تفسير الخازن - ج ١

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]

تفسير الخازن - ج ١

المؤلف:

علاء الدين علي بن محمّد بن إبراهيم البغدادي [ الخازن ]


المحقق: عبدالسلام محمّد علي شاهين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4459-6

الصفحات: ٤٦٣

وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في رزقهم ومؤنتهم. وقال الكلبي : إذا علم الرجل إن امرأته سفيهة مفسدة وإن ولده سفيه مفسد لا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله فيفسده. وقال سعيد بن جبير هو مال اليتيم يكون عندك يقول لا تؤته إياه وأنفق عليه منه حتى يبلغ وإنما أضاف المال إلى الأولياء لأنهم قوامها ومدبروها. وأصل السفه الخفة واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل في الأمور الدنيوية والدينية والسفيه المستحق الحجر هو الذي يكون مبذرا في ماله ومفسدا في دينه فلا يجوز لوليه أن يدفع إليه ماله. وقيل إن السفه المذكور في هذه الآية ليس هو صفة ذم لهؤلاء وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم وضعفهم عن القيام بحفظ المال فقوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ) يعني الجهال بموضع الحق أموالكم (الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) يعني قوام معايشكم يقول المال هو قوام الناس وقوام معايشهم كن أنت قيم أهلك أنفق عليهم ولا تؤت مالك امرأتك وولدك فيكونوا هم الذين يقومون عليك. ولما كان المال سببا للقيام بالمعاش سمي به إطلاقا لاسم المسبب على السبب على سبيل المبالغة لأنه به يقام الحج والجهاد وأعمال البر وفكاك الرقاب من النار (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) أي أطعموهم (وَاكْسُوهُمْ) يعني لمن يجب عليكم رزقه وكسوته لما نهى الله عن إيتاء المال للسفيه أمر أن يجري رزقه وكسوته وإنما قال : وارزقوهم فيها ولم يقل منها لأنه أراد اجعلوا لهم فيها رزقا والرزق من الله تعالى هو العطية من غير حد ولا قطع ومعنى الرزق من العباد هو الأجر الموظف المعلوم لوقت معلوم محدود (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) يعني قولا جميلا لأن القول الجميل يؤثر في القلب ويزيل السفه وقيل معناه عدوهم عدة جميلة من البر والصلة. قال عطاء يقول : إذا ربحت أعطيتك وإن غنمت قسمت لك حظا وقيل معناه الدعاء أي ادعوا لهم. قال ابن زيد إن لم يكن ممن تجب عليك نفقته فقل له عافانا الله وإياك بارك الله فيك. وقيل معناه قولوا لهم قولا تطيب به أنفسهم وهو أن يقول الولي لليتيم السفيه : مالك عندي وأنا أمين عليه فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك. وقال الزجاج معناه علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل. قوله عزوجل :

(وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦))

(وَابْتَلُوا الْيَتامى) الآية نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه وذلك أن رفاعة مات وترك ابنه ثابتا وهو صغير فجاء عمه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَابْتَلُوا الْيَتامى) يعني اختبروهم في عقولهم وأديانهم وحقوق أموالهم (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) أي مبلغ الرجال والنساء (فَإِنْ آنَسْتُمْ) أي أبصرتم وعرفتم (مِنْهُمْ رُشْداً) يعني عقلا وصلاحا في الدين وحفظا للمال وعلما بما يصلحه.

(فصل في أحكام تتعلق بالحجر وفيه مسائل)

المسألة الأولى : الابتلاء يختلف باختلاف أحوال اليتامى فإن كان ممن يتصرف بالبيع والشراء في الأسواق يدفع إليه شيئا يسيرا من المال ، وينظر في تصرفه وإن كان ممن لا يتصرف في الأسواق فيختبر بنفقته على أهله وعبيده وإجرائه وتصرفه في أموال داره ، وتختبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها فإذا رأى حسن تدبير اليتيم وحسن تصرفه في الأمور مرار أو غلب على الظن رشده دفع إليه ماله بعد بلوغه ولا يدفع إليه ماله وإن كان شيخا يغلب عليه السفه حتى يؤنس منه الرشد.

المسألة الثانية : قال الإمام أبو حنيفة : تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة. وقال الشافعي

٣٤١

هي غير صحيحة. واحتج أبو حنيفة على قوله بهذه الآية وذلك لأن قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح يقتضي أن هذا الابتلاء إنما يحصل قبل البلوغ والمراد من هذا الابتلاء اختبار حاله في جميع تصرفاته فثبت أن قوله وابتلوا اليتامى أمر للأولياء بالإذن لهم في البيع والشراء قبل البلوغ أجاب الشافعي بأن قال ليس المراد وابتلوا اليتامى الإذن لهم في التصرف حال الصغر بدليل قوله فإن آنستم منهم رشدا (فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) وإنما تدفع إليهم أموالهم بعد البلوغ وإيناس الرشد فثبت بموجب هذه الآية أنه لا يدفع إليه ماله حال الصغر فوجب أن لا يصح تصرفه حال الصغر وإنما المراد من الابتلاء هو اختبار عقله واستكشاف حاله في معرفة المصالح والمفاسد.

المسألة الثالثة : في بيان البلوغ وذلك بأربعة أشياء اثنان يشترك فيهما الرجال والنساء. واثنان يختصان بالنساء أما اللذان يشترك فيهما الرجال والنساء فأحدهما بالسن فإذا استكمل المولود خمس عشرة سنة. حكم ببلوغه غلاما كان أو جارية. ويدل عليه ما روى عن ابن عمر قال : عرضت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني. ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. أخرجاه في الصحيحين وهذا قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة بلوغ الجارية باستكمال سبع عشرة سنة وبلوغ الغلام باستكمال ثماني عشرة سنة والثاني الاحتلام وهو إنزال المني الدافق سواء أنزل باحتلام أو جماع فإذا وجد ذلك من الصبي أو الجارية حكم ببلوغه لقوله تعالى (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاذ : خذ من كل حالم دينارا أما نبات الشعر الخشن حول الفرج فهو يدل على البلوغ في أولاد المشركين لما روى عن عطية القرظي قال : كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل. فكنت ممن لم ينبت وهل يكون ذلك علامة عن البلوغ في أولاد المسلمين؟ فيه قولان : أحدهما أنه يكون بلوغا كما في أولاد المشركين والثاني لا يكون ذلك بلوغا في حق أولاد المسلمين لأنه يمكن الوقوف على مواليد أولاد المسلمين والرجوع إلى قول آبائهم بخلاف الكفار فإنه لا يوقف على مواليدهم ولا يقبل في ذلك قول آبائهم لكفرهم فجعل الإنبات الذي هو أمارة البلوغ بلوغا في حقهم. وأما الذي يختص بالنساء فهو الحيض والحبل فإذا حاضت الجارية بعد استكمال تسع سنين حكم ببلوغها وكذلك إذا ولدت حكم ببلوغها قبل الوضع بستة أشهر لأنها أقل مدة الحمل.

المسألة الرابعة : في بيان الرشد وهو أن يكون مصلحا في دينه وماله فالصلاح في الدين هو اجتناب الفواحش والمعاصي التي تسقط بها العدالة والصلاح في المال هو أن لا يكون مبذرا والتبذير أن ينفق ماله فيما لا يكون فيه محمدة دنيوية ولا مثوبة أخروية أو لا يحسن التصرف فيغبن في البيع والشراء. فإذا بلغ الصبي وهو مفسد لماله ودينه لم ينفك عنه الحجر ولا ينفذ تصرفه في ماله. وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا كان مصلحا لماله زال عنه الحجر وإن كان مفسدا لدينه وإذا كان لما له مفسدا لا يدفع إليه المال حتى يبلغ خمسة وعشرين سنة غير أنه ينفذ تصرفه قبله والقرآن حجة الشافعي في استدامة الحجر عليه لأن الله تعالى قال (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) أمر بدفع المال بعد البلوغ وإيناس الرشد والفاسق لا يكون رشيدا وبعد بلوغه خمسا وعشرين سنة وهو مفسد لماله بالإنفاق غير رشيد فوجب أن لا يجوز دفع المال إليه كما قبل بلوغ هذا السن.

المسألة الخامسة : إذا بلغ الصبي أو الجارية وأونس منه الرشد زال عنه الحجر ودفع إليه ماله سواء تزوج أو لم يتزوج وقال مالك إن كانت امرأة لا يدفع إليها المال ما لم تتزوج فإذا تزوجت دفع إليها مالها ولا ينفذ تصرفها إلا بإذن الزوج ما لم تكبر وتجرب.

المسألة السادسة : إذا بلغ الصبي رشيدا زال عنه الحجر فلو عاد سفيها ينظر فإن كان مبذرا لماله حجر عليه وإن كان مفسدا في دينه فعلى وجهين : أحدهما أن يعاد عليه الحجر كما يستدام إذا بلغ وهو بهذه الصفة. والثاني

٣٤٢

لا يحجر عليه لأن حكم الدوام أقوى من حكم الابتداء. وعند أبي حنيفة لا حجر على الحر العاقل البالغ بحال والدليل على إثبات الحجر من اتفاق الصحابة ما روي عن هشام بن عروة عن أبيه أن عبد الله بن جعفر ابتاع أرضا سبخة بستين ألف درهم فقال علي : لآتين عثمان ولأحجرن عليك فأتى ابن جعفر الزبير فأعلمه بذلك فقال الزبير أنا شريكك في بيعك فأتى علي عثمان فقال احجر على هذا فقال الزبير أنا شريكه فقال عثمان كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير فكان اتفاقا منهم على جواز الحجر حتى حتى احتال الزبير لدفعه وقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) الخطاب للأولياء يعني يا معشر الأولياء لا تأكلوا أموال اليتامى بغير حق (وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) يعني لا تبادروا كبرهم ورشدهم فتفرطوا في إنفاقها وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبروا فيلزمكم تسليمها إليهم. ثم بيّن تعالى حال الأولياء وقسمهم قسمين فقال تعالى : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) أي فليمتنع من أكل مال اليتيم ولا يرزأه قليلا ولا كثيرا (وَمَنْ كانَ فَقِيراً) يعني محتاجا إلى مال اليتيم وهو يحفظه (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني فقير وليس لي ولي يتيم فقال كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل. واختلف العلماء في حكم هذه الآية فروي عن عمر وابن عباس وابن جبير وأبي العالية وعبيدة السلماني وأبي وائل ومجاهد ومقاتل أنه يأخذ من مال اليتيم على وجه القرض. واختلفوا في أنه هل يلزمه القضاء فذهب قوم إلى أنه يلزمه القضاء إذا أيسر وهو المراد من قوله تعالى فليأكل بالمعروف والمعروف القرض أي يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه ، فإذا أيسر قضاه وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير قال عمر بن الخطاب : إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف فإذا أيسرت قضيت. وقال قوم لا ضمان عليه ولا قضاء بل يكون ما يأكله كالأجرة له على عمله وهو قول الحسن والشعبي والنخغي وقتادة قال الشعبي لا يأكله إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة ثم القائلون بجواز الأكل من مال اليتيم اختلفوا في قوله فليأكل بالمعروف. فقال عطاء وعكرمة يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف ولا يكتسي منه ولا يلبس الكتان ولا الحلل لكن يأكل ما يسد به الجوع ويلبس ما يستر به العورة. وقال الحسن يأكل من تمر نخله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه فأما الذهب والفضة فلا يأخذ منه شيئا فإن أخذ وجب عليه رده. وقال الكلبي المعروف هو ركوب الدابة وخدمة الخادم ، وليس له أن يأكل من ماله شيئا وروي أن رجلا قال لابن عباس إن لي يتيما وإن له إبلا أفأشرب من لبن إبله فقال ابن عباس إن كنت تبغي ضالة إبل وتهنأ جرباها وتليط حوضها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضر نسل ولا ناهك في الحلب وقال قوم المعروف أن يأخذ من ماله بقدر قيامه وأجرة عمله ولا قضاء عليه وهو قول عائشة وجماعة من أهل العلم وقوله تعالى : (فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) هذا أمر إرشاد وليس بواجب أمر الله تعالى الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد البلوغ لتزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة لأنه إذا كانت عليه بينة كان أبعد من أن يدعى عدم القبض وتظهر بذلك أمانة الوصي وتسقط عنه اليمين عند إنكار اليتيم القبض (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) يعني محاسبا ومجازيا وشاهدا به قوله تعالى :

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧))

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) نزلت هذه الآية في أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأته ويقال لها أم كحة وثلاث بنات منها فقام رجلان هما ابن عم الميت ووصياه يقال لهما سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا من ماله. وذلك أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير من الذكور وإنما كانوا يورثون الرجال يقولون لا يعطى الإرث إلّا من قاتل وحاز الغنيمة وحمى الحوزة فجاءت أم

٣٤٣

كحة امرأة أوس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله مات أوس بن ثابت وترك ثلاثة بنات وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن وقد ترك أبوهن مالا حسنا وهو عند سويد وعرفجة ولم يعطياني ولا بناته منه شيئا وهن في حجري ولا يطعمن ولا يسقين فدعاهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : يا رسول الله إن ولدها لا يركبن فرسا ولا يحملن كلأ ولا ينكبن عدوا فأنزل الله هذه الآية وبين أن الإرث ليس مختصا بالرجال بل هو أمر يشترك فيه الرجال والنساء. فقال تعالى للرجال يعني الذكور من أولاد الميت وعصبته نصيب أي حظ مما ترك الوالدان والأقربون يعني من لميراث (وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ) يعني وللإناث من أولاد الميت حظ (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) يعني من المال المخلف عن الميت (نَصِيباً مَفْرُوضاً) يعني معلوما والفرض ما فرضه الله تعالى وهو آكد من الواجب فلما نزلت هذه الآية مجملة ولم يبين كم هو النصيب أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سويد وعرفجة لا تفرقا من المال شيئا فإن الله تعالى قد جعل لبناته نصيبا مما ترك ولم يبين كم هو حتى أنظر ما ينزل فيهن فأنزل الله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الآية فلما نزلت أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سويد وعرفجة أن ادفعا إلى أم كحة الثمن مما ترك وإلى بناته الثلثين ولكما باقي المال. قوله عزوجل :

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨))

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) يعني قسمة الميراث فعلى هذا القول يكون الخطاب للوارثين (أُولُوا الْقُرْبى) يعني القرابة الذين لا يرثون (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ) إنما قدم اليتامى لشدة ضعفهم وحاجتهم (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) أي فارضخوا لهم من المال قبل القسمة. واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم هذه الآية منسوخة بآية المواريث وهذا قبل نزول آية المواريث فلما نزلت آية المواريث جعلت لأهلها ونسخت هذه الآية وهي رواية مجاهد عن ابن عباس وقول سعيد بن المسيب وعكرمة والضحاك وقتادة وقال قوم هي محكمة غير منسوخة. وهي الرواية الأخرى عن ابن عباس وهو قول أبي موسى الأشعري والحسن وأبي العالية والشعبي وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير ومجاهد والنخعي والزهري ثم اختلف العلماء بعد القول بأنها محكمة هل هذا الأمر أمر وجوب أو ندب على قولين : أحدهما أنه واجب فقيل إن كان لوارث كبيرا وجب عليه أن يرضخ لمن حضر القسمة شيئا من المال بقدر تطيب به نفسه وإن الوارث صغيرا وجب على الولي أن يعتذر إليهم ويقول إني لا أملك هذا المال وهو لهؤلاء الضعفاء. قال ابن عباس إن كان الورثة كبارا رضخوا لهم وإن كان الورثة صغارا اعتذر إليهم فيقول الولي أو الوصي إني لا أملك هذا المال وإنما هو للصغار ولو كان لي منه شيء لأعطيتكم وإن يكبروا فسيعرفوا حقكم هذا هو القول المعروف وقال بعضهم : هذا حق واجب في مال الصغار والكبار فإن كان الورثة كبارا تولوا إعطاءهم بأنفسهم وإن كانوا صغارا أعطى وليهم. وروى محمد بن سيرين أن عبيدة السلماني قسم أموال أيتام فأمر بشاة فذبحت وصنعت طعاما لأجل هذه الآية وقال لو لا هذه الآية لكان هذا من مالي ، وقال الحسن والنخعي هذا الرضخ مختص بقسمة الأعيان فإذا آل الأمر إلى قسمة الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك فقولوا لهم قولا معروفا وقيل كانوا يعطون التابوت والأواني ورث الثياب والمتاع الذي يستحي من قسمته والقول الثاني إن هذا الأمر ندب واستحباب لا على سبيل الفرض والإيجاب وهذا القول هو الأصح الذي عليه العمل اليوم واحتجوا لهذا القول بأنه لو كان لهؤلاء حق معين لبينه الله تعالى كما بين سائر الحقوق فحيث لم يبين علمنا أن ذلك غير واجب وقيل في معنى الآية أن المراد بالقسمة الوصية فإذا حضر الوصية من لا يرث من الأقرباء واليتامى والمساكين أمر الله الوصي أن يجعل لهم نصيبا من تلك الوصية ويقول لهم مع ذلك قولا معروفا وقوله :

(وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) هو أن لا يتبع العطية بالمن والأذى. قوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً

٣٤٤

سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠))

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً) يعني أولادا صغارا (خافُوا عَلَيْهِمْ) يعني الفقر قيل هذا خطاب للذين يجلسون عند المريض وقد حضره الموت فيقول له انظر لنفسك فإن أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئا قدم لنفسك أعتق وتصدق وأعط فلا يزالون به حتى يأتي على عامة ماله فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بأن يأمروه بالنظر لولده ولا يزيد على الثلث في وصيته ولا يجحف. والمعنى كما أنكم تكرهون بقاء أولادكم في الضعف والجوع من غير مال فاخشوا الله ولا تحملوا المريض على أن يحرم أولاده الصغار من ماله وحاصل هذا الكلام كما أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك فلا ترضه لأخيك المسلم. وكما أنه لو كان هذا القائل هو الموصي لسره أن يحثه من يحضره على حفظ ماله لولده ولا يدعهم عالة يتكففون الناس مع ضعفهم وعجزهم. وقيل هو الرجل يحضره الموت ويريد أن يوصي بشيء فيقول له من حضره من الرجال اتق الله وامسك أموالك لولدك فيمنعونه من الوصية لأقاربه المحتاجين وقيل الآية يحتمل أن تكون خطابا لمن حضر أجله ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصية لئلا تبقى ورثته فقراء ضعافا ضائعين بعد موته. ثم إن كانت هذه الآية نزلت قبل تقدير الثلث كان المراد منها أن لا يجعل الوصية مستغرقة للتركة وإن كانت قد نزلت بعد تقدير الثلث كان المراد منها أن يوصي بالثلث أو بأقل منه إذا خاف على ورثته كما روى عن كثير من الصحابة أنهم أوصوا بالقليل لأجل ذلك وكانوا يقولون الخمس في الوصية أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث. وقد ورد في الصحيح الثلث والثلث كثير لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس يعني يسألونهم بأكفهم وقيل هو خطاب لأولياء اليتامى والمعنى وليخش من خاف على ولده من بعد موته أن يضيع مال اليتيم الضعيف الذي هو ذرية غيره إذا كان في حجره والمقصود من الآية أن من كان في حجره يتيم فليحسن إليه وليه أو وصيه وليفعل به ما يحب أن يفعل بأولاده من بعده (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) يعني في الأمر الذي تقدم ذكره (وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) يعني عدلا وصوابا فالقول السديد من الجالسين عند المريض هو أن يأمروه أن يتصدق بدون الثلث ويترك الباقي لولده ورثته وأن لا يحيف في وصيته. والقول السديد من الأوصياء وأولياء اليتامى أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم ولا يؤذوهم بقول ولا فعل قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) قال مقاتل وابن حبان نزلت في رجل من غطفان يقال له مرثد بن زيد ولي مال يتيم وكان اليتيم ابن أخيه فأكله فأنزل الله هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) يعني حراما بغير حق (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) يعني سيأكلون يوم القيامة فسمي الذين يأكلون نارا بما يؤول إليه أمرهم يوم القيامة. قال السدي يبعث آكل مال اليتيم ظلما يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأذنيه وعينيه وأنفه يعرفه من رآه بآكل مال اليتيم. وفي حديث أبي سعيد الخدري قال حدثني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ليلة أسري به قال نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم قلت يا جبريل من هؤلاء قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا. وقيل إنما ذكر أكل النار على سبيل التمثيل والتوسع في الكلام والمراد أن أكل ما اليتيم ظلما يفضي به إلى النار وإنما خص الأكل بالذكر وإن كان المراد سائر أنواع الإتلافات وجميع التصرفات الرديئة المتلفة للمال لأن الضرر يحصل بكل ذلك لليتيم. فعبر عن جميع ذلك بالأكل لأنه معظم المقصود وإنما ذكر البطون للتأكيد فهو كقولك رأيت بعيني وسمعت بأذني (وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) يعني بأكلهم أموال اليتامى ظلما والسعير النار الموقدة المسعرة. ولما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس واحترزوا من مخالطة اليتامى وأموالهم بالكلية فشق ذلك على اليتامى فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) وقد توهم بعضهم أن قوله وإن تخالطوهم ناسخ لهذه الآية وهذا غلط ممن توهمه لأن هذه الآية واردة

٣٤٥

في المنع من أكل أموال اليتامى ظلما وهذا لا يصير منسوخا لأن أكل مال اليتيم بغير حق من أعظم الآثام وقوله : وإن تخالطوهم فإخوانكم وارد على سبيل الإصلاح في أموال اليتامى والإحسان إليهم وهو من أعظم القرب. قوله تعالى :

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١))

(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية فروي عن جابر قال مرضت فأتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعودني وأبو بكر وهما يمشيان فوجداني أغمي عليّ فتوضأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم صب وضوءه عليّ فأفقت فإذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس فقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي كيف أقضى في مالي فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث ، وفي رواية فقلت لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض وفي رواية أخرى فنزلت : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) وفي رواية أخرى فلم يرد على شيئا حتى نزلت آية الميراث يستفتونك قل الله يفتيكم أخرجه البخاري ومسلم وقال مقاتل والكلبي : نزلت في أم كحة امرأة أوس بن ثابت وبناته. وقال عطاء نزلت في سعد بن الربيع النقيب استشهد يوم أحد وترك بنتين وامرأة وأخا (ق) عن جابر رضي الله عنه قال جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا وأن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال قال : يقضي الله في ذلك فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عمهما فقال أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فهو لك أخرجه الترمذي. وقال السدي : كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلماء لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امرأة وخمس بنات فجاء الورثة وأخذوا ماله فشكت امرأته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة وقبل الشروع في تفسير هذه الآية الكريمة. نقدم فصولا تتضمن أحكام الفرائض وأصول قواعدها.

فصل في الحث على تعليم الفرائض

اعلم أن الفرائض من أعظم العلوم قدرا وأشرفها ذخرا وأفضلها ذكرا وهي ركن من أركان الشريعة وفرع من فروعها في الحقيقة اشتغل الصدر الأول من الصحابة بتحصيلها وتكلموا في فروعها وأصولها ويكفي في فضلها أن الله عزوجل تولى قسمتها بنفسه وأنزلها في كتابه مبينة من محل قدسه وقد حث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تعليمها فيما رواه أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعلموا الفرائض والقرآن وعلموا الناس فإني مقبوض» أخرجه الترمذي وقال فيه اضطراب وأخرجه أحمد بن حنبل وزاد فيه فإني امرؤ مقبوض والعلم مرفوع ويوشك أن يختلف اثنان في الفريضة فلا يجدان أحدا يخبرهما. عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعلموا الفرائض وعلموها فإنه نصف العلم» وهو أول علم ينسى وهو أول شيء ينزع من أمتي أخرجه ابن ماجة والدارقطني.

فصل في بيان أحكام الفرائض

إذا مات الميت وله مال يبدأ بتجهيزه من ماله ثم تقضي ديونه إن كان عليه دين ثم تنفذ وصاياه وما فضل بعد ذلك من ماله يقسم بين ورثته والوارثون من الرجال عشرة : الابن وابن الابن وإن سفل الأب والجد وإن علا والأخ سواء كان لأب وأم أو لأب أو لأم وابن الأخ للأب والأم أو للأب وإن سفل والعم للأب والأم أو للأب

٣٤٦

وابناهما وإن سفلوا والزوج والمعتق. والوارثات من النساء سبع : البنت وبنت الابن وإن سفلت. والأم والجدة وإن علت. والأخت من كل الجهات. والزوجة والمعتقة وستة من هؤلاء لا يلحقهم حجب الحرمان بالغير وهم : الأبوان والوالدان والزوجان لأنه ليس بينهم وبين الميت واسطة ثم الورثة ثلاثة أصناف : صنف يرث بالفرض المجرد وهم الزوجان والبنات والأخوات والأمهات والجدات وأولاد الأم وصنف يرث بالتعصيب وهم : البنون والإخوة وبنوهم والأعمام وبنوهم وصنف يرث بالتعصيب تارة وبالفرض أخرى وهما : الأب والجد فيرث بالتعصيب إذا لم يكن للميت ولد فإن كان له ابن ورث الأب بالفرض السدس وإن كانت بنت ورث السدس بالفرض وأخذ الباقي بالتعصيب والعصبة اسم لمن يأخذ جميع المال إذا انفرد ويأخذ ما فضل عن أصحاب الفرائض.

فصل

وأسباب الإرث ثلاثة : نسب ونكاح وولاء فالنسب القرابة يرث بعضهم بعضا والنكاح هو أن يرث أحد الزوجين من صاحبه بسبب النكاح والولاء هو أن المعتق وعصباته يرثون المعتق والأسباب التي تمنع الميراث أربعة : اختلاف الدين فالكافر لا يرث المسلم ولا المسلم يرث الكافر لما روي من أسامة بن زيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم. أخرجاه في الصحيحين. فأما الكفار فيرث بعضهم بعضا مع اختلاف مللهم وأديانهم لأن الكفر كله ملة واحدة وذهب بعضهم إلى أن اختلاف الملل والكفر يمنع التوارث أيضا حتى لا يرث اليهودي من النصراني ولا النصراني من المجوسي وإلى هذا ذهب الزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق لما روي عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا توارث بين أهل ملتين أخرجه الترمذي وقال حديث غريب. عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يتوارث أهل ملتين شتى» أخرجه أبو داود وحمله الآخرون على الإسلام والكفر لأن الكفر عندهم ملة واحدة فتوريث بعضهم من بعض لا يكون فيه إثبات التوارث بين ملتين شتى والرق يمنع الإرث لأن الرقيق ملك ولا ملك له فلا يرث ولا يورث والقتل يمنع الإرث عمدا كان القتل أو خطأ لما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «القاتل لا يرث» أخرجه الترمذي وقال : هذا حديث لا يصح والذي عليه العمل عند أهل العلم أن القاتل لا يرث سواء كان القتل عمدا أو خطأ. وقال بعضهم إذا كان القتل خطأ فإنه يرث وهو قول مالك وعمى الموت وهو أن يخفى موت المتوارثين وذلك بأن غرقا أو انهدم عليهما بناء فلم يدر أيهما سبق موته فلا يرث أحدهما الآخر بل يكون إرث كل واحد منهما لما كانت حياته يقينا بعد موته من ورثته.

فصل : السهام المحدودة

والسهام المحدودة في الفرائض المذكورة في كتاب الله عزوجل ستة : النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس فالنصف فرض خمسة : فرض الزوج عند عدم الولد وفرض البنت الواحدة للصلب أو بنت الابن عند عدم بنت الصلب وفرض الأخت الواحدة للأب والأم وفرض الأخت الواحدة للأب والأم وفرض الأخت الواحدة للأب إذا لم يكن ولد لأب وأم والربع فرض الزوج من الولد وفرض الزوجة مع عدم الولد والثمن فرض الزوجة مع الولد والثلثان فرض البنتين فصاعدا أو بنات الابن عند عدم بنات الصلب وفرض الأختين فصاعدا للأب والأم أو للأب والثلث فرض ثلاثة : فرض الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا اثنان من الإخوة والأخوات إلّا في مسألتين : إحداهما زوج وأبوان والأخرى زوجة وأبوان فإن للأم فيهما ثلث الباقي بعد نصيب الزوج أو الزوجة وفرض الاثنين فصاعدا من أولاد الأم ذكرهم وأنثاهم فيه سواء وفرض الجد مع الإخوة إذا لم يكن في المسألة صاحب فرض وكان الثلث للجد خيرا من المقاسمة مع الإخوة والسدس فرض سبعة : فرض الأب إذا كان للميت ولد وفرض الأم إذا كان للميت ولد أو ولد ابن أو اثنان من الإخوة والأخوات وفرض الجد إذا كان للميت ولد

٣٤٧

ومع الإخوة إذا كان في المسألة صاحب فرض وكان السدس خير للجد من المقاسمة مع الإخوة وفرض الجدة والجدات ، وفرض الواحد من أولاد الأم ذكرا كان أو أنثى وفرض بنات الابن مع بنت الصلب تكملة الثلثين وفرض الأخوات للأب مع الأخت للأب والأم تكلمة الثلثين (ق) عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر (خ) عن ابن عباس قال كان المال للولد والوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع ا ه.

فصل

روي عن زيد بن ثابت قال : ولد الأبناء بمنزلة الأبناء إذا لم يكن دونهن ابن ذكرهم كذكرهم وأنثاهم كأنثاهم يرثون ويحجبون كما يحجبون ولا يرث ولد ابن مع ابن ذكر فإن ترك ابنة وابن ابن ذكر كان للبنت النصف ولابن الابن ما بقي لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» ففي هذا الحديث دليل على أن بعض الورثة يحجب البعض والحجب حجبان : حجب نقصان وحجب حرمان. أما الأول وهو حجب النقصان فهو أن الولد وولد الابن يحجب الزوج من النصف إلى الربع والزوجة من الربع إلى الثمن والأم من الثلث إلى السدس وكذلك الاثنان من الإخوة والأخوات يحجبون الأم من الثلث إلى السدس. وأما الثاني وهو حجب الحرمان فهو أن الأم تسقط الجدات وأولاد الأم وهم الإخوة للأم يسقطون بأربعة بالأب والجد وإن علا وبالولد وولد الابن وأولاد الأب والأم وهم الإخوة للأب والأم يسقطون بثلاثة بالأب والابن وابن الابن وإن سفلوا ولا يسقطون بالجد على مذهب زيد بن ثابت. وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وبه قال مالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وأولاد الأب يسقطون بهؤلاء الثلاثة وبالأخ للأب والأم وذهب قوم إلى أن الإخوة يسقطون جميعا بالجد كما يسقطون بالأب. وهو قول أبي بكر الصديق وابن عباس ومعاذ وأبي الدرداء وعائشة. وبه قال الحسن وعطاء وطاوس وأبو حنيفة والأقرب من العصبات يسقط الأبعد منهم فأقربهم الابن ثم ابن الابن وإن سفل ثم الأب ثم الجد وإن علا فإن كان مع الجد أحد من الإخوة والأخوات للأب والأم أو للأب يشتركان في الميراث فإن لم يكن جد فالأخ للأب والأم ثم الأخ للأب ثم بنو الإخوة يقدم أقربهم سواء كان لأب وأم أو لأب فإن استويا في الدرجة فالذي هو لأب وأم ثم العم لأب وأم ثم بنوهم على ترتيب بني الإخوة ثم عم الأب ثم عم الجد على الترتيب فإن لم يكن أحد من عصابات النسب وعلى الميت ، ولا فالميراث للمعتق فإن لم يكن حيا فلعصبات المعتق وأربعة من الذكور يعصبون الإناث : الابن وابن الابن والأخ للأب والأم والأخ للأب فلو مات عن ابن وبنت أو عن أخ وأخت لأب وأم أو لأب يكون المال. بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ولا يفرض للبنت والأخت ، وكذلك ابن الابن يعصب من في درجته من الإناث ومن فوقه إذا لم يأخذ من الثلثين شيئا حتى لو مات عن بنتين وبنت ابن فللبنتين الثلثان ولا شيء لبنت الابن فإن كان في درجتها ابن ابن أو أسفل منها ابن ابن ابن كان الباقي بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين والأخت للأب والأم أو للأب تكون مع البنت عصبة حتى لو مات عن بنت وأخت كان للبنت النصف والباقي وهو النصف للأخت ولو مات عن بنتين وأخت كان للبنتين الثلثان والباقي للأخت ويدل على ذلك ما روي عن هزيل بن شرحبيل قال سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن أخت فقال : للابنة النصف وللأخت النصف وائت ابن مسعود. فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال ابن مسعود : لقد ضللت وما أنا من المهتدين ثم قال اقضي فيها بقضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت فأخبر أبو موسى بقول ابن مسعود فقال لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم أخرجه البخاري. وأما تفسير فقوله تعالى يوصيكم الله أي يعهد إليكم ويفرض عليكم في أولادكم يعني في أمر من أولادكم إذا متم والوصية من الله إيجاب وإنما بدأ الله تعالى بذكر ميراث الأولاد لأن تعلق قلب الإنسان بولده أشد

٣٤٨

من تعلقه بغيره فلهذا قدم الله ذكر ميراثهم للذكر مثل حظ الأنثيين يعني أن الولد الذكر له من الميراث ضعفا سهام الأنثى فللذكر سهمان وللأنثى سهم فلو حصل مع الأولاد غيرهم من الورثة من أهل الفروض كالأبوين أخذوا فروضهم وما بقي بعد ذلك كان بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين (فَإِنْ كُنَ) يعني المتروكات من الأولاد (نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) يعني بنتين فصاعدا (فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) وأجمعت الأمة على أن للبنتين الثلثين إلّا ما روي عن ابن عباس أنه ذهب إلى ظاهر الآية وقال : الثلثان فرض الثلاث من البنات لأن الله تعالى قال : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ) فجعل الثلثين للنساء إذا زدن على الثنتين. وعنده أن فرض الثنتين النصف كفرض الواحدة وأجيب عنه بوجوده فيها حجة لمذهب الجمهور أيضا : الوجه الأول أن الله تعالى قال : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) فجعل للواحدة وذلك ينفي حصول النصف نصيبا للبنتين. الوجه الثاني في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير : فإن كن نساء اثنتين فما فوقهما فلهن الثلثان. الوجه الثالث أن لفظة فوق هاهنا صلة والتقدير فإن كن نساء اثنتين فهو كقوله : «فاضربوا فوق الأعناق» يعني فاضربوا الأعناق وإنما سمى الاثنتين نساء بلفظ الجمع ، لأن العرب تطلق على الاثنين جماعة بدليل قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما). الوجه الرابع قال علماء الجمهور : وإنما أعطينا البنتين الثلثين بتأويل القرآن لأن الله تعالى جعل للبنت الواحدة النصف بقوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) وجعل للأخت الواحدة النصف بقوله : «إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك» ثم جعل للأختين الثلثين بقوله : «فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان» فلما جعل للأختين الثلثين علمنا أن للبنتين الثلثين قياسا على الأختين. الوجه الخامس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالثلثين لابنتي سعد بن الربيع وهذا نص واضح في المسألة.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً) يعني البنت واحدة (فَلَهَا النِّصْفُ) يعني فرضا لها (وَلِأَبَوَيْهِ) يعني أبوي الميت كناية عن غير مذكور وهما والداه (لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) يعني أن للأب والأم مع وجود الولد أو ولد الابن لكل واحد منهما سدس الميراث. واعلم أن اسم الولد يقع على الذكر والأنثى فإذا مات الميت وترك أبوين وولدا ذكرا واحدا كان أو أكثر أو ترك بنات فإن للأم السدس بالفرض وللأب السدس مع الولد الذكر بالفرض ومع البنات له السدس بالتعصيب وهو الباقي من التركة وله مع البنت الواحدة السدس بالفرض والباقي بالتعصيب (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ) يعني للميت (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) يعني أن الميت إذا مات عن أبوين وليس له وارث سواهما فإن الأم تأخذ الثلث بالفرض ويأخذ الأب باقي المال بالفرض والتعصيب. فيكون المال بينهما أثلاثا للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كان مع الأبوين أحد الزوجين فيفرض للأم ثلث الباقي بعد نصيب الزوج أو الزوجة (فَإِنْ كانَ لَهُ) يعني للميت (إِخْوَةٌ) يعني ذكورا أو إناثا (فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) يعني لأم الميت سدس للتركة إذا كان معها أب وأجمع العلماء على أن الثلاثة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس وأن الأخ الواحد والأخت الواحدة لا تحجب الأم من الثلث إلى السدس. واختلفوا في الأخوين فالأكثرون من الصحابة يقولون الأخوين يحجبان الأم من الثلث إلى السدس وهذا قول عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت والجمهور. وقال ابن عباس : لا تحجب الإخوة الأم من الثلث إلى السدس إلّا أن يكونوا ثلاثة. قال ابن عباس لعثمان : لم صار الأخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس ، وإنما قال الله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) والأخوان في لسان قومك ليسا بأخوة فقال عثمان : يا بني إن قومك حجبوها بأخوين ولا أستطيع نقد أمر قد كان قبلي وإنما نشأ هذا الاختلاف لأنهم اختلفوا في أقل الجمع وفيه قولان : أحدهما أن أقل الجمع اثنان وهو قول أبي بكر الباقلاني. وحجة هذا القول أنك إذا جمعت واحد إلى واحدا فهما جماعة لأن أصل الجمع ضم شيء. وقال ابن الأنباري : التثنية عند العرب أول الجمع ومشهور في كلامهم إيقاع الجمع على التثنية فمن ذلك قوله تعالى : (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) وهما داود وسليمان عليهما‌السلام ومنه قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) يريد

٣٤٩

قلباكما. والقول الثاني أن أقل الجمع ثلاثة وهو قول الجمهور العلماء وهو الأصح. إنما حجب العلماء الأم بالأخوين لدليل اتفقوا عليه وهو أن لفظ الاخوة يطلق على الأخوين فما زاد وذلك جائز في اللغة كما تقدم ثم إن الإخوة إذا حجبوا الأم من الثلث إلى السدس فإنهم لا يرثون شيئا البتة بل يأخذ الأب الباقي كرجل مات عن أبوين وأخوين فإن للأم السدس والباقي وهو خمسة أسداس للأب سدس بالفريضة والباقي بالتعصيب قال قتادة : وإنما حجب الأخوة الأم من غير أن يرثوا مع الأب شيئا معونة للأب لأنه يقوم بشأنهم وينفق عليهم دون الأم (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) يعني أن هذه الأنصباء والسهام إنما تقسيم بعد قضاء الدين وإنفاذ وصية الميت في ثلثه وذكر الوصية مقدم على الدين في اللفظ لا في الحكم لأن لفظه أو لا توجب الترتيب. وإنما هي لأحد الشيئين كأنه قال من بعد أحد هذين مفردا أو مضموما إلى الآخر قال علي رضي الله عنه : إنكم تقرؤون الوصية قبل الدين. وبدأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدين قبل الوصية وهذا إجماع على أن الدين مقدم على الوصية والإرث مؤخر عنهما لأن الدين حق على الميت والوصية حق له وهما يتقدمان على حق الورثة.

قوله تعالى : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) قيل هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم وبين قوله فريضة من الله ولا تعلق لمعناه بمعنى الآية ومعنى هذا الكلام في قول ابن عباس : إن الله عزوجل يشفع المؤمنين بعضهم في بعض فأطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة ، فإن كان الوالد أرفع درجة من ولده رفع الله درجة ولده إليه وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله إليه لتقر بذلك أعينهم فقال تعالى : (لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) لأن أحدهما لا يعرف منفعة صاحبه له في الجنة وسبقه إلى منزلة عالية تكون سببا لرفعته إليها ، وقيل إن هذا الكلام ليس معترضا بينهما ومعناه متعلق بمعنى الآية يقول آباؤكم وأبناؤكم يعني الذين يرثونكم أيهم أقرب لكم نفعا أي لا تعلمون أيهم أنفع لكم في الدين والدنيا. فمنكم من يظن أن الأب أنفع له فيكون الابن أنفع له ومنكم من يظن أن الابن أنفع له فيكون الأب أنفع له ولكن الله هو الذي دبر أمركم على ما فيه المصلحة لكم فاتبعوه ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم فتعطون من لا يستحق ما لا يستحق من الميراث وتمنعون منم يستحق الميراث (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) يعني ما قدر من المواريث لأهلها فريضة واجبة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) يعني كان عليما بالأشياء قبل خلقها حكيما فيما قدر من الفرائض وفرض من الأحكام ، وقيل معناه عليما بخلقه قبل أن يخلقهم حكيما حيث فرض للصغار مع الكبار ولم يخص الكبار بالميراث كما كانت العرب تفعل وفي معنى لفظة كان ثلاثة أقوال : أحدها أن الله تعالى كان عليما بالأشياء قبل خلقها ولم يزل كذلك ، الثاني حكى الزّجاج عن سيبويه أنه قال : إن القوم لما شاهدوا علما وحكمة ومغفرة وفضلا قيل لهم إن الله كان كذلك ولم يزل الله على ما شاهدتم. الثالث قال الخليل الخبر عن الله عزوجل بمثل هذه الأشياء كالخبر بالحال والاستقبال لأن صفات الله تعالى لا يجوز عليها الزوال والتقلب. قوله عزوجل :

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢))

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ)

٣٥٠

يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ) هذا ميراث الأزواج من الزوجات. وقال تعالى في ميراث الزوجات من الأزواج (وَلَهُنَ) يعني للزوجات (الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ) لما جعل الله في الموجب النسبي حظ الرجل مثل حظ الأنثيين جعل الله في الموجب السبي للرجل مثل حظ الأنثيين واعلم أن الواحدة من النساء لها الربع أو الثمن وكذلك لو كن أربع زوجات فإنهن يشتركن في الربع أو الثمن واسم الولد يطلق على الذكر والأنثى. ولا فرق بين الولد وولد الابن وولد البنت في ذلك وسواء كان الولد للرجل من الزوجة أو من غيرها.

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ) تقدير الآية وإن كان رجل أو امرأة يورث كلالة واختلفوا في الكلالة فذهب أكثر الصحابة إلى أن الكلالة من لا ولد له ولا والد روى الشعبي قال : سئل أبو بكر الصديق عن الكلالة فقال : سأقول فيها قولا برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان أراه ما خلا الوالد والولد فلما استخلف عمر قال : إني لا أستحيي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر وهذا قول علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وإحدى الروايتين عن عمر وابن عباس وهذا القول هو الصحيح المختار ويدل على صحته أن اشتقاق الكلالة من كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة بينهم فسميت القرابة البعيدة كلالة من هذا الوجه ، وقيل إن الكلالة في أصل اللغة عبارة عن الإحاطة ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس. فمن عد الوالد والولد من القرابة إنما سموا كلالة لأنهم كالدائرة المحيطة بالإنسان أما نسبة الولادة فليست كذلك لأن فيها تنوع البعض عن البعض وتولد البعض من البعض فهو كالشيء الواحد الذي يتزايد على نسق واحد. فأما القرابة المغايرة لقرابة الولادة وهم الإخوة والأخوات والأعمام والعمات وغيرهم فإنما محصل نسبهم اتصال إحاطة بالمنسوب إليه فثبت بذلك أن الكلالة عبارة عمن عدا الوالد والولد والرواية الأخرى عن عمر وابن عباس أن الكلالة من لا ولد له. وبه قال طاوس واحتج لهذا القول بقوله تعالى : (قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) وبيانه عند عامة العلماء مأخوذ من حديث جابر بن عبد الله لأن الآية نزلت فيه ولم يكن له يوم نزولها أب ولا ابن لأن أباه قتل يوم أحد وآية الكلالة نزلت في آخر عمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصار شأن جابر بيانا لمراد الآية التي نزلت في آخر السورة لنزولها فيه واختلفوا في أن الكلالة اسم لمن؟ فمنهم من قال هو اسم للميت ، وهو قول علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس لأنه مات عن ذهاب طرفيه فكل عمود نسبه وقيل هو اسم للحي من الورثة وهو قول أبي بكر الصديق. وعليه جمهور العلماء الذين قالوا : إن الكلالة من دون الوالد والولد ويدل عليه حديث لجابر إنما يرثني كلالة أي يرثني ورثة ليسوا بولد ولا والد فإن كان المراد بالكلالة الميت الموروث فالمراد يرثه غير الوالد والولد. وإن كان المراد الوارثين فهم غير الوالد والولد وقال ابن زيد : الكلالة الذي لا ولد له ولا والد والحي والميت كلهم كلالة هذا يرث بالكلالة وهذا يورث بالكلالة. وقال أبو الخير : سأل رجل عقبة عن الكلالة فقال ألا تعجبون من هذا يسألني عن الكلالة وما أعضل بأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة (ق) عن عمر قال : ثلاث وددت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عهد إلينا فيهن عهد انتهى إليه الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا وهذا طرف حديث ذكر في الخمر (ق) عن معدان بن أبي طلحة قال خطب عمر بن الخطاب : فقال إني لا أدع بعدي شيئا أهم عندي من الكلالة ما راجعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة ، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ في الكلالة حتى طعن بإصبعيه في صدري وقال : يا عمر ألا يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن. لفظ مسلم قوله : ألا يكفيك آية الصيف أراد أن الله عزوجل أنزل في الكلالة آيتين : إحداهما في الشتاء وهي التي في أول سورة النساء والآية الأخرى في الصيف وهي التي في آخر السورة وفيها من البيان ما ليس في آية الشتاء فلذلك أحاله عليها.

وقوله تعالى : (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) أراد به الأخ والأخت للأم باتفاق العلماء وقرأ

٣٥١

سعد بن أبي وقاص وله أخ أو أخت من أم. فأن قلت إن الله تعالى قال وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ثم قال تعالى وله أخ فذكر الرجل ولم يذكر المرأة فما السبب فيه. قلت هذا على عادة العرب فإنهم إذا ذكروا اسمين ثم أخبروا عنهما وكان في الحكم سواء ربما أضافوا أحدهما إلى الآخر وربما أضافوا إليهما فهو كقوله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة ، ثم قال تعالى وإنها لكبيرة وقال الفراء إذا جاء حرفان بمعنى واحد جاز إسناد التفسير إلى أيهما أريد ويجوز إسناده إليهما أيضا (فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) وهذا إجماع العلماء أن أولاد الأم إذا كانوا اثنين فصاعدا يشتركون في الثلث ذكرهم وأنثاهم فيه سواء قال أبو بكر الصديق في خطبته : إلّا أن الآية التي أنزل الله في أول سورة النساء من شأن الفرائض أنزلها في الولد والوالد والأم والآية الثانية في الزوج والزوجة والإخوة من الأم والآية الثالثة التي ختم الله بها سورة النساء في الإخوة والأخوات من الأب والأم والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها الله في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله.

وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ) تقدم تفسيره وبقي شيء من الأحكام يذكر هنا وذلك أن ظاهر الآية يدل على جواز الوصية بكل المال وببعضه وفي معنى الآية ما روي عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به» وفي رواية له شيء يريد أن يوصى به أن يبيت ليلتين وفي رواية ثلاث ليال إلّا ووصيته مكتوبة عنده. قال نافع : سمعت عبد الله بن عمر يقول ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ذلك إلّا وعندي وصيتي مكتوبة أخرجاه في الصحيحين ، ففي ظاهر الآية والحديث ما يدل على إطلاق الوصية لكن ورد في السنة ما يدل على تقييد هذا المطلق وتخصيصه وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص قال : الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء أخير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس أخرجاه في الصحيحين. ففي هذا الحديث دليل على أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث وأن النقصان عن الثلث جائز ولا تجوز الوصية لوارث ويدل عليه ما روي عن عمرو بن خارجة قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله عزوجل أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث والولد للفراش وللعاهر الحجر» أخرجه الترمذي والنسائي عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث أخرجه أبو داود.

وقوله تعالى : (غَيْرَ مُضَارٍّ) يعني غير مدخل الضرر على الورثة بمجاوزة الثلث في الوصية وهو أن يوصي بأكثر من الثلث وقيل هو أن يوصي بدين ليس عليه أو يقر بماله أو أكثر ماله لأجنبي ويترك ورثته عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار ، ثم قرأ أبو هريرة من بعد وصية يوصي بها أو دين إلى قوله وذلك هو الفوز العظيم أخرجه أبو داود والترمذي. وقال قتادة : كره الله تعالى الضّرار في الحياة وعند الموت فنهى عنه وقدم فيه وقيل : إن الإضرار في الوصية من الكبائر لأن مخالفة أمر الله عزوجل كبيرة وقد نهى الله عن الإضرار في الوصية فدل على أن ذلك من الكبائر ، واعلم أن الأولى بالإنسان أن ينظر عند الموت في قدر ما يخلف من المال ومن يخلف من الورثة ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فإن كان ماله قليلا ، وفي الورثة كثرة فالأولى به أن لا يوصي بشيء لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسعد بن أبي وقاص : «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» وإن كان في المال كثرة أوصى بحسب المال وبحسب الورثة وحاجتهم بعده في القلة والكثرة.

وقوله تعالى : (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) أي فريضة من الله وقيل عهدا من الله إليكم فيما يجب لكم من ميراث من مات منكم (وَاللهُ عَلِيمٌ) يعني أنه عالم بمصالح عباده ومضارهم وبما يفرض عليهم من الأحكام وقيل عليم بمن يجوز في وصيته وبمن لا يجور (حَلِيمٌ) يعني أنه تعالى ذو حلم وذو أناة في ترك العقوبة عمن جار في وصيته وقال أبو سليمان الخطابي : الحليم ذو الصفح والأناة الذي لا يستفزه غضب ولا يستخفه جهل جاهل والحليم هو الصفوح مع القدرة المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة. قوله عزوجل :

٣٥٢

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤) وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥))

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) يعني الأحكام التي تقدم ذكرها في هذه السورة من مال اليتامى والوصايا والأنكحة والمواريث وإنما سماها حدودا لأن الشرائع كالحدود المضروبة للمكلفين فلا يجوز لهم أن يتجاوزوها وقال ابن عباس يريد ما حد الله من فرائضه (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) يعني في شأن المواريث ورضي بما قسم الله له وحكم عليه (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) يعني في شأن المواريث ولم يرض بقسمة الله ورسوله (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) يعني ويتجاوز ما أمر الله تعالى به (يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) فإن قلت كيف قطع للعاصي بالخلود في النار في هذه الآية وهل فيها دليل للمعتزلة على قولهم إن العصاة والفساق من أهل الإيمان يخلدون في النار. قلت قال الضحاك المعصية هنا الشرك وروى عكرمة عن ابن عباس في معنى الآية من لم يرض بقسمة الله ويتعد ما قال الله يدخله نارا وقال الكلبي : يكفر بقسمة المواريث ويتعد حدود الله استحلالا إذا ثبت ذلك فمن رد حكم الله ولم يرض بقسمته كفر بذلك وإذا كفر كان حكمه حكم الكفار في الخلود في النار إذا لم يتب قبل وفاته إذا مات وهو مصر على ذلك كان مخلدا في النار بكفره فلا دليل في الآية للمعتزلة والله أعلم.

قوله تعالى : (وَاللَّاتِي) هو جمع التي وهي كلمة يخبر بها عن المؤنثة خاصة (يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) يعني يفعلن الفاحشة يقال أتيت أمرا قبيحا إذا فعلته والفاحشة في اللغة الفعلة القبيحة ، وقيل الفاحشة عبارة عن كل فعل أو قول يعظم قبحه في النفوس ويقبح ذكره في الألسنة حتى يبلغ الغاية في جنسه وذلك مخصوص بشهوة الفرج الحرام ولذلك أجمعوا على أن الفاحشة هاهنا هي الزنا وإنما سمي الزنى فاحشة لزيادة قبحه (مِنْ نِسائِكُمْ) قيل هن الزوجات وقيل المراد بهن جنس النساء (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) يعني من المسلمين وهذا خطاب للأزواج أي اطلبوا أربعة من الشهود ليشهدوا عليهن وقيل هو خطاب للحكام أي استمعوا شهادة أربع عليهن. ويشترط في هذه الشهادة العدالة والذكورة قال عمر بن الخطاب : إنما جعل الله الشهود أربعة سترا يستركم به دون فواحشكم (فَإِنْ شَهِدُوا) يعني الشهود بالزنا (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) أي فاحبسوهن في البيوت والحكمة في حبسهن أن المرأة إنما تقع في الزنى عند الخروج والبروز للرجال فإذا حبست في البيت لم تقدر على الزنى (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) يعني تتوفاهن ملائكة الموت عند انقضاء آجالهن (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) وهذا الحكم كان في أول الإسلام قبل نزول الحدود كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ثم نسخ الحبس بالحدود وجعل الله لهن سبيلا (م) عن عبادة بن الصامت قال : «كان نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أنزل عليه حكم كرب لذلك وتربد وجهه فأنزل الله عليه ذات يوم فبقي كذلك فلما سري عنه قال : خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».

فصل

اتفق العلماء على أن هذه الآية منسوخة ثم اختلفوا في ناسخها فذهب بعضهم إلى أن ناسخها هو حديث عبادة بن الصامت المتقدم وهذا على مذهب من يرى نسخ القرآن بالسنة وذهب بعضهم إلى أن الآية الحد التي في

٣٥٣

سورة النور وقيل إن هذه الآية منسوخة الصامت المتقدم وهذا على مذهب من يرى نسخ القرآن بالسنة بالحديث والحديث منسوخ بآية الجلد وقال أبو سلمان الخطابي : لم يحصل النسخ في هذه الآية ولا في الحديث وذلك لأن قوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) يدل على إمساكهن في البيوت ممدودا إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا وأن ذلك السبيل كان مجملا فلما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا» الحديث صار هذا الحديث بيانا لتلك الآية المجملة لا ناسخا لها. وأجمع العلماء على جلد البكر الزاني مائة ورجم المحصن وهو الذي اجتمع فيه أربعة أوصاف البلوغ والعقل والحرية والإصابة في نكاح صحيح وهو الثيب واختلفوا في جلد الثيب ورجمه فذهب طائفة إلى أنه يجب الجمع بينهما وبه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والحسن وإسحاق بن راهويه وداود وأهل الظاهر وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه : أنه جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة. وقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال جماهير العلماء الواجب على المحصن الزاني الرجم وحده لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما. وأما تغريب البكر والزاني ونفيه سنة فمذهب الشافعي وجماهير العلماء وجوب ذلك وقال أبو حنيفة وحماد لا يقضى بالنفي أحد إلّا أن يراه الحاكم تعزيرا ، وقال مالك والأوزاعي : لا نفي على النساء ويروى مثله عن علي قال لأن المرأة عورة وفي نفيها تضييع لها وتعريض للفتنة وحجة الشافعي وجماهير العلماء ظاهر حديث عبادة بن الصامت وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة» وروى نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب وغرب وأن أبا بكر ضرب وغرب وأن عمر ضرب وغرب وإن كان الزاني عبدا فعليه جلد خمسين وفي تغريبه قولين. فإن قلنا إنه يغرب ففيه قولان أصحهما أنه يغرب نصف سنة قياسا على حده وإن كان الزاني مجنونا أو أنه يغرب ففيه قولان : أصحهما أنه يغرب نصف سنة قياسا على حده وإن كان الزاني مجنونا أو غير بالغ فلا جلد عليه.

(وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦))

قوله عزوجل : (وَالَّذانِ) هو تثنية الذي (يَأْتِيانِها) يعني يأتيان الفاحشة (مِنْكُمْ) يعني من رجالكم ونسائكم وقيل هما البكران اللذان لم يحصنا وهما غير المعنيين بالآية الأولى وقيل المراد بمن ذكر في الأولى النساء وهذه للرجال لأن الله تعالى حكم في الآية الأولى بالحبس في البيت على النساء وهو اللائق بحالهن لأن المرأة إنما تفعل الفاحشة عند الخروج فإذا حبست في البيت انقطعت مادة المعصية ، وأما الرجل فلا يمكن حبسه في البيت لأنه يحتاج إلى الخروج في إصلاح معاشه واكتساب قوت عياله فجعلت عقوبة الرجل الزاني الأذية بالقول والفعل (فَآذُوهُما) يعني عيروهما بالقول باللسان وهو أن يقال له أما خفت الله أما استحيت من الله حين زنيت وقال ابن عباس : سبوهما واشتموهما وفي رواية عنه قال : هو باللسان واليد يؤذي بالتعيير ويضرب بالنعال (فَإِنْ تابا) يعني من الفاحشة (وَأَصْلَحا) يعني العمل فيما يأتي (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) أي اتركوهما ولا تؤذوهما (إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً) يعني أنه تعالى يعود على عبده بفضله ومغفرته ورحمته إذا تاب إليه وهذا الحكم كان في ابتداء الإسلام كان حد الزاني الأذى بالتوبيخ والتعيير بالقول باللسان فلما نزلت الحدود وثبتت الأحكام نسخ ذلك الأذى بالآية التي في سورة النور وهي قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) الآية فثبت الجلد على البكر بنص الكتاب وثبت الرجم على الثيب المحصن بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أصح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم ماعزا وكان قد أحصن وسواء في هذا الحكم المسلم واليهودي لأنه ثبت في الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم يهوديين زنيا وكانا قد أحصنا وقال أبو حنيفة : لا رجم على اليهودي لأن المشرك ليس بمحصن وأجيب عنه بأن المراد بهذا الإحصان إحصان العفاف لا إحصان الفرج. قوله تعالى :

٣٥٤

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧))

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) يعني التوبة التي يقبلها الله تعالى فيكون على بمعنى عند وقيل على بمعنى من أي من الله وقال أهل المعاني إن الله تعالى وعد قبول التوبة من المؤمنين في قوله كتب ربكم على نفسه الرحمة وإذا وعد الله شيئا أنجز ميعاده وصدق فيه فمعنى قوله على الله أوجب على نفسه من إيجاب أحد عليه لأنه تعالى يفعل ما يريد (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ) يعني الذنوب والمعاصي سميت سوءا لسوء عاقبتها إذا لم يتب منها (بِجَهالَةٍ) قال قتادة أجمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن كل شيء عصى الله به فهو جهالة عمدا كان أو غيرهن وكل من عصى الله فهو جاهل. وقال ابن عباس : من عمل السوء فهو جاهل من جهالته عمل السوء فكل من عصى الله سمي جاهلا وسمي فعله جهالة وإنما سمي من عصى الله جاهلا لأنه لم يستعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب وإذا لم يستعمل ذلك سمي جاهلا بهذا الاعتبار وقيل معنى الجهالة أن يأتي الإنسان بالذنب مع العلم بأنه ذنب لكنه يجهل عقوبته وقيل معنى الجهالة هو اختيار اللذة الفانية على اللذة الباقية (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) يعني يتوبون بعد الإقلاع عن الذنب بزمان قريب لئلا يعد في زمرة المصرين وقيل القريب أن يتوب في صحته قبل مرض موته وقيل قبل موته وقيل قبل معاينة ملك الموت ومعاينة أهوال الموت وإنما سميت هذه المدة قريبة لأن كل ما هو آت قريب وفيه تنبيه على أن عمر الإنسان وإن طال فهو قليل وأن الإنسان يتوقع في كل ساعة ولحظة نزول الموت به عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر أخرجه الترمذي. الغرغرة أن يجعل المشروب في فم المريض فيردده في الحلق ولا يصل إليه ولا يقدر على بلعه وذلك عند بلوغ الروح إلى الحلقوم. وروى البغوي بسنده عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الشيطان قال وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم» فقال الرب تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي وارتفاعي في مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني وقيل في معنى الآية إن القريب هو أن يتوب الإنسان قبل أن يحيط السوء بحسناته فيحبطها (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) يعني يقبل توبتهم (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) قال ابن عباس : علم ما في قلوب عباده المؤمنين من التصديق واليقين فحكم بالتوبة قبل الموت ولو بقدر فواق ناقة وقيل في معنى الآية علم أنه إنما أتى بتلك المعصية باستيلاء الشهوة والجهالة عليه فحكم بالتوبة لمن تاب عنها وأناب عن قريب. قوله عزوجل :

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩))

(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) قال ابن عباس : يريد الشرك وقال أبو العالية وسعيد بن جبير : هم المنافقون وقال سفيان الثوري هم المسلمون ألا ترى أنه قال ولا الذين يموتوا وهم كفار (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) يعني وقع في النزاع وعاين ملائكة الموت وهو حالة السوق حين تساق الروح للخروج من جسده (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) قال المحققون قرب الموت لا يمنع من قبول التوبة بل المانع من قبولها مشاهدة الأحوال التي لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا بحال ولذلك لم تقبل توبة فرعون ولا إيمانه وهو قوله تعالى : حتى إذا أدركه الغرق. قال : آمنت أنه لا إله إلّا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من

٣٥٥

المفسدين ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) فإن قلت قد تعلقت الوعيدية بهذه الآية وقالوا أخبر الله تعالى إن عصاة المؤمنين إذا أهملوا أمرهم إلى انقضاء آجالهم حصلوا على عذاب الآخرة مع الكفار لأن الله تعالى جمعهم في قوله أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما ، وأيضا أنه تعالى أخبر أنه لا توبة لهم عند معاينة الموت وأسبابه. قلت ليس الأمر على ما زعموا فقد روي عن ابن عباس في قوله وليست التوبة للذين يعملون السيئات يريد الشرك وقال سعيد بن جبير : نزلت الآية الأولى في المؤمنين يعني قوله : إنما التوبة على الله والوسطى في المنافقين يعني قوله وليست التوبة والأخرى في الكافرين يعني قوله ولا الذين يموتون وهم كفار وإذا كانت الآية نازلة في المنافقين والكفار فلا وجه لحملها على المؤمنين وعلى تقدير أن تكون الآية نازلة في عصاة المؤمنين فقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى : وليست التوبة للذين يعملون السيئات الآية ، ثم أنزل الله تعالى بعد ذلك إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فحرم الله المغفرة على من مات وهو كافر وارجأ أهل التوحيد إلى مشيئته ولم يؤيسهم من المغفرة فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة في حق المؤمنين.

وقوله تعالى : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) معناه لا توبة للكفار إذا ماتوا على كفرهم وإنما لم تقبل توبتهم في الآخرة لرفع التكليف في الآخرة ومعاينة ما وعدوا به من العقاب (أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ) أي هيأنا لهم (عَذاباً أَلِيماً) قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) نزلت في أهل المدينة وذلك أنهم كانوا في الجاهلية في أول الإسلام إذا مات الرجل وخلف امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبة من ذوي عصبته ، فألقى ثوبه على تلك المرأة أو على خبائها فصار أحق بها من نفسها ومن غيره فإن شاء تزوجها بغير صداق إلّا الصداق الأول الذي أصدقها الميت وإن شاء زوجها غيره وأخذ هو صداقها وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج يضارها بذلك لتفتدي منه بما ورثت من الميت أو تموت هي فيرثها فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ولي زوجها ثوبه كانت أحق بنفسها وكانوا على ذلك حتى توفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية فقام ابن له من غيرها يقال له حصن ، وقيل اسمه قيس بن أبي قيس فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ثم تركها فلم ينفق عليها يضارها بذلك لتفتدي منه فأتت كبيشة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت له : يا رسول الله إن أبا قيس توفي وورث نكاحي ابنه فلا هو ينفق عليّ ولا هو يدخل بي ولا يخلي سبيلي ، فقال اقعدي في بيتك حتى يأتي أمر الله فيك فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) يعني ميراث نكاح النساء وقيل في معناه أن ترثوا أموالهن كرها يعني وهن كارهات (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) أي ولا تمنعوهن من الأزواج وأصل العضل المنع (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) يعني لتضجر فتفتدي ببعض مالها قيل هو خطاب للأزواج قال ابن عباس : هذا في الرجل تكون له امرأة وهو كاره لها ولصحبتها ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي منه وترد إليه ما ساق إليها من المهر فنهى الله عن ذلك وقيل كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها ثم يطلقها يضارها بذلك فنهوا عن ذلك وهو خطاب لأولياء الميت فنهاهم الله عن عضل المرأة ثم قال تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) يعني فحينئذ يحل لكم إضرارهن ليفتدين منكم واختلفوا في الفاحشة المبينة فقيل هي النشوز وسوء الخلق وإيذاء الزوج وأهله ، وقيل الفاحشة هي الزنى يعني أن المرأة إذا نشزت أو زنت حلّ للزوج أن يسألها الخلع وقيل كانت المرأة إذا أصابت فاحشة أخذ منها زوجها ما ساق إليها وأخرجها فنسخ الله ذلك بالحدود (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) قيل هو راجع للكلام الذي قبله والمعنى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة وعاشروهن بالمعروف هو الإجمال في القول والمبيت والنفقة وقيل هو أن تصنع لها كما تحب أن تصنع لك (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) يعني فإن كرهتم عشرتهن وصحبتهن وآثرتم فراقهن (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) قال ابن عباس : ربما رزق منها ولدا صالحا فجعل الله في ولدها خيرا كثيرا فتنقلب تلك الكراهة محبة

٣٥٦

والنفرة رغبة ، وقيل في الآية ندب إلى إمساك المرأة مع والكراهية لها لأنه إذا كره صحبتها وتحمل ذلك المكروه طلبا للثواب وأنفق عليها وأحسن هو صحبتها استحق الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى وقيل في معنى الآية إنكم إن كرهتموهن ورغبتم في فراقهن فربما جعل الله في تلك المفارقة لهن خيرا كثيرا وذلك بأن تخلص من هذا الزوج الكاره لها وتتزوج غيره خيرا منه. قوله عزوجل :

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢))

(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ) الخطاب للرجال وأراد بالزوج الزوجة قال المفسرون : لما ذكر الله في الآية الأولى مضارة الزوجات إذا أتين بفاحشة وهي إما النشوز أو الزنا بيّن في هذه الآية تحريم المضارة إن لم يكن من قبلها نشوز ولا زنى ونهى عن بخس الرجل حق المرأة إذا أراد طلاقها واستبدال غيرها (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) يعني وكان ذلك الصداق مالا كثيرا ، وفي الآية دليل على جواز المغالاة في المهور روي أن عمر قال على المنبر : ألا لا تغالوا في مهور نسائكم فقامت امرأة فقالت يا ابن الخطاب الله يعطينا وأنت تمنعنا وتلت الآية. فقال كل الناس أفقه منك يا عمر وفي رواية امرأة أصابت وأمير أخطأ ورجع عن كراهة المغالاة وقد تغالى الناس في صدقات النساء حتى بلغوا الألوف وقيل إن خير المهور أيسرها وأسهلها (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) يعني من القنطار الذي آتيتموهن لو جعلتم ذلك القدر لهن صداقا فلا تأخذوا منه شيئا وذلك أن سوء العشرة إما أن يكون من قبل الزوج أو من قبل الزوجة فإن كان من قبل الزوج وأراد طلاق المرأة فلا يحل له أن يأخذ شيئا من صداقها وإن كان النشوز من قبل المرأة جاز له ذلك (أَتَأْخُذُونَهُ) استفهام بمعنى التوبيخ (بُهْتاناً) يعني ظلما وقيل باطلا (وَإِثْماً مُبِيناً) يعني أتأخذونه مباهتين آثمين فلا تفعلوا مثل هذا الفعل مع ظهور قبحه في الشرع والعقل ثم قال تعالى : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) كلمة تعجب والمعنى لأي وجه تفعلون مثل هذا الفعل وكيف يليق بالعاقل أن يسترد شيئا بذله لزوجته عن طيب نفس وقيل هو استفهام معناه التوبيخ والتعظيم لأخذ المهر بغير حقه ثم ذكر السبب في ذلك فقال تعالى (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) أصل الإفضاء في اللغة الوصول يقال أفضى إليه أي وصل إليه ثم للمفسرين في معنى الإفضاء في هذه الآية قولان : أحدهما أنه كناية عن الجماع وهو قول ابن عباس ومجاهد والسدي واختيار الزجاج وابن قتيبة ومذهب الشافعي لأن عنده أن الزوج إذا طلق قبل المسيس فله أن يرجع بنصف المهر وإن خلا بها والقول الثاني في معنى الإفضاء هو أن يخلو بها وإن لم يجامعها وقال الكلبي الإفضاء أن يكون معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها وهذا القول هو اختيار الفراء ومذهب أبي حنيفة أن الخلوة الصحيحة عنده تقرر المهر (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) قيل هو قول العاقد عند العقد زوجتكها على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقيل هي كلمة النكاح المعقودة على الصداق وهي الكلمة التي تستحل بها فروج النساء ويدل على ذلك ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فزوجهن بكلمة الله».

قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) قال المفسرون كان أهل الجاهلية يتزوجون أزواج آبائهم فنهاهم الله عن ذلك بهذه الآية روي أنه لما توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار خطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت إني اتخذتك ولدا وأنت من صالحي قومك ولكني آتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأستأمره فأتته فأخبرته فأنزل الله

٣٥٧

عزوجل (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) يعني إلّا ما مضى في الجاهلية قبل نزول التحريم فإنه معفو عنه (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) إنما سماه فاحشة لأن زوجة الأب في منزلة الأم ونكاح الأمهات حرام فلما كان ذلك كذلك سماه الله فاحشة لأنه من أقبح المعاصي (وَمَقْتاً) يعني أنه يورث المقت من الله وهو أشد الغضب وغاية الخزي والخسارة (وَساءَ سَبِيلاً) أي وبئس طريقا لأنه يؤدي إلى مقت الله والعرب تسمي ولد الرجل من امرأة أبيه مقيتا وكان منهم الأشعث بن قيس وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية روى البغوي بسنده عن البراء بن عازب قال : مر بي خالي ومعه لواء فقلت أين تذهب؟ قال : بعثني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه. قوله عزوجل :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣))

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) بيّن الله عزوجل في هذه الآية المحرمات من النساء بسبب الوصلة إما بسبب أو نسب (خ) عن ابن عباس قال حرم من النساء سبع ومن الصهر سبع ، ثم قرأ حرمت عليكم أمهاتكم الآية فجملة المحرمات من النساء بنص الكتاب أربعة عشر صنفا ، فأما المحرمات بالنسب فقوله حرمت عليكم أمهاتكم جمع أم وأصل أمهات أمات وإنما زيدت الهاء للتوكيد والأم هي الوالدة القريبة ويدخل في حكمها كل امرأة رجع النسب إليها من جهة الأب أو من جهة الأم بدرجة أو بدرجات وهي جميع الجدات وإن علون فيحرم الأم وجميع الجدات (وَبَناتُكُمْ) والبنت عبارة عن كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات بإناث كبنت البنت وإن سفلت وكذا بنت الابن (وَأَخَواتُكُمْ) جمع أخت وهي عبارة عن كل امرأة شاركتك في أصلك فتدخل فيه الأخوات من الأب والأم والأخوات من الأب والأخوات من الأم (وَعَمَّاتُكُمْ) جمع عمة وهي كل امرأة شاركت أباك في أصله وهن جميع أخوات الأب وأخوات آبائه وإن علون وقد تكون العمة من جهة الأم أيضا وهي أخت أبي الأم (وَخالاتُكُمْ) جمع خالة وهي كل امرأة شاركت الأم في أصلها فيدخل فيه جميع أخوات الأم وأخوات أمهاتها ، وقد تكون الخالة من جهة الأب أيضا وهي أخت أم الأب (وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ) وهي عبارة عن كل امرأة لأخيك أو لأختك عليها ولادة يرجع نسبها إلى الأخ أو الأخت فيدخل فيهن جميع بنات أولاد الأخ والأخت وإن سفلن فهذه الأصناف السبعة محرمة بسبب النسب بنص الكتاب وجملته أنه يحرم على الرجل أصوله وفصوله وفصول أول أصوله ، وأول فصل من كل أصل بعده أصل فالأصول هن الأمهات والجدات ، والفصول هن البنات وبنات الأولاد وفصول أول أصوله هن الأخوات وبنات الإخوة والأخوات وأول فصل من كل أصل بعده أصل هن العمات والخالات وإن علون. قال العلماء : كل امرأة حرم الله نكاحها بالنسب والرحم فحرمتها مؤبدة لا تحل يوجه من الوجوه. الصنف الثاني المحرمات بالسبب وهن سبع الأول والثاني المحرمات بالرضاع وذلك في قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) كل أنثى انتسبت باللبن إليها فهي أمك وبنتها أختك وإنما نص الله على ذكر الأم والأخت ليدل بذلك على جميع الأصول والفروع فنبه بذلك أنه تعالى أجرى الرضاع مجرى النسب ويدل على ذلك ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة» أخرجاه في الصحيحين (ق) عن ابن عباس قال : قال

٣٥٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «في بنت حمزة إنها لا تحل لي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وإنها ابنة أخي من الرضاعة فكل من حرمت بسبب النسب حرم نظيرها بسبب الرضاعة ، وإنما سمى الله تعالى المرضعات أمهات لأجل الحرمة فيحرم عليه نكاحها ويحل له النظر إليها والخلوة بها والسفر معها ولا يترتب عليه جميع أحكام الأمومة من كل وجه فلا يتوارثان ولا تجب على كل واحد منهما نفقة الآخر وغير ذلك من الأحكام ، وإنما ثبتت حرمة الرضاع بشرطين : أحدهما أن يكون إرضاع الصبي في حال الصغر وذلك إلى انتهاء سنتين من ولادته لقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) وقوله تعالى : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) عن أم سلمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحرم من الرضاع إلّا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام» أخرجه الترمذي عن ابن مسعود قال : لا رضاعة إلّا ما كان في الحولين أخرجه مالك في الموطأ بأطول من هذا وأخرجه أبو داود مختصرا قال : قال عبد الله بن مسعود لا رضاع إلّا ما شد اللحم. وقال أبو حنيفة مدة الرضاع ثلاثون شهرا لقوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وحمله الجمهور على أقل مدة الحمل وأكثر مدة الرضاع لأن مدة الحمل داخلة فيه وأقله ستة أشهر. الشرط الثاني أن يوجد خمس رضعات متفرقات. روي ذلك عن عائشة وبه قال عبد الله بن الزبير ، وإليه ذهب الشافعي ويدل على ذلك ما روي عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تحرم المصة ولا المصتان» أخرجه مسلم (م) عن أم الفضل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان» وفي رواية : «أن رجلا من بني عامر بن صعصعة قال يا نبي الله هل تحرم الرضعة الواحدة قال لا» (م) عن عائشة قالت كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخت بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن قولها فتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن يحتمل أنه لم يبلغها نسخ ذلك وأجمعوا على أن هذا لا يتلى فهو مما نسخ تلاوته وبقي حكمه ، وذهب جمهور العلماء إلى أن قليل الإرضاع وكثيره يحرم وهو قول ابن عباس وابن عمر وبه قال سعيد بن المسيب وإليه ذهب الثوري والأوزاعي ومالك وابن المبارك وأبو حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه والرواية الأخرى كمذهب الشافعي واحتج مذهب الجمهور بمطلق الآية لأنه عمل بعموم القرآن وظاهره ولم يذكر عددا وأجاب الشافعي ومن وافقه في هذه المسألة بأن السنة مبينة للقرآن مفسرة له.

وقوله تعالى : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) يعني إذا تزوج الرجل بامرأة حرمت عليه أمها الأصلية وجميع جداتها من قبل الأب والأم كما في النسب والرضاع أيضا ومذهب أكثر الصحابة وجميع التابعين وكل العلماء أن من تزوج امرأة حرمت عليه أمها بنفس العقد سواء دخل بها أو لم يدخل بها وذهب جمع من الصحابة إلى أن أم المرأة إنما تحرم بالدخول بابنتها وهو قول علي وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وجابر وأظهر الروايات عن ابن عباس والعمل اليوم على القول الأول هو مذهب الجمهور ويدل على ذلك ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أيما رجل نكح امرأة فلا يحل له نكاح ابنتها. وإن لم يكن دخل بها فلينكح ابنتها وأيما رجل نكح امرأة فلا يحل له أن ينكح امرأة دخل بها أو لم يدخل أخرجه الترمذي وقوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) الربائب جمع ربيبة وهي بنت المرأة من رجل آخر سميت ربيبة لتربيتها في حجر الرجل ، وقوله دخلتم بهن كناية عن الجماع لا نفس العقد فيحرم على الرجل بنات امرأته وبنات أولادها وإن سفلن من النسب والرضاع بعد الدخول بالزوجة. فلو فارق زوجته قبل الدخول بها أو ماتت قبل دخوله بها جاز أن يتزوج بنتها ولا يجوز له أن يتزوج أمها لأن الله تعالى أطلق تحريم الأمهات ، وعلق تحريم البنات بالدخول بالأم وقوله تعالى : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) يعني أزواج أبنائكم واحدتها حليلة والرجل حليل سميا بذلك لأن كل واحد منهما يحل لصاحبه وقيل لأن كل واحد منهما يحل حيث يحل صاحبه في إزار واحد وقيل لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه من الحل بفتح الحاء وجملته أنه يحرم على الرجل أزواج أبنائه وأبناء أولاده وإن سفلوا من النسب والرضاع وذلك بنفس

٣٥٩

العقد (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) إنما قال من أصلابكم احترازا من التبني ليعلم أن زوجة المتبنى لا تحرم على الرجل الذي تبناه لأنه كان في صدر الإسلام بمنزلة الابن فنسخ الله ذلك وقال تعالى : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) وتزوّج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوجة زيد بن حارثة وكان قد تبناه فقال المشركون تزوج زوجة ابنه فأنزل الله تعالى وما جعل أدعياءكم أبناءكم وقال تعالى لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم وقوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) يعني لا يجوز للرجل أن يجمع بين الأختين في نكاح واحد سواء كانت الأخوة بينهما أخوة نسب أو رضاع والجمع بين الأختين يقع على ثلاثة أوجه : أحدهما أن يجمع بينهما بعقد واحد فهذا العقد فاسد لا يصح فلو تزوّج إحدى الأختين ثم تزوّج الأخرى بعدها فهاهنا يحكم ببطلان نكاح الثانية فلو طلق الأولى طلاقا بائنا جاز له نكاح أختها ، الوجه الثاني من صور الجمع بين الأختين هو أن يجمع بينهما بملك اليمين فلا يجوز له أن يجمع بينهما في الوطء فإذا وطئ إحداهما حرمت عليه الثانية حتى يحرم الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة ، الوجه الثالث من صور الجمع بين الأختين هو أن يتزوج إحداهما ويشتري الأخرى فيملكها بملك اليمين فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما لأن ظاهر هذه الآية يقتضي تحريم الجمع مطلقا فوجب أن يحرم الجمع بينهما على جميع الوجوه وذهب بعضهم إلى جوازه والقول الأول أصح ، وأولى لما روى قبيصة بن ذؤيب أن رجلا سأل عثمان عن أختين مملوكتين لرجل هل يجمع بينهما فقال عثمان : أحلتهما آية وحرمتهما آية فأما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك فخرج من عنده فلقي رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عنه فقال أما أنا فلو كان لي من الأمر شيء لم أجد أحد فعل ذلك إلّا جعلته نكالا قال ابن شهاب : أراه علي بن أبي طالب قال مالك أنه بلغه عن الزبير بن العوام مثل ذلك أخرجه مالك في الموطأ وقوله تعالى : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) يعني لكن ما قد مضى فإنه معفو عنه بدليل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) وقيل إن فائدة هذا الاستثناء أن أنكحة الكفار صحيحة فلو أسلم عن أختين قيل له اختر أيتهما شئت. ويدل على ذلك ما روي عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال قلت يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان قال طلق أيتهما شئت أخرجه أبو داود.

فروع تتعلق بحكم الآية. الأول : لا يجوز الجمع بين المرأة ولا بين المرأة وخالتها ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها» أخرجه في الصحيحين قال بعض العلماء في حد ما يحرم الجمع كل امرأتين بينهما قرابة أو لبن لو كان ذلك بينك وبين المرأة لم يجز لك نكاحها لم يجز لك الجمع بينهما.

الفرع الثاني : المحرمات بالنسب سبعة أصناف ذكرت في الآية نسقا والمحرمات بالسبب صنفان : صنف يحرم بالرضاع وهن الأمهات والأخوات على ما تقدم ذكره وصنف يحرم بالمصاهرة وهي أم المرأة وحليلة الابن وزوجة الأب وقد تقدم ذكرها في قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) الآية والربائب على التفصيل المذكور والجمع بين الأختين.

الفرع الثالث : التحريم الحاصل بسبب المصاهرة إنما حصل بنكاح صحيح فلو زنى بامرأة لم تحرم عليه أمها ولا بنتها لو أراد أن يتزوج بهن وكذلك لا تحرم المزني بها على آباء الزاني ولا أبنائه إنما تتعلق الحرمة بنكاح صحيح أو بنكاح فاسد يجب لها به الصداق وتجب عليها العدة ويلحق به الولد. وهذا قول علي وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري وإليه ذهب مالك والشافعي وفقهاء الحجاز. وذهب قوم إلى أن الزنى يتعلق به تحريم المصاهرة يروى ذلك عن عمران بن حصين وأبي هريرة وبه قال جابر بن زيد والحسن وأهل العراق. ولو لمس امرأة أجنبية بشهوة أو قبّلها بشهوة هل يجعل ذلك كالدخول في إثبات تحريم المصاهرة وكذلك لو لمس امرأة بشهوة هل يجعل ذلك كالوطء في تحريم الربيبة؟ فيه قولان : أصحهما أنه تثبت به حرمة

٣٦٠