زبدة التّفاسير - ج ٣

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٣

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-05-1
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٦٣٦

(وَمِنْهُمْ) ومن هؤلاء المنافقين (مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) في القعود عن الجهاد (وَلا تَفْتِنِّي) ولا توقعني في الفتنة. وهي الإثم الّذي يلزم العصيان والمخالفة ، بأن لا تأذن لي ، فإنّي إن تخلّفت بعد أمرك بالجهاد أثمت. وفيه إشعار بأنّه لا محالة متخلّف ، أذن له أو لم يأذن. أو في الفتنة. بسبب ضياع المال والعيال ، إذ لا كافل لهم بعدي. أو في الفتنة بنساء الروم ، لما روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا استنفر الناس إلى تبوك فقال : انفروا لعلّكم تغنمون بنات الأصفر ، يعني : نساء الروم ، فقال جدّ بن قيس أخو بني سلمة من بني الخزرج : يا رسول الله ائذن لي ولا تفتنّي ببنات الأصفر ، ولكنّي أعينك بمالي ، فاتركني فإنّي أخاف أن أفتن بهنّ ، لأنّي مستهتر بالنساء. فقال : أذنت لك.

(أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي : الفتنة هي الّتي سقطوا فيها ، وهي فتنة التخلّف أو ظهور النفاق ، لا ما احترزوا عنه (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) جامعة لهم يوم القيامة أو الآن ، لأنّ إحاطة أسبابها بهم كوجودها ، فكأنّهم في وسطها.

(إِنْ تُصِبْكَ) في بعض غزواتك (حَسَنَةٌ) ظفر وغنيمة (تَسُؤْهُمْ) لفرط حسدهم (وَإِنْ تُصِبْكَ) في بعضها (مُصِيبَةٌ) كسر وشدّة وبليّة ، كما أصاب يوم أحد (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا) الّذي نحن متّسمون به ، من الحذر والعمل بالحزم والتيقّظ (مِنْ قَبْلُ) من قبل ما وقع ، أي : تبجّحوا (١) بانصرافهم ، واستحمدوا رأيهم في التخلّف (وَيَتَوَلَّوْا) عن مقام التحدّث بذلك والاجتماع له إلى أهاليهم ، أو عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَهُمْ فَرِحُونَ) مسرورون.

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) إلّا ما اختصّنا بإثباته وإيجابه ، من النصرة أو الشهادة ، أو ما كتب لأجلنا في اللوح المحفوظ ، لا يتغيّر بموافقتكم ولا بمخالفتكم. (هُوَ مَوْلانا) متولّي أمورنا وناصرنا (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)

__________________

(١) تبجّح وتباجح أي : افتخر وتعظّم وتباهي.

١٢١

لأنّ حقّهم أن لا يتوكّلوا على غيره تعالى ، فليفعلوا ما هو حقّهم.

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا) تنتظرون بنا (إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) إحدى العاقبتين اللّتين كلّ منهما حسنى العواقب : النصرة والشهادة (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) أيضا إحدى السوأيين (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) بقارعة من السماء ، كما نزلت على عاد وثمود (أَوْ بِأَيْدِينا) أو بعذاب بأيدينا ، وهو القتل على الكفر (فَتَرَبَّصُوا) ما هو عاقبتنا (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) ما هو عاقبتكم ، فإنّه لا بدّ أن يلقى كلّنا ما يتربّصه ولا يتجاوزه. والمراد بالأمر التهديد ، كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (١).

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧))

ثمّ بيّن سبحانه أنّ هؤلاء المنافقين لا ينتفعون بما ينفقونه مع إقامتهم على

__________________

(١) فصّلت : ٤٠.

١٢٢

الكفر ، فقال : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) طائعين أو مكرهين (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) نفقاتكم. والأمر في معنى الخبر ، كقوله : (مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ) (١). ومعناه : لن يتقبّل منكم ، أنفقتم طوعا أو كرها. ونحوه قوله : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (٢) أي : لن يغفر الله لهم ، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم. وفي تساوي الإنفاقين مبالغة في عدم القبول. وهذا جواب قول جدّ بن قيس : وأعينك بمالي. ونفي التقبّل يحتمل أمرين : أن لا يؤخذ منهم ، وأن لا يثابوا عليه.

وقوله : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) تعليل له على سبيل الاستئناف ، وما بعده بيان وتقرير له ، أعني : قوله : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) وقرأ حمزة والكسائي : أن يقبل بالياء ، لأنّ تأنيث النفقات غير حقيقيّ (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) متثاقلين (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) لأنّهم لا يرجون بهما ثوابا ، ولا يخافون على تركهما عقابا.

(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) الإعجاب بالشيء أن يسرّ به سرور راض به متعجّب من حسنه. والخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمراد جميع المؤمنين. والمعنى : فلا تستحسنوا ما أوتوا به من زينة الدنيا ، فإنّ ذلك استدراج ووبال لهم ، كما قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب ، وما يرون فيها من الشدائد والمصائب (وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتّع عن النظر في العاقبة ، فيكون ذلك استدراجا لهم.

وأصل الزهوق الخروج بصعوبة.

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) أي : لمن جملة المسلمين (وَما هُمْ مِنْكُمْ) لكفر قلوبهم (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلون

__________________

(١) مريم : ٧٥.

(٢) التوبة : ٨٠.

١٢٣

بالمشركين ، فيظهرون الإسلام تقيّة.

(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) حصنا يلجؤون إليه ، متحصّنين به من راس جبل أو قلعة (أَوْ مَغاراتٍ) غيرانا (١) ، من : أغار الرجل وغار إذا دخل الغور. وقيل : هو تعدية غار الشيء وأغرته أنا ، يعني : أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم. (أَوْ مُدَّخَلاً) مفتعل من الدخول. وأصله : مدتخلا ، أبدل التاء بعد الدال دالا ، أي : نفقا ينجحرون (٢) فيه.

وقرأ يعقوب : مدخلا ، من : دخل ، أي : موضع دخول يأوون إليه. (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ) لأقبلوا نحوه (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) يسرعون إسراعا لا يردّهم شيء ، كالفرس الجموح.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩))

روى الثعلبي في تفسيره : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقسّم غنائم حنين ، فاستعطف قلوب أهل مكّة بتوفير الغنائم عليه. فقال ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج : اعدل يا رسول الله. فقال : ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟ فقال عمر : يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه. فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعه ، فإنّ له أصحابا يحتقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. ثمّ قال : رأسهم رجل أسود في إحدى ثدييه أو إحدى يديه مثل

__________________

(١) جمع الغار.

(٢) انجحر أي : دخل الجحر.

١٢٤

ثدي المرأة ، أو مثل البضعة (١) تدردر (٢) ، يخرجون على فترة من الناس. وفي حديث آخر : فإذا خرجوا فاقتلوهم ، ثمّ إذا خرجوا فاقتلوهم ، ثمّ إذا خرجوا فاقتلوهم.

قال أبو سعيد الخدري : أشهد أنّي سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأشهد أنّ عليّا عليه‌السلام حين قتلهم وأنا معه جيء بالرجل على النعت الّذي نعته رسول الله.

وفي ابن أبي خويصرة نزلت : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ) يعيبك ويطعن عليك.

وقرأ يعقوب : يلمزك بالضمّ ، وابن كثير : يلامزك. (فِي الصَّدَقاتِ) في قسمتها.

ثمّ وصفهم بأنّ رضاهم وسخطهم لأنفسهم لا للدين ، فقال : (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا) وطابت نفوسهم وأقرّوا بالله (وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) «إذا» للمفاجأة نائب مناب الفاء الجزائيّة.

وقيل : إنّها نزلت في أبي الجواظ المنافق ، قال : الا ترون إلى صاحبكم إنّما يقسّم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم أنّه يعدل. وقال ابن زيد : قال المنافقون : ما يعطيها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا من أحبّ ، ولا يؤثر بها إلّا من هواه ، فنزلت.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) بما أعطاهم الرسول من الغنيمة أو الصدقة. وذكر الله للتعظيم ، وللتنبيه على أنّ ما فعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بأمره تعالى (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) كفانا فضله (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) صدقة أو غنيمة اخرى (وَرَسُولُهُ) فيؤتينا أكثر ممّا آتانا اليوم (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) في أن يغنينا من فضله. والآية بأسرها في حيّز الشرط ، والجواب محذوف ، تقديره : لكان خيرا لهم.

__________________

(١) البضعة : القطعة من اللحم.

(٢) أي : ترجرج وتجيء وتذهب. راجع لسان العرب ٤ : ٢٨٣.

١٢٥

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠))

ثمّ بيّن مصارف الصدقات تصويبا وتحقيقا لما فعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودلالة على أنّ أهل النفاق ليسوا من مستحقّيها ، وأنّهم بعداء عن مصارفها ، فما لهم التكلّم فيها ولمن قاسمها ، فقال : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) أي : الزكوات لهؤلاء الأصناف الثمانية مختصّة بهم ، ولا يجوز صرفها في غيرهم ، ونحوه : إنّما السخاء لحاتم ، أي : ليس لغيره ، ويحتمل أن يصرف إلى بعضها. وعن حذيفة وابن عبّاس وغيرهما من الصحابة أنّهم قالوا : في أيّ صنف منها وضعتها أجزأك. وهو مذهبنا.

فأتى بـ «إنّما» الّتي للحصر للدلالة على أنّه لا يستحقّها سوى هؤلاء المذكورين.

واختلف في اللام في الفقراء هل للتمليك أو لبيان المصرف؟ فقال الشافعي : بالأوّل ، فيجب البسط على الأصناف ، ويعطى من كلّ صنف ثلاثة لا أقلّ. وقال مالك وأبو حنيفة بالثاني ، فلا يجب البسط ، بل لو أعطى زكاته واحدا من أيّ صنف كان جاز ، لكن أبو حنيفة لا يعطي ما يؤدّي إلى الغنيّ ، فلو خالف فعل مكروها ، وملكه المعطى ، وبرئت الذمّة. ومالك يجوّز ذلك إذا أمّل إغناءه.

وقال أصحابنا : يجوز أيّ صنف كان ولو واحدا منهم ، لكنّ البسط أفضل ، وبذلك قال ابن عبّاس وحذيفة وغيرهما من الصحابة ، لأنّ كون اللام للتمليك لا وجه له ، فإنّ المستحقّ لا يملك قبل الأخذ ، ولأنّ حملها على بيان المصرف موافق لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي عابه المنافقون ، فيكون أولى.

والفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته ، من الفقار ، كأنّه أصيب

١٢٦

فقاره. والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه ، من السكون ، كأنّ العجز أسكنه.

ويدلّ عليه قوله : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) (١). وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسأل المسكنة ويتعوّذ من الفقر. وقيل : بالعكس ، لقوله تعالى : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) (٢). أو الفقير الزمن المحتاج ، والمسكين الصحيح المحتاج. أو الفقير هو المتعفّف الّذي لا يسأل ، والمسكين الّذي يسأل. وروي ذلك عن أبي جعفر عليه‌السلام ، ومنقول عن ابن عبّاس والحسن والزهري ومجاهد. وقيل : بالعكس. وقيل : إنّهما قسم واحد ، والثاني تأكيد الأوّل ، كعطشان نطشان (٣). والتحقيق : أنّهما يشتركان في معنى عدمي ، وهو عدم ملك مؤونة السنة له ولعياله الواجبي النفقة لو كان غنيّا.

(وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) الساعين في تحصيلها وجمعها (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) قوم أسلموا ونيّتهم ضعيفة فيه ، فيستألف قلوبهم. أو أشراف من العرب يترقّب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم. وقد أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعبّاس بن مرداس لذلك. وقيل : أشراف يستألفون على أن يسلموا ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعطيهم. وقيل : كان سهم المؤلّفة لتكثير سواد الإسلام والاستعانة بهم ، فلمّا أعزّه الله وأكثر أهله سقط.

(وَفِي الرِّقابِ) وللصرف في فكّ الرقاب. وهم المكاتبون يعانون بشيء من الزكاة على أداء النجوم ليفكّوا رقابهم من الرقّ. والعبيد إذا كانوا في شدّة يشترون منها ويعتقون ، ويكون ولاؤهم لأرباب الزكاة. وعندنا يجوز ابتياع العبيد مطلقا من الزكاة مع عدم المستحقّ ، أمّا مع وجوده فلا. والعدول عن اللام إلى «في» في الأربعة الأخيرة للدلالة على أنّهم أحقّ بأن توضع فيهم الصدقات ممّن سبق ذكره ، لأنّ «في» للوعاء ، وعلى أنّ المستحقّين قسمان : قسم يقبض لنفسه ، وهم الفقراء

__________________

(١) الكهف : ٧٩.

(٢) البلد : ١٦.

(٣) النطش : شدّة جبلة الخلق. وعطشان نطشان : إتباع. راجع لسان العرب ٦ : ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

١٢٧

والمساكين والعاملون والمؤلّفة. فهؤلاء يصرفونه في أيّ جهة شاؤا ، فهم مختصّون به ، فناسب ذلك اللام. وقسم يقبض لأجل جهة معيّنة يصرفه فيها ، ولا يجوز صرفه في غيرها. وهم الرقاب والغارمون وابن السبيل ، فناسب ذلك «في».

(وَالْغارِمِينَ) هم الّذين ركبتهم الديون في غير معصية ، إذا لم يكن لهم وفاء (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) وللصرف في الجهاد بالإنفاق على ابتياع الكراع (١) والسلاح إجماعا. وقيل : يدخل فيه بناء القناطر والمصانع وسائر مصالح المسلمين.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) المسافر المنقطع عن ماله في الغربة ، وإن كان غنيّا في بلده.

وإنّما سمّي ابن السبيل للزومه الطريق ، فنسب إليه. ويشترط في استحقاقه كون سفره مباحا. والضيف إن كان منقطعا به في غير بلده فهو داخل في ابن السبيل.

وإنّما كرّر «في» الأخيرين ، ولم يعطف على الرقاب كما عطف الغارمين عليه ، لفضل ترجيح لهما.

(فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) مصدر لما دلّ عليه الآية ، أي : فرض لهم الصدقات فريضة. أو حال من الضمير المستكن في «للفقراء». (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يضع الأشياء في مواضعها.

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١))

روي أنّ جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد وشاس بن قيس

__________________

(١) الكراع : اسم يطلق على الخيل والبغال والحمير.

١٢٨

ومخشى بن حمير ورفاعة بن عبد المنذر وغيرهم قالوا ما لا ينبغي للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذمّوه. فقال رجل منهم : لا تفعلوا فإنّا نخاف أن يبلغ محمّدا ما تقولون فيوقع بنا.

فقال الجلاس بن سويد : بل نقول ما شئنا ثمّ نأتيه فيصدّقنا بما نقول ، فإنّ محمّدا أذن سامعة ، فنزلت : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) الاذن الرجل الّذي يصدّق كلّ ما يسمع ، ويقبل قول كلّ أحد. والمعنى : هو يسمع كلّ ما يقال له ويصدّقه. سمّي بالجارحة للمبالغة ، كأنّه من فرط استماعه صار جملته آلة السماع ، كما سمّي الجاسوس عينا لذلك. أو اشتقّ له فعل من : أذن اذنا إذا استمع ، كأنف وشلل.

(قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) تصديق لهم بأنّه أذن ولكن لا على الوجه الّذي ذمّوا به ، بل من حيث إنّه يسمع الخير ويقبله.

ثمّ فسّر ذلك بقوله : (يُؤْمِنُ بِاللهِ) يصدّق به ، لما قام عنده من الأدلّة (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) ويصدّقهم ، لما علم من خلوصهم. واللام مزيدة للتفرقة بين إيمان التصديق ، فإنّه بمعنى التسليم ، وإيمان الأمان ، كما في قوله : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) (١).

(وَرَحْمَةٌ) أي : هو رحمة (لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) لمن اظهر الايمان ، حيث يقبله ولا يكشف سرّه ولا يفضحه ، فلا يفعل به ما يفعل بالمشركين ، مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإبقاء عليه. وفيه تنبيه على أنّه ليس يقبل قولكم جهلا بحالكم ، بل رفقا بكم وترحّما عليكم.

وقرأ حمزة : ورحمة بالجرّ ، عطفا على «خير» أي : هو أذن خير ورحمة ، ولا يسمع غيرهما. وقرأ نافع : أذن بالتخفيف فيهما.

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بإيذائه. وقيل : نزلت هذه الآية

__________________

(١) يوسف : ١٧.

١٢٩

في رجل من المنافقين يقال له : نبتل بن الحارث ، وكان رجلا أدلم (١) أحمر العينين أسفع (٢) الخدّين مشوّه الخلقة ، وكان ينمّ حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المنافقين. فقيل له : لا تفعل. فقال : إنّما محمد أذن ، من حدّثه شيئا صدّقه ، نقول ما شئنا ثمّ نأتيه ونحلف له فيصدّقنا. وهو الّذي قال فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢))

وقيل : إنّ جلاس بن سويد وغيره من المنافقين قالوا : لئن كان ما يقول محمّد حقّا فنحن شرّ من الحمير. وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له : عامر بن قيس ، فقال : والله ما يقول محمد حقّ ، وأنتم شرّ من الحمير. ثمّ أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره ، فدعاهم فسألهم ، فحلفوا أنّ عامرا كذب. فنزلت : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) على معاذيرهم فيما قالوا (لِيُرْضُوكُمْ) لترضوا عنهم ، والخطاب للمؤمنين (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أحقّ بالإرضاء بالطاعة والوفاق. وتوحيد الضمير لتلازم الرضاءين. أو لأنّ الكلام في إيذاء الرسول وإرضائه. أو لأنّ التقدير : والله أحقّ أن يرضوه ، والرسول كذلك. (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) باطنا وظاهرا ، مذعنين بنبوّة محمد مقرّين به.

وقيل : إنّها نزلت في رهط من المنافقين تخلّفوا عن غزوة تبوك ، فلمّا رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم من تخلّفهم ويحلفون.

__________________

(١) الأدلم : الذي اشتدّ سواده في ملوسة.

(٢) الأسفع : أسود اللون إلى حمرة.

١٣٠

(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤))

ثمّ قال سبحانه على وجه التقريع والتوبيخ لهؤلاء المنافقين : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ) أنّ الشأن (مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) يشاققهما ، مفاعلة من الحدّ (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) على حذف الخبر ، أي : فحقّ أنّ له ، أو على تكرير «أنّ» للتأكيد.

ويجوز أن يكون معطوفا على «أنّه» ، ويكون الجواب محذوفا ، تقديره : من يحادد الله ورسوله يهلك فأنّ له نار جهنّم خالدا فيها (ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) يعني : الهلاك الدائم.

روي : أنّ المنافقين كانوا يستهزؤن بالإسلام ، فكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي ، فنزلت في شأنهم : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) أي : على المؤمنين (سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) وتهتك عليهم أستارهم. ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين ، فإنّ النازل فيهم كالنازل عليهم ، من حيث إنّه مقروء ومحتجّ به عليهم.

وقيل : اللفظ لفظ الخبر ومعناه الأمر ، أي : ليحذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورة تخبرهم بما في قلوبهم من النفاق. وهذا حسن ، لأنّ موضع الكلام على التهديد ، لقوله : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا) أي : اطلبوا الهزء ، هو وعيد بلفظ الأمر (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ) مبرز أو مظهر (ما تَحْذَرُونَ) ما تحذرونه من إنزال السورة فيكم ، أو ما تحذرون إظهاره من مساويكم.

وقيل : هذا الحذر أظهروه على وجه الاستهزاء لا على سبيل التصديق ، لأنّهم

١٣١

حين رأوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينطق في كلّ شيء عن الوحي ، قال بعضهم لبعض :

احذروا ألّا ينزل وحي فيكم ، يتناجون بذلك ويضحكون به.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩))

روي عن ابن كيسان : أنّ اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا على العقبة ليفتكّوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند رجوعه من تبوك ، فأخبر جبرئيل عليه‌السلام رسول الله

١٣٢

بذلك ، وأمره أن يرسل إليهم أحدا ويضرب وجوه رواحلهم. وعمّار كان يقود دابّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحذيفة يسوقها. فقال لحذيفة : اضرب وجوه رواحلهم.

فضربها حتّى نحّاهم. فلمّا نزل قال لحذيفة : من عرفت من القوم؟ قال : لم أعرف منهم أحدا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه فلان وفلان ، حتّى عدّهم كلّهم. فقال حذيفة : ألّا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال : أكره أن تقول العرب : لمّا ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم.

وروي عن أبي جعفر عليه‌السلام مثله ، إلّا أنّه قال : ائتمروا بينهم ليقتلوه ، وقال بعضهم لبعض : إن فطن نقول : إنّما كنّا نخوض ونلعب ، وإن لم يفطن نقتله. فنزلت : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) قيل : نزلت في ركب المنافقين مرّوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة تبوك ، فقالوا : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه ، هيهات هيهات. فأخبر الله تعالى به نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعاهم ، فقال : قلتم كذا وكذا؟ فقالوا : لا والله ما كنّا في شيء من أمرك وأمر أصحابك ، ولكن كنّا في شيء ممّا يخوض فيه الركب ليقصّر بعضنا على بعض السفر ، أي : مشقّته.

(قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) توبيخا على استهزائهم بمن لا يصحّ الاستهزاء به ، وإلزاما للحجّة عليهم ، وإشعارا بعدم الاعتداد باعتذارهم الكاذب.

ثمّ أمر الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول لهؤلاء المنافقين : (لا تَعْتَذِرُوا) لا تشتغلوا باعتذاراتكم ، فإنّها معلومة الكذب (قَدْ كَفَرْتُمْ) قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والطعن فيه (بَعْدَ إِيمانِكُمْ) بعد إظهاركم الايمان (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) لتوبتهم وإخلاصهم ، أو لتجنّبهم عن الإيذاء والاستهزاء (نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) مصرّين على النفاق ، أو مقدمين على الإيذاء والاستهزاء. وقرأ

١٣٣

عاصم بالنون فيهما (١) ونصب طائفة.

ثمّ بيّن أحوال المنافقين منهم بقوله : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي : متشابهة في النفاق والبعد عن الإيمان ، كأبعاض الشيء الواحد. وهو تكذيب لهم فيما حلفوا (بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) (٢) وتقرير لقوله : (وَما هُمْ مِنْكُمْ) (٣) ، وما بعده كالدليل عليه ، فإنّه يدلّ على مضادّة حالهم لحال المؤمنين ، وهو قوله : (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) بالكفر والمعاصي (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) عن الإيمان والطاعات (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) عن المبرّات. وقبض اليد كناية عن الشحّ ، أي : شحّوا بالخيرات أو الصدقات والإنفاق في سبيل الله (نَسُوا اللهَ) أغفلوا ذكر الله وتركوا طاعته (فَنَسِيَهُمْ) فتركهم من لطفه وفضله (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الكاملون في التمرّد والانسلاخ عن دائرة الخير.

(وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي : مقدّرين الخلود فيها (هِيَ حَسْبُهُمْ) عقابا وجزاء. وفيه دليل على عظم عذابها ، وأنّه لا شيء أبلغ منه ، نعوذ بالله منها (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم من رحمته وأهانهم (وَلَهُمْ عَذابٌ) ولهم نوع من العذاب سوى الصلي بالنار (مُقِيمٌ) دائم لا ينقطع في الآخرة عنهم ، وهو عذاب النار. أو عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكّون عنه ، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق ، وما يخافونه من الفضيحة.

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) محلّ الكاف رفع ، تقديره : أنتم مثل الّذين من قبلكم. أو نصب ، تقديره : فعلتم مثل فعل الّذين من قبلكم.

ثمّ بيّن تشبيههم بهم ، ومثّل حالهم بحالهم ، فقال : (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) نصيبهم من ملاذ الدنيا. واشتقاقه من الخلق

__________________

(١) أي : قراءة «نعف» و «نعذّب» بالنون. وقرئ بالياء وبناء الفاعل فيهما.

(٢) التوبة : ٥٦.

(٣) التوبة : ٥٦.

١٣٤

بمعنى التقدير ، فإنّه ما قدّر لصاحبه ونصب ، أي : أثبت. (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) ذمّ الأوّلين بحظوظهم الناقصة من الشهوات الفانية ، والتهائهم بها عن النظر في العاقبة ، والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيقيّة ، تمهيدا لذمّ المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم.

(وَخُضْتُمْ) دخلتم في الباطل (كَالَّذِي خاضُوا) كالّذين خاضوا. وإفراده باعتبار الفوج أو الخوض ، أي : كالفوج الذي خاضوا ، أو كالخوض الّذي خاضوا.

(أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لم يستحقّوا عليها ثوابا في الدارين (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الّذين خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة.

عن ابن عبّاس أنّه قال في هذه الآية : ما أشبه الليلة بالبارحة ، (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) هؤلاء بنو إسرائيل شبّهنا بهم ، لا أعلم إلّا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده لتتبعنّهم ، حتّى لو دخل الرجل منهم جحر ضبّ لدخلتموه».

وروي مثل ذلك عن أبي هريرة ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لتأخذنّ كما أخذت الأمم من قبلكم ، ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا (١) بباع ، حتّى لو أنّ أحدا من أولئك دخل جحر الضبّ لدخلتموه. قالوا يا رسول الله : كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب؟ قال : فهل الناس إلّا هم؟!».

وقال عبد الله بن مسعود : أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا ، تتّبعون عملهم حذو القذّة (٢) بالقذّة ، غير أنّي لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟

وقال حذيفة : المنافقون الّذين فيكم اليوم شرّ من المنافقين الّذين كانوا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قلنا : وكيف؟ قال : أولئك كانوا يخفون نفاقهم ، وهؤلاء أعلنوه. أورد جميعها الثعلبي في تفسيره.

__________________

(١) الباع : قدر مدّ اليدين ، وجمعه أبواع.

(٢) القذّة : ريش السهم. وحذو القذّة بالقذّة يضرب مثلا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان ، كما أن كلّ واحدة من القذّة تقدّر على قدر صاحبتها.

١٣٥

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠))

ثمّ قال سبحانه تهديدا للمنافقين : (أَلَمْ يَأْتِهِمْ) ألم يأت هؤلاء المنافقين (نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ) أغرقوا بالطوفان (وَعادٍ) وقوم عاد أهلكوا بالريح الصرصر (١) (وَثَمُودَ) وقوم صالح أهلكوا بالرجفة (وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ) نمرود وأصحابه ، فإنّهم أهلكوا بالبعوض (وَأَصْحابِ مَدْيَنَ) وأهل مدين ، وهم قوم شعيب ، أهلكوا بالنار يوم الظلّة (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) ثلاث قريات قوم لوط ، ائتفكت بهم ، أي : انقلبت بهم فصار عاليها سافلها ، وأمطروا حجارة من سجّيل. وقيل : قريات المكذّبين المتمرّدين. وائتفاكهنّ انقلاب أحوالهنّ من الخير إلى الشرّ.

(أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالبراهين والحجج والمعجزات (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي : لم يكن من عادة الله ما شابه ظلم الناس ، كالعقوبة بلا جرم ، لأنّه حكيم لا يجوز أن يفعل القبيح (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث عرّضوها للعقاب بالكفر والتكذيب وسائر أنواع المعاصي ، واستحقّوا العقاب.

__________________

(١) الريح الصرصر : الشديدة الهبوب أو البرد.

١٣٦

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢))

ولمّا ذكر الله سبحانه المنافقين ووصفهم بقبيح خصالهم ، اقتضت الحكمة أن يذكر المؤمنين ويصفهم بضدّ أوصافهم ، ليتّصل الكلام بما قبله اتّصال النقيض بالنقيض ، فقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في مقابلة قوله : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي : يلزم كلّ واحد منهم موالاة بعض ونصرته ، فهم يد واحدة على سواهم (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في سائر الأمور.

(أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) لا محالة ، فإنّ السين مؤكّدة للوقوع ، مفيدة لوجود الرحمة لا محالة. ونحوه : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (١) (سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) (٢) (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) (٣) (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على كلّ شيء ، لا يمتنع عليه ما يريده ، فهو يقدر على الثواب والعقاب (حَكِيمٌ) يضع الأشياء مواضعها على حسب الاستحقاق.

(وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) تستطيبها النفس ، أو يطيب فيها العيش. وفي الحديث : أنّها قصور

__________________

(١) مريم : ٩٦.

(٢) النساء : ١٥٢.

(٣) الضحى : ٥.

١٣٧

بناها الله من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) إقامة وخلود.

وفي الكشّاف : «هو علم ، لما روى أبو الدرداء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عدن دار الله تعالى الّتي لم ترها عين ، ولم تخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة : النبيّون ، والصدّيقون ، والشهداء ، يقول الله تعالى : طوبى لمن دخلك. وقيل : مدينة في الجنّة.

وقيل : نهر جنّاته على حافّاته» (١).

وفي الأنوار : «مرجع العطف فيها يحتمل أن يكون إلى تعدّد الموعود لكلّ واحد ، أو للجميع على سبيل التوزيع. أو إلى تغاير وصفه ، فكأنّه وصفه أوّلا بأنّه من جنس ما هو أبهى الأماكن الّتي يعرفونها ، لتميل إليه طبائعهم أوّل ما يقرع أسماعهم. ثمّ وصفه بأنّه محفوف بطيب العيش ، معرّى عن شوائب الكدورات الّتي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا ، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين. ثمّ وصفه بأنّه دار إقامة وثبات في جوار علّيين ، لا يعتريهم فيها فناء ولا تغيّر. ثمّ وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) وشيء من رضوان الله أكبر من ذلك كلّه ، لأنّ رضاه مبدأ لكلّ سعادة ، وسبب لكلّ فوز وكرامة» (٢).

وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّ الله تعالى يقول لأهل الجنّة : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك. فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا : وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ قال : أحلّ عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم أبدا».

(ذلِكَ) أي : الرضوان ، أو جميع ما تقدّم (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الّذي تستحقر دونه الدنيا وما فيها.

__________________

(١) الكشّاف ٢ : ٢٨٩ ـ ٢٩٠.

(٢) أنوار التنزيل ٣ : ٧٤.

١٣٨

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣))

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجهاد الّذي هو من أعظم الأسباب الموصلة إلى النعم المذكورة ، فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالسيف (وَالْمُنافِقِينَ) بإلزام الحجّة وإقامة الحدود (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) في الجهادين جميعا ، ولا ترقّ بهم (وَمَأْواهُمْ) ومأوى الفريقين (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤))

وروي عن ابن عبّاس : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جالسا في ظلّ حجرته ، فقال : إنّه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم نظر الشيطان. فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا ، فنزلت : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) ما حكى عنهم (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) وأظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام.

روي : أنّه عليه الصلاة والسلام أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المتخلّفين. فقال الجلاس بن سويد : لئن كان ما يقول محمّد لإخواننا حقّا

١٣٩

لنحن شرّ من الحمير ، كما مرّ (١) آنفا. فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستحضره ، فحلف بالله ما قاله ، فنزلت هذه الآية. فتاب الجلاس ، وحسنت توبته.

وروي أن اثني عشر أو خمسة عشر منافقا توافقوا عند مرجعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك ، أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنّم العقبة بالليل ، على نحو ما مرّ.

فأخذ عمّار بن ياسر بخطام (٢) راحلته يقودها ، وحذيفة خلفها يسوقها ، كما سبق.

فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وقعقعة (٣) السلاح ، فالتفت فإذا قوم متلثّمون ، فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله ، فهربوا.

وعن الباقر عليه‌السلام : ثمانية منهم من قريش ، وأربعة من العرب.

فنزلت فيهم : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) من قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : نزلت عند إرادتهم إخراجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإخراج المؤمنين من المدينة ، أو عند إرادتهم أن يتوجّوا عبد الله بن أبيّ ، أي : يجعلوه أميرا وإن لم يرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(وَما نَقَمُوا) وما أنكروا وعابوا ، أو ما وجدوا ما يورث نقمتهم (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) فإنّ أكثر أهل المدينة كانوا محاويج في ضنك من العيش ، فلمّا قدمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاروا ذوي ثروة وغناء بالغنائم. وقتل مولى للجلاس ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بديته اثني عشر ألف درهم ، فاستغنى. والاستثناء مفرّغ من أعمّ المفاعيل أو العلل. والمعنى : أنّهم جعلوا موضع شكر النعمة كفرانها ، وكان الواجب عليهم أن يقابلوها بالشكر.

(فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ) أي : التوب (خَيْراً لَهُمْ) هو الّذي حمل الجلاس على التوبة (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) بالإصرار على النفاق (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ)

__________________

(١) في ص : ١٣٠.

(٢) الخطام : حبل يجعل في عنق البعير ويثنى في خطمه ، وهو مقدم أنف الدابة وفمها.

(٣) قعقع السلاح : صوت.

١٤٠