطوّف ، وحرف «لا» زائد ، وهذا ضعيف من وجهين :

أحدهما ـ أنّا قد بيّنا في مواضع أنه يبعد أن تكون «لا» زائدة.

الثاني ـ أنه لا لغوىّ ولا فقيه يعادل عائشة رضى الله عنها ، وقد قررتها غير زائدة ، وقد بيّنت معناها ، فلا رأى (١) للفراء ولا لغيره.

المسألة الخامسة ـ اختلف (٢) الناس في السعى بين الصفا والمروة ؛ فقال الشافعى : إنه ركن. وقال أبو حنيفة : ليس بركن. ومشهور مذهب مالك أنه ركن ، وفي العتبية : يجزئ تاركه الدم.

ومعوّل من نفى وجوبه وركنيّته أنّ الله تعالى إنما ذكره في رفع الحرج خاصة كما تقدم بيانه. ودليلنا ما روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : إنّ الله كتب عليكم السعى فاسعوا. صححه الدارقطني. ويعضده المعنى ؛ فإنه شعار لا يخلو عنه الحجّ والعمرة ، فكان ركنا كالطواف ، وما ذكروه من رفع الحرج أو تركه فقد تقدّم القول فيه.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً).

تعلّق به من ينفى ركنيّة السعى كأبى حنيفة وغيره ، قال : إنّ الله تعالى رفع الحرج عن تركه. وقال تعالى بعد ذلك : ومن تطوّع خيرا بفعله فإنّ الله يأجره. والتطوّع هو ما يأتيه المرء من قبل نفسه. وهذا ليس يصحّ ؛ لأنا قد بينا إلى أى معنى يعود رفع الجناح. وقوله تعالى : (وَمَنْ تَطَوَّعَ) ، إشارة إلى أن السعى واجب ، فمن تطوّع بالزيادة عليه فإن لله تعالى يشكر ذلك له.

الآية التاسعة والعشرون ـ قوله تعالى (٣) : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

استدلّ بها علماؤنا على وجوب تبليغ الحقّ وبيان العلم على الجملة.

__________________

(١) في م : فلا رد.

(٢) في هامش م هنا : مسألة السعى ركن من أركان الحج.

(٣) الآية التاسعة والخمسون بعد المائة.

٤٨

وللآية تحقيق هو أنّ العالم إذا قصد الكتمان عصى ، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أن معه غيره.

قال عثمان رضى الله عنه : لأحدثنّكم حديثا لولا آية في كتاب الله عزّ وجلّ ما حدثتكموه :

قال عروة : الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ ...) الآية. قال أبو هريرة : إنّ الناس يقولون أكثر أبو هريرة ، وو الله لو لا آية في كتاب الله ما حدّثت شيئا ، ثم تلا هذه الآية.

وكان أبو بكر وعمر رضى الله عنهما لا يحدّثان بكل ما سمعا من النبي صلى الله عليه وسلم إلّا عند الحاجة إليه.

وكان الزبير أقلّهم حديثا مخافة أن يواقع الكذب ؛ ولكنهم رأوا أنّ العلم عمّ جميعهم فسيبلغ واحد إن ترك آخر.

فإن قيل : فالتبليغ فضيلة أو فرض ، فإن كان فرضا فكيف قصّر فيه هؤلاء الجلّة كأبى بكر ، وعمر ، والزبير ، وأمثالهم ، وإن كان فضيلة فلم قعدوا عنها؟

فالجواب أنّ من سئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية ؛ ولما روى أبو هريرة وعمرو بن العاص أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار.

وأما من لم يسأل فلا يلزمه التبليغ إلا في القرآن وحده. وقد قال سحنون : إن حديث [٢٨] أبى هريرة وعمرو هذا إنما جاء في الشهادة.

والصحيح عندي ما أشرنا إليه من أنه إن كان هناك من يبلّغ اكتفى به ، وإن تعيّن عليه لزمه ، وسكت الخلفاء عن الإشارة بالتبليغ ؛ لأنهم كانوا في المنصب من يردّ ما يسمع أو يمضيه مع علمهم بعموم التبليغ فيه ؛ حتى إن عمر كره كثرة التبليغ ، وسجن من كان يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد بينا تحقيقه في شرح الحديث الصحيح.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضيلة التبليغ أنه قال : نضّر (١) الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها. والله أعلم.

__________________

(١) يروى بالتخفيف والتشديد : أراد حسن خلفه وقدره.

٤٩

الآية الموفية ثلاثين ـ قوله تعالى (١) : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قال لي كثير من أشياخى : إنّ الكافر المعيّن لا يجوز لعنه ؛ لأن حاله عند الموافاة لا تعلم ، وقد شرط الله تعالى في هذه الآية في إطلاق اللعنة الموافاة على الكفر.

وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن أقوام بأعيانهم من الكفّار.

وفي صحيح مسلم (٢) ، عن عائشة رضى الله عنها : دخل على النبي صلى الله عليه وسلم رجلان فكلّماه بشيء فأغضباه فلعنهما ؛ وإنما كان ذلك لعلمه بمآلهما.

والصحيح عندي جواز لعنه لظاهر حاله ، كجواز (٣) قتاله وقتله.

وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال : اللهم إن عمرو بن العاص هجانى ، قد علم أنى لست بشاعر فالعنه ، اللهم واهجه عدد ما هجانى ، فلعنه. وقد كان إلى الإسلام والدين والإيمان مآله ، وانتصف بقوله : «عدد ما هجانى». ولم يزد ليعلّم العدل والإنصاف والانتصاف ، وأضاف الهجو إلى الباري سبحانه وتعالى في باب الجزاء دون الابتداء بالوصف له بذلك ، كما يضاف إليه الاستهزاء والمكر والكيد ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وفي صحيح مسلم : لعن المؤمن كقتله. وكذلك إن كان ذمّيا يجوز إصغاره فكذلك لعنه.

(تركيب) وهي المسألة الثانية ـ فأما العاصي المعيّن ، فلا يجوز لعنه اتفاقا ، لما

روى أن النبي صلى الله عليه وسلم جيء إليه بشارب خمر مرارا ، فقال بعض من حضره : ما له لعنه الله! ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تكونوا أعوانا للشيطان على أخيكم ؛ فجعل له حرمة الأخوّة ، وهذا يوجب الشفقة. وهذا حديث صحيح.

وأما لعن العاصي مطلقا ، وهي (المسألة الثالثة) فيجوز إجماعا ، لما روى في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده. وقد قال

__________________

(١) الآية الواحدة والستون بعد المائة.

(٢) صفحة ٢٠٠٧

(٣) في ق : ولجواز قتله وقتاله.

٥٠

بعض علمائنا في تأويل هذه الآية : إن معناه عليهم اللعنة يوم القيامة ، كما قال تعالى (١) : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً).

والذي عندي صحة لعنه في الدنيا لمن وافى كافرا بظاهر الحال ، وما ذكر الله تعالى عن الكفرة من لعنتهم وكفرهم فيما بينهم حالة أخرى ، وبيان لحكم آخر وحالة واقعة تعضد جواز اللعن في الدنيا ؛ وتكون هذه الآية (٢) لجواز اللعن في الدنيا ، فيكون للآيتين معنيان.

فإن قيل : فهل تحكمون بجواز لعنة الله [٢٩] لمن كان على ظاهر الكفر ، وقد علم الله تعالى موافاته مؤمنا؟

قلنا : كذلك نقول ، ولكن لعنة الله له حكمه بجواز لعنه لعباده المؤمنين أخذا بظاهر حاله ، والله أعلم بمآله.

الآية الحادية والثلاثون ـ قوله تعالى (٣) : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فيها خمس عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (إنما) ، وهي كلمة موضوعة للحصر تتضمّن النفي والإثبات ؛ فتثبت ما تناوله الخطاب وتنفى ما عداه ؛ وقد بيّنا ذلك في ملجئة المتفقهين ومسائل الخلاف.

وقد حصرت هاهنا المحرّم (٤) لا سيما وقد جاءت عقب المحلل (٥) ؛ فقال تعالى (٦) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ). فأدت هذه الآية الإباحة على الإطلاق ، ثم عقبها بالمحرم بكلمة «إنما» الحاصرة ؛ فاقتضى ذلك الإيعاب للقسمين ؛ فلا محرّم يخرج عن هذه الآية ، وهي مدنيّة ، وأكّدتها (٧) الآية الأخرى التي روى أنها نزلت بعرفة (٨) : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...) إلى آخرها ، فاستوى البيان أولا وآخرا.

__________________

(١) سورة العنكبوت ، آية ٢٥

(٢) في ا : وتكون منها الآية بجواز.

(٣) الآية الثالثة والسبعون بعد المائة.

(٤) في م : التحريم.

(٥) في ق : التحليل.

(٦) سورة البقرة ، آية ١٧٢

(٧) في ق : وأكدها بالآية.

(٨) سورة الأنعام ، آية ١٤٥

٥١

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (الْمَيْتَةَ).

وهي الإطلاق عرفا ، والمراد بالآيات حكما ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير قتل (١) بذكاة ، أو مقتولا بغير ذكاة ، كانت الجاهلية تستبيحه فحرّمه الله تعالى ؛ فجادلوا فيه فردّ الله تعالى عليهم على ما يأتى بيانه في الأنعام إن شاء الله تعالى.

المسألة الثالثة ـ في شعرها وصوفها وقرنها : ويأتى في سورة النحل إن شاء الله تعالى.

المسألة الرابعة ـ في عموم هذه الآية وخصوصها :

روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال (٢) : أحلّت لنا ميتتان ودمان ، فالميتتان السمك (٣) والجراد ، والدّمان الكبد والطحال. ذكره الدّارقطنيّ وغيره.

واختلف العلماء في تخصيص ذلك ؛ فمنهم من خصّصه في الجراد والسمك ، وأجاز اكلهما من غير معالجة ولا ذكاة ، قاله الشافعى (٤) وغيره. ومنهم من منعه في السمك وأجازه في الجراد ، وهو أبو حنيفة ، ومع اختلاف الناس في جواز تخصيص عموم الكتاب بالسنة فقد اتفقوا على أنه لا يجوز تخصيصه بحديث ضعيف ، وهذا الحديث يروى عن ابن عمر وغيره مما لا يصحّ سنده. ولكنه ورد في السمك حديث صحيح جدّا : في الصحيحين (٥) ، عن جابر ابن عبد الله ـ أنه خرج مع أبى عبيدة بن الجراح يتلقّى عيرا لقريش ، وزوّدنا جرابا من تمر ، فانطلقنا على ساحل البحر ، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم ، فأتيناه فإذا هي دابّة تدعى العنبر ، قال أبو عبيدة : ميتة ، ثم قال : بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد اضطررتم فكلوا. قال : فأقمنا عليه شهرا حتى سمنّا ، وذكر الحديث. قال : فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، فقال : هو رزق أخرجه الله لكم ، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، فأكله.

وروى عن مالك عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال (٦) : هو الطّهور ماؤه الحلّ ميتته.

__________________

(١) في م : من غير ذكاة

(٢) ابن كثير صفحة ٢٥٠ أول ، وابن ماجة صفحة ١١٠٢

(٣) في ابن ماجة : فأما الميتتان فالحوت والجراد.

(٤) في م : قاله مالك وغيره.

(٥) صحيح مسلم : ١٥٣٥

(٦) ابن ماجة ، صفحة ١٣٦

٥٢

فهذا الحديث يخصّص بصحة سنده عموم القرآن في تحريم الميتة على قول من يرى ذلك ، وهو نصّ في المسألة.

ويعضده قول الله تعالى (١) : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) ، فصيده ما صيد وتكلف أخذه ، وطعامه ما طفا عليه ، أو جزر (٢) عنه.

ومنهم من خصّصه في [٣٠] السمك خاصة ، ورأى أكل ميتته ، ومنع من أكل الجراد إلا بذكاة ؛ قاله مالك وغيره ؛ وذلك لأنّ عموم الآية يجرى على حاله حتى يخصّصه الحديث الصحيح ، أو الآية الظاهرة ، وقد وجد كلاهما في السمك ، وليس في الجراد حديث يعوّل عليه في أكل ميتته.

أما أكل الجراد فجائز بالإجماع ، وفيه أخبار منها حديث ابن أبى أوفى (٣) : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد معه.

وروى سلمان أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : هو أكثر جنود الله ، لا آكله ولا أحرّمه (٤). ولم يصحّ. بيد أن الخلفاء أكلته ، وهو من صيد البر فلا بدّ فيه من ذكاة على ما يأتى في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.

فإن قيل : قد قال كعب : إنه نترة حوت (٥).

قلنا : لا ينبنى على قول كعب حكم ؛ لأنه يحدّث عما يلزمنا تصديقه ، ولا يجوز لنا تكذيبه ، وقد بيناه فيما تقدّم.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (وَالدَّمَ).

اتفق العلماء على أن الدم حرام نجس لا يؤكل ولا ينتفع به ، وقد عيّنه الله تعالى هاهنا مطلقا ، وعيّنه في سورة الأنعام مقيّدا بالمسفوح ، وحمل العلماء هاهنا المطلق على المقيّد إجماعا.

وروى عن عائشة أنها قالت : لو لا أن الله تعالى قال : أو دما مسفوحا لتتبّع الناس ما في العروق ؛ فلا تلتفتوا في ذلك إلى ما يعزى إلى ابن مسعود في الدّم.

ثم اختلف الناس في تخصيص هذا العموم في الكبد والطحال ؛ فمنهم من قال : إنه

__________________

(١) سورة المائدة ، آية ٩٦

(٢) الجزر ضد المد ، وفعله كضرب.

(٣) صحيح مسلم : ١٥٤٦

(٤) ابن ماجة ، صفحة ١٧٣

(٥) ابن ماجة ، صفحة ١٧٤

٥٣

لا تخصيص في شيء من ذلك ؛ قاله مالك. ومنهم من قال : هو مخصوص (١) في الكبد والطحال ؛ قاله الشافعى.

والصحيح أنه لم يخصّص ، وأن الكبد والطحال لحم ، يشهد بذلك العيان الذي لا يعارضه بيان ولا يفتقر إلى برهان.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ).

اتفقت الأمة على أن [لحم] (٢) الخنزير حرام بجميع أجزائه. والفائدة في ذكر اللحم أنه حيوان يذبح للقصد إلى لحمه ، وقد شغفت المبتدعة بأن تقول : فما بال شحمه ، بأى شيء حرّم؟ وهم أعاجم لا يعلمون أنه من قال لحما فقد قال شحما ، ومن قال شحما فلم يقل لحما ؛ إذ كلّ شحم لحم ، وليس كل لحم شحما من جهة اختصاص اللفظ ؛ وهو لحم من جهة حقيقة اللحمية ، كما أن كل حمد شكر ، وليس كل شكر حمدا من جهة ذكر النعم ، وهو حمد من جهة ذكر فضائل المنعم.

ثم اختلفوا في نجاسته ؛ فقال جمهور العلماء : إنه نجس. وقال مالك : إنه طاهر ، وكذلك كلّ حيوان عنده ؛ لأنّ علة الطهارة عنده هي الحياة. وقد قرّرنا ذلك عند مسائل الخلاف بما فيه كفاية ، وبيّنّاه طردا وعكسا ، وحققنا ما فيه من الإحالة [والملاءمة] (٣) والمناسبة على مذهب من يرى ذلك ومن لا يراه بما لا مطعن فيه ، وهذا يشير بك إليه ، فأما شعره فسيأتى ذكره في سورة النحل إن شاء الله تعالى.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ).

وموضعها سورة الأنعام.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ).

وتصريفه (٤) افتعل من الضرر ، كقوله : افتتن من الفتنة ، أى أدركه ضرر ، ووجد به.

وقد تكلّمنا في حقيقة الضّرر والمضطر في كتاب المشكلين بما فيه كفاية.

بيانه أنّ الضرر هو الألم الذي لا نفع فيه يوازيه أو يربى (٥) عليه ، وهو نقيض النّفع ، وهو الذي لا ضرر فيه ؛ ولهذا لم يوصف شرب الأدوية [٣١] الكريهة والعبادات الشاقة

__________________

(١) في م : مخصص.

(٢) من م.

(٣) ليس في م.

(٤) هنا في هامش م : مسألة في المضطر والمكره واشتقاقهما.

(٥) أربى : زاد.

٥٤

بالضرر ، لما في (١) ذلك من النّفع الموازى له أو المربى عليه ، وحققنا أنّ المضطرّ هو المكلّف بالشيء الملجأ إليه ، المكره عليه ، ولا يتحقّق اسم المكره إلا لمن قدر على الشيء ، ومن خلق الله فيه فعلا لم يكن له عليه قدرة ، كالمرتعش والمحموم ، لا يسمّى مضطرّا ولا ملجأ ، وأشرنا إلى أنه قد يكون عند علمائنا المضطرّ ، وقد يكون [المضطر] (٢) المحتاج ، ولكن الملجأ مضطرّ حقيقة ، والمحتاج مضطر مجازا.

وقال الجبائي وابنه : إنّ المضطر هو الذي فعل فيه غيره فعلا ، وهذا تنازع يرجع إلى اللفظ ، وما ذهبنا إليه هو اللغة ، وهو المعروف عند العرب ، والمراد في كتاب الله تعالى بقوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ) : أى خاف التلف ، فسماه مضطرّا ، وهو قادر على التناول.

وبرد المضطرّ في اللغة على معنيين : أحدهما مكتسب الضرر (٣) ، والثاني مكتسب دفعه ، كالإعجام يرد بمعنى الإفهام وبمعنى نفيه ، فالسلطان يضطره أى يلجئه للضرر ، والمضطر يبيع منزله ، أى يدفع الضرر الذي يلحقه بامتناعه من بيع ماله.

وكلا المعنيين موجود في مسألتنا ؛ فإنه مضطر بما أدركه من ألم الجوع ، مضطرّ (٤) بدفعه ذلك عن نفسه بتناول الميتة ؛ وهو بالمعنى الأول مشروط ، وبالمعنى الثاني مأمور.

المسألة التاسعة ـ هذا الضرر الذي بيّناه يلحق إمّا بإكراه من ظالم ، أو بجوع في (٥) مخمصة ، أو بفقر لا يجد فيه غيره ؛ فإنّ التحريم يرتفع عن ذلك بحكم الاستثناء ، ويكون مباحا ، فأما الإكراه فيبيح ذلك كله إلى آخر الإكراه.

وأما المخمصة فلا يخلو أن تكون دائمة فلا خلاف في جواز الشبع منها ، وإن كانت نادرة فاختلف العلماء في ذلك على قولين : أحدهما يأكل حتى يشبع ويتضلّع ، قاله مالك.

وقال غيره : يأكل على قدر (٦) سدّ الرّمق ، وبه قال ابن حبيب وابن الماجشون ؛ لأن الإباحة ضرورة فتتقدّر بقدر الضرورة.

وقد قال مالك في موطّئه الذي ألّفه بيده ، وأملاه على أصحابه ، وأقرأه وقرأه عمره كلّه (٧) :

__________________

(١) في م : لما فيه.

(٢) من م.

(٣ ـ ٤) في م : مكتسب للضرورة.

(٥) مخمصة : جوعة.

(٦) في م : بمقدار ، ويسد الرمق : أى يبقى على الحياة.

(٧) الموطأ : ٤٩٩

٥٥

يأكل حتى يشبع. ودليله أن الضرورة (١) ترفع التحريم فيعود مباحا ، ومقدار الضرورة إنما هو من حالة عدم القوت إلى حالة وجوده حتى يجد ، وغير ذلك ضعيف.

المسألة العاشرة ـ من اضطر إلى خمر (٢) ، فإن كان بإكراه شرب بلا خلاف ، وإن كان لجوع أو عطش فلا يشرب ، وبه قال مالك في العتبية ، وقال : لا تزيده الخمر إلا عطشا ، وحجّته أن الله تعالى حرّم الخمر مطلقا ، وحرّم الميتة بشرط عدم الضرورة ، ومنهم من حمله على الميتة.

وقال أبو بكر الأبهرىّ : إن ردّت الخمر عنه جوعا أو عطشا شربها. وقد قال الله تعالى (٣) في الخنزير : (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) ، ثم أباحه للضرورة ، وقال تعالى أيضا في الخمر (٤) : إنها رجس فتدخل في إباحة ضرورة الخنزير ؛ فالمعنى الجلىّ الذي هو أقوى من القياس ؛ ولا بدّ أن تروى ولو ساعة وتردّ الجوع ولو مدّة.

المسألة الحادية عشرة ـ إذا غصّ بلقمة فهل يجيزها [بخمر] (٥) أم لا؟ قيل : لا يسيغها (٦) بالخمر مخافة أن يدّعى ذلك.

وقال ابن حبيب : يسيغها لأنها حالة ضرورة.

وقد قال العلماء : من اضطرّ إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل دخل النار ، إلا أن يعفو الله تعالى عنه.

والصحيح أنه سبحانه حرّم الميتة والدم ولحم الخنزير أعيانا مخصوصة في أوقات مطلقة [٣٢] ، ثم دخل التخصيص بالدليل في بعض الأعيان ، وتطرّق التخصيص بالنص إلى بعض الأوقات والأحوال ، فقال تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) ؛ فرفعت الضرورة التحريم ، ودخل التخصيص أيضا بحال الضرورة إلى حال تحريم الخمر لوجهين :

أحدهما ـ حملا على هذا بالدليل كما تقدّم من أنه محرّم ، فأباحته الضرورة كالميتة.

والثاني ـ أنّ من يقول : إنّ تحريم الخمر لا يحلّ بالضرورة ذكر أنها لا تزيده إلا عطشا

__________________

(١) هنا في هامش م : مسألة في ترخيص المضطر.

(٢) هنا في هامش م : مسألة في المضطر إلى شرب الخمر.

(٣) سورة الأنعام : ١٤٥ ، والآية : فإنه رجس.

(٤) سورة المائدة ٩٠ ، والآية : رجس من عمل الشيطان.

(٥) ليس في م.

(٦) في ق : يسيغها.

٥٦

ولا تدفع عنه شبعا ؛ فإن صحّ ما ذكره كانت حراما ، وإن لم يصح ـ وهو الظاهر ـ أباحتها الضرورة كسائر المحرمات.

وأما الغاصّ بلقمة فإنه يجوز له فيما بينه وبين الله تعالى ، وأما فيما بيننا فإن شهدناه فلا يخفى بقرائن الحال صورة الغصّة من غيرها فيصدّق إذا ظهر ذلك ، وإن لم يظهر حددناه ظاهرا وسلم من العقوبة عند الله تعالى باطنا.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ).

فيها أقوال كثيرة نخبتها اثنان (١) :

الأول ـ أنّ الباغي في اللغة هو الطالب لخير كان أو لشرّ ، إلا أنه خصّ هاهنا بطالب الشر ، ومن طالب الشر الخارج على الإمام المفارق للجماعة. وهو المراد بقوله تعالى(٢) : (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى). والعادي ، وهو المجاوز ما يجوز إلى ما لا يجوز ، وخصّ هاهنا بقاطع السبيل ، وقد قاله مجاهد وابن جبير.

الثاني ـ أن الباغي آكل الميتة فوق الحاجة ، والعادي آكلها مع وجود غيرها ، قاله جماعة منهم قتادة والحسن وعكرمة.

وتحقيق القول في ذلك أنّ العادي باغ ، فلما أفرد الله تعالى كلّ واحد منهما بالذكر تعيّن له معنى غير معنى الآخر ، لئلا يكون (٣) تكرارا يخرج عن الفصاحة الواجبة للقرآن.

والأصحّ والحالة هذه أنّ معناه غير طالب شرّا ولا متجاوز حدّا ؛ فأما قوله : «غير طالب شرا» فيدخل تحته (٤) كلّ خارج على الإمام وقاطع للطريق وما في معناه. وأما «غير متجاوز حدا» فمعناه غير متجاوز حدّ الضرورة إلى حد الاختيار.

ويحتمل أن تدخل تحته الزيادة على قدر الشبع كما قاله قتادة وغيره ، ولكن مع الندور لا مع التمادي ؛ فإنّ (٥) أبا عبيدة وأصحابه قد أكلوا حتى شبعوا مما اعتقدوا أنه ميتة حتى أخبرهم النبىّ صلى الله عليه وسلم بأنه حلال ؛ لكن وجه الحجّة أنهم لما أخبروه بحالهم جوّز لهم أكلهم شبعا وتضلّعا مع اعتقادهم لضرورتهم.

__________________

(١) هنا في هامش م : مسألة الباغي والعادي.

(٢) سورة الحجرات ، آية ٩

(٣) في م : ولا يكون.

(٤) في م : فيه.

(٥) انظر ما سبق في صفحة ٥٢

٥٧

المسألة الثالثة عشرة ـ ولأجل ذلك لا يستبيح العاصي بسفره رخص السفر ؛ وقد اختلف العلماء في ذلك ؛ والصحيح أنها لا تباح له بحال ؛ لأن الله تعالى أباح ذلك عونا ، والعاصي لا يحلّ أن يعان ، فإن أراد الأكل فليتب ويأكل ، وعجبا ممن يبيح ذلك له مع التمادي على المعصية ، وما أظنّ أحدا يقوله ؛ فإن قاله أحد فهو مخطئ قطعا.

المسألة الرابعة عشرة ـ إذا وجد المضطر ميتة ودما ولحم خنزير وخمرا وصيدا حرميا أو صيدا وهو محرم ، فهذه صورتان :

الأولى ـ الحلال يجدها ، والثاني الحرام ؛ فإن وجد ميتة وخمرا قال ابن القاسم : يأكل الميتة حلالا بيقين ، والخمر محتملة للنظر ؛ وإن وجد ميتة وبعيرا ضالًّا أكل الميتة ، قاله ابن وهب. فإن وجد ميتة وكنزا أو ما في معناه أكل الكنز ، قاله ابن حبيب. فإن وجد ذلك تحت حرز أكل الميتة. ولو وجد ميتة وخنزيرا ، قال علماؤنا : يأكل الميتة ، فإن وجد لحم بنى آدم والميتة أكل الميتة ؛ فإنها حلال في حال ، والخنزير وابن آدم لا يحلّ بحال ، [٣٣] ولا يأكل ابن آدم ولو مات ، قاله علماؤنا.

وقال الشافعى : يأكل لحم ابن آدم.

الصورة الثانية ـ إذا وجد المحرم صيدا وميتة ؛ قال علماؤنا : يأكل الميتة ولا يأكل الصيد. والضابط لهذه الأحكام أنه إذا وجد ميتة ولحم خنزير قدّم الميتة ، لأنها تحلّ حيّة والخنزير لا يحلّ ، والتحريم المخفّف أولى أن يقتحم من التحريم المثقل ، كما لو أكره أن يطأ أخته أو أجنبية وطئ الأجنبية ، لأنها تحلّ له بحال ، وإذا وجد ميتة وخمرا فقد تقدّم ، وإذا وجد ميتة ومال الغير ، فإن أمن الضرر في بدنه أكل مال الغير ، ولم يحل له أكل الميتة ، وإن لم يأمن أكل الميتة ، وأمنه إذا كان مال الغير في الثمار أكثر من أمنه إذا كان في الجرين (١) ؛ وقد تقدم القول في الميتة والآدمي.

والصحيح عندي ألّا يأكل الآدمىّ إلّا إذا تحقق أن ذلك ينجيه ويحييه. وإذا وجد المحرم صيدا وميتة أكل الصيد لأن تحريمه مؤقت ، فهو أخف وتقبل الفدية في حال الاختيار ، ولا فدية لآكل الميتة.

__________________

(١) الجرين : الجرن.

٥٨

المسألة الخامسة عشرة ـ إذا احتاج إلى التّداوى (١) بالميتة ، فلا يخلو أن يحتاج إلى استعمالها قائمة (٢) بعينها ، أو يستعملها محرقة ؛ فإن تغيّرت بالإحراق فقد قال ابن حبيب : يجوز التداوى بها والصلاة ، وخفّفه ابن الماجشون بناء على أن الحرق تطهير لتغير الصفات.

وفي العتبيّة من رواية مالك في المرتك (٣) يصنع من عظام الميتة إذا جعله في جرحه لا يصلّى به حتى يغسله.

وإن كانت الميتة بعينها فقد قال سحنون : لا يتداوى بها بحال ولا بالخنزير.

والصحيح عندي أنه لا يتداوى بشيء من ذلك ؛ لأن منه عوضا حلالا ، ولا يوجد في المجاعة من هذه الأعيان عوض ، حتى لو وجد منها في المجاعة عوضا لم يأكلها ، كما لا يجوز التداوى بها لوجود العوض ، ولو أحرقت لبقيت نجسة ؛ لأن العين النجسة لا تطهر إلا بالماء الذي جعله الشرع مطهّرا للأعيان النجسة.

وقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر أيتداوى بها؟ قال : ليست بدواء ، ولكنها داء (٤).

الآية الثانية والثلاثون ـ قوله تعالى (٥) : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ قد قدّمنا فيما قبل أنه ليس في المال حقّ سوى الزكاة ، وقد كان الشعبىّ فيما يؤثر عنه يقول : في المال حقّ سوى الزكاة ، ويحتجّ بحديث يروى عن فاطمة بنت قيس أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : في المال حقّ سوى الزكاة. وهذا ضعيف لا يثبت عن الشعبي ، ولا عن النبىّ صلى الله عليه وسلم ، وليس في المال حقّ سوى الزكاة ، وإذا وقع أداء

__________________

(١) هنا في هامش م : مسألة التداوى بالميتة.

(٢) في ق : قائمة العين.

(٣) المرتك : ضرب من الأدوية.

(٤) صحيح مسلم : ١٥٧٣ ، وابن ماجة ١١٥٧

(٥) الآية السابعة والسبعون بعد المائة.

٥٩

الزكاة ونزلت بعد ذلك حاجة فإنّه يجب صرف المال إليها باتفاق من العلماء.

وقد قال مالك : يجب على كافّة المسلمين فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم ، وكذا إذا منع الوالي الزكاة فهل يجب على الأغنياء إغناء الفقراء؟ مسألة فيها نظر ، أصحّها عندي وجوب ذلك عليهم.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَالْمَساكِينَ) ، يعنى الذي لا يسألون ، والسائلين يعنى الذين كشفوا وجوههم ، وقد صحّ عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه (١).

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى [٣٤] : (وَفِي الرِّقابِ) ؛ هم عبيد يعتقون قربة ، قاله مالك والشافعى.

وقال أبو حنيفة : والقول الآخر للشافعي : أنهم المكاتبون يعانون في فكّ رقابهم ، وذلك محتمل. والصحيح عندي أنه عام.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَآتَى الزَّكاةَ). قيل : المراد بإيتاء المال في أولها التطوّع أو غيره مما قدرناه ، وبالزكاة هاهنا الزكاة المعروفة. وقيل : المراد بإيتاء الزكاة هاهنا تفسير لقوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) ؛ فبيّن المال المؤتى ووجه الإيتاء فيه وهو الزكاة.

والصحيح عندي أنهما فائدتان : الإيتاء الأول في وجوهه ، فتارة يكون ندبا وتارة يكون فرضا ؛ والإيتاء الثاني هو الزكاة المفروضة.

الآية الثالثة والثلاثون ـ قوله تعالى (٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ، وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ، فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ، ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ).

فيها إحدى عشرة مسألة :

__________________

(١) في ق : قلت : والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى : (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ). فذكر الزكاة مع الصلاة ، وذلك دليل على أن المراد بقوله : وآتى المال على حبه ، ليس الزكاة المفروضة فإن ذلك يكون تكرارا. والله أعلم.

(٢) الآية الثامنة والسبعون بعد المائة.

٦٠