صلح الحسن عليه السلام

الشيخ راضي آل ياسين

صلح الحسن عليه السلام

المؤلف:

الشيخ راضي آل ياسين


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

وحده تمتمته الناقمة، وكفرانه الايادى البيض التي استوعب بها مدى جيلين من بني عمه المطهَّرين ـ فطن ، الى أن الاستقالة من عمل ما ، لا تستكمل شرائطها في التشريع الاسلامي ، الا بالاعتراف صريحا « بالاعجز ». ولم يكن الفتى الاناني بالذي يفرّط بشخصيته فيعرضها لسخرية الناس. ورجع الى نفسه من جديد ، ليلتمس المخرج الذي لا يضطره الى مثل هذا الاعتراف.

وكانت رسائل معاوية التي وصلته ليلته هذه والتي خفي عليه أنه تسلمها من يد البريد الذي نشر الشائعة السوداء في معسكره صباحا ، هي الاخرى لا تزال تعنّ له بمغرياتها الجبارة، كلما أدار رأسه في تفكير أو تدبير. وأذهله حين ذكر رسائل معاوية ، الفارق الهائل بين الحلم الجميل المموّه بالذهب ، وبين الحقيقة المرة ، فشلّ تفكيره وشعوره ولم يهتد الى الرأي الذي يناسبه كزعيم هاشمي ينازل أصلب عدو للهاشمية في ميدان موت أو حياة.

انه كان بامكانه أن يستقيل وأن يعترف بالعجز غير متلكىء ولا حيران ثم ينتزع معذرته لسمعته وكرامته ، من الاخفاق المحقق الذي كان ينتظر القائد الثاني ، الذي سيستسلم قيادته في ظرف لا يستقيم معه ميدان حرب.

وكان بامكانه أن يتجلد في موقفه ، فيتوعد المشاغبين ، ويأخذ بالحزم المصطنع الذي يكون ظاهره العنف وباطنه التوجيه ، بلون من الاوان هذه المناورات الادارية التي كان ينبغي له أن يجيدها كما يجيدها امثاله من رؤساء الناس ، ويتريث قليلا ، ثم ينتظر تعاليمه الاخيرة من ناحية الامام ، ويكون ـ عند ذلك ـ المعذور في دينه وفي سمعته معا.

أما ان يتنازل من شموخه كقائد في معسكر امام ، فيساوم رسل معاوية على أجر الهزيمة ، فلا ولا كرامة!!!؟

وكانت رسالة معاوية اليه ، تضرب على وتره الحساس من ناحية حبه

١٤١

للتعاظم وتطلعه الى السبق ، فيقول له فيها : «ان الحسن سيضطر (١) الى الصلح ، وخير لك أن تكون متبوعا ولا تكون تابعا (٢) .. » وجعل له فيها الف الف درهم (٣).

وكان معاوية أحرص بشر على استغلال مآزق أعدائه.

« وكان ايمان معاوية بالسفالة البشرية ، ايمانا لا حدّ له. وهو ايمان يقوم على الاعتقاد بأنَّ أقوم الناس خلقا ، وأشدهم عزما ، وأنقاهم فضيلة ، قد تستغويه الاطماع ويذله الحرص ، في ساعة من ساعات الضعف الذي يطرأ على النفوس ، وفترة من فترات الشك الذي لا ينفك عن مطاردة الناس ، ولا يسلم من غوائله أفاضل الناس وأعالي البشرية (٤) ».

وكان فيما حذر به أمير المؤمنين عليه‌السلام زيادا ، أن قال له : «و ان معاوية يأتي الانسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله. فاحذر ثم احذر (٥) ».

وهكذا صرع الشعور بالخيبة ، والاستسلام للطمع ، الفتى الاصيل. فاذا هو من أبشع صور الخيانة المفضوحة والضعف المخذول.

فلا الدين ، ولا الوتر ، ولا العنعنات القبلية ، ولا الرحم الماسة من رسول الله صلى الله عليه اله ومن قائده الاعلى ، ولا الميثاق الذي واثق الله عليه في البيعة منذ كان أول من دعا الناس الى بيعة الحسن في مسجد الكوفة ، ولا الخوف من حديث الناس ونقمة التاريخ ـ بالذي منعه عن الانحدار الى هذا المنحدر السحيق.

__________________

١ ـ اقول : وهذا النص صريح بتكذيب الشائعة التي اجتاحت معسكر « مسكن » « بأن الحسن كاتب معاوية على الصلح ».

٢ ـ ابن ابي الحديد ( ج ٤ ص ١٥ ).

٣ ـ اليعقوبي ( ج ٢ ص ١٩١ ) وشرح النهج ايضا ( ج ٤ ص ١٥ ).

٤ ـ على أدهم ـ مجلة العالم العربي ( السنة ١١ العدد ٢ ص ٣٠ ).

٥ ـ ابن الاثير في الكامل ( ج ٥ ص ١٧٦ ).

١٤٢

ودخل حمى معاوية ليلا ، دخول المنهزم المخذول الذي يعلم في نفسه أي اثم عظيم أتاه.

ثم شاح عنه التاريخ بوجهه ، فلم يذكره الا في قائمته السوداء. وكان ذلك جزاء الخائنين ، الذين يحفرون أجداثهم بايديهم ، ثم يموتون عامدين ، قبل أن يموتوا مرغمين.

و خلقت هزيمة عبيدالله بن عباس في « مسكن » جوا من التشاؤم الذريع ، لم يقتصر أثره على مسكن ، ولكنه تجاوزها الى « المدائن » ايضا. فكانت النكبة الفاقرة بكل معانيها.

وللمسؤوليات الهائلة التي تدرّج اليها الموقف بعد هذه النكبة ، ما يحمله عبيدالله أمام الله وأمام التاريخ.

و تسلم قيادة المقدمة بعد فرار قائدها الاول ، صاحبها الشرعي الذي سبق للامام تعيينه للقيادة بعد عبيدالله ، وهو ( قيس بن سعد بن عبادة الانصارى ) العقيدة المصهورة ، والدهاء المعترف به في تاريخ العرب ، والشخصية الممتازة من بقايا أصحاب (١) علي عليه‌السلام. شب مع الجهاد ، واستمر على الدرب اللاحب. وأنكر على الاخرين ضعفهم حين ضعفوا ، ونقم عليهم استجابتهم للمغريات وعزوفهم عن الواجب.

وما ان دان له المعسكر في مسكن حتى وقف بين صفوفه المتباقية ـ بعد

__________________

١ ـ قال مسعودي : « كان قيس بن سعد من الزهد والديانة والميل الى علي بالموضع العظيم. وبلغ من خوفه الله وطاعته اياه ، انه كان يصلي فلما أهوى للسجود اذا في موضع سجوده ثعبان عظيم مطوق ، فمال عن الثعبان برأسه وسجد الى جانبه ، فتطوق الثعبان برقبته ، فلم يقصر من صلاته ولا نقص منها شيئا حتى فرغ ، ثم أخذ الثعبان فرمى به ». قال : « وكذلك ذكر الحسن بن علي بن عبدالله بن المغيرة بن المعمر بن خلاد عن ابي الحسن علي بن موسى الرضا ». وتوفي قيس سنة ٨٥.

١٤٣

حوادث الفرار ـ ليودع سلفه بما هو أهله ، ثم ليبدأ عمله في قيادته الجديدة ، فيدارى ما أحدثته هذه الرجة العنيفة في معنويات جيشه.

فقال:

« أيها الناس لا يهولنكم ولا يعظمّن عليكم ، ما صنع هذا الرجل المولّه. ان هذا وأباه أخاه ، لم يأتو بيوم خير قط. أن أباه عم رسول الله خرج يقاتله ببدر ، فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الانصارى ، فاتى به رسول الله ، فأخذ فداءه ، فقسمه بين المسلمين. وأن اخاه ولاه علي على البصرة ، فسرق ماله ومال المسلمين. فاشترى به الجواري ، وزعم أن ذلك له حلال. وان هذا ولاه علي على اليمن ، فهرب من بسر بن أرطأة ، وترك ولده حتى قتلوا ، وصنع الان هذا الذى صنع (١) ».

وكان قيس الخطيب المؤثر فيما يقصد اليه من تأثير ، ولا سيما اذا اندفع بعاطفة مشبوبة ، كعاطفته عند موقفه الاخير.

وكان من تأثيره على سامعيه ، فيما ثلب به عبيدالله بن عباس أن « تنادى الناس : الحمدلله الذي أخرجه من بيننا!! (٢) ».

أقول : وهكذا كانت التجارب مفاتيح الرجال كما يقول المثل العربي.

__________________

١ ـ مقاتل الطالبيين ( ص ٣٥ ).

٢ ـ مقاتل الطالبيين (ص ٣٥).

١٤٤

بداية النهاية

١٤٥

وجاء الى الحسن عليه‌السلام بريد مسكن ـ لاول مرة ـ وأذا بكتاب قيس بن سعد وهو يقول :

« انهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها « الجنوبية » بازاء « مسكن » وان معاوية أرسل الى عبيدالله بن العباس ، يرغبه في المصير اليه ، وضمن له الف الف درهم. يعجل له منها النصف ، ويعطيه النصف الاخر عند دخوله الكوفة. فانسل عبيدالله في الليل ، الى معسكر معاوية في خاصته ، واصبح الناس قد فقدوا اميرهم ، فصلى بهم قيس بن سعد ونظر في امورهم (١) ».

والكتاب في فقرته الاولى ، يشعرنا بان عبيدالله بن عباس لم يراسل (٢) الحسن منذ نزل بجيشه عند مسكن.

ولا ادري هل في انقطاع اتصال احد القواد عن المركز الاعلى ما يدل على سبق اصرار على التمرد؟. على اننا لا نعلم على التحقيق الفواصل الزمانية التي تتسع للمراسلات بين نزوله مسكن وبين هروبه الى معاوية.

وتتابعت أخبار مسكن مع كتاب قيس وبعده ( واخبار السوء اسرع الاخبار بدارا وأكثرها انتشارا ) ، فبلغ الحسن أن هذه « الخاصة » التي ورد ذكرها في كتاب قيس ، والتي سمتها المصادر الاخرى « اهل الشرف والبيوتات » أو « الوجوه وأهل البيوت » ، كانت شريكة عبيدالله في تدبير خطة الخيانة وعلم ايضا ان بعض هؤلاء سبق عبيدالله الى الهزيمة ـ وتطرفت

__________________

١ ـ الارشاد ( ص ١٧٠ ).

٢ ـ لان الفقرة هي الخبر الاول الذي وصل الحسن عن نزولهم مسكن. والكتاب من قيس لا من عبيدالله.

١٤٦

بعض الانباء فأوغلت في النكاية بعبيدالله حتى قالت « انه مرّ بالراية (١) ».

وهيأت هذه الحركة العدوة جواً لتمردٍ خبيث ، نشبت عدواه في قوافل اخرى من اجيش ، فنشطوا للفرار وهم يحسبون ان في اتباع اهل الشرف والبيوتات مغنما يخسرونه اذا تخلفوا عنهم.

وعمل معاوية اكثر ما يمكن ان يعمل لاثارة هذا التمرد ، ثم لتغذيته بعد اثارته ثم لتوسعته بعد تغذيته ، وكان العارف بنفسيات ابناء البيوت الرعاديد ، الذين غلبهم الترف وانستهم النعمة الوارفة عنعناتهم العربية العنود ، فكان لا ينفك يتوقع انزلاقهم اليه ، ويتوسل اليهم بمختلف الوسائل وانواع الكيد ، حتى لقد نجح في استذلال شموخهم عن طريق المطامع المادية التي تطامن لسحرها كبيرهم المغرور ، فنزل يهرول امامهم ، الى الهوة التي لا يختارها شريف يعتز بشرفه ، ولا قائد يغار على سمعته.

وهكذا « جعل اصحاب الحسن الذين وجههم مع عبيدالله يتسللون الى معاوية ، الوجوه وأهل البيوتات (٢) » وأتباعهم طبعا.

ثم صعد عدد الفارين من الزحف ، عن طريق الخيانة لله ولرسوله ولابن رسوله ، الى ثمانية الاف!! [ كما يحدثنا أحمد بن يعقوب في تاريخه ].

قال :

« انه ـ يعني معاوية ـ أرسل الى عبيدالله بن عباس ، وجعل له الف الف درهم ، نصار اليه في ثمانية الاف من اصحابه ، واقام قيس بن سعد على محاربته (٣) ».

نعم ، ثمانية الاف من اثني عشر الفا!..

انها الثغرة المخيفة في جدار المعسكر الواقف في جبهة القتال أمام

__________________

١ ـ البحار ( ج ١٠ : ص ١١٤ ).

٢ ـ شرح النهج ( ج ٤ ص ٨ ).

٣ ـ اليعقوبي ( ج٢ ص ١٩١ ) ، وروضة الشهداء ( ص ١١٥).

١٤٧

ستين الفا من الاعداء الاشداء ، لا ، بل انه الانهيار المخيف ، والنكبة التي تهدد بالكارثة القريبة.

فليتحمل عبيدالله مسؤوليتها الثقيلة في الله ، وفي التاريخ!!.

وظن هؤلاء المتسرعون الى الفتنة ، والراكضون بكل اعصابهم الى الهزيمة ، انهم اذا عملو مثل العمل الذي أتاه ابن عم الخليفة واولى الناس برعاية حقه والوفاء ببيعته فانهم غير ملومين ، واصطلحوا على مثل هذا المنطق المفلوج لتبرير عملهم أمام الناس ، ولكن الناس لم ينظروا الى هزيمتهم الا من ناحية اطارها المموّه بالذهب الوهّاج ، ذهب معاوية « الزائف » ، ثم لم يشهدوا من أمجاد « ابناء البيوتات » الا سبقهم لنقض المواثيق التي واثقوا الله عليها ، وبيعهم الدنيا بالدين.

وما كان بالقوم ـ وهم يفرون من ميادين الحسن ـ أنهم ينكرون فضله ومزاياه ، أو يجهلون سمسموه وكفاءاته ، ولكنهم كانوا يريدونه لدنياهم ثم لا يجدونه حيث يريدون.

وما كان بهم ـ وهم يفرون الى معاوية ـ أنهم وثقوا به وبمواعيده ، وانهم لم يقدروا العاقبة التي قابلهم بها يوم دخل الكوفة فنقض كل عهد ووعد. وما معاوية بالرجل الذي يخفي أمره ، ولا هم من الطبقة الذين يجهلون امثاله وهو اذ ذاك بين سمعهم وبصرهم.

اذاً ، فلا بغض الحسن ولا جهلهم له ، ولا حب معاوية ولا ثقتهم به ـ كان هو السبب كله لنفورهم وفرارهم ، ولكنها كانت حوافز أخرى او حوافز من الوان شتى ، دفعت بهؤلاء الموّلهين الى هذا الشكل من الجهر بالسوء الذي لا يزال صداه البغيض يرن في مسمع التاريخ.

وما يدرينا فلعلها كانت مراحل مقرّرة ومؤامرات مدبّرة سبق اليها الزعماء المعارضون ، ليتقوا بها المصير الذي كان ينتظرهم ، فيما لو أديل

١٤٨

للكوفة من الشام. وكان من شأن التدابير الواسعة التي اخذ بها الامام في دعوة الاقطار الاسلامية الى الجهاد ، ومن بوادر النشاط الذي تطوع له الشيعة في عضد هذه الدعوة ، ما هو خليق بأن يبعث في نفوس القلقين من الخونة والرؤساء المتبوعين ، الخوف على أنفسهم ومصالحهم ، وان يزدادوا حذرا مما كانوا قد تورطوا فيه من مناورات ومعارضات تجاه معسكرهم في الكوفة. فرأوا في الالتحاق بمعاوية خروجا من هذا الخوف ، وتحريبا سريع الاثر في قوة الجانب الذي يخافونه ، وكان من تنفيذ الخطة في أضيق وقت وعلى اوسع نطاق ، ما يؤيد كونها نتيجة لمؤامرة كثيرة الانصار.

ولعل فهم مأساة الهزيمة على هذا الوجه اقرب الى الواقع ، مما فهمها عليه سائر رواتها من أعدائها ومن اصدقائها.

وليس معنى هذا التفسير ، أن معاوية لم يعد أحدا او لم يرش قائدا.

كلا ... فانه سخا بالمواعيد حتى أذهلهم ، واعطي القائد وحده مليونا من الدراهم حتى اشترى دينه وكرامته.

ولكن الشيء الذي يسترعي النظر ويستدعي التنبيه ، ان حوادث الهزيمة لم تنسب الى اسم صريح اخر غير عبيدالله بن عباس [ قائد المقدمة في مسكن ] أنه قبض من معاوية في سبيل الخيانة نقدا معينا.

تري ، فكيف رضي الزعماء الاخرون من معاوية بالوعد دون النقد ، لولا ان يكون الخوف الذي ذكرناه ، هوالذي بعث فيهم روح الهزيمة وزين لهم الاكتفاء بالوعود!!.

وللخوف سلطانه على النفوس ، ولاسيما نفوس المترفين من الناس ، فلا بدع اذا قدح في نفوس « أبناء البيوتات » فكرة الخيانة وأوقدتها ـ بعد ذلك ـ مغريات الشام ، في بيئة ليس فيها اغراء بغير الله والعدل الصارم.

وهكذا انكشفت كل جماعة من عناصر هذا الجيش عن مكنونها الذي مزف الستار ، وظهر على المسرح باللون الذي لا تشتبه فيه الابصار ، فكان

١٤٩

لحب العافية من قوم وللعصبيات الجاهلية من اخرين وللاهواء والمنازع وأصحابها الاثر المستبين فيما آل اليه الموقف من نتائج واضرار.

وفضحت المطامع أولئك الذين لم يلتحقوا بهذا الجيش الا طمعا بالغنائم ، وسرهم أن يتلقفوا الغنائم من طريق الخيانة في سهولة ويسر ، وكانوا يظنون انهم لن ينالوها الا بعد أن تزيغ قلوبهم هلعا ، من قراع الاسنة وألضرب الدراك.

ونزلوا عن هذا الطريق الى الدرك الاسفل من حظوظهم التي تخيروها لانفسهم مغرورين. « فمن نكث فانما ينكث على نفسه ومن اوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ».

وما كان المسلم الذي يترك امامه ليلتجيء الى البغاة الا شرا من باغ ، واولئك هم المستضعفون في دينهم ، والقلقون في دنياهم ، وان صفوف معاوية لاولى بالمستضعفين القلقين.

ومازت النكبة الذين جثموا في مواقعهم ، وثبتو على مبدأ المقاومة لا يلتسمون محيدا عنه ، وصمدوا ولكنهم انما صمدوا للموت المحقق (١) ، ينتظرونه فرحين مطمئنين ، دفاعا عن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ، ووفاءً لله ببيعتهم.

وكان الصمود للنكبات ، والصبر على الكوارث ، والاستعداد لتحمل الآلام وبذل التضحيات ، أنبل دليل على طيب المعدن ، وصدق النية ، وصلابة العود ، والجدارة بالحياة. وهذه هي نعوت شيعة الحسن الاوفياء.

ثم كان لانباء هذه النكبات المروعة في مسكن ، وقعها السيء الذي يناسب خطورتها ، في أوساط الجيش الاخرالذي كان يعسكر في ( المدائن ).

__________________

١ ـ قال ابن كثير ( ج ٨ ص ١٩ ) : « قال أبو العريف : كنا في مقدمة الحسن بن علي بمسكن ، مستميتين من الجد على قتال أهل الشام .. ».

١٥٠

وبلغت البالغات في تهويل هذه الاخبار بين حلقات هذا الجيش رقمها القياسي. وفي هذا الجيش كثرة ساحقة من رعاع أهل السواد ومن اخلاط الناس ومختلف الاحزاب. وفيه ـ الى هؤلاء وأولئك ـ البهاليل من الهاشمين اليمامين ، والكتل المخلصة من ربيعة وهمدان.

وكادت الرجة العاتية أن تجتاح المعسكر ، لولا هذه الاطواد الراسية في مختلف أكنافه ، الاطواد التي كانت تتكسر على صخرتها شتي المحاولات التي كان يتسرع اليها المتوثبون الى الفتنة.

اما الحسن نفسه ، فقد قابل هذه المزعجات بالامل الذي يعمر القلوب القوية والنفوس الخالدة ، وكان يرى ان الاخفاق في ظرف خاص أو مكان خاص ، لا يعني الحرمان من الازدهار والاثمار اخيرا في ظرف لا يجب ان يكون هو ـ بشخصه ـ صاحبه ، ولكن « بمبدئه » ، وثمة نقطة التركز في أهداف الحسن ـ مخفقا او منتصرا ـ وثمة مركز التجلي « الرباني » الذي تنشق عنه الانسانية في شخصية هذا الامام الروحي ، بأفضل ما قدر لها من مراتب الانسياح في ذات الله ، والفناء في سبيل الله.

ثم انه لم يزل على نشاطه الموفور ، في تدوير دولاب حركته وجهاده وجيوشه ، رغم ما كان يحسه من وميض الفتنة الذي أخذ يستعر تحت رماد الاحدات المتعاقبة بين يديه. ولم يسمع منه كلمة واحده تتجاوز به الى جحمة غضب ، أو تدل بحدتها على ما كان يشيع في نفسه من بلاغة الخطب ، وروعة التشاؤم ، والنقمة على الوضع ، اللهم الا كلماتة التوجيهية التي كان يقصد بها تدريب جماهيره على النظام ، وتعليمهم الاتزام بقواعد « الجهاد » في الاسلام.

ودار بوجه الى كوفته ، كأنه يتذكر شيئا ، أو يستعرض اشياء عقت الكوفة بها أياديه عندها وأيادي أبيه من قبل. وكان ابوه هو باعث مجدها ، ومؤسس كيانها المستطيل الشامخ ، الذي باتت تتمتع به كأعظم حاضرة في العالم الاسلامي ، تلتقي عندها حضاراته ، وتثوب اليها شعوبه من مختلف

١٥١

الاجناس ، وتلتحم بمصالحها الثقافية والتجارية مع اعظم الاقطار المعروفة في ذلك الزمان. والكوفة هي كل شيء في سياسة الحسن عليه‌السلام ، أو هي اعظم ذخيرة كان يدخرها للايام السود ، والوقائع الحمر ، والبلايا الملونة التي شاءت الليالي أن تجمعها عليه في وقته الحاضر ـ فذكر ، وهو يستعرض في نفسه سوابقه مع الكوفة أو سوابق الكوفة معه ، انثيال الناس ـ هناك ـ على بيعته والاخذ بيده ، واجماعهم على قبول شرطه يوم رضي أن يمد يده لبيعتهم « على أن تكون بالسمع والطاعة ، وأن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم ».

ثم نظر الى حوادث « مسكن » وزلزلة الاكثر من جيوشه « الكوفيين » هناك ، ونفورهم من القتال وركونهم الى الفرار ، وانخداعهم بالمطامع ، وجهرهم بالعصيان ، ونقضهم المواثيق التي عاهدوا الله عليها.

فساءه ، ان تبلغ السفالة البشرية ، وميوعة الدين ، وصفاقة الاخلاق ، في عصبة تدعى الاسلام ، وتتقلد القرآن ، وتؤمن ـ على ظاهرها ـ بالنبي فتصلي عليه وعلى اله ، في صلواتها الخمس كل يوم خمس مرات ـ مبلغها من هؤلاء الذين خانوا النبي في آله ، وخانوا الله في مواثيقه ، وباءوا بمخزاة التاريخ على غير كلفة ولا اكتراث.

وظنوا ان معاوية مانعهم من الموت والفقر ، ولا والله ما من الموت مفر ، ولا رشوات معاوية بأجدي لهم من الرزق الحلال الذي قدّر لهم في هذه الحياة ، وسيصعد معاوية منبره في الكوفة ، معلنا على رؤوسهم حنثه بأيمانه وعهوده ومواعيده ، وجاعلا « كل ذلك تحت قدميه (١) » ، وما هي الا شنشنته التي كان يمليها عليه طموحه الى الغلبة بكل سبب منذطمع بالطفرة الى التاج.

__________________

١ ـ يراجع عن هذا التصريح اكثر المصادر التاريخية ، وذكره ابن قتيبة في « تاريخ الخلفاء الراشدين ودولة بني امية » ( ص ١٥١ ـ مطبعة مصطفي محمد ـ بمصر ).

١٥٢

وليت شعري الى أين كان يفرّ هؤلاء من الفقر الذي اتقوه بالفرار من امامهم الشرعي ، يوم يستيقنون اصرار معاوية على الخلف بوعده وعهوده ـ وانهم لمستيقنون ـ والى أين كانوا يفرون من الموت وقد خافوه بالجهاد مع ابن بنت نبيهم (ص) ، وانه لمدركهم « ولو كانوا في بروج مشيدة » ، وسيدركهم وهم فقراء من دينهم ودنياهم معا ، فلا بمواثيق الله عملوا ولا على رشوات معاوية حصلوا ، وسيموتون ميتتهم الجاهلية التي سبقت لابائهم فاستبقوا بها الى النار ، وبئس الورد المورود.

« يا ويح من ولى الكتا

ب قفاه والدنيا أمامه

فليقر عن سنَّ الندا

مة يوم لا تغني الندامة

وليدر كنَّ على الغرا

مة سوء عاقبة الغرامه

يالعنة صارت على

أعناقهم طوق الحمامة (١) »

وكان الوزر الاكبر الذي تأزره الكوفيون في مسكن ، وزر النفر الذين قادوا الحركة الخائنة في خطواتها الاولى ، منذ ركبوا المآثم السود بتكتلاتهم ومكاتباتهم ..

وتمثل للحسن وهو بالمدائن ، أفراد من « الوجوه وابناء البيوتات » في جيش مسكن كان يعرفهم بلحن القول حينا ولحن العمل احيانا ، وما كانوا بالذين ينقطعون عنه وعن جماعته في الكوفة ، ولكنهم المنقطعون عن مودته وعن الاخلاص لاهدافه فيما يبطنون ، ولم يكن شيء مما يبطنونه بالذي يغيب عنه ، ولا شيء يزاولونه ـ في مناوراتهم معه ـ فيجهله من نواياهم. وكانوا اذ يتصلون به ، انما يصطنعون الدين وسيلة الى الدنيا ، ويخيل اليهم انهم قد حذقوا اتخاذ الوسيلة ، حتى اذا علموا خطأهم يدأوا يزرعون في بطاح غدهم نوابت الزرع الخبيث ، وعادوا وهم ـ في عهده ـ على سابق عهدهم ، يوم كانوا يجترون تملقهم الاصفر وخذلانهم الاسود

__________________

١ ـ بديع الزمان الهمداني.

١٥٣

الذي نسجوا عليه لعابهم المرير في عهد ابيه امير المؤمنين عليه‌السلام في الكوفة يوم سئم أبوه الحياة من سوء صحبتهم ، وتمني الموت صريحا لفراقهم.

وعلم الحسن بن علي غير متردد في علم ، ان هذه العصابة نفسها كانت هي أصابع معاوية التي عاثت بمقدرات جيشه في مسكن ، وهي التي شجعت القوافل على الفرار الى معاوية ، اغترارا برشواته الاخاذة المنوعة التي جاوز بها معاوية المألوف من رشوات الناس وعرض فيها من العرض ما لا يعهد الرشوة بمثله ، حتى لقد كتب الى بعضهم : « وبنت من بناتي (١) »!.

وكانت الخصيصة البارزة في معاوية ، انه الرجل الذي لا تفوته الفرص السانحة من مآزق خصومه ، وكان هو ـ قبل كل شيء ـ الصناع المفن في بعث هذه المآزق واستغلال فرصها ، وكانت هذه هي موهبته التي خلب بها الباب المعجبين به ، وبرع فيها البراعة بأقصى حدودها ، حتى ليخيل الى مؤرخته حين ينظرون اليه من هذه الزاوية أنه الداهية ، وانه السياسي المحنّك ، وانه العسكري المفنّ.

ولكن دراسة معاوية ـ على ضوء ما تقلب فيه الرجل من أطوار وما زاوله من محاولات ـ كمحارب لرسول الله (ص) في بدر (٢) ، فطليق من طلقاء يوم الفتح بمكة ، فصعلوك (٣) لا مال له يركض حافيا ـ بغير نعل ـ تحت ركاب علقمة بن وائل الحضرمي (٤) في المدينة ، فوال على الشام ولكن من عمر وعثمان مدى عشرين سنة ، فمحارب للامامين علي وابنه

__________________

١ ـ علل الشرائع لابن بابويه ( ص ٨٤ ـ طبع ايران ).

٢ ـ ابن النديم ( ص ٢٤٩ ) قال : « سئل هشام بن الحكم عن معاوية أشهد بدرا؟ فقال : نعم من ذاك الجانب! ».

٣ ـ الدميري ( ج١ : ص ٥٩ ) قال : « وكانت امرأة استشارت النبي (ص) في ان تتزوج منه ـ يعني معاوية ـ فقال ـ انه صعلوك لا مال له ».

٤ ـ البيهقي في المحاسن والمساوئ (ج١ : ص ٢٠٩ و ٢١٠ ) وغيره.

١٥٤

الحسن (ع) اربع سنوات ، فمدّع للخلافة عن رسول الله (ص) يناقضه صريحا في أحكامه ويخالفه عامدا في سرته ، ويقول : « والله ما بقي شيء يصيبه الناس من الدنيا الا وقد اصبته (١) » ـ أقول : ان دراسته على ضوء محاولاته الكثيرة ، ووصولياته المنوّعة مما ذكر أو لم يذكر ، لا تفضي بنا الى الاعتراف بكل الاوصاف التي يسبغها عليه المعجبون به.

ولا تدل على أكثر من براعته في استغلال الفرص جاهلية واسلاما.

وما كان من الدهاء ، ولا من السياسة بمعناها الصحيح ، ان يتصل الانسان في طريقه الى مآربه بوسائل لا يملك لها وجاهة الاقناع ـ ولو ظاهرا ـ في عرف المجتمع ، ولا أن يتسور الى اهدافه بالشذوذ المكشوف الذي لا يهضمه تقليد ، ولا يقرّه دين ، ثم هو لا ينفك يحاول أن يدّعي أنه رئيس حماة الدين ، وكبير رعاة التقاليد.

وما من دهاء في منطقة مناقضات.

ولا من دهاء في اغتيال الامنين من الناس ، ولا في اعلان السب والشتم وفرضه على الناس في كل مكان ، ولا في نقض العهود والحنث بالايمان.

ان شيئا من ذلك لا يدخل في حساب الدهاء ، ولا هو من سياسة الملك ، ولكنها الاساليب البدائية في دنيا العداوات ، ولعل في أدنياء المتناجزين من سواد الناس من يستطيع أن يأتي بالافظع الاروع من هذه الاساليب نكالا في خصومه. أفيكون حينئذ أعظم دهاء من معاوية؟.

و متى كان الشذوذ في الكيد دهاء يا ترى؟.

و اذا كان معاوية فيما اتاه من هذه الافاعيل النكر داهية ، فلقد زاده ابنه يزيد دهاء ، لانه توسل الى مآربه بوسائل انكى من وسائل ابيه.

ودع عنك من شواهد الضعف في معاوية ، استضاءه البيز نطيين بالمال ، وخطالبه الطائش الذي نقض عليه سياسته ـ في الكوفة ـ عند دخوله اليها ،

__________________

١ ـ المصدر السابق.

١٥٥

وموقفه الفطير من شهداء ( مرج عذراء ) ، واشياء اخرى ليس هنا مجال بحثها.

ولكننا ـ ولننصف القائلين بدهائه ـ نتذكر لمعاوية موقفا يشبه أن يكون فيه « الداهية » الذي يحيك الخطط ليمهد الى غده ، ثم هو يصدر الى الناس من وراء خطته بعذر يقبله المعنيون به.

ذلك هو الموقف المبرقع الذي وقفه معاوية من نجدة عثمان ، يوم خلع وقتل ..

وربح معاوية من مقتل عثمان انصارا من « العثمانية » قبلوا عذره اذ يخذل (١) عثمان وهو حي ، ثم تطوعوا له لينصر بهم عثمان وهو ميت ، وهو انما ينتصر بهم لنفسه ، ولكنهم لا يشعرون. فعزز بهذه الحفنة من

__________________

١ ـ نجد التصريح بهذه الحقيقة التاريخية في كثير مما دار حولها من أحاديث معاصريها وخطبهم وأشعارهم. وكان فيما واجه به شبث بن ربعي معاوية أن قال له : « انه والله لا يخفي علينا ما تعزو وما تطلب ، انك لم تجد شيئا تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم ، وتستخلص به طاعتهم الاقولك : قتل امامكم مظلوما فنحن نطلب بدمه ، فاستجاب له سفهاء طغام ، وقد علمنا ان قد ابطأت عنه بالنصر ، وأحببت له القتل لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب ، ورب متمني أمر وطالبه ، الله عزوجل يحول دونه بقدرته. وربما اوتي المتمني أمنيته وفوق أمنيته. ووالله ما لك في واحدة منهما خير ، لئن اخطأت ما ترجو ، لانت شر العرب حالا في ذلك ، ولئن أصبت ما تمني ، لا تصيبه حتى تستحق من ربك صلي النار ، فاتق الله يا معاوية ، ودع ما أنت عليه ولا تنازع الامر اهله .. ». الطبري ( ج ٥ ص ٢٤٣ ).

وأخرج ابن عساكر عن ابي الطفيل عامر بن واثلة ، أنه دخل على معاوية فقال له : « ما منعك عن نصر عثمان اذ لم ينصره المهاجرون والانصار؟ ». فقال معاوية : « أما لقد كان حقه واجبا عليهم أن ينصوره ». قال : « فما منعك يا امير المؤمنين من نصره ومعك أهل الشام؟ » فقال معاوية « أما طلبي بدمه نصرة له؟ » فضحك أبو الطفيل بن واثلة ثم قال : « انت وعثمان كما قال الشاعر » :

« لا الفينك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زودتني زادي! »

وروى المسعودى ما رواه ابن عساكر ثم ذكر في جواب ابي الطفيل لمعاوية قوله : « منعنى ما منعك اذ تربص به ريب المنون ، وانت بالشام!»

١٥٦

« الاغنياء » جبهته الضعيفة في ميادينه مع على عليه‌السلام.

ومن هنا عرض معاوية عسكريته على التاريخ.

ولا نعرف عن عسكرية معاوية ـ بما يلتقي عند هذه الكلمة من المعنيين ـ شيئا مذكورا.

فلا هو بالعسكري على المعنى المصطلح عليه ، الذي يعني « بوضع الخطط وقيادة الميدان » ، ولا هو بالعسكرى في شجاعته وفروسيته ، حين يدعي لمقارعة شجاع أو منازلة فارس.

ودعاه (١) امير المؤمنين عليه‌السلام ليبارزه ، فاما واما ، فأبى اباء الرعاديد!!!.

__________________

وقال البلاذري : « ان معاوية لما استصرخه عثمان ، تثاقل عنه ، وهو في ذلك يعده ، حتى اذا اشتد به الحصار ، بعث اليه يزيد بن أسد القشيري وقال له : اذا أتيت ذا خشب فاقم بها ، ولا تقل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، فانا الشاهد وانت الغائب!! .. قالوا : فاقام بذي خشب حتى قتل عثمان ، فاستقدمه ».

١ ـ قال البيهقي في المحاسن والمساوىء ( ج١ ص ٣٧ ) : « ولما كان حرب صفين ، كتب امير المؤمنين الى معاوية بن أبي سفيان : ما لك يقتل الناس بيننا ، ابرز لي فان قتلتني استرحت مني ، وان قتلتك استرحت منك. فقال له عمرو بن العاص : أنصفك الرجل ، فابرز اليه. قال : كلا يا عمرو ، أردت أن ابرز اليه فيقتلني. وتثب على الخلافة بعدي!! .. قد علمت قريش أن ابن ابي طالب سيدها وأسدها ».

وقال ( ص٣٨ ) : « عن الشعبي ، أن عمرو بن العاص دخل على معاوية وعنده ناس ، فلما رآه مقبلا استضحك فقال ـ يا أمير المؤمنين أضحك الله سنك وأقر عينك ، ما كل ما أرى يوجب الضحك. فقال معاوية : خطر ببالي يوم صفين يوم بارزت أهل العراق ، فحمل عليك علي بن ابي طالب فلما غشيك طرحت نفسك عن دابتك وابديت عورتك! كيف حضرك ذهنك في تلك الحال؟. أما والله لقد واقفت هاشميا منافيا ، ولو شاء ان يقتلك لقتلك. فقال عمرو : يامعاوية ان كان أضحكك شأني فمن نفسك فاضح. أما والله لو بدا له من صفحتك مثل الذي بدا له من صفحتي لاوجع قذالك وأيتم عيالك ، وأنهب مالك ، وعزل سلطانك ، غير أنك تحرزت منه بالرجال في أيديها العوالي ، أما اني قد رأيتك يوم دعاك الى

١٥٧

نعم هو صاحب موهبة ـ كما قلنا ـ ولكن في حيز محدود ، وصاحب سخاء ولكن من نوع فريد ، وصاحب هواية خاصة لها سلطانها القاهر على نفسه.

فأما موهبته ففي اغتنام الفرص من مآزق الناس ، واما هوايته ففي الغلبة والسلطان ، واما سخاؤه فبما لا يسخو به من يحسب لاخرته حسابها.

والمرجح أن معاوية كان يعرف من نفسه قصورها عن العسكري الذي كان يجب أن يكونه وهو يناضل أشجع عسكرية في الاسلام ، فكان يود دائما ان يلتوي بحروبه مع العراق ، الى الطريقة الخاضعة لموهبته ، ويفر ـ ما وسعه الفرارـ ـ من حرب السلاح الى حرب الفتن.

وكانت التجارب التي صارعها معاوية في حروب صفين ، هي الاخرى التي املت عليه القناعة القصوى بهذا الاختيار.

ولم يفلت معاوية من النهيار المحقق الذي حاق به يوم ذاك ، والذي نشط به الى محاولة الفرار بنفسه على ظهر جواد ، الا حين أخذ بالرأى البكر الذي أملاه عليه مستشاره الكبير « ابن العاص »! ثم كانت الفتنة بنطاقها الواسع الذي خلق للمسلمين انواع المشاكل والنكبات فيما بعد.

فالفتنة في نظر معاوية خير مركب للنجاح ، وهي بتجارب معاوية امضي أثرا من السلاح ، فكيف لا يجنح اليها كلما حاق به مأزق من هذه المآزق التي كان يجرها على نفسه في مختلف المناسبات؟.

ورفق معاوية في ميدان « الفتنة » الى تعبئة جهاز من النوع الثقيل ،

__________________

البراز فأحولت عيناك ، وأزبد شدقاك ، وتنشر منخراك ، وعرق جبينك ، وبدا من اسفلك ما أكره ذكره!! فقال معاوية : حسبك حيث بلغت ، لم نرد كل هذا .. ».

و روى هذا الحديث المسعودي ( هامش ابن الاثير ج ٦ : ص ٩١ ) وبدأه بقول عمرو بن العاص لمعاوية : « لولا مصر وولايتها لركبت النجاة منها ، فاني أعلم ان علي بن ابي طالب على الحق وانا على ضده ، فقال معاوية : مصر والله أعمتك ، ولولا مصر لالفيتك بصيرا ، ثم ضحك معاوية ضحكا ذهب به كل مذهب. قال : مم تضحك يا امير المؤمنين أضحك الله سنك؟ قال : أضحك من حضور ذهنك يوم بارزت عليا ».

١٥٨

لا نعهد مثله لغيره ، بما يسر له من الثراء الضخم الذي مهدته له بلاد الشام في عقدين كاملين من السنين وبما حظى به من صحب مساعير في هذا الميدان ، أمثال المغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص. وكان ابن العاص هذا ، أعظم مصارع على هذا المسرح ، وهو الذي « ما حكَّ قرحة الا نكأها ».

واستلحق ـ الى هذين ـ زياد بن عبيد الرومي الذي انتزعه من معسكر الحسن عليه‌السلام انتزاعته (١) المفضوحة في التاريخ ، فكانوا ثالوثه المخيف الذي فتن الناس وزلزل الدنيا وبلبل الاسلام. واخيرا فان الفتنة بمعناها الاعم ، هي موهبة معاوية التي لا يغلبه عليها ألمعي قط.

__________________

١ ـ كان زياد هذا ، عامل الحسن بن علي (ع) على ناحية من فارس وهو عليها منذ عهد ابيه بعثه اليها عبدالله بن عباس منذ كان على البصرة.

فكتب اليه معاوية يتوعده ويتهدده ، فقام زياد في محل عمله بفارس خطيبا فشتم معاوية ووصفه « بابن آكلة الاكباد وكهف النفاق وبقية الاحزاب » ، وهدده بابني رسول الله (ص) ـ وهو اذ ذاك من شيعتهما ـ وبأجنادهما من المسلمين. وتجد نص الخطبة في فصل « عدد الجيش » من هذا الكتاب.

واما قضية استلحاقه ، فهي على الاجمال ، حكاية زنية يزنيها ابو سفيان ببغي من ذوات الاعلام بالطائف كانت تؤدي الضريبة الى الحرث بن كلدة الثقفي ، تدعى « سمية » فيكون نتيجتها « زياد » هذا ، ويقبل معاوية شهادة كل من ابن أسماء الحرمازي وأبي مريم الخمار السلولي ـ قواد هذه البغي وغيرها من امثالها ـ فيستلحق زيادا كاخ شرعي رغم ان عبدالله بن عامر ( صهر معاوية على ابنته هند ) كان يهم أن يأتي بقسامة من قريش يحلفون أن اباسفيان لم ير سمية!! ثم تكشف جويرية بنت ابي سفيان لزياد عن شعرها وتقول له : « أنت أخي أخبرني بذلك ابومريم!!» ثم يقول زياد عن أبيه الاول الذي ولد على فراشه فبدله بأبي سفيان ، وكان عبدا روميا للحرث بن كلدة الثقفي ، يدعى « عبيدا » : « وما كان عبيد الا والدا مشكورا ونزل!! .. » وكان ذلك سنة ٤١ للهجرة على الاصح.

وعدَّ الناس حادثة الاستلحاق أعظم تهتك وقع في الاسلام علنا.

قال ابن الثير : « وكان استلحاقه أول ما ردت به احكام الشريعة علانية ، فان رسول الله (ص) قضي بالولد للفراش وللعاهر الحجر ، وقضي معاوية بعكس ذلك ، طبقا لما كان العمل عليه قبل الاسلام ، يقول الله تعالى : أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون » انتهي

١٥٩

وعلى هذه القاعدة ، طوّر معاوية حزبه مع الحسن الى الحرب بالفتن.

وكان اذ يعسكر بجيوشه على حدود العراق ، لا يريد القتال ، وانما يخاف المبادءة من خصومه. ويود لو حاربهم في ميدان غير ميدان الجيوش.

ولم يبح بسرّه هذا ، الا على أسلوب من المصانعة والتمويه ، يتظاهر من ورائهما بالجنوح الى المصلحة والخوف على امور الناس. فيقول حين ينظر الى جيوش الفريقين في موقفه من الحسن بن علي عليهما‌السلام : « ان قَتَلَ هؤلاء ، هؤلاء ، وهؤلاء ، هؤلاء ، من لي بامور الناس (١) » ، ويقول : « الامر الكبير يدفعه الامر الصغير (٢) ».

وما يدرينا ، فلعله اذ يتلكأ بهذا ونحوه ، انما يتلكأ لانه يحذر نتائج حرب السلاح ، فيمالو صدق العراق بالقراع. وليكن ـ على هذا الاحتمال ـ قد جهل موقف الكوفة في نفيرها مع الحسن وخيّل اليه من نتائج الدعاوة الشيعية ما لم يكن.

__________________

بلفظه.

وعلم زياد ان العرب لا تقر له بالنسب الجديد لعلمهم بحقيقة حاله ، وبالدراعي التي اقتضت استلحاقه ، فعمل « كتاب المثالب » والصق فيه بالعرب كل نقيصة ، فدل بذلك ايضا على شعوبيته الهوجاء.

وقضي للكوفة ان يحكمها زياد هذا ـ بعد هلاك حاكمها الاموي الاول المغيرة بن شعبة الثقفي ـ فجعل منها جحيما يستعر وزلزالا لا يستقر.

قال الطبري ( ج ٦ ص ١٢٣ ) : « ان زيادا لما قدم الكوفة قال : قد جئتكم في أمر ما طلبته الا لكم. قالوا : ادعنا الى ما شئت. قال : تلحقون نسبي بمعاوية. قالوا : اما بشهادة الزور فلا ». وهو اول من جمع له الكوفة والبصرة معا ، واول من سير بين يديه بالحراب ، ومشي بين يديه بالعمد ، واتخذ الحرس. وكان يستخلف على البصرة عند غيابه « سمرة بن جندب » وعلى الكوفة « عمرو بن حريث » ولما رجع الى البصرة بعد ستة اشهر وجد سمرة قد قتل ثمانية الاف من الناس!! .. « كلهم قد جمع القرآن ».

ومات زياد سنة ٥٣ هـ. وجاء المهدي العباسي سنة ١٥٩ هـ فالغى هذا الاستلحاق ، وأمر باخراج آل زياد من ديوان قريش والعرب ، وعاد زياد الى ابيه العبد الرومي مرة اخرى!!.

١ ـ ابن كثير ( ج ٨ ص ١٧ ).

٢ ـ المسعودى : هامش ابن الاثير ( ج ٦ ص ٦٧ ).

١٦٠