رسالتان في البداء

السيد محمد علي الحكيم

رسالتان في البداء

المؤلف:

السيد محمد علي الحكيم


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥

أقول :

وإنّ قوله تعالى : (يَمحو الله ما يشاء ويُثبت وعندهُ امّ الكتاب) (١٠) ينادي بأنّ مقام المحو والإ ثبات هو غير مقام أم الكتاب ، وعلم الله المكنون ، ومشيئته وإرادته الأزلية.

بل هو في مقام الظاهر في سير الأسباب وتسبيباتها.

فقد تقتضي مشيئته ـ جلّ اسمه ـ أن يمنع أسباب البقاء وطول العمر عن الزاني وقاطع الرحم ، وقد يمنع الأسباب المهلكة عن واصل الرحم والمتصدّق والداعي مثلاً؛ فيمحو في هذه الموارد ما جعله لنوع الأسباب من التسبيب ، وقد لا يمحوه في بعض الموارد لحكمة أخرى ، فيكون قد أثبته ، أي أبقاه ثابتاً.

وقد يراد من قوله تعالى : (يُثبتُ) أنه يثبت حين المحو خلاف المحو ، والله العالم.

قد كان الناس يحسبون أنّ إسماعيل بن الصادق عليه السلام هو الإمام بعد أبيه ، لما عملوه من أنّ الإمامة للولد الأ كبر ما لم يكن ذا عاهةٍ؛ ولأنّ الغالب في الحياة الدنيا وأسباب البقاء أن يبقى إسماعيل بعد أبيه عليه السلام ، فبدا وظهر بموت إسماعيل انّ الإمام هو الكاظم عليه السلام؛ لأنّ عبدالله كان ذا عاهة ، فظهر لله (١١) وبدا للناس ما هو في علمه المكنون.

____________

(١٠) سورة الرعد ٣٩ : ١٣.

(١١) أي : من الله.

٢١

وكذا في موت محمّد بن الهادي عليهما السلام ، حيث ظهر للشيعة أن الإمام بعد الهادي والحسن العسكري عليه السلام.

وهذا الظهور للشيعة هو الأ مر الذي أحدثه الله بموت محمد ، كما قال الهادي للعسكري عليهما السلام عند موت محمد : أحْدِث لله شكراً ، فقد أحدَثَ فيك أمراً (١٢).

فالإمامة ثاب ـ تة للكاظم والعسكري منذ الأ زل ، وقد جاء في الأ حاديث البالغة حدّ التواتر ـ أو ما يقاربه ـ عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم والأ ئمة ممّن هو قبل الكاظم والعسكري عليهم السلام ما يتضمن النصّ على إمامتهما في جملة الأ ئمة عليهم السلام ، وقد ذكر [نا] (١٣) بعض هذه الأ خبار بنحو الإشارة إليها في كتاب نصائح الهدى (١٤).

وإلى ما ذكرناه في معنى البداء والمحو يرشد ما رواه في أصول الكافي :

كصحيحة زرارة ، عن أحدهما عليهما السلام :

____________

(١٢) الكافي ١ / ٢٦٢ ح ٤ و ٥ و ٨.

(١٣) أثبتناها لضرورة السياق.

(١٤) نصائح الهدى : ٢٢ وما بعدها ، وراجع في أمر النصّ على إمامة الإمامين موسى الكاظم والحسن العسكري عليهما السلام : الكافي ١ / ٢٤٥ ـ ٢٤٨ و ٢٦١ ـ ٢٦٤ و ٤٤١ ح ١ و ٤٤٢ ح ٣ ، كفاية الأثر : ٢٥٥ ـ ٢٦٣ ـ و ٢٨٢ ـ ٢٨٨ ومواضع أخرى مختلفة منه ، الإرشاد ٢ / ٢١٦ ـ ٢٢٠ و ٣١٤ ـ ٣٢٠ ، إعلام الورى : ٢٩٤ ـ ٣٠٠ و ٣٦٧ ـ ٣٧٠.

٢٢

ما عُبِدَ اللهُ بشيء مثل البداء (١٥).

ومعتبرة هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله عليه السلام :

ما عُظّم الله (بشيء مثل) البداء (١٦).

وصحيحة الريان ، عن الرضا عليه السلام :

ما بعث الله نبيّاً قطّ إلا بتحريم الخمر وأن يقرّ لله با لبداء (١٧).

ونحوها معتبرتا مرازم وجهم ، عن أبي عبدالله عليه السلام (١٨).

فإن الاعتراف بمجرد انّة يظهر لله من الأمور ما لم يكن محتسباً ـ بل كان المحتسب غيره ـ ليس له أهميّة بالنسبة إلى جلال الله.

إذن ، فالفضل المذكور والأهميّة الكبرى للاعتراف

____________

(١٥) الكافي ١ / ١١٣ ح ١.

(١٦) الكافي ١ / ١١٣ ذح ١ ، وفيه بدل ما بين القوسين : بمثل.

(١٧) الكافي ١ / ١١٥ ح ١٥.

(١٨) قال مرازم : سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول : ما تنبّأ نبيّ قطّ حتى يقرّ لله بخمس خصال : بالبداء ، والمشيئة ، والسجود ، والعبوديّة ، والطاعة. الكافي ١ / ١١٥ ح ١٣.

وقال جهم عمّن حدّثه ـ : قال أبو عبدالله عليه السلام : أن الله عزّو جلّ أخبر محمداً صلّى الله عليه وآله وسلّم بما كان منذ كانت الدنيا ، وبما يكون إلى انقضاء الدنيا ، وأخبره بالمحتوم من ذلك ، واستثنى عليه فيما سواه. الكافي ١ / ١١٥ ح ١٤.

٢٣

بالبداء ما هو إلا لأنّه يرجع إلى الاعتراف بحقيقة الإلهية ، وأنّ الموجد للعالم انّما هو إله موجد بالإرادة والقدرة على مقتضى الحكمة ، متصرّف بقدرته بما يتراءى من العلل وتعليلاتها التي هي من صنعه وإيجاده ، والخاضعة لتصرّف مشيئته فيها ، لا أنّ وجود العالم منوط بالتعليلات الطبيعية ومحض اقتضاء الطبيعة العمياء فاقدة الشعور والإرادة ، تعالى الله عمّأ يقولون.

وعلى ذلك تجري صحيحة محمد بن مسلم ، عن أبي عبدالله عليه السلام :

ما بعث الله نبياً حتى يأخذ عليه ثلاث خصال : الإقرار [له] (١٩) بالعبودية ، وخلع الأنداد ، وأن الله يقّدم ما يشاء ويوّخر ما يشاء (٢٠).

فالبداء ، وأنّ الله يمحو ما يشاء ويثبت ، وعنده أم الكتاب ، يكون الاعتراف بحقيقتها المعقولة ومدلول الأ حاديث ، هوالفارق بين الإلهية والطبيعية ، وهو الفارق بين الاعتراف بحقيقة الإلهية وبين المزاعم المستحيلة في مسألة العقول العشرة المبنية على التقليد الأعمى للفسلفة اليونانية ومزاعم أوهامها ، مع الخبط في أمر الإيجاد بالأرادة والتعليل الطبيعي.

ثم ان مقتضى دلالة العقل والنقل هو أنّ البداء والمحو لا يقعان فيما أخبرالله به أنبياءه وأوصياءهم ، وأخبروا به عنه جلّ

____________

(١٩) أثبتناه من المصدر.

(٢٠) الكافي ١ / ١١٤ ح ٣.

٢٤

اسمه.

اما دلالة العقل ، فلأن وقوع ذلك يستلزم عدم وثوق الناس بهم وبأخبارهم ، وحمل الناس لهم على الجهل والكذب على الله ، فيسقط محلّهم ، وينقض الغرض من نصبهم للنبوّه والإمامة ، ونقض الغرض قبيح ومحال على الله جلّ اسمه.

وامّا النقل ، فمنه ما رواه في أصول الكافي ، في صحيحة الفضلي ، عن أبي جعفر عليه السلام :

«العلم علمان : فعلم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه ، وعلم علّمه ملائكته ورسله فأنه سيكون ، لا يكذب الله نفسه ولا ملائكته ولا رسله ، وعلم عنده مخزون يقدّم منه ما يشاء ، ويؤخّر منه ما يشاء ، ويثبت ما يشاء» (٢١).

ونحوها صحيحته الأخرى عن أبي جعفر عليه السلام (٢٢) ورواية أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام (٢٣).

وايضًا : أنّ الأنبياء والأئمة لا يخبرون عن المغيّبات من

____________

(٢١) الكافي ١ / ١١٤ ح ٦.

(٢٢) قال الفضيل : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : من الأمور أمور موقوفة عندالله ، يقدّم منها ما يشاء ويؤخّر منها ما يشاء. الكافي ١ / ١١٤ ح ٧.

(٢٣) قال أبو بصير : قال أبوعبدالله عليه السلام : أن لله علمين ، علم مكنون مخزون ، لا يعلمه إلا هو ، من ذلك يكون البداء ، وعلم علّمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه. الكافي ١ / ١١٤ ح ٨.

٢٥

اطّلاعهم على الأسباب وقوانينها ، التي هي معرض للبداء والمحو ـ كما يسمّيها الناس بالنفوس الفلكية والأ لواح القدرية ـ إن هي الا أسماء ـ فإنه اعتماد على الظن ، وهو خلاف وظيفتهم الكريمة ، ويلزم من ذلك أن يجعلوا أنفسهم معرضاً لعدم الوثوق بهم ، وعدّ الناس لهم من الكاذبين حينما يظهر خلاف ما أخبروا به ، وهذا نقض لغرضهم في دعوة الناس إلى الله وإلى قبول أقوالهم وإرشادهم وتصديقهم ، ونقض الغرض قبيح مستحيل على المعصوم.

إذن ، فلا يخبرون الناس بالغيب اعتماداً على الأسباب أو الألواح القدرية ـ كما يقال ويزعم ـ ، وإن كانوا أكمل البشر في تلك العلوم.

ومما يشهد لذلك ما روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام من قوله في بعض المواطن : ولولا آية سبقت في كتاب الله ـ وهي قوله تعالى : (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب) لأخبرتكم بما يكون إلى يوم القيامة (٢٤).

يريد ـ صلوات الله عليه ـ أن هذه العلوم المستندة إلى سيرالأسباب والتسبيبات والتقدير هو أعلم الناس بها ، وأكملهم فيها ، ولكنّه لا يعتمد عليها ، ولا يخبر الناس

____________

(٢٤) ورد الحديث باختلاف يسير في المصادر التالية : التوحيد : ٣٠٥ ، أمالي الصدوق : ٢٨٠ ب ٥٥ ح ١ ، الاحتجاج : ٢٥٨ ، قرب الإسناد : ٣٥٣ ح ١٢٦٦ ، وعنها في بحار الأنوار ٤ / ٩٧ ح ٤ و ٥.

٢٦

بمد اليلها ، لأنها معرض للمحو.

فالمحصّل مما ذكرناه :

أنّ المحو والإثبات في الآية الكريمة ليس المراد منها إفناء الموجود وإبقاءه ، أو تجديد موجود آخر.

وأن البداء والمحو لا يتعلق بما في أم الكتاب ، ولا بما يخبر الله به أنبياءه والأئمة ، ولا بما يخبرون به عن الله من أنباء الغيب ، ولا يخبرون عما هو معرض للبداء والمحو ، صلوات الله وسلامه عليهم.

والحمد لله أولاً وآخراً

* * *

٢٧
٢٨

البداء

في التكوين

تأليف

أستاذ الفقهاء والمجتهدين آية الله العظمى

السيد أبوالقاسم الموسوي الخوئي

٢٩
٣٠

[ بسم الله الرحمن الرحيم ]

توطئة :

[ لمّا كان ] النسخ في الأحكام وهو في أفق التشريع ، [ وكذا البداء ] وهو في أفق التكوين.

وبمناسبة خفاء معنى البداء على كثير من علماء المسلمين ، وأنهم نسبوا إلى الشيعة ماهم برآء منه ، وأنهم لم يحسنوا في الفهم ، ولم يحسنوا في النقد!

وليتهم إذ لم يعرفوا تثبّتوا ، أو توقفوا (١) كما تفرضه الأمانة

____________

(١) ومن الذين لم يثبتوا ولم يتوقفوا [واختلقوا نسبة الجهل إلى الله تعالى على لسان الشيعة] : الفخر الرازي ، عند تفسيره قوله تعالى : (يمحوالله ما يشاء ويثبت ...) قال :

٣١

في النقل ، وكما تقتضيه الحيطة في الحكم ، والورع في الدين.

بمناسبة كل ذلك وجب أن نذكر شيئاً في توضيح معنى البداء.

تمهيد :

لا ريب في أن العالم بأجمعه تحت سلطان الله وقدرته ، وأن وجود أي شيء من الممكنات منوط بمشيئة الله تعالى ، فإن شاء أوجده ، وإن لم يشأ لم يوجده.

ولا ريب ـ أيضاً ـ في أن علم الله سبحانه قد تعلّق بالأشياء كلّها منذ الأزل ، وأن الأشياء بأجمعها كان لها تعين علميّ في علم الله الأزليّ ، وهذا التعيّن يعبّر عنه بـ «تقديرالله» تارةً ، وبـ «قضائه» تارةً أخرى.

____________

قالت الرافضة البداء جائز على الله تعالى ، وهو أن يعتقد شيئاً ، ثمّ يظهر له أن الأمر بخلاف ما اعتقده. إنتهى. [التفسير الكبير ١٩ / ٦٦ المسألة الخامسة من الشبهة السادسة‎].

سبحانك اللهم إن هذا إلا اختلاق.

وقد حكى الرازي في خاتمة كتاب «المحصّل» [ص ٣٦٥] عن سليمان بن جرير كلاماً يقبح منه ذكره ، ولا يحسن مني سطره.

وإن هذه الكلمة قد صدرت على أثر كلمة أخرى تشابهها ، تفوّه بها بعض النصارى في حق الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله حينما جاء بأحكام ناسخة لما جاء به قبلها ... [أنظر : الهدى إلى دين المصطفى ١ / ٢٥٧ ـ ٢٥٩ ، أعاجيب الأكاذيب : ٨٢ ـ ٨٤ رقم ١١. (م)].

كبرت كلمة تخرج من أفواههم ، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

٣٢

ولكنّ تقدير الله وعلمه سبحانه بالأ شياء منذ الأزل لايزاحم ولا ينافي قدرته تعالى عليهاحين إيجادها ، فأنّ الممكن لا يزال منوطاً بتعلّق مشيئة الله بوجوده ، التي قد يعبّر عنها بالإختيار ، وقد يعبر عنها بالإرادة.

فإن تعلقت المشيئة به وجد ، وإلا لم يوجد.

والعلم الإلهي يتعلق بالأشياء على واقعها من الإناطة بالمشيئة الإلهية؛ لأن انكشاف الشيء لا يزيد على واقع ذلك الشيء ، فإذا كان الواقع منوطاً بمشيئة الله تعالى كان العلم متعلقاً به على هذه الحالة ، وإلا لم يكن العلم علماً به على وجهه ، وانكشافاً له على واقعه.

فمعنى تقدير الله تعالى للأشياء وقضائه بها : أن الأشياء ـ جميعها ـ كانت متعينة في العلم الإلهي منذ الأزل ـ على ما هي عليه ـ من أنّ وجودها معلق على أن تتعلق المشيئة بها ، حسب اقتضاء المصالح والمفاسد التي تختلف باختلاف الظروف ، والتي يحيط بها العلم الإلهيّ.

موقف اليهود من قدرة الله

وذهبت اليهود إلى أنّ قلم التقدير والقضاء حينما جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة بخلافه؛ ومن أجل ذلك قالوا : يد الله مغلولة عن القبض والبسط والأخذ

٣٣

والإعطاء ، فقد جرى فيها قلم التقدير ولا يمكن فيها التغيير (٢).

ومن الغريب أنهم ـ قاتلهم الله ـ التزموا بسلب القدرة عن الله ، ولم يلتزموا بسلب القدرة عن العبد ، مع أنّ الملاك في كليهما واحد ، فقد تعلق العلم الأزلي بأفعال الله تعالى ، وبأفعال العبيد على حدٍٍّسواء.

موقع البداء عند الشيعة

ثم إن البداء الذي تقول به الشيعة الإمامية إنما يقع في القضاء غير المحتوم ، أما المحتوم منه فلا يتخلف ، ولا بدّ من أن تتعلق المشيئة بما تعلق به القضاء.

وتوضيح ذلك أنّ القضاء على ثلاثة اقسام :

____________

(٢) وهذه بعض الأخبار الدالّة على مشيئة الله تعالى في خلقه :

روى الصدوق في كتابي «التوحيد» و «معاني الأخبار» بإسناده عن أبي عبدالله عليه السلام ، أنه قال في قول الله عزو جلّ : (وقالت اليهود يدالله مغلولة) : لم يعنوا أنّه هكذا ، ولكنهم قالوا : قد فرغ من الأمر ، فلا يزيد ولا ينقص. فقال الله جلّ جلاله تكذيباً لقولهم (غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) ألم تسمع الله عزوجل يقول : (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب). [التوحيد ١٦٧ ح ١ ، معاني الأخبار : ١٨ ح ١٥].

وروى العيّاشي ، عن يعقوب بن شعيب ، وعن حمّاد ، عن أبي عبدالله عليه السلام ، نحو ذلك. [تفسير العياشي ١ / ٣٣٠ ح ١٤٦ و ١٤٧].

هذه الروايات وغيرها ـ مما نذكره في هذه الرسالة ـ موجودة في كتاب البحار لشيخنا المجلسي ، ٤ / ٩٢ ـ ١٣٤ (ج ٢ ص ١٣١ ـ ١٤٢ ط كمباني).

٣٤

أقسام القضاء الألهيّ

الأول : قضاء الله الذي لم يطّلع عليه أحداً من خلقه ، والعلم المخزون الذي استأثره لنفسه.

ولا ريب في أنّ البداء لا يقع في هذا القسم ، بل ورد في روايا ت كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام أنّ البداء إنما ينشأ من هذا العلم.

روى الشيخ الصدوق في «العيون» بإسناده عن الحسن ابن محمد النوفلي ، أنّ الرضا عليه السلام قال لسليمان المروزي :

«رويت عن أبي ، عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه قال : إنّ لله عزّو جلّ علمين : علماً مخزوناً مكنوناً ، لا يعلمه إلا هو ، من ذلك يكون البداء؛ وعلماً علّمه ملائكته ورسله ، فالعلماء من أهل البيت نبيّك يعلمونه ... (٣).

وروى الشيخ محمد بن الحسن الصفار في «بصائر الدرجات» بإسناده عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال :

____________

(٣) عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ / ١٨١ باب ١٣ في ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع سليمان المروزي ، وفيه : «نبينا» بدل «نبيك» ، وعنه في بحارالأنوار ٤ / ٩٥ ح ٢ (باب البداء والنسخ ، ج ٢ ص ١٣٢ ط كمباني) ـ وكان المتن منقولاً من البحار ـ.

٣٥

«إنّ لله علمين : علم مكنون مخزون ، لا يعلمه إلا هو ، من ذلك يكون البداء؛ وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه ، ونحن نعلمه» (٤).

الثاني : قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بأنّه سيقع حتماً.

ولا ريب في أنّ هذا القسم ـ أيضاً ـ لا يقع فيه البداء ، وإن افترق عن القسم الأول بأن البداء لا ينشأ منه.

قال الرضا عليه السلام لسليمان المروزي ـ في الرواية المتقدمة ـ عن الصدوق : «إنّ علياً عليه السلام كان يقول : العلم علمان : فعلم علمه الله ملائكته ورسله ، فما علمه ملائكته ورسله فأنه يكون ، ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله؛ وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحداً من خلقه ، يقدم منه ما يشاء ، ويؤخر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء» (٥).

وروى العياشي ، عن الفضيل ، قال : سمعت أبا جعفر

____________

(٤) بصائر الدرجات : ١٢٩ ح ٢ ، وعنه في بحار الأنوار ٤ / ١٠٩ ح ٢٧ (باب البداء والنسخ ، ج ٢ ص ١٣٦ ط كمباني) ـ وكان المتن منقولاً من البحار ـ ، والكافي ١ / ١١٤ ح ٨ وفيه : «فنحن» بدل «ونحن» ، وعنه في الوافي ١ / ٥١٣ ح ٤١٤ (باب البداء ، ج ١ ص ١١٣).

(٥) عيون أخبار الرضا عليه السلام ١ / ١٨٢ (باب ١٣) ، ورواه الشيخ الكليني عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام في الكافي ١ / ١١٤ ح ٦ بأختلاف يسير ، وعنه في الوافي ١ / ٥١٢ ح ٤١٢ (باب البداء ج ص ١١٣).

٣٦

عليه السلام يقول :

«من الأمور أمور محومة جائية لا محالة ، ومن الأمور أمور موقوفة عند الله ، يقدّم منها ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ، ويثبت منها ما يشاء ، لم يطلع على ذلك أحداً ـ يعني الموقوفة ـ فأما ما جاء ت به الرسل فهي كائنة ، لا يكذب نفسه ، ولا نبيه ، ولا ملائكته» (٦).

الثالث : قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج ، إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئتة الله بخلافه.

وهذا القسم هوالذي يقع فيه البداء :

(يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب) (٧) (لله الأمر من قبل ومن بعد) (٨).

وقد دلت على ذلك روايات كثيرة ، منها هذه :

١ ـ ما في «تفسير علي بن إبراهيم» عن عبدالله بن مسكان ، عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال ‎ :

«إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلى سما‎ء الدنيا ، فيكتبون ما يكون من قضاء الله تعالى في تلك السنة ، فإذا أراد الله أن يقدم شيئاً ، أو يؤخره ، أو ينقص شيئا ،

____________

(٦) تفسير العياشي ٢ / ٢١٧ ح ٦٥ بأختلاف يسير ، وعنه في بحار الأنوار ٤ / ١١٩ ح ٥٨ (باب البداء والنسخ ج ٢ ص ١٣٣ ط كمباني) ـ وكان المتن منقولاً من البحار ـ.

(٧) سورة الرعد ٣٩ : ١٣.

(٨) سورة الروم ٤ : ٣٠.

٣٧

أمر الملك أن يمحو ما يشاء ، ثم أثبت الذي أراده.

قلت : وكلّ شيء هو عند الله مثبت في كتاب؟

قال : نعم.

قلت : فأيّ شيء يكون بعده؟

قال : سبحان الله! ثمّ يحدث الله أيضاً ما يشاء ، تبارك وتعالى» (٩).

٢ ـ ما في تفسيرة أيضاً ، عن عبدالله بن مسكان ، عن أبي جعفر وأبي عبدالله وأبي الحسن عليهم السلام ، في تفسير قوله تعالى : (فيها يفرق كل أمرٍ حكيم) (١٠).

«أي : يقدر الله كل أمر من اللحق ومن الباطل ، وما يكون في تلك السنة ، وله فيه البداء والمشيئة ، يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض ، ويزيد فيها ما يشاء وينقص ما يشاء ...» (١١).

٣ ـ ما في كتاب «الأحتجاج» عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنه قال :

«لولا آية في كتاب الله ، لأخبرتكم بما كان ، وبما يكون ، وبما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهي هذه الآية : (يمحو

____________

(٩) تفسير القمي ١ / ٣٦٦ بأختلاف يسير ، وعنه في بحار الأنوار ٤ / ٩٩ ح ٩ (باب البداء والنسخ ج ٢ ص ١٣٣ ط كمباني) ـ وكان المتن منقولاً من البحار.

(١٠) سورة الدخان ٤ : ٤٤.

(١١) تفسير القمي ١ / ٣٦٦ ، وعنه في بحارالأنوار ٤ / ١٠١ ح ١٢ (باب البداء والنسخ ج ٢ ص ١٣٤ ط كمباني) ـ وكان المتن منقولاً من البحار ـ.

٣٨

الله ...) (١٢).

وروى الصدوق في «الأمالي» و «التوحيد» بإسناده عن الأصبغ ، عن أميرالمؤمنين عليه السلام ، مثله (١٣).

٤ ـ ما في «تفسير العياشي» عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :

«كان علي بن الحسين عليه السلام يقول : لولا آية في كتاب الله لحدثتكم بما يكون إلى يوم القيامة.

فقلت : أية آية؟

قال : قول الله : (يمحو الله ...) (١٤).

٥ ـ ما في «قرب اللإ سناد» عن البزنطي ، عن الرضا عليه السلام قال :

«قال أبوعبدالله ، وأبوجعفر ، وعلي بن الحسين ، والحسين بن علي ، والحسن بي علي ، وعلي بن أبي طالب عليهم السلام : والله لولا آية في كتاب الله لحدثناكم بما يكون إلى أن تقوم الساعة : (يمحو الله ...)» (١٥).

____________

(١٢) الأحتجاج : ٢٥٨ (ص ١٣٧ ، المطبعة المرتضويّة ، النجف الأشرف).

(١٣) الأمالي : ٢٨٠ ح ١ ب ٥٥ ، التوحيد : ٣٠٥ ، وعنهما في بحارالأنوار ٤ / ٩٧ ذح ٤. (م).

(١٤) تفسير العياشي ٢ / ٢١٥ ح ٥٩ ، وعنه في بحارالأنوار ٤ / ١١٨ ح ٥٢ (باب البداء والنسخ ج ٢ ص ١٣٩ ط كمباني) ـ وكان المتن منقولاً من البحار ـ.

(١٥) قرب الإسناد : ٣٥٣ ح ١٢٦٦ ، وعنه في بحارالأنوار ٤ / ٩٧ ح ٥ (باب البداء والنسخ ج ٢ ص ١٣٢ ط كمباني) ـ وكان المتن منقولاً من البحار ـ.

٣٩

إلى غيرذلك من الروايات الدالة على وقوع البداء في القضاء الموقوف.

وخلاصة القول :

إن القضاء الحتمي المعبّر عنه باللوح المحفوظ ، وبأم الكتاب ، والعلم المخزون عندالله ، يستحيل أن يقع فيه البداء.

وكيف يتصوّر فيه البداء؟! وأنّ الله سبحانه عالم بجميع الأشياء منذ الأزل ، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.

روى الصدوق في «إكمال الدين» بإسناده عن أبي بصير وسماعة ، عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال :

«من زعم أنّ الله عزّو جلّ يبدو له في شيء [اليوم] (١٦) لم يعلمه أمس فابرأوا منه» (١٧).

وروى العياشي عن ابن سنان ، عن أبي عبدالله عليه السلام ، يقول :

«إن الله يقدّم ما يشاء ، ويؤخّر ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، وعنده أم الكتاب.

____________

(١٦) أثبتناه من المصدر. (م).

(١٧) إكمال الدين : ٧٠ ، وعنه في بحارالأنوار ٤ / ١١١ ح ٣٠ (باب البداء والنسخ ج ٢ ص ١٣٦) ـ وكان المتن منقولاً من البحار ـ.

٤٠