صلح الحسن عليه السلام

الشيخ راضي آل ياسين

صلح الحسن عليه السلام

المؤلف:

الشيخ راضي آل ياسين


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات الشريف الرضي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

في ذلك كالذي يزل عن حقه في حياته جهادا في سبيل الله ، ويبيع الله نفسه ليشتري منه جنته.

٢ ـ واما صبره

فانه صدى جهاده ، والحصن الذي يلجأ اليه في مختلف ميادينه.

ولقي من زمانه ومن أهل زمانه ، الحرمان وألخيانة وألغدر وألمؤامرات وألنفاق وألغيلة ونقض العهود ، وبهتان الاعداء و سبابهم ، وأزورار الاصدقاء وعتابهم ، وما لم يلقه أحد غيره فيما نعهد من زعماء التاريخ ، وتفجرت عليه من كل مكان ، المحن السود والنكبات الفواتن.

فقابل كل ذلك بالصبر الذي لا توازنه الجبال.

وعالج الاوضاع التي دارت حوله ، بما اوتي من الحكمة البالغة الحنكة الموهوبة ، متدرّجا معها من البداية الى النهاية ، لا يستسلم للغضب ولا يتأثر بالعاطفة ، ولا يستكين للحوادث ، ولا يتقلقل للمربكات ، ولا تهزّه الا نُصرَةُ الدين كلمة القرآن ودعوة الاسلام.

وهذا هو الحسن السبط على حقيقته التي خلقه الله عليها. ولن ينكر على الحسن خصاله هذه ، الا متعنت جاهل ، أو عدّو متحامل ، وكانت مزاياه في عصره مُثُلَ المزايا ، وكان كرمه في الناس مضرب المثل. وكان من حلاوة حديثه ، و سرعة بديهته ، وقوة حجته ، وهيبته ، وحلمه ، وحجاه ، ما شهد به أعداؤه فضلا عن أصدقائه.

انظر الى تقريظ معاوية له في خواتيم « المشاجرات » التي كان يثيرها عليه في مجالسه ، والى اطرائه اياه في مناسبات أخرى لا تتصل بهذه المشاجرات.

فقال مرة وهو يطري حلاوة حديثه :

« ما تكلم عندي أحد أحب اليَّ اذا تكلم ان لا يسكت من الحسن ابن علي (١) ».

__________________

١ ـ اليعقوبي ( ج ٢ ص ٢٠٢ ) ، وابن كثير ( ج ٨ ص ٣٩ ).

٢٠١

وقال عنه وقد ذكر عنده :

« انهم قوم قد الهموا الكلام (١) ».

وقال عن هيبته وحسن محضره :

« والله ما رأيته الا كرهت غيابه وهبت عتابه (٢) ».

وقال ايضا :

« فوالله ما رأيته قط ، جالسا عندي ، الا خفت مقامه وعيبه لي (٣) ».

وقال يمدحه :

« أما حسن فابن الذي كان قبله

اذا سار سار الموت حيث يسير

وهل يلد الرئبال الا نظيره

وذا حسن شبه له ونظير

ولكنه لو يوزن الحلم والحجا

بأمر ـ لقالوا يذبل و ثبير (٤) »

نعم هذا هو معاوية وهو عدو الحسن ( رقم ١ ). واما مروان بن الحكم ، فهو الذي كان يقول عن الحسن عليه‌السلام : « انه ليوازن حلمه الجبال (٥) ».

وكان التظاهر بالثناء على الحسن من عدويه هذين ، دليل قوة الحسن في الناس ، والا فدليل خضوعهما للامر الواقع ، أو هو الستار الذي يسدله الخصم على الفكرة التي يجهز بها على خصمه.

اما هذه المشاجرات التي مررنا على ذكرها مرورا ، والتي حفل بكثير منها بعض الموسوعات ذات الشأن ، فهي « الحُدَيَّا (٦) » التي كان ينشط لها

__________________

١ ـ العقد الفريد ( ج ٢ ص ٣٢٣).

٢ ـ البحار ( ج ١٠ ص ١١٦ ).

٣ ـ شرح النهج ( ج ٢ ص ١٠١ ).

٤ ـ ابن ابي الحديد ( ج ٤ ص ٧٣ ).

٥ ـ ابن ابي الحديد ( ج ٤ ص ٥ وص١٨ ).

٦ ـ : ( المنازعة والمباراة ).

٢٠٢

معاوية في مضطربه مع الحسن ، حين يوجد الحسن في الشام [ بعد الصلح ] أو حين يوجد هو في المدينة.

وكانت مجالس يستعد لها معاوية ، بالاقوياء من أصدقائه الخلّص واقرابئه الأدنين ، الذين يساهمونه النظر الى أهل البيت عليهم‌السلام كالعائق لهم عن النفوذ الى قلوب الناس ، فيجمع اليه ـ عمرو بن العاص ، عتبة بن أبي سفيان ، وعمرو بن عثمان بن عفان ، والمغيرة بن شعبة ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، ومروان بن الحكم ، وعبد الله بن الزبير ، وزياد أبن ابيه ، وربما جمع بعض هؤلاء دون بعض ، وربما ضم اليهم آخرين. ثم يدعو الحسن عليه‌السلام ، فلا يزال يبرز لمشاجرته رجال الحلبة من هذا الحزب ، الواحد تلو الاخر ، مشبوب الحفيظة ، وارم الانف لا يدع شيئا يقدر عليه فيما يتحدّى به الحسن الا أتاه ، ليشفي نفسه وليرضي هواه ، فاذا هي مؤامرة في أسلوب مشاجرة.

أما الحسن عليه‌السلام وهو « الصخرة الململمة التي تنحط عنها السيول ، وتقصر دونها الوعول ، ولا تبلغها السهام » ـ على حد تعبير عبد الله بن جعفر عنه (١) ـ ، فقد كان له من براءة القلب وروحانية النفس وشعار الطهر ، ما يربأ به عن النزول الى مثل مهاتراتهم.ولكنه كان يجيبهم وهو يقول : « أما والله لوالا أن بني أمية تنسبني الى العجز عن المقال لكففت تهاونا ».

ويردّ عليهم بالحجة القوية البالغة التي ترغم ذلك العناد الصاعد ليعود استكانةً وهزيمةً و ذهولاً.

ويسعرض في بعض ردوده عليهم ، ميراث النبوة وولاية الامر ، فيستدرجهم ببديهته التي تغترف من بحره المتدفق الزاخر ، الى الاعتراف له بحقه وبحق أبيه.

ويمضي قائلاً فلا يزال بهم ، حتى يجزيهم على بذاءتهم المنكرة ، غير

__________________

١ ـ يراجع المحاسن والمساويء للبيهقي ( ج ١ ص ٦٢ ).

٢٠٣

مستعين ـ مثلهم ـ بالكذب ، ولا متذرع ـ مثلهم ـ بالبذاء. بل يطعن كلاً على انفراده ، فيصيب منه أبرز مقوّماته ، في نسبه المعروف أو حسبه الموصوف ... وان أبلغ حدياك لخصمك ، أن تمسه في غروره وفي صميم مزاياه التي يخالها مناط أمجاده ، ومرتكز شخصيته.

وكان الحسن في كل هذه المجالس ، الغالب القوي الى جانب الضعفاء المغلوبين.

وكان أشد القوم شعورا بالضعف والتماسا للهزيمة [ في هذه المجالس ] كبيرهم الذي كان أكثرهم وسائل في القوة المادية الطيعة لاوامره ، وكان يغيظه أن يرى أشلاء اخوانه وبني عمومته ، مضرجةً بطعناتها النجل ، عند نهاية كل شجار.

فيقول لهم آنذاك : « قد كنت أخبرتكم وأبيتم ، حتى سمعتم ما أظلم عليكم بيتكم وأفسد عليكم مجلسكم! ».

ويقول لهم : « قد انبأتكم أنه ـ يعني الحسن ـ ممن لا تطاق عارضته! ».

ويقول وهو يخاطب مروان بن الحكم : « قد كنت نهيتك عن هذا الرجل ، وأنت تأبى الا انهماكا فيما يعنيك ، اربع على نفسك ، فليس أبوك كأبيه ، ولا أنت مثله. أنت ابن الطريد الشريد ، وهو ابن رسول الله صلى الله عليه واله الكريم ، ولكن رب باحث عن حتفه ، وحافر عن مديته ».

ويقول لعمرو بن العاص مؤنبا ومحرضا : « طعنك أبوه ـ يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ فوقيت نفسك بخصييك ، فلذلك تحذره! ».

ويقول له في مجلس اخر : « لا تجار البحار فتغمرك ، ولا الجبال فتبهرك ، واسترح من الاعتذار! ».

و يندم ابن الزبير ، وهو اذ ذاك من ندماء معاوية ، على مشاجرته للحسن (ع) ، فيعتذر قائلا : « اعذر ابا محمد فما حملني على محاورتك الا هذا ـ ويشير الى معاوية ـ ، أحبَّ الاغراء بيننا ، فهلا اذ جهلت أمسكتَ عني ، فانكم أهل بيت سجيتكم الحلم والعفو .. ».

٢٠٤

فيقول له معاوية وقد عزّ عليه أن يسمعه وهو يعتذر الى الحسن اعتذار المنهزم المغلوب : « أما انه قد شفى بلابل صدري منك ، ورمى مقتلك فصرت كالحجل في كف البازيّ ، يتلاعب بك كيف أراد ، فلا أراك تفتخر على أحد بعدها! ».

ويقول في أعقاب مشاجرة اشترك فيها ابن العاص ومروان وأبن سمية في جهة ، وألحسن بن علي (ع) في جهة ، ما لفظه : « أجاد عمرو الكلام لولا أن حجته دحضت ، وتكلم مروان لولا أن نكص » ، ثم التفت الى زياد وقال : « ما دعاك الى محاورته ، ما كنت الا كالحجل في كف البازي! ».

فقال عمرو : « الا رميت من ورائنا؟ » ، قال معاوية : « اذاً كنت شريككم في الجهل ، أفاخر رجلاً جده رسول الله وهو سيد من مضى ومن بقي ، وأمه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين ». ثم قال لعمرو : « والله لئن سمع به اهل الشام ، لهي السوءة السوءاء » ، فقال عمرو : « لقد ابقى عليك ، ولكنه طحن مروان وزيادا طحن الرحى بثفالها ، ووطئهما وطء البازل القراد بمنسمه! » ، فقال زياد : « قد والله فعل ، ولكن معاوية يأبى الا الاغراء بيننا وبينهم ».

وهكذا شهد على معاوية بالاغراء على هذه المهاترات كل من ابن الزبير ورياد صريحا ، وشهد عليه‌السلام في الكثير من ردوده عليهم. قالوا : « وخلا عبدالله بن عباس بالحسن ، فقبّل بين عينيه وقال : « أفديك يا ابن عم والله ما زال بحرك يزخر ، وانت تصول حتى شفيتني من أولاد .... (١) ».

__________________

١ ـ يراجع المحاسن والمساوىء للبيهقي ( ج ١ ص ٥٩ ـ ٦٤ ) ، والعقد الفريد ( ج ٢ ص ٣٢٣ ) ، والبحار ( ج ١٠ ص ١١٦ ).

وتجد خطب الحسن عليه‌السلام في هذه المشاجرات مجتمعة في كتابنا « أوج البلاغة » ـ فيما اثر عن الامامين الحسنين من الخطب والكتب والكلمات ـ مشروحا.

٢٠٥

وكانت نصوص هذه المشاجرات بصيغها البلاغية ، وقيمها الادبية ، جديرة بالعرض ، كتراث عربي أصيل يدل بنفسه على صحة نسبه ويعطينا بأسلوبه وصياغته ، صورة عن « أدب المشاجرات » في عصره. ولكن الذي رغّبنا عن استعراضها في سطورنا هذه ، ايغالها المؤسف بالتهتار البذيء ، الذي بلغ به صاغة الاكاذيب الامويون غايتهم ، فأساءوا لانفسهم أكثر مما أرادوا بعّد وهم ، وما كانوا محسنين.

واذ قد آثرنا الرغبة عن استعراضها هنا ، فلا نؤثر أن نتجاهل ـ في موضوع الكلام على صبر الحسن عليه‌السلام ـ ما بلغته هذه المجالس ، من الاساءة الى الحسن ، وما بلغه الحسن في نفسه من عظيم الصبر عليها ، وعظيم البلاء في التعرض لها ولا مثالها من اساليب معاوية وأحابيله ، سلما وحربا.

ومما لا شك فيه ، انها كانت مجالس مبيتة ، وكان لها هدفها السياسي المقصود ، وهي من هذه الناحية ، أحد ميادين معاوية ، فيما شنه على الحسن وشيعته من حزب الاعصاب التي استبدل بها حرب الميدان.

ثم كان من ميادين حربه ( الباردة ) ما سيجيء الالمام بطرف منه في الفصول القريبة.

٣ ـ التضحية

واما النوع الفريد من تضحيته ، فهو موقفه من الحكم والسلطان ، وفي سبيل مبدئه.

وقد تكون التضحية بالعرش من صاحب الحق به ، أشد دلالة على انكار الذات من التضحية بالنفس. وانكار الذات في سبيل المبدأ ، أوضح صفات الحسن بن علي (ع) ، وأروع أدواته في جهاده الموصول الحلقات.

وهي على كل حال ، آلم التضحيتين للنفس ، وأطولهما عناء في الحياة ، وأشدهما ارهاقا لكيان الانسان.

٢٠٦

وقديما كان الحرص على العرش أعنف اثرا في نفوس القائمين عليه ، من الحرص على النفس بله المبدأ ، فترى العدد الكثير ممن فدى عرشه بنفسه ، ولا ترى الا عددا ضئيلا جدا ممن فدى نفسه بعرشه.

وفي التاريخ صور بشعة كثيرة من قرابين العروش التي كان يفتدي الملوك عروشهم بها اولا ، وبأنفسهم أخيرا [ اذا لم يكن بد من الفداء بالنفس ].

وعلى مثل هذه النسبة من كثرة التضحية بالنفس في سبيل التاج وندرة التضحية بالتاج في سبيل النفس ، كان الفرق بين قيمتها المعنوية فيما يتواضع عليه الناس من القيم المعنوية للاشياء.

وذلك هو سر ما تستأثر به الحادثة النادرة ، من حوادث السخاء بالعرش من اهتمام الناس ، ولغط الاندية ، وقالة الجماهير. وهو سر ما تستثير من نهم المتطفلين الى الاشتباك بألوان النقاش ومختلف التحاليل والتعاليل. ولا يروى التاريخ حادثة سلطان يتنازل عن عرشه ، ثم لا يختلف عليه الناس ، فمن مصوّب ومخطيء ، وعاذر وعاذل ، [ فقوم له وآخرون عليه ].

الا الحسن بن علي عليهما‌السلام.

فقد خرج عن سلطان ملكه ، وضحّى بامكانياته الدنيوية كلها ، في سبيل مبدئه ، فما شك انسان قط في نيته واخلاصه واستهدافه المصلحة ، وسمّو تضحيته في الله. وسمي عامه « عام الجماعة » اشعارا بالاجماع على موافقته والاخذ برأيه ـ عمليا ـ.

وتلك هي آية عظمته في التاريخ.

وآية مقامه المكين من قلوب المسلمين.

وآية سلطانه الروحي الذي لا يضيره نزع الصولجان.

وشكا بعضهم عزوفه ـ بهذه التضحية ـ عن معركة السلاح وكان من هؤلاء أفراد من كبار شيعته ، ولكن أحدا ممن شكا ذلك بدوافعه الزمنية ،

٢٠٧

لم يشكَّ قط في صحة ما أتاه الامام بدوافعه الدينية ، من صلاح الامة ، وحقن دمائها ، والانتصار لاهدافها.

وسترى فيما تقرأه قريبا ـ في الفصل الاتي ـ أن العاتيين لم ينصفوا الحسن فيما شكوه منه ، أو عتبوا به عليه ، وان الحل الذي اتخذه الحسن للخروج من مشاكله الاخيرة ، كان هو المخرج الوحيد لظرفه الخاص.

ولم يكن الحسن بن علي عليهما‌السلام ، حين قرر النزول الى اصعب التضحيتين ألما في النفس ، وأفضلهما أثرا في الدين ، واقلهما حدوثا في التاريخ ، وأكبرهما قيمة في عرف الناس ، مثارا لشبهة ، أو مجالا لنقد ، أو هدفا لاتهام ، وأين يجد الاتهام أو الشبهة او النقد سبيله فيمن يختار من الوجوه أشدها على نفسه. وأنفعها لغيره ، وأقربها الى ربه. وهو هو الرباني المعترف به ، والمطهر بنص الكتاب عن كل ما يوجب شبهةً أو خطأ او اتهاما.

ومتى كانت الدنيا من حساب الحسن ، حتى يطمع بالحياة فيها ، وحتى يستأخر على حسابها ما ينتظره ـ في لقاء ربه ـ من المقام المحمود ، و ـ في جوار جده وأبويه ـ من الكرامة ، يحبونه بها ويزلفونه الى الله تعالى شأنه؟

ومتى كان الحسن بن علي ، الرعديد الجبان ، حتى يخاف القتل ، فيتقيه بالتنازل عن ملكه. ومن أين تَسمُتُ الى الحسن بن علي الجبانة يا ترى؟. أمن أبيه اسد الله واسد رسوله ، أم من جديه رسول الله صلى الله عليه واله وشيخ البطحاء ، أم من عميه سيدي الشهداء العظيمين حمزة وجعفر ، أم من اخيه أبي الشهداء ، أم من مواقفه المشهورة في مختلف الميادين ، يوم الدار ويوم البصرة وفي مظلم ساباط (١) ، وهو ذلك الرئبال

__________________

١ ـ يراجع « الفخري » عن موقف الحسن يوم الدار ، و « كتاب الجمل » للمفيد عن مواقفه يوم البصرة ، و « اليعقوبي » عن بسالته في حادثة مظلم ساباط.

٢٠٨

الذي « اذا سار سار الموت حيث يسير » على حد تعبير عدوه فيه؟؟؟ [ والفضل ما شهدت به الاعداء ].

وكانت تضحيته بسلطانه لذاتها ، من أروع آيات شجاعته ، لو كانوا يشعرون.

فأين هو الطمع بالحياة ، أو الخوف من القتل.

وليس في موازين الحسن ، الا مبادئُه التي لا يوازنها في حسابه شي ء اخر ، فرأى أن يفدي مبادئه بسلطانه ليحفظ كيانها وكرامتها ، وليحميها من الايدي العادية التي لا تخاف عاجل عار ولا آجل نار ، وتولّى شطر هذه الخطة متساميا على الدنيا لا يتغير ولا ينحرف ولا يحيد ، فاذا به المنتصر في صميم الخذلان ، والفاتح في صميم الهزيمة ، والظافر في صميم الانهيار.

ورضي لنفسه أن تحيا حياة أهون من آلامها الموت ، صيانة لاهدافه من أن تموت ، ورضي لنفسه أن تكون بكل وجودها أداة الخير للغير ، دون أيّ استغلال أو استئثار أو احتكار. وهذا بمفرده ، قصارى ما يصل اليه أفذاذ المصلحين في التاريخ ، وقصارى ما تصبو اليه التربية الاسلامية لتحقيق وجهة النظر الاسلامي ، في نشر الاصلاح في الناس ، وفي تعبئة المبادىء الصحيحة في المجتمع.

وكثير اولئك الذين خدموا مبادئهم ، بتحمل النوائب في أنفسهم ، الا أنّ أحدا من اولئك لم يبلغ مبلغ الحسن فيما تحمله ، من الوانها المختلفة ، التي اصطلحت عليه ، وصحبته كظله الملازم له حتى ختمت حياته ـ في نهاية المطاف ـ بالنكبة الكبرى.

فكان ـ من جميع أطرافه ـ أمثولة الامام الصاعد في مثاليته ، والمصلح العظيم الذي اختط للمصلحين ، آلم التضحيات للنفس ، في سبيل الابقاء على المبدأ.

٢٠٩

وقاد الخطوات المقبلة ، بما زهد فيه من حظوظ الدنيا العاجلة ، فكان زهده في دنياه ، وصبره على مثل حياته ، وتضحيته بملكه ، هو نفسه جهادا في سبيل الله ، وانتصارا في خلود المبدأ ، وأداته في الخلود.

٢١٠

سرّ الموقف

٢١١

ولعلنا لم نأت الى الان ، بشيء ينقع الغليل ، أو يقنع كدليل فيما يرجع الى فهم السرّ الذي تجافى به الحسن عليه‌السلام ، عن الشهادة قتلا ونزل منه الى قبول الصلح عمليا. وهنا نقطة التركز في قضية الحسن منذ حيكت من حولها الاقاويل الكثر ، والنقدات النكر. وليس في ما تتناوله بحوثنا في غضون هذه الدراسة الواسعة الخطوات ، موضوع أجدر بالعناية وبالكشف وبالتحقيق من هذا الموضوع ، بماله من الاهمية الذاتية القائمة بنفسه ، وبما هو « سر الموقف » الذي لم يوفق لازاحة الستار عنه أحد في التاريخ ـ مدى ثلاثة عشر قرنا ونيفا ـ!.

ولكي نكون اكثر توفرا على الاخذ باسباب الغرض الذي نهدف اليه من هذا البحث ، نبدأ اولا بنقل تصريحات اشهر المؤرخين في الموضوع ، ثم نعود ـ بعد ذلك ـ الى غربلتنا الدقيقة للظرف القائم ساعة تسليم الحسن ، وألى نتائجنا من البحث.

١

اليعقوبي في تاريخه :

« وكان معاوية يدس الى عسكر الحسن من يتحدث أن قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه ، ووجه الى عسكر قيس ـ بعد هزيمة عبيدالله ابن عباس ومن معه ـ من يتحدث أن الحسن قد صالح معاوية وأجابه ، ووجه معاوية الى الحسن المغيرة بن شعبة وعبدالله بن كريز وعبدالرحمن ابن أم الحكم وأتوه وهو بالمدائن ، نازل في مضاربه ، ثم خرجوا من عنده وهم يقولون ويسمعون الناس : انّ الله

٢١٢

قد حقن بابن رسول الله الدماء وسكن الفتنة وأجاب الى الصلح ، فاضطرب العسكر ، ولم يشكك الناس في صدقهم ، فوثبوا بالحسن ، فانتهبوا مضاربه وما فيها ، فركب الحسن فرسا له ومضى في مظلم ساباط ، وقد كمن الجراح ابن سنان الاسدي ، فجرحه بمغول (١) في فخذه ، وقبض على لحية الجراح ثم لواها ، فدق عنقه ، وحمل الحسن الى المدائن ، وقد نزف نزفا شديدا ، واشتدت به العلة ، فافترق عنه الناس. وقدم معاوية العراق فغلب على الامر ، والحسن عليل شديد العلة ، فلما رأى الحسن ان لا قوة له به ، وأن اصحابه قد افترقوا عنه فلم يقوموا له ، صالح معاوية .... ».

٢

الطبرى :

« بايع الناس الحسن بن علي عليه‌السلام بالخلافة ، ثم خرج بالناس حتى نزل المدائن ، وبعث قيس بن سعد على مقدمته ( كذا ) في اثنى عشر الفا وأقبل معاوية في أهل الشام حتى نزل مسكن ، فبينا الحسن في المدائن اذ نادى منادٍ في العسكر : الا ان قيس بن سعد قد قتل فانفروا ، فنفروا ونهبوا سرادق الحسن عليه‌السلام ، حتى نازعوه بساطا كان تحته وخرج الحسن حتى نزل المقصورة البيضاء بالمدائن ، وكان عم المختار بن ابي عبيد عاملا على المدائن ، وكان اسمه سعد بن مسعود ، فقال له المختار وهو غلام شاب : هل لك في الغنى والشرف؟ ، قال : وما ذاك؟ ، قال : توثق الحسن وتستأمن به الى معاوية ، فقال له سعد : عليك لعنة الله! ، أثبُ على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوثقه ، بئس الرجل انت!!. فلما رأى الحسن تفرق الامر عنه ، بعث الى معاوية يطلب الصلح وبعث معاوية اليه عبدالله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس ، فقدما على الحسن بالمدائن ، فأعطياه ما أراد وصالحاه ».

__________________

١ ـ : ( نصل طويل ).

٢١٣

٣

ابن الاثير في الكامل :

« فلما نزل الحسن المدائن ، نادى منادٍ في العسكر : الا ان قيس بن سعد قتل فانفروا ، فنفروا بسرادق الحسن ونهبوا متاعه ».

( وساق حديث الطبري المذكور قبله ) ، ثم قال :

« .. وقيل انما سلم الحسن الامر الى معاوية ، لانه لما راسله معاوية في تسليم الخلافة ( كذا ) ، خطب الناس ، فحمد الله واثنى عليه وقال : انا والله ما يثنينا عن أهل الشام شكّ ولا ندم ، وانما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر ، فشيبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع ، وكنتم في مسيركم الى صفين ، ودينكم امام دنياكم ، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم. الا وقد أصبحتم بين قتيلين قتيل بصفين تبكون له ، وقتيل بالنهروان تطلبون بثاره. أما الباقي فخاذل ، وأما الباكي فثائر. الا وان معاوية دعانا لامر ليس فيه عزّ ولا نصفة ، فان أردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه الى الله عزوجل بظبا السيوف. وان اردتم الحياة قبلناه واخذنا لكم الرضا .. فناداه الناس من كل جانب : البقية البقية ، وأمض الصلح ».

٤

ابن ابى الحديد في شرح النهج :

« عن المدائني ، قال : ثم وجه عبدالله بن عباس ( كذا ) ومعه قيس بن سعد بن عبادة مقدمة له في اثنى عشر الفا الى الشام ، وخرج هو يريد المدائن فطعن بساباط وانتهب متاعه ، ودخل المدائن وبلغ ذلك معاوية فاشاعه ، وجعل اصحاب الحسن الذين وجههم مع عبدالله يتسللون الى معاوية ،

٢١٤

الوجوه وأهل البيوتات ، فكتب عبدالله بن عباس بذلك الى الحسن عليه‌السلام ، فخطب الناس ووبخهم وقال : خالفتم أبي حتى حكَّم وهو كاره ، ثم دعاكم الى قتال أهل الشام بعد التحكيم ، فأبيتم حتى صار الى كرامة الله ثم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني ، وقد أتاني أن اهل الشرف منكم قد أتوا معاوية وبايعوه ، فحسبي منكم لا تعروني من ديني ونفسي. وأرسل عبدالله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وأمه هند بنت أبي سفيان بن حرب الى معاوية يسأله المسالمة ، واشترط عليه العمل بكتاب الله وسنة نبيه ، وان لا يبايع لأحد بعده ».

المفيد في الارشاد :

« وكتب جماعة من رؤساء القبائل الى معاوية بالسمع والطاعة في السرّ استحثوه على المسير نحوهم ، وضمنوا له تسليم الحسن اليه عند دنوّهم من عسكره ، أو الفتك به ، وبلغ الحسن ذلك ، وورد عليه كتاب قيس بن سعد وكان قد أنفذه مع عبيدالله بن العباس عند مسيره من الكوفة ، ليلقى معاوية ويرده عن العراق ، وجعله أميرا على الجماعة. وقال : ان أصبت فالامير قيس بن سعد. فوصل كتاب قيس بن سعد يخبره أنهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها الجنوبية بازاء مسكن ،وأن معاوية ارسل الى عبيدالله بن العباس يرغبه في المصير اليه ، وضمن له الف الف درهم ، يعجل له منها النصف ويعطيه النصف الاخر عند دخوله الى الكوفة. فانسل عبيدالله في الليل الى معسكر معاوية في خاصته ، وأصبح الناس قد فقدوا اميرهم فصلى بهم قيس بن سعد ونظر في أمورهم. فازدادت بصيرة الحسن بخذلان القوم له ، وفساد نيات المحكمة فيه بما اظهروا من السب والتكفير له واستحلال دمه ونهب امواله ، ولم يبق معه من يأمن غوائله الا خاصته من

٢١٥

شيعة أبيه وشيعته ، وهم جماعة لا تقوم لاجناد الشام. فكتب اليه معاوية في الهدنة والصلح ، وانفذ اليه بكتب أصحابه الذين ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه اليه ، فاشترط له على نفسه في اجابته الى صلحه شروطا كثيرة ، وعقد له عقودا كان في الوفاء بها مصالح شاملة. فلم يثق به الحسن وعلم باحتياله بذلك ، واغتياله ، غير أنه لم يجد بدا من اجابته الى ما التمس من ترك الحرب وانفاذ الهدنة ، لما كان عليه أصحابه مما وصفناه من ضعف البصائر في حقه والفساد عليه والخلف منهم له ، وما انطوى عليه كثير منهم في استحلال دمه ، وتسليمه الى خصمه ، وما كان من خذلان ابن عمه له ، وميله الى عدوه ، وميل الجمهور منهم الى العاجلة وزهدهم في الآجلة .. ».

أقول :

ثم لا تجد في أكثر الموسوعات التاريخية الاخرى ، عرضا يحفل بشيء من التفصيل عن قضية الحسن عليه‌السلام ، يشبه هذه العروض ، على ما بينها من تضارب في استعراض الحقائق التاريخية ، وعلى ما فيها من نقص في العرض وأختزال في التعبير.

فيرى أحدهم ـ كما رأيت ـ ان الذي طلب الصلح هو الحسن ، ويرى الاخر أنه معاوية ، ويرى بعضهم ان سبب طلبه الصلح أو قبوله اياه هو فتن الشام في المعسكرين [ مسكن والمدائن ] ، ثم يختلفون في نوع الفتنة. بينما يرى البعض الاخر ان سبب قبول الصلح من جانب الحسن هو تفرق الناس عنه بعد اصابته ومرضه. ويرى ثالث منهم أن السبب هو نكول الناس عن القتال معه كما يدل عليه جوابهم على خطبته « بالبُقيَة البُقيَة » وقولهم له صريحا « وأمض الصلح ». ويرى الرابع ، ان فرار قائده وخيانة اصحابه واستحلال بعضهم دمه وعدم كفاية الباقين للقتال ، هو السبب لقبوله الصلح.

ثم لا يزالون مختلفين في تسمية قائد المقدمة ، فيسميه أحدهم عبدالله ابن عباس ، ويسميه الثاني قيس بن سعد بن عبادة ، ويسميه الثالث عبيدالله

٢١٦

ابن العباس ...

وما انكى النكبة التي تتعرض لها القضية التاريخية ، حين يخبط بها مؤرخوها هذا الخبط ، ويخلطون حقائقها بموضوعاتها هذا الخلط.

ومرت المصادر الاخرى على هذه القضية ، مرورها على القضايا الهامشية في التاريخ ، دون أن تستفزها الاحداث الكبرى ، التي حفلت بها هذه الحقبة القصيرة من الزمن ، التي هي عهد الحسن في الخلافة الاسلامية العامة ، وعهد الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية ، وعهد انقلاب الخلافة الى الملك ، وعهد انبثاق الحزازات الطائفية في الاسلام.

ولم يعن مؤرخو قضية الحسن من الصنفين ـ المفصلين والموجزين ـ بأكثر من الاشارة الى الظروف المتأزمة التي كان من طبيعتها أن تشفع لدى الحسن بقبول الصلح أو تضطرَّه اليه ، فمن مذعن ساكت لا يبدي رأيا ، ومن مصوب عاذر يتزيد الحجج ويعدد المعاذير ، ومن ناقد جاهل خفي عليه « سر الموقف » فراح يكشف عن سر نفسه من التعصب الوقح والتحامل المرير.

ولم يكن فيما توفر عليه كل من الاصدقاء والناقمين في استعراضهم التاريخي للمآزق التي تعرض لها الحسن عليه‌السلام ، ما يحول بنسقه دون النقد الجارح [ أو قل ] ما يجيب بأسلوبه على السؤال المتأدب ، في عزوف الحسن عن « الشهادة » التي كانت ـ ولا شك ـ افضل النهايتين ، وأجدرهما بالامام الخالد.

وكان الكلام على كشف هذا السرّ لو قدروا عليه هو نفسه الدليل الكاشف عن السبب الجوهري فيما صار اليه الامام من اختيار الصلح ، دون أن يحتاجوا الى جهد اخر في تعداد المحن أو استعراض المآزق الصعاب لان شيئا من ذلك لا يدلّ في عرف الناقمين ولا المستفهمين ، على انحصار المخرج بالصلح ، ولا يغلق في وجوههم ، احتمال ظرف الحسن للشهادة ،

٢١٧

كما احتملها ظرف اخيه الحسين ، فيما كان قد اصطلح عليه من مضايقات هي في الكثير من ملامحها ، صورة طبق الاصل عن ظروف أخيه ، وقد خرج منها بالشهادة دون الصلح ، وكانت آية خلوده في تاريخ الانسانية الثائرة على الظلم.

اذاً ، فلماذا لم يفعل الحسن اولاً ، ما فعله الحسين اخيراً؟.

ألِجبُنٍ ـ واستغفر اللّه ـ وما كان الحسين بأشجع من الحسن جناناً ، ولا امضى منه سيفاً ، ولا اكثر منه تعرضاً لمهاب الاهوال. وهما الشقيقان بكل مزاياهما العظيمة ، خُلُقاً ، وديناً ، وتضحيةً في الدين ، وشجاعة في الميادين ، وابنا أشجع العرب ، فأين مكان الجبن منه يا ترى؟.

أم لطمع بالحياة ، وحاشا الامام الروحي المعطر التاريخ ، أن يؤثر الحياة ، على ما ادخره اللّه له من الكرامة والملك العظيم ، في الجنان التي هو سيد شبابها الكريم ، والطليعة من ملوكها المتوجين ، وما حياة متنازل عن عرشه ، حتى تكون مطمعاً للنفوس العظيمة التي شبت مع الجهاد ، وترعرعت على التضحيات؟.

أم لانه رضي معاوية لرياسة الاسلام ، فسالمه وسلم له ، وليس مثل الحسن بالذي يرضى مثل معاوية ، وهذه كلماته التي أثرت عنه في شأن معاوية ، وكلها صريحة في نسبة البغي اليه ، وفي وجوب قتاله ، وفي عدم الشك في أمره ، وفي كفره اخيراً.

فيقول فيما كتبه اليه أيام البيعة في الكوفة : « ودع البغي واحقن دماء المسلمين ، فواللّه مالك خير في أن تلقى اللّه من دمائهم بأكثر مما انت لاقيه به (١)! .. ».

ويقول وهو يجيب أحد اصحابه العاتبين عليه بالصلح : « واللّه لو وجدت انصاراً لقاتلت معاوية ليلي ونهاري (٢) ».

__________________

١ ـ شرح النهج ( ج ٤ ص ١٢ ).

٢ ـ احتجاج الطبرسي (١٥١).

٢١٨

ويقول في خطابه التاريخي في المدائن « انا واللّه ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم .. ».

ويقول لابي سعيد فيما نقلناه عنه آنفاً : « علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول اللّه لبني ضمرة وبني أشجع ولاهل مكة ، حين انصرف من الحديبية ، اولئك كفار بالتنزيل ، ومعاوية وأصحابه « كفار » بالتأويل.

اذاً ، فما سالم معاوية رضا به ، ولا ترك القتال جبناً عن القتال ، ولا تجافى عن الشهادة طمعاً بالحياة ، ولكنه صالح حين لم يبق في ظرفه احتمال لغير الصلح ، وبذلك ينفرد الحسن عن الحسين ، اذ كان للحسين محرجان ميسّران من ظرفه ـ الشهادة والصلح ـ ولن يتأخر افضل الناس عن أفضل الوسيلتين ، اما الحسن فقد اغلق في وجهه طريق الشهادة ، ولم يبق أمامه الا باب واحد لا مندوحة له ومن ولوجه.

وأقول ذلك وانا واثق بما أقول.

وقد يبدو مستغرباً قولي [ أغلق في وجهه طريق الشهادة ] ، وهل شهادة المؤمن الذي نزل للّه عن حقه في حياته ، الا أن يقتحم الميدان مستقتلاً في سبيل اللّه ، تاركاً ما في الدنيا للدنيا ، وبائعاً للّه نفسه تنتاشه السيوف ، وتنهل من دمه الاسنة والرماح ، فاذا هو الشهيد الخالد. وكيف يغلق مثل هذا على مجاهدٍ له من ميدانه متسع للجهاد؟. وللحسن ميدانه الذي يواجه به العدوّ في « مسكن » ، فلماذا لم يخفَّ اليه؟. ولم لم نسمع أنه وصله أو بارز العدوّ فيه ، أو اقتحمه اقتحامة الموت ، يوم ضاقت به الدنيا ، فسدّت في وجهه كل باب الا باباً واحداً؟. وانه لو فعل ذلك فبرز الى ميدانه مستميتاً ، لاستمات بين يديه عامة شيعته المخلصين لاهدافه ، فانما كانوا ينتظرون منه كلمته الاخيرة لخوض غمرات الموت.

نعم ، ومن هنا كان مهبّ الرياح التي اجتاحت قضية الحسن بين قضايا أهل البيت عليهم‌السلام ، ومن هنا جاءت الشبهات التي نسجت هيكل المشكلة التاريخية التي لغا حولها اللاغون ما شاء لهم اللغو ، فزادوا

٢١٩

الواقع تعقيداً وابتعاداً به عن فهم الناس.

ثم كان من طبيعة هذا اللغو ـ أبعد ما يكون عن التغلغل في الصميم من تسلسل الحوادث ـ أن يرتجل الاحكام ، وأن يتناول قبل كل شيء سياسة الحسن فينبزها بالضعف ، ويتطاول عليها بالنقد غير مكترث ولا مرتاب.

وسنرى بعد البحث ، أيّ هاتيك الآراء مما اختاره الحسن أو مما افترضه الناقدون ، كان أقرب الى الصواب ، وانفذ الى صميم السياسة.

وما كان الحسن في عظمته بالرجل الذي تستثار حوله الشبه ، ولا بالزعيم الذي يسهل على ناقده أن يجد المنفذ الى نقده والمأخذ عليه.

واذ قد انتهينا الآن عامدين ، الى مواجهة المشكلة في صميمها ، وبما حيك حولها من نقدات ونقمات ، فمن الخير أن نسبق الكلام على حلها ، باستحضار حقائق ثلاث ، هنَّ هنا أصابع البحث التي تمتد بتدّرج رقيق الى كشف الغطاء عن السرّ ، فاذا الموضوع كله وضوح بعد تعقيد ، وعذر بعد نقمة ، وتعديل بعد تجريح.

الاولى في بيان معنى الشهادة.

والثانية في رسم صورة مصغرة عن الواقع الذي حاق بالحسن في لحظاته الاخيرة في « المدائن ».

والثالثة في خطة معاوية تجاه أهداف الحسن عليه‌السلام.

وسيجرنا البحث الى التلميح بحقائق تقدم عرضها في أطواء دراستنا السابقة في الكتاب ، ولكن الحرص على استيفاء ما يجب أن يقال هنا ، هو الذي سوّغ لنا هذا التجاوز فرأيناه جائزاً.

١ ـ الشهادة في اللّه :

٢٢٠