أحكام القرآن - ج ١

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٣

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) : هذا يدلّ على وجوب المهر في النكاح ، وقد تقدم.

المسألة الرابعة ـ هذا نصّ على أنه يسمى أجرة ، ودليل هذا (١) أنه في مقابلة المنفعة البضعية ؛ لأنّ ما يقابل المنفعة يسمّى أجرة.

وقد اختلف الناس في المعقود عليه النكاح ما هو؟ بدن المرأة ، أو منفعة البضع ، أو الحل؟ وقد مهدناه في مسائل الخلاف عند ذكرنا ما تردّ به الزوجة من العيوب.

المسألة الخامسة ـ هذا يدلّ على وجوب المهر للأمة ، وقد أنكر ذلك الشافعىّ وقال: إنه عوض منفعة لا يكون للأمة ، أصله إجازة (٢) المنفعة في الرقبة.

وقال علماؤنا : إنّ السيد إذا زوّج أمته فقد ملك منها ما لم يكن يملك ؛ لأنّ السيد لم يكن يملك غشيانها بالتزويج ، وإنما كان يملكه بملك اليمين ، فهذا العقد لها لا له ، فعوضه لها بخلاف منافع الرقبة فإنها والعقد عليها للسيد ، وهذا ظاهر لا يفتقر إلى إطناب.

المسألة السادسة ـ ما يعنى بالمعروف؟ يعنى الواجب ، وهو ضد المنكر ، وليس يريد به المعروف الذي هو العرف والعادة ؛ وستراه مبيّنا في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) يعنى عفائف غير زانيات.

وقد استدلّ بها من حرّم نكاح الزانية ، وهو الحسن البصري ، وقال إنه شرط في النكاح الإحصان وهو العفّة (٣) ، وأيضا فإنّ الله تعالى قال في سورة النور (٤) : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ، وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

وقالت طائفة : معنى قوله : محصنات ، أى بنكاح لا بزنى ، وهذا ضعيف جدّا ، لأنّ الله تعالى قد قال قبل هذا : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) ، فكيف يقول بعد ذلك منكوحات ، فيكون تكرارا في الكلام قبيحا في النظام ، وإنما شرط الله ذلك صيانة للماء الحلال عن الماء الحرام ؛ فإنّ الزانية لا يجوز عندنا نكاحها حتى تستبرأ.

__________________

(١) في ا : بدليل على أنه ، وهو تحريف.

(٢) في الأصول : إجارة والمثبت في القرطبي : ٥ ـ ١٤٢

(٣) في ل : وهو الفقه.

(٤) سورة النور ، آية ٣

٤٠١

وقال أبو حنيفة والشافعى : يجوز نكاحها اليوم لمن زنى بها البارحة ، ولمن لم يزن بها مع شغل رحمها بالماء ، فهذه هي الزانية التي حرّم الله نكاحها ؛ فقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره. وثبت عنه أنه قال : لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تحيض في وطء ونسب ليس لهما حرمة. وذلك في وطء الكفّار ؛ لكن إن لم يكن للماء المستقرّ في الرحم حرمة فللماء الوارد عليه حرمة ، فكيف يمتزج ماء محترم بماء غير محترم ، وفي ذلك خلط الأنساب الصحيحة بالمياه الفاسدة.

وأما قوله : الزاني لا ينكح إلا زانية ، فهي آية مشكلة ، اختلف فيها السلف قديما وحديثا ، والمتحصّل فيها أربعة أقوال :

الأول ـ أنه روى عن عبد الله بن عمر أنّ رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نكاح امرأة كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه ، وكذلك كنّ نساء معلومات يفعلن ذلك فيتزوجن الرجل من فقراء المسلمين لتنفق المرأة منهن عليه ، فنهاهم الله عن ذلك.

الثاني ـ قال ابن عباس ونحوه عن قتادة ومجاهد عن بغايا كن ينصبن على أبوابهن كراية البيطار ، وكانت بيوتهن تسمّى المواخير ، لا يدخل إليهن إلا زان من أهل القبلة أو مشرك ، فحرّم الله ذلك على المؤمنين.

الثالث ـ قال سعيد بن جبير : لا يزنى الزاني إلا بزانية مثله أو مشركة ، ونحوه عن عكرمة.

الرابع ـ قال سعيد بن المسيّب : نسخها قوله (١) : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ). وقال أنس : من أيامى المسلمين.

وقد أكّد رواية ابن عمر ما رواه الترمذي عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رجل يقال له مرثد بن أبى مرثد ، وكان رجل يحمل الأسرى من مكّة حتى يأتى بهم المدينة. قال : وكانت امرأة بغىّ بمكة يقال لها عناق ، وكان صديقا لها ، وإنه واعد رجلا من أسرى مكة يحمله. قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظلّ حائط من حوائط مكة في ليلة

__________________

(١) سورة النور ، آية ٣٢

٤٠٢

مقمرة قال : فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلّى بجنب الحائط ، فلما انتهت إلىّ عرفتني ، فقالت : مرثد! فقلت : مرثد. فقالت : مرحبا وأهلا ، هلمّ فبت عندنا الليلة. قال : قلت: باعناق ، حرّم الله الزنا ، قالت : يأهل الخيام ، هذا الرجل يحمل أسراكم ... وذكر الحديث. قال : حتى قدمت المدينة فقلت : يا رسول الله ، أأنكح عناق؟ فأمسك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يردّ علىّ شيئا ، فنزلت (١) : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) ... الآية. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : يا مرثد ، الزاني لا ينكح ... وقرأها إلى آخرها ، وقال له : فلا تنكحها.

فأما من قال : إنها نزلت في بغايا معلومات فكلام صحيح.

وأما من قال : إنّ معناه الزاني لا يزنى إلا زانية فما أصاب فيه غيره ، وهي من علوم القرآن المأثورة عن معلمه المعظم ابن عباس.

وأما من قال : لا ينكح المحدود إلا محدودة ، وهو الحسن ، يريد أنّ معنى الآية : الزانية التي تبيّن زناها ، ويصحّ أن يخبر عنها به ؛ وذلك لا يكون إلا فيمن نفذ عليه الحدّ ؛ وقبيل نفوذ الحدّ هي محصنة يحدّ قاذفها ، وهو الذي منع من نكاحها ومعه نتكلم وعليه نحتج. وإذا قال القائل : إنّ معناه إذا زنى بامرأة فلا يتزوجها فيشبه أن يكون قولا ، لكن مخرجه ما قدمناه من أنّ تحريم ذلك إنما يكون قبل الاستبراء ، وتكون الآية مسوقة لبيان أنه لا يسترسل على المياه الفاسدة بالنكاح إلّا زان أو مشرك كما سبق ، أو يكون معناه ما اختاره عالم القرآن ؛ قال : المراد بالنكاح الوطء ، والآية نزلت في البغايا المشركات ؛ والدليل عليه أنّ الزانية من المسلمات حرام على المشرك ، وأنّ الزاني من المسلمين حرام عليه المشركات ، فمعنى الآية أنّ الزاني لا يزنى إلا بزانية لا تستحلّ الزنا أو بمشركة تستحله ، والزانية لا يزنى بها إلّا زان لا يستحل الزنا أو مشرك يستحله.

وأما من قال : إنّ الآية منسوخة فما فهم النسخ ؛ إذ بيّنا أنه لا يكون إلا بين الآيتين المتعارضتين من كل وجه ؛ بل الآية التي احتجّ بها عاضدة لهذه الآية وموافقة لها ؛ لأنّ الله تعالى حرّم نكاح الزناة (٢) والزواني ، وأمر بنكاح الصالحات والصالحين.

__________________

(١) سورة النور ، آية ٣

(٢) في ل : الزانية والزاني.

٤٠٣

المسألة الثامنة ـ هذه الآية وإن كانت بصيغة الخبر فكذلك هو معناها (١) ، وهي خبر عن حكم الشرع ، فإن وجد خلاف المخبر فليس من الشرع على ما تقدّم بيانه في سورة البقرة.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) :

كانت البغايا في الجاهلية على قسمين : مشهورات ومتخذات أخدان ، وكانوا بعقولهم يحرّمون ما ظهر من الزنا ويحلّون ما بطن ؛ فنهى الله سبحانه عن الجميع.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) يدلّ على أنّ فتى وفتاة وصف للعبيد ، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : لا يقولنّ أحدكم عبدى وأمتى وليقل فتاي وفتأتي. ومن ها هنا قال بعضهم : إنّ يوشع بن نون كان عبدا لموسى عليه السلام لقوله تعالى (٢) : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ) ؛ والله أعلم.

الآية الثانية والعشرون ـ قوله تعالى (٣) : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ، ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

فيها سبع مسائل :

المسألة الأولى ـ معنى الإحصان هاهنا مما اختلف فيه ؛ فقال قوم : هو الإسلام ؛ قائله ابن مسعود والشعبي والزّهرى وغيرهم. وقال آخرون : أحصنّ : تزوجن ؛ قاله ابن عباس وسعيد ابن جبير. وقال مجاهد : هو أن يتزوّج العبد حرة والأمة حرّا ، ويروى عن ابن عباس. وقال الشافعى : تحدّ الكافرة على الزنا ، ولا يشترط الإسلام ولا النكاح.

وقرئ أحصن بفتح الهمزة وأحصن بضمها ، فمن قرأه بالفتح قال معناه : أسلمن ، والإسلام أحد معاني الإحصان. ومن قرأ أحصن ـ بالضم ـ قال معناه : زوّجن.

وقد يحتمل أن يكون أحصن ـ بفتح الهمزة زوجن ، فيضاف الفعل إليهن لما وجد بهن.

__________________

(١) في ل : معناه أو هي خبر لكم عن حكم الشرع.

(٢) سورة الكهف ، آية ٦٠.

(٣) من الآية الخامسة والعشرين.

٤٠٤

وقد يحتمل أن يكون أحصن بضم الهمزة : أسلمن : معناه منعن بالإسلام من أحكام الكفر. والظاهر في الإطلاق هو الأول.

ومن شرط نكاح الحرّ والحرة لا معنى له ولا دليل عليه.

والإحصان هو الإسلام من غير شك ؛ لأنّه أول درجات الإحصان ، فلا ينزل عنه (١) إلا بدليل ، ويكون تقدير الآية : ومن لم يستطع أن ينكح الحرائر المؤمنات فلينكح المملوكات المؤمنات ، فإذا أسلمن فعليهن نصف ما على الحرائر من الحدّ ولا يتنصف الرجم ، فليسقط اعتباره. ويكون المراد ما يتشطر وهو الجلد ، وعلى قول الآخرين (٢) يكون التقدير: فإذا تزوّجن فعليهن نصف ما على الأبكار من العذاب ، وهو الجلد.

ونحن أسدّ تأويلا لوجهين :

أحدهما ـ أنّ قوله : المؤمنات ، يقتضى الإسلام. فقوله : (فَإِذا أُحْصِنَ) يجب أن يحمل على فائدة مجردة.

الثاني ـ أنّ المسلمة داخلة تحت قوله (٣) : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، فتناولها عموم هذا الخطاب.

فإن قيل : فخذوا الكافر بهذا العموم.

قلنا : الكافر له عهد ألّا نعترض (٤) عليه.

فإن قيل : فالرقيق لا عهد له.

قلنا : الرقّ عهد إذا ضرب عليه لم يكن بعده سبيل إليه إلا بطريق التأديب والمصلحة لتظاهره بالفاحشة إن أظهرها.

المسألة الثانية ـ روى الأئمة بأجمعهم عن أبى هريرة وزيد بن خالد الجهني أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن. قال : إن زنت فاجلدوها ثلاثا ثم بيعوها ولو بضفير. قال ابن شهاب : لا أدرى بعد الثالثة أو الرابعة.

وروى مسلم (٥) وأبو داود والنسائي عن علىّ بن أبى طالب : قال النبي صلّى الله عليه وسلّم :

__________________

(١) في ا : عليه.

(٢) في ل : وعلى القول الآخر.

(٣) سورة النور ، آية ٢

(٤) في ل : ولا نعترض عليه.

(٥) في ل : رواه مسلم.

٤٠٥

أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن منهم ومن لم يحصن. وهذا نصّ عموم في جلد من تزوّج ومن لم يتزوج.

المسألة الثالثة ـ قال مالك والشافعى : يقيم السيد الحدّ على مملوكه دون رأى الإمام.

وقال أبو حنيفة : لا يقيمه إلا نائب الله وهو الإمام ؛ لأنه حقّ الله تعالى.

ودليلنا قوله تعالى : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ) ولم يعيّن من يقيمه ؛ فبيّنه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم ، وجعل ذلك إلى السادات ، وهم نوّاب الله في ذلك ، كما ينوب آحاد الناس في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

فإن قيل : وكيف يتّفق للسيد أن يقيم حدّ الزنا ؛ أيقيمه بعلمه أم بالشهود فيتصدّى (١) منصب قاض وتؤدّى عنده الشهادة؟

قلنا : قال النبي صلّى الله عليه وسلّم (٢) : إذا زنت أمة أحدكم فتبيّن زناها فليجلدها الحدّ ولا يثرب (٣) عليها. وهو حديث صحيح عند الأئمة.

والزّنا يتبيّن بالشهادة ، وذلك يكون عند الحاكم ؛ أو بالحمل ، ولا يحتاج فيه السيد (٤) إلى الإمام ، ولكنه يقيمه عليها بما ظهر من حملها إذا وضعته وفصلت من نفسها ؛ لقول علىّ في الصحيح : إنّ أمة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم زنت فأمرنى أن أجلدها الحدّ ، فوجدتها حديثة عهد بنفاس ، فخفت إن أنا جلدتها أن أقتلها فتركتها فأخبرته. فقال : أحسنت.

ولهذا خاطب السادات بذكر الإماء اللاتي يتبيّن زناهنّ بالحمل ، وسكت عن العبيد الذين لا يظهر زناهم إلّا بالشهادة.

المسألة الرابعة ـ دخل الذكور تحت الإناث في قوله : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) بعلّة المملوكية ، كما دخل الإماء تحت قوله : من أعتق شركا له في عبد ؛ بعلّة سراية العتق وتغليب حقّ الله تعالى فيه على حقّ الملك.

__________________

(١) في ا : فيتعدى.

(٢) صحيح مسلم : ١٣٢٨

(٣) لا يثرب : لا يوبخها ولا يقرعها بالزنا بعد الضرب.

(٤) في ا : السير.

٤٠٦

وأبين من هذا أنه فهم من قوله (١) : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) دخول المحصنين فيه. والله أعلم.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ).

اختلف الناس في العنت على خمسة أقوال :

الأول ـ أنه الزنا ؛ قاله ابن عباس.

الثاني ـ أنه الإثم.

الثالث ـ العقوبة.

الرابع ـ الهلاك.

الخامس ـ قال الطبري : كل ما يعنت المرء عنت ، وهذه كلّها تعنته ، وهذا صحيح ؛ فمن خاف شيئا من ذلك فقد وجد شرطه ، وأصله الزنا كما قال ابن عباس فعليه عوّل.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ).

يدلّ على كراهية نكاح الأمة ؛ لما فيه من خوف إرقاق الولد وجواز خوف هلاك المرء ؛ فاجتمعت فيه مضرّتان دفعت الأعلى بالأدنى ، فقدّم المتحقق على المتوهم. والله أعلم.

المسألة السابعة ـ هذا يدلّ على أنّ العزل حقّ المرأة ؛ لأنه لو كان حقا للرجل لكان له أن يتزوّج ويعزل ، فينقطع خوف إرقاق الولد في الغالب ، وبه قال مالك.

وقال الشافعى وأبو حنيفة : ليس للمرأة حقّ إلّا في الإيلاج ، وهذا ضعيف ؛ فإن النكاح إنما عقد للوطء ، وكلّ واحد من الزوجين له فيه حق ، وكما أنّ للرجل فيه حقّ الغاية وهو الإيلاج والتكرار فللمرأة فيه غاية الإنزال وتمام ذوق العسيلة ، فبه تتمّ اللذة للفريقين ؛ فإن أراد الرجل إسقاط حقّه والوقوف دون هذه الغاية فللمرأة حقّ بلوغها.

الآية الثالثة والعشرون ـ قوله تعالى (٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).

__________________

(١) سورة النور ، آية ٤

(٢) الآية التاسعة والعشرون ، والثلاثون.

٤٠٧

الآية فيها إحدى عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ القول في صدر هذه الآية ، وهو أكل المال بالباطل ، قد تقدّم في سورة البقرة (١).

المسألة الثانية ـ قوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً).

التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ، ومنه (٢) الأجر الذي يعطيه الباري عوضا عن الأعمال الصالحة التي هي بعض من فضله ، فكلّ معاوضة تجارة على أىّ وجه كان العوض ، إلا أنّ قوله : (بِالْباطِلِ) أخرج منها كلّ عوض لا يجوز شرعا من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير ووجوه الربا ، حسبما تقدم بيانه.

فإذا ثبت هذا فكلّ معاوض إنما يطلب الربح إمّا في وصف العوض أو في قدره ؛ وهو أمر يقتضيه القصد من التاجر لا لفظ التجارة.

المسألة الثالثة ـ من جملة أكل المال بالباطل بيع العربان ، وهو أن يأخذ منك السلعة ويعطيك درهما على أنه إن اشتراها تمّم الثمن ، وإن لم يشترها فالدرهم لك ، وقد روى مالك في الموطّأ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ـ أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع العربان (٣).

المسألة الرابعة ـ لمّا شرط العوض في أكل المال وصارت تجارة خرج عنها كلّ عقد لا عوض فيه يرد على المال ، كالهبة والصدقة ، فلا يتناوله مطلق اللفظ ، وجازت عقود البيوعات بأدلّة أخر من القرآن والسنة على ما عرف ، ويأتى ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

المسألة الخامسة ـ الربح هو ما يكتسبه المرء زائدا على قيمة معوضه فيأذن (٤) له فيه إذا كان معه أصل العوض في المعاملة ، ويكون ذلك الربح بحسب حاجة المشترى والبائع إلى عقد الصفقة ، فالزيادة أبدا تكون من جهة المحتاج ؛ إن احتاج البائع أعطى زائدا على الثمن من قيمة سلعته ، وإن احتاج المشترى أعطى زائدا من الثمن ، وذلك يكون يسيرا في الغالب ، فإن كان الربح متفاوتا فاختلف فيه العلماء ؛ فأجازه جميعهم ، وردّه مالك في إحدى روايتيه إذا كان المغبون لا بصر له بتلك السلعة ، ولذا جوّزه فراعى أنّ المغبون مفرط ؛

__________________

(١) صفحة ٩٦

(٢) في ا : وفيه.

(٣) ونهى عن بيع العربان ، تفسيره

في حديث آخر : لا تبع ما ليس عندك لما فيه من الغرر.

(٤) في ل : وأذن له فيه.

٤٠٨

إذ كان من حقه أن يشترى لنفسه ويشاور (١) من يعلم أو يوكله ، وإذا رددناه فلأنّه من أكل المال بالباطل ؛ إذ ليس تبرعا ولا معاوضة ؛ فإنّ المعاوضة عند الناس لا تخرج إلى هذا التفاوت ، وإنما هو من باب الخلابة ، والخلابة ممنوعة شرعا مع ضعفها كالغلابة ـ وهو الغصب ، ممنوعة شرعا مع قوتها (٢) ، وتدخل تحت قوله صلّى الله عليه وسلّم : لا ضرر ولا ضرار. ألا ترى أن تلقّى الركبان يتعلق به الخيار عند تبيّن الحال ، وهو من هذا الباب ، وقد قرّرناه قبل هذا في موضعين ، فلنجمع الكلام على الآية فيها كلّها.

المسألة السادسة ـ قال عكرمة والحسن البصري وغيرهما : خرج عن هذه الآية التبرّعات كلها ، وإنما جوّز الشرع التجارة وبقي غيرها على مقتضى النهى حتى نسخها قوله(٣) : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا) ... ؛ وهذا ضعيف جدا ؛ فإنّ الآية لم تقتض تحريم التبرعات ؛ وإنما اقتضت تحريم المعاوضة الفاسدة ؛ وقد بينا ذلك في القسم الثاني من الناسخ والمنسوخ.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) :

وهو حرف أشكل على العلماء حتى اضطربت فيه آراؤهم :

قال بعضهم : التراضي هو التخاير بعد عقد البيع قبل الافتراق من المجلس ، وبه قال ابن عمر وأبو هريرة وشريح والشعبي وابن سيرين والشافعى ، وتعلّقوا بحديث ابن عمر وغيره (٤) : المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلّا بيع الخيار.

وقال آخرون : إذا تواجبا بالقول فقد تراضيا ، يروى عن عمر وغيره ، وبه قال أبو حنيفة ومالك والصحابة.

واختار الطبري أن يكون تأويل الآية : إلا تجارة تعاقدتموها وافترقتم بأبدانكم عن تراض منكم فيها ؛ وهذه دعوى إنما يدلّ مطلق الآية على التجارة على الرضا ، وذلك ينقضي بالعقد ، وينقطع بالتواجب ، وبقاء التخاير في المجلس لا تشهد له الآية لا نطقا ولا تنبيها ، وكلّ آية وردت في ذكر البيع والشراء والمدينة والمعاملة إنما هي مطلقة لا ذكر للمجلس

__________________

(١) في ا : وليشاور.

(٢) في ل : مع قوته.

(٣) سورة النور ، آية ٦١

(٤) صحيح مسلم : ١١٦٣ ، وفيه : البيعان.

٤٠٩

فيها ولا لافتراق الأبدان منها ؛ كقوله (١) : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ؛ فإذا عقد ولم يبرم لم يكن وفاء ، وإذا عقد ورجع عن عقده لم يكن بين الكلام والسكوت فرق ، بل السكوت خير منه ، لأنه تعب (٢) ولا التزم ولا أخبر عن شيء ، فتبيّن الأمر ، وتقدّم العذر ، وإذا عقد وحلّ بعد ذلك كان كلامه تعبا ولغوا ، وما الإنسان لو لا اللسان ، وقد أخبر بلسانه عن عقده ورضاه ، فأىّ شيء بقي بعد هذا؟

وكذلك قوله في آية الدّين (٣) : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) ، فإذا أملى وكتب وأعطى الأجرة ثم عاد ومحا ما كتب كان تلاعبا وفسخا لعقد آخر قد تقرّر.

وكذلك قال (٤) : (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) ، وإذا حلّه فقد بخسه كلّه.

وكذلك قال (٥) : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ). وعلى أى شيء يشهدون؟ ولم يلزم عقد ولا انبرم أمر.

وكذلك قوله : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) يلزم منه ما لزم من قوله : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ). وكذلك قوله (٦) : (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) فيضيف عقدا إلى غير عقد ، ويرتهن إلى غير واجب ؛ واعتبار خيار المجلس وحده مبطل لهذا كله ، فأىّ الأمرين أولى أن يراعى؟ وأى الحالين أقوى أن يعتبر؟

فإن قيل : أمر الله تعالى بالكتابة والإشهاد محمول على الغالب في أن المتبايعين لا يفترقان حتى ينقضي ذلك كله.

قلنا : الغالب ضدّه ، وكيف يتصوّر بقاء الشهود حتى يقوم (٧) المتعاقدان؟ هذا لم يعهد (٨) ولم يتفق.

فإن تعلّقوا بخبر ابن عمر وغيره في خيار المجلس فهذا خروج عن القرآن إلى الأخبار وقد تكلمنا على ذلك في مسائل الخلاف بما يجب ، فلا ندخله في غير موضعه.

__________________

(١) سورة المائدة ، آية ١

(٢) في ا : لم يتعب. والمثبت من ل.

(٣) سورة البقرة آية ٢٨٢

(٤) سورة البقرة ، آية ٢٨٣.

(٥) في ا : حتى يقدم.

(٦) في ا : لم يعمد. وهو تحريف.

٤١٠

المسألة الثامنة ـ هذا نصّ على إبطال بيع المكره لفوات الرّضا فيه ، وتنبيه على إبطال أفعاله كلّها حملا عليه.

المسألة التاسعة ـ قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) :

فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ لا تقتلوا أهل ملّتكم. الثاني ـ لا يقتل بعضكم بعضا. الثالث ـ لا تقتلوا أنفسكم بفعل ما نهيتم عنه ؛ قاله الطبري والأكثر من العلماء.

وكلّها صحيح وإن كان بعضها أقعد من بعض في الدّين من اللفظ واستيفاء المعنى.

والذي يصحّ عندي أن معناه : ولا تقتلوا أنفسكم بفعل ما نهيتم عنه ، فكلّ ذلك داخل تحته ، ولكن ها هنا دقيقة من النظر ؛ وهي أنّ هذا الذي اخترناه يستوفى المعنى ، ولكنه مجاز في لفظ القتل ، وعلى حمل (١) الآية على صريح القتل يكون قوله : (أَنْفُسَكُمْ) مجازا أيضا ، فإذا لم يكن بدّ من المجاز فمجاز يستوفى المعنى ويقوم بالكل أولى ؛ وهذا كقوله تعالى (٢) : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) ، فتدبّروه عليه.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً) :

دليل على أنّ فعل الناسي والخاطئ والمكره لا يدخل في ذلك ؛ لأنّ هذه الأفعال لا تتّصف بالعدوان والظلم ، إلا فرع واحد منها وهو المكره على القتل ، فإنّ فعله يتّصف إجماعا بالعدوان ؛ فلا جرم يقتل عندنا بمن قتله ، ولا ينتصب الإكراه عذرا ، وقد بيّناه في مسائل الخلاف.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً) :

اختلف في مرجعه ؛ فقيل إلى ما نهى عنه من قوله (٣) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) إلى هاهنا ؛ لأن ما تقدّم قبله من أول السورة وعيده فيه.

وقيل : إنه يرجع إلى الكلّ ؛ لأن كون وعيده جاء معه مخصوصا لا يمنع أن يدخل في العموم أيضا ؛ إذ لا تناقض فيه ؛ بل فيه تأكيد له. قال (٤) ابن العربي : ها هنا دقيقة

__________________

(١) في ا : الحمل ، وهو تحريف.

(٢) سورة الحجرات ، آية ١١

(٣) سورة النساء ، آية ١٩

(٤) في ا : تأكيد لقول العربي ، والمثبت من ل.

٤١١

أغفلها العلماء ؛ وذلك أنها إذا نزلت لا نعلم هل كان ذلك بعد استقرار ما سبقها من أول السورة إلى هنا منزّلا مكتوبا ، أم نزل جميعه بعد نزولها؟ وإذا علمنا أنّ ذلك كلّه تقدم نزولا وكتابة لا يقتضى قوله ذلك إشارة إلى جميع ما تقدم من أول السورة دون ما تقدم من أول القرآن دون جميع ما فيه من ممنوع محرّم.

فالأصح أنّ قوله : (ذلِكَ) يرجع إلى قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) يقينا ؛ وغيره محتمل موقوف على الدليل ، والله أعلم.

الآية الرابعة والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ، وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

يروى (٢) أن أمّ سلمة قالت : يا رسول الله ، نغزو الرجال ولا نغزو؟ ويذكر الرجال ولا نذكر؟ ولنا نصف الميراث! فأنزل الله سبحانه هذه الآية : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ).

المسألة الثانية ـ في حقيقة التمني ، وهو نوع من الإرادة يتعلق بالمستقبل ، كالتلهف نوع منها يتعلق بالماضي.

المسألة الثالثة ـ نهى الله سبحانه عن التمني ؛ لأنّ فيه تعلق البال بالماضي ونسيان الآجل ، ولأجل ما فيه من ذلك وقع النهى عنه ، وتفطّن البخاري له فعقد له في جامعه كتابا فقال : كتاب التمني ، وأدخل فيه أبوابا ومسائل هناك ترى مستوفاة بالغة إن شاء الله تعالى.

المسألة الرابعة ـ المراد ها هنا النهى عن التمني الذي تستحسنه عند الغير حتى ينتقل إليك ، وهو الحسد المنهىّ عنه مطلقا في غير هذا الموضع. أمّا أنه يجوز تمنّى مثله وهي الغبطة ، فيستحبّ الغبط في الخير ؛ وهو المراد بقوله صلّى الله عليه وسلّم : لا حسد إلا

__________________

(١) الآية الثانية والثلاثون.

(٢) أسباب النزول : ٨٥

٤١٢

في اثنتين : رجل يتلو القرآن ، وآخر يعمل الحكمة ويعلمها. هذا معناه. قال : اعملوا ولا تتمنّوا ، فليتكم قمتم بما أوتيتم ، واستطعتم ما عندكم.

وأحسن عبارة في ذلك قول الصوفية : كن طالب حقوق مولاك ولا تتبع متعلقات هواك.

وقال الحسن : لا يتمنينّ أحد المال وما يدريه لعل هلاكه فيه.

وهذا إنما يصح إذا تمنّاه للدنيا ، وأما إذا تمناه للخير فقد جوّزه الشرع كما تقدّم ؛ فيتمناه العبد ليصل به إلى الرب ويفعل الله ما يشاء.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ).

قال علماؤنا : أما نصيبهم في الأجر فسواء ؛ كلّ حسنة بعشر أمثالها ، للرجل والمرأة كذلك ، واسألوا الله من فضله.

وأما نصيبهم في مال الدنيا فبحسب ما علمه الله من المصالح ، وركب الخلق عليه من التقدير والتدبير رتّب أنصباءهم ، فلا تتمنوا ما حكم الله به وأحكم بما علم ودبّر حكمه.

الآية الخامسة والعشرون ـ قوله تعالى (١) : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ المولى في لسان العرب ينطلق على ثمانية معان ، قد بيناها في كتاب الأمد وغيره ، وأصله من الولي وهو القرب ، وتختلف درجات القرب وأسبابه.

المسألة الثانية ـ [معناه] (٢) مولى العصبة ؛ قاله مجاهد وابن عباس ، وهذا صحيح لقوله بعد ذلك : (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ). وليس بعد الوالدين والأقربين إلا العصبة ، ويفسّره ويعضده حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم : ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر.

__________________

(١) الآية الثالثة والثلاثون.

(٢) من ل.

٤١٣

المسألة الثالثة ـ المولى المنعم بالعتق في حكم القريب ؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم : للولاء لحمة كلحمة النسب. وليس المنعم عليه بالعتق نسيبا ولا وارثا ؛ وإنما ثبت حكم النسب من إحدى الجهتين ، فكأنّ الولاء أبوة لأنه أوجده بالعتق حكما ، كما أوجد الأب ابنه بالاكتساب للوطء حسّا.

قال طاوس والحسن بن زياد : هو وارث ؛ لأنّ حكم النسب إذا ثبت من إحدى الجهتين وجب أن يثبت من الأخرى ، لا سيما وقد قال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم : مولى القوم منهم.

واستهان العلماء بهذا الكلام ، وهي في غاية الإشكال ، وقد أجابوا عنه بأنّ الميراث إنما هو في مقابلة الإنعام بالعتق ؛ وهذا فاسد من وجهين :

أحدهما ـ أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم جعله لحمة كلحمة النسب. الثاني ـ أنّ الإنعام بالعتق لا مقابل له إلّا العتق من النار حسبما قابله [به] (١) النبىّ صلّى الله عليه وسلّم حين قال : أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار.

وليس في المسألة عندي متعلق إلا الإجماع السابق لطاوس فيه ولمن قاله بعده.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ).

اختلف الناس فيه وابن عباس ، فتارة قال : كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر ، فأنزل الله تعالى (٢) : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) : يعنى تؤتوهم من الوصية جميلا وإحسانا في الثلث المأذون فيه. وتارة قال : كان المهاجرون لما قدموا المدينة حالف النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بينهم ، فكان الأنصارى يرث المهاجرىّ ، والمهاجرىّ يرث الأنصارى ؛ فنزلت هذه الآية ، ثم انقطع ذلك فلا تواخى بين أحد اليوم.

وقال ابن المسيب : نزلت (٣) في الذين كانوا يتبنون الأبناء ، فردّ الله الميراث إلى ذوى الأرحام والعصبة ، وجعل لهم نصيبا في الوصية.

وقد أحكم ذلك ابن عباس في الصحيح بيانا بما رواه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برهانا ، قال البخارىّ عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في الصحيح : ولكلّ جعلنا

__________________

(١) من ل.

(٢) سورة الأحزاب ، آية ٦

(٣) أسباب النزول : ٨٦

٤١٤

موالي ـ قال : ورثة ، والذين عقدت أيمانكم ، فكان (١) المهاجرون لمّا قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصارىّ دون (٢) ذي رحمه للأخوة التي آخى بها النبىّ صلّى الله عليه وسلّم بينهم ، فلما نزلت : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ) نسخت. ثم قال : والذين عقدت (٣) أيمانكم من النصر والرّفادة (٤) والنصيحة ، وقد ذهب الميراث ويوصّى له ، وهذه غاية ليس لها مطلب.

المسألة الخامسة ـ قال أبو حنيفة : حكم الآية باق من يرث به وبالاشتراك في الديون لاشتراكهما عنده في العقد ، وهذا باب قد استوفيناه في مسائل الخلاف ، وقد بينا ها هنا معنى الآية ، وحققنا أنه ليس وراءها معنى.

الآية السادسة والعشرون ـ قوله تعالى (٥) : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ، فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ ، وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ، إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً).

فيها أربع عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

ثبت عن الحسن أنه قال : جاءت امرأة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت : إنّ زوجي لطم وجهى. قال : بينكما القصاص. فأنزل الله عزّ وجلّ (٦) : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ). قال حجاج في الحديث عنه : فأمسك النبىّ صلّى الله عليه وسلّم حتى أنزل الله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ).

قال جرير بن حازم : سمعت الحسن يقرؤها : «من قبل أن نقضي إليك وحيه» ، بالنون ونصب الياء من «وحيه».

المسألة الثانية ـ قوله : (قَوَّامُونَ) : يقال قوّام وقيّم ، وهو فعال وفيعل من قام ، المعنى

__________________

(١) في ل : كان.

(٢) في ا : فكان ، وهو تحريف. ولعلها مكان.

(٣) في ا ، ل : عاقدت.

(٤) الرفد : العطاء والصلة.

(٥) الآية الرابعة والثلاثون.

(٦) سورة طه ، آية ١١٤

٤١٥

هو أمين عليها يتولّى أمرها ، ويصلحها في حالها ؛ قاله ابن عباس ، وعليها له الطاعة وهي.

المسألة الثالثة ـ الزوجان مشتركان في الحقوق ، كما قدمنا في سورة البقرة (١) : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) بفضل القوامية ؛ فعليه أن يبذل المهر والنفقة ، ويحسن العشرة ، ويحجبها ، ويأمرها بطاعة الله ، وينهى إليها شعائر الإسلام من صلاة وصيام إذا وجبا على المسلمين ، وعليها الحفظ لماله ، والإحسان إلى أهله ، والالتزام لأمره في الحجبة وغيرها إلا بإذنه ، وقبول قوله في الطاعات.

المسألة الرابعة ـ قوله : (بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) :

المعنى إنّى جعلت القوامية على المرأة للرجل لأجل تفصيلي له عليها ، وذلك لثلاثة أشياء :

الأول ـ كمال العقل والتمييز. الثاني ـ كمال الدين والطاعة في الجهاد والأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر على العموم ، وغير ذلك.

وهذا الذي بيّن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح : ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للبّ الرجل الحازم منكنّ.

قلن : وما ذلك يا رسول الله؟ قال : أليس إحداكنّ تمكث الليالى لا تصلّى ولا تصوم ؛ فذلك من نقصان دينها. وشهادة إحداكنّ على النصف من شهادة الرجل ، فذلك من نقصان عقلها. وقد نصّ الله سبحانه على ذلك بالنقص ، فقال (٢) : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى).

الثالث ـ بذله لها المال من الصداق والنفقة ، وقد نصّ الله عليها ها هنا.

المسألة الخامسة ـ قوله : (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ) ، يعنى مطيعات ، وهو أحد أنواع القنوت.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) ، يعنى غيبة زوجها ، لا تأتى في مغيبه بما يكره أن يراه منها في حضوره ؛ وقد قال الشعبي : إن شريحا تزوّج امرأة من بنى تميم يقال لها زينب. قال : فلما تزوجتها ندمت حتى أردت أن أرسل إليها بطلاقها.

__________________

(١) سورة البقرة ، ٢٢٨ ، وقد تقدم صفحة ١٨٨

(٢) سورة البقرة ، آية ٢٨٢

٤١٦

فقلت : لا أعجل حتى يجاء بها. قال : فلما جيء بها تشّهدت ثم قالت : أمّا بعد فقد نزلنا منزلا لا ندري متى نظعن منه ، فانظر الذي تكره ، هل تكره زيارة الأختان (١)؟ فقلت : أما بعد فإنى شيخ كبير ، لا أكره المرافقة ، وإنى لأكره ملال الأختان. قال : فما شرطت شيئا إلّا وفت به ، قال : فأقامت سنة ثم جئت يوما ومعها في الحجلة (٢) إنس ، فقلت : إنا لله. فقالت : أبا أمية ، إنها أمى ، فسلّم عليها. فقالت : انظر فإن رابك شيء منها فأوجع رأسها. قال : فصحبتني ثم هلكت قبلي. قال : فوددت أنى قاسمتها عمرى أو متّ أنا وهي في يوم واحد. وقال شريح :

رأيت رجالا يضربون نساءهم

فشلّت يميني يوم أضرب زينبا

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (بِما حَفِظَ اللهُ) : يعنى بحفظ الله ، وهو ما يخلفه للعبد من القدرة على الطاعة ؛ فإنه إذا شاء أن يحفظ عبده لم يخلق له إلّا قدرة الطاعة ، فإن توالت كانت له عصمة ولا تكون إلا للأنبياء.

المسألة الثامنة ـ قوله تعالى : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) :

قيل فيه : تظنون ، وقيل تتيقّنون ؛ ولكلّ وجه معنى يأتى بيانه في تركيب ما بعده عليه إن شاء الله تعالى.

المسألة التاسعة ـ قوله : (نُشُوزَهُنَ) ، يعنى امتناعهنّ منكم ، عبّر عنه بالنشوز وهو من النشز : المرتفع من الأرض ، وإن كل ما امتنع عليك فقد نشز عنك حتى ماء البئر.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (فَعِظُوهُنَ) ، وهو التذكير بالله في الترغيب لما عنده من ثواب ، والتخويف لما لديه من عقاب ، إلى ما يتبع ذلك ممّا يعرّفها به من حسن الأدب في إجمال العشرة ، والوفاء بذمام الصحبة ، والقيام بحقوق الطاعة للزوج ، والاعتراف بالدرجة التي له عليها ؛ فإنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لو أمرت أحدا أن يسجد إلى أحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها.

__________________

(١) الختن : كل من كان من قبل المرأة ، والجمع أختان.

(٢) الحجلة : بيت يزين بالثياب والأسرة والستور.

٤١٧

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ) :

فيه أربعة أقوال :

الأول : يوليها ظهره في فراشه ؛ قاله ابن عباس.

الثاني : لا يكلّمها ، وإن وطئها ؛ قاله عكرمة وأبو الضحى.

الثالث : لا يجمعها وإياه فراش ولا وطء حتى ترجع إلى الذي يريد ؛ قاله إبراهيم والشعبي وقتادة والحسن البصري ، ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك وغيرهم.

الرابع : يكلّمها ويجامعها ، ولكن بقول فيه غلظ وشدة إذا قال لها تعالى ؛ قاله سفيان.

قال الطبري : ما ذكره من تقدّم معترض ، وذكر ذلك (١) ، واختار أنّ معناه يربطن بالهجار وهو الحبل في البيوت ، وهي المراد بالمضاجع ، إذ ليس لكلمة (اهْجُرُوهُنَ) إلا أحد ثلاثة معان. فلا يصحّ أن يكون من الهجر الذي هو الهذيان ، فإنّ المرأة لا تداوى بذلك ، ولا من الهجر الذي هو مستفحش من القول ، لأنّ الله لا يأمر به ؛ فليس له وجه إلا أن تربطوهنّ بالهجار.

قال ابن العربي : يا لها هفوة من عالم بالقرآن والسنة ، وإنى لأعجبكم من ذلك ؛ إنّ الذي أجرأه على هذا التأويل ، ولم يرد أن يصرّح بأنه أخذه منه ، هو حديث غريب رواه ابن وهب عن مالك أنّ أسماء بنت أبى بكر الصديق امرأة الزبير بن العوّام كانت تخرج حتى عوتب في ذلك. قال : وعتب عليها وعلى ضرّتها ، فعقد شعر واحدة بالأخرى ، وضربهما ضربا شديدا ، وكانت الضرة أحسن اتقاء ، وكانت أسماء لا تتقى ؛ فكان الضرب بها أكثر وآثر ؛ فشكته إلى أبيها أبى بكر ؛ فقال لها : أى بنيّة اصبري ؛ فإنّ الزبير رجل صالح ، ولعله أن يكون زوجك في الجنة ، ولقد بلغني أنّ الرجل إذا ابتكر بالمرأة (٢) تزوّجها في الجنة. فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ مع فعل الزبير ، فأقدم على هذا التفسير لذلك.

وعجبا له مع تبحّره في العلوم وفي لغة العرب كيف بعد عليه صواب القول ، وحاد عن سداد النظر ؛ فلم يكن بدّ والحالة هذه من أخذ المسألتين من طريق الاجتهاد المفضية بسالكها إلى السداد ؛ فنظرنا في موارد (ه ج ر) في لسان العرب على هذا النظام فوجدناها سبعة :

__________________

(١) في القرطبي : بعد أن ذكر هذا القول وهو اختيار الطبري وقدح في سائر الأقوال.

(٢) في القرطبي : بامرأة.

٤١٨

ضد الوصل. ما لا ينبغي من القول. مجانبة الشيء ، ومنه الهجرة. هذيان المريض. انتصاف النهار. الشاب (١) الحسن. الحبل الذي يشدّ في حقوق البعير ثم يشدّ في أحد رسغيه. ونظرنا في هذه الموارد فألفيناها تدور على حرف واحد وهو البعد عن الشيء فالهجر قد بعد عن الوصل الذي ينبغي من الألفة وجميل الصّحبة ، وما لا ينبغي من القول قد بعد عن الصواب ، ومجانبة الشيء بعد منه وأخذ في جانب آخر عنه ، وهذيان المريض قد بعد عن نظام الكلام ، وانتصاف النهار قد بعد عن طرفيه المحمودين في اعتدال الهواء وإمكان التصرف. والشاب الحسن قد بعد عن العاب (٢) ، والحبل الذي يشدّ به البعير قد أبعده عن استرساله في تصرّفه واسترسال ما ربط عن تقلقله وتحركه.

وإذا ثبت هذا ، وكان مرجع الجميع إلى البعد فمعنى الآية : أبعدوهنّ في المضاجع. ولا يحتاج إلى هذا التكلّف الذي ذكره العالم ، وهو لا ينبغي لمثل السدى والكلبي فكيف أن يختاره الطبري!

فالذي قال : يوليها ظهره جعل المضجع ظرفا للهجر ، وأخذ القول على أظهر الظاهر ، وهو حبر الأمة ، وهو حمل الأمر على الأقل ، وهي مسألة عظيمة من الأصول.

والذي قال يهجرها في الكلام حمل الأمر على الأكثر الموفى ، فقال : لا يكلمها ولا يضاجعها ، ويكون هذا القول كما يقول : اهجره في الله ، وهذا هو أصل مالك ، وقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال في تفسير الآية : بلغنا أنّ عمر بن عبد العزيز كان له نساء فكان يغاضب بعضهنّ ، فإذا كانت ليلتها يفرش في حجرتها وتبيت هي في بيتها ، فقلت لمالك : وذلك له واسع؟ قال : نعم ، وذلك في كتاب الله تعالى : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ).

والذي قال : لا يكلّمها وإن وطئها فصرفه نظره إلى أن جعل الأقلّ في الكلام ، وإذا وقع الجماع فترك الكلام سخافة ، هذا وهو الراوي عن ابن عباس ما تقدّم من قوله.

والذي قال : يكلمها بكلام فيه غلظ إذا دعاها إلى المضجع جعله من باب ما لا ينبغي من القول.

__________________

(١) في ل : والشباب.

(٢) العاب : العيب والذم.

٤١٩

وهذا ضعيف من القول في الرأى ؛ فإنّ الله سبحانه رفع التثريب عن الأمة إذا زنت وهو العتاب بالقول ، فكيف يأمر مع ذلك بالغلظة على الحرة.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (وَاضْرِبُوهُنَ) :

ثبت عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : أيها الناس ، إنّ لكم على نسائكم حقّا ، ولنسائكم عليكم حقا ؛ لكم عليهنّ ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، وعليهن ألّا يأتين بفاحشة مبيّنة ، فإن فعلن فإنّ الله تعالى قد أذن لكم أن تهجروهنّ في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرّح ، فإن انتهين فلهنّ رزقهنّ وكسوتهن بالمعروف.

وفي هذا دليل على أنّ الناشز لا نفقة لها ولا كسوة ، وأن الفاحشة هي البذاء ليس الزنا كما قال العلماء ، ففسر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم الضرب ، وبيّن أنه لا يكون مبرّحا ، أى لا يظهر له أثر على البدن ، يعنى من جرح أو كسر.

المسألة الثالثة عشرة ـ من أحسن ما سمعت في تفسير هذه الآية قول سعيد بن جبير ؛ قال : يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها ، فإن هي قبلت وإلا ضربها ، فإن هي قبلت وإلا بعث حكما من أهله وحكما من أهلها ، فينظران ممن الضرر ، وعند ذلك يكون الخلع.

المسألة الرابعة عشرة ـ قال عطاء : لا يضربها وإن أمرها ونهاها فلم تطعه ، ولكن يغضب عليها.

قال القاضي : هذا من فقه عطاء ، فإنه من فهمه بالشريعة ووقوفه على مظانّ الاجتهاد علم أنّ الأمر بالضرب هاهنا أمر إباحة ، ووقف على الكراهية من طريق أخرى في

قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث عبد الله بن زمعة : إنى لأكره للرجل يضرب أمته عند غضبه ، ولعله أن يضاجعها من يومه.

وروى ابن نافع عن مالك عن يحيى بن سعيد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استؤذن في ضرب النساء ، فقال : اضربوا ، ولن يضرب خياركم.

فأباح وندب إلى الترك. وإنّ في الهجر لغاية الأدب.

والذي عندي أنّ الرجال والنساء لا يستوون في ذلك ؛ فإنّ العبد يقرع بالعصا والحر

٤٢٠