تهذيب اللغة - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : اللغة والبلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

تصنيف كتابه المسمى «بتهذيب العرب» (١) فأعانه في جمعه كثرة ما صنف بخراسان من هذا الشأن في ذلك الوقت وقبله بكثير ، كتصنيف أبي تراب ، وأبي الأزهر ، وغيرهما ممن اعتمد الجمع والتكثير».

ومن أبرز شيوخه في هراة كما يفهم من تتبع رواياته في «التهذيب» :

١ ـ أبو الفضل محمد بن أبي جعفر المنذري الهروي المتوفى سنة ٣٢٩ ه‍. وهو أكبر شيوخه ، وممن قرأ على ثعلب والمبرد. وفيه يقول ياقوت (٢) : «وهو نحوي لغوي مصنف في ذلك ، وهو شيخ أبي منصور محمد بن أحمد الأزهري الذي أملى كتاب «التهذيب» بالرواية عنه».

وفي هذا التعبير من ياقوت مبالغة واضحة ، كما سيأتي عند الكلام على منهج الأزهري في تأليف «التهذيب».

٢ ـ أبو محمد المزني ، واسمه أحمد بن عبد الله ، وكان يقال له ببخارى «الشيخ الجليل». وهو من أهل هراة كما ذكر السمعاني (٣) ، قال الحاكم في «تاريخ نيسابور» : «كان إمام أهل العلم والوجوه وأولياء السلطان بخراسان في عصره بلا مدافعة» سمع بهراة ونيسابور ومروالروذ ونسا وجرجان وبغداد والكوفة والبصرة والأهواز ومكة ومصر والشام. وتوفي سنة ٣٦١ ه‍.

ويروي الأزهري عنه رواية عن أبي خليفة الفضل بن الحباب عن أبي محمد القاسم بن سلام.

٣ ـ أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، نسبة إلى «بغ» أو «بغشور» ، وهي بلدة من بلاد خراسان بين مرو وهراة. ولد سنة ٢١٢ ه‍ وتوفي سنة ٣١٧ ه‍ كما ذكر السمعاني.

٤ ـ أبو بكر بن عثمان. ذكره الأزهري في المقدمة (ص ٢٢) في ترجمة أبي حاتم السجستاني حيث ذكر كتاب السجستاني في القراءات ، قال : «قرأه علينا بهراة أبو بكر بن عثمان».

٥ ـ أبو محمد عبد الله بن محمد بن هاجك.

__________________

(١) كذا. واسمه الصحيح «تهذيب اللغة». مقدمة «التهذيب» (ص ٥٤).

(٢) «معجم الأدباء» (١٨ / ٩٩).

(٣) «الأنساب للسمعاني» ٥٢٧.

٤١

٦ ـ أبو محمد عبد الله بن عبد الوهاب البغوي. يروي عن الربيع بن سليمان عن الشافعي.

٧ ـ أبو بكر الإيادي ، تلميذ شمر بن حمدويه الهروي ، انظر المقدمة (ص ٢٥).

والحق إن إحصاء شيوخ الأزهري يحتاج إلى دراسة طويلة مصدرها الأول ما ذكره هو في مقدمة «التهذيب».

تلاميذه :

كان لتأليف الأزهري لكتابه «التهذيب» أثر كبير في الدراسات اللغوية ، واجتلاب عدد كبير من طلاب اللغة الذين كانوا يقرءون عليه هذا الكتاب في هراة. وقد حفظ التاريخ من أسماء تلاميذه طائفة صالحة ، منهم :

١ ـ أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي (ـ ٤٠١ ه‍) صاحب كتاب «الغريبين» : غريب القرآن ، وغريب الحديث ، وهو ألمع تلاميذه وأبرزهم. لقّبه ابن الأثير في مقدمة النهاية بـ «صاحب الإمام أبي منصور الأزهري اللغوي».

ويقول القفطي :

«ولما صنف أبو منصور كتابه «التهذيب» قرأه عليه الأجلاء من أهل بلده وأشرافها ورواه عنه أبو عبيد الهروي المؤدب ، مصنف كتاب «الغريبين» ، وكان تلميذا له وملازما حلقته ، ومن كتابه صنّف غريبه ـ وهو «التهذيب» ـ كتاب قد اشتمل من لغة العرب على جزء متوفر مع جسأة (١) في عبارة المصنف وعجرفية في ألفاظه».

ويفهم من هذا النص أن جماعة من الهرويين لم تعين أسماؤهم كانوا تلاميذ لأبي منصور ، ولا سيما بعد تأليفه كتاب «التهذيب».

٢ ـ وذكر ابن الأثير في الكامل (٢) أن «الشار أبو نصر» (٣) أمير غرشستان (٤) ، سمع من الأزهري كتاب «تهذيب اللغة». قال ابن الأثير : «ورأيت عدة مجلدات من كتاب

__________________

(١) الجسأة ، بالضم : الصلابة والخشونة.

(٢) «الكامل» (٩ / ٥٥) في حوادث سنة ٣٨٩ ه‍. وقد أشار إلى هذا النص بروكلمان في كتابه.

(٣) قال ابن الأثير : «الشار : لقب كل من يملك بلاد غرشستان ، ككسرى للفرس وقيصر للروم والنجاشي للحبشة.

(٤) غرشستان : ويقال أيضا غرج الشار : ولاية في شرقي هراة. والغرج معناه الجبال. عن ياقوت في «معجم البلدان».

٤٢

«التهذيب» للأزهري في اللغة بخطه ، وعليه ما هذه نسخته : يقول محمد بن أحمد الأزهري : قرأ علي الشار أبو نصر هذا الجزء من أوله إلى آخره وكتبه بيده. صح».

قال ابن الأثير : «فهذا يدل على اشتغاله وعلمه بالعربية ؛ فإن من يصحب مثل الأزهري ويقرأ كتابه «التهذيب» يكون فاضلا».

٣ ـ ومن تلاميذه أيضا أبو أسامة جنادة بن محمد بن الحسين الأزدي الهروي. قال ياقوت (١) : «عظيم القدر شائع الذكر عارف باللغة ، أخذ عن أبي منصور الأزهري ، وروى عن أبي أحمد العسكري وروى عنه كتبه ، ثم قدم مصر فأقام بها إلى أن قتله الحاكم من الملوك المصرية المنتسبة إلى العلويين في سنة ٣٩٩ ه‍ ... وأخذ عنه بمصر أبو سهل الهروي وغيره ، من أهل مصر وغيرهم. وكان مجلسه بمصر في جامع المقياس ، وهو الذي فيه العمود الذي يعتبرون به زيادة النيل من نقصه».

ويروي ياقوت والسيوطي (٢) أنه قيل للحاكم : إن جنادة رجل مشؤوم ، يقعد بالمقياس ويلقى النحو ، ويعزّم على النيل فلذلك لم يزد. فأمر بقتله لذلك.

وقد روى جنادة هذا كتاب «التهذيب» عن الأزهري ، كما سيأتي عند القول في مخطوطات «التهذيب».

وتوفي جنادة هذا سنة ٣٩٩.

ومن تلاميذ الأزهري الذين ذكرهم السبكي في «طبقات الشافعية» :

٤ ـ أبو يعقوب القراب.

٥ ـ أبو ذر عبد بن حميد.

٦ ـ أبو عثمان سعيد القرشي.

٧ ـ الحسين الباشاني.

٨ ـ علي بن أحمد بن خمرويه.

وفاته :

يكاد المؤرخون يجمعون أنه توفي سنة ٣٧٠ ه‍ بالمدينة التي ولد بها ، وهي مدينة هراة. وذكر بعضهم أن وفاته كانت سنة ٣٧١ ه‍. لم تخرج الأقوال عن هذين القولين.

__________________

(١) «معجم الأدباء» (٧ / ٢٠٩ ، ٢١٠).

(٢) في «بغية الوعاة» ص ٢١٣.

٤٣
٤٤

كتب الأزهري

١ ـ يعد كتاب «تهذيب اللغة» في قمة تآليفه ، وقد ألفه بعد بلوغه السبعين ، كما يفهم من مقدمته. وسأفرد لهذا الكتاب قولا خاصا.

٢ ـ كتاب «الأدوات» ، ذكره ياقوت والسيوطي. ويبدو أنه من كتب اللغة أو النحو. ولم يذكر في «كشف الظنون» (١) إلا كتاب «الأدوات» لأبي عبد الله محمد بن علي بن حميدة النحوي المتوفي سنة ٥٥٠ ه‍.

٣ ـ «تفسير ألفاظ مختصر المزني» والمزني هذا هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المتوفى سنة ٢٦٤ ه‍. وذكره القفطي باسم «كتاب الألفاظ الفقهية» والسبكي بلفظ «كتاب تفسير ألفاظ المزني». وابن خلكان بلفظ «تصنيف في غريب الألفاظ التي استعملها الفقهاء» ، وقال : «في مجلد واحد ، وهو عمدة الفقهاء (٢) في تفسير ما يشكل عليهم من اللغة المتعلقة بالفقه.

وفي «كشف الظنون» عند الكلام على «مختصر المزني في فروع الشافعية» : «وهو متداول في كل الأمصار ـ كما ذكره النووي في شرح «التهذيب» ـ للشيخ الإمام إسماعيل بن يحيى المزني الشافعي المتوفى سنة ٢٦٤ ه‍. وهو أول من صنف في مذهب الشافعي» ، ثم قال :

«وفي تفسير ألفاظ كتاب لمحمد بن أحمد بن منصور الأزهري المتوفى سنة ٣٧٠ ه‍» وذكره بروكلمان باسم «كتاب الظاهر (٣) في غريب ألفاظ الشافعي». ومنه نسخ في برلين ٤٨٥٢ وكوبريلي ٥٦٨ والمتحف البريطاني ثان ٣٤٠ وطب قبو ٢٧٨٢ ودار الكتب ٢ / ١٦ برقم ٣٥ لغة.

وعنوان نسخة دار الكتب المصرية : (كتاب «الزاهر في غرائب ألفاظ الإمام الشافعي» الذي نقله عنه المزني رحمة الله عليهم.

وأول هذا الكتاب : «قال أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر». وفي مقدمته : «فأعملت رأيي في تفسير ما استغرب منها ـ يعني كتب الشافعي ـ في الجامع الذي اختصره

__________________

(١) «كشف الظنون» (٢ / ٢٦٠).

(٢) أي الكتاب الذي يعتمدون عليه. وظن بعضهم أن «عمدة الفقهاء» اسم كتاب آخر له في الفقه.

(٣) يبدو أنه خطأ في الترجمة ، صوابه «الزاهر» كما هو عنوان النسخة التي أشار إليها بروكلمان.

٤٥

المزني أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى رحمه‌الله ، من جميعها».

والكتاب مرتب على أبواب الفقه ومنه نسخة دار الكتب في ١١٩ ورقة بخط محمود صدقي النساخ في ١٦ ذي القعدة سنة ١٣٢٦ ه‍ عن نسخة بمكتبة أحمد بك الحسيني.

ومن هذا القبيل من تصانيف اللغة كتاب «المصباح المنير في غريب الشرح الكبير» يعني «شرح الوجيز» للإمام الرافعي. والوجيز هذا كتاب في فروع الشافعية للإمام الغزالي (٤٥١ ـ ٥٠٥ ه‍) وقد شرحه الرافعي ، واسمه أبو القاسم عبد الكريم بن محمد القزويني الشافعي المتوفى سنة ٦٢٣ ه‍. شرحه شرحا كبيرا سماه «فتح العزيز على كتاب الوجيز».

٤ ـ «التقريب في التفسير». ذكره ياقوت وابن العماد ، وأورده القفطي وابن خلكان بلفظ «كتاب التفسير». وهو من كتب تفسير القرآن الكريم. ذكره صاحب «كشف الظنون» (١ / ٣٠٦) قال : «تفسير الأزهري المسمى بالتقريب ، يأتي». ثم ذكر في (١ / ٣١٩). «تقريب في التفسير» لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري اللغوي الشافعي».

٥ ـ «تفسير أسماء الله عزوجل». ذكره ياقوت. وأورده السبكي بلفظ : «تفسير الأسماء الحسنى». وسماه صاحب «كشف الظنون» (٢ / ٥٠) «شرح أسماء الله الحسنى». وانظر لما قيل في الأسماء الحسنى «تفسير أبي حيان» (٤ / ٤٢٩).

٦ ـ «تفسير إصلاح المنطق» لابن السكيت. ذكره ياقوت والسبكي ، وكذا «كشف الظنون» (١ / ١١٢). ولعل الأزهري أول شارح لهذا الكتاب.

٧ ـ «تفسير السبع الطوال». ذكره ياقوت والسبكي وكذا «كشف الظنون» (١ / ٣٠٩ ، ٣١٠). والمراد بالسبع الطوال ما عرف فيما بعد بالمعلقات السبع ، التي سماها أبو بكر ابن الأنباري (٢٧١ ـ ٣٢٨) من قبل «القصائد السبع الطوال». وظن بعضهم خطأ أن هذا الكتاب في تفسير بعض سور القرآن الكريم ، إذ يقول في الكلام على الأزهري : «هو في التفسير من الممتازين ، فقد ألف تفسيرا للسبع الطوال»!!.

٨ ـ «تفسير شعر أبي تمام». ذكره ياقوت. وعند السبكي «تفسير ديوان أبي تمام» والسيوطي «شرح شعر أبي تمام». وجاء في «كشف الظنون» (١ / ٥٠١) عند الكلام على «ديوان أبي تمام» : «وفسره أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري المتوفى سنة ٣٧٠ ه‍».

٩ ـ «تفسير شواهد غريب الحديث». ذكره ياقوت. ولعله «شرح لشواهد غريب الحديث» لأبي عبيد (١).

__________________

(١) انظر مقدمة «التهذيب» (ص ٢٠).

٤٦

١٠ ـ «الحيض». ذكره صاحب «كشف الظنون» (٢ / ٢٧٤).

١١ ـ «الرد على الليث». ذكره ياقوت.

١٢ ـ «علل القراءات». أورده ياقوت والسبكي. ولم يذكر صاحب «كشف الظنون» في سلسلة كتب العلل.

١٣ ـ «كتاب في الروح وما جاء فيها من القرآن والسنة». ذكره ياقوت. وأورده السبكي بلفظ «كتاب الروح وما ورد فيها من الكتاب والسنة».

ـ كتاب «معاني شواهد غريب الحديث». كذا جاء في «معجم الأدباء» عند سرد كتبه. وهو بلا ريب كتاب تفسير شواهد «غريب الحديث» الذي سبق الكلام عليه في رقم ٩.

٤٧
٤٨

تهذيب اللغة

يعد هذا الكتاب في قمة كتب الأزهري. كما يعد من أوثق المعاجم اللغوية. وبحق ما سمى الأزهري كتابه «تهذيب اللغة». يقول في ذلك (١).

«وقد سميت كتابي هذا «تهذيب اللغة» ؛ لأني قصدت بما جمعت فيه نفي ما أدخل في لغات العرب من الألفاظ التي أزالها الأغبياء عن صيغتها ، وغيرها الغتم عن سننها ، فهذّبت ما جمعت في كتابي من التصحيف والخطأ بقدر علمي ، ولم أحرص على تطويل الكتاب بالحشو الذي لم أعرف أصله ، والغريب الذي لم يسنده الثقات إلى العرب».

ومع ضخامة هذا المعجم واتساع جنباته يقول الأزهري إنه لم يذكر فيه إلا ما صح من سماع ، أو ما كان رواية عن ثقة ، أو حكاية عن ذي معرفة ثاقبة اقترنت إليها معرفته.

وهو يعتذر عن هذا الإيجاز بقوله (٢) :

ولو أنني أودعت كتابي هذا ما حوته دفاتري وقرأته من كتب غيري ، ووجدته في الصحف التي كتبها الوراقون وأفسدها المصحفون ، لطال كتابي ، ثم كنت أحد الجانين على لغة العرب ولسانها. ولقليل لا يخزى صاحبه ، خير من كثير يفضحه».

ثم يقول :

«ولم أودع كتابي هذا إلا ما صح لي سماعا منهم أو رواية عن ثقة ، أو حكاية عن خط ذي معرفة ثاقبة اقترنت إليها معرفتي ، اللهم إلا حروفا وجدتها لابن دريد وابن المظفر في كتابيهما ، فبيّنت شكي فيها وارتيابي بها ، وستراها في مواقعها من الكتاب ووقوفي فيها».

ويقول أيضا معتذرا عن حذف بعض الحروف والشواهد :

«ولعل ناظرا ينظر في كتابي هذا فيرى أنه أخلّ به إعراضي عن حروف لعله يحفظها لغيري ، وحذفي الشواهد من شعر العرب للحرف بعد الحرف ، فيتوهم ويوهم غيره أنه حفظ ما لم أحفظ ، ولا يعلم أني عزوت فيما حذفته إعفاء الكتاب من التطويل الممل ، والتكثير الذي لا يحصّل».

__________________

(١) المقدمة ١ / ٥٤.

(٢) المقدمة ١ / ٤٠.

٤٩

وفي هذه الأقوال ما يلقي ضوءا واضحا على المنهج العام الذي التزمه في صنع الكتاب.

مقدمة التهذيب :

تعد مقدمة التهذيب من أهم الوثائق في تأريخ التأليف اللغوي وتأريخ المدارس اللغوية الأولى.

فقد بين في صدرها أن الصحابة لم يكونوا بحاجة إلى تعلم اللغة ؛ إذ كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبين للمخاطبين من أصحابه مجمل الكتاب وغامضه ومتشابهه.

ثم ذكر أن الحاجة قد أدركت من بعد الصحابة ، ليعرفوا ضروب خطاب السنة ، ومعرفة السنة المبينة لجمل التنزيل.

وعقد فصلا لبيان فضل اللسان العربي واتساعه ، فهو أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا. واللغة لا يحيط بها إلا نبي. واستشهد لذلك بكلام طويل للشافعي فيه : «وما نعلم أحدا يحيط بجميعها غير نبي».

الدافع له إلى تأليف هذا الكتاب :

وفي هذه المقدمة بين الأزهري أن الدافع له إلى تأليف هذا الكتاب الذي قصد به معرفة معاني القرآن وألفاظ السنة ، خلال ثلاث :

١ ـ حرصه على تقييد النصوص التي حفظها ووعاها من أفواه العرب الذين شاهدهم وأقام بين ظهرانيهم سنيات أيام الأسر. وهذه ميزة للتوثيق اللغوي لا يقوم إزاءها الأخذ عن العلماء.

٢ ـ حرصه على أداء النصيحة الواجبة على أهل العلم لجماعة المسلمين ، عملا بالحديث النبوي الكريم : «ألا إن الدين النصيحة لله ولكتابه ، ولأئمة المسلمين ولعامتهم»

. ٣ ـ ما لحظه في الكتب التي ألفت في اللغة من دخل وعوار لا يفطن له أبناء زمانه الذين لا يميزون الصحيح من السقيم.

هذه الحوافز مجتمعة دفعته إلى أن يفكر في «تهذيب اللغة» ، ويدلّ على التصحيف الواقع في تلك الكتب ، والتفسير المزال عن وجهه.

٥٠

ولوعه باللغة ورأيه في الاستشهاد بكلام العرب :

وكان الأزهري مولعا باللغة دائم البحث فيها وفي مصادرها. وفي ذلك يقول (١) :

«وكنت منذ تعاطيت هذا الفن في حداثتي إلى أن بلغت السبعين ، مولعا بالبحث عن المعاني والاستقصاء فيها ، وأخذها من مظانها ، وإحكام الكتب التي تأتي لي سماعها من أهل التثبت والأمانة ، للأئمة المشهرين ، وأهل العربية المعروفين».

ثم يذكر الفرصة الموفّقة التي أتيحت له حين امتحن بالأسر ، سنة عارضت القرامطة الحاج بالهبير ، ووقع في سهم عرب عامتهم من هوازن (٢) ، واختلطت بهم أصرام من تميم وأسد ، وهم قوم نشئوا في البادية لا يكاد يقع في منطقهم لحن أو خطأ فاحش ، فاستفاد من مخاطباتهم ومحاورة بعضهم بعضا ألفاظا جمة ، ونوادر كثيرة.

وهذا يقدم إلينا نظرته في أن الاستشهاد بكلام العرب أمكن أن يمتد عنده إلى ما بعد سنة ٣١٢ ه‍ وهي سنة وقعة الهبير.

أئمة اللغة الذين اعتمد عليهم في «التهذيب» :

ويذكر الأزهري في مقدمته طبقات أئمة اللغة الذين اعتمد عليهم في جمع هذا الكتاب ، مبينا تراجمهم وآثارهم اللغوية ، وهم خمس طبقات :

الطبقة الأولى :

١ ـ أبو عمرو بن العلاء (ص : ٨) من المقدمة.

٢ ـ خلف الأحمر (ص : ٩).

٣ ـ المفضل بن محمد الضبي (ص : ١٠).

الطبقة الثانية : «وقد أخذت عن الطبقة الأولى خاصة وعن العرب عامة ، وبعضهم بصري وبعضهم كوفي» ، وهم :

١ ـ أبو محمد عبد الله بن سعيد الأموي.

٢ ـ أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش.

٣ ـ أبو مالك عمرو بن كركرة.

__________________

(١) مقدمة الأزهري ص ٧.

(٢) انظر ما سبق.

٥١

وقد ترجم لهؤلاء في إيجاز شديد في (ص : ١١ ـ ١٢).

٤ ـ أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري (ص : ١٢).

٥ ـ أبو عمرو الشيباني (ص : ١٣).

٦ ـ أبو عبيدة معمر بن المثنّى (ص : ١٤).

٧ ـ أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي (ص : ١٤).

٨ ـ أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي (ص : ١٥).

٩ ـ أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي (ص : ١٧).

١٠ ـ النضر بن شميل المازني (ص ١٧).

١١ ـ علي بن المبارك الأحمر (ص : ١٨).

١٢ ـ أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء (ص : ١٨).

١٣ ـ عمرو بن عثمان الملقب بسيبويه النحوي (ص : ١٩).

١٤ ـ عبد الرحمن بن بزرج (ص : ١٩).

الطبقة الثالثة :

١ ـ أبو عبيد القاسم بن سلام (ص : ١٩).

٢ ـ أبو عبد الله محمد بن زياد الأعرابي (ص : ٢٠).

٣ ـ أبو الحسن علي بن حازم اللحياني (ص : ٢١).

٤ ـ نصير بن أبي نصير الرازي (ص : ٢٢).

٥ ـ عمرو بن أبي عمرو الشيباني (ص : ٢٢).

٦ ـ أبو نصر صاحب الأصمعي.

٧ ـ الأثرم صاحب أبي عبيدة.

٨ ـ ابن نجدة صاحب أبي زيد الأنصاري.

وقد ترجم لهؤلاء الثلاثة ترجمة موجزة في (ص : ٢٢).

٩ ـ أبو حاتم السجستاني (ص : ٢٢).

١٠ ـ أبو يوسف يعقوب بن إسحاق السكيت (ص : ٢٣).

١١ ـ أبو سعيد البغدادي الضرير (ص : ٢٤).

١٢ ـ أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن هانىء النيسابوري (ص : ٢٤).

٥٢

١٣ ـ أبو معاذ النحوي المروزي (ص : ٢٥).

١٤ ـ أبو داود سليمان بن معبد السنجي (ص : ٢٥).

الطبقة الرابعة :

١ ـ أبو عمرو شمر بن حمدويه الهروي ، شيخ أبي تراب (ص : ٢٥).

٢ ـ أبو الهيثم الرازي (ص ٢٦).

٣ ـ أبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني ، الملقب بثعلب (ص : ٢٦).

٤ ـ أبو العباس محمد بن يزيد الثمالي ، الملقب بالمبرد (ص : ٢٧).

الطبقة الخامسة : وهي الطبقة التي أدركها الأزهري في عصره ، منهم :

١ ـ أبو إسحاق إبراهيم بن السريّ الزجاج (ص : ٢٧).

٢ ـ أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري (ص : ٢٨).

٣ ـ أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة ، الملقب بنفطويه (ص : ٢٨).

هذه الطبقات الخمس هي طبقات الثقات الأثبات المتقنين المبرّزين.

أما الذين ألفوا كتبا أودعوها الصحيح والسقيم وحشوها بالمزال المفسد ، والمصحّف المغيّر ، الذي لا يتميز ما يصح منه إلا عند النقاب المبرز ، والعالم الفطن. فمن المتقدمين منهم :

١ ـ الليث بن المظفر ، الذي نحل الخليل كتاب «العين» جملة لينفّقه باسمه (ص : ٢٨).

٢ ـ محمد بن المستنير ، المعروف بقطرب (ص : ٣٠).

٣ ـ عمرو بن بحر ، المعروف بالجاحظ (ص : ٣٠).

٤ ـ أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري ، المعروف بابن قتيبة (ص : ٣٠).

٥ ـ أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد (ص : ١٣).

ورجلان آخران من الخراسانيين المعاصرين هما :

٦ ـ أحمد بن محمد البشتي ، صاحب «تكملة العين» ، المعروف بالخارزنجي (ص : ٣٢).

٧ ـ أبو الأزهر البخاري صاحب «الحصائل» (ص : ٤٠).

وقد أوضح الأزهري مطاعنه في هؤلاء السبعة ، ولا سيما أحمد بن محمد البشتي ،

٥٣

الذي عرض لنا نماذج كثيرة من أخطائه ، بعد أن ساق ثبت الكتب التي اعتمد عليها في تصنيفه.

منهج الأزهري في تأليف الكتاب وترتيبه :

أما منهجه في التأليف فقد سبق الكلام عليه في صدر الكلام على «التهذيب» (١).

وأما منهجه في ترتيب مواد اللغة فيعبر عنه بقوله :

«ولم أر خلافا بين اللغويين أن التأسيس المجمل في أول كتاب «العين» ، لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد ، وأن ابن المظفر أكمل الكتاب عليه بعد تلقّفه إياه عن فيه. وعلمت أنه لا يتقدم أحمد الخليل فيما أسّسه ورسمه ، فرأيت أن أحكيه بعينه لتتأمله وتردد فكرك فيه ، وتستفيد منه ما بك الحاجة إليه ، ثم أتبعه بما قاله بعض النحويين ، مما يزيد في بيانه وإيضاحه».

فكتاب «التهذيب» جار على نمط كتاب «العين» في ترتيبه وتأسيسه.

ونظام حروف الهجاء الذي سارا عليه يتبع مخارج الحروف ، يبدأ بأقصاها في الحلق وأدخلها ، وهو العين ، ثم ما قرب مخرجه منها الأرفع فالأرفع ، حتى يأتي على آخر الحروف ، وهو الياء. وهذا تأليفها :

ع ح ه خ غ / ق ك / ج ش ض / ص س ز / ط د ت / ظ ذ ث / ر ل ن / ف ب م / و ا ى.

وقد نظمها أبو الفرج سلمة بن عبد الله المعافري في قوله (٢) :

يا سائلي عن حروف العين دونكها

في رتبة ضمها وزن وإحصاء

العين والحاء ثم الهاء والخاء

والغين والقاف ثم الكاف أكفاء

والجيم والشين ثم الضاد يتبعها

صاد وسين وزاي بعدها طاء

والدال والتاء ثم الظاء متصل

بالظاء ذال وثاء بعدها راء

واللام والنون ثم الفاء والباء

والميم والواو والمهموز والياء

وقد وجدت ضابطا من النظم لهذه الحروف في صدر نسخة عارف حكمت من «التهذيب» وهذا نصه :

__________________

(١) انظر ما سبق في (ص : ١٦).

(٢) «المزهر» (١ / ٨٩).

٥٤

(هذه الأبيات لاستخراج الحروف من الكتاب :

عن حزن هجر خريدة غنّاجة

قلبي كواه جوى شديد ضرار

صحبي سيبتدئون زجري طلّبا

دهشى تطلب ظالم ذي ثار

رغما لذي نصحي فؤادي بالهوى

متلهب وذوي الملام يمارى)

ومن الواضح أن المراد الحروف الأولى من كلمات هذا النظم.

ويجرى نظام أبواب الكتاب على الوجه التالي :

أولا : المضاعف : وتبدأ أبوابه من الحرف الأول وهو العين وما يليها وهو الحاء ، ثم العين مع الهاء وهكذا إلى آخر الحروف ، مع تقليبها إن أمكن قلبها ، مثل عق وقع ، على ألّا يعاد التقليب عند ورود الحرف الثاني في موضعه ، اكتفاء بما تقدم.

ثانيا : أبواب الثلاثي الصحيح. تبدأ بالعين مع الحاء وما يثلثهما بترتيب الحروف ، ثم العين مع الهاء ثم مع الخاء والغين وهكذا إلى آخر الحروف ، مع تقليب كل مجموعة ثلاثية ومراعاة عدم التكرار فيما يستقبل ، ومع النص على ما استعمل من تلك التقاليب وما أهمل.

ثالثا : أبواب الثلاثي المعتل. وتجري على النظام المتقدم ، مع إلحاق المهموز بالمعتل بالألف. ومما يجدر ذكره قول الأزهري في باب العين والباء : «أما عبأ فهو مهموز لا أعرف في معتلات العين حرفا مهموزا غيره». ومما جاء من المهموز مع المعتل في باب الحاء : حضأ ، حطأ ، حدأ ، حلأ ، أنح ، حمأ.

رابعا : أبواب اللفيف ، فمن لفيف حرف العين : عوى ، عاعى ، عيى ، وعى ، وعوع. ويتلوه لفيف الحاء والهاء والخاء إلى آخر الحروف.

خامسا : الرباعي مرتبا على أبوابه. فمن أمثلة العين مع الجيم : جحلنجع ، اثعنجج ، الهجرع ، الهجنع ، علهج.

ومن أمثلة العين مع الخاء : خضارع ، خرعوبة ، خثعم ، خيتعور.

ومن أمثلة العين مع القاف : قعضب ، قعضم ، الدعشوقة .. وهكذا.

سادسا : الخماسي بدون أبواب ، ففي كتاب العين نجد الكلمات التالية : هبنقع ، خنثعبة ، عشنزر ، قفنزعة ، عفنقس ، عضرفوط ، قذعملة ، قرطعبة ... الخ.

٥٥

تاريخ تأليفه للتهذيب :

ذكر الأزهري في مقدمته (ص : ٧) ما يفهم منه أنه ألف كتابه بعد السبعين ، إذ يقول :

«وكنت منذ تعاطيت هذا الفن في حداثتي إلى أن بلغت السبعين مولعا بالبحث عن المعاني والاستقصاء فيها ، وأخذها من مظانها ، وإحكام الكتب التي تأتى لي سماعها من أهل الثبت والأمانة ، للأئمة المشهرين وأهل العربية المعروفين».

وهذا نص قاطع بأنه ألف كتابه بعد سن السبعين ، أي بعد اكتمال نضوجه العلمي ، وهذا يعطي قدرا عظيما لمؤلفه هذا ، ويعطي الثقة بما أثبته في معجمه.

موقفه من كتب اللغة :

أما الكتب المعتمدة والأئمة الموثقون فمن الميسور جدا أن يعرفها الباحث بتتبع ذكر الأئمة الذين اعتمد عليهم ، وقد ذكر أسماءهم وكتبهم في المقدمة من (ص ٨ ـ ٢٨).

وأما الكتب التي طعن فيها فكثيرة أيضا ذكرها في المقدمة من (ص ٢٨ ـ ٤١).

وأظهر الكتب التي طعن فيها : كتاب «الجمهرة» لابن دريد ، ثم كتاب «العين» المنسوب للخليل. وفيه يقول في المقدمة (ص ٢٨).

«فمن المتقدمين : الليث بن المظفر الذي نحل الخليل بن أحمد تأليف كتاب «العين» جملة لينفقه باسمه ، ويرغب فيه من حوله. وأثبت لنا عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي الفقيه أنه قال : كان الليث بن المظفر رجلا صالحا ، ومات الخليل ولم يفرغ من كتاب العين ، فأحب الليث أن ينفق الكتاب فسمى لسانه الخليل ، فإذا رأيت في الكتاب : سألت الخليل بن أحمد ، أو أخبرني الخليل بن أحمد ، فإنه يعني الخليل نفسه. وإذا قال الخليل فإنما يعني لسان نفسه قال : وإنما وقع الاضطراب في الكتاب من قبل خليل الليث».

ثم ينقل تجريح ثعلب له ، وتجريح أبي بكر الإيادي الذي يقول فيه : «ذلك كتاب الزّمنى» ، ثم يبدي رأيه الذاتي منصفا فيقول :

«وقد قرأت كتاب «العين» غير مرة ، وتصفحته تارة بعد تارة ، وعنيت بتتبع ما صحف وغير منه ، فأخرجته في مواقعه من الكتاب ، وأخبرت بوجه الصحة فيه ، وبينت وجه الخطأ ، ودللت على موضع الصواب منه. وستقف على هذه الحروف إذا تأملتها في تضاعيف أبواب الكتاب ، وتحمد الله ـ إذا أنصفت ـ على ما أفيدك فيها. والله الموفق للصواب ، ولا قوة إلا به.

٥٦

وأمّا ما وجدته فيه صحيحا ، ولغير الليث من الثقات محفوظا ، أو من فصحاء العرب مسموعا ، ومن الريبة والشك لشهرته وقلة إشكاله بعيدا ، فإني أعزيه إلى الليث بن المظفر ، وأؤديه بلفظه ، ولعلي قد حفظته لغيره في عدة كتب فلم أشتغل بالفحص عنه لمعرفتي بصحته ، فلا تشكن فيه من أجل أنه زل في حروف معدودة هي قليلة في جنب الكثير الذي جاء به صحيحا ، وأحمدني على نفي الشبه عنك فيما صححته له ، كما تحمدني على التنبيه فيما وقع في كتابه من جهته أو جهة غيره ممن زاد ما ليس منه. ومتى ما رأيتني ذكرت من كتابه حرفا وقلت إني لم أجده لغيره فاعلم أنه مريب ، وكن منه على حذر وافحص عنه ، فإن وجدته لإمام من الثقات الذين ذكرتهم في الطبقات فقد زالت الشبه ، وإلا وقفت فيه إلى أن يضح أمره».

قيمة كتاب التهذيب :

لا يعرف قدر هذا الكتاب حق المعرفة إلا من نظر فيه طويلا ، وتتبع منهجه الوثيق في تفسير اللغة ، والأمانة الصادقة التي كان يستشعرها وهو يصنع كتابه.

يقول فيه السيوطي : «وكان عارفا بالحديث ، عالي بالإسناد ، ثخين الورع».

ومما يجدر ذكره هنا أن الأزهري ألفه بعد بلوغه السبعين من عمره كما يفهم من المقدمة (ص : ٧) أي في نحو سنة ٣٥٢ ه‍.

وفضلا عن القدر الهائل من المادة اللغوية التي يحويها محاولا بها تفسير ألفاظ القرآن الكريم والحديث النبوي وأشعار العرب وأمثالها ، نجد له خاصة ظاهرة ، هي عنايته بالناحية البلدانية التي استوعب بها التعريف بالكثير من بلدان الجزيرة العربية ، وهو اتجاه مبكر على نطاق واسع في التأليف المعجمي ، بلغ ذروته فيما بعد ، فيما صنع الفيروزآبادي في معجمه «القاموس المحيط».

وكذا عنايته الخاصة بشرح الأحاديث النبوية التي فاتت أبا عبيد ، والقتيبي ، والخطابي.

ويكفي أن نذكر أن صاحب «لسان العرب» اعتمد عليه اعتمادا كاملا ، وجعله في قمة مصادره. وأستطيع أن أقول إن صاحب «اللسان» قد أفرغ معظم الكتاب في تضاعيف معجمه ، فندر أن تجد نصا للأزهري لم ينقله ابن منظور. وفي ذلك يقول صاحب «اللسان» في مقدمته :

«ولم أجد في كتب اللغة أجمل من «تهذيب اللغة» لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري ، ولا أكمل من «المحكم» لأبي الحسن علي بن إسماعيل بن سيده الأندلسي

٥٧

رحمهما‌الله ، وهما من أمهات اللغة على التحقيق ، وما عداهما بالنسبة إليهما ثنيات الطريق. غير أن لكلا منهما مطلب عسر المهلك ، ومنهل وعر المسلك ؛ وكأن واضعه شرع للناس موردا عذبا وحلأهم عنه ، وارتاد لهم مربعا ومنعهم منه ، قد أخر وقدم ، وقصد أن يعرب فأعجم ، فرّق الذهن بين الثنائي والمضاعف والمقلوب وبدد الفكر باللفيف والمعتل والرباعي والخماسي فضاع المطلوب ، فأهمل الناس أمرهما ، وانصرفوا عنهما ، وكادت البلاد لعدم الإقبال عليهما أن تخلو منهما ، وليس لذلك سبب إلا سوء الترتيب ، وتخليط التفصيل والتبويب. ورأيت أبا نصر إسماعيل بن حماد الجوهري قد أحسن ترتيب (مختصره) ، وشهره بسهولة وضعه شهرة أبي دلف بين باديه ، ومحتضره ، فخف على الناس أمره فتناولوه ، وقرب عليهم مأخذه فتداولوه وتناقلوه ، غير أنه في جو اللغة كالذرّة ، وفي بحرها كالقطرة ، وإن كان في نحرها كالدرّة. وهو مع ذلك قد صحف وحرف ، وجزف فيما صرّف ، فأتيح له الشيخ أبو محمد بن بري فتتبع ما فيه ، وأملى عليه أماليه ، مخرجا لسقطاته ، مؤرخا لغلطاته ، فاستخرت الله سبحانه وتعالى في جمع هذا الكتاب المبارك ، الذي لا يساهم في سعة فضله ولا يشارك ، ولم أخرج عما في (هذه الأصول) ، ورتبته ترتيب «الصحاح» في الأبواب والفصول. وقصدت توشيحه بجليل الأخبار ، وجميل الآثار ، مضافا إلى ما فيه من آيات القرآن الكريم ، والكلام على معجزات الذكر الحكيم ، ليتحلى بترصيع دررها عقده ، ويكون على مدار الآيات والأخبار والآثار والأمثال والأشعار حله وعقده ؛ فرأيت أبا السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري قد جاء في ذلك بـ «النهاية» ، وجاوز في الجودة حد الغاية ، غير أنه لم يضع الكلمات في محلها ، ولا راعى زائد حروفها من أصلها ، فوضعت كلا منها في مكانه ، وأظهرته مع برهانه».

فهو كما ترى قد صدر كتاب «التهذيب» في أول مصادره الخمسة الرئيسة ، وهي «التهذيب» ، و «المحكم» ، و «الصحاح» ، و «أمالي ابن بري على الصحاح» ، و «نهاية ابن الأثير».

ويقول ابن منظور أيضا في توثيق الأزهري وابن سيده.

«وأنا مع ذلك لا أدعي فيه دعوى فأقول : شافهت أو سمعت. أو فعلت أو صنعت ، أو شددت أو رحلت ، أو نقلت عن العرب العرباء أو حملت ، فكل هذه الدعاوى لم يترك فيها الأزهري وابن سيده لقائل مقالا ، ولم يخليا فيه لأحد مجالا ، فإنهما عنيا في كتابهما عمن رويا ، وبرهنا عما حويا ، ونشرا في خطهما ما طويا ، ولعمري لقد جمعا فأوعيا ، وأتيا بالمقاصد ووفيا».

٥٨

نسخة الأزهري من التهذيب :

يحدثنا التاريخ عن النسخة التي كتبها الأزهري بنفسه ، وكانت في عشرين مجلدا ، ثم انتقلت بعد موته إلى آل السمعاني ، ثم انتهى خبرها في وقعة للترك سنة ٦١٧ ه‍. يقول القفطي في الكلام على «التهذيب» :

«وقد رزق [هذا] التصنيف سعادة ، وسار في الآفاق ، واشتهر ذكره اشتهار الشمس ، وقبلته نفوس العلماء ، ووقع التسليم له منهم ، وصادف طالع سعد عند تأليفه. وشوهد على المجلد العشرين عند تأليفه من النسخة التي بخط المؤلف ـ وكانت بمرو ، وعند آل السمعاني رحمهم‌الله ، وذهب خبرها في وقعة الترك سنة سبع عشرة وستمائة ـ بخط الإمام فخر خوارزم أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري (٤٦٧ ـ ٥٨٣ ه‍) ما صورته :

ظفرت من هذه النسخة ـ التي هي نسيج وحدها ، لكونها بخط المصنف ، وسلامة نقطها وشكلها من التحريف والزلل الذي لا يكاد يبرأ منه يد كاتب في كتاب خفيف الحجم وإن أحضر ذهنه ، وأمده إتقان ، وساعده حفظ ودراية ، فضلا عن (١) عشرين مجلدة (٢) بضالتي المنشودة ، فأكببت عليها إكباب الحريص ، وقلبتها بالمطالعة ، وعلقت عندي ما فيها من الأحاديث التي خلت عنها مصنفات أبي عبيد ، والقتبي ، والخطابي ، والأمثال التي لم تكن في كتابي الذي سميته بالمستقصى في أمثال العرب ، وسألت الله تنوير حفره ، تصحيح وتنقيح!! وذلك في شهور سنة خمس وستمائة».

ومما يجدر ذكره في صدد تعيين عدد أجزاء نسخة الأزهري أني عثرت في آخر حرف الحاء من نسخة الكتب المصرية رقم (٩ لغة) في ص ٧٩٣ من الجزء الأول هذا النص :

«آخر حرف الحاء (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، وهو آخر المجلد السابع من خط أبي منصور الأزهري رحمه‌الله. منه نقلت هذا الكتاب وفرغت منه يوم الأربعاء سابع عشر محرم سنة ٦١٥ ه‍».

__________________

(١) قال ابن خلكان : «وهو من الكتب المختارة ، يكون أكثر من عشر مجلدات». وقال ، السبكي في «الطبقات» : «إنه في عشر مجلدات».

(٢) في الأصل : «فى».

٥٩

مخطوطات التهذيب :

تمكن الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار من أن يحصي من هذه المخطوطات تسعة عشر مخطوطا ، منها ١٣ في تركيا ، وثلاثة في مصر ، وواحد في كل من الحجاز وسوريا ولندن. ووصف هذه المخطوطات وصفا موجزا في كتابه «مقدمة تهذيب اللغة» (١).

والذي أمكن الانتفاع به في هذا الجزء الأول من «التهذيب» نسخ ثلاث :

١ ـ نسخة دار الكتب المصرية برقم (٩ لغة). وهي في مجلدين كبيرين بكل صفحة ٣٥ سطرا ، وبالسطر الواحد نحو ١٥ كلمة. وهي بخط نسخي جميل كامل الضبط ، وفيها بعض تلفيق في الخطوط ولا سيما في أواخر المجلدين. والنسخة مع ذلك منقوصة في آخرها والجزء الأول في ١٢٨٠ صفحة والثاني في ٧٩٨. وهي من وقف محمد بك أبو الذهب في جامعه. وقد صورت دار الكتب منها نسخة في عدة مجلدات تحمل الرقم (ه ٤٨٧٠).

وهذه النسخة هي التي رمز لها بالرمز (د).

٢ ـ نسخة المدينة المنورة ، بمكتبة شيخ الإسلام عارف حكمة الله الحسيني برقم (٤٣). وعدد أوراقها ٩٠٠ ورقة بكل صفحة منها ٤١ سطرا وهو بخط نسخي معتاد دقيق ، يرجع تاريخه إلى القرن التاسع أو العاشر. ومنها (فيلم) بمعهد إحياء المخطوطات العربية برقم (١٩) صورت منه نسخة وزعت على محققي «التهذيب». وهذه النسخة كاملة وأقرب ما تكون إلى الصحة ، وبها بعض الضبط الضروري. وهي منقولة من نسخة كتبها ياقوت بن عبد الله الحموي سنة ٦١٦ ه‍.

وهذه النسخة هي المرموز لها بالرمز (م).

٣ ـ نسخة دار الكتب المصرية برقم (١٠ لغة). ويه نسخة منقوصة الأول ، وبها مع ذلك بعض خروم في أثنائها ، وهي ملفقة من عدة مخطوطات ، يرجع تاريخ بعضها إلى سنة ٦٣٣ ه‍ وبعضها إلى سنة ٦٥٦ وبعضها إلى سنة ٦٨٦ وبعضها إلى سنة ٦٨٧ وبعضها إلى سنة ٧٥٣. وهي من وقف خزانة الملك المؤيد أبي النصر شيخ. وقد كتب على بعض أجزائها أنه من رواية أبي أسامة جنادة بن محمد الأزدي عن الأزهري. وهي في ١٧ جزءا آخرها الجزء ١٨ أما الجزء الأول فمفقود.

__________________

(١) كتاب «مقدمة تهذيب اللغة» طبع ، دار مصر للطباعة سنة ١٣٧٦ (ص ١٥ ـ ٢١).

٦٠