تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٣٦

(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ) أي : الحياة التي بعد هذه ولا بعد لها (هُمْ كافِرُونَ) واحتج من قال إنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة بهذه الآية فقالوا : إن الله تعالى توعدهم بأمرين أحدهما : كونهم مشركين والثاني : لا يؤتون الزكاة ، فوجب أن يكون لكل واحد من هذين تأثير في حصول الوعيد وذلك يدل على أن لعدم إيتاء الزكاة مع الشرك تأثيرا عظيما في زيادة الوعيد وهو المطلوب ، فإن قيل : لم خص تعالى من أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة؟ أجيب : بأن أحب شيء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على ثباته واستقامته وصدق نيته ونصوح طويته ألا ترى قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [البقرة : ٢٦٥] أي : يثبتون أنفسهم ويدلون على ثباتها بإنفاق الأموال وما خدع المؤلفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا فقرت عصبيتهم ولانت شكيمتهم ، وأهل الردة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تظاهروا إلا بمنع الزكاة فنصبت لهم الحروب وجوهدوا ، وفيه بعث للمؤمنين على أداء الزكاة وتخويف شديد في منعها ، حيث جعل المنع من أوصاف المشركين وقرن بالكفر بالآخرة ، وقال ابن عباس : هم الذين لا يقولون لا إله إلا الله وهي زكاة الأنفس ، والمعنى : لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد ، وقال الحسن وقتادة : لا يقرون بالزكاة ولا يرون إيتاءها واجبا وكان يقال : الزكاة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك. وقال الضحاك ومقاتل : لا ينفقون في الطاعة ولا يتصدقون ، وقال مجاهد : لا يزكون أعمالهم.

ولما ذكر تعالى ما للجاهلين وعيدا وتحذيرا ذكر ما لأضدادهم وعدا وتبشيرا فقال تعالى مجيبا لمن تشوق لذلك مؤكدا لإنكار من ينكره : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : بما آتاهم الله تعالى من العلم النافع (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من الزكاة وغيرها من أنواع الطاعات (لَهُمْ أَجْرٌ) أي : عظيم (غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي : غير مقطوع جزاء على سماحهم بالفاني اليسير من أموالهم في الزكاة وغيرها وما أمر الله تعالى من أقوالهم وأفعالهم في الآخرة والدنيا ، والممنون المقطوع من مننت الحبل إذا قطعته ومنه قولهم قد منّه السفر أي : قطعه ، وقال مقاتل : غير منقوص ، ومنه المنون لأنه ينقص من الإنسان وقوته ، وأنشدوا لذي الإصبع العدواني (١):

إني لعمرك ما بابي بذي غلق

على الصديق ولا أجري بممنون

وقيل : غير ممنون به عليهم لأن عطاء الله تعالى لا يمن به إنما يمن المخلوق ، وقال السدي : ةنزلت في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كما صح ما كانوا يعملون فيه ، روى عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به : اكتب له مثل عمله إذا كان طليقا حتى أطلقه أو ألفته إلي» (٢).

ولما ذكر سبحانه وتعالى سفههم في كفرهم بالآخرة ، شرع في ذكر الأدلة على قدرته عليها

__________________

(١) يروى البيت بلفظ :

وقد أجود وما مالي بذي فنع

على الصديق وما خيري بممنون

والبيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في مقاييس اللغة ٤ / ٤٥٤ ، والأغاني ٣ / ١٠١.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٢٠٣ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٣ / ٣٧٤ ، وعبد الزراق في المصنف ٢٠٣٠٨.

٦٠١

وعلى كل ما يريد كخلق الأكوان وما فيها الشامل لهم ولمعبوداتهم من الجمادات وغيرها الدال على أنه واحد لا شريك له ، فقال منكرا عليهم ومقررا بالوصف لأنهم كانوا عالمين بأصل الخلق : (قُلْ) يا أشرف الرسل لمن أنكر الخلق منكرا عليه بقولك : (أَإِنَّكُمْ) وأكد لإنكارهم التصريح بما يلزمهم من الكفر بقوله تعالى : (لَتَكْفُرُونَ) أي : توجدون حقيقة الستر لأنوار العقول الظاهرة (بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ) أي : على سعتها وعظمها من العدم (فِي يَوْمَيْنِ) فتنكرون قدرته على إعادة ما خلقه منها ابتداء مع اعترافكم بأنه ابتدأ خلقها وخلق ذلك منها وهذان اليومان الأحد والاثنين كما قاله ابن عباس وعبد الله بن سلام ، قال ابن الجوزي والأكثرون قال ابن عباس : إن الله خلق يوما فسماه الأحد ثم خلق ثانيا فسماه الاثنين ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء ثم خلق رابعا فسماه الأربعاء ثم خلق خامسا فسماه الخميس ، فخلق الله الأرض في يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء ولذلك يقول الناس إنه يوم ثقيل ، وخلق مواضع الأنهار والشجر والقرى يوم الأربعاء ، وخلق الطير والوحش والسباع والهوام والآفة يوم الخميس ، وخلق الإنسان يوم الجمعة وفرغ من الخلق يوم السبت ولكن ، في حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : «أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل» (١) ، فإن قيل : الأيام إنما كانت بدوران الأفلاك وإنما كان ذلك بعد تمام الخلق بالفعل؟ أجيب : بأن المراد في مقدار يومين أو نوبتين ، خلق في كل نوبة ما خلق في أسرع ما يكون ، قال البيضاوي : ولعل المراد من الأرض ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة ، ومن خلقها في يومين أنه خلق لها أصلا مشتركا ثم خلق لها صورا بها صارت أنواعها ، وكفرهم به إلحادهم في ذاته تعالى وصفاته ، وقرأ قالون وأبو عمرو وهشام بتسهيل الثانية بخلاف عن هشام وأدخلوا بين الهمزة المحققة والمسهلة ألفا ، وورش وابن كثير بتسهيل الثانية من غير إدخال ، والباقون بتحقيقهما من غير إدخال.

ولما ذكر كفرهم بالبعث وغيره عطف على تكفرون قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ) أي : مع هذا الكفر (لَهُ أَنْداداً) من الخشب المنجور ومن الحجر المنحوت شركاء في المعبودية ولما بكّتهم على قبح معتقدهم عظّم ذلك بتعظيم شأنه سبحانه فقال تعالى : (ذلِكَ) أي : الإله العظيم (رَبُّ الْعالَمِينَ) أي : موجدهم ومربيهم وذلك يدل قطعا على جميع ما له من صفات الكمال.

ولما ذكر تعالى ما هم به مقرون من إبداعها أتبعه بثلاثة أنواع من الصنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك :

فالأول : قوله تعالى : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) أي : جبالا ثوابت ، وهو مستأنف ولا يجوز عطفه على صلة الموصول للفصل بينهما بأجنبي وهو قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ) فإنه معطوف على لتكفرون كما مر ، فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى : (مِنْ فَوْقِها) ولم يقتصر على قوله : (وَجَعَلَ

__________________

(١) أخرجه مسلم في القيامة حديث ٢٧٨٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٢٧ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٩ / ٣ ، والحاكم في المستدرك ٢ / ٤٥٠ ، والسيوطي في الدر المنثور ١ / ٤٣ ، والقرطبي في تفسيره ٦ / ٣٨٤.

٦٠٢

فِيها رَواسِيَ) كما اقتصر على قوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) [المرسلات : ٢٧] وقوله تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل : ١٥] وقوله تعالى : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ)؟ أجيب : بأنه تعالى لو قال وجعل لها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول ، ولكنه تعالى قال : جعلت هذه الجبال الثقال فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه أن الأرض والجبال الثقال على أثقال ، وكلها مفتقرة إلى ممسك وحافظ ، وما ذاك الحافظ المدبر إلا الله تعالى.

ولما هيأ الأرض لما يراد منها ذكر ما أودعها ، وهو النوع الثاني : بقوله تعالى : (وَبارَكَ فِيها) أي : بما خلق من البحار والأنهار والأشجار والثمار وغير ذلك ، وقال ابن عباس : يريد شق الأنهار وخلق الجبال وخلق الأشجار والنار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه من الحيوانات.

النوع الثالث : قوله تعالى : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي : أقوات أهلها بأن عيّن لكل نوع ما يصلحه ويغني به ، وقال محمد بن كعب : قدر الأقوات قبل أن يخلق الخلق والأبدان أي : أقواتا تنشأ منها بأن خص حدوث كل قوت بقطر من أقطارها ، فأضاف القوت إلى الأرض لكونه متولدا من تلك الأرض حادثا فيها لأن النحاة قالوا : يكفي في جنس الإضافة أدنى سبب ، فالشيء يضاف إلى فاعله تارة وإلى محله أخرى ، أي : قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدة لنوع من الأشياء المطلوبة حتى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس ، فصار هذا المعنى سببا لرغبة الناس في التجارات واكتساب الأموال لتنتظم عمارة الأرض كلها باحتياج بعضهم إلى بعض ، فكان جميع ما تقدم من إبداعها وإيداعها ما ذكر من متاعها دفعة واحدة على مقدار لا يتعداه ومنهاج بديع دبره في الأزل وارتضاه وقدره فأمضاه لا ينقص عن حاجة المحتاجين أصلا ، وإنما ينقص توصلهم أو توصل بعضهم إليه فلا يجد له حينئذ ما يكفيه ، وفي الأرض أضعاف كفايته.

ثم ذكر فذلكة خلق الأرض وما فيها. فقال تعالى : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي : مع اليومين الماضيين كقولك بنيت بيتي في يوم وأكملته في يومين أي : بالأول ، وقال أبو البقاء : في تمام أربعة أيام ولو لا هذا التقدير لكانت ثمانية ، يومان في الأول وهو قوله تعالى (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) ويومان في الآخر وهو قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) وأربعة في الوسط وهو قوله تعالى : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) ، فإن قيل : إنه تعالى ذكر خلق الأرض في يومين فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعد عن الشبهة وعن الغلط فلم ترك التصريح بذكر الكلام المجمل؟ أجيب : بأن قوله تعالى في : (أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً) أي : استوت الأربعة استواء لا يزيد ولا ينقص فيه فائدة زائدة على ما إذا قال خلقت هذه الثلاثة في يومين لأنه لو قال تعالى خلقت هذه الأشياء في يومين لا يفيد هذا الكلام كون اليومين مستغرقين بتلك الأعمال لأنه قد يقال عملت هذا العمل في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل بخلافه لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء ، ثم قال : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً) دل على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نقصان.

ولم يفعل تعالى ذلك في أقل من لمح البصر مع تمام القدرة عليه لأن هذا أدل على الاختيار

٦٠٣

وأدخل في الابتلاء والاختبار ليضل به كثيرا ويهدي به كثيرا فيكون أعظم لأجورهم لأنه أدل على تسليمهم ، وجعل مدة خلقها ضعف مدة خلق السموات مع كونها أصغر من السموات دلالة على أنها هي المقصودة بالذات لما فيها من الثقلين الإنس والجن ، فزادت لما فيها من كثرة المنافع وتباين أصناف الأعراض والجواهر لأن ذلك أدخل في المنة على سكانها والاعتناء بشأنهم وشأنها وزادت أيضا لما فيها من الابتلاء بالمعاصي والمجاهدات والمجادلات والمعالجات كل ذلك دلالة على أن المدة ما هي لأجل القدرة بل لأجل التنبيه على ما في القدرة من المقدور وعجائب الأمور.

قال البقاعي : ولعل تخصيص السماء بقصر المدة دون العكس لإجراء أمرها على ما نتعارفه من أن بناء السقف أخف من بناء البيت ، تنبيها على أنه بنى أمر دارنا هذه على الأسباب تعليما للتأني وتدريبا للسكينة والبعد عن العجلة ، وقوله تعالى : (لِلسَّائِلِينَ) فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه متعلق بسواء بمعنى مستويات للسائلين ، ثانيها : أنه متعلق بقدر أي : قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين المقتاتين ، ثالثها : أنه متعلق بمحذوف ، كأنه قيل : هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها.

ولما كانت السموات أعظم من الأرض في ذاتها باتساعها وزينتها ودوران أفلاكها وارتفاعها ، نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي ولفظ الاستواء وحرف الغاية الدال على عظم الغاية فقال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى) أي : قصد قصدا ، هو القصد منتهيا قصده (إِلَى السَّماءِ وَهِيَ) أي : والحال أنها (دُخانٌ) قال المفسرون : هذا الدخان بخار الماء وذلك أن عرش الرحمن كان على الماء قبل خلق السموات والأرض كما قال تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود : ٧] ثم إن الله تعالى أحدث في ذلك الماء اضطرابا فأزبد وارتفع فخرج منه دخان فأما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق منه اليبوسة وأحدث منه الأرض وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق منه السموات ، فإن قيل : هذه الآية مشعرة بأن خلق الأرض كان قبل السموات وقوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٣٠] مشعر بأن خلق الأرض بعد خلق السموات وذلك يوجب التناقض؟.

أجيب : بأن المشهور أنه تعالى خلق الأرض أولا ثم خلق بعدها السموات ثم بعد خلق السماء دحا الأرض ومدها حينئذ فلا تناقض ، قال الرازي : وهذا الجواب مشكل لأن الله تعالى خلق الأرض في يومين ، ثم إنه في اليوم الثالث جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ، وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض منبسطة ، ثم إنه تعالى قال بعد ذلك ثم استوى إلى السماء فهذا يقتضي أن الله تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض وبعد أن جعلها مدحوة وحينئذ يعود السؤال ثم قال : والمختار عندي أن يقال : خلق السماء مقدم على خلق الأرض وتأويل الآية أن يقال الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد والدليل عليه قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] فلو كان الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين لصار تقدير الآية أوجده من تراب ثم قال له كن فيكون وهذا محال ، فثبت أن الخلق ليس عبارة عن الإيجاد والتكوين بل عبارة عن التقدير ، والتقدير في حق الله تعالى هو : كلمته بأن سيوجده ، وإذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) : معناه : أنه قضى بحدوثها في يومين وقضاء الله تعالى أنه سيحدث كذا في مدة كذا لا يقتضي

٦٠٤

حدوث ذلك الشيء في الحال فقضاء الله تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدم على إحداث السماء حينئذ يزول السؤال. (فَقالَ لَها) أي : السماء عقب الاستواء (وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا) أي : تعاليا وأقبلا منقادتين وقوله تعالى : (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) مصدران في موضع الحال أي : طائعتين أو كارهتين (قالَتا أَتَيْنا) أي : نحن وما فينا وما بيننا (طائِعِينَ) أي : أتينا على الطوع لا على الكره ، والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير من غير أن يحقق شيئا من الخطاب والجواب ، ونحو ذلك قول القائل : قال الجدار للوتد لم تشقني قال الوتد سل من يدقني ، فإن قيل : هلا قال طائعتين على اللفظ أو طائعات على المعنى لأنهما سموات وأرضون؟ أجيب : بأنه لما جعلهن مخاطبات ومجيبات ووصفهن بالطوع والكره قال : طائعين في موضع طائعات نحو قوله ساجدين.

تنبيه : جمع الأمر لهما في الإخبار لا يدل على جمعه في الزمان بل قد يكون القول لهما متعاقبا ، فإن قيل : إن الله تعالى أمر السماء والأرض فأطاعتا كما أن الله تعالى أنطق الجبال مع داود عليه‌السلام فقال تعالى : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ : ١٠] وأنطق الأيدي والأرجل فقال تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النور : ٢٤] وقوله تعالى : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت : ٢١] وإذا كان كذلك فكيف يستبعد أن يخلق الله تعالى في ذات السموات والأرض حياة وعقلا ثم يوجه الأمر والتكليف عليهما؟.

ووجه هذا بوجوه ؛ الأول : أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره إلا أن يمنع منه مانع وههنا لا مانع ، الثاني : أنه تعالى جمعها جمع العقلاء فقال تعالى : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) الثالث : قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) [الأحزاب : ٧٢] وهذا يدل على كونها عارفة بالله تعالى عالمة بتوجه تكليف الله تعالى ، وأجاب الرازي عن هذا : بأن المراد من قوله تعالى : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) الاتيان إلى الوجود والحدوث والحصول وعلى هذا التقدير ، فحال توجه هذا الأمر كانت السموات والأرض معدومة إذ لو كانت موجودة لم يجز ، فثبت أن حال توجه هذا الأمر كانت السموات والأرض معدومة وإذا كانت معدومة لم تكن عارفة ولا فاهمة للخطاب فلم يجز توجه الأمر إليها.

فإن قيل : روى مجاهد وطاوس عن ابن عباس أنه قال : قال الله للسموات والأرض : أخرجا ما فيكما من المنافع لمصالح العباد أما أنت يا سماء فاطلعي شمسك وقمرك ونجومك ، وأنت يا أرض فشقي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك وقال لهما : افعلا ما أمرتكما طوعا وإلا ألجأتكما إلى ذلك حتى تفعلاه ، وعلى هذا لا يكون المراد من قوله (أَتَيْنا طائِعِينَ) حدوثهما في ذاتهما ، بل يصير المراد من هذا الأمر أن يظهر ما كان مودعا فيهما؟ أجيب : بأن هذا لم يثبت لأنه تعالى قال :

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ

٦٠٥

الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠))

(فَقَضاهُنَ) أي : خلقهن خلقا إبداعيا (سَبْعَ سَماواتٍ) وهذا يدل على أن حصول السماء إنما حصل بعد قوله ائتيا طوعا أو كرها.

تنبيه : الضمير للسماء على المعنى كما قال تعالى : (طائِعِينَ) ونحوه (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) [الحاقة : ٧] ويجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بسبع سموات ، وسبع سموات حال على الأول ، وتمييز على الثاني ، وقوله تعالى : (فِي يَوْمَيْنِ) قال أهل الأثر : إن الله تعالى خلق الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق سائر ما في الأرض يوم الثلاثاء والأربعاء وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق آدم عليه‌السلام وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة ، ولذلك لم يقل هنا سواء ووافق هذا آيات خلق السموات والأرض في ستة أيام ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : «أن اليهود أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال : خلق الله الأرض يوم الأحد والاثنين ، وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء ، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمعايش والعمران والخراب فهذه أربعة ، وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقين منه فخلق في أول ساعة من هذه الثلاثة الآجال حتى يموت من مات ، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به ، وفي الثالثة خلق آدم فأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له وأخرجه منها في آخر ساعة قالت اليهود : ثم ماذا يا محمد؟ قال : ثم استوى على العرش قالوا : قد أصبت لو أتممت قالوا : ثم استراح ، فغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غضبا شديدا فنزل (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ»)(١) [ق : ٣٨ ـ ٣٩] ، فإن قيل : اليوم عبارة عن النهار والليل وذلك إنما يحصل بطلوع الشمس وغروبها وقبل حدوث السموات والشمس والقمر كيف يعقل حصول اليوم؟.

أجيب : بأن معناه أنه مضى من المدة ما لو حصل هناك فلك وشمس لكان المقدار مقدار اليوم كما مر ، وقضاء الشيء إتمامه والفراغ منه قال ابن جرير : وإنما سمي الجمعة لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم وخلق السموات والأرض أي : فرغ من ذلك وأتمه (فَأَوْحى) أي : ألقى بطريق خفي وحكم بثبوت قوي (فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي : الأمر الذي دبرها ودبر منافعها به على نظام محكم لا يختل وزمام مبرم لا ينحل ، وقال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلمه إلا الله تعالى. وقال السدي : يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها ولله في كل سماء بيت تحج إليه وتطوف به الملائكة كل واحد منها مقابل للكعبة بحيث لو وقعت منه حصاة لوقعت على الكعبة.

ولما عم خص التي تلينا إشارة إلى تشريفنا فقال تعالى صارفا القول إلى مظهر العظمة تنبيها على ما في هذه الآية من العظم (وَزَيَّنَّا) أي : بما لنا من العظمة (السَّماءَ الدُّنْيا) أي : القربى

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٥ / ٣٦٠ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٥١٢١ ، والطبري في تفسيره ٢٤ / ٦١ ، ٢٦ / ١١١.

٦٠٦

إليكم لأجلكم (بِمَصابِيحَ) وهي النيرات التي خلقها الله في السموات وخص كل واحدة بضوء معين وسير معين وطبيعة معينة لا يعلمها إلا الله تعالى ولا ينافي كون الدنيا مزينة بذلك أن تكون النجوم في غيرها مما هو أعلى منها لأن السياق دل على أنها زينة.

وقوله تعالى : (وَحِفْظاً) في نصبه وجهان ؛ أحدهما : أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر أي : وحفظناها بالثواقب من الكواكب حفظا ، والثاني : أنه مفعول من أجله على المعنى فإن التقدير : وخلقنا الكواكب زينة وحفظا قال أبو حيان : وهو تكلف وعدول عن السهل البين ، والمعنى : وحفظناها من الشياطين الذين يسترقون السمع بالشهب أو من الآفات (ذلِكَ) أي : الأمر الرفيع والشأن البديع (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) أي : الذي لا يغلبه شيء وهو يغلب كل شيء ، (الْعَلِيمِ) أي : المحيط علما بكل شيء فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة والعليم إشارة إلى كمال العلم.

ولما كان المتمادي على إعراضه كأنه جدد إعراضا غير إعراضه الأول قال تعالى مفصلا بعد قوله تعالى (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) : (فَإِنْ أَعْرَضُوا) أي : استمروا على إعراضهم بعد هذا الشأن أو أعرض غيرهم عن قبول ما جئتهم به من الذكر بعد هذا البيان الواضح في هذه الآيات التي دلت على الوحدانية والعلم والقدرة وغيرها من صفات الكمال أتم دلالة (فَقُلْ) أي : لهم (أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) أي : فحذرهم أن يصيبهم عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة (مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) وقال المبرد : الصاعقة المرة المهلكة لأي شيء كان والإنذار التخويف ، وإنما خص هاتين القبيلتين لأن قريشا كانوا يمرون على بلادهم.

ثم علل إيقاع ذلك بقوله تعالى : (إِذْ) يجوز أن يكون ظرفا لصاعقة وظرفيته لا تنافي عليته أي : حين (جاءَتْهُمُ) أي : عادا أو ثمود (الرُّسُلُ) لأن الزمان الطويل يجوز نسبة ما وقع في جزء منه إليه (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) أي : من قبلهم لأن نذير الأول نذير لكل من أتى بعده بأنه إن واقع ما واقعه أتاه ما عذب به (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) وهم من أتى إليهم لأنهم لم يكونوا يعلمون إتيانهم فالخلف كناية عن الخفاء والقدام عن الجلاء وأنهم أتوهم من كل جانب واجتهدوا بهم فاعملوا فيهم كل حيلة فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض.

كما حكى الله تعالى عن الشيطان (لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) [الأعراف : ١٧] أي : لآتينهم من كل جهة ، عن الحسن : أنذروهم من وقائع الله تعالى فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاؤوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار ومن جهة المستقبل وما سيجري عليهم ، وأتوهم مقبلين عليهم ومدبرين عنهم ، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال عند الجيم وأدغمها الباقون. أن أي : بأن لا تعبدوا إلا الله أي : الذي له صفات الكمال جميعا (قالُوا) أي : الكفار لرسلهم (لَوْ شاءَ رَبُّنا) الذي ربانا أحسن تربية أن يرسل إلينا رسولا (لَأَنْزَلَ) إلينا (مَلائِكَةً) فأرسلهم إلينا بما يريده منا لكنه لم يرسل ملائكة فلم يشأ أن يرسل رسولا (فَإِنَّا بِما) أي : بسبب ما (أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي : على زعمكم بأنكم رسل (كافِرُونَ) إذ أنتم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا.

روي : «أن أبا جهل قال في ملأ قريش : التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلا عالما بالسحر والشعر والكهانة وكلمه ثم أتانا ببيان من أمره ، فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد علمت الشعر

٦٠٧

والسحر والكهانة وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي ، فأتاه فقال له : يا محمد أنت خير أم هاشم ، أنت خير أم عبد المطلب ، أنت خير أم عبد الله ، فلم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا ، وإن كنت أردت الباء زوجناك عشر نسوة تختارهن من أي بنات قريش شئت ، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستعين به على ذلك ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساكت فلما فرغ قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفرغت؟ قال : نعم قال : فاسمع ثم إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعوذ ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) إلى أن بلغ قوله تعالى (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم إلا ما سكت ، ثم رجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قالوا : ما نرى عتبة إلا قد صبأ فانطلقوا إليه وقالوا : يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه ، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد فغضب عتبة وأقسم لا يكلم محمدا أبدا ، وقال : والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه القصة وجاءني بشيء والله ما هو شعر ولا كهانة ولا سحر وقرأ السورة إلى قوله تعالى (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) فأمسكت بفيه وناشدته الرحم حتى سكت ، ولقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب» (١).

وفي رواية لمحمد بن كعب أنه قال : إني سمعت قرآنا والله ما سمعت بمثله قط ما هو شعر ولا سحر ولا كهانة يا معشر قريش أطيعوني ، خلوا بينكم وبين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه والله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظفر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وأنتم أسعد الناس به ، قالوا : سحرك والله يا أبا لوليد بلسانه قال : هذا رأي لكم فاصنعوا ما بدا لكم.

ولما جمعهم الله فيما اجتمعوا فيه حتى كأنهم تواصوا به ، فصّلهم وفصّل ما اختلفوا فيه فقال مسببا عما مضى من مقالاتهم : (فَأَمَّا عادٌ) أي : قوم هود عليه‌السلام (فَاسْتَكْبَرُوا) أي : طلبوا الكبر وأوجدوه (فِي الْأَرْضِ) أي : كلها التي كانوا فيها بالفعل وغيرها بالقوة أو في الكل بالفعل لكونهم ملكوها كلها ، ثم بين كبرهم أنه (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي : الذي لم يطابق الواقع ، ثم ذكر تعالى سبب الاستكبار بقوله تعالى : (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) وذلك أن هودا عليه‌السلام هددهم بالعذاب ، فقالوا : نحن نقدر على دفع العذاب بفضل قوتنا ، وكانوا ذوي أجسام طوال طول الطويل منهم أربعمائة ذراع كما سيأتي في سورة الفجر.

قال الله تعالى ردا عليهم : (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي : يعلموا علما هو كالمشاهدة (أَنَّ اللهَ) أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلما (الَّذِي خَلَقَهُمْ) ولم يكونوا شيئا (هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) ومن علم أن غيره أقوى منه وكان عاقلا انقاد له فيما ينفعه ولا يضره ، وقوله تعالى : (وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي : يعرفون أنها حق وينكرونها ، عطف على فاستكبروا.

(فَأَرْسَلْنا) أي : بسبب ذلك على ما لنا من العظمة (عَلَيْهِمْ رِيحاً) أي : عظيمة (صَرْصَراً)

__________________

(١) أخرجه بنحوه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ١٩٧ ، والسيوطي في الدر المنثور ٥ / ٣٥٨ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٥٤٢٨ ، وابن كثير في البداية والنهاية ٣ / ٦٣.

٦٠٨

أي : شديد البرد والصوت والعصوف حتى كانت تجهد البدن ببردها فتكون كأنها تصره أي : تجمعه في موضع واحد فتمنعه التصرف بقوتها وتقطع القلب بصوتها فتقهر شجاعته وتمحق بشدة بردها كل ما مرت عليه ، وقوله تعالى : (فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) أي : مشؤومات جمع نحسة ، وقرأ ابن عامر والكوفيون بكسر الحاء من نحس نحسا نقيض سعد سعدا فهو نحس والباقون بسكونها فهو إما مخفف نحس أو صفة على فعل أو وصف بمصدر قال الضحاك : أمسك الله تعالى عنهم المطر ثلاث سنين وكانت الريح عليهم من غير مطر ، روي أن الأيام كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء قال البيضاوي : وما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء.

وعن عبد الله بن عباس أنه قال : الرياح ثمان : أربع منها عذاب : وهي العاصفة والصرصر والعقيم والقاصف ، وأربع منها رحمة : وهي المبشرات والناشرات والمرسلات والذاريات ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى ما أرسل على عاد من الريح إلا قدر خاتمي ، وفعلنا ذلك بهم (لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ) أي : الذل والهوان (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) كما استكبروا في الأرض بغير الحق فيذبلوا عند من تعظموا عليه في الدار التي اغتروا بها فتعظموا فيها ، فإن ذلك أدل على القدرة عند من تقيد بالوهم (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ) أي : الذي أعد للمتكبرين في الآخرة بغير الحق (أَخْزى) أي : أشد إهانة ، وهو في الأصل صفة المعذب ، وإنما وصف به العذاب على الإسناد المجازي للمبالغة (وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) أي : لا يوجد ولا يتجدد لهم نصر أبدا بوجه من الوجوه.

ولما أنهى تعالى أمر صاعقة عاد ، شرع في بيان صاعقة ثمود فقال تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ) وهم قوم صالح عليه‌السلام (فَهَدَيْناهُمْ) أي : بينا لهم طريق الهدى من أنا قادرون على البعث وعلى كل شيء فلا شريك لنا ، وكان بيان ذلك بالناقة غاية البيان فأبصروا ذلك بأبصارهم التي هي سبب إبصار بصائرهم غاية الإبصار ، فكرهوا ذلك لما يلزمه من تركهم طريق آبائهم وأقبلوا على لزوم طريق آبائهم (فَاسْتَحَبُّوا) أي : اختاروا (الْعَمى) أي : الكفر (عَلَى الْهُدى) أي : الإيمان ، قال القشيري قيل : إنهم آمنوا وصدقوا ثم ارتدوا وكذبوا فأجراهم مجرى إخوانهم في الاستبدال.

فإن قيل : أليس معنى هديته حصلت فيه الهدى والدليل عليه قولك : هديته فاهتدى ، وبمعنى تحصيل البغية وحصولها كما تقول ردعته فارتدع ، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ أجيب : بأنه لما مكنهم وأزاح عللهم ولم يبق لهم عذرا ولا علة فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها.

(فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ) أي : بسبب ذلك أخذ قهر وهوان (الْهُونِ) أي : ذي الهوان وهو الذي يهينهم (بِما كانُوا) أي : دائما (يَكْسِبُونَ) أي : من شركهم وتكذيبهم صالحا عليه‌السلام.

ولما أنهى الله تعالى الخبر عن الكافرين من الفريقين أتبعه الخبر عن مؤمنيهم بشارة لمن اتبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونذارة لمن صد عنه فقال تعالى : (وَنَجَّيْنَا) أي : تنجية عظيمة بما لنا من القدرة (الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أوجدوا هذا الوصف من الفريقين (وَكانُوا) أي : كونا عظيما (يَتَّقُونَ) أي : يتجدد لهم هذا الوصف في كل حركة وسكون فلا يقدمون على شيء بغير دليل ، فإن قيل : كيف يجوز للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينذر قومه مثل صاعقة عاد وثمود مع العلم بأن ذلك لا يقع في أمته ، وقد صرح تعالى بذلك فقال عز من قائل : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) [الأنفال : ٣٣].

٦٠٩

وجاء في الحديث الصحيح «أن الله تعالى رفع عن هذه الأمة هذه الأنواع» (١)؟ أجيب : بأنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في الكفر عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة ، وأن السبب الموجب للعذاب واحد وربما يكون العذاب النازل من جنس ذلك العذاب وإن كان أقل درجة وهذا القدر يكفي في التخويف.

ولما بين تعالى كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا أردفه ببيان كيفية عقوبتهم في الآخرة ليحصل تمام الاعتبار في الزجر والتحذير فقال تعالى : (وَيَوْمَ) أي : واذكر يوم (يُحْشَرُ) أي : يجمع بكره بأمر قاهر لا كلفة فيه (أَعْداءُ اللهِ) أي : الملك الأعظم (إِلَى النَّارِ) وقرأ نافع بنون مفتوحة وضم الشين ونصب أعداء على البناء للفاعل وهو الله تعالى ، والباقون بياء الغيبة مضمومة وفتح الشين على البناء للمفعول ورفع أعداء لقيامه مقام الفاعل ، وجه الأول أنه معطوف على نجينا فحسن أن يكون على وفقه في اللفظ ، ووجه الثاني موافقة قوله تعالى : (فَهُمْ) أي : بسبب حشرهم (يُوزَعُونَ) أي : يساقون ويدفعون إلى النار ، وقال قتادة : يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا أي : يوقف سوابقهم حتى تصل إليهم.

ولما بين تعالى إهانتهم بالوزع بين غايتها بقوله تعالى : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) أي : النار التي كانوا بها يكذبون ، فما زائدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور ، كما قال تعالى : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ) وبين الشاهد وعدده بقوله تعالى : (سَمْعُهُمْ) وأفرد السمع لعدم تفاوت الناس فيه (وَأَبْصارُهُمْ) وجمعها لعظم تفاوت الناس فيها (وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : يجددون عمله مستمرين عليه.

تنبيه : في كيفية تلك الشهادة ثلاثة أقوال ؛ أولها : أن الله تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه ، ثانيها : أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني ، ثالثها : أن يظهر في تلك الأعضاء أحوالا تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان وتلك الأمارات تسمى شهادات كما يقال يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه.

فإن قيل : ما السبب في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر مع أن الحواس خمسة وهي السمع والبصر والشم والذوق واللمس؟ أجيب : بأن الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسة لجرم الطعام ، وكذلك الشم لا يتأتى حتى يصير جلدة الأنف مماسة لجرم المشموم فكانا داخلين في جنس اللمس ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج وهو من باب الكنايات كما قال تعالى : (لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) [البقرة : ٢٣٥] وأراد النكاح وقال تعالى : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) [النساء : ٤٣] والمراد قضاء الحاجة وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه» (٢) وعلى هذا التقدير تكون الآية وعيدا شديدا في إتيان الزنا لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالفخذ ، وقال مقاتل : تنطق جوارحهم بما كتمت الأنفس من عملهم وعن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضحك

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١٩ / ٤٢٤.

٦١٠

فقال : «هل تدرون مم أضحك؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : من مخاطبة العبد ربه فيقول يا رب ألم تجرني من الظلم فيقول : بلى قال فيقول فإني لا أجيز اليوم على نفسي إلا شاهدا مني قال فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وبالكرام الكاتبين عليك شهودا قال فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكنّ وسحقا فعنكنّ كنت أناضل» (١).

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩))

(وَقالُوا) أي : الكفار الذين يحشرون إلى النار (لِجُلُودِهِمْ) مخاطبين لها مخاطبة العقلاء لما فعلت فعل العقلاء (لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) مع أنا كنا نحاجج عنكم (قالُوا) مجيبين لهم معتذرين (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أراد نطقه على وجه لم يقدر على التخلف عنه فليس بعجب من قدرة الله الذي له مجامع العز (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) والعلم القطعي حاصل عندكم بأنكم كنتم عدما ثم نطفا لا تقبل النطق في مجاري العادات بوجه ، ثم طوركم في أدوار الأطوار كذلك إلى أن أوصلكم إلى حيز الإدراك فقسركم على النطق بحيث لو أردتم سلبه عن أنفسكم ما قدرتم (وَإِلَيْهِ) لا إلى غيره (تُرْجَعُونَ) فينبئكم بما كنتم تعملون.

تنبيه : اختلف في قوله تعالى : (وَهُوَ خَلَقَكُمْ) الآية فقيل : هو من كلام الجلود وقيل : هو من كلام الله تعالى كالذي بعده وموقعه تقريب ما قبله بأن القادر على إنشائكم ابتداء وعلى إعادتكم بعد الموت أحياء قادر على إنطاق جلودكم وأعضائكم.

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) أي : عند ارتكابكم الفواحش خفية (أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ) وأكد بتكرير النافي فقال : (وَلا أَبْصارُكُمْ) جمع وأفرد لما مضى (وَلا جُلُودُكُمْ) والمعنى : أنكم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش وما كان استتاركم ذلك خيفة أن تشهد عليكم جوارحكم لأنكم كنتم غير عالمين بشهادتها عليكم بل كنتم جاحدين بالبعث جهلا منكم (وَلكِنْ) إنما استتاركم لأنكم (ظَنَنْتُمْ) بسبب إنكار البعث جهلا منكم (أَنَّ اللهَ) الذي له جميع صفات الكمال (لا يَعْلَمُ) أي : في وقت من الأوقات (كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) وهو الخفيات من أعمالكم.

روي عن ابن مسعود قال : «كنت مستترا بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر ، ثقفيان وقرشي أو

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٢٩٦٩.

٦١١

قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم ، فقال أحدهم : أترون الله يسمع ما نقول فقال الآخر : يسمع إن جهرنا ، وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا يسمع إذا أخفينا فذكرت ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ)(١) الآية قيل : الثقفي عبد ياليل وختناه القرشيان ربيعة وصفوان بن أمية.

وقوله تعالى : (وَذلِكُمْ) إشارة إلى ظنهم هذا وهو مبتدأ وقوله تعالى : (ظَنُّكُمُ) بدل منه ، وقوله تعالى : (الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ) نعت البدل والخبر (أَرْداكُمْ) أي : أهلككم ، وفي هذا تنبيه على أن من حق المؤمن أن لا يذهب عنه ولا يزول عن ذهنه أن عليه من الله تعالى عينا كالئة ورقيبا مهيمنا حتى يكون في أوقاته وخلواته من ربه أهيب وأحسن احتشاما وأوفر تحفظا وتصورا منه مع الملأ ، ولا ينبسط في سره مراقبة من التشبه بهؤلاء الظانين.

ولما كان الصباح محل رجاء للإفراج فكان شر الإتراح ما كان فيه ، قال تعالى (فَأَصْبَحْتُمْ) أي : بسبب ما أعطيتموه من النعم لتستنقذوا أنفسكم به من الهلاك ، كان سبب هلاككم (مِنَ الْخاسِرِينَ) أي : العريقين في الخسارة المحكوم بخسارتهم في جميع ذلك اليوم.

قال المحققون : الظن قسمان أحدهما : حسن ، والآخر : فاسد ، فالحسن ، أن يظن بالله تعالى الرحمة والفضل والإحسان قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله تعالى : «أنا عند ظن عبدي بي» (٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» (٣).

والظن الفاسد أن يظن أن الله تعالى يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال. وقال قتادة : الظن نوعان : منجي ومردي ، فالمنجي : قوله : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [الحاقة : ٢٠] وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ٤٦] والمردي : هو قوله تعالى : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ).

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً) أي : منزل (لَهُمْ) أي : إن أمسكوا عن الاستغاثة لفرج ينتظرونه لم يجدوا ذلك وتكون النار مقاما لهم (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) أي : يسألوا العتبى وهو ، الرجوع لهم إلى ما يحبون جزعا مما هم فيه (فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) أي : المجابين إليها ، ونحوه قوله عزوجل : (أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) [إبراهيم : ٢١].

ولما ذكر وعيدهم في الدنيا والآخرة أتبعه سبب كفرهم الذي هو سبب الوعيد فقال تعالى : (وَقَيَّضْنا) قال مقاتل : هيأنا وقال الزجاج : سببنا (لَهُمْ) أي : للكفرة وأصل التقييض : التيسير والتهيئة يقال : قيضته للدواء هيأته له ويسرته ، وهذان ثوبان قيضان أي : كل منهما مكافئ للآخر في الثمن وقوله تعالى : (قُرَناءَ) أي : نظراء من الشياطين حتى أضلوهم ، جمع قرين قال تعالى : (وَمَنْ

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٨١٧ ، ومسلم في المنافقين حديث ٢٧٧٥ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٤٩.

(٢) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٤٠٥ ، ومسلم في الذكر حديث ٢٦٧٥ ، والترمذي في الزهد حديث ٢٣٨٨ ، وابن ماجه في الأدب حديث ٣٨٢٢.

(٣) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٨٧٧ ، وأبو داود في الجنائز حديث ٣١١٣ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٦٧.

٦١٢

يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف ، ٣٦] (فَزَيَّنُوا لَهُمْ) أي : من القبائح (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي : من أمر الدنيا حتى آثروها على الآخرة (وَما خَلْفَهُمْ) أي : من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب وإنكار البعث ، وقال الزجاج : زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ، وما خلفهم من أمر الدنيا بأن الدنيا قديمة ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك ، قال القشيري : إذا أراد الله بعبده سوءا قيض له إخوان سوء وقرناء سوء يحملونه على المخالفات ويدعونه إليها ، ومن ذلك الشيطان ، وشر منه النفس وبئس القرين ، تدعو اليوم إلى ما فيه الهلاك وتشهد غدا عليه ، وإذا أراد الله بعبده خيرا قيض الله له قرناء خير يعينونه على الطاعة ويحملونه عليها ويدعونه إليها.

وروي عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أراد الله بعبد شرا قيض له قبل موته شيطانا فلا يرى حسنا إلا قبحه عنده ولا قبيحا إلا حسنه عنده» (١). وعن عائشة : إذا أراد الله بالوالي خيرا قيض له وزير صدق إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه ، وإن أراد غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه ، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه ، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه ، والمعصوم من عصمه الله تعالى» (٢).

تنبيه : في الآية دلالة على أنه تعالى يريد الكفر من الكافرين لأنه تعالى قيض لهم قرناء سوء فزينوا لهم الباطل ، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الكفر ولكن لا يرضاه كما قال تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧].

(وَحَقَ) أي : وجب وثبت (عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي : كلمة العذاب ، وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم ، وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم ، والباقون بكسر الهاء وضم الميم وقوله تعالى : (فِي أُمَمٍ) محله نصب على الحال من الضمير في عليهم أي : حق عليهم القول كائنين في جملة أمم كثيرة ، وفي بمعنى مع (قَدْ خَلَتْ) أي : لم تتعظ أمة منهم بالأخرى (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : في الزمان (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) قد عملوا مثل أعمالهم ، وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ) أي : جميع المذكورين منهم وممن قبلهم (كانُوا خاسِرِينَ) تعليل لاستحقاقهم العذاب.

وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أصله وقالوا أي : المعرضون ، ولكنه قال ذلك تنبيها على الوصف الذي أوجب إعراضهم (لا تَسْمَعُوا) أي : شيئا من مطلق السماع (لِهذَا الْقُرْآنِ) وعينوه بالإشارة احترازا عن غيره من الكتب القديمة كالتوراة ، قال القشيري : لأنه مقلب القلوب وكل من استمع له صبا إليه (وَالْغَوْا) أي : اهزؤوا (فِيهِ) أي : اجعلوه ظرفا للغو بأن تكثروا من الخرافات والهذيانات واللغط واللغو والتصدية أي : التصفير والتصفيق وغيرها ، وقال ابن عباس : كان بعضهم يعني قريشا يعلم بعضا إذا رأيتم محمدا يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر ، واللغو : هو من باب لغي بالكسر يلغى بالفتح إذا تكلم بما لا فائدة فيه (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) أي : ليكون حالكم حال من

__________________

(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١ / ٢٧٣ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٢٧٨٧.

(٢) أخرجه البخاري في الأحكام حديث ٧١٩٨ ، والنسائي في البيعة حديث ٤٢٠٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٧ ، ٢٨٩ ، ٣ / ٣٩ ، ٨٨.

٦١٣

يرجى له أن يغلب ويظفر بمراده في أن لا يميل إليه أحد وسكت ونسي ما كان يقول ، وهذا يدل على أنهم عارفون بأن من يسمعه مال إليه وأقبل بكليته عليه وقد فضحوا أنفسهم بهذا فضيحة لا مثل لها.

(فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أظهر في موضع الإضمار إذ أصله فلنذيقنهم ، لكنه أظهر تعميما وتعليقا بالوصف (عَذاباً شَدِيداً) في الدنيا بالحرمان وما يتبعه من فنون الهوان ، وفي الآخرة بالنيران (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ) أي : بأعمالهم (أَسْوَأَ) أي : سوء العمل (الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : مواظبين عليه.

(ذلِكَ) أي : الجزاء الأسوأ العظيم جدا (جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) أي : الملك الأعظم ، ثم بينه بقوله تعالى : (النَّارُ) وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة الثانية المفتوحة واوا خالصة ، والباقون بتحقيقهما ، وأما الابتداء بالثانية فالجميع بالتحقيق ، ثم فصّل بعض ما في النار بقوله تعالى : (لَهُمْ فِيها) أي : النار (دارُ الْخُلْدِ) أي : فإنها دار إقامة ، قال الزمخشري : فإن قلت ما معنى قوله : (لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ) قال : قلت : إن النار في نفسها دار الخلد كقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١] أي : الرسول هو نفس الأسوة.

وقال البيضاوي : هو كقولك في هذه الدار دار سرور يعني بالدار عينها على أن المقصود هو الصفة قال ابن عادل : في هذا نظر إذ الظاهر وهو معنى صحيح منقول أن في النار دارا تسمى دار الخلد والنار محيطة بها وهذا أولى ، وقوله تعالى : (جَزاءُ) منصوب بالمصدر الذي قبله وهو (جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ) والمصدر ينصب بمثله كقوله تعالى : (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) [الإسراء : ٦٣] (بِما كانُوا بِآياتِنا) أي : على ما لنا من العظمة (يَجْحَدُونَ) أي : يلغون في القراءة وسماه جحدا لأنهم لما علموا أن القرآن بالغ إلى حد الإعجاز خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا فاستخرجوا تلك الطريقة الفاسدة ، وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزا وأنهم جحدوا حسدا.

ولما بين تعالى أن الذي حملهم على الكفر الموجب للعذاب الشديد مجالسة قرناء السوء بين ما يقولون في النار بقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : غطوا أنوار عقولهم داعين بما لا يسمع لهم فهو زيادة في عقوبتهم وحكايته لها وعظ وتحذير (رَبَّنا) أي : يا أيها الذي لم يقطع قط إحسانه عنا (أَرِنَا) الصنفين (الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) أي : عن المنهج الموصل إلى محل الرضوان (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) لأن الشيطان على ضربين جني وإنسي ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] وقال تعالى : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [الناس : ٥ ـ ٦] وقيل : هما إبليس وقابيل بن آدم الذي قتل أخاه ، لأن الكفر سنه إبليس ، والقتل بغير حق سنه قابيل ، فهما سنا المعصية ، وقرأ ابن كثير والسوسي ، وابن عامر وشعبة بسكون الراء من أرنا ، واختلس الدوري كسر الراء ، وكسرها الباقون ، وشدد ابن كثير النون من اللذين (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) في النار إذلالا لهما كما جعلانا تحت أمرهما (لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) قال مقاتل : أسفل منافي النار ، وقال الزجاج : ليكونا في الدرك الأسفل من النار أي : من أهل الدرك الأسفل وممن هو دوننا كما جعلانا كذلك في الدنيا في حقيقة الحال باتباعنا لهما ، وقال بعض الحكماء : المراد باللذين أضلانا : الشهوة والغضب ، والمراد بجعلهما تحت أقدامهم : كونهما مسخرين للنفس مطيعين لها وأن لا يكونا مستوليين عليها ظاهرين عليها.

٦١٤

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨))

ولما ذكر تعالى الوعيد أردفه بذكر الوعد كما هو الغالب فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا) أي :قولا حقيقيا مذعنين به بالجنان وناطقين باللسان تصديقا لداعي الله تعالى في الدنيا (رَبُّنَا) أي : المحسن إلينا (اللهُ) أي : المختص بالجلال والإكرام وحده لا شريك له ، وثم في قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَقامُوا) لتراخي الرتبة في الفضيلة فإن الثبات على التوحيد ومصححاته إلى الممات أمر في علو رتبته لا يرام إلا بتوفيق ذي الجلال والإكرام.

سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة فقال : أن لا تشرك بالله شيئا ، وقال عمر رضي الله عنه ، الاستقامة : أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب. وقال عثمان رضي الله عنه : أخلصوا العمل لله ، وقال علي رضي الله عنه : أدوا الفرائض ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : استقاموا على أمر الله تعالى بطاعته واجتنبوا معصيته ، وقال مجاهد وعكرمة : استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله ، وقال قتادة : كان الحسن إذا تلا هذه الآية قال : اللهم ربنا ارزقنا الاستقامة ، وقال سفيان بن عبد الله الثقفي : قلت : يا رسول الله أخبرني بأمر أعتصم به قال : «قل ربي الله ثم استقم فقلت : ما أخوف ما تخاف علي ، فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلسان نفسه فقال : هذا» (١). قال أبو حيان : قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.

(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) قال ابن عباس : عند الموت وقال قتادة : إذا قاموا من قبورهم ، وقال وكيع بن الجراح : البشرى : تكون في ثلاثة مواطن عند الموت وفي القبر وعند البعث وهي (أَلَّا تَخافُوا) قال مجاهد : لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمر الآخرة (وَلا تَحْزَنُوا) على ما خلفتم من أهل وولد فإنا نخلفكم في ذلك كله ، وقال عطاء بن أبي رباح : لا تخافوا من ذنوبكم ولا تحزنوا فإني أغفرها لكم ، والخوف غم يلحق لتوقع المكروه ، والحزن يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار ، والمعنى أن الله تعالى كتب لكم الأمن من كل غم فلن تذوقوه أبدا.

تنبيه : يجوز في أن : أن تكون المخففة أو المفسرة أو الناصبة ، ولا ناهية على الوجهين الأولين ، ونافية على الثالث (وَأَبْشِرُوا) أي : املؤوا صدوركم سرورا يظهر أثره على بشرتكم بتهلل

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الزهد حديث ٢٤١٠ ، وابن ماجه في الفتن حديث ٣٩٧٢ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤١٣ ، والحاكم في المستدرك ٤ / ٣١٣.

٦١٥

الوجه ويعم سائر الجسد (بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ) أي : كونا عظيما على ألسنة الرسل عليهم‌السلام (تُوعَدُونَ) أي : يتجدد لكم ذلك كل حين بالكتب والرسل.

تنبيه : فيما ذكر دلالة على أن المؤمن عند الموت وفي القبر وعند البعث يكون فارغا من الأهوال والفزع الشديد.

فإن قيل : البشارة عبارة عن الخبر الأول بحصول المنافع فأما إذا أخبر الشخص بحصول المنفعة ثم أخبر ثانيا بحصولها كان الإخبار الثاني إخبارا ولا يكون بشارة والمؤمن قد يسمع بشارات الخير فإذا سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخبارا ولا يكون بشارة فما السبب في تسمية هذا الخبر بشارة؟ أجيب : بأن المؤمن قد يسمع بشارات الخير ولم يعلم بأن له الجنة فيكون ذلك بشارة ، أما إذا علم أنه من أهل الجنة بإخبار نبي فإنه إذا سمع هذا الكلام من الملائكة فإنه يكون إخبارا.

ولما أثبتوا لهم الخير ونفوا عنهم الضير عللوه بقولهم : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ) أي : أقرب الأقرباء إليكم فنحن نفعل معكم كل ما يمكن أن يفعله القريب (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) نجلب لكم المسرات وندفع عنكم المضرات ونحملكم على جميع الخيرات ، فنوقظكم من المنام ونحملكم على الصلاة والصيام ونبعدكم عن الآثام ضد ما تفعله الشياطين مع أوليائهم (وَفِي الْآخِرَةِ) كذلك حيث تتعادى الأخلاء إلا الأتقياء.

قال السدي : تقول الملائكة عليهم‌السلام : نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا ونحن أولياؤكم في الآخرة. أي : لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة (وَلَكُمْ فِيها) أي : في الآخرة أي : في الجنة وقبل دخولها في جميع أوقات المحشر (ما تَشْتَهِي) ولو على أدنى وجوه الشهوات ، كما يرشد إليه حذف المفعول (أَنْفُسُكُمْ) من اللذائذ لأجل ما منعتموها من الشهوات في الدنيا (وَلَكُمْ فِيها) أي : في الآخرة (ما تَدَّعُونَ) أي : تتمنون من الدعاء بمعنى الطلب وهو أعم من القول.

وقوله تعالى : (نُزُلاً) حال مما تدعون أي : هذا كله يكون لكم نزلا كما يقدم إلى الضيف عند قدومه إلى أن يهيأ له ما يضاف به ، وأما ما يعطون فهو مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

ولما كان من حوسب عذّب فلا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله تعالى ، أشار إلى ذلك بقوله تعالى : (مِنْ) أي : كائن ذلك النزل من (غَفُورٍ) له صفة المحو للذنوب عينا وأثرا على غاية لا يمكن وصفها (رَحِيمٍ) أي : بالغ الرحمة وهو الله تعالى.

واختلف في تفسير قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً) أي : من جهة القول (مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) أي : الذي عم بصفات كماله جميع الخلق ، فقال ابن سيرين والسدي : هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وقال الحسن : هو المؤمن الذي أجاب الله تعالى دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب إليه (وَعَمِلَ) أي : والحال أنه قد عمل (صالِحاً) في نفسه ليكون ذلك أمكن لدعائه (وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) تفاخرا به وقطعا لطمع المفسدين ، وقال عكرمة : هم المؤذنون ، وقالت عائشة رضي الله عنها : إن هذه الآيات نزلت في المؤذنين ، وقال أبو أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه : وعمل صالحا صلى ركعتين بين الأذان والإقامة ، وعن عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه

٦١٦

قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بين كل أذانين صلاة ثلاث مرات ثم قال في الثالثة لمن شاء» (١) ، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد.

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) أي : الصبر والغضب والحلم والجهل والعفو والإساءة في الجزاء وحسن العاقبة.

تنبيه : في لا الثانية وجهان : أحدهما : أنها زائدة للتأكيد كقوله تعالى : (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) [فاطر : ٢١] لأن الاستواء لا يكتفي بواحد ، الثاني : أنها مؤسسة غير مؤكدة ، إذ المراد بالحسنة والسيئة الجنس ، إذ لا تستوي الحسنات في أنفسها فإنها متفاوتة ولا تستوي السيئات أيضا فرب واحدة أعظم من أخرى وهو مأخوذ من كلام الزمخشري (ادْفَعْ) كل ما يمكن أن يضرك من نفسك ومن الناس (بِالَّتِي) أي : بالخصال والأحوال التي (هِيَ أَحْسَنُ) على قدر الإمكان من الأعمال الصالحات والعفو عن المسيء حسن والإحسان إليه أحسن منه.

(فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ) عظيمة فاجأته حال كونه (كَأَنَّهُ وَلِيٌ) أي : قريب فاعل ما يفعله القريب (حَمِيمٌ) أي : في غاية القرب لا يدع مهما إلا قضاه وسهله ويسره وشفى علله وقرب بعيده وأزال درنه كما يزيل الماء الحار الوسخ ، وقيل : نزلت في أبي سفيان بن حرب وكان عدوا مؤذيا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم وصار وليا مصافيا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم نبه على عظيم فضل هذه الخصلة بقوله تعالى : (وَما يُلَقَّاها) أي : على ما هي عليه من العظمة (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) من الفضائل النفسانية ، وقال قتادة : الحظ العظيم الجنة أي : وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة.

وقوله تعالى : (وَإِمَّا) فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة (يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) قال الزمخشري : النزغ والنسغ بمعنى واحد وهو شبيه النخس ، والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه فيبعثه على ما لا ينبغي ، وجعل النزغ نازغا كما قيل : جد جده أو أريد وإما ينزغنك نازغ وصفا للشيطان بالمصدر أو تسويله ، والمعنى : وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي : استجر بالملك الأعلى من شر الشيطان واطلب من الله الدخول في عصمته مبادرا إلى ذلك وامض على شأنك ولا تطعه وتوكل على الله تعالى (إِنَّهُ هُوَ) أي : وحده (السَّمِيعُ) أي : لكل مسموع من استعاذتك وغيرها (الْعَلِيمُ) أي : بكل معلوم من نزغه وغيره فهو القادر على رد كيده وتوهين أمره.

ثم استدل على ذلك بقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على وحدانيته وأنه سميع عليم (اللَّيْلُ وَالنَّهارُ) باختلاف هيئتهما على قدرته على البعث وكل مقدور ، وقدم الليل على ذكر النهار تنبيها على أن الظلمة عدم ، والنور وجود والعدم سابق على الوجود ، (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) اللذان هما الليل والنهار ، وقدم الشمس على ذكر القمر لكثرة نفعها.

ولما ثبت أنه تعالى المنفرد بالخلق قال سبحانه : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ) التي هي من أعظم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٦٢٤ ، ٦٢٧ ، ومسلم في المسافرين حديث ٣٠٤ ، وأبو داود في التطوع حديث ١٢٨٣ ، والترمذي في الصلاة حديث ١٨٥ ، والنسائي في الأذان باب ٣٩ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١١٦٢ ، والدارمي في الصلاة باب ١٤٥ ، وأحمد في المسند ٤ / ٨٦ ، ٥ / ٥٤ ، ٥٦ ، ٥٧.

٦١٧

أوثانكم وأعاد النافي تأكيدا فقال : (وَلا لِلْقَمَرِ) فإنهما دالان على وجود الإله مخلوقان مسخران فلا ينبغي السجود لهما لأن السجود عبارة عن نهاية التعظيم وهو لا يليق إلا بالذي أوجدهما من العدم كما قال تعالى : (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ) أي : الذي له كل كمال من غير شائبة نقص.

واختلف في عود الضمير في قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَهُنَ) على أوجه ؛ أولاها : عوده للآيات الأربع كما جرى عليه الجلال المحلي ، وقيل : يرجع لليل والنهار والشمس والقمر ، قال الزمخشري : لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى والإناث ، يقال : الأقلام بريتها وبريتهن ، وناقشه أبو حيان من حيث إنه لم يفرق بين جمع القلة والكثرة في ذلك لأن الأفصح في جمع القلة أن يعامل معاملة الإناث وفي جمع الكثرة أن يعامل معاملة الأنثى ، والأفصح أن يقال : الأجذاع كسرتهن والجذوع كسرتها ، وأجاب بعضهم : بأن الزمخشري ليس في مقام بيان الفصيح من الأفصح بل في مقام كيف يجيء الضمير ضمير إناث بعد تقدم ثلاثة أشياء مذكرات وواحد مؤنث والقاعدة تغليب المذكر على المؤنث ، وقال البغوي : إنما قال خلقهن بالتأنيث لأنه أجراها على طريق جمع التكسير ولم يجر على طريق التغليب للمذكر على المؤنت.

ولما ظهر أن الكل عبيده وكان السيد لا يرضى بإشراك عبده عبدا آخر في عبادة سيده قال تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ) أي : خاصة بغاية الرسوخ (تَعْبُدُونَ) كما هو صريح قولكم في الدعاء في وقت الشدائد لا سيما في البحر ، وفي الآية إشارة إلى الحث على صيانة الآدميين على أن يقع منهم سجود لغيره رفعا لمقامهم عن أن يكونوا ساجدين لمخلوق بعد أن كانوا مسجودا لهم ، فإنه تعالى أمر الملائكة عليهم‌السلام الذين هم من أشرف خلقه بالسجود لآدم عليه‌السلام وهم في ظهره فتكبر إبليس فأبّد لعنته إلى يوم القيامة.

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) أي : أوجدوا التكبر عن اتباعك فيما أمرتهم به من التوحيد فلم ينزهوا الله تعالى عن الشريك (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) أي : من الملائكة ، قال الرازي : ليس المراد بهذه العندية : قرب المكان بل كما يقال عند الملك من الجند كذا وكذا ، ويدل عليه قوله تعالى : «أنا عند ظن عبدي بي» (١) ، «وأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي» (٢)(يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : دائما لقوله تعالى : (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي : لا يملون ولقوله سبحانه وتعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ٢٠] ، فإن قيل : اشتغالهم بهذا العمل على الدوام يمنعهم من الاشتغال بسائر الأعمال مع أنهم ينزلون إلى الأرض كما قال تعالى (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤] وقال تعالى عن الذين قاتلوا يوم بدر (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) [آل عمران : ١٢٥]؟ أجيب : بأن الذين ذكرهم الله تعالى ههنا بكونهم مواظبين على التسبيح أقوام معينون من الملائكة.

تنبيه : اختلف في مكان السجدة فقيل : هو عند قوله تعالى : (إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) وهو قول ابن مسعود والحسن رضي الله عنهما حكاه الرافعي عن أبي حنيفة وأحمد رضي الله تعالى عنهما لأنه ذكر السجدة قبيله ، والصحيح عند الشافعي رضي الله تعالى عنه عند قوله تعالى (لا يَسْأَمُونَ) وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وقتادة وحكاه الزمخشري عن أبي حنيفة رضي الله عنه لأن عنده تم الكلام.

__________________

(١) تقدم الحديث مع تخريجه.

(٢) تقدم الحديث مع تخريجه.

٦١٨

ولما ذكر تعالى الدلائل الأربعة الفلكية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال تعالى :

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦))

(وَمِنْ آياتِهِ) الدالة على قدرته ووحدانيته (أَنَّكَ) أي : أيها الإنسان (تَرَى الْأَرْضَ) أي : بعضها بحاسة البصر وبعضها بعين البصيرة قياسا على ما أبصرت (خاشِعَةً) أي : يابسة لا نبات فيها والخشوع التذلل والتقاصر فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها كما وصفها بالهمود في قوله تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) [الحج : ٥] وهو خلاف وصفها بالاهتزاز والربو ، كما قال تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا) أي : بما لنا من العظمة (عَلَيْهَا الْماءَ) من الغمام أو غيره (اهْتَزَّتْ) أي : تحركت حركة عظيمة كثيرة سريعة فكان كمن يعالج ذلك بنفسه (وَرَبَتْ) أي : تشققت فارتفع ترابها وخرج منها النبات وسما في الجو مغطيا لوجهها وتشعبت عروقه وغلظت سوقه فصار يمنع سلوكها على ما كانت فيه من السهولة وتزخرفت بذلك النبات كأنها بمنزلة المختال في زيه بعدما كانت قبل ذلك كالذليل الكاسف البال في الأطمار الرثة ، وقرأ السوسي : ترى الأرض في الوصل بالإمالة بخلاف منه ، والباقون بالفتح ، وفي الوقف أمالة محضة أبو عمرو وحمزة والكسائي ، وورش بين بين ، والباقون بالفتح ، ثم استدل بذلك على القدرة على البعث فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِي أَحْياها) أي : بما أخرج من نباتها بعد أن كانت ميتة (لَمُحْيِ الْمَوْتى) كما فعل بالنبات من غير فرق (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو قادر على إحياء الأرض بعد موتها وعلى إحياء هذه الأجساد بعد موتها لأن الممكنات بالنسبة إلى القدرة متساوية فالقادر قدرة تامة على شيء منها قادر على غيره.

ثم إنه تعالى هدد من يجادل في آياته بإلقاء الشبهات فيها بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) أي : القرآن على ما لها من العظمة بالطعن والتحريف والتأويل الباطل والإلغاز فيها ، وقرأ حمزة بفتح الياء والحاء من لحد ، والباقون بضم الياء وكسر الحاء من ألحد يقال : لحد الحافر وألحد إذا مال عن الاستقامة بحفره في شق ، فالملحد هو المنحرف ، ثم اختص في العرف بالمنحرف عن الحق إلى الباطل ، قال مجاهد : يلحدون في آياتنا بالمكاء والتصدية واللغو واللغط ، وقال السدي : يعاندون ويشاقون (لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) أي : في وقت من الأوقات ونحن قادرون على أخذهم متى شئنا أخذنا ولا يعجل إلا من يخشى الفوات ، قال مقاتل : نزلت في أبي جهل وقوله تعالى (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ) أي : على وجهه بأيسر أمر (خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ)

٦١٩

استفهام بمعنى التقرير والغرض منه التنبيه على أن الملحدين في الآيات يلقون في النار وأن المؤمنين بالآيات يأتون آمنين يوم القيامة حين يجمع الله تعالى عباده للعرض عليه للحكم بينهم بالعدل ، قال البغوي قيل : هو حمزة وقيل : هو عثمان وقيل : عمار بن ياسر.

فائدة : أم في الرسم مقطوعة وقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) أي : فقد علمتم مصير المسيء والمحسن تهديد فمن أراد شيئا من الجزاءين فليعمل أعماله فإنه ملاقيه ، وقوله تعالى (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ) أي : في كل وقت (بَصِيرٌ) أي : عالم بأعمالكم فيه ، وعيد بالمجازاة.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) أي : القرآن (لَمَّا جاءَهُمْ) بدل من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ) أو مستأنف وخبر إن محذوف مثل معاندون أو هالكون أو أولئك ينادون ، ولما بالغ تعالى في تهديد الملحدين في آيات القرآن أتبعه ببيان تعظيم القرآن فقال تعالى : (وَإِنَّهُ) أي : والحال إنه (لَكِتابٌ) أي : جامع لكل خير (عَزِيزٌ) أي : فهو كثير النفع عديم النظير يغلب كل ذكر ولا يغلبه ذكر ولا يقرب منه ذلك ويعجز كل معارض ولا يعجز عن إقعاد مناهض ، وقال الكلبي : عن ابن عباس رضي الله عنهما كريم على الله تعالى ، وقال قتادة : أعزه الله تعالى.

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) لأنه يمتنع منه بمتانة وصفه وجزالة نظمه وحلاوة معانيه فلا يلحقه تغيير (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي : لا يتطرق إليه الباطل من جهة من الجهات لأن قدام أوضح ما يكون وخلف أخفى ما يكون فما بين ذلك من باب أولى ، والعبارة كناية عن ذلك لأن صفة الله تعالى لا وراء لها ولا أمام لها على الحقيقة ، ومثل ذلك ليس وراء الله تعالى مرمى ولا دونه منتهى ، وقال قتادة والسدي : الباطل هو الشيطان لا يستطيع أن يغيره أو يزيد فيه أو ينقص منه ، وقال الزجاج : معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه ، وعلى هذا فمعنى الباطل الزيادة أو النقصان ، وقال مقاتل : لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ولا يأتي بعده كتاب فيبطله ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : (تَنْزِيلٌ) أي : بحسب التدريج لأجل المصالح (مِنْ حَكِيمٍ) أي : بالغ الحكمة فهو يضع كل شيء منه في أتم محله من وقت النزول وسياق النظم (حَمِيدٍ) أي : بالغ الإحاطة بأوصاف الكمال من الحكمة وغيرها والتطهر والتقديس عن كل شائبة نقص يحمده كل خلقه بلسان حاله إن لم يحمده بلسان قاله ، فإن قيل : أما طعن فيه الطاعنون وتأوله المبطلون؟ أجيب : بأن الله تعالى حماه عن تعلق الباطل به بأن قيض قوما عارضوهم بإبطال تأويلهم وإفساد أقاويلهم ، فلم يخلوا طعن طاعن إلا ممحوقا ولا قول مبطل إلا مضمحلا ونحو هذا قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩].

ثم سلّى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (ما يُقالُ) أي : من الكفار أو من غيرهم (لَكَ) يا أكرم الخلق مما يحصل به ضيق صدر وتشويش فكر (إِلَّا ما) أي : شيء (قَدْ قِيلَ) أي : حصل قوله على ذلك الوجه (لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) فصبروا على ما أوذوا فاصبر كما صبروا (إِنَّ رَبَّكَ) أي : المحسن إليك بإرسالك وإنزال كتابه إليك ومن يكرم بمثل هذا لا ينبغي له أن يحزن لشيء يعرض له (لَذُو مَغْفِرَةٍ) أي : لمن تاب وآمن بك (وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) أي : مؤلم لمن أصر على التكذيب وعلى هذا فقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ) الآية مستأنف ، وقيل : مفسر للمقول كأنه قيل للرسل : إن ربك لذو مغفرة وجرى على ذلك الزمخشري ونزل جوابا لقولهم هلا نزل القرآن بلغة العجم.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي : هذا الذكر بما لنا من العظمة (قُرْآناً) أي : على ما هو عليه من الجمع

٦٢٠