أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٢

١

سورة المائدة

فيها أربع وثلاثون آية

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ).

فيها عشرون مسألة :

المسألة الأولى ـ قال علماؤنا : قال علقمة : إذا سمعت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهي مدنيّة ، وإذا سمعت (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فهي مكّية ؛ وهذا ربما خرج على الأكثر.

المسألة الثانية ـ روى أبو سلمة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم [كان] (٢) لما رجع من الحديبية قال لعلىّ : يا عليّ ؛ أشعرت أنه نزلت علىّ سورة المائدة ، وهي نعمت الفائدة.

قال [الإمام] (٣) القاضي : هذا حديث موضوع لا يحلّ لمسلم اعتقاده ، أما أنّا نقول (٤) : سورة المائدة نعمت الفائدة فلا نؤثره عن أحد ، ولكنه كلام حسن.

المسألة الثالثة ـ قال أبو ميسرة : في المائدة ثماني عشرة فريضة. وقال غيره : فيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في ستة عشر موضعا ؛ فأما قول أبى ميسرة : إنّ فيها ثماني عشرة فريضة فربما كان ألف فريضة ، وقد ذكرناها نحن في هذا المختصر للأحكام (٥).

المسألة الرابعة ـ شاهدت المائدة بطور زيتا (٦) مرارا ، وأكلت عليها ليلا ونهارا ، وذكرت الله سبحانه فيها سرّا وجهارا ، وكان ارتفاعها أسفل (٧) من القامة بنحو الشّبر ، وكان لها درجتان قلبيا وجوفيا ، وكانت صخرة صلداء لا تؤثر فيها المعاول ، فكان الناس يقولون : مسخت صخرة إذ مسخ أربابها قردة وخنازير.

__________________

(١) الآية الأولى من السورة.

(٢) من ل.

(٣) في ل : أما نحن نقول.

(٤) في ل : ذكرنا نحن هاهنا الأحكم.

(٥) في ل : بطور سينا. وفي ياقوت : طور زيتا ـ الجزء الثاني بلفظ الزيت من الأدهان ، وفي آخره ألف : علم مرتجل لجبل بقرب رأس عين عند قنطرة الخابور.

(٦) في ا : أشف.

٢

والذي عندي أنها كانت في الأصل صخرة قطعت من الأرض محلا للمائدة النازلة من من السماء ، وكلّ ما حولها حجارة مثلها ، وكان ما حولها محفوفا بقصور ، وقد نحت في ذلك الحجر الصلد بيوت ، أبوابها منها ، ومجالسها منها مقطوعة فيها ، وحناياها في جوانبها ، وبيوت خدمتها قد صوّرت من الحجر ، كما تصوّر من الطين والخشب ، فإذا دخلت في قصر من قصورها ورددت الباب وجعلت من ورائه صخرة كثمن درهم لم يفتحه أهل الأرض للصوقه بالأرض ؛ فإذا هبّت الريح وحثت تحته التراب لم يفتح [إلا] (١) بعد صبّ الماء تحته والإكثار منه ، حتى يسيل بالتراب وينفرج منعرج الباب ، وقد مات بها (٢) قوم بهذه العلة (٣) ، وقد كنت أخلو فيها كثيرا للدرس ، ولكني كنت في كل حين أكنس حول الباب مخافة مما جرى لغيري فيها ، وقد شرحت أمرها في كتاب ترتيب الرحلة بأكثر من هذا.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (أَوْفُوا) :

يقال : وفي وأوفى. قال أهل العربية : واللغتان في القرآن ؛ قال الله تعالى (٤) : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ). وقال شاعر العرب (٥) :

أمّا ابن طوق فقد أوفى بذمّته

كما وفى بقلاص النجم (٦) حاديها

فجمع بين اللغتين.

وقال الله تعالى (٧) : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى). وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من وفّى منكم فأجره على الله.

المسألة السادسة ـ العقود : واحدها عقد ، وفي ذلك خمسة أقوال :

القول الأول : العقود : العهود ؛ قاله ابن عباس (٨).

الثاني : حلف الجاهلية ؛ قاله قتادة. وروى عن ابن عباس ، والضحاك ، ومجاهد ، والثوري.

__________________

(١) من ل.

(٢) في ل : فيها.

(٣) في ل : الغلة.

(٤) سورة التوبة ، آية ١١١.

(٥) البيت لطفيل الغنوي. اللسان ـ والقرطبي : ٦ ـ ٣٢

(٦) قلاص النجم هي العشرون نجما التي ساقها الدبران في خطبة الثريا ـ كما تزعم العرب. وفي ا : فلاص النجب ـ وهو تحريف.

(٧) سورة النجم ، آية ٣٧.

(٨) في أحكام الجصاص : ٣ ـ ٢٨٢ روى عن ابن عباس ، ومجاهد ، ومطرف ، والربيع ، والضحاك ، والسدى ، وابن جريج ، والثوري.

٣

الثالث : الذي عقد الله عليكم وعقدتم بعضكم على بعض ؛ قاله الزجاج.

الرابع : عقد النكاح والشركة واليمين والعهد والحلف ، وزاد بعضهم البيع ؛ قاله زيد ابن أسلم.

الخامس : الفرائض ؛ قاله الكسائي ؛ وروى (١) الطبري أنه أمر بالوفاء بجميع ذلك.

قال ابن العربي : وهذا الذي قاله الطبري صحيح ، ولكنه يحتاج إلى تنقيح ـ وهي :

المسألة السابعة ـ قال : وذلك أن أصل (ع ه د) (٢) في اللغة الإعلام بالشيء ، وأصل العقد (٣) الربط والوثيقة ، قال الله سبحانه (٤) : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً).

وقال عبد الله بن عمر : الدينار بالدينار والدّرهم بالدرهم لا فضل بينهما ، هذا عهد نبيّنا إلينا وعهدنا إليكم.

وتقول العرب : عهدنا أمر كذا وكذا ؛ أي عرفناه ، وعقدنا أمر كذا وكذا ؛ أى ربطناه بالقول كربط الحبل بالحبل ؛ قال الشاعر (٥) :

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم

شدّوا العناج (٦) وشدّوا فوقه الكربا

وعهد الله إلى الخلق إعلامه بما ألزمهم وتعاهد القوم : أي أعلن بعضهم لبعض بما التزمه له وارتبط معه إليه وأعلمه به ؛ فهذا دخل أحد اللفظين في الآخر ، فإذا عرفت هذا علمت أن الذي قرطس (٧) على الصواب هو أبو إسحاق (٨) الزجاج ، فكلّ عهد لله سبحانه أعلمنا به ابتداء ، والتزمناه نحن له ، وتعاقدنا فيه بيننا ، فالوفاء به لازم بعموم هذا القول المطلق الوارد منه سبحانه علينا في الأمر بالوفاء به.

__________________

(١) ـ في ل : ورأى.

(٢) في ل : العهد.

(٣) في ل : وأصله عقدة.

(٤) سورة طه ، آية ١١٥

(٥) البيت للحطيئة ـ كما في اللسان ـ عنج.

(٦) العناج : خيط أو سير يشد في أسفل الدلو ثم يشد في عروتها. والكرب : الحبل الذي يشد على الدلو بعد الحبل الأول. وهذا أمثال ضربها الحطيئة لإيفائهم بالعهد.

(٧) يقال رمى فقرطس : أى أصاب القرطاس. والرمية التي تصيب : مقرطة (اللسان).

(٨) في ا : أبو القاسم. والمثبت من ل.

٤

وأما من خصّ حلف (١) الجاهلية فلا قوّة له إلا أن يريد أنه إذا لزم الوفاء به ، وهو من عقد الجاهلية ؛ فالوفاء بعقد الإسلام أولى ، وقد أمر الله سبحانه بالوفاء به ؛ قال الله تعالى (٢) : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) ؛ قال ابن عباس : يعنى من النصيحة والرفادة والنصرة ، وسقط الميراث خاصة بآية الفرائض وآية الأنفال. وقد قال النبي [صلى الله عليه وسلم : المؤمنون عند شروطهم] (٣).

وأما من قال عقد البيع وما ذكر معه فإنما أشار إلى عقود المعاملات وأسقط غيرها وعقود الله والنذور ؛ وهذا تقصير.

وأما قول الكسائي الفرائض فهو أخو قول الزجاج ، ولكن قول الزجاج أوعب ؛ إذ دخل فيه الفرض المبتدأ والفرض الملتزم والندب ، ولم يتضمّن قول الكسائي ذلك كله.

المسألة الثامنة ـ إذا ثبت هذا فربط العقد تارة يكون مع الله ، وتارة يكون مع الآدمي ، وتارة يكون بالقول ، وتارة بالفعل ، فمن قال : «لله علىّ صوم يوم» فقد عقده بقوله مع ربّه ؛ ومن قام إلى الصلاة فنوى وكبّر فقد عقدها لربه بالفعل ، فيلزم الأول ابتداء الصوم ، ويلزم هذا تمام الصلاة ؛ لأن كل واحد منها قد عقدها مع ربه ، والتزم. والعقد بالفعل أقوى منه بالقول. وكما قال سبحانه (٤) : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً). كذلك قال (٥) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ). وما قال القائل : على صوم يوم أو صلاة ركعتين إلّا ليفعل ، فإذا فعل كان أقوى (٦) من القبول ؛ فإن القول عقد (٧) وهذا نقد ؛ وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف وشرح الحديث على الشافعى تمهيدا بليغا ، فلينظر هنالك.

فإن قيل : فكيف يلزم الوفاء بعقد الجاهلية حين كانوا يقولون : هدمي هدمك ، ودمى دمك ، وهم إنما كانوا يتعاقدون على النصرة في الباطل.

__________________

(١) في ا : خلف ، وهو تحريف.

(٢) سورة النساء ، آية ٣٢

(٣) ساقط من ل.

(٤) سورة الإنسان ، آية ٧

(٥) سورة محمد ، آية ٣٣.

(٦) في ل : كان أوكد.

(٧) في ل : وعد.

٥

قلنا : كذبتم ؛ إنما كانوا يتعاقدون على ما كانوا يعتقدونه حقّا ، وفيما كانوا يعتقدونه حقّا ما هو حق كنصرة المظلوم ، وحمل الكلّ ، وقرى الضيف ، والتعاون على نوائب الحق. وفيه أيضا باطل ؛ فرفع الإسلام من ذلك الباطل بالبيان ، وأوثق عرى الجائز ، وألحق منه بالأمر بالوفاء بإتيانهم نصيبهم فيه ، كما تقدم من النصيحة والرفادة والنصرة ، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم : المؤمنون عند شروطهم. معناه إنما تظهر حقيقة إيمانهم (١) عند الوفاء بشروطهم.

وقال صلى الله عليه وسلم : أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج. ثم قال : ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن [كان] (٢) اشترط مائة شرط.

فبيّن أن الشرط الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله تعالى ، أى دين الله تعالى ، كذلك لا يلزم الوفاء بعقد إلا أن يعقد على ما في كتاب الله. وعلى المسلمين أن يلتزموا الوفاء بعهودهم وشروطهم إلّا أن يظهر فيها ما يخالف كتاب الله ، فيسقط. ولا يمنع هذا التعلّق بعموم القولين ؛ ولذلك حثّ على فعل الخير ، فقال (٣) : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). وأمر بالكفّ عن الشر ، فقال : لا ضرر ولا ضرار. فهذا حثّ على فعل كل خير واجتناب كل شر. فأما اجتناب الشر فجميعه واجب. وأمّا فعل الخير فينقسم إلى ما يجب وإلى ما لا يجب ؛ وكذلك الوفاء بالعقود ، ولكنّ الأصل فيها الوجوب ، إلّا ما قام الدليل على ندبه ؛ وقد جهل بعضهم فقال : لما كانت العقود الباطلة والشروط الباطلة لا نهاية لها والجائز منها محصور فصار مجهولا فلا يجوز الاحتجاج على الوفاء بالعقود ولا بالشروط لأجل ذلك وهي (٤) عبارة عظيمة ، وهي :

المسألة التاسعة : قلنا : وما لا يجوز [كيف] (٥) يدخل تحت مطلق أمر الله سبحانه حتى يجعله مجملا. والله لا يأمر بالفحشاء ولا بالباطل : لقد ضلّت إمامتك وخابت أمانتك ، وعلى هذا لا دليل في الشرع لأمر يفعل ؛ فإن منه (٦) كله ما لا يجوز ، ومنه ما يجوز ،

__________________

(١) في ل : إسلامهم.

(٢) من ل.

(٣) سورة الحج ، آية ٧٧

(٤) في ل : وهذه.

(٥) من ل.

(٦) في ا : فيه.

٦

فيؤدى إلى تعطيل أدلّة الشرع وأوامره. والذين قالوا بالوقف لم يرتكبوا هذا الخطر ، ولا سلكوا هذا الوعر ، فدع هذا وعدّ القول إلى العلم إن كنت من أهله.

فإن قيل : محمول قوله : أوفوا بالعقود على المقيّد لما بيّنا ، وهي :

المسألة العاشرة ـ قلنا : فقد أبطلنا ما يثبت محمول قوله : أوفوا بالعقود على كل عقد مطلق ومقيّد. وماذا تريد بقولك مقيّدا؟ تريد قيّد بالجواز أم قيّد بقربة ، أو قيّد بشرط؟ فإن أردت به قيّد بشرط لزمك فيه ما لزمك في المطلق من أنّ الشرط منه ما لا يجوز كما تقدم لك (١) ، وإن قلت مقيّد بقربة فيبطل بالمعاملات ، وإن قلت مقيّد بالدليل فالدليل هو قول الله سبحانه ، وقد قال : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

فإن قيل : هذا عقد اليمين لا يجب الوفاء به ، وهي :

المسألة الحادية عشرة ـ قلنا : لا يجب الوفاء بشيء أكثر مما يجب الوفاء باليمين ، وكيف لا يجب الوفاء به وهو عقد أكّد باسم الله سبحانه؟ حاشا لله أن نقول هذا ، ولكنّ الشرع أذن رحمة ورخصة في إخراج الكفّارة بدلا من البر ، وخلفا من المعقود عليه الذي فوّته الحنث. وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف ، وستراه في آية الكفّارة من هذه السورة إن شاء الله تعالى.

فإن قيل : فقد قال الشافعى : إذا نذر قربة لا يدفع بها بلية ولا يستنجح بها طلبة فإنه لا يلزم الوفاء بها.

قلنا : من قال بهذا فقد خفيت عليه دلائل الشرع ؛ وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمر (٢) : أوف بنذرك. وقد بينا قول الله عز وجل فيه وما ذا على الشريعة أو ما [ذا] (٣) يقدح في الأدلة من رأى الشافعى وأمثاله من العلماء.

وأما نذر المباح فلم يلزم بإجماع الأمة ونصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصحيح ، وهي شيء جهلته يا هذا العالم ، فادرج عن هذه الأغراض ، فليس بوكر إلّا لمن أمّنته

__________________

(١) في ا : ذلك.

(٢) حين نذر أن يعتكف يوما في الجاهلية. وقوله صلى الله عليه وسلم : من نذر نذرا سماه فعليه أن يفي به ، ومن نذر نذرا ولم يسمه فعليه كفارة يمين (أحكام الجصاص ـ ٣ ـ ٢٨٧).

(٣) من ل.

٧

معرفة أحاديث النبيّ صلى الله عليه وسلم من المكر ، ولم يتكلم برأيه وحده ، ولا أعجب بطرق من النظر حصّلها (١) ، ولم يتمرّس فيها بكتاب الله عز وجلّ ولا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فافهم هذا ، والله يوفقكم وإيانا بتوفيقه لتوفية عهود الشريعة حقّها.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) :

اختلف فيها على ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنه كلّ الأنعام ؛ قاله السّدّى ، والربيع ، والضحاك.

الثاني ـ أنه الإبل ، والبقر ، والغنم ؛ قاله ابن عباس ، والحسن.

الثالث ـ أنه الظباء ، والبقر ، والحمر الوحشيان.

المسألة الثالثة عشرة ـ في المختار :

أما من قال : [إن النّعم] (٢) هي الإبل والبقر والغنم فقد علمت صحة ذلك دليلا ، وهو أنّ النّعم عند بعض أهل اللغة اسم خاصّ للإبل يذكّر ويؤنّث ؛ قاله ابن دريد وغيره ، وقد قال الله تعالى (٣) : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ). وقال تعالى (٤) : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً ، كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ). وقال (٥) : (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ).

فهذا مرتبط بقوله : ومن الأنعام حمولة وفرشا ، أى خلق جنات وخلق من الأنعام حمولة وفرشا ، يعنى كبارا وصغارا ، ثم فسّرها فقال : ثمانية أزواج ... إلى قوله (٦) : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا).

وقال تعالى (٧) : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ

__________________

(١) العبارة مضطربة في ا ، وقد وردت هكذا : ولا أعجب كاف من النظر حظها. والمثبت من ل.

(٢) من ل.

(٣) سورة النحل ، آية ٥ وما بعدها.

(٤) سورة الأنعام ، آية ١٤٢ وما بعدها.

(٥) سورة الأنعام ، آية ١٤٤.

(٦) سورة النحل ، آية ٨٠.

٨

إِقامَتِكُمْ ، وَمِنْ أَصْوافِها) ـ وهي الغنم ـ (وَأَوْبارِها) ـ وهي الإبل ـ (وَأَشْعارِها) ـ وهي المعزى ، (أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ.)

فهذه ثلاثة أدلّة تنبئ عن تضمّن اسم النّعم لهذه الأجناس الثلاثة : الإبل والبقر والغنم ، لتأنيس ذلك كله ، فأما الوحشية فلم أعلمه إلى الآن إلا اتباعا لأهل اللغة.

أما أنه قد قال بعض العلماء : إنّ قوله سبحانه : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) يقتضى دخول البقر والحمر والظباء تحت قوله : بهيمة الأنعام ؛ فصار تقدير الكلام : أحلّت لكم بهيمة الأنعام إنسيّها ووحشيّها غير محلّى الصّيد وأنتم حرم ؛ أى ما لم تكونوا محرمين. فإن كان هذا متعلقا فقد قال : (١) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ).

فجعل الصيد والنعم صنفين. وأيضا فإن من أراد أن يدخل الظباء والبقر والحمر الوحشية فيه ليعمّ ذلك كله في الإحلال ماذا يصنع بصنف الصّيد الطائر كله؟

فالدليل الذي أحلّه ولم يدخل في هذه الآية محلّ الظباء والبقر والحمر الوحشية وإن لم يدخل في الآية.

وقد ينتهى العىّ ببعضهم إلى أن يقول : إنّ الأنعام هي الإبل لنعمة أخفافها في الوطء ، ولا يدخل فيه الحافر ولا الظلف لجساوته (٢) وتحدّده. ويقال له : إن الأنعام إنما سميت به لما يتنعّم به من لحومها وأصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين.

وبهذه الآية كان يدخل صنف الوحشي فيها ؛ لأنها ذات أشعار من جهة أنه يتأتّى ذلك فيه حسّا وإن لم [يكن] (٣) يتناول ذلك [منها] (٤) عرفا.

فإن قلنا : إن اللفظ يحمل على الحقيقة الأصلية ، فيدخل في هذا اللفظ في النحل ويتناولها اللفظ في سورة المائدة. وإن قلنا : إن الألفاظ تحمل على الأحوال المعتادة العرفية لم يدخل فيها ؛ إذ لا يعتاد (٥) ذلك من أوبارها.

وهاهنا انتهى تحقيق ذلك في هذا المختصر.

__________________

(١) سورة المائدة ، آية ٩٥.

(٢) جسا الشيء : يبس وصلب.

(٣) من ل.

(٤) في ا : ولا يعتاد.

٩

المسألة الرابعة عشرة ـ قوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) :

قالوا : من قوله تعالى (١) : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ). وقيل من قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) ؛ والصحيح أنه من قوله في كل محرّم في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل : فقد قال : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ). والذي يتلى هو القرآن ، ليس السنة. قلنا : كلّ كتاب يتلى ، كما قال تعالى (٢) : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ). وكلّ سنة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فهي من كتاب الله.

والدليل عليه أمران : أحدهما قوله صلّى الله عليه وسلم في قصة العسيف (٣) : لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما غنمك وجاريتك فردّ عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام.

وليس هذا في القرآن ، ولكنه في كتاب الله الذي أوحاه إلى رسوله علما من كتابه المحفوظ عنده.

والدليل الثاني في حديث عبد الله بن مسعود ؛ قال (٤) : لعن الله الواشمات ، والمستوشمات ، والمتنّمصات (٥) ، والمتفلّجات للحسن ، والمغيّرات لخلق الله فبلغ ذلك امرأة من بنى أسد يقال لها أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ أليس هو في كتاب الله؟ فقالت : لقد قرأت ما بين اللّوحين فما وجدت فيه ما تقول. فقال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه. أو ما قرأت : (وَما) (٦) (آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)؟ قالت : بلى. قال : فإنه قد نهى عنه. قالت : فإنى أرى أهلك يفعلونه. قال : فاذهبي فانظرى ، فذهبت [فنظرت] (٧) فلم تر من حاجتها شيئا. فقال : لو كانت كذلك ما جامعتها.

__________________

(١) سورة المائدة ، آية ٣.

(٢) سورة العنكبوت ، آية ٤٨

(٣) صحيح مسلم : ١٣٢٥ ، والعسيف : الأجير.

(٤) صحيح مسلم : ١٦٧٨.

(٥) الوشم : أن يغرز الجلد بإبرة ثم يحشى بكحل أو نيل فيزرق أثره أو يخضر. والمستوشمة : التي يفعل بها ذلك. النامصة : هي التي تزيل الشعر من الوجه. والمتنمصة: هي التي تطلب فعل ذلك بها. والفلج : فرجة ما بين الثنايا والرباعيات ، والمتفلجات : النساء اللاتي يفعلن ذلك بأسنانهن رغبة في التحسين.

(٦) سورة الحشر ، آية ٧.

(٧) من ل.

١٠

المسألة الخامسة عشرة ـ يحتمل قوله : إلّا ما يتلى عليكم الآن ، أو إلّا ما يتلى عليكم فيما بعد من مستقبل الزمان. وفي هذا دليل على جواز تأخير البيان عن وقت لا يفتقر فيه إلى تعجيل الحاجة ، وهي مسألة أصولية ، وقد بيناها في المحصول ، ومعناه أن الله سبحانه أباح لنا شيئا وحرّم علينا شيئا استثناه منه. فأما الذي أباح لنا فسماه [وبيّنه] (١). وأما الذي استثناه فوعد بذكره في حين الإباحة ، ثم بيّنه بعد ذلك في وقت واحد أو في أوقات متفرقة على اختلاف التأويلين المتقدّمين ، وكلّ ذلك تأخير للبيان ، والله أعلم.

المسألة السادسة عشرة ـ قوله تعالى : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) :

فيه ثلاثة أقوال :

الأوّل ـ معناه أوفوا بالعقود غير محلّى الصّيد.

الثاني ـ أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية غير محلّى الصيد وأنتم حرم.

الثالث ـ أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا ما كان منها وحشيا فإنه صيد لا يحل (٢) لكم وأنتم حرم.

المسألة السابعة عشرة ـ في تنقيحها :

أما قوله : إن معناه أوفوا بالعقود غير محلى الصيد وأنتم حرم فاختاره الطبري والأحفش ، وقالا : فيه تقديم وتأخير ، وهو جائز في نظام الكلام وإعرابه ؛ وهذا فاسد ؛ إذ لا خلاف أن الاستثناء إذا كان باسم الفاعل فإنه حال ؛ فيكون تقدير الآية أوفوا بالعقود لا محلّين للصيد في إحرامكم. ونكث العهد ونقض العقد محرم ، والأمر بالوفاء مستمر في هذه الحال وفي كل حال. ولو اختص الوفاء بها في هذه الحال لكان ما عداها بخلاف على رأى القائلين بدليل الخطاب. وذلك باطل أو يكون مسكوتا عنه. وإنما ذكر الأقل من أحوال الوفاء وهو مأمور به في كل حال ، وهذا تهجين للكلام وتحقير للوفاء بالعقود.

وأما من قال : أحلّت لكم الوحشية فهو خطأ من وجهين :

أحدهما ـ أن فيه تخصيص بعض المحللات (٣) ، وهو تخصيص للعموم بغير دليل لا سيما عموم متفق عليه.

__________________

(١) من ل.

(٢) في ا : ولا يحل.

(٣) في ل : المجملات.

١١

والثاني ـ أنه حمل للفظ بهيمة الأنعام على الوحشية دون الإنسية ، وذلك تفسير للّفظ بالمعنى التابع لمعانيه المختلف منها فيه.

وأما من قال : معناه أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا ما كان منها وحشيا فإنه صيد ، ولا يحلّ لكم الصيد وأنتم حرم. وهذا أشبهها معنى ، إلا أن نظام تقديره ليس بجار على قوانين العربية ؛ فإنه أضمر فيه ما لا يحتاج إليه ، وإنما ينبغي أن يقال ؛ [تقديره] (١) : أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ، غير محلين صيدها وأنتم حرم ؛ فيصح (٢) المعنى ، ويقلّ فضول الكلام ، ويجرى على قانون النحو. وفيها مسألة بديعة (٣) ؛ وهي :

المسألة الثامنة عشرة ـ وهي تثنية الاستثناء في الجملة الواحدة ، وهي ترد على قسمين:

أحدهما ـ أن يتكرر ، ويكون الثاني من الأول ، كقوله تعالى (٤) : (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ).

الثاني ـ أن يكونا جميعا من الأول ، كقوله هاهنا : إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون ، فقوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) استثناء من بهيمة الأنعام على أحد القولين وأظهرهما ، وقوله : إلا الصيد استثناء آخر أيضا معه (٥). وقد مهدنا ذلك في كتاب ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين.

المسألة التاسعة عشرة ـ في تمثيل لهذا التقدير من حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلم : وذلك ما روى أنّ أبا قتادة الحارث بن ربعي الأنصارى قال : كنّا مع النبي صلّى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة وهم محرمون وأنا حلّ على فرس لي ، فكنت أرقى على الجبال ، فبينا أنا كذلك إذ رأيت الناس مشرفين (٦) لشيء ، فذهبت لأنظر ، فإذا هو حمار وحشي ، فقلت لهم : ما هذا؟ فقالوا : لا ندري. فقلت : هو حمار وحشي. قالوا : هو ما رأيت. وكنت نسيت سوطى. فقلت لهم : ناولوني سوطى. فقالوا : لا نعينك عليه ، فنزلت وأخذته ثم

__________________

(١) من م.

(٢) في ا : يصح.

(٣) في ا : بديعة منه.

(٤) سورة الحجر ، آية ٥٩ ، ٦٠.

(٥) في ل ، والقرطبي : منه.

(٦) في ل : متشوفين.

١٢

صرت في أثره ، فلم يكن إلا ذاك حتى (١) عقرته ؛ فأتيت إليهم فقلت : قوموا فاحتملوا. فقالوا : لا نمسّه ، فحملته حتى جئتهم به ، فأبى بعضهم ، وأكل بعضهم. قلت : أنا أستوقف لكم النبيّ صلّى الله عليه وسلم ، فأدركته ، فحدّثته الحديث ، فقال لي : أبقى معكم منه شيء؟ قلت : نعم. قال : فكلوا فهو طعمة أطعمكموها الله ؛ فأحلّ لهم الحمر مطلقا إلّا ما يتلى عليهم ، إلا ما صادره وهم محرمون منها ؛ وما صاده غيرهم فهو حلال لهم

، فإنما حرّم عليهم منه ما وقع إليهم بصيدهم ، إلى تفصيل يأتى بيانه إذا صيد لهم ، فإن حرم فإنما هو بدليل آخر غير هذه الآية.

المسألة الموفية عشرين ـ مضى في سرد هذه الأقوال أنّ من الصحابة من قال في جنين الناقة أو الشاة أو البقرة أو نحوها : إنها من بهيمة الأنعام المحلّلة. وللعلماء فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنه حلال بكلّ حال ؛ قاله الشافعى.

الثاني ـ أنه حرام بكل حال ، إلا أن يذكى ؛ قاله أبو حنيفة.

الثالث ـ الفرق بين أن يكون قد استقل ونبت شعره وبين أن يكون بضعة (٢) كالكبد والطحال ؛ قاله مالك. وتعلق بعضهم بالحديث المشهور : ذكاة الجنين ذكاة أمه. ولم يصح عند الأكثر ، وصححه الدّارقطنيّ ؛ واختلفوا في ذكر «ذكاة» الثانية هل هي يرفع التاء فيكون الأول الثاني ولا يفتقر الجنين إلى ذكاة ، أو هو بنصب التاء فيكون الأول غير الثاني ، ويفتقر إلى الذكاة ، وقد مهدناه في الرسالة الملجئة ، وبيّنا في مسائل الخلاف أنّ المعوّل فيه على اعتبار الجنين بجزء من أجزائها ، أم يعتبر مستقلا بنفسه ، وقد بينا في كتاب الإنصاف الحقّ فيها ، وأنه في مذهبنا باعتبار ذكاة المستقبل ؛ والله أعلم. وسنشير إلى شيء من ذلك في الآية بعدها إن شاء الله.

__________________

(١) أصل العقر : ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم ، وعقر دابته : عرقبها ، ثم اتسع في العقر حتى استعمل في القتل والهلاك (النهاية).

(٢) البضعة : القطعة من اللحم.

١٣

الآية الثانية ـ قوله تعالى (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً ، وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا ، وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

فيها سبع مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (شعائر) :

وزنها فعائل ، واحدتها شعيرة ؛ فيها قولان : أحدهما ـ أنه الهدى. الثاني ـ أنه كلّ متعبد ؛ منها الحرام في قول السدّى ، ومنها اجتناب سخط الله في قول عطاء. ومنها مناسك الحج في قول ابن عباس ومجاهد (٢). وقال علماء النحويين : هو من أشعر ـ أى أعلم ؛ وهذا فيه نظر ؛ فإن فعيلا بمعنى مفعول بأن (٣) يكون من فعل لا من أفعل ، ولكنه جرى على غير فعله كمصدر جرى على غير فعله ، وقد بيناه في رسالة الملجئة.

والصحيح من الأقوال هو الثاني ، وأفسدها من قال : إنه الهدى ؛ لأنه قد تكرر فلا معنى لإبهامه والتصريح بعد ذلك به.

المسألة الثانية ـ قوله : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) :

قد بينا في كل مصنّف أن الألف واللام تأتى للعهد وتأتى للجنس ؛ فهذه لام الجنس ، وهي أربعة أشهر يأتى بيانها مفصّلة في سورة «براءة» إن شاء الله تعالى.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَلَا الْهَدْيَ) : وهو كلّ حيوان يهدى إلى الله في بيته ، والأصل فيه عمومه في كلّ مهدى ، كان حيوانا أو جمادا. وحقيقه الهدى كلّ معطى لم يذكر

__________________

(١) هي الآية الثانية من السورة.

(٢) في أحكام الجصاص (٣ ـ ٢٩١) : روى عن السلف فيه وجوه ، فروى عن ابن عباس أن الشعائر مناسك الحج. وقال مجاهد : الصفا والمروة والهدى والبدن ، كل ذلك من الشعائر. وقال عطاء : فرائض الله التي حدها لعباده. وقال الحسن : دين الله كله. وقبل : إنها أعلام الحرم نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة. وهذه الوجوه كلها في احتمال الآية.

(٣) في ل : بأنه.

١٤

معه عوض (١) ، وقد جاء في الحديث الصحيح : من راح في الساعة الأولى إلى الجمعة فكأنما قرّب بدنة ، ومن راح في الساعة السادسة فكأنما قرّب بيضة (٢) ، وفي بعض الألفاظ ؛ فكأنما أهدى بدنة ، وكأنما أهدى بيضة. وقد اتفق الفقهاء على أن من قال : ثوبي هدى أنه يبعث بثمنه إلى مكة في اختلاف يأتى بيانه.

المسألة الرابعة ـ وأما القلائد فهي كل ما علّق على أسنمة الهدايا علامة على أنها لله سبحانه ، من نعل أو غيره ، وهي سنّة إبراهيمية بقيت في الجاهلية وأقرّها الإسلام في الحج. وأنكرها أبو حنيفة. وقد ثبت في الصحيح ، وذلك مبين في مسائل الخلاف إن شاء الله تعالى.

المسألة الخامسة ـ (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) : يعنى قاصدين له ، من قولهم : أممت كذا ، أى قصدته ، وهذا عامّ في كل من قصده باسم العبادة ، وإن لم يكن من أهلها ، كالكافر ، وهذا قد نسخ بقوله تعالى (٣) : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في قول المفسرين ، وهو تخصيص غير نسخ على ما بيناه في القسم الثاني ، فإنه إن كان أمر بقتل الكفار (٤) فقد بقيت الحرمة للمؤمنين.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) ، وكان سبحانه حرّم الصيد في حال الإحرام بقوله تعالى (٥) : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) ، ثم أباحه بعد الإحلال ، وهو زيادة بيان ؛ لأنّ ربطه التحريم بالإحرام يدلّ على أنه إذا زال الإحرام زال التحريم ، ولكن يجوز أن يبقى التحريم لعلة أخرى غير الإحرام ؛ فبين الله سبحانه عدم العلة بما صرّح به من الإباحة ؛ فكان نصّا في موضع الاستثناء ، وهو محمول على الإباحة اتفاقا ، وقد توهم قوم أنّ حمله على الإباحة إنما كان لأجل تقديم الحظر عليه ، وقد بيناه في أصول الفقه.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) على العدوان على آخرين.

__________________

(١) في القرطبي : (٦ ـ ٣٩) الهدى : ما أهدى إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة.

وقال الجمهور : الهدى عام في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات.

(٢) البدنة : تقع على الجمل والناقة والبقرة ، وهي بالإبل أشبه ؛ وسميت بدنة لعظمها وسمنها (النهاية).

وفي القرطبي (٦ ـ ٣٩) : وتسمية البيضة هديا لا محمل له إلا أنه أراد به الصدقة.

(٣) سورة التوبة ، آية ٥.

(٤) في ا : الكلاب.

(٥) الآية السابقة ـ الأولى من المائدة.

١٥

نزلت هذه الكلمة (١) في الحكم رجل من ربيعة قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال : بم تأمرنا؟ فسمع منه. وقال : أرجع إلى قومي فأخبرهم. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم : لقد جاء بوجه كافر ورجع بقفا غادر. ورجع فأغار على سرح (٢) من سروح المدينة ، فانطلق به ، وقدم بتجارة أيام الحجّ يريد مكة ، فأراد ناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم أن يخرجوا إليه ، فنزلت هذه [الآية] ؛ أي لا تعتدوا [إنّ الله لا يحبّ المعتدين] (٣) بقطع سبل الحج ، وكونوا ممن يعين في التقوى ، لا في التعدّى ، وهذا من معنى الآية منسوخ ، وظاهر عمومها باق في كل حال ، ومع كل أحد ، فلا ينبغي لمسلم أن يحمله (٤) بغض آخر على الاعتداء عليه إن كان ظالما ، فالعقاب معلوم على قدر الظلم ، ولا سبيل إلى الاعتداء عليه إن ظلم غيره ؛ فلا يجوز أخذ أحد عن أحد. قال الله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى). وهذا مما لا خلاف فيه بين الأمة.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٥) : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ؛ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ، فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فيها إحدى وعشرون مسألة :

المسألة الأولى ـ أما قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) ـ فقد تقدم (٦) بيان ذلك في سورة البقرة.

وأما قوله : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فسيأتى في سورة الأنعام إن شاء الله.

__________________

(١) أسباب النزول : ٦٨.

(٢) السرح : الماشية (النهاية).

(٣) من ل.

(٤) هذا تفسير لقوله تعالى : (لا يَجْرِمَنَّكُمْ) ؛ أى لا يحملنكم. والشنآن : البغض.

(٥) الآية الثالثة من السورة.

(٦) في آية ١٧٣ من سورة البقرة ، وقد سبقت في صفحة ٥١ من الجزء الأول.

(٢ / ٢ ـ أحكام القرآن)

١٦

المسألة الثانية ـ وهو قوله : (الْمُنْخَنِقَةُ) ، فهي التي تخنق بحبل بقصد أو بغير قصد ، أو بغير حبل.

المسألة الثالثة ـ الموقوذة : التي تقتل ضربا بالخشب أو بالحجر ، ومنه المقتولة بقوس البندق.

المسألة الرابعة ـ المتردّية ، وهي الساقطة من جبل أو بئر. وأما المتندية وهي :

المسألة الخامسة ـ فيقال : ندت الدابة إذا انفلتت من وثاق فندّت فخرج وراءها فرميت برمح أو سيف فماتت ، فهل يكون رميها ذكاة أم لا؟

فاختلف العلماء في ذلك ؛ فذهب بعضهم إلى أنه يكون ذلك ذكاة فيه ، وهو اختيار الشافعى وابن حبيب.

وقال آخرون : لا يذكى به ، وهو اختيار مالك.

وقد روى البخاري وغيره عن رافع بن خدبح قال : كنّا مع النبي صلّى الله عليه وسلم بذي الخليفة ، وأصاب الناس جوع ، فأصبنا إبلا وغنما ، فندّ (١) منها بعير فصلبوه فلم يقدروا عليه ، فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله ؛ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم : إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش ، فما ندّ عليكم فاصنعوا به هكذا (٢).

فقال الشافعى وغيره : إن تسليط النبي صلّى الله عليه وسلم على هذا الفعل دليل على أنه ذكاة له.

وقال الآخرون : إنما هو تسليط على حبسه لا على ذكاته ؛ فإنه مقدور عليه في غالب الأحوال ، فلا يراعى النادر منه ، وإنما يكون ذلك في الصيد حسبما يأتى بيانه إن شاء الله.

وقد روى أبو العشراء عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ؛ أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللّبة؟ قال : لو طعنت فخذها لأجزأ عنك.

قال يزيد بن هارون : هذا في الضرورة ، وهو حديث صحيح أعجب أحمد بن حنبل ، ورواه عن أبي داود ، وأشار على من دخل عليه من الحفّاظ أن يكتبه.

المسألة السادسة ـ النّطيحة ، وهي الشاة تنطحها الأخرى بقرونها. وقرأ أبو ميسرة : المنطوحة ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة.

__________________

(١) ند منها بعير : شرد وذهب على وجهه (النهاية).

(٢) الأوابد : جمع آبدة وهي التي قد تأبدت ، أى توحشت ونفرت من الإنس. وفي النهاية : فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا.

١٧

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (وَما أَكَلَ السَّبُعُ) :

وكان أهل الجاهلية إذا أكل السبع شاة أكلوا بقيّتها ؛ قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) :

فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنه استثناء مقطوع عما قبله غير عائد إلى شيء من المذكورات ، وذلك مشهور في لسان العرب ، يجعلون إلا بمعنى لكن ، من ذلك قوله (١) : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) : معناه لكن إن قتله خطأ ، وقد تقدم كلامنا عليه ، وأنشد بعضهم لأبى خراش الهذلي (٢) :

أمسى سقام خلاء لا أنيس به

إلّا السباع ومرّ الريح بالغرف

أراد إلا أن يكون به السباع ، أو لكن به السباع. وسقام : واد لهذيل.

ومنه (٣) قول الشاعر :

وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلّا العيس

وقال النابغة (٤) :

وما بالرّبع من أحد

إلّا الأوارىّ

ومن أبدعه قول جرير (٥) :

من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ

من الأرض إلا ذيل برد مرحّل

كأنه قال : لم تطأ على الأرض إلّا أن تطأ ذيل برد مرحّل. أخبرنا بذلك كله أبو الحسن الطيوري ، عن البرمكي ، والقزويني ، عن أبي عمر بن حيوة ، عن أبي عمر محمد ابن عبد الواحد ، ومن أصله نقلته.

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٩١.

(٢) معجم البلدان ـ مادة سقم.

(٣) في ل : ومثله.

(٤) من بيتين له في ديوانه (٢٥) وهما :

وقفت بها أصيلانا أسائلها

عيت جوابا وما بالربع من أحد

إلا الأوارى لأيا ما أبينها

والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد

(٥) ديوانه ٤٥٧ ، وفيه : إلا نير مرط مرحل. وبرد مرحل : عليه تصاوير الرحال.

١٨

الثاني ـ أنه استثناء متصل ، وهو ظاهر الاستثناء ، ولكنه يرجع إلى ما بعد قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ـ وَالْمُنْخَنِقَةُ) إلى (... ما أَكَلَ السَّبُعُ).

الثالث ـ أنه يرجع الاستثناء إلى التحريم لا إلى المحرم ، ويبقى على ظاهره.

المسألة التاسعة في المختار :

وذلك أنّا نقول : إن الاستثناء المنقطع لا ينكر في اللغة ولا [في الشريعة] (١) في القرآن ولا في الحديث حسبما أشرنا إليه في سورة النساء ، كما أنه لا يخفى أنّ الاستثناء المتصل هو أصل اللغة ، وجمهور الكلام ، ولا يرجع إلى المنقطع إلا إذا تعذّر المتصل. وتعذّر المتصل يكون من وجهين : إما عقليا وإما شرعيا ؛ فتعذّر الاتصال العقلي هو ما قدمناه من الأمثلة قبل هذا في الأول. وأما التعذّر الشرعي (٢) فكقوله تعالى (٣) : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ). فإنّه قوله : (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) ليس رفعا لمتقدم ، وإنما هو بمعنى لكن. وقوله (٤) : (طه. ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى). وقوله (٥) : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ. إِلَّا مَنْ ظَلَمَ).

عدنا إلى قوله : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ، قلنا : فأما الذي يمنع أن يعود إلى ما يمكن إعادته إليه ، وهو قوله : (الْمُنْخَنِقَةُ) إلى آخرها كما قال علىّ رضى الله عنه : إذا أدركت ذكاة الموقوذة وهي تحرك يدا أو رجلا فكلها ، وبه قال ابن عباس وزيد بن ثابت ؛ وهو خال عن مانع شرعىّ يردّه ؛ بل قد أحلّه الشرع ؛ فقد ثبت أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما بالجبل الذي بالسوق ، وهو سلع (٦) ، فأصيبت منها شاة فكسرت حجرا فذبحتها ، فذكروا ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم فأمر بأكلها.

وروى النسائي عن زيد بن ثابت ـ أن ذئبا نيّب (٧) شاة فذبحوها بمروة (٨) ، فرخّص النبي صلّى الله عليه وسلم في أكلها.

__________________

(١) ليس في ل.

(٢) في ل : وأما تعذر الاتصال الشرعي.

(٣) سورة يونس ، آية ٩٨

(٤) سورة طه ، آية ١ ، ٢ ، ٣.

(٥) سورة النمل ، آية ١٠ ، ١١

(٦) في القرطبي : كانت ترعى غنما له بسلع. وسلع : جبل بسوق المدينة (ياقوت).

(٧) في ا : نيبت.

ونيب الشاة : أثر فيها بنابه (القاموس).

(٨) المرو : حجارة بيض براقة (القاموس).

١٩

المسألة العاشرة ـ اختلف قول مالك في هذه الأشياء ؛ فروى عنه أنه لا يؤكل إلا ما كان بذكاة صحيحة. والذي في الموطأ عنه أنه إن كان ذبحها ونفسها يجرى وهي تطرف فليأكلها (١) ، وهذا هو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده ، وقرأه على الناس من كل بلد عمره ، فهو أولى من الروايات الغابرة ، لا سيما والذكاة عبادة كلفها الله سبحانه عباده للحكمة التي [يأتى] (٢) بيانها في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.

وهذا هو أحد متعلقات الذكاة ، وهو القول في الذكاة ، وهو يتعلق بأربعة أنواع : المذكّى ، والمذكّى ، والآلة ، والتذكية نفسها. فأما المذكّى فيتعلق القول فيه بأنواع المحلات والمحرمات ، وسيأتى ذلك في سورة الأنعام إن شاء الله.

وأما المذكّى وهو الذابح فبيانه فيها إن شاء الله.

وأما التذكية نفسها (٣) والآلة فهذا موضع ذلك :

المسألة الحادية عشرة ـ في التذكية ، وهي في اللغة عبارة عن التمام ، ومنه ذكاء السنّ (٤) ، ويقال : ذكيت النار إذا أتممت اشتعالها ، فقال بعضهم : لا بد أن تبقى في المذكّاة بقية تشخب معها الأوداج ويضطرب اضطراب المذبوح.

وقد تقدم قوله في الحديث المتقدم الذي صرح فيه بأنّ الشاة أدركها الموت ، وهذا يمنع من شخب أوداجها ، وإنما أصاب الغرض مالك في قوله : إذا ذبحها ونفسها تجرى وهي تضطرب ـ إشارة (٥) إلى أنها وجد فيها قتل (٦) صار باسم الله المذكور عليها ذكاة ، أى تمام يحلّها وتطهير لها ، كما جاء في الحديث في الأرض النجسة : ذكاة الأرض يبسها.

وهي في الشرع عبارة عن انهار الدم ، وفرى الأوداج (٧) في المذبوح ، والنّحر في المنحور ، والعقر في غير المقدور عليه كما تقدّم ؛ مقرونا ذلك بنيّة القصد إليه. وذكر الله تعالى عليه كما يأتى بيانه في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.

والأصل في ذلك الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قيل له (٨) : إنا لاقو

__________________

(١) في ا : فيأكل. والحديث في الموطأ : ٤٩٠.

(٢) من ل.

(٣) في ل : بنفسها.

(٤) في القرطبي : تمام السن. وذكاة : اسم للشمس.

(٥) في ا : وأشار.

(٦) في ا : فعل.

(٧) الأوداج : ما أحاط بالعنق من العروق التي يقطعها الذابح. وفرى الأوداج : شقها وقطعها حتى يخرج منها الدم.

(٨) صحيح مسلم : ١٥٥٨ ، وأنهر الدم : أساله.

٢٠