أحكام القرآن - ج ١

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٣

كما فعل النبىّ صلى الله عليه وسلم حسبما تقدّم ، ثم أفيضوا ـ يعنى إلى منى على التقدير المتقدم (١) في المسألة الثانية من الآية قبل هذه الآية ، فصار ذلك اليوم أوله للمشعر الحرام وآخره لمنى ، فلما لم يختصّ بمعنى لم يعدّ فيها ، وصارت أيام منى ثلاثة سوى يوم النحر ؛ لأنه أقلّ الجمع في الأظهر عند الإطلاق حسبما بيّناه في كتاب الأصول ، وبيّن النبىّ صلى الله عليه وسلم ذلك بالعمل الذي يرفع الإشكال ـ قال حينئذ علماؤنا : اليوم الأول غير معدود ، لأنه ليس من الأيام التي تختصّ بمنى في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) ، ولا من التي عنى النبىّ صلى الله عليه وسلم بقوله : أيام منى ثلاثة ، وكان معلوما لأنّ الله تعالى قال (٢) : (وَيَذْكُرُوا (٣) اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ). ولا خلاف أنّ المراد به النّحر ، وكان النحر في اليوم الأول وهو يوم الأضحى والثاني والثالث ، ولم يكن في الرابع نحر ؛ فكان الرابع غير مراد في قوله تعالى : (مَعْلُوماتٌ) ؛ لأنه لا ينحر فيه ؛ وقد بيّنا ذلك في موضعه ، وكان مما يرمى فيه ؛ فصار معدودا في ذلك لأجل الرّمى ، غير معلوم لعدم النحر فيه.

والحقيقة أنّ يوم النحر معدود بالرمي معلوم بالذبح ، لكنه عند علمائنا ليس مرادا في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ).

فإن قيل : فلم لا يكون ـ كما قلتم ـ يوم النّحر مرادا في المعدودات وتكون المعدودات أربعة والمعلومات ثلاثة؟ وكما يعطى ذكر الأيام ثلاثة كذلك يقتضى أربعة.

فالجواب أنّا لا نمنع أن يسمّى بمعدود ولا بمعلوم ؛ لأنّ كلّ معدود معلوم ، وكلّ معلوم معدود ، لكن يمنع أن يكون مرادا بذكر المعدودات ها هنا من وجهين : أحدهما أنّ يوم النحر كما قدمنا قد استحقّ أوله الوقوف بالمشعر الحرام ، ومنه تكون الإفاضة إلى منى ؛ فصار ذلك اليوم يوم الإفاضة ، وبعده قال الله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ).

الثاني ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أيام منى ثلاثة فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه. ولو كان يوم النحر معدودا منها لاقتضى مطلق هذا القول لمن نفر في يوم ثانى النحر أن ذلك جائز ، ولا خلاف أن ذلك ليس (٤) له ، فتبيّن أنه غير معدود فيها لا قرآنا ولا سنة ، وهذا منتهى بديع.

__________________

(١) صفحة ١٣٩

(٢) سورة الحج ، آية ٢٨

(٣) في ا : ليذكروا. وهو خطأ.

(٤) في ل : فيه.

١٤١

وقال أبو حنيفة [٧٢] والشافعى : الأيام المعلومات أيام العشر ، ورووا ذلك عن ابن عباس ، وظاهر الآية يدفعه ؛ فلا معنى للاشتغال به.

المسألة الثالثة ـ في المراد بهذا الذكر :

لا خلاف أنّ المخاطب به هو الحاجّ ، خوطب بالتكبير عند رمى الجمار ، فأما غير الحاجّ فهل يدخل فيه أم لا؟ وهل هو أيضا خطاب للحاجّ بغير التكبير عند الرمي؟ فنقول: أجمع فقهاء الأمصار والمشاهير من الصحابة والتابعين رضى الله عنهم على أنّ المراد به التكبير لكل أحد ، وخصوصا في أوقات الصلوات ؛ فيكبّر عند انقضاء كلّ صلاة ، كان المصلى في جماعة أو وحده يكبّر تكبيرا ظاهرا في هذه الأيام. لكن اختلفوا في ذلك على أربعة أقوال :

الأول ـ أنه يكبّر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق ؛ قاله عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه ، وأبو يوسف ومحمد صاحبه ، [والمزني] (١).

والثاني ـ مثله في الأول ، ويقطع (٢) العصر من يوم النّحر ؛ قاله ابن مسعود ، وأبو حنيفة.

الثالث ـ يكبّر من ظهر يوم النّحر إلى عصر آخر أيام التشريق ؛ قاله زيد بن ثابت.

الرابع ـ يكبّر من صلاة الظهر يوم النحر إلى بعد صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ؛ قاله ابن عمر ، وابن عباس ، ومالك ، والشافعى.

فأما من قال : إنه يكبّر يوم عرفة ويقطع العصر يوم النحر فقد خرج عن الظاهر ؛ لأن الله تعالى قال : (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) وأقلّها (٣) ثلاثة ، وقد قال هؤلاء : يكبّر في يومين ؛ فتركوا الظاهر لغير دليل ظاهرة.

وأما من قال يوم عرفة وأيام التشريق فقال : إنه تعالى قال : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ) ، فذكر عرفات داخل في ذكر الأيام ، وهذا كان يصحّ لو قال يكبّر من المغرب يوم عرفة ، لأنّ وقت الإفاضة حينئذ ، فأما قبل ذلك فلا يقتضيه ظاهر اللفظ.

وأما من قال : يكبّر يوم عرفة من الظهر ، فهو ظاهر في متعلق قوله تعالى : (فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) ، لكن يلزمه أن يكون من يوم التروية عند الحلول بمنى.

ومن قصره على صلاة الصبح من اليوم الرابع فقد بيّنا مأخذه في مسائل الخلاف.

__________________

(١) ليس في ل.

(٢) في القرطبي (٣ ـ ٤) : يكبر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم عرفة.

(٣) في القرطبي : وأيامها.

١٤٢

والتحقيق أنّ التحديد بثلاثة أيام ظاهر ، وأن تعيّنها ظاهر أيضا بالرمي ، وأن سائر أهل الآفاق تبع للحاجّ فيها ، ولو لا الاقتداء بالسلف لضعف متابعة الحاجّ من بين سائر أهل الآفاق إلّا في التكبير عند الذّبح ، والله عزّ وجلّ أعلم.

الآية الحادية والخمسون ـ قوله تعالى (١) : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

قال قوم : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بنى زهرة : وفد على النبىّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وأظهر الإسلام ، ثم خرج ، وقال : الله يعلم إنى لصادق ، ثم خرج ومرّ بزرع (٢) لقوم وحمر ، فأحرق الزّرع وعقر الحمر ، فنزلت هذه الآية فيه.

وقال آخرون : هي صفة المنافق ، وهو أقوى.

المسألة الثانية ـ في هذه الآية عند علمائنا دليل على أنّ الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس ، وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم حتى يبحث عن باطنهم ؛ لأنّ الله تعالى بيّن أن من الخلق من يظهر قولا جميلا وهو ينوى قبيحا.

وأنا أقول : إنه يخاطب بذلك كلّ أحد من حاكم وغيره ، وإن المراد بالآية الا يقبل أحد على ظاهر قول أحد حتى يتحقّق بالتجربة حاله ، ويختبر بالمخالطة أمره.

فإن قيل : هذا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : «لا إله إلا الله». وفي رواية : «إنما أمرت بالظاهر والله يتولّى السرائر».

فالجواب أنّ هذا الحديث إنما هو في حقّ الكفّ عنه وعصمته ، فإنه (٣) يكتفى بالظاهر منه في حالته ، كما قال في آخر الحديث : فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها.

وأما في [حديث] (٤) حق ثبوت المنزلة بإمضاء قوله على الغير فلا يكتفى بظاهره حتى يقع البحث عنه ، ويختبر في تقلّباته وأحواله.

__________________

(١) الآية الرابعة بعد المائتين.

(٢) في القرطبي : بزرع لقوم من المسلمين.

(٣) في ا : بأنه.

(٤) ليس في ل.

١٤٣

جواب [٧٣] آخر : وذلك أنه يحتمل أنّ هذا كان في صدر الإسلام حيث كان إسلامهم سلامتهم ؛ فأما وقد عمّ الناس الفساد فلا.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) : يعنى ذا جدال إذا كلّمك وراجعك رأيت لكلامه طلاوة وباطنه وباطل ؛ وهذا يدلّ على أنّ الجدال لا يجوز إلا بما ظاهره وباطنه سواء. وقد روى البخاري وغيره أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم (١).

الآية الثانية والخمسون ـ قوله تعالى (٢) : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها أربعة أقوال :

الأول ـ نزلت في الجهاد.

الثاني ـ فيمن يقتحم القتال ؛ أرسل عمر رضى الله عنه جيشا فحاصروا حصنا فتقدّم رجل عليه فقاتل فقتل ، فقال الناس : ألقى بيده للتّهلكة ، فبلغ ذلك عمر رضى الله عنه فقال : كذبوا ؛ أوليس الله تعالى يقول : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)

وحمل هشام بن عامر على الصفّ حتى شقّه ، فقال أبو هريرة : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ).

الثالث ـ نزلت في الهجرة وترك المال والديار لأجلها ؛ روى أن صهيبا أخذه أهله وهو قاصد النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فافتدى منهم بماله ، ثم أدركه (٣) آخر فافتدى منه (٤) ببقية ماله ، وغيره عمل عمله فأثنى عليهم.

الرابع ـ أنها نزلت في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ؛ قاله عمر ، وقرأ هذه الآية واسترجع ، وقال : قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل.

__________________

(١) الخصم : الشديد الخصومة. واللدد : الخصومة الشديدة (النهاية).

(٢) الآية السابعة بعد المائتين.

(٣) في ل : فأدركه.

(٤) في ل : منهم.

١٤٤

ويروى أنّ عمر رضى الله عنه كان إذا صلّى الصبح (١) دخل مربدا له ، فأرسل إلى فتيان قد قرءوا القرآن ، متهم ابن عباس وابن أخى عنبسة فقرءوا القرآن ، فإذا كانت القائلة انصرفوا. قال : فمرّوا بهذه الآية (٢) : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ). فقال ابن عباس لبعض من كان إلى جانبه : اقتتل الرجلان. فسمع عمر رضى الله عنه ما قال ، فقال : أىّ شيء قلت؟ قال : لا شيء. قال : ما ذا قلت؟ قال : فلما رأى ذلك ابن عباس قال : أرى هذا أخذته العزّة بالإثم من أمره بتقوى الله ، فيقول هذا : وأنا أشرى نفسي ابتغاء مرضاة الله فيقاتله ، فاقتتل الرجلان. فقال عمر : لله تلادك (٣) يا بن عبّاس.

المسألة الثانية ـ هذا كلّه من الأقوال ، لا امتناع في أن يكون مرادا بالآية ، داخلا في عمومها ، إلّا أنّ منه متّفقا عليه ، ومنه مختلف فيه ؛ أمّا القول : إنها في الجهاد والهجرة فلا خلاف فيه. وأما اقتحام القتال فمختلف فيه تقدّم أنّ الصحيح جوازه ، وكذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذا خاف منه المرء على نفسه سقط فرضه بغير خلاف ، وهل يستحبّ له اقتحام الغرر (٤) فيه وتعريض النّفس للإذاية أو الهلكة؟ مختلف فيه.

وعموم هذه الآية دليل عليه ، وسيأتى بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

الآية الثالثة والخمسون ـ قوله تعالى (٥) : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ؟ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

فيها قولان :

أحدهما ـ أنها منسوخة بآية الزكاة كما تقدّم في غيرها ؛ فإنّ الزكاة كانت موضوعة أوّلا في الأقربين ، ثم بيّن الله مصرفها في الأصناف الثمانية.

الثاني ـ أنها مبيّنة مصارف صدقة التطوّع ، وهو الأولى ؛ لأنّ النسخ دعوى ، وشروطه معدومة هنا ؛ وصدقة التطوع في الأمرين أفضل منها في غيرهم ، يدلّ عليه ما روى الأئمة

__________________

(١) في ا : السبحة. والسبحة : النافلة.

(٢) الآيتان السادسة والسابعة بعد المائتين.

(٣) تلادى : أول ما أخذته وتعلمته.

(٤) غرر بنفسه : عرضها للهلكة ، والاسم الغرر.

(٥) الآية الخامسة عشرة بعد المائتين.

١٤٥

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (١) : يا معشر النساء ؛ تصدّقن ولو من حليكن. فقالت زينب ـ امرأة عبد الله لزوجها [٧٤] : أراك خفيف ذات اليد ، فإن أجزأت عنّى فيك صرفتها إليك. فأتت النبىّ صلى الله عليه وسلم فسألته ، فقالت : أتجزئ الصدقة منّى على زوجي وأيتام في حجري؟ فقال لها النبىّ صلى الله عليه وسلم : لك أجران : أجر الصدقة ، وأجر القرابة. وفي رواية : زوجك وولدك أحقّ من تصدقت عليهم.

وروى النسائي وغيره أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : يد المعطى العليا ، أمّك وأباك ، وأختك وأخاك ، وأدناك أدناك.

وروى مسلم عن جابر أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : أبدأ بنفسك فتصدّق عليها. ولا شكّ أن الحنوّ على القرابة أبلغ ، ومراعاة ذي الرحم الكاشح (٢) أوقع في الإخلاص.

وتمام المسألة يأتى بعد هذا إن شاء الله تعالى.

الآية الرابعة والخمسون ـ قوله تعالى (٣) : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

اختلف الناس في هذه الآية ؛ فمنهم من قال : إنها نزلت في الصحابة وهم المخاطبون والمكتوب عليهم القتال ؛ قاله عطاء ، والأوزاعى.

الثاني ـ أنه مكتوب على جميع الخلق ، لكن يختلف الحال فيه ، فإن كان الإسلام ظاهرا فهو فرض على الكفاية ، وإن كان العدوّ ظاهرا [على موضع] (٤) كان القتال فرضا على الأعيان ، حتى يكشف الله تعالى ما بهم ؛ وهذا هو الصحيح ـ

روى البخاري وغيره عن مجاشع ، قال : أتيت النبىّ صلى الله عليه وسلم أنا وأخى فقلت : بايعنى على الهجرة. فقال : مضت الهجرة لأهلها. قلت : علام تبايعنا؟ قال : على الإسلام والجهاد.

وروى الأئمة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونيّة ، وإذا استنفرتم فانفروا ، وهذه الآية كانت في الدرجة الثانية من إباحة القتال والإذن فيه ، كما تقدم.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٦٩٤

(٢) الكاشح : الذي يضمر عداوته ويطوى عليها كشحه (النهاية).

(٣) الآية السادسة عشرة بعد المائتين.

(٤) من ل.

١٤٦

الآية الخامسة والخمسون ـ قوله تعالى (١) : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ): اختلف الناس في نسخ هذه الآية ؛ فكان عطاء يحلف أنها ثابتة ؛ لأنّ الآيات التي بعدها عامّة في الأزمنة وهذا خاصّ ؛ والعامّ لا ينسخ بالخاص باتفاق.

وقال سائر العلماء : هي منسوخة ؛ واختلفوا في الناسخ ؛ فقال الزهري : نسخها قوله تعالى (٢) : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً).

وقال غيره : نسختها (٣) : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ).

وقال غيره : نسخها غزو النبىّ صلى الله عليه وسلم ثقيفا في الشهر الحرام وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس (٤) في الشهر الحرام ؛ وهذه أخبار ضعيفة.

وقال غيره : نسختها بيعة الرّضوان على القتال في ذي القعدة ؛ وهذا لا حجّة فيه ؛ لأنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم بلغه أنّ عثمان قتل بمكة ، وأنهم عازمون على حربه ، فبايع على دفعهم لا على الابتداء.

وقال المحققون : نسخها قوله تعالى (٥) : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، يعنى أشهر التسيير ، فلم يجعل حرمة إلّا لزمان التسيير.

والصحيح أنّ هذه الآية ردّ على المشركين حين أعظموا على النبي صلى الله عليه وسلم القتال والحماية في الشهر الحرام ؛ فقال الله تعالى : وصدّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ، والفتنة ـ وهي الكفر ـ في الشهر الحرام أشدّ من القتل ؛ فإذا فعلتم ذلك كلّه في الشهر الحرام تعيّن قتالكم فيه.

الآية السادسة والخمسون ـ قوله تعالى (٦) : (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

اختلف العلماء رحمة الله عليهم في المرتدّ ، هل يحبط عمله نفس الردّة أم لا يحبط إلّا على الموافاة على الكفر؟

فقال الشافعى : لا يحبط له عمل إلّا بالموافاة كافرا. وقال مالك : يحبط بنفس الردّة.

__________________

(١) الآية السابعة عشرة بعد المائتين.

(٢) سورة التوبة ، آية ٣٦

(٣) سورة التوبة ، آية ٢٩

(٤) أوطاس : واد كانت فيه وقعة حنين.

(٥) سورة التوبة ، آية ٥

(٦) من الآية السابعة عشرة بعد المائتين.

١٤٧

ويظهر الخلاف في المسلم إذا حجّ ثم ارتدّ ثم أسلم ، فقال مالك : يلزمه الحجّ لأنّ الأوّل قد حبط [٧٥] بالردّة. وقال الشافعى : لا إعادة عليه لأنّ عمله باق.

واستظهر عليه علماؤنا بقول الله تعالى (١) : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ). وقالوا : هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد به أمّته لأنه صلى الله عليه وسلم يستحيل منه الردّة شرعا.

وقال أصحاب الشافعى : بل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على طريق التغليظ على الأمة ، وبيان أنّ النبي صلى الله عليه وسلم على شرف منزلته لو أشرك لحبط عمله ، فكيف أنتم؟ لكنه لا يشرك لفضل مرتبته ، كما قال الله تعالى (٢) : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) ؛ وذلك لشرف منزلتهن ، وإلا فلا يتصوّر إتيان فاحشة منهن ، صيانة لصاحبهنّ المكرّم المعظّم.

قال ابن عباس ، حين قرأ : (٣) (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) : والله ما بغت امرأة نبىّ قط ، ولكنهما كفرتا.

وقال علماؤنا : إنما ذكر الموافاة شرطا هاهنا ، لأنه علّق عليها الخلود في النار جزاء ، فمن وافى كافرا خلّده الله في النار بهذه الآية ، ومن أشرك حبط عمله بالآية الأخرى ، فهما آيتان مفيدتان لمعنيين مختلفين وحكمين متغايرين ، وما خوطب به النبىّ صلى الله عليه وسلم فهو لأمته حتى يثبت اختصاصه به ، وما ورد في أزواجه صلى الله عليه وسلم فإنما قيل ذلك فيهنّ ليبيّن أنّه لو تصوّر لكان هتكا لحرمة الدين وحرمة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكلّ هتك حرمة عقاب ، وينزّل ذلك منزلة من عصى في شهر حرام ، أو في البلد الحرام ، أو في المسجد الحرام ، فإن العذاب يضاعف عليه بعدد ما هتك من الحرمات ، والله الواقي لا ربّ غيره.

الآية السابعة والخمسون ـ قوله تعالى (٤) : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما).

__________________

(١) سورة الزمر ، آية ٦٥

(٢) سورة الأحزاب ، آية ٣٠

(٣) سورة التحريم ، آية ١٠

(٤) الآية التاسعة عشرة بعد المائتين.

١٤٨

فيها تسع مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها أقوال :

الأول ـ ما رواه الترمذي عن أبى ميسرة عن عمرو بن شرحبيل عن عمر ـ والصحيح مرسل دون ذكر «عن» ، وقال بدلها : إنّ عمر رضى الله عنه قال : «اللهم بيّن لنا في الخمر بيان شفاء» (١). فنزلت الآية التي في البقرة : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) ، فدعى (٢) عمر فقرئت عليه ، فقال : «اللهم بيّن لنا في الخمر بيان شفاء» ، فنزلت الآية التي في النساء (٣) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ، فدعى عمر رضى الله عنه فقرئت عليه ، فقال : «اللهم بيّن لنا في الخمر بيان شفاء» ، فنزلت الآية التي في المائدة (٤) : (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ...) الآية. فدعى عمر رضى الله عنه ، فقرئت عليه ، فقال : انتهينا.

المسألة الثانية ـ في تحقيق اسم الخمر ومعناه :

وقد اختلف العلماء في ذلك على قولين :

أحدهما ـ أنّ الخمر شراب يعتصر من العنب خاصة ، وما اعتصر من غير العنب كالزبيب والتمر وغيرهما يقال لهما نبيذ ؛ قاله أبو حنيفة ، وأهل الكوفة.

الثاني ـ أن الخمر كلّ شراب ملذّ مطرب ـ قاله أهل المدينة وأهل مكة ؛ وتعلّق أبو حنيفة بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمّة ذكرناها في شرح الحديث ومسائل الخلاف فلا يلتفت إليها.

والصحيح ما روى الأئمة أنّ أنسا قال : حرّمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة خمر الأعناب إلّا قليل ، وعامة خمرها البسر والتمر. خرّجه البخاري ، واتفق الأئمة على رواية أن الصحابة إذ حرمت الخمر لم يكن عندهم يومئذ خمر عنب ؛ وإنما كانوا يشربون خمر النبيذ ، فكسروا دنانهم (٥) ، وبادروا الامتثال لاعتقادهم أنّ ذلك كلّه خمر.

__________________

(١) في ابن كثير : بيانا شافيا.

(٢) في ا : فدنا ، وهو تحريف طبعي ، وفي ل : فدعا ، والمثبت من ابن كثير.

(٣) سورة النساء ، آية ٤٣

(٤) سورة المائدة ، آية ٩١

(٥) الدنان : جمع دن.

١٤٩

وصح عن عمر رضى الله عنه أنه قال على المنبر : إنّ تحريم الخمر نزل ، وهي من خمسة [٧٦] : العنب ، والتمر ، والعسل ، والحنطة ، والشعير.

والخمر ما خامر العقل ، وقد استوفينا القول في المسألة في مسائل الخلاف اشتقاقا وأصولا وقرآنا وأخبارا.

المسألة الثالثة (١) ـ الميسر : ما كنّا نشتغل به بعد أن حرّمه الله تعالى ، فما حرّم الله فعله وجهلناه حمدنا الله تعالى عليه وشكرناه.

المسألة الرابعة ـ هل حرمت الخمر بهذه الآية أم لا؟

قال الحسن : حرّمت الخمر بهذه الآية. وقالت الجماعة : حرّمت بآية المائدة. والصحيح أنّ آية المائدة حرّمتها.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ).

وقد احتجّ بعض علمائنا بهذه الآية على تحريم الخمر ؛ لأنّ الله تعالى قال : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ). وقال في سورة الأعراف (٢) : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ). فلما تناول التحريم الإثم ، وكان الإثم من صفات الخمر وجب تحريمها.

وهذا إنما كان يصحّ التعلّق به لو كان نزول قوله تعالى (٣) : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ). فلا يقضى عليه من ذلك بتحريم.

المسألة السادسة ـ ما هذا الإثم؟

فيه قولان :

أحدهما ـ أنّ الإثم ما بعد التحريم ، والمنفعة قبل التحريم.

الثاني ـ أنّ إثمها كانوا إذا شربوا سكروا فسبّوا وجرحوا وقتلوا.

والصحيح أنها إثم في الوجهين ، وتمامها فيما بعد إن شاء الله.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ).

في ذلك ثلاثة مذاهب : الأول أنها ربح التجارة. والثاني السرور واللذة. والثالث

__________________

(١) في ا : المسألة الثانية ، وهو تصحيف.

(٢ ـ ٣) سورة الأعراف ، آية ٣٣

١٥٠

قال قوم من المبتدعة : ما فيها من منفعة البدن ؛ لحفظ الصحة القائمة أو جلب الصحة الفانية بما تفعله من تقوية المعدة وسريانها في الأعصاب (١) والعروق ، وتوصّلها إلى الأعضاء الباطنة الرئيسية ، وتجفيف الرطوبة ، وهضم الأطعمة الثّقال وتلطيفها.

والصحيح أنّ المنفعة هي الربح ؛ لأنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص فيبيعونها في الحجاز بربح كثير.

وأما اللذة فهي مضرّة عند العقلاء ؛ لأنّ ما تجلبه من اللذة لا يفي بما تذهبه من التحصيل والعقل ، حتى إنّ العبيد الأدنياء وأهل النقص كانوا يتنزّهون عن شربها لما فيها من إذهاب شريف العقل ، وإعدامها فائدة التحصيل والتمييز.

وأما منفعة إصلاح البدن فقد بالغ فيها الأطبّاء حتى إنى تكلّمت يوما مع بعضهم في ذلك ، فقال لي : لو جمع سبعون عقارا ما وفى بالخمر في منافعها ، ولا قام في إصلاح البدن مقامها.

وهذا مما لا نشتغل به لوجهين :

أحدهما ـ أنّ الذين نزل تحريم الخمر عليهم لم يكونوا يقصدون به التداوى حتى نعتذر عن ذلك لهم.

الثاني ـ أنّ البلاد التي نزل أصل تحريم الخمر فيها كانت بلاد جفوف وحرّ ؛ وضرر الخمر فيها أكثر من منفعتها ؛ وإنما يصلح الخمر عند الأطباء للأرياف والبطاح والمواضع الرطبة ، وإن كانت فيها منفعة من طريق البدن ففيها مضرّة من طريق الدّين ، والباري تعالى قد حرّمها مع علمه بها فقدرها كيف شئت ، فإنّ خالقها ومصرفها قد حرّمها.

وقد روى مسلم (٢) عن طارق بن سويد الجعفىّ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه وكره أن يصنعها. قال : إنما أصنعها للدواء. قال : ليس بدواء ، ولكنه داء.

وروى (٣) أيضا عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر : أتتّخذ خلّا؟ قال : لا. وروى ذلك عن جماعة.

فإن قيل : وكيف يجوز أن يرد الشرع بتحريم ما لا غنى عنه ولا عوض منه؟ هذا مناقض للحكمة.

فالجواب عنه من ثلاثة أوجه :

__________________

(١) في ل : في الأعضاء.

(٢ ـ ٣) صحيح مسلم : ١٥٧٣

١٥١

أحدها ـ أنّا لا نقول إنه لا غنى عنها ولا عوض منها ؛ بل للمريض عنها ألف غنى ، وللصحيح والمريض منها عوض من الخلّ ونحوه.

الثاني ـ أن نقول : لو [٧٧] كانت لا غنى عنها ولا عوض منها لما امتنع تحريمها ، ولا استحال أن يمنع الباري تعالى الخلق منها لثلاثة أدلّة (١) :

الأول ـ أنّ للباري تعالى أن يمنع المرافق كلّها أو بعضها ، وأن يبيحها ، وقد آلم الحيوان وأمرض الإنسان.

الثاني ـ أنّ التطبّب غير واجب بإجماع من الأمّة ، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق أنه قال : يدخل الجنة من أمتى سبعون ألفا من غير حساب ، وهم الذين لا يكتوون ولا يسترقون (٢) ولا يتطيّرون ، وعلى ربّهم يتوكّلون.

الثالث ـ أنه لو كان فيها صلاح بدن لكانت فيها ضراوة وذريعة إلى فساد العقل ، فتقابل الأمران ، فغلب المنع لما لنا في ذلك من المصلحة المنبّه (٣) عليها في سورة المائدة.

المسألة الثامنة ـ اختلف العلماء فيما لو استهلكت في الأطعمة والأدوية ؛ هل يجوز استعمال ذلك الطعام أو ذلك الدواء أم لا؟ فأجازه ابن شهاب ، ومنعه غيره ، وتردّد علماؤنا في ذلك.

والصحيح أنه لا يجوز ، لقوله صلى الله عليه وسلم : إنها ليست بدواء ، ولكنها داء.

المسألة التاسعة ـ قوله تعالى : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما).

وفي تأويل ذلك قولان :

أحدهما ـ أنّ الإثم بعد التحريم أكبر من المنفعة قبل التحريم ؛ قاله ابن عباس.

الثاني ـ أنّ الإثم فيما يكون عنها من فساد العمل عند ذهاب العقل أكثر من منفعة اللذّة والربح ؛ قاله سعيد بن جبير ، وزاد بأنّ ذلك لما نزل تورّع عنها قوم من المسلمين

__________________

(١) في ل : لثلاثة أوجه.

(٢) يسترقون : يستعملون الرقية : العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغير ذلك من الآفات ، وقد جاء في بعض الأحاديث جوازها وفي بعضها النهى عنها (النهاية).

(٣) في ا : المبنية عليها ، صوابه من ل.

١٥٢

وشربها آخرون للمنفعة ، يعنى لأجل المنفعة المذكورة فيها لا لمنفعة البدن كما قدمنا ، حتى نزلت (١) : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى).

فإن قيل : كيف شربت بعد قول الله تعالى : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) ، وبعد قوله : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما)؟ وكيف تعاطى مسلم ما فيه مأثم؟

فالجواب من وجهين :

أحدهما ـ أنّ الله تعالى إنما أراد بالإثم في هذه الآية ما يؤول إليه شربها لا نفس شربها.

فمن فعل حينئذ ذلك الذي يؤول إليه فقد أثم بما فعل من ذلك لا بنفس الشرب ، وإن لم يفعل ذلك الذي يؤول إليه لما كان عليه حينئذ إثم ؛ فكان هذا مقصد القول على وجه الورع لا على وجه التحريم ؛ فقبله قوم فتورّعوا ، وأقدم آخرون على الشرب حتى حقّق الله تعالى التحريم ، فامتنع الكلّ ، ولو أراد ربّك التحريم لقال لعمر أولا ما قال له آخرا حتى قال : انتهينا.

الثاني ـ أن الله سبحانه لما ذكر ما فيها من الإثم الموجب للامتناع وقرنه بما فيها من المنفعة المقتضية للإقدام فهم قوم من ذلك التخيير بين الحالين ، ولو تدبّروا قوله تعالى : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) لغلب الورع ؛ فأقدم وتورّع من تورّع ، حتى نزلت آية التحريم الباحثة الكاشفة لتحقيقه ، ففهمها الناس ، وقال عمر رضى الله عنه : انتهينا ، وأمر النبىّ صلى الله عليه وسلم مناديه فنادى بتحريم الخمر.

الآية الثامنة والخمسون ـ على اختلاف في التعداد ـ قوله تعالى (٢) : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ).

اختلف العلماء فيها على ستة أقوال :

الأول ـ أنه ما فضل عن الأهل ؛ قاله ابن عباس.

الثاني ـ الوسط من غير تبذير ولا إسراف ؛ قاله الحسن.

الثالث ـ ما سمحت به النفس ؛ قاله ابن عباس أيضا.

الرابع ـ الصدقة عن ظهر غنى (٣) ؛ قاله مجاهد.

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٤٣

(٢) الآية التاسعة عشرة بعد المائتين.

(٣) عن ظهر غنى : ما فضل عن قوت العيال وكفايتهم (النهاية).

١٥٣

الخامس ـ صدقة الفرض ؛ قاله مجاهد أيضا.

السادس ـ أنها منسوخة بآية الزكاة ؛ قاله ابن عباس أيضا.

(التنقيح) قد (١) بيّنا أقسام العفو في مورد اللغة عند ما فسرنا قوله تعالى (٢) : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) ، فلينظر هنالك. وأسعد هذه الأقوال [بالتحقيق] (٣) وبالصحة ما عضدته اللغة ، وأقواها عندي الفضل ، للأثر المتقدم.

[وللنظر] (٤) ، وهو أن الرجل إذا تصدّق بالكثير ندم واحتاج ، فكلاهما مكروه شرعا ، فإعطاء اليسير حالة بعد حالة أوقع في الدّين وأنفع في المال ؛ وقد جاء أبو لبابة إلى النبي صلى الله عليه [٧٨] وسلم بجميع ماله ، وكذلك كعب ، فقال لهما : الثلث.

الآية التاسعة والخمسون ـ على اختلاف التعداد ـ قوله تعالى (٥) :

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ، وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

فيها ستّ مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها : روى أنه لما نزلت (٦) : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ...) الآية تحرّج الناس عن مخالطتهم في الأموال واعتزلوهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (٧) : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) ، يعنى قصد إصلاح أموالهم خير من اعتزالهم فكان إذنا في ذلك مع صحّة القصد في أن يكون المقصد رفق اليتيم لا أن يقصد رفق نفسه.

المسألة الثانية ـ في البحث عن اليتيم : هو في اللغة عبارة عن المنفرد من أبيه ، وقد يطلق فيها على المنفرد من أمه ؛ والأول أظهر لغة ، وعليه وردت الأخبار والآثار ، ولأن الذي فقد أباه عدم النّصرة ، والذي فقد أمّه عدم الحضانة ، وقد تنصر الأمّ لكن نصرة الأب أكثر ، وقد يحضن الأب لكن الأم أرفق حضانة.

المسألة الثالثة ـ إذا بلغ اليتيم زال عنه اسم اليتم لغة ، وبقي على حكم اليتم في عدم الاستبداد بالتصرف حتى يؤنس منه الرّشد ؛ ويأتى بيانه في سورة النساء.

__________________

(١) صفحة ٦٦

(٢) سورة البقرة ، آية ١٧٨

(٣) من ل.

(٤) ليس في ل.

(٥) الآية العشرون بعد المائتين.

(٦) سورة النساء ، آية ١٠

١٥٤

المسألة الرابعة ـ لما أذن الله تعالى للناس في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنظر لهم وفيهم ـ كان ذلك دليلا على جواز التصرّف للأيتام كما يتصرّف للأبناء ، وفي الأثر : ما كنت تؤدّب منه ولدك فأدّب منه يتيمك ، ولأجل ذلك قال بعض علمائنا : إنه يجوز للحاضن أن يتصرف في مال اليتيم تصرّف الوصىّ في البيع والقسمة وغير ذلك ، وقد بيناه في مسائل الفروع ، وبه أقول وأحكم ، فينفذ بنفوذ فعله له في القليل والكثير على الإطلاق لهذه الآية. والله أعلم.

المسألة الخامسة ـ إذا كفل الرجل اليتيم وحازه وكان في نظره ، جاز عليه فعله ، كما قدمناه ، وإن لم يقدمه وال عليه ؛ لأن الآية مطلقة ، ولأن الكفالة ولاية عامة.

واعلموا أنه لم يؤثر على أحد من الخلفاء أنّه قدم أحدا على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم ؛ وإنما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم.

وقد روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال في اللقيط : هو حرّ ، لك ولاؤه ، وعلينا نفقته ـ يعنى بالولاء الولاية ، ليس الميراث ، كما توهمه قوم.

المسألة السادسة ـ فإن قيل : فإذا جعلتم للولىّ أن يتصرف في مال اليتيم تصرفه في مال ابنه بولاية الكفالة كما قدمتم بيانه (١) إن كان بتقديم وال عليه ، فهل ينكح نفسه من يتيمته أو يشترى من مال يتيمته؟

قلنا : إن مالكا جعل ولاية النكاح بالكفالة والحضانة أقوى منها بالقرابة ، حتى قال في الأعراب الذين يسلّمون أولادهم في أعوام المجاعة إلى الكفلة : إنهم ينكحونهم إنكاحهم.

فأما إنكاح الكافل من (٢) نفسه فسيأتى في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى.

وأما الشراء منه فقال مالك وأبو حنيفة : يشترى في مشهور الأقوال إذا كان نظرا له ، وهو صحيح ؛ لأنه من باب الإصلاح المنصوص عليه في الآية.

وقال الشافعى : لا يجوز ذلك في النكاح ولا في البيع ؛ وقد مهّدناه في مسائل الخلاف.

فأما ما نزعه الشافعى من منع النكاح فله فيها طرق بيانها في موضعها هنالك ؛ وأما الشراء فطريقه فيها ضعيف جدّا إلّا أن يدخل معنا في مراعاة الذرائع والتهم فينقض أصله في تركها.

فإن قيل : فلم ترك مالك أصله في التهمة والذرائع ، وجوّز له ذلك من نفسه مع يتيمته؟

__________________

(١) في ل : أو.

(٢) في القرطبي (٣ ـ ٦٤) : لنفسه.

١٥٥

قلنا : إنما نقول يكون ذريعة لما يؤدّى من الأفعال المباحة إلى محظور منصوص عليه ، وأما ها هنا فقد أذن الله سبحانه في صورة المخالطة ، ووكل الحاضنين في ذلك إلى أمانتهم بقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) ، وكلّ أمر مخوف وكل الله تعالى فيه المكلّف إلى أمانته لا يقال فيه إنه يتذرع إلى محظور فيمنع منه (١) ، كما جعل الله سبحانه النساء مؤتمنات على فروجهن ، مع عظم ما يتركب على قولهن في ذلك من الأحكام ، ويرتبط به من الحلّ والحرمة [٧٩] والأنساب ، وإن جاز أن يكذبن. وهذا فنّ بديع فتأمّلوه واتخذوه دستورا في الأحكام وأملوه (٢) ، والله الموفق للصواب برحمته.

الآية الموفية ستين ـ قوله تعالى (٣) : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ، وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا ، وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ اختلف الناس فيها على ثلاثة أقوال :

الأول ـ لا يجوز العقد بنكاح على مشركة كانت كتابيّة أو غير كتابية ؛ قاله عمر في إحدى روايتيه ، وهو اختيار مالك والشافعى إذا كانت أمة.

الثاني ـ أنّ المراد به وطء من لا كتاب له من المجوس والعرب ؛ قاله قتادة.

الثالث ـ أنه منسوخ بقوله تعالى (٤) : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

قال القاضي : ودرسنا (٥) الشيخ الإمام فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسن (٦) الشاشي بمدينة السلام ، قال : احتجّ أبو حنيفة على جواز نكاح الأمة الكتابيّة بقوله تعالى : (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ) ؛ ووجه الدليل من الآية أنّ الله تعالى خاير بين نكاح الأمة المؤمنة والمشركة ، فلو لا أنّ نكاح الأمة المشركة جائز لما خاير الله تعالى بينهما ؛ لأنّ المخايرة

__________________

(١) في ل : به.

(٢) في ا : فأصلوه ، والمثبت من ل.

(٣) الآية الحادية والعشرون بعد المائتين.

(٤) سورة المائدة ، آية ٥

(٥) هكذا في الأصول ، والقرطبي : ٣ ـ ٧٠

(٦) في ل : الحسين.

١٥٦

إنما هي بين الجائزين ، لا بين الجائز والممتنع ، ولا بين المتضادّين ؛ ألا ترى أنك لا تقول : العسل أحلى من الخلّ. والجواب عنه من ثلاثة أوجه :

الأول ـ أنه تجوز المخايرة بين المتضادّين لغة وقرآنا ؛ لأنّ الله تعالى قال (١) : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً). ولا خير عند أهل النار.

وقال عمر رضى الله عنه في رسالته إلى أبى موسى : الرجوع إلى الحقّ خير من التمادي في الباطل.

الثاني ـ أنه تعالى قال : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) ، ثم لما لم يجز نكاح العبد المشرك للمؤمنة كذلك لا يجوز نكاح المسلم للمشركة ؛ إذ لو دلّ أحد القسمين على المراد لدلّ الآخر على مثله ؛ لأنهما إنما سيقتا في البيان مساقا واحدا.

الثالث ـ قوله تعالى : (ولأمة) لم يرد به الرقيق المملوك ؛ وإنما أراد به الآدمية والآدميات ، والآدميّون بأجمعهم عبيد الله وإماؤه ؛ قاله القاضي بالبصرة أبو العباس الجرجانى رحمه الله.

(التنقيح) : كلّ كافر بالحقيقة مشرك ؛ ولذلك يروى عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه كره نكاح اليهودية والنصرانية ، وقال : أىّ شرك أعظم ممن يقول : عيسى هو الله أو ولده ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا ؛ فإن حملنا اللفظ على الحقيقة فهو عامّ خصصته آية سورة النساء ولم تنسخه ؛ وإن حملناه على العرف فالعرف إنما ينطلق فيه لفظ المشرك على من ليس له كتاب من المجوس والوثنيين من العرب ، وقد قال الله تعالى (٢) : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ). وقال (٣) : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ). فلفظ الكفر يجمعهم ، ويخصهم ذلك التقسيم.

فإن قيل : إن كان اللفظ خاصّا كما قلتم فالعلّة تجمعهم ، وهي معنى قوله تعالى : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ؛ وهذا عامّ في الكتابىّ والوثنىّ والمجوسي.

قلنا : لا نمنع في الشّرع أن تكون العلة عامّة والحكم خاصا أو أزيد من العلّة ؛ لأنها دليل في الشرع وأمارات ، وليست بموجبات.

__________________

(١) سورة الفرقان ، آية ٢٤

(٢) سورة البقرة ، آية ١٠٥

(٣) سورة البينة ، آية ١

١٥٧

ويحتمل أن يكون معنى قوله تعالى : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) يرجع إلى الرجال في قوله تعالى : (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) لا إلى النساء ؛ لأن المرأة المسلمة لو تزوّجت كافرا حكم عليها حكم الزوج على الزوجة ، وتمكّن منها ودعاها إلى الكفر ، ولا حكم للمرأة على الزّوج ؛ فلا يدخل هذا فيها ، والله أعلم.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) : قال بعضهم : معناه وإن أعجبكم ، وإنما أوقعه في ذلك علمه بأنّ «لو» تفتقر إلى جواب ، ونسى أنّ «إن» أيضا تفتقر إلى جزاء.

وتأويل الكلام : لا تنكحوا المشركات ابتداء ولو أعجبكم حسنهنّ ، كما تقول : لا تكلم [٨٠] زيدا وإن أعجبك منطقه.

المسألة الثانية ـ قال محمد بن على بن حسين : النكاح بولىّ في كتاب الله تعالى ؛ ثم قرأ : ولا تنكحوا المشركين ـ بضم التاء ، وهي مسألة بديعة ودلالة صحيحة.

الآية الحادية والستون ـ قوله تعالى (١) : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).

فيها اثنتان وعشرون مسألة :

المسألة الأولى ـ سبب السؤال ، وقد اختلف العلماء فيه على قولين : فروى أنس بن مالك : كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت ، فسئل النبىّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل الله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً).

فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤاكلوهن ويشاربوهنّ ، وأن يكونوا في البيوت معهنّ ، وأن يفعلوا كلّ شيء ما خلا النكاح.

فقالت اليهود : ما يريد محمد أن يدع من أمرنا شيئا إلّا خالفنا فيه ، فجاء أسيد (٢) بن الحضير ، وعباد بن بشر ، فقالا : يا رسول الله ؛ ألا نخالف اليهود فنطأ النساء في المحيض؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننّا أنه قد وجد (٣) عليهما. قال : فقاما فخرجا عنه فاستقبلتهما

__________________

(١) الآية الثانية والعشرون بعد المائتين

(٢) يقال لأبيه حضير الكتائب.

(٣) وجد عليهما : غضب.

١٥٨

هديّة من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فبعث في آثارهما فسقاهما ، فعلما أنه لم يجد عليهما. وهذا حديث صحيح متفق عليه من الأئمة.

المسألة الثانية ـ كان غضب النبي صلى الله عليه وسلم عليهما لأحد أمرين ؛ إما كراهية من كثرة الأسئلة ، ولذلك كان عليه السلام يقول : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. وإما أن يكون كره الأطماع المتعلقة بالرذائل ، وإن كانت مقترنة باللذات ؛ والوطء في حالة الحيض رذيلة يستدعى عزوف النفس وعلوّ الهمة الانكفاف عنه لو كان مباحا ، كيف وقد وقع النهى عنه لا سيما ممن تحقّق في الدين علمه ، وثبت في المروءة قدمه كأسيد وعبّاد.

وقد روى عن مجاهد قال : كانوا يأتون النساء في أدبارهنّ في المحيض فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى الآية. وهذا ضعيف يأتى القول فيه إن شاء الله تعالى.

المسألة الثالثة ـ في تفسير المحيض. وهو مفعل ، من حاض يحيض إذا سال حيضا ، تقول العرب : حاضت الشجرة والسمرة : إذا سالت رطوبتها ، وحاض السيل : إذا سال ، قال الشاعر (١) :

وحيّضت ... عليهنّ حيضات السّيول الطّواحم

وهو عبارة عن الدم الذي يرخيه الرّحم فيفيض ، ولها ثمانية أسماء :

الأول ـ حائض. الثاني ـ عارك. الثالث ـ فارك. الرابع ـ طامس. الخامس ـ دارس. السادس ـ كابر. السابع ـ ضاحك. الثامن ـ طامث.

قال مجاهد في قوله تعالى (٢) : (فَضَحِكَتْ) ، يعنى حاضت. وقال الشاعر :

ويهجرها يوما إذا هي ضاحك

وقال أهل التفسير (٣) : (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) ؛ يعنى حضن ، وأنشدوا في ذلك : يأتى (٤) النساء على أطهارهنّ ولا يأتى (٥) النساء إذا أكبرن إكبارا

__________________

(١) البيت :

أجالت حصاهن الذوارى وحيضت

عليهن حيضات السيول الطواحم

وهو لعمارة بن عقيل (اللسان ـ حيض ، طحم).

(٢) سورة هود ، آية ٧١

(٣) سورة يوسف ، آية ٣١

(٤) في اللسان ـ كبر : نأتى.

١٥٩

المسألة الرابعة ـ المحيض ، مفعل ، من حاض ، فعن أى شيء يكون عبارة عن الزمان أم عن المكان أم عن المصدر حقيقة أم مجاز؟

وقد قيل : إنه عبارة عن زمان الحيض وعن مكانه ، وعن الحيض نفسه (١).

وتحقيقه عند مشيخة الصنعة قالوا : إن الاسم المبنىّ من فعل يفعل للموضع مفعل بكسر العين كالمبيت والمقيل ، والاسم المبنىّ منه على مفعل بفتح العين يعبّر به عن المصدر كالمضرب ، تقول : إنّ في ألف درهم لمضربا ، أى ضربا ، ومنه قوله تعالى (٢) : (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) ؛ أى عيشا. وقد يأتى المفعل ـ بكسر العين ـ للزمان ، كقولنا : مضرب الناقة ؛ أى زمان ضرابها.

وقد يبنى المصدر أيضا [٨١] عليه ، إلّا أنّ الأصل ما تقدم. وذلك كقوله تعالى (٣) : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) ، أى رجوعكم ، وكقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) ، أى عن الحيض.

وإذا علمت هذا من قولهم ، فالصحيح عندي أنّ كل (ف ع ل) لا بد لكل متعلق من متعلّقاته من بناء يختصّ به قصدا للتمييز بين المعاني بالألفاظ المختصة بها ، وهي سبعة : الفاعل ، والمفعول ، والزمان ، والمكان ، وأحوال الفعل الثلاثة من ماض ، ومستقبل ، وحال ، و (٤) يتداخلان ، ثم يتفرّع إلى عشرة وإلى أكثر منها بحسب تزايد المتعلقات. وكلّ واحد من هذه الأبنية يتميز بخصيصته اللفظية عن غيره تميّزه بمعناه ، وقد يتميز ببنائه في حركاته وتردّداته المتصلة وتردّداته المنفصلة ، كقولك : معه ، وله ، وبه ، وغير ذلك. فإذا وضع العربىّ أحدهما موضع الآخر جاز ، وهذا على جهة الاستعارة ، وهذا بيّن للمنصف (٥) استقصيناه من كتاب ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين ؛ فإذا ثبت هذا وقلت معنى قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) زمان الحيض صحّ ، ويكون حينئذ مجازا على تقدير محذوف دلّ عليه السبب الذي كان السؤال بسببه ، تقديره : ويسألونك عن الوطء في زمان الحيض.

وإن قلت : إنّ معناه موضع الحيض كان مجازا في مجاز على تقدير محذوفين تقديره :

__________________

(١) في ا : لنفسه ، وهو تحريف.

(٢) سورة عم ، آية ١١

(٣) سورة المائدة ، آية ٤٨.

(٤) في ل : ثم يتداخلان.

(٥) في ا : للمصنف اقتضيناه ، وهو تحريف ، والمثبت من ل.

١٦٠