إيضاح تردّدات الشرائع - ج ٢

نجم الدين جعفر بن الزهدري الحلي

إيضاح تردّدات الشرائع - ج ٢

المؤلف:

نجم الدين جعفر بن الزهدري الحلي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

قال رحمه‌الله : وفي انعقاد قضاء الاعمى تردد ، أظهره أنه لا ينعقد ، لافتقاره الى التمييز بين الخصوم ، وتعذر ذلك مع العمى الا فيما يقل.

أقول : منشؤه : النظر الى قضاء الاصل بالجواز.

والالتفات الى ما ذكره المصنف من الاستدلال ، وهو اختيار الشيخ في المبسوط (١) ، محتجا بعين هذا الدليل.

وأما اشتراط الحرية ، ففيه تردد من حيث العمل بالاصل ، ويؤيده قول الصادق عليه‌السلام : من روى أحاديثنا وعرف أحكامنا فاجعلوه قاضيا (٢). ولفظة « من » تتناول الحر والعبد ، وهو الاقوى عند المصنف. ومن حيث أن القضاء منصب جليل ومرتبة عالية ، والعبد ليس أهلا لهما ، وهو خيرته في المبسوط (٣) ، ونمنع المقدمة الثانية.

قال رحمه‌الله : اذا وجد اثنان متفاوتان (٤) في الفضيلة مع استكمال الشرائط المعتبرة فيهما ، فان قلد الافضل جاز ، وهل يجوز العدول الى المفضول؟ فيه تردد ، والوجه الجواز ، لان خطأه ينجبر بنظر الامام.

أقول : منشؤه : النظر الى أن تقليد المفضول قبيح عقلا ، فلا يجوز اعتماده. أما المقدمة الاولى ، فلما فيه من تقديم المفضول على الفاضل. وأما الثانية ، فلقوله عليه‌السلام « ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن » (٥).

والالتفات الى أن القضاء نيابة ، فيتبع اختيار المنوب عنه ، ولان خلل المفضول

__________________

(١) المبسوط ٨ / ١٠١.

(٢) تهذيب الاحكام ٦ / ٣٠٢.

(٣) المبسوط ٨ / ١٠١.

(٤) فى النسختين : متساويان.

(٥) عوالى اللئالى ١ / ٣٨١.

١٤١

ينجبر بنظر الامام عليه‌السلام.

قال رحمه‌الله : المقصد الثاني في مسائل متعلقة بالدعوى ، وهي خمس : الاولى ـ قال الشيخ : لا يسمع الدعوى اذا كانت مجهولة ، مثل أن يدعي ثوبا أو فرسا ، ويقبل الاقرار بالمجهول ويلزم تفسيره ، وفي الاول اشكال.

أقول : منشؤه : النظر الى أن الدعوى لها جواب ، فربما كان بنعم فلا يمكن الحاكم أن يقتضي به عليه ، لانه مجهول ، وليس كذلك الاقرار بالمجهول.

أما أولا ، فلان الدعوى حق المدعي ، والاقرار حق على المقر ، وما كان عليه فهو أغلظ مما كان حقا له ، فلهذا سمعنا المجهول في الثاني ولم يسمع الا المعلوم في الاول ،

وأما ثانيا ، فلانا لو لم نقبل الاقرار المجهول لامكن أن يرجع عن اقراره فلهذا سمعنا مجهوله كما يسمع معلومه ، وليس كذلك الدعوى ، لانا اذا لم نسمعها أمكن أن يدعى دعوى معلومة ، ولان هناك داع بدعوة الى دعواه فافترقا ، وهو اختيار الشيخ في المبسوط (١) ، محتجا بعين هذا الدليل وأتبعه المتأخر محتجا به أيضا ، وهو قوي.

والالتفات الى أن الدعوى المجهولة دعوى جازمة ، فلا يسقط ، ولان الدعوى المجهولة يصدق على صاحبها أنه مدع وعلى المنسوبة إليه أنه مدعى عليه ، فيكون مسموعة ، عملا بقوله عليه‌السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » (٢).

__________________

(١) المبسوط ٨ / ١٥٦.

(٢) عوالى اللئالى ١ / ٢٤٤ و ٤٥٣ و ٢ / ٢٥٨ و ٣٤٥.

أقول : هنا بياض بقدر ثلاث صفحات فى نسخة « م » وبقدر صفحتين فى نسخة « س » وقال فى هامش نسخة « س » : هكذا وجد بياضا من قوله « من أنكر » الى قوله « اد الامانة الى من ائتمنك ولا تخن من خانك » فى نسخة بخط الشيخ أحمد بن فهد رحمه‌الله.

١٤٢

أد الامانة الى من ائتمنك ولا تخن من خانك ، ثم أجاز أخذ الوديعة يحق له بعد ترك الخبر ، وهو خيرة الشيخ في الخلاف (١) ، محتجا بعين هذا الدليل.

والالتفات الى عموم الاخبار الدالة على جواز الاقتصاص من غير فرق بين الوديعة وغيرها ، وهو ظاهر كلام الشيخ في المبسوط (٢) ، واختاره المتأخر.

قال رحمه‌الله في المقصد الاول ، في الاختلاف في دعوى الاملاك ـ الى قوله : وفي الثاني يقضي بها للخارج دون المتشبث ، ان شهدتا لهما بالملك المطلق ، وفيه قول آخر ذكره في الخلاف بعيد.

أقول : أشار بذلك الى ما ذكره الشيخ في الخلاف من أن البينة بينة المتشبث فيقضى له بها دون الخارج ، واستدلاله بخبر جابر أن رجلين اختصما الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في دابة أو بعير ، فأقام كل واحد منهما البينة أنها له نتجها فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للذي هي في يده.

وفي معناه خبر غياث بن ابراهيم عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن علي عليه‌السلام ، الا أنه زاد عليه‌السلام بأن قال : لو لم تكن في يده جعلها بينهما نصفين (٣).

غير مفيد لمدعاه ، فان الخبر يرد الآن على أن البينة بينة ذي اليد اذا شهدتا لهما بالسبب لا مطلقا فاعرفه ، على أن الشيخ رحمه‌الله قال في هذه المسألة أيضا بعد أن نقل عن أبي حنيفة وأصحابه : ان التداعي ان كان ملكا مطلقا لا يتكرر سببه سمعنا بينة الداخل ، وهو الذي يقتضيه مذهبنا ، وقد ذكرناه في النهاية والمبسوط وفي كتابي الاخبار (٤). وظاهر هذا الرجوع عما صدره في أول المسألة.

قال رحمه‌الله : الخامسة ـ لو ادعى دارا في يد انسان وأقام بينة أنها كانت

__________________

(١) الخلاف ٢ / ٦٤٦.

(٢) المبسوط ٨ / ٣١١.

(٣) الخلاف ٢ / ٦٣٦ ، مسألة ٢ من كتاب الدعاوى.

(٤) الخلاف ٢ / ٦٣٥.

١٤٣

في يده أمس أو منذ شهر ، قيل : لا يسمع هذه البينة. وكذا لو شهدت له بالملك أمس ، لان ظاهر اليد الآن الملك ، فلا يدفع ، بالمحتمل ، وفيه اشكال ولعل الاقرب القبول.

أقول : القائل هو الشيخ رحمه‌الله في الخلاف ، محتجا بأن المدعي يدعي الملك في الحال والبينة يشهد له بالامس فقد شهدت له بغير ما يدعيه فلم يقبل. ثم قال : فان قالوا : انها شهدت له بالملك أمس ، والملك مستدام الى أن يعلم زواله قلنا : لا نسلم أن الملك يثبت بها حتى يكون مستداما ، على أن زوال الاول موجود فلا يزال الثابت بأمر محتمل (١). وهو أحد قولي الشافعي.

واعلم أن هذا البحث يبنى على مسألة يجب تحقيقها وبها يتضح وجه الاشكال وهي أن الشهادة بقديم الملك هل هي أولى من الشهادة لحديثه أم لا؟.

فنقول : اختلف قول (٢) الشيخ رحمه‌الله في هذه المسألة ، فذهب في الخلاف (٣) الى أن الملك المتنازع فيه ان كان في يد من شهدت له البينة بقديم الملك قضي له به ، لان معه حجتين : بينة قديمة ويد. وان كان في يد من شهدت بحديث الملك فصاحب اليد أولى ، وهو مذهب أبي حنيفة.

وذهب في المبسوط الى أن الشهادة بقديم الملك أولى مطلقا ، سواء حصل معها يد أو لم يحصل ، قال : وهو الذي يدل عليه أخبارنا ، لان البينة أقوى من اليد ، وكذلك ما رجح بالبينة أقوى مما رجح باليد ، ولان صاحب اليد مدعى عليه والمدعي من له البينة بقديم الملك ، فكان أولى للخبر (٤).

__________________

(١) الخلاف ٢ / ٦٣٩.

(٢) فى « م » : قولا.

(٣) الخلاف ٢ / ٦٤١.

(٤) المبسوط ٨ / ٢٨٠.

١٤٤

وما ذكره في المبسوط أقوى ، فعلى هذا يسمع البينة في المسألة التي ذكرها المصنف ، لان البينة يشهد له بقديم الملك وبينة الاخرى بحديثه.

قال رحمه‌الله في المقصد الثاني ، في الاختلاف في العقود : اذا اتفقا على استئجار دار معينة شهرا معينا واختلفا في الاجرة ، وأقام كل واحد منهما بينة بما قدره ، فان تقدم تاريخ أحدهما عمل به ، لان الثاني يكون باطلا. وان كان التاريخ واحدا ، تحقق التعارض ، اذ لا يمكن في الوقت الواحد وقوع عقدين متنافيين وحينئذ يقرع بينهما ويحكم لمن خرج اسمه مع يمينه ، هذا اختيار شيخنا في المبسوط.

وقال آخر : يقضى بينة المؤخر ، لان القول قول المستأجر لو لم يكن بينة اذ هو يخالف على ما في ذمة المستأجر ، فيكون القول قوله. ومن كان القول قوله مع عدم البينة كانت البينة في طرف المدعي ، وحينئذ نقول : هو مدع زيادة وقد أقام البينة بها ، فيجب أن يثبت ، وفي القولين تردد.

أقول : القول الاول للشيخ رحمه‌الله في المبسوط (١) ، كما ذكره المصنف. والقول الثاني لبعض الجمهور ، وحكاه الشيخ في المبسوط.

وتردد المصنف في القولين معا ، ومنشأ تردده : النظر الى أن قول الشيخ ضعيف ، فلا يعتمد عليه. أما أولا ، فلان الشيخ حكم بالقرعة مع تحقق التعارض ولم يعتبر أسباب الترجيح من أرجحية العدالة وأكثرية العدد. وأما ثانيا ، فلان القرعة وردت على خلاف مقتضى الاصل ، فيقتصر بها على موردها.

والقول الثاني الذي حكاه الشيخ رحمه‌الله عن بعض الجمهور ضعيف أيضا. أما أولا ، فلان كل واحد منها مدع ، فتخصيص أحدهما بسماع بينته دون الاخر ترجيح من غير مرجح ، وهو باطل. وأما ثانيا ، فلان القضاء ببينة الموجر انما

__________________

(١) المبسوط ٨ / ٢٨١.

١٤٥

يسوغ اذا لم يتحقق التعارض بين الشيئين ، لكن التعارض هنا متحقق ، فيبطل القول بتقديم بينة المؤخر.

أما تحقق التعارض ، فلانه اذا كان التاريخ واحدا ، استحال وقوع عقدين متغايرين. وان كان العقد الذي ادعاه الموجر أقدم من تاريخ العقد الذي ادعاه المستأجر ، كان الاول صحيحا والثاني باطلا ، اذ الاجارة عقد لازم ، فمع تحققه يمتنع فسخه. وان كان تاريخ عقد المستأجر هو الاقدم كان صحيحا ، وكان عقد الموجر باطلا ، ولا اشكال في القسمين الآخرين ، اذ لا نزاع فيهما ولا تعارض. وانما النزاع في القسم الاول ، وقد بينا تحقق التعارض فيه.

وأما أن القضاء ببينة الموجر مشروط بعدم تحقق التعارض بين البينتين فلوجهين : الاول اتفاق الفقهاء على أن مع التعارض يجب الترجيح ، ومع انتفائه يحكم بالقرعة وأن الحكم بتقديم بينة الموجر مستلزم للمحال فيكون محالا. أما المقدمة الاولى فلاستلزامه الترجيح من غير مرجح ، ولا شك في استحالته. وأما المقدمة الثانية فظاهرة.

واذ قد بان ضعف هذين القولين وجب اطراحهما والرجوع الى غيرهما ، ومما ذاك (١) الاجود أنه الحكم بالقرعة مع انتفاء أسباب الترجيح ، وبعض القائلين بالتعارض حكم بالتهاتر مع تساوي البينتين ، وحينئذ الاليق به القول بالتحالف فيبطل عقد الاجارة وتجب أجرة المثل مع انقضاء المدة أو بعضها.

ومنهم من قال يوقف ، ومنهم من قال يقسم ، والوقف غير ممكن ، اذ فيه تفويت المنافع ، والقسمة غير ممكنة أما أولا ، فلان القعد لا ينقسم. وأما ثانيا ، فلان الزيادة يدعيها أحدهما وينفيها الاخر ولا يثبتها لنفسه ، فلم يبق الا القرعة ، وهو مذهب الغزالي. وانما طولنا الكلام فيهما لانها مهمة.

__________________

(١) كذا في النسختين مع علامة الاستفهام فيهما.

١٤٦

قال رحمه‌الله : ولو ادعى كل منهما أنه اشترى دارا معينة وأقبض الثمن ـ الى قوله : ولو نكلا عن اليمين قسمت بينهما ، ويرجع كل منهما بنصف الثمن وهل لهما أن يفسخا؟ الاقرب نعم ، لتبعض المبيع قبل قبضه. ولو فسخ أحدهما كان للآخر أخذ الجميع لعدم المزاحم وفي لزوم ذلك تردد ، أقربه اللزوم.

أقول : منشؤه : النظر الى أن المقتضي اللزوم موجود ، والمعارض لا يصلح للمعارضة ، فيجب القول باللزوم. أما المقتضي ، فهو وجود عقد البيع الصادر عن أهله ، ولا شك في الحكم بثبوته هنا.

وأما انتفاء المعارض ، فلان المعارض المذكور ليس الا تبعض الصفقة المقتضي للفسخ لدفع ضرر الشركة ، وهو منتف هنا ، اذ التقدير أن أحدهما قد فسخ ، فانتفى التبعيض فينتفي معلوله ، وهو خيار الفسخ ، ولعله الاقوى.

واعلم أن الشيخ رحمه‌الله فصل تفصيلا ، وهو أن الفسخ ان وقع من أحدهما قبل أن يختار الاخر امساك النصف ، توفر الكل عليه ، اذ لا مزاحم حينئذ. وان وقع بعد الاختيار لم يكن له أخذ النصف الاخر ، لان الحاكم قد قضى له بالنصف الذي أمسكه دون الاخر ، فعوده يحتاج الى دليل.

والالتفات الى أن الخيار ثبت له أولا قبل فسخ المشتري الاخر فكذا بعده ، عملا بالاستصحاب ، ولانه لو توقف ثبوت الفسخ لاحدهما على ثبوته للآخر ، فان انعكس دار ، والا لزم الترجيح من غير مرجح ، وهو ظاهر كلام الشيخ وصاحب الوجيز.

وهذان الدليلان ضعيفان ، أما الاول فلان خيار ثبت لمعنى ، وقد انتفى فينتفي بانتفائه ، عملا بالعلية. وأما الثاني فلجواز التلازم كالمضافين والعلة والمعلول المتساوي.

قال رحمه‌الله في كتاب الشهادات : الثانية ـ لا تقبل شهادة القاذف ، ولو تاب

١٤٧

قبلت. وحد التوبة أن يكذب نفسه وان كان صادقا ويوري باطنا ، وقيل : يكذبها ان كان كاذبا ، ويخطئها في الملأ ان كان صادقا ، والاول مروي.

وفي اشتراط اصلاح العمل زيادة عن التوبة تردد ، والاقرب الاكتفاء بالاستمرار لان بقاءه على التوبة اصلاح ولو ساعة.

أقول : لا خلاف في وجوب القبول مع التوبة ، وانما نشأ الخلاف في حدها فذهب الشيخ رحمه‌الله في المبسوط (١) والخلاف (٢) الى الاول ، وبه روايات عن أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو اختيار الاصطخري ، وذهب المتأخر الى الثاني.

وقواه الشيخ رحمه‌الله في الكتابين أخيرا ، قال : لانه اذا أكذب نفسه ربما كان صادقا في الاول فيما بينه وبين الله تعالى ، فيكون هذا الا كذاب كذبا ، وذلك قبيح ، وهذا مذهب أبي اسحاق المروزي.

واعلم أن المتأخر أورد مع ضد القول في كتابه ، فتوهم صاحب كشف الرموز أنه قال من عنده. وأما اصلاح العمل ، وهو أن يعمل طاعة بعد التوبة ، ففي اعتباره خلاف ، فذهب الشيخ رحمه‌الله في المبسوط والخلاف الى اعتباره ، نظرا الى قوله تعالى « إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا » (٣) فاعتبر تعالى التوبة وصلاح العمل.

وذهب الشافعي في أحد قوليه الى أنه غير معتبر ، التفاتا الى أن البقاء على التوبة ولو ساعة طاعة واصلاح ، فلا يعتبر في غير ذلك ، لاصالة البراءة ، والمصنف تردد فيه ، ومنشأ تردده من النظر الى الوجهين.

__________________

(١) المبسوط ٨ / ١٧٦.

(٢) الخلاف ٢ / ٦١٠ ـ ٦١١.

(٣) سورة البقرة : ١٦٠.

١٤٨

تذنيب :

القائلون باشتراط الاصلاح اختلفوا ، فذهب الشافعي في أحد قوليه الى أنه معتبر سنة ، واختاره الشيخ في المبسوط (١) ، وذهب في الخلاف (٢) الى أن ذلك غير معتبر ، بل الطاعة الواحدة كافية في قبول الشهادة ، وهو ظاهر كلام المتأخر.

قال رحمه‌الله : لبس الحرير للرجال في غير الحرب اختيارا محرم ، ترد به الشهادة ، وفي المتكأ عليه والافتراش له تردد ، والجواز مروي.

أقول : منشؤه : النظر الى عموم النهي عن استعمال الحرير ، ولان العلة المقتضية لتحريم لبسه موجودة في التكأة عليه والافتراش له ، فيثبت التحريم عملا بالمقتضي.

والالتفات الى أصالة الجواز ، ترك العمل بها في تحريم الملبوس ، للنص والاجماع ، فيبقى معمولا بها فيما عداه ، ولان الجواز مروي عن أهل البيت عليهم‌السلام.

قال رحمه‌الله : قيل : لا تقبل شهادة المملوك أصلا ـ الى قوله : أما المكاتب المطلق اذا أدى من مكاتبته شيئا ، قال في النهاية : تقبل على مولاه بقدر ما تحرر منه ، وفيه تردد ، أقربه المنع.

أقول : منشؤه : النظر الى أن المكاتب المطلق عبد ، فلا تقبل شهادته على مولاه ، عملا بظاهر الاخبار الدالة على المنع من ذلك ، وهو ظاهر كلام المتأخر.

والالتفات الى أن الحرية التي فيه تقتضي ثبوت المزية له على غيره من العبيد وليس الا قبول شهادته على مولاه بقدر ما تحرر منه ، وهو اختيار الشيخ في النهاية (٣) ، وهذا الدليل اقناعي.

__________________

(١) المبسوط ٨ / ١٧٧.

(٢) الخلاف ٢ / ٦١١.

(٣) النهاية ص ٣٣١.

١٤٩

قال رحمه‌الله : التبرع بالشهادة قبل السؤال يطرق التهمة ، فيمنع القبول. أما في حقوق الله ، أو الشهادة للمصالح العامة فلا يمنع ، اذ لا مدعي لها ، وفيه تردد.

أقول : منشؤه : النظر الى أن التهمة المانعة من قبول الشهادة موجودة في الصورتين ، فيمنع القبول عملا بالعلية ، وهو خيرة الشيخ في النهاية (١) ، حكاه عنه صاحب كشف الرموز.

والالتفات الى أن حقوق الله تعالى لا مدعي لها ، فيجوز التبرع بالشهادة فيها قبل السؤال ، لانتفاء التهمة هنا ، وهو اختيار الشيخ في المبسوط (٢) ، على ما حكاه كشف الرموز ، وهو حسن حذرا من سقوط حدود الله الا نادرا.

قال رحمه‌الله في الطرف الثاني فيما يصير به الشاهد شاهدا : وما يكفي فيه السماع ، فالنسب والموت والملك المطلق ، لتعذر الوقوف عليه مشاهدة في الاغلب ويتحقق كل واحد من هذه بتوالي الاخبار من جماعة ، لا بضمهم قيد المواعدة ، أو يستفيض ذلك حتى يتآخم العلم ، وفي هذا عندي تردد.

أقول : منشؤه : النظر الى عموم النهي عن اتباع الظن ، ولا شك ان الاستفاضة ظن ، فيكون منهيا عن اتباعها ، وهو يقتضي عدم الاجتزاء بها.

لا يقال : ينتقض ذلك ، فان طرق أكثر أحكام الشريعة ظنية.

لانا نقول : الواجب العمل بالعموم حتى يظهر دليل الخصوص ، ولم يوجد هنا دليل دال على وجوب اتباع هذا النوع من الظن بخلاف ما ذكرتموه.

والالتفات الى أنه قول أكثر علمائنا فيكون راجحا ، فيجب اتباعه. أما الاولى فلان الكثرة أمارة الرجحان. وأما الثانية ، فلقضاء العقل بوجوب اتباع الراجح

__________________

(١) النهاية ص ٣٣٠.

(٢) المبسوط ٨ / ١٨٦.

١٥٠

وبقوله عليه‌السلام « دع ما يريبك الى ما لا يريبك » (١) ولان الاقتصار على ما ذكره المصنف مشقة عظيمة وحرجا ظاهرا ، فيكون منفيا عملا بالآية والرواية ، وهو اختيار الشيخ في المبسوط (٢).

قال رحمه‌الله : أما شهادته على المقبوض فماضية قطعا.

أقول : أشار بذلك الى ما ذكره الشيخ رحمه‌الله في المبسوط (٣) من القطع بجواز شهادته ، وذلك في صورتين :

الاولى : اذا كانت يده في يد رجل وهو بصير ، فعمي ويده في يده وهو عارف باسمه ونسبه ، صح أن يحتمل الشهادة عليه وهو أعمى.

الثانية : شهادة المضبوط ، وهو أن يمسك برأس رجل ويقرب فاه الى أذنه فيقر بحق ، فلا يفارقه حتى يأتي به الحاكم ، فيقول : هذا أقر لفلان بكذا وكذا.

قال رحمه‌الله في الطرف الثالث في أقسام الحقوق : وأما حقوق الادمي فثلاثة الى قوله : وفي العتق والنكاح والقصاص تردد ، أظهره ثبوته بالشاهد والمرأتين.

أقول : قد سبق ما يضاهي هذا البحث في الحكم بالشاهد واليمين مستوفى ، فلا وجه لاعادته.

قال رحمه‌الله في الطرف الرابع في الشهادة على الشهادة : وللتحمل مراتب الى قوله : ويليه أن يسمعه يقول : أنا أشهد لفلان بن فلان على فلان بن فلان بكذا ويذكر السبب ، مثل أن يقول : من ثمن ثوب أو عقار ، اذ هي صورة جزم ، وفيه تردد.

أقول : منشؤه : النظر الى قبول الشهادة على الشهادة على خلاف مقتضى

__________________

(١) عوالى اللئالى ١ / ٣٩٤ و ٣ / ٣٣٠.

(٢) المبسوط ٨ / ١٨٠.

(٣) المبسوط ٨ / ١٨٤.

١٥١

الاصالة ، ترك العمل بها في الصورتين : صورة الاسترعاء ، وصورة سماعه ، يشهد بذلك عند الحاكم ، للاجماع فيبقى معمولا بهما فيما عداهما.

والالتفات الى أن الاصل قاص بجوازه ، ولان العلة المقتضية لقبول الشهادة على الشهادة ـ وهي تعذر اثبات الحقوق لو لا شرع ذلك ـ موجودة هنا ، ولان حضور شاهد الاصل عند الحاكم لاداء الشهادة مما يقل غالبا ، فلو كان القبول مشروطا به لزم الحرج والمشقة المنفيين بالآية والرواية. وكذا لو كان مشروطا بالاسترعاء ، لانه مما يقل أيضا الا نادرا ، فمست الحاجة الى شرع مرتبة ثالثة للتحمل ، وليست الا هذه ، اذ هي صورة جزم بثبوت الحق للمشهود عليه ، وهو اختيار الشيخ في المبسوط (١).

واعلم أن المتأخر ذكر أن مراتب التحمل هي هذه الثلاث في كتابه كما ذكر الشيخ في المبسوط ، الا أنه قال بعد ذلك : وهذا جميعه أورده شيخنا في مبسوطه وأوردناه على ما أورده ، ولم يرد في أخبارنا من هذا شي‌ء. وهذا الكلام يدل على تردده فيه.

قال رحمه‌الله : أما لو لم يذكر سبب الحق ، بل اقتصر على قوله : أنا أشهد لفلان على فلان بكذا لم يصر متحملا ، لاعتياد التسامح بمثله ، وفي الفرق بين هذه وبين ذكر السبب اشكال.

أقول : اعلم أن الشيخ رحمه‌الله فرق في المبسوط (٢) بين هاتين المسألتين ، بأن قوله في هذه الصورة أشهد بذلك ينقسم الى الشهادة بالحق ، ويحمل العلم به على وجه لا يشهد به ، وهو أن يسمع الناس يقولون لفلان على فلان كذا وكذا واذا احتمل ذلك وقف التحمل بهذا الاحتمال ، وليست كذلك الصورة الاولى ، لانتفاء هذا الاحتمال بذكر السبب ، وعروة الحق إليه.

__________________

(١) المبسوط ٨ / ٢٣١.

(٢) المبسوط ٨ / ٢٣٢.

١٥٢

والمنصف استشكل الفرق ، ومنشؤه تساويهما في الجزم بثبوت الحق ، بقبول أحدهما والغاء الاخرى تخصيص من غير مرجح ، وهو باطل.

قال رحمه‌الله : وتقبل شهادة النساء على الشهادة فيما تقبل فيه منفردات ، كالعيوب الباطنة والاستهلال والوصية ، وفيه تردد ، أشبهه المنع.

أقول : منشؤه : النظر الى الاصل الدال على الجواز ، ولان قبول شهادتهن في هذه الاشياء أصلا يستلزم أولوية قبولها فرعا ، اذ هي أضعف ، لاستنادها الى شهادة الاصل ، وهو مذهب أبي حنيفة ، الا أنه قبل شهادتهن على الشهادة فيما لهن فيه مدخل أيضا ، وان لم تثبت بهن منفردات ، كالاموال والديون.

ونحن قصرنا الجواز على ما تقبل فيه شهادتهن منفردات ، عملا بالمتفق عليه والشيخ قصر الجواز في الخلاف (١) على شهادتهن على الشهادة في الاملاك والديون والعقود ، محتجا باجماع الفرقة وأخبارهم.

والالتفات الى أن تجويز ذلك حكم شرعي ، فيقف على الدلالة الشرعية وحيث لا دلالة فلا حكم ، وهو اختيار المتأخر.

وقال الشيخ رحمه‌الله في المبسوط : الاول قوي لكن الثاني أحوط (٢).

واعلم أن في كلام الشيخ في هذه المسألة في النافع اجمالا ومقصوده ما ذكرناه.

قال رحمه‌الله في القسم الثاني في الطوارئ : لو شهدا ثم فسقا قبل الحكم حكم بهما ـ الى قوله : وفي الحكم بحد القذف والقصاص تردد ، أشبهه الحكم لتعلق حق الا دمي به.

أقول : منشؤه النظر الى أن حدوث الفسق قبل الحكم شبهة ، فيسقط القذف

__________________

(١) الخلاف ٢ / ٦٣٠.

(٢) المبسوط ٨ / ٢٣٣.

١٥٣

والقصاص بهما ، عملا بظاهر قوله عليه‌السلام « ادرءوا الحدود بالشبهات » (١) وهو قوى وحكاه الشيخ عن بعض الفقهاء ، قالوا : لانه كحد الربا.

والالتفات الى أن فيها حقا لآدميّ فيحكم بهما ، وإلا لزم الاضرار به ، وتضييع حقه بعد ثبوته شرعا ، ولانهما كالمال ، وهو اختيار الشيخ محتجا بالدليل الاخر.

قال رحمه‌الله : لو رجعا عن الشهادة قبل الحكم لم يحكم ـ الى قوله : ولو رجعا بعد الحكم وقبل الاستيفاء ، فان كان حدا لله نقض الحكم ، لتحقق الشبهة الموجبة للسقوط. وكذا لو كان الادمي كحد القذف ، أو مشتركا كحد السرقة ، وفي نقض الحكم لما عدا ذلك تردد.

أقول : منشؤه : النظر الى أن المحكوم به مقطوع بصحته شرعا ، ورجوعهما يحتمل الصدق والكذب ، فلو نقض به ما قد قطع عليه ترك العمل بهذا الدليل في بعض الصور لوجود دليل أقوى ، فيبقى معمولا به فيما عداه ، وهو ظاهر كلام الشيخ في كتابي الفروع وأتبعهما المتأخر.

والالتفات الى ان الرواية المتضمنة رد الزوجة المشهود بطلاقها على زوجها الاول مع رجوع الشهود عن ذلك يستلزم نقض الحكم في غير الصور الثلاث مع الرجوع قبل الاستيفاء ، وهو ظاهر كلام الشيخ في النهاية (٢) (٣).

[ قال رحمه‌الله : اذا قتل المرتد مسلما عمدا ، فللولي قتله قودا ويسقط قتل الردة. ولو عفا الولي قتل بالردة. ولو قتل ] (٤) خطا كانت الدية في ماله مخففة

__________________

(١) عوالى اللئالى ١ / ٢٣٦ و ٢ / ٣٤٩ و ٣ / ٥٤٥.

(٢) النهاية ص ٣٣٦.

(٣) أقول : هنا بياض فى النسختين ، وقال فى هامش « س » : هكذا وجد هذا البياض الّذي هو من « النهاية » الى « الخطأ » فى نسخة بخط الشيخ أحمد بن فهد رحمه‌الله.

(٤) ما بين المعقوفتين أثبته من الشرائع المطبوع.

١٥٤

مؤجلة ، لانه لا عاقلة له على تردد. ولو قتل أو مات حلت ، كما تحل الاموال المؤجلة

أقول : منشؤه : النظر الى أن المرتد كافر ، فلا تحمل العاقلة عنه شيئا من الدية كغيره.

والالتفات الى أنه متحرم يحرمه الاسلام ، فيعقل عنه ورثته المسلمون لان ميراثه لهم ، وهو اختيار الشيخ في المبسوط (١).

قال رحمه‌الله تعالى : اذا مات المرتد ، فقتله من يعتقد بقاءه على الردة ، قال الشيخ : يثبت القود ، لتحقق قتل المسلم ظلما ، ولان الظاهر أنه لا يطلق الارتداد الا بعد توبته ، وفي القصاص تردد ، لعدم القصد الى قتل المسلم.

أقول : منشؤه : النظر الى ظاهر الآيات الدالة على ثبوت القود مع حصول القتل العمد العدوان ، ولان الظاهر من حال المرتد اذا أطلق أنه أطلق بعد توبة واسلام وهو خيرة الشيخ في المبسوط (٢) ، محتجا بهذين الدليلين.

والالتفات الى أن اعتقاد البقاء على الردة شبهة مبيحة للقتل ، فيسقط القصاص معها ، عملا بظاهر قوله عليه‌السلام « ادرءوا الحدود بالشبهات » (٣).

ولا شك أن القصاص حد. أما أولا فللاستعمال. وأما ثانيا فلان الحد هو المنع وهذا المعنى متحقق في القصاص ، فيدخل تحته عملا (٤) بالاشتقاق ، ولانه لم يقصد قتل المسلم ، وهو خيرة المصنف رحمه‌الله ومذهب بعض الفقهاء.

__________________

(١) المبسوط ٨ / ٧٢.

(٢) المبسوط ٨ / ٧٢.

(٣) عوالى اللئالى ١ / ٢٣٦ و ٢ / ٣٤٩ و ٣ / ٥٤٥.

(٤) فى « م » : عموما.

١٥٥

فرع :

قال الشيخ في المبسوط : وكذا البحث لو قتل من يعتقد بقاءه على العبودية فبان حرا أو رأى ذميا فقتله يعتقد أنه على الكفر ، فبان مسلما (١).

فرع آخر :

ان قلنا بثبوت القود ، فالولي بالخياران شاء قتل وان شاء أخذ الدية. وان قلنا بالعدم ، فالدية عليه مغلطة حالة في ماله ، لانه قتل عمدا ، وانما أسقطنا القود للشبهة.

قال رحمه‌الله في الباب الثالث في الدفاع : من به سلعة اذا أمر بقطعها فمات فلا دية له على القاطع ، ولو كان مولى عليه ، فالدية على القاطع ان كان وليا ، كالاب والجد للاب. وان كان أجنبيا ، ففي القود تردد ، والاشبه الدية في ماله لا القود لانه لم يقصد القتل.

أقول : منشؤه : النظر الى أن قطع السلعة (٢) مما يقتل غالبا ، فيكون القصد الى قطعها قصدا الى القتل وان لم يقصده ، فيجب به القود. وانما أسقطناه عن الأب والجد له ، لانهما لا يقادان به.

والالتفات الى أن القاطع لم يقصد الفعل ، فلا يقاد به ، بل يجب عليه دية العمد ، عملا بأصالة براءة الذمة وحقن الدماء ، الا مع وجود الاسباب المبيحة لها.

قال رحمه‌الله في كتاب القصاص : أما لو حبس نفسه يسيرا لا يقتل مثله غالبا ثم أرسله فمات ، ففي القصاص تردد ، والاشبه القصاص ان قصد القتل ، والدية ان لم يقصد أو اشتبه القصد.

أقول : منشؤه : النظر الى أن شرط جواز القصاص يحقق القتل العمد ،

__________________

(١) المبسوط ٨ / ٧٢.

(٢) السلعة : عقدة تكون فى الرأس أو البدن.

١٥٦

وهو غير موجود هنا ، للشك في كون العمل حاصلا بهذا النوع من القتل.

والالتفات الى أنه فعل فعلا حصل به الموت ، فيثبت به القصاص. أما الصغرى ففرضية. وأما الكبرى ، فللرواية الدالة على ذلك ، وهي رواية علي بن أبي حمزة عن أبي بصير قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لو أن رجلا ضرب رجلا بخزفة أو آجرة أو بعود فمات كان عمدا (١). ولما كان هذا القول ضعيفا لا جرم كان القول الاول أجود.

وأعلم أن هذا البحث انما يتمشى مع جهل قصد الفاعل ، أو العلم بأنه لم يقصد القتل. أما لو علم منه قصد القتل بهذا الفعل ، فالاصح ثبوت القصاص ، وان كان ظاهر كلام الشيخ في المبسوط (٢) يأباه.

قال رحمه‌الله : ولو جعل السم في طعام صاحب المنزل ، فوجده صاحبه فأكله فمات ، قال في الخلاف والمبسوط : عليه القود ، وفيه اشكال.

أقول : هذه المسألة ذكرها الشيخ في الخلاف (٣) ، وأفتى فيها بتحتم القود على الجاعل ، وقواه في المبسوط (٤) لا غير ، محتجا بأنه كالقاتل وبأنه عرضه لاكل الطعام وألجأه إليه بالإباحة لاكله ولم يعلمه ، ألا ترى لو علم أن فيه السم لم يختر شربه ولا أكله.

وهذان الدليلان ذكرهما رحمه‌الله في مسألة من جعل السم في طعام نفسه وقدمه الى الغير ولم يعلم أنه مسموم ، ثم قال في مسألتنا : هذه دليلنا ما قلناه في المسألة الاولى سواء.

والمصنف رحمه‌الله استشكل القول بايجاب القود ، ومنشؤه : النظر الى أن

__________________

(١) تهذيب الاحكام ١٠ / ١٥٦ ، ح ٥.

(٢) المبسوط ٧ / ١٧.

(٣) الخلاف ٢ / ٣٥٣ مسألة ٣١ من كتاب الجنايات

(٤) المبسوط ٧ / ٤٥.

١٥٧

الا كل مستقل باتلاف نفسه بمباشرة الا كل العاري عن اذن الجاعل ، فيسقط القود عن الجاعل ، لانه كالسبب. ولا خلاف في سقوط الضمان عن ذي السبب مع مجامعته المباشر ، وهو أحد قولي الشافعي.

والالتفات الى الدليل الذي ذكره الشيخ رحمه‌الله. وفيه نظر ، لاقتران السبب في المسألة الاولى بالالجاء ، وتجرده عنه في الثانية.

فرع :

ظاهر كلام الشيخ المصنف رحمه‌الله يقتضي سقوط الدية أيضا ، وهو مذهب الشافعي ، ومنهم من أوجب الدية ، وهو قول الشافعي أيضا ، وايجاب القود عندي الاقوى.

قال رحمه‌الله : الثاني ـ لو قال : اقتل نفسك ، فان كان مميزا فلا شي‌ء على الملزم ، وإلا فعلى الملزم القود ، وفي تحقق اكراه العاقل هنا اشكال.

أقول : منشؤه : النظر الى أن حقيقة الاكراه الاجبار على الشي‌ء والالجاء إليه ولا شك في تحقق هذا المعنى في العاقل مع الزامه قتل نفسه.

والالتفات الى أن الاكراه على الفعل انما يتحقق اذا كان الاتيان بالفعل المكره عليه مسقطا للضرر الحاصل من جهة المكره ، بتقدير عدم ايقاع الفعل المكره عليه ، ولا شك في انتفاء هذا هنا ، لان قتل هذا المكره لا بدّ منه ، أما في صورة قتل نفسه فظاهر ، وأما في صورة عدم قتله نفسه ، فلان التقدير أن المكره يقتله ثم ان لم يقتل نفسه ، فالقتل حاصل على التقديرين ، فلا اكراه حينئذ ، وفائدة هذا البحث قليلة جدا.

قال رحمه‌الله : لو قطع يده من الكوع وآخر ذراعه ، فهلك قتلا به ، لان سراية الاول لم تنقطع بالثاني ، لشياع ألمه قبل الثانية. وليس كذا لو قطع يده

١٥٨

وقتله الاخر ، لان السراية انقطعت بالتعجيل ، وفي الاول اشكال.

أقول : ينشأ : من النظر الى أن الثاني قطع سراية الاول ، بدلالة أنه لا يتجدد معه الالم بعد قطع الثاني ، فيكون الاول قاطعا والثاني قاتلا ، فيقطع الاول ولا يقتل ويقتل الثاني ، وهو مذهب أبي حنيفة ، ولعله قوي.

والالتفات الى أن الهلاك حصل وألم القطعين باق ، فليس استناد القتل الى أحدهما أولى من الاخر ، فاما أن لا يستند الى واحد منهما ، أو الى واحد معين أو غير معين أو إليهما ، والاقسام الثلاثة باطلة ، فتعين الرابع.

أما بطلان الاول فبالاجماع ، لاستلزامه اهدار دم المرء المسلم.

وأما الثاني ، فلانه ترجيح من غير مرجح ، وهو محال.

وأما الثالث ، فهو باطل ، وبتقدير صحته فالمقصود حاصل. أما أنه باطل ، فلان ما ليس بمعين معدوم ، والمعدوم يستحيل أن يكون مؤثرا. وأما حصول المقصود على تقدير صحته ، فلاستلزامها وجوب القود على القاتل والقاطع معا ، وهر المطلوب ، فتعين الرابع وهو مذهب الشيخ في الخلاف (١) ، محتجا بعين هذا الدليل ، وبه قال الشافعي.

قال رحمه‌الله : الرابعة ـ اذا اشترك حر وعبد في قتل حر عمدا ، قال في النهاية : للاولياء أن يقتلوهما ويؤدوا الى سيد العبد ثمنه ، أو يقتلوا الحر ويؤدي سيد العبد الى ورثة المقتول خمسة آلاف درهم ، أو يسلم العبد إليهم ، أو يقتلوا العبد ، وليس لمولاه على الحر سبيل ، والاشبه أن مع قتلهما يؤدون الى الحر نصف ديته ، ولا يرد على مولى العبد شي‌ء ما لم تكن قيمته أزيد من نصف دية الحر ، فيرد عليه الزائد.

وان قتلوا العبد وكانت قيمته زائدة عن نصف دية المقتول ، أدى الى مولاه

__________________

(١) الخلاف ٢ / ٣٦١.

١٥٩

الزائد ، فان استوعب الدية والا كان تمام الدية لاولياء الاول ، وفي هذه اختلاف للاصحاب ، وما ذكرناه أنسب بالمذهب.

أقول : في هذه المسألة أقوال :

الاول : ما حكاه المصنف عن الشيخ في النهاية (١) ، والاعتراض عليه من وجوه :

الاول ـ قوله « وان قتلوهما ردوا على سيد العبد ثمنه » والصواب أنهم يردون على الحر نصف ديته وعلى سيد العبد ما زاد من قيمته على جنايته. ولو كانت مساوية للجناية أو ناقصة عنها ، فلا ردّ.

الثاني : قوله « أو يقتلوا العبد خاصة وليس لسيد العبد على الحر سبيل » وهو على الاطلاق غير مستقيم ، بل هو حق ان كانت قيمته تساوي خمسمائة دينار أو ينقص عنها. أما لو كانت قيمته تزيد عن جنايته رد الحر على مولاه ما فضل عن جنايته ، فان بقي شي‌ء كان لاولياء المقتول أولا.

الثالث : قوله « أو يقتلوا الحر ويؤدي سيد العبد الى ورثة المقتول خمسة آلاف درهم ، أو يسلم العبد إليهم فيكون رقا لهم » والصواب أن يقدر استرقاقه بأن يكون قيمته مساوية لجنايته ، أو ناقصة عنها. أما لو كانت قيمته زائدة عن قدر جنايته ـ وهي خمسمائة دينار ـ استرق منه بقدر الجناية وكان الباقي للمولى. وأما ايجاب أداء خمسة آلاف ، فيتأتى على القول بفكه بأرش الجناية ، لا على القول الاخر.

الثاني : قال أبو الصلاح الحلبي : اذا قتل الحر والعبد حرا ، فاختار وليه الدية ، فعلى الحر النصف ، وعلى سيد العبد النصف الاخر. وان اختاروا قتلهما رد قيمة العبد على سيده وورثة الحر. وان اختاروا قتل الحر ، فعلى سيد العبد نصف

__________________

(١) النهاية ص ٧٤٥.

١٦٠