تهذيب اللغة - ج ٥

محمّد بن أحمد الأزهري

تهذيب اللغة - ج ٥

المؤلف:

محمّد بن أحمد الأزهري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٧٠

والعرب تقول فعلنا الْبَارِحةَ كذا وكذا ، للَّيْلَةِ التي مَضَتْ يقال ذاك بعد زَوَال الشمس. ويقولون قَبْلَ الزَّوال فعلنا الليلةَ كذا وكذا ، وقول ذي الرمة :

تَبَلَّغ بَارِحي كَرَاهُ فيه*

قال بعضهم : أَرَادَ النومَ الذي شق عليه أمرُه لامتناعه منه ويقال أراد نوم الليلة البارِحة. والعربُ تقولُ ما أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بالبارحةِ ، أي ما أَشْبَهَ الليلةَ التي نحن فيها بالليلةِ الأولى التي قد بَرِحت أَوْ زَالت ومضت. ويقال للشَّمْس إذا غَرَبت : دَلَكَت بَرَاحِ يا هذا ، على فَعَالِ ، المعنى أَنَّها زالت وبَرِحَت حين غَرَبَت. وبَرَاحِ بمعنى بَارِحةٍ ، كما قالوا لكلْبِ الصيْدَ كَسَابِ بمعنى كاسِبَةٍ ، وكذلك حَذَامِ بمعنى حَاذِمَةٍ. ومن قال دَلَكَت الشمسُ بِرَاحِ ، فالمعنى أنها كادت تَغْرُب وقد وضع يده على حاجبه ينظر زوالها أَو غروبَها ، ثعلب عن ابن الأعرابي دلَكت بِرَاحِ أي اسْتُريح منها. وأنشد الفراء :

هذا مُقام قَدَمَيْ رَبَاحِ

ذبَّبَ حتى دَلَكَتْ بِرَاحِ

يعني الشمسَ. قال شمر قال ابن أبي ظبية العنبري :

بُكْرةً حتى دلكت براح

أي بعشيِّ رائحٍ فأسقط الياء مثل جرف هار وهائِر. وقال المفضّل دلكت بَراحِ وبَراحُ بكسر الحاء وضمها. وقال أبو زيد دلكت براحٍ مجرورٌ منونٌ ودلكت براحُ مضموم غير منون.

حدثنا الكوفي حدثنا الحلواني حدثنا عفانُ عن حمادٍ بن سلمة عن حُمَيْدٍ ، قال : قلنا للحسَن ما قوله ضرباً غير مبرِّح؟ قال : غير مؤثِّر. وهو قولُ الفراء. وقال ابنُ الأعرابيّ : دَلَكَت بَراحِ أي استُريح منها. وروى شمر في حديث عكرمة أَنَّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن التَّوْلِيهِ والتبْريح ، قال التَّبْرِيحُ قَتْلُ السوءِ ، جاء التفسيرُ مُتَّصِلاً بالحديث. قال شمر ذكر ابن المبارك هذا الحديث مَعَ مَا ذُكِرَ من كراهةِ إلْقاءِ السَّمكة إذا كانت حَيَّة على النارِ. وقال : أما الأكلُ فَتُؤْكلُ ولا يُعْجِبُني قال : وذكر بعضُهم أن إلقاءَ القَمْل في النارِ مثلُه. قلت : ورأيت العربَ يملأون الوِعاء من الجَرادِ وهي تهتمش فيه ، ويحتفرون حفرة في الرَّمل ويوقدون فيها ، ثم يَكُبُّون الجَرادَ من الوعاءِ فيها ويُهيلون عليها الإرَّة حتى تموت ، ثم يستخرجونَها ويشرِّرُونها في الشمس فإذا يبست أكلوها.

ربح : قال الليث رَبِحَ فلانٌ وأَرْبَحْتُهُ ، وهذا بيع مُرْبِحٌ إذا كان يُرْبَحُ فيه والعرب تقول رَبِحَتْ تجارتُه إذا ربح صاحبُها فيها. قال الله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البَقَرَة : ١٦]. ويقال أَعْطَيْتُه المال مُرَابَحَةً على أنَ الربحَ بيني وبينه ، هذا قول الليث. وقال غيرُه : بِعْتُه السلْعَةَ مُرَابَحَةً على كل عشرةِ دارهمَ دِرْهَمٌ ، وكذلك اشتَرَيْتُهُ مُرَابَحةً ، ولا بدّ من تَسْمِيَةِ الربح.

وقال الليْثُ رُبَّاحٌ اسم القِرْد ، قال : وضَرْبٌ من التمر يقال له زُبُ رُبَّاح. وأنشد شمر للبعيث :

٢١

شآمية زرْق العيون كأنها

رَبَابِيحُ تَنْزُو أَوْ فُرار مُزَلّم

وقال أبو عبيد : الرُّبَّاحُ : القرد في باب فُعَّال. وقال ابن الأعرابيّ : هو الرُّبَّاح للقرد ، وهو الهَوْبَرُ والحَوْدَلُ. وقال خالد بنُ جنبه : الرُّبَّاح الفَصِيلُ والحاشيةُ الصغيرُ الضَّاوي. وأنشد :

حطّت به الدَّلْوُ إلى قَعْر الطَّوَى

كأنَّما حطَّت بِرُبَّاح ثَنِيّ

قال أبو الهيثم كيف يكون فصيلاً صغيراً وقد جعله ثَنِيّاً ، والثَّنِيُّ ابن خمس سنين ، وأنشد شمر لخداش بن زهير :

وَمَسَبُّكُم سُفْيَان ثم تُرِكْتُم

تَتَنَتَّجُون تَنَتُّجَ الرُّبَّاح

وأنشد ابن الأعرابي لخفاف بن ندبة :

قَرَوْا أَضْيَافَهُمْ رَبَحاً بِبُجٍ

يجيء بفضْلِهن المسّ سُمْر

قال ابن الأعرابي : الرَّبَحُ والرِّبحُ مثل البَدَلِ والبِدْلُ. وقد رَبِحَ يَربَحُ رِبْحَاً ورَبَحاً. قال والبجُّ قِداح الميْسر. قال ويقال الرَّبَح. الفصيل ، وجمعه رِبَاحٌ مثل جمَل وجمال ، ويقال الرَّبَحُ الفِصَالُ ، واحدها رَابح. يقول أعوزَهُم الكبارُ فتقامَروا على الفِصَالِ. قال : ويقال أَرْبَحَ الرجل إذا نحر لضِيفَانه الرَّبَحَ ، وهي الفُصْلان الصغارُ.

يقال رَابحٌ ورَبَحٌ مثل حَارِسٍ وحَرَسٍ.

وقال شمر : الرَّبَحُ : الشحْمُ : قال ومن رواه رُبَحاً فهو ولد الناقة وأنشد :

قد هَدِلت أفْواهُ ذي الرُّبُوح

وأما قول الأعشى :

مِثْلَمَا مُدَّتْ نِصَاحَاتُ الرُّبَح

فقد قيل إنّه أراد الرُّبَع ، فأبدل الحاء من العين.

حبر : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «يخرج رجلٌ من النار قد ذهب حِبْرُه وسِبْرُه» قال أبو عبيد ، قال الأصمعي : حِبْرُه وسِبْرُه هو الجمالُ والبَهاءُ. يقال فلان حَسَن الحِبْرِ والسِّبْرِ. وقال ابنُ أَحمر وذَكَر زَمَاناً :

لَبِسْنَا حِبْرَهُ حتى اقْتُضِينَا

لأجيال وأعمال قُضِينَا

أي لبسنا جماله وهيبته وقال أبو عبيد قال غيره : فلان حَسَنُ الحَبْرِ والسَّبْر إذا كان جميلاً حسَن الهَيْئة بالفتح. قال أبو عبيد : هو عندي بالحَبْر أشبهُ ، لأنه مصدر حَبَرْتُه حَبْراً إذا حسَّنْتَه. وقال الأصمعي : كان يقال للطُّفَيْلِ الغَنَوِيِّ : مُحَبِّر ، في الجاهليّة ، لأنه كان يُحَسِّن الشعر. قال وهو مأخُوذ من التحبير وحُسْنِ الخطِّ والمنطِق. شمر عن ابن الأعرابيّ : هو الحِبْر والسِّبْر بالكسر. قال وأخبرَني أبو زيادٍ الكلابيُّ أنه قال : وقفت على رَجُلٍ من أهل البادية بعد مُنْصَرَفي منَ العراق ، فقال : أمّا اللسان فَبدَويُّ ، وأما السِّبْرُ فحضريٌّ. قال : والسِّبْرُ : الزِّيُّ والهيئةُ. قال : وقالت بدوية : أعجبَنَا سِبْرُ فلانٍ أي حُسْنُ حَالِه وخصْبُهُ في بدنه ، وقالت : رأيته سيِّيءَ السِّبْر إذا كان شاحباً مضروراً في بدنه فجعلت السِّبْرَ بمعنيين.

٢٢

وقال الليث : الحَبَارُ والحِبَرُ أَثَرُ الشَّيْء. وقال أبو عبيد عن الأصمعي : الحَبَارُ أَثَرُ الشَّيْء وأنشد :

لا تملأ الدَّلوَ وعرِّقْ فيها

ألا ترَى حَبَارَ مَنْ يَسْقيها

قال أبو عبيد : وأمَّا الأحْبَارُ والرُّهبان فالفُقَهاءُ قد اختلفوا فيه فبعضهم يقول : حَبْرٌ وبعضهم : حِبْرٌ. قال ، وقال الفراء : إنما هو حِبْر. يقال ذلك للعالِم. وإنما قيل كعب الحِبْر لمكان هذا الحِبْرِ الذي يُكْتَبُ به ؛ وذلك أَنه كان صاحِبَ كُتُبٍ. قال وقال الأصمعيُّ : لا أدري أهو الحِبْرُ أو الحَبْرُ للرجل العالمِ. وكان أبو الْهَيْثَمِ يقول : وَاحِدُ الأحْبَار حَبْرٌ لا غيرُ ، وينكر الْحِبرَ. وأخبرني المُنْذِريُّ عن الحرّانِيّ عن ابن السكيت عن ابن الأعرابي قال : حَبْرٌ وحِبْرٌ للعالمِ. ومثله بَزْر وبِزْرٌ وسَجْف وسِجْفٌ. وقال ابن السكيت : ذهب حِبْرُه وسِبْرُه أي هيْئَتُهُ وسَحْناؤه. وقال ابنُ الأعرابي : رجل حَسَنُ الْحِبْرِ والسِّبر : أي حسن البشرة. وروى عمرو عن أبيه قال الحِبْرُ من الناس : الداهيةُ وكذلك النِّبْرُ. ورجل حِبْرٌ نِبْرٌ. وقال الشَّمَّاخ :

كما خَطّ عِبْرَانِيَّةً بِيَمِينهِ

بِتَيْمَاءَ حَبْرٌ ثم عَرَّض أَسْطُرَا

رواه الرُّواة بالفتح لا غيرُ.

وقال الليث : هو حِبْر وَحَبْرٌ لِلْعالِم ذِمِّيَّاً كان أو مُسلماً ، بعد أن يكون من أهل الكتاب. قال : وكذلك الحِبْر والحَبْر في الجمَال والبَهاء. قال والتحبيرُ : حسن الخطّ.

وأنشد الفراءُ فيما روى سلمة عنه :

كتحبير الكتابِ بخَطِّ ـ يَوْماً ـ

يهودِيٍّ يُقَارِبُ أو يَزِيل

وقال الليث : حَبَّرْتُ الشعرَ والكلامَ ، وحَبَرْته : حسَّنْتُه.

وقَالَ ابنُ السكيت في قول الله جلّ وعزّ : (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) [الروم : ١٥] يُسَرُّون. قال : والحَبْر : السُّرورُ. وأنشد :

الحمد لله الذي أعطى الحَبَرْ

وقال الزجّاج (فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) أي يُكْرَمُون إكْراماً يُبَالَغُ فيه. قال : والحَبْرَةُ المبالغة فيما وُصِفَ بجميلٍ.

وقال الليثُ : يحبرون يُنَعَّمون. قال : والحَبْرَةُ النعمة. وقد حُبِرَ الرجلُ حَبْرَةً وحَبَراً فهو محبور. وقال المزار العدوي :

قد لَبِسْتُ الدَّهر منْ أَفْنَانِه

كُلَّ فَنٍّ ناعمٍ منه حَبِر

وقال بعض المفسرين في قوله (فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) قال : السَّمَاعُ في الجنة. والْحَبْرَةُ في اللُّغة النِّعْمَةُ التَّامَّة.

وقال شمر : الحَبَرُ صُفْرَةٌ تَرْكَبُ الإنسانَ وهي الحِبْرَةُ أيضاً. وأنشد :

تجلو بأخْضَر من نَعْمَانَ ذا أُشُرٍ

كعارض البرْقِ لم يستشرب لِحَبَرا

ونَحوَ ذلك قال الليث في الحبر. وقال شَمِر : أوله الحِبَر ، وهو صُفْرَةٌ ، فإذا اخضرّ فهو قَلَحٌ ، فإذا ألحّ على اللثة حتى تظهرَ الأسْنَاخُ فهو الحَفَر والحَفْرُ.

٢٣

وقال الليث : برودُ حِبَرَةٍ ضرب من البُرُود اليمانية.

يقال بُرْدُ حبرة وبُرُودُ حِبَرَةٍ. قال : وليس حِبَرَةُ موضعاً أو شيئاً معلوماً. إنما هو وَشْيٌ كقولك ثوبُ قِرْمِزٍ ، والقِرْمِزُ صِبْغَةٌ.

وقال الليث : الحبيرُ من السحاب ما يُرَى فيه التَّنْميرُ من كثرة الماء.

قال : والحبير من زَبَدِ اللُّغام إذا صار على رأس البعير. قلت صحّف الليثُ هذا الحرفَ وصوابه الخبير بالخاء لزَبَد أفْواهِ الإبل هكذا قال أبو عبيدٍ فيما رواه الإيادي لنا عن شمر ، عن أبي عُبيد.

وأخبرني المنذريُّ عن أبي الحسن الصيداوي عن الرياشي. قال : الخبير الزَّبَدُ بالخاء وأما الحَبيرُ بمعنى السحاب فلا أعرفه وإن كان أخذه من قول الهذلي :

تَغَذَّمْنَ في جانبيه الحَبيرَ

لَمَّا وهَى مُزْنُهُ واستُبِيحا

فهو بالخاء أيضاً وسنقف عليه في كتاب الخاء مُشْبَعاً إن شاء الله.

وروَى شَمِر عن أبي عمرو قال : المحْبَارُ الأرض السريعةُ الكلأ.

وقال عنترةُ الطائي :

لنا جِبَالٌ وحمى مِحْبَارُ

وطُرُق يُبْنَى بها المَنَار

ويقال للمِحْبَارِ من الأرض حَبِرٌ أيضاً وقال :

ليس بِمِعْشَابِ اللِّوى ولا حَبِر

ولا بعيدٍ من أَذًى ولا قَذَر

قال ، وقال ابن شميل : المِحْبَارُ الأرضُ السريعةُ النَّبَاتِ السهلةُ الدفِيئَةُ التي ببطون الأرض وسَرَارَتِها وأَرَاضتها فتلك المحابير. وقد حَبِرَت الأرضُ وأَحْبَرَتْ. وفي الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خطب خديجَةَ وأجابَتْهُ استأذنت أباها في أن تَتَزَوَّجَهُ وهو ثَمِلٌ فأذن لها في ذلك ، وقال : هو الفحل لا يُقْرَعُ أَنْفُه فنَحَرتْ بعيراً ، وخلَّقت أباها بالعبِير ، وكسَتْه بُرْداً أحمرَ ، فلمّا صحا من سُكُرِه قال : ما هذا الحبِيرُ وهذا العقير وهذا العبير؟ أراد بالحبيرِ البُرْدَ الذي كستْهُ ، وبالعبير الخَلُوقَ الذي خلّقته ، وأراد بالعقيرِ البعيرَ المنحورَ ، وكان عُقر ساقه.

والحُبَارَى ذكرها الحَرَبُ ، وتجمع حُبارَيَات. وللعرب فيها أمثال جمّة ، منها قولُهم أَذْرَقُ من حُبَارى ، وأَسْلَحُ من حُبارَى ، لأنَّها ترمي الصقر بسَلْحِها إذا أَرَاغها ليصيدَها فتلوث ريشه بِلَثَق سَلْحِها. ويقال إنّ ذلك يشتد على الصقر لمنعه إيّاه من الطيران ، ومن أَمْثَالِهم في الحُبَارى : أَمْوَقُ من الحُبَارى ، وذلك أَنّها تعلّم ولدها الطيرانَ قَبْلَ نَبَاتِ جَنَاحه ، فتطير مُعَارِضَةً لفَرْخِها ليتعلّم منها الطيران ، ومنه المثلُ السائِر للعرب «كل شيء يحبُّ ولده حتى الحُبَارى وتَدِفُّ عَنَدَهُ» ومعنى قولِهم «تَدِفُّ عَنَدَه» أي تطير عَنَدَه أي تُعَارضه بالطَّيران ولا طيران له لضعف حِفَافَيه وقَوَادِمه. وقال الأصمعيُّ : فلان يعانِدُ فلاناً أي يفعل فعله ويباريه. ومن أمثالِهم في الحُبارى قولهم : «فلان ميت كَمَدَ

٢٤

الحُبارى» وذلك أنها تُحَسِّر مع الطير أيام التَّحْسِير أي تُلقي الريش ثُمَّ يُبْطِىءُ نباتُ رِيشها فإذا سار سائِرُ الطير عجزت عن الطيران ، فتموت كَمَداً ، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي :

يزيدٌ ميّتٌ كَمَدَ الحُبارى

إذا ظَعَنَتْ أُمَيَّةُ أو يُلِمُ

أي يَمُوت أو يقْرُب من الموتِ.

والحبَابِيرُ فِراخُ الحُبَارى ، واحدتُها حُبُّورة جاء في شعر كعب بن زهير وقيل اليَحْبُور ذَكَرُ الحُبَارى وقال :

كأنّكُمُ ريش يَحْبُورَةٍ

قليلُ الغناءِ عن المُرْتَمى

قلت : والحُبَارَى لا تشربُ الماء ، وتبيضُ في الرمال النائِية ، وكنَّا إذا ظَعَنَّا نُسيرُ في حِبَالِ الدَّهْنَاء ، فربما التَقَطْنَا في يوم وَاحِدٍ من بَيْضِها ما بين الأَرْبعة إلى الثمانية ، وهي تبيض أَرْبَعَ بَيْضَاتٍ ، وَيضْرِبُ لَوْنُها إلى الوُرْقَةِ وطَعْمُها أَلَذُّ من طَعْم بَيْضِ الدَّجاج وبَيْضِ النَّعَامِ ، والنعامُ أيضاً لا تردُ الماءَ ولا تشربهُ إذا وجدته.

عمرو عن أبيه قال : اليَحْبُور : الناعمُ من الرجال. ونَحْوَ ذلك قال شَمِرُ. وجمعه اليَحابير مأخوذ من الحَبَرَة وهي النعْمة.

أبو العباس عن ابن الأعرابي : يقال : ما أَغْنَى فلانٌ عني حَبَرْبَراً ، وهو الشيءُ اليسيرُ من كل شيء ، وقال شمر : ما أغْنَى فلانٌ عني حَبَرْبَراً : أي شيئاً. وقال ابنُ أحمر الباهلي :

أَمَانيُّ لا يُغنين عنها حَبَرْبَراً

وقال الليث : يُقالُ ما عَلَى رأسه حَبَرْبَرَةٌ : أي ما على رأسه شَعْرَةٌ. وقال أبو عمرو : الحَبَرْبَرُ والحَبْحَبِيُّ : الجملُ الصغير. وقال شمر : رجل مُحَبَّر إذا أكل البراغيثُ جِلْدَه فصار لها أَثَرٌ في جِلْدِه. ويقال للآنية التي يجعل فيها الحِبْرُ من خَزَفٍ كانَ أو من قَوَارِيرَ مَحْبُرة ومحبَرة ، كما يقال مَزْرُعة ، ومَزْرَعة ، ومَقْبُرَة ومَقْبَرَة ومخبُزَة ومخبَزَة.

وحِبِرٌّ موضعٌ معروفٌ في البادية. وأنشد شمر عجز بيت :

... فَقَفَا حِبرّ.

بحر : أبو العباس عن ابن الأعرابي : أبْحَرَ الرجلُ إذا أخذه السُّلُّ. وأبْحَرَ الرجلُ إذا اشتدَّتْ حُمْرَةُ أَنْفِه. وأَبْحَرَ إذا صادفَ إنساناً على غير اعتماد وقصد لرؤيته.

وهو من قولهم لقيته صَحْرة بَحْرَةً وقال اللَّيثُ : سُمِّي البحرُ بَحْراً لاستبْحاره ، وهو انْبِسَاطُه وسَعَتُه. ويقال استبْحَرَ فلانٌ في العلم. وتَبَحَّرَ الراعي في رَعْي كثيرٍ ، وتَبَحَّر فلانٌ في العلم ، وتبحّر في المال ، إذا كثُرَ مَالُه ، وقال غيره : سمي البَحْرُ بَحْراً لأنه شَقَّ في الأرض شَقَّاً ، وجَعَلَ ذلك الشَّقٌّ لمائه قَراراً ، والبحرُ في كلام العرب الشَّقَ ، ومنه قيل للنَّاقَةِ التي كانوا يَشُقّون في أذنها شَقّاً : بَحِيرَةٌ. وقال أبو إسحاق النحوي في قول الله جلّ وعزّ : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ) [المَائدة : ١٠٣] أثْبَتُ ما رَوَيْنا عن أهل اللغة في البَحِيرَةِ أنها النّاقة كانت إذا نُتِجَتْ خمسةَ أَبْطُنٍ فكان آخرُها ذكراً بَحَرُوا أُذُنَها أي شقوها ، وأعْفَوْا ظهرَها من الرُّكوب والحَمْلِ والذَّبْح ولا تُحَلأُ عَنْ مَاءٍ تَرِدُه

٢٥

ولا تُمْنَع من مَرْعى ، وإذا لقيها المُعْيِى المنقطَعُ بِه لم يركبْها. وجاء في الحديث أن أول من بَحَّرَ البحائر وحَمَى الحَامِي وغيَّر دينَ إسماعيل عمرو بن لُحَيّ بن قَمَعَة بن خِنْدِفٍ.

وقيل : البحيرةُ الشاة إذا وَلَدتْ خمسةَ أَبْطُن فكان آخرُها ذكراً بحروا أُذنها أي شقُّوها وتُركت فلا يَمَسُّها أحد. قلت : والقولُ هو الأوَّل لما جاء في حديث أبي الأحوص الجشميّ عن أبيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له «أَرَبُّ إبِلٍ أَنْتَ أَمْ رَبُّ غَنَمٍ؟ فقال : منْ كُلٍّ قد آتاني الله فأَكثَرَ. فقال له : هل تُنْتَجُ إبِلُك وافيةً أَذُنُها فَتَشُقّ فيها وتقول بُحُر؟» يريد جمعَ البَحِيرة.

وقال الليث : البحيرةُ : الناقةُ إذا نُتِجَتْ عَشْرَةَ أَبْطُنٍ لم تُرْكَبْ ولم يُنْتَفع بظهرها فَنَهى الله عَنْ ذلك. قلت والقولُ هو الأول فقال الفرَّاء : البحيرَةُ : هي ابْنَةُ السائِبة ، وسنفسر السائِبة في موضعها.

وقال اللَّيْثُ : إذا كان البحرُ صغيراً قيل له بُحَيْرَةٌ. قال وأما البُحَيْرةُ التي بالطَبريَّة فإنها بحر عظيم وهو نحوٌ من عَشْرَةِ أَمْيالٍ في ستة أميال ، وغُؤُور مائِها علامةٌ لخروج الدَّجَّال. قلتُ : والعربُ تقول : لِكلِّ قرية هذه بَحْرَتُنا وروى أبو عبيد عن الأُمَويّ أنه قال : البَحْرَةُ الأرْضُ والبلدةُ.

قال : ويقال : هذه بَحْرَتُنَا.

قال : والماءُ البَحْرُ هو المِلْح ، وقد أبحر الماء إذا صار مِلْحاً وقال نُصَيْبٌ :

وقد عَادَ ماءُ الأرْض بَحْراً فَزَادَنِي

إلى مرضي أن أَبْحَرَ المَشْرَبُ العَذْبُ

وحدّثنا محمد بن إسحاق السعديُّ قال حدّثنا الرّمادي قال حدّثنا عبد الرزاق عن مَعْمَر عن الزُّهري عن عُرْوَة أن أُسَامَةَ بن زيد أخبره «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رَكِب حِمَاراً عَلَى إكافٍ وتَحْتَهُ قطيفَةٌ فَرَكِبَه وأَرْدَف أُسامة ـ وهو يَعُود سَعْدَ بنَ عُبَادة ـ وذلك قَبْل وقْعة بدر فلما غشيت المجْلِسَ عجاجَةُ الدّابَّة خمَّر عبدُ الله بنُ أُبَيٍّ أنْفَه ، ثم قال لا تُغَبِّرُوا عليْنَا ، ثم نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوقف وَدَعاهم إلى الله وقَرَأَ القرآنَ فقال له عبد الله : أيها المرء إن كان ما تقول حَقّاً فلا تؤذِنا في مَجْلِسنا ، وارْجِعْ إلى أهلِكَ فمن جاءك منّا فقُصَّ عليه. ثمَّ ركب دَابّته حتى دخَلَ على سعدِ بن عُبَادةَ ، فقال : أَيْ سَعْدُ ، ألم تسمع ما قال أبو حُبَاب؟ قال كذا : فقال سعد : اعْفُ عَنْه واصْفَحْ فوالله لَقَدْ أعطاك الله الذي أعطاك ، ولقد اصْطَلَحَ أهل هذه البُحَيْرَةِ على أن يُتَوِّجُوه ، يعني يُمَلِّكُوه فَيُعَصِّبوه بالعِصابة ، فلمَّا رَدّ الله ذلك بالحقِّ الذي أعْطَاكَهُ شَرِقَ لذلك فذلك فعل به ما رأيت فعفا عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

وقال الفراء في قول الله جلّ وعزّ (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الرُّوم : ٤١] الآية معناه : أَجْدَبَ البَرُّ ، وانْقَطَعت مادّةُ البَحْرِ بذنوبهم ، كان ذلك ليذُوقوا الشِّدَّةَ بذُنُوبهم في العاجل.

وقال الزَّجّاج معناه : ظَهَرَ الجَدْبُ في البَرِّ ، والقحطُ في مُدُن البحر التي على الأنهار. قال : وكل نَهر ذِي ماءٍ فهو بَحرٌ. قلت : كل نهر لا يَنْقَطِعُ ماؤه : مثل دِجْلة

٢٦

والنّيلِ وما أشبههما من الأنهارِ العذْبة الكبارِ فهي بحارٌ. وأما البحرُ الكبير الذي هو مَغِيضُ هذه الأنهار الكبارِ فلا يكون ماؤه إلا مِلْحاً أُجَاجاً ، ولا يكون ماؤه إلا رَاكِداً ، وأما هذه الأنهارُ العذْبَةُ فماؤها جارٍ. وسميت هذه الأنهارُ بحاراً لأنها مَشْقُوقَةٌ في الأرض شَقّاً.

ويقال للرَّوْضَةِ بَحْرَةٌ وقد أبْحَرَتِ الأرضُ إذا كثُر مناقع الماء فيها.

وقال شمر : البَحْرَةُ الأُوقَةُ يَسْتنقِع فيها الماءُ.

وروى أبو العباس عن ابن الأعرابي أنه قال : البَحْرَةُ : المنخفض من الأرض وأنشد شمر لابن مقبل :

فيه من الأخرج المرباع قرقرة

هدر الديافيّ وسط الهجمة البُحُر

قال : البُحْر الغِزَارُ والأَخْرَجُ المِرْبَاعُ المكَّاءُ.

ابن السكيت أَبْحَر الرجلُ إذا ركب البحرَ والماءَ ، وقد أبرَّ إذا ركب البرَّ ، وأرْيَفَ إذا صار إلى الرِّيف.

وقال الليث : رَجُلٌ بَحْرَانِيٌ منسوب إلى البَحْرَيْنِ. قال وهو مَوْضِعٌ بين البصرة وعُمَانَ. قال : ويقولون هذه البَحْريْنُ وانتهينا إلى البحرين.

وقال أبو عبيد قال أبو محمد اليزيدي سألني المهْدِيُّ وسأل الكسائي عن النسبة إلى البحرين وإلى الْحِصْنَيْن ، لِمَ قالوا حِصْنِيٌّ وبَحْرَانِيٌ؟

فقال الكسائي : كرهوا أن يقولوا حِصْنَانِي لاجتماع النونين ، قال وقلت أنا : كرهوا أن يقولوا بَحْرِيُ فيشبه النسبة إلى البَحْرِ.

قلت أنَا وإِنمَا ثَنَّوْا البحرين لأنَّ في ناحية قُراها بُحَيْرَةً على باب الأحساء ، وقرى هَجَرَ بينها وبين البحر الأخْضَرِ عَشْرَةُ فَرَاسخ ، وقَدَّرْتُ البُحَيْرَة ثلاثةَ أميالٍ في مثلها ، ولا يَغِيضُ ماؤها ، وماؤها راكد زُعاق. وقد ذكرها الفرزدقُ فقال :

كأنّ دياراً بين أَسْنُمَة النَّقا

وبين هَذَا لِيل البُحَيْرَة مُصْحَفُ

وقال الليث : بنات بحرٍ ضرب من السَّحَاب.

قلت : وهذا تصحيف منكر والصواب بَنَات بَخْرِ قال أبو عبيد عن الأصمعي : يقال لسَحَائِبَ يأتينَ قُبُلَ الصيفِ مُنْتَصباتٍ بَنَاتُ بَخْر وَبَناتُ مَخْر بالباء والميم ، وَنحو ذلك قال اللحيانيّ وغيره ، وإياها أراد طرفَةُ بقوله :

كبنات المَخرِ يَمْأَدْن إذا

أَنْبَت الصَّيْف عَسَاليجَ الْخَضِر

وقال الليث : الباحر الأحمقُ الذي إذا كُلِّمَ بَحِرِ كالمبْهوت ، وروى أبو عبيد عن الفرّاء أنه قال : الباحرُ الأحمق.

وقال ابن الأعرابيّ الباحرُ الفُضُوليّ ، والباحرُ الكذّاب ، والباحرُ الأحْمَرُ الشديد الحُمْرَة ، يقال أحْمَرُ باحِرِيُ وبَحْرَانِيّ. وقال ابنُ السكيت

٢٧

قال ابن الأعرابيّ : أحمرُ قانِىءٌ وأحمرُ باحِرِيّ وذَرِيحيٌّ بمعنى واحد.

وسئل ابنُ عباس عن المرأة تُسْتَحَاض ويستمرُّ بها الدم ، فقال تُصَلِّي وتتوضَّأ لكل صلاة فإذا رأَتِ الدَّم البَحْرَانِيَ قعدت عن الصلاة.

وقيل الدَّمُ البحرانيُ منسوب إلى قَعْر الرَّحِمِ وعُمْقِها. وقال العجاج :

وِرْدٌ من الجوف وبَحْرَانِيّ

أي عبيط خالص. ويقال دَمٌ بَاحِرِيٌ أيضاً إذا كان شديدَ الحُمْرَة.

شمر يقال بَحِرَ الرجلُ إذا رأى البحر فَفَرِقَ حتى دُهِش ، وكذلك بَرِقَ إذا رأى سَنَا البرق فتحير وَبقِر إذا رأى البقر الكثير ومثله خَرِق وعقر وفَرِي.

عمرو عن أبيه : قال البحير والبَحِرُ : الذي به السُّل ، والسَّحيرُ : الذي قد انقطعت رِئَتُه ويقال سَحِرٌ. وتاجر بَحْرِيٌ أي حَضَرِيّ وأنشد أبو العميثل :

كأنّ فيها تاجراً بحرياً

ويقال للعظيم البطن بحريٌ وقال الطرماح :

ولم ينتطق بحريَّةٌ من مُجَاشع

عليه ولم يُدْعَمْ له جانب المهد

ومن سكن البحرين عَظُمَ طِحَالُه. والبَحْرَةُ مَنبِتُ الثُّمام من الأوْدِيَة.

وفي حديث أنس بن مالك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ركب فَرَساً لأبي طلحة عُرْياً فقال إني «وجدته بَحْراً.

قال أبو عبيدة يقال للفرس الجواد إنه لبَحْرٌ لا يُنكش حُضُرُه. وقال أبو عبيد قال الأصمعي : يقال فرس بَحْر وفَيْضٌ وسَكْبٌ وحَثٌّ إذا كان جواداً كثير العدْو. وقال الفراءُ البَحَرُ أن يَلْغَى البعيرُ بالماء فيُكثر منه حتى يصيبَه منه داءٌ يقال بَحِرَ يَبْحَرُ بَحَراً فهو بَحِرٌ وأنشد :

لأُعْلِطَنَّهُ وسْماً لا يُفَارِقُه

كما يُحَزُّ بِحَمْيِ الميسم البَحِرُ

قال وإذا أصابه الداء كَوِيَ في مواضِعَ فيبرأ قلت : الداءُ الذي يصيب البعيرَ فلا يَرْوَى من الماء هو النَّجَرُ بالنون والجيم ، والبَجَرُ بالباء والجيم ، وكذلك البَقْرُ ، وأما البَحْرُ فهو داءٌ يورِث السُّل.

وأخبرني المنذري عن الطوسي عن أبي جعفر أنه سمع ابن الأعرابي يقول : البحير المسلول الجسم الذاهب اللحم وأنشد :

وغِلْمَتي منهم سَحِيرٌ وبَحِرْ

وآبقٌ من جَذْبِ دَلْوبْهَا هَجِرْ

ويقال استبحر الشاعر إذا اتّسع له القول وقال الطرماح :

بمثل ثنائك يحلو المديح

وتَسْتَبحر الأَلْسُنُ المادِحَه

وكانت أسماءُ بنت عُمَيْسٍ يقال لها البَحْرِيَّة لأنها كانت هاجَرَت إلى بلاد النَّجَاشِيّ فركبت البَحْرَ ، وكل ما نُسِبَ إلى البَحْرِ فهو بَحْرِيٌ.

باب الحاء والراء مع الميم

ح ر م

حرم ، حمر ، رحم ، رمح ، مرح ، محر : مستعملة.

٢٨

حرم : قال شَمِر قال يحيى بنُ ميسرةَ الكلابيُّ : الحُرْمَةُ : المَهَابةُ. قال : وإذا كان للإنسان رَحِمٌ وكنَّ نستحي منه قلنا : له حُرْمَةٌ. قال : وللمسلم على المسلم حُرْمَةٌ ومهابَةٌ. وقال أبو زيد : يقال : هو حُرْمَتُك ، وهما حُرْمَتُك ، وهم حُرْمَتُك ، وهي حُرْمَتُك ، وهُنَ حُرْمَتُك ؛ وهم ذوو رَحِمه وجارُه ومن يَنْصرُه غائباً وشاهداً ومن وَجَبَ عليه حقُّه.

وقال مجاهد في قول الله (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) [الحَجّ : ٣٠] حُرُماتِ الله» فإن الحُرُماتِ مكةُ والحَجُّ والعمرة وما نهَى الله عنه من معاصيه كلِّها.

وقال عطاءٌ : حُرُمَاتُ الله معاصي الله.

وقال الليثُ : الحَرَمُ حَرَمُ مكَّةَ وما أحاط بها إلى قريب من الحرم.

قلت الْحَرَمُ قد ضُرِبَ على حدوده بالمَنَارِ القديمة التي بيَّن خليلُ الله إبراهيمُ عليه‌السلام مَشَاعِرَها ، وكانت قريشٌ تعرِفُها في الجاهليةِ والإسلام ؛ لأنهم كانوا سكّانَ الْحَرَم ، ويعلمون أنّ ما دون المنار إلى مكة من الْحَرَم ، وما وراءَها ليس من الحرم. ولمّا بعث الله جل وعز محمداً صلى‌الله‌عليه‌وسلم نَبِيّاً أقَرَّ قُرَيْشاً على ما عرفوه من ذلك.

وكتب مع ابن مَرْبَع الأنصاريِّ إلى قَريش أن قرُّوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث إبراهيم ، فما كان دُونَ المنار فهو حَرَم ولا يحِلُّ صيدُه ، ولا يُقْطَع شجرُه ، وما كان وراء المنار فهو من الحلّ ، يحل صيدُه إذا لم يكن صائده مُحْرِماً.

فإن قال قائلٌ من الملحدين في قول الله جلّ وعزّ : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العَنكبوت : ٦٧]. كيف يكون حرماً آمناً وقد أُخيفُوا وقُتِلُوا في الْحَرَم؟ فالجواب فيه أنّه جلّ وعزّ جعله حَرَماً آمناً أَمْراً وتعبُّداً لَهُم بذلك لا إجباراً ، فمن آمَنَ بذلك كَفّ عمَّا نُهِيَ عنه اتِّباعاً وانتهاءً إلى ما أُمِر به ، ومن أَلْحَدَ وأنْكر أَمْرَ الحَرَمِ وحرمَتهُ فهو كافر مُبَاح الدَّم ، ومن أَقَرَّ وركِبَ النَّهْي فصَادَ صَيْدَ الْحَرَم وقَتَلَ فيه فهو فاسق وعليه الكفَّارة فيما قَتَل من الصَّيْد ، فإنْ عادَ فإنَّ الله ينتقم منه.

وأمّا المواقيت التي يُهَلُّ مِنْهَا لِلْحجِّ فهي بعيدةٌ من حُدود الْحَرَم ، وهي من الْحِل ومن أَحْرَمَ منها بالحجّ في أشهر الحَجّ فهو مُحْرِمٌ مأمورٌ بالانتهاء ما دام محرماً عن الرفَث وما وراءَه من أمْرِ النساء ، وعن التطيُّبِ بالطيب ، وعن لُبْس الثوب المخِيط ، وعن صيْد الصَّيْدِ.

وقال الليث في قول الأعشى :

بِأجْيَادَ غَرْبِيَّ الصفا والمُحَرَّم

قال : المحرَّم هو الْحَرَمُ ، قال والمنسوب إلى الحرم حِرْمِيٌ.

وأنشد :

لا تأويَنَ لحرميّ مررت به

يوماً وإن ألقى الحِرْميُ في النار

وقال الليثُ : إذا نسبوا غَيْرَ الناس قالوا ثوب حَرَميٌ.

٢٩

قلت : وهو كما قال الليث. وروى شمر حديثاً أن فلاناً كان حِرْمِيَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : والحِرْمِيُ : أَنَّ أشْرافَ العرب الذين كانوا يتحمَّسون في دينِهم إذا حجَّ أحدُهم لم يأكل طعامَ رَجُلٍ من الحَرَم ، ولم يَطُفْ إلّا في ثيابه ، فكان لكل شريفٍ من أشرافِ العرب رجلٌ من قريش ، فكلُّ واحدٍ منْهُمَا حِرْمِيُ صاحبِه ، كما يقال كَرِيّ للمُكري ، المكترِي وخَصْمٌ للمخاصِم والمخاصَم.

وتقول أحْرَمَ الرَّجُلُ فهو مُحْرِمٌ وحَرَامٌ.

والبيتُ الحَرَامُ ، والمَسْجِدُ الحرامُ ، والبلدُ الحرامُ ، وقوم حُرُمٌ ، ومُحْرِمُون ، وشهر حَرَامٌ. والأشْهُرُ الحُرُم ذو القَعْدَةِ وذو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ ورَجَبُ ؛ ثلاثَةٌ سَرْدٌ أي متتابعة وواحد فَرْدٌ.

وقال الليث : والحرام : ما حرَّمه الله ، والحُرْمَةُ ما لا يَحِلُّ لك انتهاكُه. وتقول : فلانٌ له حُرْمَةٌ أي تحرَّم بنا بصحبة أو بِحَقِّ وذمَّةٍ. وحُرَمُ الرجل نساؤُه وما يَحْمِي.

والمحارِمُ ما لا يحِلُّ استحْلالُه. والمَحْرَمُ ذاتُ الرِّحِم في القرابة التي لا يحل تزوُّجُها ، تقول هو ذو رَحِمٍ مَحْرَمٍ وهي ذَاتُ رَحِمٍ مَحْرَمٍ. وقال الراجز :

وجارةُ البيت أراها مَحْرَمَا

كما بَراهَا الله ، إلَّا إنَّمَا

مكارِمُ السَّعْي لمَن تكرَّمَا

كما بَراها الله كما جعلها الله.

والمُحْرِم الدَّاخِلُ في الشهر الحَرَامِ أبو عبيد عن الأصمعي : أحْرَمَ الرجلُ فهو مُحْرِمٌ إذا كانت له ذمَّة ، وقال الراعي :

قتلوا ابْنَ عفَّانَ الخليفة مُحْرِما

ودَعَا فلم أَرَ مثلَه مَخْذُولا

قال : وأحْرَمَ القوم إذا دخلوا في الشهر الحَرَامِ. قال زهير :

جعلن القنانَ عن يمينٍ وحَزْنَه

وكم بالقنانِ من مُحِلِّ ومُحْرِم

ثعلب عن ابن الأعرابيّ : المُحْرِمُ المسالم في قول خداش بن زهير.

إذا ما أصابَ الغَيْثُ لم يَرْعَ غَيْثَهُم

من الناس إلا مُحْرِمٌ أو مُكَافِل

قال وهو من قول الشاعر :

وأُنْبِئْتُها أَحْرَمَتْ قَوْمَها

لِتَنْكِحَ في مَعْشَرٍ آخَرينا

أي حرَّمَتْهم على نفسها. قال والمُكَافِلُ المُجَاوِرُ المُحَالِفُ والكفيل من هذا أُخِذَ.

أبو عبيد عن الأصمعي في قوله أَحْرَمَتْ قومها أي حَرَمَتْهُم أن يَنْكِحُوها يقال حَرَمْتُه وأَحْرَمْتُه حِرْمَاناً إذا منعتَه العطيّة.

وروى شَمِر لعمر أنه قال : «الصيام إحْرَامٌ» قال إنما قال الصِّيَامُ إحرامٌ لامتناع الصائم مما يَثْلِمُ صيامَه. قال ويقال للصائم مُحْرِمٌ. قال الراعي.

قتلوا ابن عَفَّان الخليفة مُحْرِماً

قال أبو عمرو الشيبانيُّ : مُحْرِماً أي صائماً.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «كل مُسلم عن مسلم مُحْرِمٌ ، أخَوانِ نَصِيران» قال أبو العباس قال ابن الأعرابي : يقال إنَّه لَمُحْرِمٌ عنك يَحْرُم أذاك عليه.

٣٠

قلت : وهذا معنى الخَبَرِ أراد أنه يَحْرُم على كل واحد منهما أن يؤذي صاحبَه لحُرْمَةِ الإسلام الْمَانِعَتِهِ عن ظُلْمه.

أبو عبيد عن الكسائي حَرُمَت الصلاةُ على المرأة حُرْماً ، وحَرِمَتْ عليها حَرَماً وحَرَاماً.

أبو نصر عن الأصمعي : أحْرَمَ الرجُلُ إذا دخل في الإحْرَامِ بالإهْلَال. وأَحْرَمَ إذا صار في حُرْمَةٍ من عَهْدٍ أو ميثاق هو له حُرْمة من أن يُغَارَ عَلَيْه. ويقال مُسلم مُحْرِمٌ وهو الذي لم يُحِلّ من نفسه شيْئاً يُوقع به.

أبو عبيد عن الأصمعيّ : حَرَمْتُ الرجل العطيةَ أَحْرِمُه حِرْمَاناً ؛ وزاد غيره عنه. وحَرِيمةً ، ولغة أخرى أَحْرَمْتُ وليست بجيدة وأنشد :

وأُنْبِئْتُها أحْرَمَتْ قَوْمَها

لِتَنْكِحَ في مَعْشَرِ آخرينا

قال وحَرُمَت الصلاةُ على المرأةِ تَحْرُم حُرُوماً وروى غيره عنه وحَرُمَت المرأة على زوجها تَحرُم حُرْماً وحَرَاماً.

أبو عبيد عن أبي زيد أَحْرَمْتُ الرجلَ إذا قَمَرْتَه ، وحَرِمَ الرجل يَحْرَم حَرَماً إذا قُمِرَ.

وقال الكسائي مثله وأنشد غيره :

ورمى بسهم جريمة لم يصطد

أبو عبيد عن الأمويّ : اسْتَحْرَمت الكلبةُ إذا اشتهت السِّفَاد ، رواه عن بني الحارث بن كعب. قال أبو عبيد وقال غيره : الاسْتِحْرَام لكل ذات ظِلْفٍ خاصةً.

وقال أبو نصر قال الأصمعي : استَحْرَمَت الماعِزَةُ إذا اشتهت الفحلَ ، وما أَبْيَنَ حِرْمَتَها. قال وروى المعتمر بن سليمان عمَّن أخبره ، قال : الذين تدركهم الساعة تبعث عليهم الحِرْمَة ـ أي الغُلْمَة ـ ويُسْلَبُون الحياءَ. وفي حديث عائشةَ أنها قالت : «كنت أُطَيِّبُ رسولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لِحلِّه وحُرْمه» المعنى أنها كانت تطيّبه إذا اغْتسل وأراد الإحرام والإهلال بما يكون به مُحْرِماً من حجٍّ أو عُمْرَةٍ ، وكانت تطيِّبُه إذا حَلَّ مِن إحرامه.

وسمعت العرب تقول ناقة مُحَرَّمَةُ الظَّهْرِ إذا كانت صعبة لم تُرَضْ ولم تُذَلَّلْ. وجِلْدٌ مُحَرَّمٌ غيرُ مدبوغ. وقال الأعشى :

ترى عينَها صَغْوَاء في جَنْبِ مَأقها

تراقب كفّي والقطيع المحرَّما

أراد بالقطيع سوطه. قلت وقد رأيت العرب يسوُّون سياطهم من جُلودِ الإبل التي لم تدبغ يأخذون السَّريحة العريضة فيقطِّعون منها سيوراً عِراضاً ويدفنونها في الثّرى فإذا اتّدَنَت ولانَت جَعلوا منه أربع قُوًى ثم فَتَلُوها ثم علّقوها من شعَبَيْ خشبة يركَّزونها في الأرض قتقلُّها أي ترفعها من الأرض ممدودةً وقد أثقلوها حتى تيْبَس. قال شمر قال أبو واصل الكلابيُّ : حَريمُ الدار ما دخل فيها مما يُغْلَق عليه بابها ، وما خرج منها فهو الفِنَاء. قال : وفِنَاءُ البدويِّ ما يدركه حُجْرَتُه وأطْنَابُه ، وهو من الحضَرِيِّ إذا كانت دَارُه تُحاذيها دارٌ أخرى فَفِناؤُهما حدّ ما بينهما.

٣١

الليث : حَرِيم الدَّارِ ما أُضِيف إليها وكان من حُقوقها ومرافقها. وحريم النَّهر مُلْقَى طِينِه والمَمْشى على حافَتَيْه ونحو ذلك. والحريمُ الذي حَرُم مَسُّه فلا يُدنَى منه. وكانت العربُ في الجاهلية إذا حَجّت البيتَ تخْلَعُ ثيابها التي عليها إذا دَخَلُوا الحَرَم ، ولم يلْبَسُوها ما داموا في الحَرَم.

ومنه قول الشاعر :

لَقىً بين أيدي الطائفين حَرِيمُ

وقال المفسِّرون في قول الله جلّ وعزّ : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعرَاف : ٣١] كان أَهْلُ الجاهليَّة يطوفون بالبيت عُرَاةً ، ويقولون لا نَطوف بالبيت في ثيابٍ قد أذْنَبْنَا فيها ، وكانت المرأةُ تطُوف عُرْيانَةً أيضاً ، إلا أنها كانت تلبَسُ رَهْطاً من سُيُورٍ وقالت امرأة من العرب :

اليوم يَبْدُو بَعْضُه أو كُلُّه

ومَا بَدَا مِنْه فَلَا أُحِلُّه

تعني فرجَها أَنَّه يظهر من فُرُوج الرَّهْطِ الذي لبسته ، فأمر الله بَعْدَ ذكْرِه عُقُوبَةَ آدَمَ وحوّاءَ بِأَنْ بَدَتْ سَوْآتُهما بالاستِتَار ، فقال (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وأَعلم أَن التَّعَرِّيَ وظهورَ السَّوْءَةِ مكروه ، وذلك من لَدُن آدَمَ.

وقال الليثُ : تقول : هذا حَرَامٌ والجميع حُرُمٌ قال الأعشى :

تَهادِي النهارَ لجاراتهم

وبالليل هُنَّ عليهم حُرُم

والمحْرُومُ : الذي حُرِمَ الخيْرَ حِرْماناً في قول الله جلّ وعزّ : (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [الذّاريَات : ١٩].

وأما قوله جلّ وعزّ : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) ٩٥ [الأنبيَاء :٩٥]

قال قتادةُ عن ابن عباسٍ : معناه واجِبٌ عَلَيْها إذا هَلَكَتْ ألّا تَرْجِعَ إلى دُنْيَاها. وقال أبو مُعَاذٍ النحويُّ : بَلَغني عن ابن عباس أنّه قَرَأَهَا (وحَرِمَ على قرية) يقول وجب عليها. قال وحدِّثت عن سعيد بن جبير أنه قَرَأها (وحِرْمُ على قرية) فسئل عنها فقال عزم عليها وقال أبو إسحاق في قوله (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) يحتاج هذا إلى أن يبيَّن ، وهو ـ والله أعلم ـ أنه جلّ وعزّ لما قال (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) [الأنبيَاء : ٩٤] أعْلَمَنَا أنَّه قد حرم أعمالَ الكفار ، فالمعنى (حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) ، أَنْ يُتَقَبَّل مِنْهُمْ عَمَلٌ ل (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي لا يتوبون.

وأخبرني المنذريُّ عن ابن أبي الدُّمَيْكِ عن حميد بن مَسْعدةَ عن يزيد بن زُرَيْعِ عن داودَ عن عِكْرِمَة عن ابن عباس أنه قالَ في قوله (وحرم على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون) ٩٥ [الأنبيَاء : ٩٥] قال : وَجَبَ على قَرْيةٍ أهلكناها أَنَّهُ لا يَرجِع منهم رَاجِعٌ : لا يتوب منهم تائبٌ. قلت وهذا يؤيد ما قاله الزجّاج. وروى الفَرّاء بإسناده عن ابن عباس «حِرْمٌ» قال وقرأ أهل المدينة (وحرم) قال الفراء (وحرم) أَفْشَى في القراءة.

٣٢

أبو عمرو : الحَرُومُ النَّاقة المعْتَاطَةُ الرَّحِم والزَّجُومُ التي لا ترغو.

أبو العباس عن ابن الأعرابيّ قال : الحَيْرَمُ البَقَرُ ، والْحَورَمُ المالُ الكَثيرُ من الصَّامتِ والنَّاطِق. قال : والحَرِيمُ قَصَبَةُ الدّار ، والحريمُ فِناءُ المسجد ، والحُرْمُ المنع ، قال : والحريم الصديق ، يقال فلان حَرِيمٌ صَرِيحٌ أي صديقٌ خالصٌ.

وكانت العربُ تسمِّي شهرَ رَجَبَ الأَصَمَّ والمحرَّمَ في الجاهلية ، وأنشد شَمِر قولَ حُمَيْدِ بن ثور :

رَعَيْنَ المُرَارَ الْجَوْنَ من كلِ مذْنَبٍ

شهُورَ جُمَادى كُلَّها والمُحَرَّمَا

قال وأراد بالمحرَّم رَجَبَ ، قاله ابنُ الأعرابي. وقال الآخر :

أقَمْنَا بها شَهْرَيْ رَبيعٍ كِلَيْهِما

وشَهْرَيْ جُمَادَى واستَهَلُّوا المحرَّما

وقال أبو زَيدٍ فيما رَوَى عنه أبو عبيد : قالَ العُقَيْليُّون : حَرَامُ الله لا أفْعَلُ ذاك ويَمِينُ الله لا أَفْعَلُ ذاك ، ومعناهُما واحِدٌ. وقال أبو زيد : ويقال للرجُلِ ما هو بحارِمِ عَقْل ، وما هو بِعادِمِ عَقْلٍ ، معناهما أَنَّ لَهَ عَقْلاً.

ويقال إن لفلان مَحْرُماتٍ فلا تَهْتِكْها ، الواحدة مَحْرُمَةٌ يريد أن له حُرماتٍ.

رحم : قال الليث : (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) اسمان اشتقاقُهما من الرحمة ، قال ورحمةُ الله (وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) ، و (هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ). وقال الزجَّاج : (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) صفتان معناهما فيما ذكر أبو عبيدة ذو الرَّحمة ، قال : ولا يجوز أن يقال رَحْمَنٌ إلا لله جلّ وعزّ. قال وفَعْلانُ من أَبْنِيَةِ ما يُبَالَغُ في وصفه ، قال : فالرَّحْمن الذي وَسِعت رحمتُه كلَّ شيء ، فلا يجوز أن يُقالَ رَحْمَنٌ لغير الله. وقال أبو عُبَيْدةَ : هما مثلُ نَدْمان ونَدِيم.

وقال اللَّيثُ : يقال ما أقْرَبَ رُحْمَ فُلانٍ إذا كان ذا مَرْحَمَةٍ وبِرٍّ. قال : وقولُ الله جلّ وعزّ : (وَأَقْرَبَ رُحْماً) [الكهف : ٨١] يقول أبَرّ بالوالدين من القتيل الذي قتله الخضر ، وكان الأَبَوانِ مُسلمين والابنُ كان كافِرًا فَوُلِدَ لهما بعدُ بِنْتٌ فَوَلَدَتْ نَبِيّاً.

وأنشد الليث :

أحْنَى وأَرْحَمُ مِنْ أُمٍّ بِواحِدِها

رُحْماً وأشْجَعُ من ذِي لِبْدَة ضارِي

وقال أبو إسحاق في قوله (وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي أقْرَبَ عَطْفاً وأُءَمَسَّ بالقرابة. قال والرُّحْمُ والرّحُمُ في اللغة العطْفُ والرحمة وأنشد :

وكَيْفَ بظُلْمِ جارِيَةٍ

ومنْها اللِّين والرُّحْم

وقال أبو بكر المنذريُّ : سمعتُ أبَا العباس يقول في قوله (الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) جمع بينهما لأنَ الرحمن عبرانيّ والرحيم عربي وأنشد لجرير :

لن تَدْرِكُوا الْمجْدَ أو تَشْروا عَبَاءَكُم

بالخَزِّ أو تجعلوا الينبوب ضُمْرانا

أو تتركون إلى القَسَّيْنِ هِجْرَتَكم

ومَسْحَكم صُلْبَهُم رَحْمَنُ قُرْبانا

٣٣

وقال ابن عباس : هما اسمانِ رقيقان أحَدُهما أَرَقُّ من الآخر ، فالرحْمن الرقيق ، والرَّحِيمُ العاطِفُ على خَلْقِه بالرزق ، وقرأ أبو عمرو بنُ العلاء «وأقرب رُحُما» بالتَّثْقيل واحتجّ بقول زُهَيْرٍ يمدح هَرِمَ بن سِنَانٍ :

ومن ضَريبَتهِ التَّقْوَى ويَعْصِمُه

من سَيِّىءِ العَثرَاتِ الله والرُّحُمُ

وقال الليث : المرحمة الرَّحْمة ، تقول رَحِمْتُه أرْحَمُه رَحْمَةً ومَرْحَمَةً ، وترحَّمْتُ عليه ، أي قلتُ : رَحمَةُ الله عليه ، وقال الله جلّ وعزّ : (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) [البَلد : ١٧] أي أَوْصى بعضُهم بعضاً برحْمَةِ الضعيف والتَّعَطُّفِ عليه.

والرَّحِمُ بَيْتُ مَنْبِت الوَلَدِ وَوِعاؤُه في البطن ، وجمعه الأَرْحامُ. وأما الرَّحِمُ الذي جاءَ في الحديث «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بالعَرْشِ ، تقول : اللهُمَّ صِلْ مَنْ وَصَلَني واقْطَعْ مَنْ قَطَعَني» فالرَّحِمُ القَرابَةُ تَجْمَع بَنِي أَبٍ وبينهما رَحِمٌ أي قرابةٌ قَرِيبَةٌ. وناقَةٌ رَحُومٌ أصابَها داءٌ في رَحِمِها فلا تَقْبَلُ اللَّقاح ، تقول : قد رَحُمَتْ. وقال غَيْرُه : الرُّحامُ أن تَلِدَ الشَّاةُ ثم لا تُلْقِي سَلاها. وشَاةٌ راحِمٌ وغَنَمٌ رَواحِمُ إذا وَرِمَ رَحِمُها. وقد رَحِمَت المرأة وَرحُمَتْ إذا اشتكت رَحِمَها.

ثعلب عن ابن الأعرابي قال الرَّحْمُ خروج الرحم من عِلّةِ ، والرَّحِمُ مؤنَّثَةٌ لا غيرُ وسَمَّى الله الغيثَ رَحْمَةً لأنه بِرَحمَتِه يَنْزِلُ من السماء. وتاءُ قوله (إِنَ رَحْمَتَ اللهِ) [الأعراف : ٥٦] أصلها هاء وَإنْ كُتِبَتْ تاءً.

مرح : قال الليث : المَرَحُ شدَّة الفَرَح حتى يجاوزَ قَدْرَه. وفرس مَرِحٌ مِمْرَاحٌ مَرُوحٌ ، وناقة مِمْرَاحٌ مَرُوحٌ وأنشد :

نطوي الفلا بِمَروحٍ لَحْمُها زِيَمُ

وقال الأعشى يصف ناقة :

مَرِحَتْ حُرَّةٌ كقنْطَرة الرّومي

تَفْرِي الهَجِيرَ بالإرقَال

وقال الليث : التَّمْرِيحُ أن تأخذ المَزادَةَ أَوَّلَ ما تخْرَزُ فتَملأها ماء حتى تَنْتَفِخَ خُروزُها. ويقال : قد ذهبَ مَرَحُ المَزادَةِ إذا لم يَسِلْ منها شيءٌ ، وقد مَرِحَتْ مَرَحاناً وأنشد :

كأنّ قذًى في العين قد مَرِحَتْ به

وما حاجَةُ الأُخْرى إلى المَرَحانِ

وقال شَمِر : المَرَحُ : خروج الدّمْعِ إذا كثُر ، وقال عديُّ بن زيد :

مَرِحٌ وَبْلُه يَسحُ سُيوبَ ال

ماء سَحّاً كأَنَّه مَنْحورُ

ثعلب عن ابن الأعرابي : التّمْريحُ تطييبُ القِرْبِة الجديدةِ بإذْخِرٍ أو شيح فإذا تطيّبَت بِطِين فهو التَّشْرِيبُ. قال : وبعضهم يجعلُ تمريحَ المزادَةِ أن يملأها ماءً حتى تَبْتَلَّ خُروزُها ويكثر سيلانُها قبل انْتِفاخِها ، فذلك مَرَحُها وقد مَرِحَت مَرَحاً. وذهب مَرَحُ المزادَةِ إذا انسدّت عيونُها فلم يَسِلْ منها شيءٌ. وأرض مِمْراحٌ إذا كانت سريعَة النَّباتِ حين يُصِيبُها المطرُ. وعَيْنٌ مِمْراحٌ سريعةُ البُكاءِ. وقال الأصمعيُّ : المِمْراحُ من الأرض التي حالت سنة فهي تَمْرَحُ بِنَباتها.

٣٤

وقال أبو عمرو بنُ العلاء : إذا رَمَى الرجُل فأصاب قيل مَرْحَى له ، وهو تعجُّبٌ من جَوْدَةِ رَمْيِه قال ابن مقبل :

أقول والحَبْلُ مشدود بمقوده

مرحى له إن يَفُتْنا مسحه يَطِرِ

وأَمْرَحَ الزَّرْعُ إِمْرَاحاً ومَرِح مَرَحاً ، لغتان ، إذا أَفْرخَ سنابله أَوّلَ ما يُخْرِجُه.

رمح : قال الليث : الرمْحُ واحد الرِّمَاح ، ومُتِّخِذُه الرَّمَّاح ، وحرفته الرِّمَاحَةُ. والرَّامِحُ نَجْمٌ في السماءِ يقال له السماك المِرْزَمُ. وقال ابن كُنَاسة : هما سِمَاكَانِ ، أحدهما السِّمَاكُ الأَعْزَلُ ، والآخَرُ يقال له السِّمَاكُ الرَّامِحُ ، قال : والرَّامِحُ أشَدُّ حُمْرَةً ، ويُسَمَّى رَامِحاً لكوكب أَمَامَه تجعله العربُ رُمْحَه. وقال الطرماح :

مَحَاهُنّ صيِّبُ صَوْتِ الربيع

من الأنجم العُزْلِ والرَّامِحَه

والسماكُ الرَّامِحُ لا نَوْءَ لَهُ ، إنما النَّوْءُ للأعْزل.

وقال الليث : ذو الرُّمَيْح ضَرْبٌ من اليرابيع طَويلُ الرِّجْلين في أوساطِ أَوْظِفَتِه في كل وَظِيفٍ فَضْلُ ظُفْرِ ، وإذا امتنعت البُهْمَى ونحوُها من المَرَاعِي فَيَبِس سَفَاهَا قيل أَخَذَتْ رِمَاحُها ، ورماحُها فَيَبِس سَفَاها اليابِسُ. ويقال رَمَحَت الدابَّة ، وكل ذي حافرٍ يَرْمَحُ رَمْحاً إذا ضَرَب بِرِجْلَيه ، وربما استُعِير الرّمْحُ لذي الخُفِّ. قال الهذلي :

بِطَعْن كَرَمْحِ الشَّوْلِ أَمْسَتْ غَوَارِزاً

حَوَاذِبُها تأبى على المُتَغَيِّر

ويقال برئت إليك من الجِمَاحِ والرِّمَاحِ وهذا من باب العُيوب التي يُرَدُّ المبيعُ بها. ويقال رَمَحَ الجُندُب إذا ضرب الحَصَى بِرِجْله قال ذو الرمة :

والجندب الجون يرمح

والعرب تسمي الثورَ الوحشِيَ رَامِحاً ، وأنشد أبو عبيد :

وكائِنْ ذَعَرْنا من مَهَاةٍ وَرَامِحٍ

بلادُ الورَى ليستْ لها بِبِلاد

ويُقَال للنَّاقَةِ إذا سَمِنَتْ ذاتُ رُمْحٍ وللنُّوق السِّمَانِ ذوَاتُ رِمَاحٍ وذلك أَنَّ صاحِبَها إِذَا أَراد نَحْرَها نَظَرَ إلى سِمَنِها وَحُسْنِها فامتنَعَ من نَحْرِها نَفَاسَةً بها لما يروقه من أَسْنِمَتِها ، ومنه قول الفرزدق :

فَمَكَّنْتُ سيْفي من ذوات رِمَاحها

غِشَاشاً ولم أَحْفِل بكاءَ رِعائيا

يقول نحرْتُها وأطعَمْتُها الأضْيَاف ولم يمنَعْني ما عليها عن الشُّحوم عن نحرها نَفَاسَةً.

ويقال : رجلٌ رامِحٌ أي ذُو رُمْحٍ ، وقَدْ رَمَحَه إذا طَعَنَهُ بالرُّمْحِ وهو رَامِح وَرَمَّاحٌ.

وبالدَهْنَاء نُقْيَانٌ طوالٌ يُقَالُ لها الأَرْمَاحُ.

وَذَكَرُ الرَّجُلِ رُمَيْحُه ، وَفَرْجُ المرْأةِ شُرَيْحُها.

حمر : قال الليث : الحُمْرَةُ لون الأَحْمَر ، تقول احْمَرّ الشيءُ احْمِرَاراً إذا لزم لونَهُ فلم يتغيّر من حالٍ إلى حالٍ ، واحمَارّ يَحْمَارُّ احميراراً إذا كان عَرَضاً حادِثاً لا يثبت ، كقولك : جَعَلَ يَحْمَارُّ مَرَّةً ويصفَارُّ أخرى.

٣٥

قال : والحُمْرَةُ تَعْتَرِي النَّاسَ فَيَحْمَرُّ موضِعُها وَتُغَالَبُ بالرُّقْيَةِ. قلت : الحُمْرَةُ وَرَمُ من جنس الطَّواعِين نعوذ بالله منها.

الحراني عن ابن السكيت أنه قال الحُمْرَةُ بسكون الميم نَبْتٌ. قال : ويقال لِلْحُمَّرِ ـ وهو طَائرٌ ـ حُمَرٌ بالتخفيف ، الواحدة حُمَّرةٌ وقال حُمَرَة. وقال ابن أحمر :

إلّا تُدَارِكْهُم تصبِحْ منَازِلُهم

قفراً تبيض على أرجائها الحُمَرُ

قال : خفّفها ضرورةً. وأنشد في تشديد الحمّر :

قد كنتُ أَحْسِبُكُم أُسُودَ خَفِيَّةٍ

فإذا لَصَافِ تبيضُ فيها الحُمَّر

قال وحُمَّرَاتٌ جَمْعٌ. وأنشدني الهلالي أو الكلابي :

عُلِّق حَوْضِي نُغَرٌ مكبُ

إذا غفلت غفلة يَغبُ

وحُمَّرَاتٌ شُرْبُهُنَّ غِبُ

قال : وهي القُبَّر.

وقال الليث : الحِمار العيْرُ الأَهْلِيُّ والوحشيُّ ، وجمْعُه الْحَمِيرُ والحُمُراتُ ، والعدد أَحْمِرَةٌ ، والأنْثَى حِمَارَةٌ ، قال والْحَمِيرة الأُشْكُزُّ : معرب وليس بعربي وسميت حميرةً لأنها تُحمَّر أي تُقَشَّر وكل شيء قشَّرْتَه فقد حَمَّرْتَه فهو مَحْمُور وحَمِيرٌ.

وقال الليث : الْحِمَار خَشَبَةٌ في مقدَّمِ الرحْلِ تَقْبِضُ المرأةُ عليه وهو في مقدم الإِكَافِ أَيْضاً. وقال الأعشى :

وقيدني الشعرُ في بيته

كما قَيَّد الأسراتُ الحمارا

وقال غيره : الحمار ثَلاثُ خَشَبات أَوْ أَرْبَعٌ تُعْرَض عليها خشبةٌ وتُؤْسَرُ بِهَا. وقال أبو سعيد الْحِمَارُ العُودُ الذي يُحْمَل عليه الأَقْتَابُ ، والأَسَرَاتُ النساء اللواتي يُوَكِّدْن الرِّحالَ بالقَدِّ ويُوَثِّقْنَها.

وقال الليث : حِمَارُ الصَّيْقَل خشَبتُه التي يَصْقُلُ عليها الحديدَ قال وحمار قَبَّان دَابَّةٌ صغيرة لازقة بالأرض ذات قوائم كثيرة وأنشد الفراء :

يا عجبَاً لقد رأيْتُ عجبا

حِمَارَ قَبَّانٍ يسوق أَرْنَبَا

أبو عبيد عن الأصمعي الْحَمائِر حِجَارَةٌ تُنْصَب حول قُتْرَةِ الصائد واحِدُها حمارة وأنشد :

بيت حتوف أُرْدِحَت حمائِره

وقال شمر في قوله عليه‌السلام «زُوِيتْ لي الأرضُ فرأيتُ مشارِقَها ومَغارِبها ، وأُعْطِيتُ الكنْزَيْنِ الأحْمَرَ والأبْيَضَ» أراد الذّهَبَ والفِضَّة.

ثعلب عن ابن الأعرابي قال : الحمائِر حجارةٌ تُجْعل حَوْلَ الْحَوْضِ تَرُدُّ الماءَ إذَا طَغَى وَأنشد :

كأنما الشَّحْطُ في أُعْلَى حمائِرِه

سبائِبُ القَزِّ من رَيْطٍ وَكَتَّان

وروى حمادُ بن سلمةَ عن ثابتٍ عن أَنَسٍ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أُرْسِلْتُ إلى كل أَحْمَرَ وأَسْوَدَ» قال شمر : يَعني العربَ والعجمَ ، والغالبُ على أَلْوان العربِ

٣٦

السُّمْرَةُ والأُدْمَةُ ، وعلى أَلْوان العجمِ البياضُ والحُمْرَةُ.

وقال شمر حدثني السمريُّ عن أبي مسحل أنه قال في قوله «بُعِثْتُ إلى الأَسْودِ والأَحْمَرِ» يريد بالأسودِ الجِن ، وبالأحْمَرِ الإِنَسَ ، سمي الإنسُ بالأَحْمَرِ للدَّمِ الذي فيهم ، والله أعلم ، وروى عمرو عن أبيه أنه قال في قوله «بعثت إلى الأحْمر والأسود» معناه بُعِثْتُ إلى الأَسودِ والأبْيَض. قال : وامْرأَةٌ حَمْرَاء أي بَيْضاءُ ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة «يا حُمَيْراءُ» قال والأحْمَرُ الذي لا سلاحَ مَعَهُ ، وأخبرني المنذريُّ عن الحَرْبيِّ في قوله «أُعْطِيتُ الكنْزَيْنِ الأحمرَ والأبيضَ» قال فالأحْمَرُ مُلْكُ الشامِ والأبيضُ مُلْكُ فارسَ ، وإنما قيل لمُلَكِ فارسَ الكنْزُ الأبيضُ لبياض أَلْوَانِهِمْ ، ولذلك قيل لهم بَنُو الأحرارِ يعني البيض ولأن الغالبَ على كنوزهم الورِقُ وهي بيضٌ ، وقال في الشامِ الكنزُ الأحمرُ لأن الغالبَ على أَلْوانِهم الحُمْرَةُ وعلى كُنُوزِهم الذّهَبُ وهو أحمر. وقال ابنُ السّكّيت قال الأصمعيُّ أتاني كلُّ أسودَ منهم وأحمرَ ولا يقال أبيضَ ، حكاه عن أبي عمرو بن العلاء وقال :

جَمَعْتُمْ فأوْعَيْتُمْ وجِئْتم بِمَعْشَرٍ

توافَتْ بِهِ حُمْرانُ عَبْدٍ وسودُها

ويقال كلّمْتُه فما ردّ عليَّ سوداءَ ولا بيضاء أي كلمة رَدِيئَةً ولا حسنةً. قلت : والقولُ ما قال أبو عمرو أنهم الأسودُ والأبيضُ ؛ لأنّ هذين النّعْتينِ يَعُمَّان الآدميينَ أَجمعين. وهذا كقوله «بُعِثْتُ إلى الناس كافةً» وكانت العربُ تقول للعجمِ الذين يكون البياضُ غالباً على أَلْوانِهم مثلِ الرُّومِ والفرسِ ومن ضاقَبَهُمْ : إنهم الحَمْراءُ ، ومنه حديثُ عليّ حين قال له سَراةٌ من أصحابِه العَربِ : غلبتْنا عليك هذه الحُمْرَةُ ، فقال : لَيَضْرِبنَّكُمْ على الدِّين عَوْداً كما ضربتموهم عليه بَدْءاً ، أَرادُوا بالْحَمْرَاء الفرسَ والرُّومَ. والعربُ إذا قالُوا : فلانٌ أبيضُ وفلانةٌ بيضاءٌ ، فمعناهَا الكرمُ في الأخلاق ، لا لونُ الخِلْقَةِ. وإذا قالوا : فلانُ أحمرُ وفلانةُ حمراءُ عَنَتْ بياضَ اللَّونِ.

ورَوَى أبو العبَّاس عن ابن الأعرابيّ أنه قال في قولهِمْ الْحُسْنُ أَحْمَرُ أي شاقٌّ ، أي من أَحَبَّ الحُسْنَ احتَمَل المَشَقَّة. وكذلك موتٌ أَحْمَرُ ، قال الحُمْرَةُ في الدَّمِ والقتالِ. يقول : يَلْقى منه المشقةَ كما يَلْقى من القتالِ.

أبو عبيد عن الأصمعي : يقال جاء بِغَنَمِه حُمْرَ الكُلى ، وجاء بِها سُودَ البُطونِ ، معناهما المَهَازِيلُ.

وقال الليث : الحَمَرُ داءٌ يعتري الدابّة من كثرة الشعير ، وقد حَمِر البرذَوْنُ يحمَرُ حَمَراً. وقال امرؤ القيس :

لَعَمْرِي لسَعْدُ بنُ الضِّبابِ إِذَا غَدا

أحبُّ إلينَا مِنْك ، فَافَرَسٍ حَمِر

أرَادَ يَافَا فَرَسٍ حَمِر ، لقَّبَهُ بِفِي فَرَسٍ حَمِرٍ لِنَتْن فيه. قال وسنَةٌ حمراء شديدةٌ ، وأنشد :

أَشْكُو إِلَيْك سَنَوَاتٍ حُمْرَا

٣٧

قال : أخرج نعته عَلَى الأعوامِ فَذكَّرَ ، ولو أخْرَجَهُ على السَّنواتِ لقال حَمْرَاوَاتٍ. وقال غَيْرُه : قيل لِسِني القَحْطِ حَمْرَاواتٌ لاحمرار الآفاق فيها. ومنه قول أُمَيّةَ :

وسُوِّدَت شَمْسُهُمْ إذا طَلَعَتْ

بالجِلْبِ هفا كأنَّه كَتَمُ

والكتم صِبْغٌ أحمرُ يُخْتَضَبُ به. والجِلْبُ السحابُ الرقيقُ الذي لا ماءَ فيه. والهَفُّ الرقيق أيضاً ونَصَبَه على الحال.

وفي حديث عليّ رضى الله عنه أنه قال : كُنَّا إذا احْمَرَّ البأسُ اتَّقَيْنَا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العَدُوَّ. قال أبو عبيد قال الأصمعيُّ : يقال هو الموتُ الأَحْمَرُ والموتُ الأسودُ. قال ومعناه الشَّدِيدُ ، قال وَأَرَى ذلك من أَلْوَانِ السباعِ كأَنَّهُ من شِدَّته سَبُعٌ. وقال أبو زُبَيْدٍ يصف الأسد :

إِذَا عَلِقَتْ قِرْناً خَطَاطِيفُ كَفِّه

رَأَى الموتَ بالعيْنَينِ أَسْودَ أَحْمَرا

قال أبو عُبَيْدٍ فكأنَّه أَرَادَ بقَوْلِه احْمَرّ البَأْسُ أيْ صَارَ في الشدَّةِ والهَوْلِ مثل ذلك. وقال الأصمعيُّ يقال : هذه وَطْأَةٌ حمراءُ ، إذا كانت جديداً ووطأةٌ دَهْمَاءُ إذا كانت دَارِسَةً.

قال الأصمعيُّ ويجوزُ أن يكُون قَوْلُهمْ :الموتُ الأحمرَ من ذلك ، أي جديدٌ طريّ. ويروى عن عبد الله بن الصَّامِت أنه قال : أَسْرَعُ الأرض خَراباً البصرةُ ، قيل وما يُخْرِبُها؟ قال : القتْلُ الأَحْمَرُ والجوع الأغْبَرُ.

قلت والحَمْرُ بمعْنى القَشْرِ يكون باللِّسَان والسَّوْط والحَديد والمِحْمَرُ والمِحْلأُ : هو الحديدُ أو الحَجَرُ الذي يُحْلأُ به تحْلِىءُ الإهاب وَيُنْتَفُ. ويقال للهجين مِحْمَرٌ ولمَطَيَّةِ السُّوءِ مِحْمَر ، وَرَجُلٌ مُحْمَرٌّ ؛ لا يعطي إلَّا على الكَدِّ والإلْحَاحِ عليه. وقال شمر يقال حَمِرَ فلانٌ عليَ يَحْمَرُ حَمْراً إذا تَحَرَّق عليك غضباً وغيظاً. وهو رجل حَمِرٌ من قوم حَمِيرِين. قال وحِمِرُّ القَيْظ والشتاءِ أشَدُّهُ.

قال : والعربُ إذا ذكرت شيْئاً بالمشَقَّةِ والشِّدَّة وصَفَتْهُ بالحُمْرَةِ. ومنه قيل سنَةٌ حَمْرَاءُ للجَدْبَةِ.

قال : وقال ابن الأعرابيِّ في قولِهِمْ الحُسْنُ أَحْمَرُ يُرِيدُون إنْ تَكلَّفْتَ التَّحَسُّنَ والجَمَال فاصْبِرْ فيه على الأَذَى والمشقَّة. قال : وحَمَرْتُ الجِلْدَ إذا قَشَرْتَه وحلقتَه.

وقال الليث : حَمَارَّةُ الصيف شدة وَقْتِ حَرِّه. قال ولم أَسْمَع كلمة على تقدير فَعَالّة غيرَ الحمارَّة والزَّعَارَّة وهكذا.

قال الخليل قال الليث : وسمعت بعد ذلك بخُرَاسَان سبارَّةُ الشّتَاء وسمعت : إن وراءَك لَقُرَّاً حِمِرّاً. قلت : وقد جاءَتْ أَحْرُفٌ أُخَرُ على وزن فَعَالَّة.

روى أبو عبيدٍ عن الكسائيِّ : أَتَيْتُه في حَمَارَّةِ القيظ ، وفي صَبَارَّةِ الشّتاء بالصاد ، وهُمَا شِدَّةُ الحَرِّ والبَرْدِ. قال وقال الأمَوِيُّ : أتَيْتُه عَلَى حَبَالَّةِ ذَاك ، أي على حِينِ ذَاك ، وألقى فلان عَلَى عَبَالَّته أي ثِقله. قاله اليزيديُّ والأَحْمَرُ.

٣٨

وقال القَنَانِيّ : أَتَوْنِي بِزرَافَّتهِم يعني جَمَاعَتَهُم.

وسمعت العربَ تَقُول كُنّا في حَمْراء القيظ على ماء شُفَيَّة ، وهي ركيَّةٌ عذبَةٌ.

وقال الليث في قولهم : أهْلَكَ النِّساءَ الأحمران ، يعنون الذهبَ والزعفرانَ.

أبو عبيد عن أبي عبيدة : الأحمرانِ الخَمْرُ واللَّحْمُ وأنشد :

إن الأحَامِرَةَ الثلاثَةَ أهلكَتْ

مالي وكنت بِهِن قِدْماً مُولَعاً

الرَّاحَ واللحْمَ السمينَ إدَامُه

والزَّعْفَرانَ فلن أَرُوحَ مُبَقَّعَا

قال أراد الخمرَ واللحمَ والزعفرانَ.

وقال أبو عبيدة : الأصفرانِ الذَّهَبُ والزعفرانُ. قلت والصَّوابُ في الأحمَرينِ ما قاله أبو عبيدة. والذي قاله الليثُ يضاهي الخَبَرَ المرويَّ فيه.

وقال شمر : سمعت ابنَ الأعرابيِّ يقول : الأحمرانِ النّبيذُ واللحمُ. وأنشد :

الأحمرَينِ الرَّاحَ والمُحَبَّرَا

قال شمِر : أَرَاد الخَمْرَ والبُرُودَ.

وقال الليث : فَرَسٌ مِحْمَرٌ والجميع المَحَامِر والمَحَامِيرُ. وأنشد :

يَدِبُّ إذْ نَكَس الفُحْجُ المحاميرُ

وقال غيرُه : الخيل الحمارَّةُ مثلُ المَحَامِرِ سواءً.

وروي عن شريح أنه كان يردّ الحمَّارَةَ من الخَيْلِ.

قلت أَراد شريحٌ بالحمَّارَة أصحابَ الحَمِير ، كأنَّه ردَّهُم فلم يُلْحِقْهُمْ بأصحاب الخَيْلِ في السهام. وقد يقال لأصْحاب البِغَال البَغَّالة ولأصحاب الجِمَال الجَمَّالَةُ ومنه قولُ ابن أحمر :

شدّد كما تطْرُدُ الجَمَّالَةُ الشُّرُدَا

ورجل حَامِرٌ وحَمَّارٌ ذو حِمَارٍ ، كما يقال فارسٌ لذي الفَرس.

ثعلب عن سلمة عن الفراء قال : حَمَرَت المرأةُ جلْدَهَا تَحمِرُهُ. والحَمْرُ في الوبر والصوف وقد انْحَمَر ما على الجِلْدِ وأتاهم الله بغيثٍ حِمِرٍّ يَحْمُر الأرض حمراً أي يقشرها.

وقال ابن السكيت : حَمَر الخَارِزُ السَّيْرَ يحْمِرُهُ حَمْراً إذا مَاسَحا باطِنَه ودَهَنه ثم خَرَزَ بِه ، وحَمَر الشَّاةَ إذا ما سمطها ، وأُذُنُ الحِمَارِ نَبْتٌ عريضُ الوَرَق كأَنَّه شُبِّه بأذن الحِمَار.

وروَى أبو العباس أنه قال : يقال إن الحُسْنَ أحمر ، يقال ذلك للرَّجُلِ يميلُ إلى هَوَاه ، ويخْتَصُّ بمن يُحِبُّ كما يقال الْهَوَى غَالِب ، وكما يقال إن الهوى يميل بإسْتِ الرَّاكِب إذا آثَر من يهواه على غيره.

وقال غيرهُ حِمْيرٌ اسمٌ ، وقيل هو أَبُو مُلوكِ اليمَن ، وإليه تنتهي القبيلةُ. ومدينة ظَفَارِ كانت لِحِمْيَرَ. وحَمَّرَ الرجلُ إذا تكلم بالحِمْيَريّة ، ولهم ألفاظٌ ولغاتٌ تخالف لغاتِ سائِرِ العرب.

وقال بعض ملوكهم : من دَخَلَ ظَفَارِ حَمَّرَ ، أي تعلَّم الحِمْيَرِيّة. ويُقالُ للذين يُحَمِّرون رَايَاتِهم خِلَافَ زِيّ المُسَوِّدَةِ من بني هَاشِم المُحَمِّرة ، كما يقال للحَرُورِيَّة

٣٩

المبيِّضة ، لأن راياتِهم في الحُروب كانت بَيْضَاءَ.

محر : قال الليث : المَحَارَةُ دابَّةٌ في الصَّدَفَيْن. قال : ويُسمّى باطِنُ الأُذُن مَحَارَةً. قال وربّما قالوا لها مَحَارَةُ بالدَّابّة والصدفينِ.

وروى أبو عبيد عن الأصمعي قال المَحَارَةُ الصدفَةُ قال والمَحَار من الإنسانِ الحَنَكُ وهو حيث يُحنِّك البَيْطارُ الدَّابة.

ثعلب عن ابن الأعرابي : المَحَارَةُ النُّقْصَانُ ، والمحارَةُ داخلُ الأُذُن ، والمحارةُ الرجوعُ ، والمَحَارة المُحاوَرَة ، والمَحَارَة الصَّدَفَةُ.

قلت ذكر الأصمعيُّ وغيره هذا الحرفَ أعني المحارةَ في باب حَارَ يَحُور ، فدلّ ذلك أنه مَفْعَلَةٌ وأَن الميمَ ليست بأصليَّةٍ ، وخالفهم اللَّيْثُ فوضع المَحَارَة في باب مَحَر ، ولا يُعْرَف مَحَر في شيء من كلام العرب.

[أبواب الحاء واللام]

ح ل ن

استعمل من وجوهه : لحن ، نحل. لحن : قال الليث : اللَّحْنُ ما تَلْحَنُ إليه بلسانِك أي تَميلُ إليه بقولك.

ومِنْه قول الله جلّ وعزّ : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمَّد : ٣٠] وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزول هذه الآية يعرفُ المنافِقِين إذا سَمِعَ نُطْقَهُم وكَلَامَهُمْ ؛ يستدلُّ به على ما يَرَى من لَحْنِه ، أي من مِثْلِه في كلامه في اللَّحْنِ.

وروى سلمةُ عن الفراء في قوله : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محَمَّد : ٣٠] يقول في نحو القول ومعنى القول.

وقال أبو إسحاق الزجَّاجُ (فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي نحوِ القَوْل. دلَّ بهذا ـ والله أعلم ـ أنَّ قولَ القائلِ وفعلَه يَدُلَّان على نِيَّتِه وما في ضميرِه.

قال وقولُ النّاس قد لَحَن فُلانٌ تأويلُه قد أَخَذَ في ناحِيةٍ عن الصّوابِ إليها.

وأنشد :

منطقٌ صائِب وتلْحَنُ أَحْيَاناً

وخَيْر الحديثِ ما كانَ لَحْنَا

تأويله وخيرُ الحَديثِ من مثلِ هذه الجاريَةِ ما كان لا يَعْرِفُه كُلُّ أَحَدٍ إنما يُعرَفُ أمرها في أنْحَاءِ قولها.

وأخبرني المنذريُّ عن أبي الهيثَم أنه قال : العُنْوانُ واللَّحْن واحدٌ ، وهي العلامةُ نُشير بها إلى الإنسانِ ليفْطِنَ بها إلى غيرِه ، نَقُول لَحَنَ فلانٌ بلَحْنٍ ففطِنْتُ.

وأنشد :

وتعرف في عُنْوَانِها بعضَ لَحْنِها

وفي جوفها صَمْعَاءُ تحكِي الدَّوَاهِيَا

قال ويقال للرَّجُل الذي يُعَرِّضُ ولا يُصَرِّحُ : قد جَعَلَ كَذَا وكَذَا لَحْناً لحاجَتِه وعُنواناً.

أبو عبيد عن أبي زيد لَحَنَ الرجلُ بِلَحْنِه إذا تكلمَ بلُغته ، ولَحَنْتُ له لَحْناً أَلْحَنُ له إذا قلتَ له قولاً يَفْقَهُه عَنْك ويَخْفى على غيره.

قال ولَحِنَ عَنِّي يَلْحَنُ لَحْناً أي فَهِمَه.

وأَلْحَنَتْهُ عَنِّي إيّاه إلْحاناً.

٤٠