إعراب القرآن - ج ١

الزجّاج

إعراب القرآن - ج ١

المؤلف:

الزجّاج


المحقق: ابراهيم الأبياري
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٩٨

كدور الذي يغشى عليه ، أي : كدور عين الذي يغشى عليه من الموت ، أي : من حذر الموت ، أو : من خوف الموت ، أو : من مقارفة الموت.

ويجوز / أن يكون حالا من المضاف إليه «الأعين» ، أي : تدور أعينهم مشبهين الذي يغشى عليه ، لأن الذي يغشى عليه تدور عينه ، فيكون الكاف على هذا حالا ، وعلى القول الأول وصفا للمحذوف منه ، وفى كلا الأمرين فيه ذكر من هو له.

ومن حذف المضاف قوله تعالى : (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) (١) أي : فى ملك ما ملكناكم تخافونهم ، أي : تخافون تسويتهم فى الملك ، لأن سياقة الكلام عليه ، ولا يكون المعنى على : تخافون مكايدتهم أو بأسهم ، لأن ذلك غير مأمون منهم. فالمعنى : تخافون تسويتهم إياكم ، فتقدير المصدر الإضافة إلى الفاعل ، فقوله (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) (٢) أي : كخيفتكم المساواة بينكم. فهو من باب (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٣) ، لأن التسوية بين الأحرار قائمة واقعة ، أي : تخافون المماليك كما تخافون الأحرار. والمراد بأنفسكم : الأحرار.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (٤) ، أي ذا ثيابك فطهر ، فحذف المضاف ، فهذا كقوله تعالى (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ) (٥) أي برأك مما رميت به.

ومن ذلك قوله تعالى (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ) (٦) أي صيد ما علّمتم.

ومنه قوله تعالى (طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) (٧) أي ذا يبس.

__________________

(١) الروم : ٢٨.

(٢) الروم : ٢٨.

(٣) البقرة : ١٩٤.

(٤) المدثر : ٤.

(٥) آل عمران : ٤٢.

(٦) المائدة : ٤.

(٧) طه : ٧٧.

٨١

ومن ذلك قوله تعالى : (سُبُلَ السَّلامِ) (١) أي : سبل دار السلام ، يعنى : سبل دار الله. ويجوز أن يكون «السلام» السلامة ، أي : دار السلامة.

ومن ذلك قوله تعالى : (فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) (٢) أي : على مرآة أعين الناس.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) (٣) أي : لا تعرضوا عن أمره وتلقّوه بالطاعة والقبول ، كما قال عزوجل : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) (٤).

ومن ذلك قوله تعالى : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) (٥) أي : أن إخراجكم إذا متّم. لا بد من حذف المضاف ، لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة ، كقولهم : الليلة الهلال.

ومن ذلك قوله تعالى : (ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) (٦) أي : على ألسن رسلك.

وقال : (ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ) (٧) أي : بردّها ، لأنهم إذا سألوا عما يسوؤهم «إذا أظهر لهم فأخبروا به» ردوها ، ومن رد على الأنبياء كفر ، فالتقدير فيه : بردها / وتركهم قبولها.

__________________

(١) المائدة : ١٦.

(٢) الأنبياء : ٦١.

(٣) الأنفال : ٢٠.

(٤) النور : ٦٣.

(٥) المؤمنون : ٣٥.

(٦) آل عمران : ١٩٤.

(٧) المائدة : ١٠٢.

٨٢

وقال الله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) (١) أي : كراهة أن يكونا ملكين.

ومن ذلك قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) (٢) أي : من بعد إمرار قوة ، و «قوة» واحد فى معنى الجمع. و «أنكاثا» ، حال مؤكدة ، لأن فى النقض دلالة على النكث.

ومن ذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) (٣) والجن قد تبينوا أنهم لا يعلمون الغيب ، فهو على حذف المضاف ، أي بتبين أمر الجن ، فصار بمنزلة : اجتمعت اليمامة. وحمل «أن» على موضع المحذوف ، ف «أن» بدل من أمر الجن.

ومن ذلك قوله تعالى ، فى قصة شعيب : (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ) (٤) أي : فعل الإصلاح ، لأن الاستطاعة من شرط الفعل دون الإرادة.

ومن ذلك قوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) (٥) أي : دخول جنات عدن (وَمَنْ صَلَحَ) (٦) أي : دخول من صلح.

فإن قلت : فهل يكون (وَمَنْ صَلَحَ) (٧) على : زيدا ضربته وعمرا ، فتحمله على المضمر دون «ضربته» ، فإن ذلك لا يجوز.

ألا ترى أن «يدخلونها» صفة وليس بخبر ، لأن «جنات عدن» نكرة وليس كزيد. قاله أبو علىّ.

__________________

(١) الأعراف : ٢٠.

(٢) النحل : ٩٢.

(٣) سبأ : ١٤.

(٤) هود : ٨٨.

(٥) الرعد : ٢٢ ، ٢٣.

٨٣

وعندى فيه نظر ، لأنّ كون قوله «يدخلونها» صفة لجنات لا يمنع عطف «ومن صلح» على الضمير الذي فيه.

ومن ذلك قوله تعالى : (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) (١) أي : أخذ من وجد فى رحله ، فحذف المضاف.

ومنه قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) (٢) أي : أمر الله.

ومنه قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ) (٣) أي : أمم النبيين.

وقال : (كَمَثَلِ رِيحٍ) (٤) ، أي : كمثل إنفاق زرع ذى ريح ، فحذف ، أي : فإنفاق بعض هذا الزرع لا يجدى عليه شيئا ، كذلك إنفاق هؤلاء لا يجدى عليهم نفعا ولا يرد عنهم ضيرا. ووصف الزرع بأنه ذو ريح ، فى وقتها كان ، كما أن من قرأ فى قوله تعالى : (سَحابٌ ظُلُماتٌ) (٥) أضاف السحاب إلى الظلمات ، لأنه فى وقتها نشأت ، وعلى هذا ينبغى أن يحمل ، ليكون مثل النفقة. ولا تكون النفقة كالريح ولا كمثل الريح ، فانما هو كلام فيه اتساع لمعرفة المخاطبين بالمعنى ، كقولهم : ما رأيت كاليوم رجلا.

وقدره أبو علىّ / مرة أخرى : كمثل إهلاك ريح ، أو فساد ريح.

وإن جعلت «ما» بمنزلة «الذي» كان التقدير مثل إفساد ما ينفقون ، وإتلاف ما ينفقون ، كمثل إتلاف ريح ، تقدّر إضافة المصدر إلى المفعول فى الأول ، وفى الثاني إلى الفاعل.

__________________

(١) يوسف : ٧٥.

(٢) البقرة : ٢١٠.

(٣) آل عمران : ٨١.

(٤) آل عمران : ١١٧.

(٥) النور : ٤٠.

٨٤

وقال فى قوله تعالى : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) (١) اللفظ على «تسؤهم» للحسنة ، والتقدير على حذف المضاف ، أي : تسؤهم إصابتك الحسنة ، نقدّر المصدر مضافا إلى المفعول به.

وكذلك (يَفْرَحُوا بِها) (٢) أي : بإصابتكم السيئة.

ومن ذلك قوله تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ) (٣) أي كإبطال الذي ينفق ، أو كإهلاك الذي ينفق.

ومن ذلك قوله تعالى : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها) (٤) أي : لن ينال ثواب الله (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى) (٥) ، أي : ينال ثواب التّقوى

ومن ذلك قوله تعالى : (لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) (٦) أي : قتال نفسك ، أو : جهاد نفسك. وفى الأخرى : (وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) (٧) ألا ترى أن الإنسان لا يكلّف العين (٨) ، وإنما يكلّف معنى فيه ، كقول الأعشى :

إلّا كخارجة المكلّف نفسه

وابني قبيصة أن أغيب ويشهدا (٩)

والتقدير فيه ؛ شرة نفسه. المعنى : والمتكلّف شرة نفسه ، فحذف المضاف إليه (١٠) ، كما حذف فى الآية.

ومن ذلك قوله تعالى : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (١١) أي : من قتالهم فى شىء ، نسختها سورة التّوبة. عن الكلبي.

__________________

(١) آل عمران : ١٢٠.

(٢) البقرة : ٢٦٤.

(٣) الحج : ٣٧.

(٤) النساء : ٨٤.

(٥) الفرقان : ٥٢.

(٦) أي : ذات المسيء.

(٧) الديوان (ص ١٥٣) طبعة أورية.

(٨) كذا في الأصل ، والمحذوف هنا المضاف لا المضاف إليه.

(٩) الأنعام : ١٥٩.

٨٥

وقيل : لست عن مخالطتهم فى شىء. نهى نبيّه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ عن مقاربتهم ، وامره بمساعدتهم. عن قتادة.

قال أبو علىّ : (لست منهم) ، كقوله : فإنّي لست منك ، للمبارأة.

وحمل الجار «فى شىء» على أنه حال من الضمير فى «منهم» على الوجوه كلها.

ومن ذلك قوله تعالى : (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي) (١) أي : دخول جنات ، فحذف المضاف.

وقال : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) (٢) أي : دخول جنات ، كما أن قوله : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) (٣) كذلك ، لأن جهنم والجنة عين ، فلا يكون حدثا.

ومن ذلك قوله تعالى : (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) (٤) أي : خلاف خروج رسول الله. والخلاف والخلف واحد ، وهو ظرف.

وقيل : هو مصدر فى موضع الحال ، أي : فرح المخلّفون / بمقعدهم مخالفين رسول الله ، والمقعد المصدر لا غير لتعلّق «خلاف» به ، والمكان لا يتعلق به شىء. وإن كان «خلاف» مصدرا فهو مضاف إلى المفعول به.

__________________

(١) الحديد : ١٢.

(٢) البينة : ٨.

(٣) النساء : ٩٣.

(٤) التوبة : ٨١.

٨٦

و «المقعد» ، و «المثوى» فى قوله تعالى : (النَّارُ مَثْواكُمْ) (١) [و «مغار» فى قول حميد بن ثور] (٢) :

مغار ابن هماّم على حىّ خثعما (٣)

مصادر كلها ، لما يتعلق به ما بعدها ، فالمقعد : القعود. والمثوى : الثواء. والمغار : الإغارة.

و «الملقى» ، فى قول ذى الرّمة :

فظل بملقى واجف جرع المعا

أي : فظل بالإلقاء.

و «المجرّ» ، فى قول النابغة :

كأن مجرّ الراسيات ذيولها

[فالملقى و] (٤) المجرّ مصدران.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَقُودُهَا النَّاسُ) (٥) لا يكون إلا على الاتساع ، أي : وقودها يلهب الناس.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٦). «ما» ، بمنزلة الذي. ويجوز أن تجعلها مصدرا ، أي : الكتمان. ويريد مع هذا بالكتمان : المكتوم ، أي : ذا الكتمان ، فحذف المضاف ، ويخرج على معنى الحكاية ،

__________________

(١) الأنعام : ١٢٨.

(٢) التكملة من الكتاب لسيبويه (١ : ١٢٠).

(٣) عجز بيت صدره :

وما هي إلا في إزار وعلقة

(٤) التكملة من الكتاب لسيبويه (١ : ١٢٠).

(٥) التحريم : ٦.

(٦) البقرة : ٧٢.

٨٧

كقوله : (باسِطٌ ذِراعَيْهِ) (١). وإنما قال : (ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٢) لمن علم القاتل وكتم أمره ، دون القاتل ، لأنه يجعد ولا يكتم.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) (٣).

وقال أبو عبيدة (٤) : أي : وقودا. وهذا يصح على حذف المضاف والمضاف إليه كله ، أي وكفى بسعير جهنم سعيرا ، لأن السعير هو الاستعار ، و «جهنم» اسم مكان ، فلا يكون ذو الحال الحال إلا على هذا التقدير ، وتكون الحال مؤكّدة كقوله :

كفى بالنّأي من أسماء كاف

وقال أبو الحسن فى «سعير» : أي مسعورة. واستدل على ذلك بقوله تعالى : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) (٥).

وإن أراد أبو عبيدة بالوقود الحطب ، كان أيضا على حذف المضاف ، أي : وكفى بوقود جهنم وقودا ، والحال أيضا مؤكدة.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً* دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) (٦) انتصب «أجرا» لأن «فضّل» يدل على «أجر» ولا ينتصب بفضّل ، لاستيفائه المجاهدين أولا ، والثاني (٧) «على القاعدين». و «درجات» ، أي : أجر درجات ، فحذف ، وهو بدل. أو يكون : «بدرجات» ، فهو ظرف. و «مغفرة» ، أي : وجزاهم / مغفرة ، أو يكون : وغفر مغفرة.

__________________

(١) الكهف : ١٨.

(٢) البقرة : ٧٢.

(٣) النساء : ٥٥.

(٤) ابو عبيدة معمر بن المثنى. وكانت وفاته سنة ٢٠٩ ه‍.

(٥) التكوير : ١٢.

(٦) النساء : ٩٥ و ٩٦.

(٧) والثاني ، بمعنى المفعول الثاني للفعل «فضل».

٨٨

ومن ذلك قوله تعالى : (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ) (١) أي : اصطياد صيد البر ، لأن الاسم غير محرم. وإن حملت الصيد على المصدر ، والتقدير : صيد وحش البر ، لأن البرّ لا يصاد ، فالصيد هنا مثله فى قوله : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ) (٢) على الوجه الأول.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ) (٣) يحتمل أمرين : أحدهما : رسلا قصصنا أخبارهم عليك ورسلا لم نقصص عليك ، أي : لم نقص أخبارهم عليك.

وقد يكون على : رسلا قصصنا أسماءهم عليك ، ورسلا لم نقصص أسماءهم.

ففى كلا القولين يكون على تأويل حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.

ومن ذلك قوله عزوجل : (وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (٤).

ومن ذلك قوله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) (٥). والتقدير : أو مثل من كان ميتا ، ليطابق قوله (كَمَنْ مَثَلُهُ) (٦) فحذف المضاف. وإن شئت كان التقدير : كمن مثله. فهو كقولهم : أنا أكرم مثلك ، أي أكرمك. وقال عزوجل : (كَمَنْ هُوَ أَعْمى)(٧).

__________________

(١) المائدة : ٩٩٦.

(٢) المائدة : ٩٥.

(٣) النساء : ١٦٤.

(٤) الأنعام : ٥٢ ويلاحظ أن تعقيب المؤلف على الآية لم يذكر.

(٥) الأنعام : ١٢٢.

(٦) الرعد : ١٩.

٨٩

ومن ذلك قوله تعالى : (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) (١) ، أي : من استمتاع الإنس، أي : من استمتاعكم بالإنس ، فحذف بعد ما أضاف إلى المفعول مع الجار ، والمجرور مضمرّ لقوله : (اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) (٢).

ومن ذلك قوله تعالى : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا) (٣) أي : هدم بنيانهم ، أو حرق بنيانهم.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) (٤) أي : كتب ثواب قطعه ، فحذف المضاف ، فصار : كتب لهم قطعه ؛ ثم حذف أيضا «القطع» فارتفع الضمير.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) (٥) أي «جزاء فضله ، لأنّ الفضل قد أوتيه.

ومن ذلك قوله تعالى : (بِدَمٍ كَذِبٍ) (٦) أي : ذى كذب ؛ وقيل : بدم مكذوب فيه.

ومن ذلك قوله تعالى : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) (٧) أي : عنب خمر ، فحذف.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) (٨) أي : على معصية ربه ، فحذف المضاف. قال أبو علّى : أي : ساقطا. مثل قوله : جعل قضاء حاجتى بظهر ، أي: نبذه وراء ظهره ، ولم يلتفت إليه.

__________________

(١) الأنعام : ١٢٨.

(٢) التوبة : ١١٠.

(٣) التوبة : ١٢١.

(٤) هود : ٣.

(٥) يوسف : ١٨.

(٦) يوسف : ٣٦.

(٧) الفرقان : ٥٥.

٩٠

وقوله تعالى : / (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً) (١) أي : عقاب يوم.

ومن ذلك قوله تعالى : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ) (٢) أي : إنّ دخولها ، لقوله : (لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) (٣).

ومن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (٤) أي ذا العهد [كان] مسئولا عنه ، وذا الأمانة ، فحذف.

وقوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٥) أي : كل أفعال أولئك ، أي : إن ذا العهد كان مسئولا عنه ، أي عن كل الأفعال.

وقيل : أي : يكون الإنسان هو المسئول عن السمع والبصر والفؤاد ، تسأل عن الإنسان لتكون شهودا عليه وله ، بما فعل من طاعة وارتكب من معصية (٦).

وقيل : يعود إلى «البصر» (٧).

وقيل : يعود إلى «كل».

ومن ذلك قوله تعالى : (لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) (٨) أي : لن تخرق عمقها ، أي : لن تبلغ طول ذا ولا خرق ذا وأنت ضعيف عاجز.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (٩) أي : تزيدهم تلاوته خشوعا ، أو سماعهم له.

__________________

(١) المزمل : ١٧.

(٢) المائدة : ٢٦.

(٣) المائدة : ٢٤.

(٤) الإسراء : ٣٤.

(٥) الإسراء : ٣٦.

(٦) وزاد القرطبي (١٠ : ٢٦٠) عبارة موضحة : «فالإنسان راع على جوارحه ، فكأنه قال : كل هذه كان الإنسان عنه مسؤولا».

(٧) الأصل : «إلى العصر».

(٨) الإسراء : ٣٧.

(٩) الإسراء : ١٠٩.

٩١

ومن ذلك قوله تعالى : (كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (١) أي : دخول جنات الفردوس ، ف «نزلا» ، حال من الضمير المجرور فيمن جعلها جمع نازل. ومن جعله كقوله : (هذا نُزُلُهُمْ) (٢) كان خبرا ، والتقدير : كانت لهم ثمر الجنات ، فحذف المضاف.

ومن ذلك قوله تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٣) أي : كما بدأ خلقكم تعودون. أي : يعود خلقكم عودا كبدئه. والخلق : اسم الحدث ، لا الذي يراد به المخلوق.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٤) أي : كان الانفاق ذا قوام بين ذلك.

وإن شئت علّقت الظرف بما دلّ عليه القوام ، كأنه : [قال] (٥) : مستقيما بين الإسراف والإقتار ، فلا تجعله متقدما على المصدر وما يجرى مجراه ، لأن ذلك لا يستقيم.

وإن شئت علّقته [به] (٦) فكان على هذا النّحو.

وإن شئت علّقته بمحذوف جعلته الخبر ، كأنه قال : بين الإسراف أو التبذير والإقتار ، فأفرد ذلك كما أفرد فى قوله : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) (٧) وكلا «ذلك» وجه حسن.

ومن ذلك قوله تعالى : (حَسِبَتْهُ لُجَّةً) (٨) أي : حسبت صحن الصّرح من القوارير ماء ذا لجة.

__________________

(١) الكهف : ١٠٧.

(٢) الواقعة : ٥٦.

(٣) الأعراف : ٢٩.

(٤) الفرقان : ٦٧.

(٥) زيادة يقتضيها السياق.

(٦) البقرة : ٦٨.

(٧) النمل : ٤٤.

٩٢

وقال تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) (١) بمعنى : أدرك ولحق ؛ فالمعنى : أنهم لم يدركوا علم الآخرة ، أي : لم يعلموا حدوثها وكونها. ودل على ذلك / : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) (٢) أي : من عملها. ف «فى» بمعنى الباء ، أي : لم يدركوا علمها ، ولم ينظروا فى حقيقتها فيدركوها ، أي إدراك علمهم بحدوثها ، بل هم فى شك من حدوثها ، بل هم عن علمها عمون.

ومن ذلك قوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ) (٣) أي : صاحب سقاية الحاج.

وقال عزّ من قائل : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) (٤) أي : من أهل قرية (هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) (٥) أي : أخرجك أهلها.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ) (٦) أي : تمليك مغانم ، ويراد به المفعول ، لأن الحرث لا يؤخذ (٧).

ومن ذلك : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) (٨) [أي : تأويل الرؤيا] ؛ لأن «الرؤيا» إنما هى مخايل ترى فى المنام وليس بحديث فيحتمل الصدق والكذب. والتأويل : حديث ، فيحتمل الصدق والكذب ، و «صدق». فعل يتعدى إلى مفعولين.

ومن ذلك قوله تعالى : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) (٩) أي : من رهبة الله. والمعنى : يرهبونكم أشد مما ترهبون الله.

__________________

(١) النمل : ٦٦.

(٢) التوبة : ١٩.

(٣) محمد : ١٣.

(٤) الفتح : ٢٠.

(٥) كلما وردت هذه العبارة ، وهي ليست متصلة بالآية السابقة بل بآية أخرى تتصل بالحرث.

(٦) الفتح : ٢٧.

(٧) الحشر : ١٣.

٩٣

وهذا مثل قوله تعالى فى صفتهم : (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) (١). وقال عزّ من قائل: (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) (٢) فوصفوا فى ذلك بالجبن والفرق. والتقدير : رهبتهم لكم تزيد على رهبة الله. فالمصدر المقدر حذفه فى تقدير الإضافة إلى المفعول به.

ومن ذلك قوله تعالى : (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) (٣) أي : من صفاء فضة. ويكون قوله «من فضة» صفة للقوارير ، كما أن «قدّروها» صفة.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) (٤) أي : اقتحام العقبة. ثم قال : (فَكُّ رَقَبَةٍ) (٥) أي : اقتحامها فكّ رقبة.

(ثُمَّ كانَ) (٦) أي : إن كان ، أي : ثم كونه من الذين ، فحذف «أن» كقوله :

«أحضر الوغى (٧)».

ومن ذلك قوله تعالى : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ) (٨) أي : من كل ذى أمر.

ومن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ) (٩) أي : من خشية عقاب ربهم. والخشية : خوف فيه تعظيم للمخشىّ منه ، بخلاف الإشفاق ، فكأنه قال : هم حذرون المعاصي من أجل خشية عقاب الله.

__________________

(١) التوبة : ٥٦.

(٢) المنافقون : ٤.

(٣) الدهر (الإنسان) : ١٦.

(٤) البلد : ١٢.

(٥) البلد : ١٣.

(٦) البلد : ١٧.

(٧) جزء من بيت لطرفة بن العبد في معلقته ، وهو بتمامة :

ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغي

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي

(٨) القدر : ٤ و ٥.

(٩) المؤمنون : ٥٧.

٩٤

الثالث

باب ما جاء في التنزيل معطوفا بالواو والفاء

وثم من غير ترتيب الثاني على الأول

/ فمن ذلك قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (١) ألا ترى أن الاستعانة على العبادة قبل العبادة.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) (٢).

وقال عزّ من قائل فى سورة الأعراف : (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) (٣) والقصة قصة واحدة ، ولم يبال بتقديم الدخول وتأخيره عن قول الحطّة.

ومثله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) (٤) لأن العفو ألّا يكون فى القلب من ذنب المذنب أثر ، والصفح أن يبقى له أثر ما ، ولكن لا تقع به المؤاخذة.

ومن ذلك قوله تعالى : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٥) والسجود قبل الركوع ، ولم يبال بتقديم ذكره لمّا كان بالواو ، فوجب أن يجوز تقديم غسل اليد والرجل على غسل الوجه فى قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (٦).

__________________

(١) الفاتحة : ٤.

(٢) البقرة : ٥٨.

(٣) الأعراف : ١٦١.

(٤) البقرة : ١٠٩.

(٥) آل عمران : ٤٣.

(٦) المائدة : ٦.

٩٥

ومن ذلك قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ) (١) والرفع قبل التّوفّى.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) (٢) إلى قوله : (وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً) (٣) فأخّر لوطا عن إسماعيل وعيسى.

نظيره فى النساء : (وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ) (٤) وعيسى بعد جماعتهم.

ومن ذلك قوله تعالى : (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (٥) فى الأعراف ، وفى طه : (بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠)) (٦). وفى الشعراء (٧) أيضا ، فبدأ أولا بموسى ثم قدّم هارون فى الأخريين.

ومن ذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً) (٨) وإمطار الحجارة قبل جعل الأسافل أعالي. فقدّم وأخّر الإمطار. نظيره في سورة الحجر(٩).

وقال تعالى : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (١٠) والنذر قبل العذاب.

وفسر قوله تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) (١١) أي : وانتفخت لظهور نباتها ، فيكون من هذا الباب ؛ وفسروها بأضعف نباتها ، فلا يكون من هذا الباب.

__________________

(١) آل عمران : ٥٥.

(٢) الأنعام : ٨٤.

(٣) الأنعام : ٨٦.

(٤) النساء : ١٦٣.

(٥) الأعراف : ١٢٢.

(٦) طه : ٧٠.

(٧) الشعراء : ٤٨ (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ). ويظهر من ذلك أن تقديم هارون في سورة طه وحدها.

(٨) هود : ٨٢.

(٩) يريد قول الله تعالى : (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) الحجر : ٧٤.

(١٠) القمر : ١٦.

(١١) الحج : ٥.

٩٦

وأما قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) (١) فلا يخلو «أهلكناها» من أن يكون خبرا أو صفة ؛ فالذى يقوّى الخبر قوله تعالى / : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) (٢). وقوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) (٣). فكما أن «كم» فى هذه المواضع محمولة على «أهلكنا» كذلك إذا شغل عنها الفعل بالضمير ترتفع بالابتداء ، مثل زيدا ضربت ، وزيد ضربته. ومن قال : زيدا ضربته ، كان قوله تعالى :

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) «كم» فى موضع النصب.

فإن قلت : فما وجه دخول الفاء فى قوله (فَجاءَها بَأْسُنا) والبأس لا يأتى المهلكين ، إنما يجيئهم البأس قبل الإهلاك ، ومن مجىء البأس يكون الإهلاك ، فإنه يكون المعنى فى قوله (أَهْلَكْناها) قربت من الهلاك ولم تهلك بعد ، ولكن لقربها من الهلاك ودنوها وقع عليها لفظ الماضي ، لمقاربتها له وإحانته إياها. ونظير هذا قولهم : قد قامت الصلاة ، إذا كان المقيم مفردا ، وإن لم تقع التحريمة بها ، للقرب من التحريمة بها. ومنه قول رؤبة :

يا حكم الوارث عن عبد الملك

أوديت إن لم تحب حبو المعتنك (٤)

فأوقع لفظ الماضي على الهلاك لمقاربته منه ، ومراده الآتي. ألا ترى أنك لا تقول : أتيتك إن قمت ؛ وإنما تقول : آتيك إن قمت. فمن حيث كان معناه الآتي ، قال : إن لم تحب ، ومن حيث قارب ذاك أوقع عليه لفظ

__________________

(١) الأعراف : ٣.

(٢) القصص : ٥٨.

(٣) الإسراء : ١٧.

(٤) اعتنك البعير : حبا في العانك فلم يقدر على السير. والعانك : الرمل إذا تعقد وارتفع. يقول : هلكت إن لم تحمل حمالتي بجهد.

٩٧

الماضي ، وكأن المعنى : كم من قرية قاربت الهلاك فجاءها البأس ليلا أو نهارا فأهلكناها ، خبر على هذا. وقوله (فَجاءَها) معطوف. فإن جعلت (أَهْلَكْناها) صفة للقرية ولم تجعله خبرا ، ف «كم» فى المعنى هى القرية. فإذا وصفت القرية فكأنك قد وصفت «ك» إذ كان «كم» فى المعنى هو القرية. ويدلك على ذلك قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) (١) فعاد الذكر على «كم» على المعنى ، إذ كانت الملائكة فى المعنى. وعلى هذا قال : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٢) فيعاد مرّة الذكر على لفظ القرية ، ومرة على معناها ، فيكون دخول الفاء فى قوله : (فَجاءَها بَأْسُنا) (٣) على حد : كل رجل جاءنى فله درهم ؛ فيكون المعنى : كم من قرية جاءها الهلاك فقاربت البأس ، فكان سبب الإهلاك / مجىء البأس ، لأن الإهلاك إنما يكون عما يستحق له الإهلاك ، فكأنها استحقت الإهلاك فجاءها البأس ، فصار نزول البأس استحقاق ذلك. فإذا سلكت فيه هذا المسلك لم يجز فى موضع (كَمْ) النصب (٤) لأن من قال : زيدا ضربته ، لا يقول : أزيدا أنت رجل تضربه ؛ إذا جعلت تضربه صفة للرجل. وكذلك (أَهْلَكْناها) إذا جعلتها صفة ولم تجعلها خبرا. ويكون قوله (فَجاءَها) فى موضع الخبر ، كما أن قوله فله درهم ، من قولك : كل رجل يأتينى فله درهم ، فى موضع الخبر.

ويجوز أيضا أن تكون الفاء عاطفة جملة على جملة ، على تقدير : جاءها البأس قبل الإهلاك ؛ لأن المعنى يدل على أن البأس مجئ الإهلاك ، فصار (فَجاءَها بَأْسُنا) كالتبيين للإهلاك لهم ، والتعريف لوقته.

__________________

(١) النجم : ٢٦.

(٢) الأعراف : ٤.

(٣) في الأصل «لأن إن». وفيها زيادة من الناسخ.

٩٨

قال أبو سعيد (١) : دخول الفاء فى هذا الموضع ونحوه يجرى مجرى الفاء فى جواب الشرط ، وجواب الشرط قد يكون متأخرا فى الكلام ومتقدما فى المعنى ، كقول القائل : من يظهر منه الفعل المحكم فهو عالم به ؛ ومن يقتصد فى نفقته فهو عاقل. ومعلوم أن العلم بالفعل المحكم قبل ظهوره ، وعقل المقتصد قبل الاقتصاد [ممتنع] (٢). وإنّما يقدر فى ذلك : من يظهر منه الفعل فيحكم أنه عالم به.

وكذلك لو جعلناه (٣) جزاء فقلنا : زيد إن ظهر منه الفعل المحكم فهو عالم ، فهو محكوم له بالعلم بعد ظهور ذلك.

وكذلك قوله تعالى : (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً) (٤) لما أهلكها الله حكم بأن البأس جاءها بياتا أو بالنهار. ونحو هذا فى القرآن والكلام كثير. قال الله تعالى : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) (٥) والخطاب لليهود بعد قتل أسلافهم الأنبياء ، على معنى : لم ترضون بذلك؟

وقال عز من قائل : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) (٦) إلى قوله (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (٧) الآية. ومعلوم أنه لا يشترط فى الآخرة شروط الثواب والعقاب. وفى هذا جوابان ، أحدهما : أن معنى (فَمَنْ يَعْمَلْ) أي : فمن يظهر ذلك اليوم فى صحيفته خير أو شر يرى مكافأته.

__________________

(١) هو أبو سعيد الحسن بن عبد الله النحوي. ولد سنة ٢٨٤ ه‍. وكانت وفاته سنة ٣٦٨ ه‍. (وفيات الأعيان ـ نزهة الألباء).

(٢) تكملة يقتضيها السياق.

(٣) في الأصل : «لو جعلته».

(٤) الأعراف : ٤.

(٥) البقرة : ٩١.

(٦) الزلزلة : ١.

(٧) الزلزلة : ١٧.

٩٩

والآخر : / أن المعنى : فمن يعمل فى الدنيا. ويكون كون الفاء بعد ذكر ما ذكر فى الآخرة على معنى : أن ما يكونه الله فى الآخرة من الشدائد التي ذكرها توجب أنه من عمل فى الدنيا خيرا أو شرّا يره ، كما يقول القائل : الآخرة دار المجازاة فمن يعمل خيرا يره. ولم يرد خيرا مستأنفا دون ما عمله العاملون.

وقد يكون ذلك أيضا على مذهب الإرادة ، فيكون التقدير : وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا كما قال الله تعالى (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) (١) والقيام بعد غسل الوجه. والمعنى : إذا أردتم القيام إلى الصلاة.

قال الفرّاء : ربما أتى ما بعد الفاء سابقا إذا كان فى الكلام دليل السّبق. فإذا عدم الدليل لم يجز. وذكر قول الله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) (٢) فذكر عن قوم قالوا : البأس قبل الإهلاك ، كما تأولوا فى «ثمّ» مثل هذا فى قوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) (٣) [أي] ثم خلقكم منها. وقيل : معناها : خلقكم من نفس وحدها ثمّ جعل الزوج منها بعد التوحيد ، فأفادت واحدة هذا المعنى.

قال : والأجود فى قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ) (٤) أن يريد : ولقد خلقنا أصلكم الذي هو آدم ، كما قال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً) (٥) ، معناه : خلق أصلكم ، الذي هو آدم ، من طين.

__________________

(١) المائدة : ٧.

(٢) الأعراف : ٤.

(٣) الزمر : ٦.

(٤) الأعراف : ١٠.

(٥) الأنعام : ٢.

١٠٠