تهذيب اللغة - ج ١

محمّد بن أحمد الأزهري

تهذيب اللغة - ج ١

المؤلف:

محمّد بن أحمد الأزهري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

رموز التصحيح

(١) وضع (*) بجوار رأس المادة فيه تنبيه على أن المادة لها تكملة في موضع آخر ـ

غالبا عند نهاية الباب ـ.

(٢) الزيادات والاستدراكات حصرت بين [].

(٣) حصرت القراءات بين ().

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال أبو منصور محمد بن أحمد بن طلحة بن نوح بن الأزهر الأزهريّ ، رَحِمَه الله :

الحمد لله ذي الحول والقدرة بكلِّ ما حَمِد به أقربُ عبادِه إليه ، وأكرم خلائقه عليه ، وأرضى حامدِيه لديه ، على ما أسبغَ علينا مِن نِعمه الظاهرة والباطنة ، وآتاناه من الفهم في كتابه المنزل على نبيّ الرحمة سيد المرسلين وإمام المتَّقين ، محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله الطيبين ، صلاة زاكية نامية وأزلفَ مقامه لديه ؛ ووفقنا له من تلاوته ، وهدانا إليه من تدبُّر تنزيله ، والتفكُّر في آياته ، والإيمان بمحكمه ومتشابهه ، والبحث عن معانيه ، والفحص عن اللغة العربية التي بها نزلَ الكتاب ، والاهتداء بما شرع فيه ودعا الخلق إليه ، وأوضح الصراط المستقيم به ؛ إلى ما فضّلنا به على كثير من أهل هذا العصر في معرفة لغات العرب التي بها نزلَ القرآن ، ووردت سنَّة المصطفى النبي المرتضى عَلَيهِ السَّلام.

قال جلَّ ثناؤه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يُوسُف : ٢] ، وقال جلّ وعزّ : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشُّعَرَاء : ١٩٢ ـ ١٩٥]. وخاطبَ تعالى نبيَّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النّحل : ٤٤].

قلت ، والتوفيقُ من الله المجيدِ للصَّواب :

نزلَ القرآنُ الكريمُ والمخاطَبون به قومٌ عَرَب ، أولو بيانٍ فاضلٍ ، وفهم بارع ، أنزله جلّ ذكره بلسانهم ، وصيغة كلامهم الذي نشئوا عليه ، وجُبِلوا على النطق به ، فتدَرّبوا به يعرفون وجوه خطابه ، ويفهمون فنون نظامه ، ولا يحتاجون إلى تعلُّم مشكله وغريب ألفاظه ، حاجةَ المولدين الناشئين فيمن لا يعلم لسانَ العرب حتى يعلَّمَه ، ولا يفهم ضروبه وأمثاله ، وطرقه وأساليبه ، حتّى يفَهَّمَها.

وبيَّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمخاطبين من أصحابه رضي‌الله‌عنهم ما عَسَى الحاجةُ إليه من معرفةِ بيان لمجمل الكتاب وغامضه ، ومتشابهه ، وجميع وجوهه التي لا غنى بهم وبالأمّة عنه ، فاستغنَوا بذلك عمّا نحن إليه محتاجون ، من معرفة لغات العرب واختلافها والتبحُّر

٥

فيها ، والاجتهاد في تعلُّم العربية الصحيحة التي بها نزلَ الكتاب ، وورد البيان.

فعلينا أن نجتهدَ في تعلُّم ما يُتوصَّل بتعلمه إلى معرفة ضروب خطاب الكتاب ، ثم السُّنن المبيِّنة لجمل التنزيل ، الموضّحة للتأويل ؛ لتنتفيَ عنا الشبهةُ الداخلةُ على كثير من رؤساء أهل الزَّيْغ والإلحاد ، ثم على رءوس ذوي الأهواء والبِدَع ، الذين تأوَّلوا بآرائهم المدخولة فأخطئوا ، وتكلَّموا في كتاب الله جلّ وعزّ بلكنتهم العجميّةِ دونَ معرفةٍ ثاقبة ، فضلُّوا وأضلُّوا.

ونعوذ بالله من الخِذلان ، وإياه نسأل التوفيق للصَّواب فيما قصدناه ، والإعانة على ما توخَّيناه ، من النصيحة لجماعة أهلِ دين الله ، إنّه خير موفِّقٍ ومعين.

وأخبرنَا أبو محمد عبد الملك بن عبد الوهاب البغويّ عن الربيع بن سليمان المراديّ عن محمد بن إدريس الشافعي رَحِمه الله أنَّه قال :

«لسان العرب أوسعُ الألسنة مذهباً ، وأكثرها ألفاظاً ، وما نعلم أحداً يحيط بجميعها غير نبيّ ، ولكنّها لا يذهب منها شيءٌ على عامَّتها حتى لا يكون موجوداً فيها. والعلم بها عند العرب كالعلم بالسنن عند أهل الفقه ، لا نعلم رجلاً جمعَ السنن كلَّها فلم يذهبْ عليه منها شيء ، فإذا جمع علم عامّة أهل العلم بها أتى على جميع السنن ، وإذا فرِّق علم كلّ واحدٍ منهم ذهب على الواحد منهم الشيء منها ، ثم كان ما ذهب عليه منها موجوداً عند غيره. وهم في العلم طبقات : منهم الجامع لأكثره وإن ذهبَ عليه بعضه ، والجامع لأقلَّ ممّا جمع غيره. فينفرد جملة العلماء بجميعها ، وهم درجاتٌ فيما وعَوْا منها. وكذا لسانُ العرب عند عامّتها وخاصّتها لا يذهب منه شيءٌ عليها ، ولا يطلب عند غيرها ، ولا يعلمه إلّا من قَبله عنها ، ولا يَشْرَكها فيه إلّا من اتَّبعها في تعلُّمه منها ، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها ، وعِلمُ أكثر اللسان في أكثر العرب أعَمّ من علم أكثر السنن في أكثر العلماء مقدرة».

قلت : قد قال الشافعي ـ رحمه‌الله تعالى ـ فأحسن ، وأوضح فبيَّن ، ودلّ سياقُ بيانه فيما ذكرناه عنه آنفاً وفيما لم نذكره إيجازاً ، على أنّ تعلُّم العربية التي بها يُتوصَّل إلى تعلم ما به تجري الصلاة من تنزيلٍ وذكرٍ ، فرضٌ على عامّة المسلمين ، وأنّ على الخاصّة التي تقوم بكفاية العامة فيما يحتاجون إليه لدينهم الاجتهادَ في تعلُّم لسان العرب ولغاتها ، التي بها تمام التوصُّل إلى معرفة ما في الكتاب والسنن والآثار ، وأقاويل المفسِّرين من الصّحابة والتابعين ، من الألفاظ الغريبةِ والمخاطبات العربية فإنَّ من جهل سعة لسان العرب وكثرة ألفاظها ، وافتنانها في مذاهبها ، جَهِل جُمَل علم

٦

الكتاب ، وَمن عَلمها ووقَف على مذاهبها ، وفهمَ ما تأوَّله أهل التفسير فيها ، زالت عنه الشُّبَه الداخلة على مَن جَهِل لسانَها من ذوي الأهواء والبِدع.

وكتابي هذا ، وإن لم يكن جامعاً لمعاني التنزيل وألفاظ السنن كلّها ، فإنه يَحُوز جملاً من فوائدها ، ونُكتاً من غريبها ومعانيها ، غير خارج فيها عن مذاهب المفسِّرين ، ومسالك الأئمة المأمونين ، من أهل العلم وأعلام اللغويّين ، المعروفين بالمعرفة الثاقبة والدّين والاستقامة.

وقد دعاني إلى ما جمعتُ في هذا الكتاب من لغات العرب وألفاظها ، واستقصيتُ في تتبُّعٍ ما حصَّلت منها ، والاستشهاد بشواهد أشعارها المعروفة لفصحاء شعرائها ، التي احتجَّ بها أهل المعرفة المؤتمنون عليها ، خلالٌ ثلاثٌ :

منها تقييد نكتٍ حفظتُها ووعيتُها عن أفواه العرب الذين شاهدتهم وأقمت بين ظهرانيهم سنيَّات ، إذ كان ما أثبتَه كثيرٌ من أئمةِ أهل اللغة في الكتب التي ألّفوها ، والنوادر التي جمعوها لا ينوبُ منابَ المشاهدة ، ولا يقوم مقام الدُّربة والعادة.

ومنها النصيحة الواجبة على أهل العلم لجماعة المسلمين في إفادتهم ما لعلَّهم يحتاجون إليه. وقدروينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ألا إن الدينَ النصيحة لله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم».

والخلة الثالثة هي التي أكثر القصد : أني قرأت كتباً تصدَّى مؤلفوها لتحصيل لغات العرب فيها ، مثل كتاب «العين» المنسوب إلى الخليل ، ثم كتب من احتذى حَذْوَه في عصرنا هذا. وقد أخلَّ بها ما أنا ذاكره من دَخَلها وعَوارها بعقب ذكرى الأئمةِ المتقنين وعلماء اللغة المأمونين على ما دوّنوه من الكتب وأفادوا ، وحصَّلوا من اللغات الصحيحة التي روَوها عن العرب ، واستخرجوها من دواوين الشعراء المعروفين وحفظوها عن فصحاء الأعراب.

وألفيت طلاب هذا الشأن من أبناء زماننا لا يعرفون من آفات الكتب المصحَّفة المدخولة ما عرفتُه ، ولا يميزون صحيحها من سقيمها كما ميزتُه. وكان من النصيحة التي التزمتُها توخِّياً للمثوبة من الله عليها ، أن أنصحَ عن لغة العرب ولسانها العربيّ الذي نزل به الكتاب ، وجاءت السنن والآثار ، وأن أهذّبها بجهدي غاية التهذيب ، وأدلَّ على التصحيف الواقع في كتب المتحاذقين ، والمُعْوِر من التفسير المزال عن وجهه ، لئلا يغترّ به من يجهله ، ولا يعتمده من لا يعرفه.

وكنت منذُ تعاطيتُ هذا الفنَّ في حداثتي إلى أن بلغتُ السبعين ، مولعاً بالبحث

٧

عن المعاني والاستقصاء فيها ، وأخذها من مظانها ، وإحكام الكتب التي تأتَّى لي سماعُها من أهل الثبت والأمانة للأئمة المشهّرين ، وأهل العربية المعروفين.

وكنت امتُحنت بالإسار سنةَ عارضتِ القرامطةُ الحاجَّ بالهبير ، وكان القومُ الذين وقعتُ في سهمهم عرباً عامتهم من هوازن ، واختلط بهم أصرامٌ من تميم وأسد بالهبير نشئوا في البادية يتتبعون مساقط الغيث أيامَ النُّجَع ، ويرجعون إلى أعداد المياه ، ويرعون النَّعمَ ويعيشون بألبانها ، ويتكلمون بطباعهم البدوية وقرائحهم التي اعتادوها ، ولا يكاد يقع في منطقهم لحنٌ أو خطأ فاحش. فبقيت في إسارهم دهراً طويلاً.

وكنا نتشتَّى الدَّهناء ، ونتربع الصَّمَّان ، ونتقيَّظ السِّتارَين ، واستفدت من مخاطباتهم ومحاورة بعضهم بعضاً ألفاظاً جمّة ونوادر كثيرة ، أوقعتُ أكثرها في مواقعها من الكتاب ، وستراها في موضعها إذا أتَتْ قراءتك عليها إن شاء الله.

٨

باب ذكر الأئمة الذين اعتمادي عليهم فيما جمعت في هذا الكتاب

فأولهم أبو عمرو بن العلاء : أخذ عنه البصريون والكوفيون من الأئمة الذين صنّفوا الكتب في اللغات وعلم القرآن والقراءات. وكان من أعلم الناس بألفاظ العرب ونوادر كلامهم ، وفصيح أشعارهم وسائر أمثالهم.

وحدثني أبو الفضل محمد بن أبي جعفر المنذريّ العدل قال : أخبرني أبو الحسن الصيداوي عن الرياشيّ أنه سمع الأصمعيّ يقول : سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول : ما في الدنيا أحد إلّا وأنا أعلمُ بالشعر منه.

قال أبو الحسن الصَّيداوي : فأخبرت أبا حاتم السجستاني بذلك فقال : فلم لم يقل الرياشيّ : ولا في الدنيا أحد إلّا وأنا أعلم بالشعر منه؟! منعه من ذلك التقوى والزُّهد والصيانة.

قال : وسمعت الرياشيّ يقول : سمعت الأصمعيّ يقول : سألت أبا عمرو بن العلاء عن ثمانية آلاف مسألة ، وما مات حتى أخذَ عنّي.

وحدَّثني أبو محمد المزنيّ عن أبي خليفة عن محمد بن سلّام الجمحيّ أنه قال : كان عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي أوّل من بعج النحو ومدَّ القياسَ والعلل ، وكان معه أبو عمرو بن العلاء ، وبقي بعده بقاءً طويلاً. قال : كان ابن أبي إسحاق أشدّ تجريداً للقياس ، وكان أبو عمرو بن العلاء أوسعَ علماً بكلام العرب وغريبها. قال : وكان بلال بن أبي بردة جمع بينهما بالبصرة وهو والٍ عليها زمن هشام بن عبد الملك.

قال محمد بن سلام : قال يونس : قال أبو عمرو : فغلبني ابن أبي إسحاق يومئذ بالهمز فنظرت فيه بعد ذلك وبالغت فيه.

قال : وكان عيسى بن عمر أخذ عن ابن أبي إسحاق ، وأخذ يونسُ عن أبي عمرو بن العلاء ، وكان معهما مسلمة بن عبد الله بن سعد بن مُحارب الفهري. وكان

٩

حمّاد بن الزبرقان ، ويونس يفضّلانه.

وأخبرني أبو محمد عن أبي خليفة عن محمد بن سلام أنه قال : سمعتُ يونس يقول : لو كان أحدٌ ينبغي أن يؤخذ بقوله كله في شيء كان ينبغي لقول أبي عمرو بن العلاء في العربية أن يؤخذَ كلُّه ، ولكن ليسَ من أحدٍ إلّا وأنت آخذٌ من قوله وتارك.

وقال يونس : كان أبو عمرو أشدَّ تسليماً للعرب ، وكان ابن أبي إسحاق وعيسى يطعنان عليهم.

قلت : ومن هذه الطبقة خلفٌ الأحمر : أخبرني أبو بكر الإيادي عن شمر عن أبي عُبيد عن الأصمعيّ قال : سمعت خلفاً الأحمر يقول : سمعتُ العربَ تُنشِد بيت لبيد :

بأخِرّة الثَّلبوتِ يربأ فوقها

قفرَ المراقب خوفُها آرامها

قال أبو عبيد : وخلفٌ الأحمر معلم الأصمعيّ ومعلِّم أهل البصرة.

وقال الأصمعيّ : كان خلفٌ مولى أبي بردة بن أبي موسى ، أعتقَ أبوَيه ، وكانا فرغانيين ، وكان يقول الشعر فيُجيد ، وربما قال الشعرَ فنحلهُ الشعراءَ المتقدِّمين فلا يتميز من شعرهم ، لمشاكلة كلامه كلامهم.

وأخبرني أبو محمد عن أبي خليفة عن محمد بن سلام أنه قال :

كان الخليل بن أحمد : وهو رجلٌ من الأزد من فراهيد ـ قال : ويقال رجلٌ فراهيديّ. وكان يونس يقول فُرهوديّ مثل قُردوسيّ ـ قال : فاستخرجَ من العروض واستنبط منه ومن علله ما لم يستخرجه أحد ، ولم يسبقه إلى علمه سابقٌ من العلماء كلهم.

قال ابن سلام : وكان خلف بن حيَّان أبو مُحرز ـ وهو خلفٌ الأحمر ـ أجمعَ أصحابنا أنه كان أفرسَ الناس ببيت شعر وأصدقه لساناً ؛ كنَّا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبراً أوّ أنشدَنا شعراً ألَّا نسمعه من صاحبه.

ومن هذه الطبقة المفضل بن محمد الضبيّ الكوفي : وكان الغالبُ عليه رواية الشعر وحفظ الغريب.

وحدّثني أبو محمد عن أبي خليفة عن محمد بن سلّام أنه قال : أعلمُ من وردَ علينا من أهل البصرة المفضَّل بن محمد الضبيّ.

وروى غيره أنَّ سليمان بن عليٍّ الهاشميَّ جمعَ بالبصرة بين المفضل وبين

١٠

الأصمعيّ ، فأنشد المفضل قول أوس بن حجر :

أيتها النفس أجمِلي جزَعا

إنَّ الذي تحذرين قد وقعا

وفيها :

وذات هِدمٍ عارٍ نواشرُها

تصمتُ بالماء تولباً جذَعا

ففطن الأصمعيّ لخطئه ، وكان أحدث سنًّا منه فقال : إنما هو «تولبا جذَعا» وأراد تقريره على الخطأ ، فلم يفطن المفضل لمراده فقال : كذلك أنشدتهُ ، فقال له الأصمعي حينئذٍ : أخطأتَ ، إنما هو «تولباً جدِعاً»! فقال المفضل : جذَعا جذعا! ورفع صوته فقال له الأصمعيُّ : لو نفختَ في الشبُّور ما نفعك! تكلم كلامَ النملِ وأصبْ ، إنما هو «جدِعا». فقال سليمانُ الهاشمي : اختارا من نجعله بينكما. فاتّفقا على غلامٍ من بني أسدٍ حافظٍ للشعر ، فبعثَ سليمانُ إليه من أحضره ، فعرضا عليه ما اختلفا فيه فصدَّق الأصمعيَّ وصوَّب قوله ، فقال له المفضل : وما الجَدِع؟ قال : السيء الغِذاء.

قلت : وهذا هو في كلام العرب ، يقال : أجدعتْه أمه ، إذا أساءت غذاءه.

الطبقة الثانية

ومن الطبقة الذين خلفوا هؤلاء الذين قدَّمنا ذكرَهم وأخذوا عن هؤلاء الذين تقدَّموهم خاصة وعن العرب عامَّة ، وعُرفوا بالصِّدق في الرواية ، والمعرفة الثاقبة ، وحفظ الشعر وأيام العرب :

أبو زيدٍ سعيد بن أوس الأنصاري ؛ وأبو عمرو إسحاق بن مراد الشيباني مولى لهم ، وأبو عبيدة معمر بن المثنَّى التيمي من تيم قريشٍ مولى لهم ؛ وأبو سعيد عبد الملك بن قُريب الأصمعيّ ؛ وأبو محمد يحيى بن المبارك اليزيديّ ، وإنما سمي اليزيدي لأنه كان يؤدب ولد يزيد بن منصور الحميريّ خال المهدي ، ولا يقدَّم عليه أحدٌ من أصحاب أبي عمرو بن العلاء في الضبط لمذاهبه في قراءات القرآن.

ومن هذه الطبقة من الكوفيين : أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي : وعنه أخذ أبو زكريا يحيى بن زياد الفرَّاء النحو والقراءاتِ والغريبَ والمعاني ، فتقدَّم جميع تلامدته الذين أخذوا عنه ، إلّا عليّ بن المبارك الأحمر ، فإنه كان مقدَّماً على الفرَّاء في حياة الكسائي لجودة قريحته وتقدّمه في علل النحو ومقاييسه. وأسرع إليه الموتُ فيما ذكر أبو محمد سلمة بن عاصم ، وبقيَ الفرَّاء بعده بقاءً طويلاً فبرَّز على جميع من كان في عصره.

١١

ومن هذه الطبقة : أبو محمد عبد الله بن سعيد : أخو يحيى بن سعيدٍ الأمويّ الذي يروي عنه أبو عبيدٍ ، وكان جالس أعراباً من بني الحارث بن كعب ، وسألهم عن النوادر والغريب ، وكان مع ذلك حافظاً للأخبار والشعر وأيام العرب.

ومن هذه الطبقة : النضر بن شُميل المازني : سكن البصرة وأقام بها دهراً طويلاً ، وسمع الحديث وجالس الخليلَ بن أحمد ، وأبا خَيرة الأعرابيَّ ، وأبا الدُّقيش ، واستكثر عنهم.

ومنهم : أبو الحسن سعيد بن مسعدة المعروف بالأخفش : وكان الغالب عليه النحو ومقاييسه ، ولم يكن حافظاً للغريب ولا مُلحقاً بطبقته التي ألحقناه بها في معرفة الشعر والغريب.

ومنهم : أبو مالك عمرو بنِ كِرْكِرَة : وكان الغالب عليه النوادر والغريب.

فأما أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاريّ : فإنه سمع من أبي عمرو بن العلاء القراءات وجَمعها ، ورواها عنه أبو حاتم الرازي وغيره ، وهو كثير الرواية عن الأَعراب ، وقرأ دواوين الشعراء على المفضل بن محمد الضبيّ ، وجالس أبا الدُّقيش الأعرابيّ ، ويونسَ النحويّ وأبا خيرةَ العدويّ. والغالب عليه النوادر والغريب ؛ وله فضلُ معرفةٍ بمقاييس النحو ، وعلم القرآن وإعرابه. روى عنه أبو عبيد القاسم بن سلَّام ووثّقه. وروى عنه أبو حاتم السِّجزي وقدّمه واعتد بروايته عنه. وروى عنه أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن هانيء النيسابوريُّ النوادرَ والشعر ، وربما جمع بينه وبين أبي مالك عمرو بن كِرْكِرة فيما يروى عنهما من الأمثال والغريب والألفاظ.

ولأبي زيد من الكتب المؤلفة كتاب «النوادر الكبير» ، وهو كتابٌ جامعٌ للغرائب الكثيرة والألفاظ النادرة والأمثال السائرة والفوائد الجمَّة. وله «كتابٌ في النحو» كبير ، وله «كتابٌ في الهمز» ، وكتابٌ في «معاني القرآن» ، وكتابٌ في «الصفات».

وروى أبو العباس أحمد بن يحيى عن أبي نجْدة عن أبي زيد الأنصاري ، أخبرني بذلك المنذري عن أبي العباس. وروَى أيضاً عن أبي إسحاق الحرْبي عن أبي عدنان عنه. وروى أبو عمر الورّاق عن أبي العباس عن ابن نجدة عن أبي زيد شيئاً كثيراً.

وحدّثني المنذري عن أبي بكر الطلحي قال : حدّثني عسْل بن ذَكوان البصري عن رُفيع بن سلمة عن أبي زيد أنه قال : دخلتُ على أبي الدُّقيش الأعرابيّ وهو مريضٌ فقلت : كيف تجدُك يا أبا الدُّقيش؟ فقال : أجد ما لا أشتهي ، وأشتهي ما لا أجد ، وأنا في زمان سوءٍ ، زمان من وجد لم يجُد ، ومن جاد لم يَجدْ.

١٢

وما كان في كتابي لأبي عبيد عنه ، فما كان منه في تفسير «غريب الحديث» فهو مما أخبرني به عبد الله بن هاجَك عن أحمد بن عبد الله بن جَبَلَة عن أبي عبيد. وما كان فيه من الغريب والنوادر فهو مما أخبرني أبو بكر الإيادي عن شِمر لأبي عبيد عنه. وما كان فيه من الأمثال فهو مما أقرأنيه المنذري وذكر أنه عرضه على أبي الهيثم الرازيّ. وما كان فيه من «نوادر أبي زيد» فهو من «كتاب ابن هانيء» عنه. وما كان في كتابي لأبي حاتم في القرآن عن أبي زيد فهو مما سمعتُه من أبي بكر بن عثمان السِّجزي ، حدثنا به عن أبي حاتم. وأفادني المنذري عن ابن اليزيدي عنه فوائد في القرآن ذكرتها في مواضعها من الكتاب.

وأما أبو عمرو الشَّيباني : فاسمُه إسحاق بن مُراد : وكان يقال له أبو عمرو الأحمر جاورَ بني شيبان بالكوفة فنُسب إليهم ، ثمّ قدم بغداد وسمع منه أبو عبيدٍ وروى عنه الكثيرَ ووثّقه. وكان قرأ دواوين الشِّعر على المفضل الضبي ، وسمعها منه أبو حسان ، وابنه عمرو بن أبي عمرو. وكان الغالب عليه النوادرَ وحفظَ الغريب وأراجيز العرب. وله كتابٌ كبير في «النوادر» قد سمعه أبو العباس أحمد بن يحيى من ابنه عمرو عنه. وسمع أبو إسحاق الحربيُّ هذا الكتاب أيضاً من عمرو بن أبي عمرو. وسمعتُ أبا الفضل المنذري يروي عن أبي إسحاق عن عمرو بن أبي عمروٍ جملةً من الكتاب ، وأودعَ أبو عُمرَ الورَّاقُ كتابه أكثرَ نوادره. رواها عن أحمد بن يحيى عن عمرو عن أبيه.

وكان أبو عمروٍ عمّر عُمراً طويلاً ، نيف على المائة ، وروى عنه ابن السكيت وأبو سعيد الضرير وغيرهما ، وكان ثقة صدوقاً.

وأما أبو عبيدة معْمر بن المثنَّى : فإن أبا عبيدٍ ذكر أنه تيميّ من تيم قريش ، وأنه مولى لهم ، وكان أبو عبيدٍ يوثقه ويكثر الرواية عنه في كتبه.

فما كان في كتابي لأبي عبيد عنه في «غريب الحديث» فهو مما حدثني به عبد الله بن هاجَك عن ابن جبلة عن أبي عبيد ، وما كان من الصفات والنوادر فهو مما أخبرني به الإيادي عن شمر لأبي عبيد عنه ، وما كان من «غريب القرآن» فهو مما أسمعنيه المنذري عن أبي جعفر الغسانيِّ عن سلمة عن أبي عبيدة.

وله كتابٌ في «الخيل وصفاتها» ، ناولنيه أبو الفضل المنذري ، وذكر أنه عرضه على أبي الهيثم الرازي. وله كتبٌ كثيرة في أيام العرب ووقائعها ، وكان الغالب عليه الشعر ، والغريب وأخبار العرب ، وكان مُخلاً بالنحو كثير الخطأ ، وكان مع ذلك مغرًى بنشر مثالب العرب ، جامعاً لكل غثٍّ وسمين ، وهو مذمومٌ من هذه الجهة ، وموثوق به

١٣

فيما يروي عن العرب من الغريب.

وأما أبو سعيد عبد الملك بن قُرَيب الأصمعي : فإنَّ أبا الفضل المنذريَّ أخبرني عن أبي جعفر الغساني عن أبي محمد سَلمة بن عاصم أنه قال : كان الأصمعي أذكى من أبي عبيدة وأحفظ للغريب منه ، وكان أبو عبيدة أكثر رواية منه. قال : وكان هارون الرشيد استخلص الأصمعي لمجلسه ، وكان يرفعه على أبي يوسف القاضي ويجيزه بجوائز كثيرة. وكان أكثر علمه على لسانه.

وأخبرني المنذريّ عن الصيداوي عن الرياشيّ قال : سمعتُ الأصمعيَّ يقول : خير العلم ما حاضرت به. قال : وكان شديد التوقِّي لتفسير القرآن ، صدوقاً صاحب سنة ، عمّرَ نيفاً وتسعين سنة ، وله عقب. وأبو عبيدٍ كثير الرواية عنه. ومن رواته أبو حاتم السجستاني وأبو نصر الباهلي صاحبُ كتاب «المعاني».

وكان أملى ببغداد كتاباً في «النوادر» فَزِيد عليه ما ليس من كلامه. فأخبرني أبو الفضل المنذري عن أبي جعفر الغسانيّ عن سلمة قال :

جاء أبو ربيعة صاحب عبد الله بن ظاهر صديقُ أبي السمراء ، بكتاب «النوادر» المنسوب إلى الأصمعي فوضعه بين يديه ، فجعل الأصمعي ينظر فيه ، فقال : ليس هذا كلامي كله ، وقد زِيد فيه عليَّ ، فإن أحببتم أن أعْلِم على ما أحفظه منه وأضرب على الباقي فعلتُ وإلّا فلا تقرءوه. قال سلمة بن عاصم : فأعلم الأصمعي على ما أنكر من الكتاب ، وهو أرجحُ من الثلث ، ثم أمَرنا فنسخناه له.

وجمع أبو نصر عليه كتاب «الأجناس» ، إلّا أنه ألحق بأبوابه حروفاً سمعها من أبي زيد وأتبعه بأبواب لأبي زيد خاصة.

وله كتابٌ في «الصفات» يشبه كلامه ، غير أن الثقاتِ لم يرووه عنه.

وروى أبو العباس أحمد بن يحيى عن أبي نصر عن الأصمعيّ نوادر وأمثالاً وأبياتاً من المعاني ؛ وذكر أنَّ أبا نصر ثقة ، وأبو إسحاق الحربي كثير الرواية عن أبي نصر.

وما وقع في كتابي لأبي عبيد عن الأصمعي فما كان منه في تفسير «غريب الحديث» فهو مما أخبرني عبد الله بن محمد بن هاجَك عن أحمد بن عبد الله عن أبي عبيد. وما كان منها في «الصفات» و «النوادر» والأبواب المتفرقة فهو مما أخبرني به أبو بكر الإيادي عن شِمر لأبي عبيد.

١٤

وما وقع في كتابي لإبراهيم الحربي عن أبي نصر عن الأصمعي فهو مما أفادنيه المنذري عن الحربي. وما كان من جهة أحمد بن يحيى روايةً عن أبي نصر عن الأصمعي فهو من كتاب أبي عمر الورَّاق.

وما رأيت في روايته شيئا أنكرته.

وأما أبو الحسن عليّ بن حمزة الكسائي : فإن أبا الفضل المنذري حدثني عن أبي جعفر الغسانيّ عن أبي عُمَر المقرىء أنه قال : كان الكسائيّ قرأ القرآن على حمزة الزّيات في حداثته ، وكان يختلف إليه ، وأُولع بالعلل والإعراب ، وكانت قبائل العرب متصلة بظاهر الكوفة ، فخرج إليهم وسمِع منهم اللغاتِ والنوادر ، أقام معهم شهراً وتزيا بزيِّهم ، ثم عاد إلى الكوفة وحضَر حمزَةَ وعليه شَمْلتان قد ائتزر بإحداهما وارتدى الأخرى ، فجثا بين يديه وبدأ بسورة يوسف ، فلما بلغ (الذِّئْبُ) [يُوسُف : ١٣] لم يهمز وهمزَ حمزةُ ، فقال الكسائيّ : يُهمَز ولا يُهمَز. فسكت عنه فلما فرغَ من قراءته قال له حمزة : إنّي أشبه قراءتك بقراءة فتًى كان يأتينا يقال له علي بن حمزة. فقال الكسائيّ : أنا هو. قال : تَغيَّرتَ بعدي فأينَ كنت؟ قال : أتيتُ البادية وكان في نفسي أشياءُ سألتُ العرب عنها ففرَّجوا عني ، فلمّا دخلتُ المسجد لم تَطِب نفسي أن أجوز المسجدَ حتى أسلم عليك.

قال أبو عُمر : ثمّ دخل بغداد أيامَ المهديّ ، وطُلب في شهر رمضان قارىء يقرأ في دار أمير المؤمنين في التراويح ، فذُكر له الكسائيُّ ، فصلَّى بمن في الدار ، ثم أُقعِدَ مؤدباً لابن أمير المؤمنين ، وأمر له بعشرة آلاف درهم وكسوة وبرّ ، ودار وبرذون.

قال أبو جعفر : وكان الكسائي مولى بني أسَد. ولما نهض هارون الرشيد إلى خراسان أنهضه معه ، فكان يزاملهُ في سفره ، ولما انتهى إلى الريّ ماتَ بها.

قلت : وللكسائيّ كتابٌ في «معاني القرآن» حسنٌ ، وهو دونَ كتاب الفراء في «المعاني» وكان أبو الفضل المنذريّ ناولَني هذا الكتاب وقال فيه : أخبرتُ عن محمد بن جابر ، عن أبي عُمر عن الكسائيّ. وله كتابٌ في «قراءات القرآن» ، قرأته على أحمد بن عليّ بن رَزِين وقلت له : حدّثكم عبد الرحيم بن حبيب عن الكسائيّ. فأقرَّ به إلى آخره. وله كتابٌ في «النوادر» رواه لنا المنذري عن أبي طالب عن أبيه عن الفراء عن الكسائي.

فما كان في كتابي لسَلمَة عن الفرّاء عن الكسائي فهو من هذه الجهة ، وما كان فيه لأبي عبيدٍ عن الكسائيّ فهو مما أسمعنيه الإياديّ عن شِمر لأبي عبيد ، أو أسمعنيه ابن هاجَك عن ابن جبلة عن أبي عبيد في «غريب الحديث».

١٥

وكان الغالب على الكسائيّ اللغاتِ والعِللَ والإعراب ، وعلْم القرآن وهو ثقة مأمون ، واختياراته في حروف القرآن حسنة ، والله يغفر لنا وله.

وأما أبو محمد يحيى بن المبارَك اليزيدي : فإنه جالسَ أبا عمرو بن العلاء دهراً ، وحفظ حروفَه في القرآن حِفظاً زيْناً ، وضبط مذاهبه فيها ضبطاً لا يتقدمه أحد من أصحاب أبي عمرو. وكان في النحو والعلل ومقاييسها مبرِّزاً ، وجالسَه أبو عبيد فاستكثَر عنه.

وأقرأني الإياديّ عن شِمر لأبي عبيدٍ عن اليزيدي أنه قال : سألني المهديّ وسأل الكسائيّ عن النسبة إلى البحرين ، وعن النسبة إلى حصْنَين لم قالوا رجل حصْنيّ ورجل بحرانيّ؟ قال : فقال الكسائيّ : كرهوا أن يقولوا حِصْناني لاجتماع النُّونين. قال : وقلت أنا : كرهوا أن يقولوا بحريّ فيشبه النسبة إلى البحر.

قال شِمر : وقال اليزيديُّ بيتاً في الكسائيّ :

إن الكسائيَّ وأصحابه

ينحطُّ في النحو إلى أسفل

ولليزيديّ كتابٌ في «النحو» ، وكتابٌ في «المقصور والممدود» ، وبلغني أنّ له كتاباً في «النوادر» ، وهو في الجملة ثقة مأمون حسنُ البيان جيّد المعرفة ، أحدُ الأعلام الذين شُهِروا بعلم اللغات والإعراب.

وأما النَّضر بن شُمَيل المازنيّ : فإنّه لزمَ الخليلَ بن أحمد أعواماً ، وأقام بالبصرة دهراً طويلاً. وكان يدخُل المِرْبَد وَيلقى الأعراب ويستفيد من لغاتهم وقد كتب الحديثَ ولقيَ الرِّجال. وكان ورِعاً ديِّناً صدوقاً. وله مصنفاتٌ كثيرة في «الصفات» و «المنطق» و «النوادر». وكان شِمْر بن حَمْدُويةَ صرفَ اهتمامه إلى كتبه فسمِعها من أحمد بن الحَرِيش ، القاضي كانَ بَهرَاةَ أيام الطاهرية.

فما عَزَيت في كتابي إلى ابن شُميل فهو من هذه الجهة ، إلّا ما كان منها في تفسير «غريب الحديث» ، فإنّ تلك الحروف رواها عن النضر أبو داود سُليمان بن سَلْم المصاحفي ، رواها عن أبي داود عبد الصمد بن الفضل البلخي ، ورواها لنا عن عبد الصمد أبو علي بن محمد بن يحيى القَرَّاب ، شيخ ثقة من مشايخنا. وحملتْ نسختُه المسموعة بعد وفاته إليّ. فما كان في كتابي معزياً إلى النضر رواية أبي داود فهو من هذه الجهة.

وتوفي النضر سنة ثلاث ومائتين رَحِمه الله.

ومن متأخّري هذه الطبقة عليّ بن المبارك الأحمر : الذي يروِي عنه أبو عبيد.

١٦

وحدّثني المنذريّ عن أبي جعفر الغسّاني عن سلمة أنه قال : كان الأحمر يحفظ ثلاثين ألف بيتٍ من المعاني والشواهد ، فأتاه سيبويهِ فناظرَه ، فأفحمه الأحمر. وكان مَرُّوذياً وهو أوّل من دوّن عن الكسائي. قال : وقال الفراء : أتيتُ الكسائيَّ وإذا الأحمرُ عنده ، غلامٌ أشقر ، يسأله ويكتُب عنه في ألواحٍ وقد بَقَلَ وجههُ. ثم برَّز حتى كان الفراء يأخذ عنه. وكان الغالب عليه النحو والغريب والمعاني.

وما وقع في كتابي لأبي عبيد عن الأحمر فهو سماعٌ على ما بيّنتُه لك من الجهات الثلاث.

ومنهم : أبو زكرياء يحيى بن زياد الفرّاء : وكان أخذ النحو والغريبَ والنوادر والقراءات ومعاني القرآن عن الكسائيّ ، ثم برَّز بعده وصنَّف كتباً حساناً أملاها ببغداد عن ظهر قلبه.

ومن مؤلّفاته كتابه في «معاني القرآن وإعرابه» ، أخبرني به أبو الفضل بن أبي جعفرٍ المنذريّ عن أبي طالب بن سلمة عن أبيه عن الفراء ، لم يفُتْهُ من الكتاب كلِّه إلّا مقدار ثلاثة أوراق في سورة الزخرف. فما وقع في كتابي للفراء في تفسير القرآن وإعرابه فهو مما صحَّ روايةً من هذه الجهة. وللفراء كتابٌ في «النوادر» أسمَعنيه أبو الفضل بهذا الإسناد. وله بعدُ كتبٌ منها كتابٌ في «مصادر القرآن» ، وكتابٌ في «الجمع والتثنية» ، وكتابٌ في «التأنيث والتذكير» ، وكتابٌ في «الممدود والمقصور» ، وكتابٌ يُعرَف بيافع ويَفَعةٍ. وله في النحو «الكتاب الكبير». وهو ثقة مأمون. قاله أبو عبيدٍ وغيره. وكان من أهل السُّنّة ، ومذاهبه في التفسير حسنة.

ومن هذه الطبقة : عمرو بن عثمان ، الملقّب بسيبويه ، النحويّ : وله «كتابٌ» كبير في النحو. وكان علّامةً حسنَ التصنيف ، جالس الخليل بن أحمد وأخذ عنه مذاهبَه في النحو ، وما علمت أحداً سمع منه «كتابَه» هذا ، لأنّه احتُضِرَ وأسرعَ إليه الموت. وقد نظرتُ في كتابه فرأيتُ فيه علماً جمًّا. وكان أبو عثمان المازنيّ وأبو عُمَر الجرميُّ ، يحتذيان حذوَه في النحو ، وربّما خالفوه في العَلَل. وكان سيبويه قدِم بغداد ثم عاد إلى مسقط رأسه بالأهواز فمات وقد نيَّف على الأربعين.

ومنهم : عبد الرحمن بن بُزْرُج : وكان حافظاً للغريب وللنوادر. وقرأتُ له كتاباً بخطّ أبي الهيثم الرازيّ في «النوادر» ، فاستحسنتُه ووجدتُ فيه فوائدَ كثيرة. ورأيتُ له حروفاً في كتب شِمْر التي قرأتُها بخطِّه. فما وقع في كتابي لابن بُزْرُجَ فهو من هذه الجهات.

١٧

الطبقة الثالثة

من علماء اللغة ، منهم : أبو عبيد القاسم بن سلّام : وكان ديِّناً فاضلاً عالماً أديباً فقيهاً صاحبَ سُنّة ، معنيًّا بعلم القرآن وسُنَن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والبحث عن تفسير الغريب والمعنى المشْكِل.

وله من المصنّفات في «الغريب المؤلَّف».

أخبرني المنذري عن الحسن المؤدّب أن المِسْعَريّ أخبره أنه سمع أبا عبيد يقول : كنت في تصنيف هذا الكتاب أربعين سنة أتلقّف ما فيه من أفواه الرّجال ، فإذا سمعت حرفا عرفت له موقعا في الكتاب بتّ تلك الليلةَ فرِحاً. قال : ثم أقبلَ علينا فقال:أحدكم يستكثر أن يسمعه منّي في سبعة أشهر!

وأخبرني أبو بكر الإياديُّ عن شِمر أنه قال : ما للعرب كتابٌ أحسن من «مصنَّف أبي عبيد». واختلفتُ أنا إلى الإيادي في سماعه سنتين وزيادة ، وكان سمع نسختَه من شِمر بن حَمْدُويةَ ، وضبطه ضبطاً حسناً ، وكتبَ عن شِمر فيه زيادات كثيرة في حواشي نسخته ، وكان رَحِمه الله يُمْكنني من نسخته وزياداتها حتى أعارض نسختي بها ، ثم أقرأها عليه وهو ينظر في كتابه.

ولأبي عبيد من الكتب الشريفة كتابُ «غريب الحديث» ، قرأته من أوّله إلى آخره على أبي محمد عبد الله بن محمد بن هاجَكَ وقلت له : أخبركم أحمد بن عبد الله بن جبلة عن أبي عبيدٍ فأقرَّ به. وكانت نسخته التي سمِعها من ابن جبلة مضبوطةً محكمة ، ثم سمعت الكتاب من أبي الحسين المزَنيّ ، حدّثنا به عن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد إلى آخره قراءةً علينا بلفظه.

ولأبي عبيد كتابُ «الأمثال» ، قرأته على أبي الفضل المنذريّ ، وذكر أنه عَرَضَه على أبي الهيثم الرازيّ. وزاد أبو الفضل في هذا الكتاب من فوائده أضعاف الأصل ، فسمِعنا الكتاب بزياداته.

ولأبي عبيد كتابٌ في «معاني القرآن» ، انتهى تأليفه إلى سورة طه ، ولم يتمَّه ، وكان المنذريّ سمعه من علي بن عبد العزيز ، وقُرىء عليه أكثره وأنا حاضر ، فما وقع في كتابي هذا لأبي عبيد عن أصحابه فهو من هذه الجهات التي وصَفتُها.

ومن هذه الطبقة : أبو عبد الله محمد بن زيادٍ المعروفُ بابن الأعرابيّ : كوفيّ الأصل. وكان رجلاً صالحاً ورعاً زاهداً صدوقاً.

١٨

وأخبرني بعضُ الثقات أن المفضّل بن محمد كان تزوَّج أمّه ، وأنّه ربيبُه. وقد سمِع من المفضَّل دواوين الشعراء وصحَّحها عليه ، وحفظ من الغريب والنوادر ما لم يحفظْه غيره. وكانت له معرفةٌ بأنساب العرب وأيّامها ، وسمع من الأعراب الذين كانوا ينزلون بظاهر الكوفة من بني أسَدٍ وبني عُقيل فاستكثر ، وجالسَ الكسائيَّ وأخذَ عنه النوادرَ والنحو.

وأخبرني المنذريّ عن المفضَّل بن سلمة عن أبيه أنه قال : جرى ذكر ابن الأعرابي عند الفرّاء فعرَفه وقال : هُنَيٌّ كان يزاحمنا عند المفضَّل!

وكان الغالب عليه الشعرَ ومعانيه ، والنوادر والغريب. وكان محمد بن حبيب البغدادي جمعَ عليه كتابَ «النوادر» ورواه عنه ، وهو كتابٌ حسن. وروى عنه أبو يوسف يعقوب بن السكِّيت ، وأبو عَمرو شِمْر بن حَمْدُوَيه ، وأبو سعيد الضرير ، وأبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني الملقَّب بثعلب.

وأخبرني أبو الفضل المنذريّ أن أبا الهيثم الرازي حثَّه على النهوض إلى أبي العباس ، قال : فرحلتُ إلى العراق ودخلتُ مدينة السلام يومَ الجمعة وما لي هِمّةٌ غيره ، فأتيتُه وعرَّفتُه خبري وقصدي إيّاه ، فاتَّخذَ لي مجلساً في «النوادر» التي سمعها من ابن الأعرابي حتى سمِعتُ الكتابَ كلَّه منه ، قال : وسألته عن حروف كانت أشكلت على أبي الهيثم ، فأجابني عنها.

وكان شِمر بن حَمْدويه جالس ابن الأعرابيّ دهراً وسمع منه دواوين الشعر وتفسير غريبها. وكان أبو إسحاق الحربيّ سمع من ابن الأعرابي ، وسمع المنذري منه شيئاً كثيراً. فما وقع في كتابي لابن الأعرابي فهو من هذه الجهات ، إلّا ما وقع فيه لأبي عُمَر الورَّاق ، فإن كتابه الذي سمَّاه «الياقوتة» وجَمَعَه على أبي العباس أحمد بن يحيى وغيره ، حُمِل إلينا مسموعاً منه مضبوطاً من أوَّله إلى آخره. ونهضَ ناهضٌ من عندنا إلى بغداد ، فسألته أن يذكر لأبي عُمَر الكتاب الذي وقع إلينا وصورتَه وصاحبَه الذي سمعه منه ، قال : فرأيت أبا عُمر وعرَّفته الكتاب فعرَفه ، قال : ثم سألته إجازتَه لمن وقَع إليه فأجازه. وهو كتابٌ حسن ، وفيه غرائب جَمَّة ، ونوادر عجيبة ، وقد تصفّحته مراراً فما رأيت فيه تصحيفاً.

ومن هذه الطبقة : أبو الحسن علي بن حازم اللِّحياني : أخبرني المنذريّ عن أبي جعفر الغَسَّانيّ عن سَلَمة بن عاصم أنّه قال : كان اللِّحياني من أحفظ الناس للنوادر عن الكسائي والفرّاء والأحمر ، قال : وأخبرني أنّه كان يَدْرُسها بالليل والنهار ، حتى في الخلاء.

١٩

وأخبرني أبو بكر الإياديّ أنه عرض «النوادر» الذي للِّحياني على أبي الهيثم الرازي ، وأنه صححه عليه.

قلت : قد قرأتُ نسختي على أبي بكر وهو ينظر في كتابه. فما وقع في كتابي للِّحياني فهو من كتاب «النوادر» هذا.

ومن هذه الطبقة : نُصَير بن أبي نُصَير الرازي : وكان علّامةً نحوياً ، جالسَ الكسائي وأخذ عنه النحو وقرأ عليه القرآن. وله مؤلفات حِسانٌ سمعها منه أبو الهيثم الرازي ، ورواها عنه بهَرَاة. فما وقع في كتابي هذا له فهو مما استفاده أصحابنا من أبي الهيثم وأفادوناه عنه. وكان نُصيرٌ صدوقَ اللهجة كثير الأدب حافظاً ، وقد رأى الأصمعي وأبا زيد وسمع منهما.

ومن هذه الطبقة : عمرو بن أبي عمرو الشيباني : روى كتابَ «النوادر» لأبيه ، وقد سمعه منه أبو العباس أحمد بن يحيى ، وأبو إسحاق إبراهيم الحربي ، ووثَّقه كلُّ واحدٍ منهما. فما وقع في كتابي لعمرو عن أبيه فهو من هذه الجهة.

ومنهم : أبو نصر صاحب الأصمعيّ ، والأثرم صاحب أبي عبيدة ، وابن نجدة صاحب أبي زيد الأنصاري روى عن هؤلاء كلِّهم أبو العباس أحمد بن يحيى ، وأبو إسحاق الحربي. فما كان في كتابي مَعزِيّا إلى هؤلاء فهو مما أُثبت لنا عن هذين الرجلين.

ومنهم : أبو حاتم السِّجِستاني : وكان أحد المتقنين. جالس الأصمعي وأبا زيد وأبا عبيدة. وله مؤلفات حسانٌ وكتابٌ في «قراءات القرآن» جامعٌ ، قرأه علينا بهَراةَ أبو بكر بن عثمان. وقد جالسَه شِمر وعبد الله بن مسلم بن قُتَيبة ووثّقاه. فما وقع في كتابي لأبي حاتمٍ فهو من هذه الجهات. ولأبي حاتم كتاب كبير في «إصلاح المزال والمفسَد» ، وقد قرأته فرأيته مشتملاً على الفوائد الجمَّة ، وما رأيت كتاباً في هذا الباب أنبل منه ولا أكمل.

ومنهم : أبو يوسف يعقوب بن إسحاق السكِّيت : وكان ديناً فاضلاً صحيح الأدب ، لقي أبا عمرو الشيباني ، وأبا زكريا يحيى بن زياد الفراء ، وأبا عبد الله محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي ، وأبا الحسن اللِّحياني. ولقي الأصمعيَّ فيما أحسب ؛ فإنه كثير الذِّكر له في كتبه. وَيروِي مع ذلك عن فصحاء الأعراب الذين لقيهم ببغداد.

وله مؤلَّفات حسان ، منها كتاب «إصلاح المنطق» ، وكتاب «المقصور والممدود» ، وكتاب «التأنيث والتذكير» ، وكتاب «القلب والإبدال» ، وكتاب في «معاني الشعر». روى

٢٠