تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٣٦

لا يليق بجنابنا ؛ لأنه لا يفرح به إلا من يريد ترويج كلامه وتحليته بصوغه على وزن معروف مقصود وقافية ملتزمة على أن فيه نقيصة أخرى وهي أعظم ما يوجب النفرة عنه وهي أنه لا بد أن يوهي التزامه بعض المعاني ، ولما لم نعلمه هذه الدناءة طبعناه على جميع فنون البلاغة ومكناه من سائر وجوه الفصاحة ، ثم أسكنا فيه ينابيع الحكمة ودربناه على إلقاء المعاني الجليلة بما ألهمنا إياه ، ثم ألقاه إليه جبريل عليه‌السلام مما أمرناه به من جوامع الكلم والحكم فلا تكلف عنده أصلا : «ما خير صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما أو قطيعة رحم» (١).

ولما كان الشعر مع ما يبنى عليه من التكلف الذي هو بعيد جدا عن سجايا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكيف شرفهم بما يكسب مدحا وهجوا فيكون أكثره كذبا إلى غير ذلك.

قال تعالى (وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي : وما يصح له الشعر ولا يسهل له على ما اختبرتم من طبعه نحوا من أربعين سنة ؛ لأن منصبه أجل وهمته أعلى من أن يكون مداحا أو عيابا أو أن يتقيد بما قد يجر نقيصة في المعنى وجبلته منافية لذلك غاية المنافاة بحيث لو أراد نظم شعر لم يتأت له ، كما جعلناه أميا لا يكتب ولا يحسب لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض ، وما كان يتزن له بيت شعر حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسرا روى الحسن : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتمثل بهذا البيت (٢) :

كفى بالشيب والإسلام للمرء ناهيا

فقال أبو بكر رضي الله عنه : إنما قال الشاعر :

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

فقال عمر رضي الله عنه : أشهد أنك رسول الله يقول الله عزوجل (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ)(٣) وعن ابن شريح قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : أكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتمثل بشيء من الشعر قالت : «كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة قالت : وربما قال :

ويأتيك بالأخبار من لم تزود (٤)

وفي رواية قالت : كان الشعر أبغض الحديث إليه قالت : ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بني قيس طرفة العبدي (٥) :

__________________

(١) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٥٦٠ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٣٢٧ ، وأبو داود في الأدب حديث ٤٧٨٥.

(٢) البيت بتمامه :

عميرة ودّع إن تجهّزت غاديا

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

والبيت من الطويل ، وهو لسحيم عبد بني الحسحاس في الإنصاف ١ / ١٦٨ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٦٧ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ١٤١ ، وشرح التصريح ٢ / ٨٨ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٢٥ ، والكتاب ٢ / ٢٦ ، ولسان العرب (كفى).

(٣) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٤) أخرجه الترمذي في الأدب حديث ٢٨٤٨.

(٥) البيت من الطويل ، وهو لطرفة بن العبد في ديوانه ص ٤١ ، ولسان العرب (تبت) ، (ريث) ، وتاج العروس (رجز) ، وبلا نسبة في شرح قطر الندى ص ١٠٨.

٤٤١

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

فجعل يقول : ويأتيك من لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر : ليس هكذا يا رسول الله فقال : «إني لست بشاعر ولا ينبغي لي» (١) وقيل : معناه ما كان متأتيا له ، وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما رواه مسلم والبخاري :

«أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب» (٢)

وقوله كما رواه الشيخان أيضا (٣) :

«هل أنت إلا إصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت» (٤)

فاتفاقي من غير تكلف وقصد منه إلى ذلك وقد يقع مثله كثيرا في تضاعيف المنثورات على أن الخليل ما عد المشطور من الرجز شعرا ، هذا وقد روى أنه حرك الباءين في قوله : أنا النبي لا كذب وكسر التاء الأولى بلا إشباع وسكن الثانية من قوله هل أنت إلا إصبع إلخ.

وقيل : الضمير للقرآن أي : وما يصح أن يكون القرآن شعرا ، فإن قيل : لم خص الشعر بنفي التعليم مع أن الكفار كانوا ينسبون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشياء من جملتها السحر والكهانة ولم يقل : وما علمناه السحر وما علمناه الكهانة؟ أجيب : بأن الكهانة إنما كانوا ينسبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها عندما كان يخبر عن الغيوب وتكون كما يقول وأما السحر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يفعل ما لا يقدر عليه الغير كشق القمر وتكليم الجذع والحجر وغير ذلك ، وأما الشعر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يتلو القرآن عليهم لكنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان يتحدى إلا بالقرآن كما قال تعالى (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] إلى غير ذلك ولم يقل : إن كنتم في شك من رسالتي فأخبروا بالغيوب أو أشبعوا الخلق الكثير بالشيء اليسير. فلما كان تحديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكلام وكانوا ينسبونه إلى الشعر عند الكلام خص الشعر بنفي التعليم.

ولما نفى أن يكون ما أتى به من جنس الشعر قال تعالى : (إِنْ) أي : ما (هُوَ) أي : هذا الذي آتاكم به (إِلَّا ذِكْرٌ) أي : شرف وموعظة (وَقُرْآنٌ) أي : جامع للحكم كلها دنيا وأخرى يتلى في المحاريب ويكرر في المتعبدات وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين والنظر إلى وجه الله العظيم (مُبِينٌ) أي : ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) [ص : ٨٦] كلهم ذكيهم وغبيهم بخلاف الشعر فإنه مع نزوله عن بلاغته جدا.

إنما ذكر للأذكياء جدا وقوله تعالى : (لِيُنْذِرَ) ضميره للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويدل له قراءة نافع وابن عامر بالتاء الفوقية على الخطاب وقيل : للقرآن ويدل له قراءة الباقين بالياء التحتية على الغيبة ، واختلف

__________________

(١) أخرجه ابن كثير في تفسيره ٦ / ٥٧٦ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٥٤٣.

(٢) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٢٨٦٤ ، ومسلم في الجهاد حديث ١٨٨٦ ، والترمذي في الجهاد حديث ١٦٨٨ ، والرجز في كتاب العين ٦ / ٦٥ ، وتهذيب اللغة ١٠ / ٦١١.

(٣) الرجز لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتاب العين ٦ / ٦٥ ، وتهذيب اللغة ٢ / ٥١.

(٤) الحديث أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٢٨٠٢ ، ومسلم في الجهاد حديث ١٧٩٦ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٤٥.

٤٤٢

في قوله تعالى (مَنْ كانَ حَيًّا) على قولين : أحدهما : أن المراد به المؤمن ؛ لأنه حي القلب والكافر كالميت في أنه لا يتدبر ولا يتفكر قال تعالى (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) [الأنعام : ١٢٢].

والثاني : المراد به العاقل فهما فيعقل ما يخاطب به فإن الغافل كالميت (وَيَحِقَ) أي : يجب ويثبت (الْقَوْلُ) أي : العذاب (عَلَى الْكافِرِينَ) أي : العريقين في الكفر فإنهم أموات في الحقيقة وإن رأيتهم أحياء ، ويمكن أن تكون هذه الآية من الاحتباك حذف الإيمان أولا لما دل عليه من ضده ثانيا ، وحذف الموت ثانيا لما دل عليه من ضده أولا ، وأفرد الضمير في الأول على اللفظ إشارة إلى قلة السعداء ، وجمع في الثاني على المعنى إعلاما بكثرة الأشقياء.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣))

(أَوَلَمْ يَرَوْا) أي : يعلموا علما هو كالرؤية ، والاستفهام للتقرير والواو الداخلة عليها للعطف (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ) أي : في جملة الناس (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) أي : مما تولينا إحداثه ولم يقدر على إحداثه غيرنا ، وذكر الأيدي وإسناد العمل إليها استعارة تفيد المبالغة في الاختصاص والتفرد في الإحداث ، كما يقول القائل : عملت هذا بيدي إذا تفرد به ولم يشاركه فيه أحد (أَنْعاماً) على علم منا بقواها ومقاديرها ومنافعها وطبائعها وغير ذلك من أمورها ، وإنما خص الأنعام بالذكر وإن كانت الأشياء كلها من خلقه وإيجاده ، لأن الأنعام أكثر أموال العرب والنفع بها أعم (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) أي : خلقناها لأجلهم فملكناهم إياها يتصرفون فيها تصرف الملاك أو فهم لها ضابطون قاهرون ومنه قول بعضهم (١) :

أصبحت لا أملك السلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

والذئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرياح والمطرا

والشاهد في قوله : ولا أملك رأس البعير أي : لا أضبطه والمعنى : لم نخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها بل خلقناها مذللة كما قال تعالى : (وَذَلَّلْناها لَهُمْ) أي : يسرنا قيادها ولو شئنا جعلناها وحشية كما جعلنا أصغر منها وأضعف ، فمن قدر على تذليل الأشياء

__________________

(١) البيتان من المنسرح ، وهما للربيع بن ضبع الفزاري في أمالي المرتضى ١ / ٢٥٦ ، وحماسة البحتري ص ٢٠١ ، وخزانة الأدب ٧ / ٣٨٤ ، والدرر ٥ / ٢٢ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٦ ، والكتاب ١ / ٩٠ ، ولسان العرب (ضمن) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٣٩٧ ، ونوادر أبي زيد ص ١٥٩ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ١٧٣ ، وأوضح المسالك ٣ / ١١٤ ، والرد على النحاة ص ١١٥ ، والمحتسب ٢ / ٩٩.

٤٤٣

الصعبة جدا لغيره قادر على تطويع الأشياء لنفسه ثم سبب عن ذلك قوله تعالى (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) أي : ما يركبون وهي الإبل ؛ لأنها أعظم مركوباتهم لعموم منافعها في ذلك وكثرتها (وَمِنْها يَأْكُلُونَ) أي : ما يأكلون لحمه.

ولما أشار إلى عظمة نفع الركوب والأكل بتقديم الجار وكانت منافعها لغير ذلك كثيرة قال تعالى : (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ) أي : من أصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها ونسلها وغير ذلك (وَمَشارِبُ) أي : من ألبانها جمع مشرب بالفتح ، وخص الشرب من عموم المنافع بعموم نفعه وجمعه لاختلاف طعوم ألبان الأنواع الثلاثة ، ولما كانت هذه الأشياء من العظمة بمكان لو فقدها الإنسان لتكدرت معيشته تسبب عنها استئناف الإنكار عليهم في تخلفهم عن طاعته بقوله تعالى : (أَفَلا يَشْكُرُونَ) أي : المنعم عليهم بها فيؤمنون.

ولما ذكرهم تعالى نعمه وحذرهم نقمه عجب منهم في سفول نظرهم وقبح أثرهم بقوله تعالى موبخا لهم : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ) أي : غير (اللهِ) الذي له جميع صفات الكمال والعظمة (آلِهَةً) أي : أصناما يعبدونها بعدما رأوا منه تعالى تلك القدرة الباهرة والنعم المتظاهرة وعلموا أنه المنفرد بها (لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي : رجاء أن ينصروهم فيما أحزنهم من الأمور والأمر بالعكس كما قال تعالى : (لا يَسْتَطِيعُونَ) أي : الآلهة المتخذة (نَصْرَهُمْ) أي : العابدين (وَهُمْ) أي : العابدون (لَهُمْ) أي : للآلهة (جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي : الكفار جند الأصنام فيغضبون لها ويحضرونها في الدنيا وهي لا تسوق لهم خيرا ولا تستطيع لهم نصرا ، وقيل : هذا في الآخرة يؤتى بكل معبود من دون الله تعالى ومعه أتباعه الذين عبدوه كأنهم جنده يحضرون في النار وهذا كقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] وقوله تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٢٢ ـ ٢٣].

ولما بين تعالى ما تبين من قدرته الظاهرة الباهرة ووهن أمرهم في الدنيا والآخرة ذكر ما يسلي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) أي : في تكذيبك كقولهم : (لَسْتَ مُرْسَلاً) [الرعد : ٤٣] (إِنَّا نَعْلَمُ ما) أي كل ما (يُسِرُّونَ) أي : في ضمائرهم من التكذيب وغيره (وَما يُعْلِنُونَ) أي : يظهرونه بألسنتهم من الأذى وغيره من عبادة الأصنام فنجازيهم عليه.

ولما ذكر تعالى دليلا على عظم قدرته ووجوب عبادته بقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) ذكر دليلا من الأنفس أبين من الأول بقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ) أي : يعلم (الْإِنْسانُ) علما هو في ظهوره كالمحسوس بالبصر (أَنَّا خَلَقْناهُ) أي : بما لنا من العظمة (مِنْ نُطْفَةٍ) أي : شيء حقير يسير من ماء لا انتفاع به بعد إبداعنا إياه من تراب وأنه من لحم وعظام (فَإِذا هُوَ) أي : فتسبب عن خلقنا له من ذلك المفاجأة لحالة هي أبعد شيء من حالة النطفة وهي أنه (خَصِيمٌ) أي : بليغ الخصومة (مُبِينٌ) أي : في غاية البيان عما يريده حتى إنه ليجادل من أعطاه العقل والقدرة في قدرته وأنشد الأستاذ القشيري في ذلك (١) :

__________________

(١) البيتان من الوافر ، وهما لمعن بن أوس في ديوانه ص ٣٤ ، وله أو لمالك بن فهم أو لعقيل بن علفة في لسان العرب (سدد) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ٢٧ ، وتاج العروس (سدد) ، وبلا نسبة في لسان العرب (خفق) ، وأساس البلاغة (سدد) ، وكتاب العين ٧ / ١٨٣.

٤٤٤

أعلمه الرماية كل يوم

فلما اشتد ساعده رماني

وكم علمته علم القوافي

فلما قال قافية هجاني

وفي هذا تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر وفيه تقبيح بليغ لإنكاره ، حيث تعجب منه وجعله إفراطا في الخصومة بينا ومنافاته لجحود القدرة على ما هو أهون مما علمه في بدء خلقه ومقابلة النعمة التي لا مزيد عليها وهي خلقه من أخس شيء وأمهنه شريفا مكرما بالعقوق والتكذيب.

(وَضَرَبَ) أي : هذا الإنسان (لَنا) أي : على ما يعلم من عظمتنا (مَثَلاً) أي : أمرا عجيبا وهو نفي القدرة على إحياء الموتى ، روي : «أن أبي بن خلف الجمحي وهو الذي قتله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأحد مبارزة ، أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم بال يفتته بيده فقال : أترى الله يحيي هذا بعدما رم؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم ويبعثك ويدخلك النار» (١) فنزلت. وقيل : هو العاصي بن وائل قاله الجلال المحلي وأكثر المفسرين على الأول (وَنَسِيَ) أي : هذا الذي تصدى على مهانة أصله لمخاصمة الجبار (خَلْقَهُ) أي : بدء أمره من المني وهو أغرب من مثله ، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الذهول وأن يكون بمعنى الترك ، ثم استأنف الإخبار عن هذا المثل بأن (قالَ) أي : على طريق الإنكار (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) أي : صارت ترابا تمرّ مع الرياح ورميم قال البيضاوي : بمعنى فاعل من رم الشيء صار اسما بالغلبة ولذلك لم يؤنث ، أو اسم مفعول من رممته ، وفيه دليل على أن العظم ذو حياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء ا ه. قال البغوي : ولم يقل : رميمة ؛ لأنه معدول عن فاعله فكل ما كان معدولا عن وجهه ووزنه كان مصروفا عن إعرابه كقوله تعالى (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم : ٢٨] أسقط الهاء ؛ لأنها مصروفة عن باغية.

تنبيه : هذه الآية وما بعدها إشارة إلى بيان الحشر ؛ لأن المنكرين للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلا ولا شبهة بل اكتفى بمجرد الاستبعاد وهم الأكثرون (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [السجدة : ١٠] (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [المؤمنون : ٨٢] (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) قالوا : ذلك على طريق الاستبعاد فأبطل الله تعالى استبعادهم بقوله تعالى : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي : نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة الأجزاء ثم جعلنا لهم من النواصي إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصورة ، وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل اللذان بهما استحقوا الإكرام ، فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة مذرة لم تكن محلا للحياة أصلا ، ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه واختاروا العظم بالذكر ؛ لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوى جانب الاستبعاد من البلاء والتفتت.

والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في العبد من القدرة والعلم فقال : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) أي : جعل قدرتنا كقدرتهم ونسي خلقه العجيب وبدأه الغريب ، ومنهم من ذكر شبهة وإن كان في آخرها يعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين :

الأول : أنه بعد العدم لم يبق شيئا فكيف الحكم على العدم بالوجود؟ فأجاب تعالى عن هذه

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٤٤٥

الشبهة بأن قال تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ) أي : لهؤلاء البعداء البغضاء (يُحْيِيهَا) أي : بعد أن أنشأها أول مرة (الَّذِي أَنْشَأَها) أي : من العدم ثم أحياها (أَوَّلَ مَرَّةٍ) فكما خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا كذلك يعيده إن لم يبق شيئا مذكورا.

الوجه الثاني : أن من تفرقت أجزاؤه في مشارق العالم ومغاربه وصار بعضها في أبدان السباع وبعضها في حواصل الطيور وبعضها في جدران الربوع كيف تجتمع.

وأبعد من هذا لو أكل إنسان إنسانا وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل فإن أعيدت أجزاء الآكل فلا يبقى للمأكول أجزاء تنخلق منها أعضاؤه وإما أن تعاد إلى بدن المأكول فلا يبقى للآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول كذلك ، فإذا أكل إنسان إنسانا صار الأصلي من أجزاء المأكول فضليا من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان قبل الأكل فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ) أي : مخلوق (عَلِيمٌ) أي : يجمع الأصل من الفضل فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيه روحه وكذلك يجمع أجزاءه المتفرقة في البقاع المتبددة بحكمته وقدرته.

ثم إنه تعالى عاد إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال إنكارهم بقوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ) أي : في جملة الناس (مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ) أي : الذي تشاهدون فيه الماء (ناراً) قال ابن عباس : هما شجرتان يقال لإحداهما : المرخ والأخرى : العفار ، الأول : بفتح الميم والخاء المعجمة شجر سريع الوري أي : القدح ، والثاني : بفتح المهملة وفاء وراء بعد ألف الزند فمن أراد منهما النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما أخضران يقطران الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أنثى فيخرج منهما النار بإذن الله تعالى وتقول العرب : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار ، وقال الحكماء : في كل شجر نار إلا العناب (فَإِذا أَنْتُمْ) أي : فتسبب عن ذلك مفاجأتكم لأنه (مِنْهُ) أي : من الشجر الموصوف بالخضرة (تُوقِدُونَ) أي : توجدون الإيقاد ويتجدد لكم ذلك مرة بعد أخرى وهذا أدل على القدرة على البعث فإنه جمع فيه بين الماء والنار والخشب فلا الماء يطفئ النار ولا النار تحرق الخشب.

ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ) أي : أوجد من العدم (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : على كبرهما وعظم ما فيهما من المنافع والمصانع والعجائب والبدائع ، وأثبت الجار تحقيقا للأمر وتأكيدا للتقرير فقال تعالى (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أي : مثل هؤلاء الأناسي في الصغر أي : يعيدهم بأعيانهم ، وقيل : الضمير يعود على السموات والأرض لتضمنهم من يعقل والأول أظهر ؛ لأنهم المخاطبون وقوله تعالى (بَلى) جواب ليس وإن دخل عليها الاستفهام المصير لها إيجابا أي : هو قادر على ذلك أجاب نفسه تعالى (وَهُوَ) مع ذلك أي : مع كونه عالما بالخلق (الْخَلَّاقُ) أي : الكثير الخلق (الْعَلِيمُ) أي : البالغ في العلم الذي هو منشأ القدرة فلا يخفى عليه كلي ولا جزئي في ماض ولا حال ولا مستقبل شاهد أو غائب.

ولما تقرر ذلك أنتج قوله تعالى مؤكدا لأجل إنكارهم القدرة على البعث : (إِنَّما أَمْرُهُ) أي : شأنه ووصفه (إِذا أَرادَ شَيْئاً) أي : خلق شيء من جوهر أو عرض أي شيء كان (أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ) أي : أن يريده (فَيَكُونُ) أي : يحدث وهو تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة قطعا لمادة الشبهة وهو

٤٤٦

قياس قدرة الله تعالى على قدرة الخلق ، وقرأ ابن عامر والكسائي بنصب النون عطفا على يقول ، والباقون بالرفع أي : فهو يكون.

ولما كان ذلك تسبب عنه المبادرة إلى تنزيهه تعالى عما ضربوه له من الأمثال فلذلك قال : (فَسُبْحانَ) أي : تنزه عن كل شائبة نقص تنزها لا يبلغ أفهامكم كنهه وعدل عن الضمير إلى وصف يدل على غاية العظمة فقال (الَّذِي بِيَدِهِ) أي : قدرته وتصرفه خاصة لا بيد غيره (مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي : ملكه التام وملكه ظاهرا وباطنا.

ولما كان التقدير فمنه تبدؤون عطف عليه قوله تعالى (وَإِلَيْهِ) أي : لا إلى غيره (تُرْجَعُونَ) أي : معنى في جميع أموركم وحسّا بالبعث لينصف بينكم فيدخل بعضا النار وبعضا الجنة ، وعن ابن عباس : كنت لا أعلم ما روي في فضل يس كيف خصت به فإذا به لهذه الآية.

وما رواه البيضاوي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس» (١) ، و«أيما مسلم قرئ عنده إذا نزل به ملك الموت سورة يس نزل بكل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفا يصلون عليه ويستغفرون له ويشهدون قبض روحه وغسله ويتبعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه» (٢) ، و«أيما مسلم قرأ يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان بشربة من الجنة فيشربها وهو على فراشه فيقبض روحه وهو ريان ويمكث في قبره وهو ريان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان» (٣) حديث موضوع.

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة يس في ليلة أصبح مغفورا له» (٤) وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف عنهم يومئذ وكان له بعدد من فيها حسنات» (٥). وعن يحيى بن أبي كثير قال : بلغنا أن من قرأ يس حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي ومن قرأها حين يمسي لم يزل في فرح حتى يصبح.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن حديث ٢٨٢٧.

(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٣) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء ٣٢١٣.

(٤) أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب ٢ / ٤٤٨.

(٥) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١٠ / ٣٧٣ ، بلفظ : «حق دخل المقابر ثم قرأ بفاتحة الكتاب ..».

٤٤٧

سورة الصافات

مكية وهي مائة واثنان وثمانون آية ، وثمانمائة وستون كلمة ، وثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي له الكمال المطلق (الرَّحْمنِ) الذي من رحمته العدل في الدارين (الرَّحِيمِ) الذي لا يدنو من جنابه نقص واختلف في تفسير قوله تعالى :

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١))

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) أي : وهو ترتيب الجمع على خط ، فقال ابن عباس والحسن وقتادة : هم الملائكة في السماء يصفون كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة ، وعن جابر بن سمرة قال : قال

٤٤٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا تصفون كصفوف الملائكة عند ربهم» قلنا : وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال : «يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف» (١). وقيل : هي الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريد ، وقيل : هي الطير تصف أجنحتها في الهواء لقوله تعالى : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) [النور : ٤١]. واختلف أيضا في قوله تعالى : (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) فأكثر المفسرين على أنها الملائكة تزجر السحاب وتسوقه ، وقال قتادة : هي زواجر القرآن تنهي وتزجر عن القبيح ، واختلف أيضا في قوله تعالى : (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) فالأكثر أيضا ، أنهم الملائكة عليهم‌السلام يتلون ذكر الله تعالى ، وقيل : هم جماعة قراء القرآن.

فإن قيل : قال أبو مسلم الأصفهاني : لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة ؛ لأنها مشعرة بالتأنيث والملائكة عليهم‌السلام مبرؤون من هذه الصفة. أجيب بوجهين :

الأول : أن الصافات جمع الجمع فإنه يقال : جماعة صافة ثم تجمع على صافات.

والثاني : أنهم مبرؤون من التأنيث المعنوي وأما التأنيث اللفظي فلا ، وكيف وهم يسمون بالملائكة مع أن علامة التأنيث حاصلة.

تنبيه : اختلف الناس ههنا في المقسم به على قولين :

أحدهما : أن المقسم به خالق هذه الأشياء لنهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحلف بغير الله تعالى ، ولأن الحلف في مثل هذا الموضع تعظيم للمحلوف به ، ومثل هذا التعظيم لا يليق إلا بالله تعالى ، ففي ذلك إضمار تقديره ورب الصافات ورب الزاجرات ورب التاليات ، ومما يؤيد هذا أنه تعالى صرح به في قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) [الشمس : ٥ ـ ٧].

والثاني : وعليه الأكثر أن المقسم به هذه الأشياء لظاهر اللفظ فالعدول عنه خلاف الدليل ، وأما النهي عن الحلف بغير الله تعالى فهو نهي للمخلوق عن ذلك ، وأما قوله تعالى : (وَما بَناها) فإنه علق لفظ القسم بالسماء ثم عطف عليه القسم بالباني للسماء ولو كان المراد بالقسم بالسماء القسم بمن بنى السماء لزم التكرار في موضع واحد ، وهو لا يجوز ، وأيضا لا يبعد أن تكون الحكمة في قسم الله تعالى بهذه الأشياء ، التنبيه على شرف ذواتها.

وقال البيضاوي : أقسم بالملائكة الصافين في مقام العبودية على مراتب باعتبارها تفيض عليهم أنوار الهيبة منتظرين لأمر الله ، الزاجرين للأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور فيها ، أو الناس عن المعاصي بإلهام الخير ، أو الشياطين عن التعرض لهم التالين لآيات الله وجلايا قدسه على أنبيائه وأوليائه أو بطواف الأجرام المترتبة كالصفوف المرصوصة والأرواح المدبرة لها والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، أو بنفوس العلماء الصادقين في العبارات الزاجرين عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح التالين آيات الله وشرائعه ، أو بنفوس الغزاة الصادقين في الجهاد الزاجرين للخيل والعدو التالين ذكر الله لا يشغلهم عنه مباراة العدو ، وقال الزمخشري : الفاء في ، فالزاجرات والتاليات إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله (٢) :

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ٤٣٠.

(٢) البيت من السريع ، وهو لابن زيابة في خزانة الأدب ٥ / ١٠٧ ، والدرر ٦ / ١٦ ، وسمط اللآلي

٤٤٩

يا لهف زيابة للحارث

الصابح فالغانم فالآيب

أي : الذي صبح فغنم فآب ، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك : خذ الأفضل فالأكمل واعمل الأحسن فالأجمل ، وإما على ترتب موصوفاتها كقوله : «رحم الله المحلقين فالمقصرين» (١) ، والبيضاوي ذكر هذا حديثا قال شيخنا القاضي زكريا : لم أره بهذا اللفظ ا. ه ، لكنه لفضل المتقدم على المتأخر وهذا للعكس ، وقرأ أبو عمرو وحمزة بالإدغام فيما ذكر ، والباقون بالإظهار ؛ وجواب القسم.

(إِنَّ إِلهَكُمْ) أي : الذي اتخذتم من دونه آلهة (لَواحِدٌ) إذ لو لم يكن واحدا لاختل هذا الاصطفاف والزجر والتلاوة وما يترتب عليها فكان غير حكيم ، فإن قيل : ذكر الحلف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجهين :

الأول : أن المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أو الكافر ، فالأول باطل ؛ لأن المؤمن مقرّ به من غير حلف.

والثاني : باطل أيضا ؛ لأن الكافر لا يقرّ به سواء حصل الحلف أو لم يحصل فهذا الحلف عديم الفائدة على كل تقدير ، الثاني : أنه يقال أقسم في أول هذه السورة على أن الإله واحد وأقسم في أول سورة الذاريات على أن القيامة حق ، فقال : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) [الذاريات : ١] إلى قوله (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) [الذاريات : ٥ ـ ٦] وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف لا يليق بالعقلاء؟ أجيب : عن ذلك بأوجه :

أولها : أنه تعالى قرر التوحيد وصحة البعث والقيامة في غالب السور بالدلائل اليقينية ، فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها بذكر القسم تأكيدا لما تقدم لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب وإثبات المطالب بالحلف واليمين طريقة مألوفة عند العرب.

ثانيها : أن المقصود من هذا الكلام الرد على عبدة الأصنام في قولهم بأنها آلهة فكأنه قيل : إن هذا المذهب قد بلغ في السقوط والركاكة إلى حيث يكفي في إبطاله مثل هذه الحجة.

ثالثها : أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشياء على صحة قوله تعالى : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) [الصافات : ٤] عقبه بما هو الدليل اليقيني في كون الإله واحد ، وهو قوله تعالى : (رَبُ) أي : موجد ومالك ومدبر (السَّماواتِ) أي : الأجرام العالية (وَالْأَرْضِ) أي : الأجرام السافلة (وَما بَيْنَهُما) أي : من الفضاء المشحون بما يعجز عن عده القوي ، وذلك ؛ لأنه تعالى بين في قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] أن انتظام أحوال السموات والأرض يدل على أن الإله واحد فههنا لما قال (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) أردفه بقوله (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) كأنه قيل : بينا أن النظر في انتظام هذا العالم يدل على أن الإله واحد فتأملوا ليحصل لكم العلم بالتوحيد.

__________________

ص ٥٠٤ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٤٧ ، وشرح شواهد المغني ص ٤٦٥ ، ومعجم الشعراء ص ٢٠٨ ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٦٥ ، وخزانة الأدب ١١ / ٥ ، ومغني اللبيب ص ١٦٣ ، وهمع الهوامع ٢ / ١١٩.

(١) أخرجه بنحوه مسلم في الحج حديث ١٣٠١ ، والترمذي في الحج حديث ٩١٣ ، وابن ماجه في المناسك حديث ٣٠٤٤.

٤٥٠

تنبيه : علم من قوله تعالى (وَما بَيْنَهُما) أنه تعالى خالق لأعمال العباد ؛ لأن أعمالهم موجودة فيما بين السماء والأرض وهذه الآية دلت على أن كل ما حصل بين السماء والأرض ، فالله ربه ومالكه وهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله تعالى ، فإن قيل : الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السماء والأرض ؛ لأن هذا الوصف إنما يكون حاصلا في حيز وجهة والأعراض ليست كذلك؟ أجيب : بأنها لما كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماء والأرض فهي أيضا حاصلة بين السموات والأرض (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) أي : والمغارب وجمعها باعتبار جميع السنة فإن الله تعالى خلق للشمس ثلاث مئة وستين كوة في المشرق وثلاثمائة وستين كوة في المغرب على عدد أيام السنة ، تطلع الشمس كل يوم من كوة منها وتغرب في كوة منها لا ترجع إلى الكوة التي تطلع منها إلى ذلك اليوم من العام المقبل.

وقيل : كل موضع أشرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه فهو مغرب كأنه أراد جميع ما أشرقت عليه الشمس.

وقيل : المراد بالمشارق مشارق الكواكب ومغاربها ؛ لأن لكل كوكب مشرقا ومغربا ، فإن قيل : إن الله تعالى قال في موضع (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [الشعراء : ٢٨] وقال في موضع آخر (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [الرحمن : ١٧] فما الجمع بين هذه المواضع؟ أجيب : بأن المراد بقوله (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) الجهة فالمشرق جهة والمغرب جهة وبقوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) مشرقا الشتاء والصيف ومغربا الشتاء والصيف وأما موضع الجمع فقد مر. فإن قيل : لم اكتفى بذكر المشارق؟ أجيب : بوجهين.

الأول : أنه اكتفى به كقوله تعالى (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١].

والثاني : أن الشروق أقوى حالا من الغروب وأكثر نفعا منه فذكر المشرق تنبيها على كثرة إحسان الله تعالى على عباده ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم خليل الرحمن عليه‌السلام بقوله (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) [البقرة : ٢٥٨] :

(إِنَّا زَيَّنَّا) أي : بعظمتنا التي لا تدانى (السَّماءَ) ولما كانوا لا يرون إلا ما يليهم من السموات وكانت زينة النجوم ظاهرة فيها قال تعالى (الدُّنْيا) أي : التي هي أدنى السموات إليكم (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) أي : بضوئها كما قاله ابن عباس أو بها ، وقرأ عاصم وحمزة بزينة بالتنوين ، والباقون بغير تنوين والإضافة للبيان كقراءة تنوين بزينة المبينة بالكواكب ونصب الياء الموحدة من الكواكب شعبة ، وكسرها الباقون.

فإن قيل : قد ثبت في علم الهيئة أن هذه الكواكب الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة وأن السيارات مركوزة في الكرات الستة المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله تعالى (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ)؟ أجيب : بأن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إن نظروا إلى السماء الدنيا فإنهم يشاهدونها مزينة بهذه الكواكب فصح قوله تعالى (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ).

وقوله تعالى : (وَحِفْظاً) منصوب بفعل مقدر أي : حفظناها بالشهب أو معطوف على زينة باعتبار المعنى ، كأنه قال : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء الدنيا وحفظا (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ) أي : بعيد عن الخير محترق (مارِدٍ) أي : عات خارج عن الطاعة.

ولما تشوف السامع إلى معرفة هذا الحفظ وثمرته وبيان كيفيته استأنف قوله تعالى : (لا

٤٥١

يَسَّمَّعُونَ) أي : الشياطين المفهومون من كل شيطان (إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) أي : الملائكة أو أشرافهم في السماء ، وعدى السماع بإلى لتضمنه معنى الإصغاء مبالغة لنفيه وتهويلا لما يمنعهم عنه ، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص بفتح السين وتشديدها وتشديد الميم من التسمع وهو طلب السماع ، وقرأ الباقون بسكون السين وتخفيف الميم (وَيُقْذَفُونَ) أي : الشياطين يرمون بالشهب (مِنْ كُلِّ جانِبٍ) أي : من آفاق السماء.

وقوله تعالى : (دُحُوراً) مصدر دحره أي : طرده وأبعده وهو مفعول له ، وقيل : هو جمع داحر نحو قاعد وقعود فيكون حالا بنفسه من غير تأويل ، وقيل : غير ذلك (وَلَهُمْ) أي : في الآخرة (عَذابٌ) غير هذا (واصِبٌ) أي : دائم ، وقال مقاتل : أي : دائم في الدنيا إلى النفخة الأولى.

وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ) فيه وجهان : أحدهما : أنه مرفوع المحل بدلا من ضمير لا يسمعون وهو أحسن ؛ لأنه غير موجب. والثاني : أنه منصوب على أصل الاستثناء ، والمعنى : أن الشياطين لا يسمعون الملائكة إلا من خطف ، وقوله تعالى : (الْخَطْفَةَ) مصدر معرف بأل الجنسية أو المعرفة ومعنى اختطف اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقة (فَأَتْبَعَهُ) أي : لحقه (شِهابٌ) أي : كوكب (ثاقِبٌ) أي : مضيء قوي لا يخطئه يقتله أو يحرقه أو يثقبه أو يخبله.

تنبيه : ههنا سؤالات :

أولها : أن هذه الشهب التي يرمى بها هل هي من الكواكب التي زين الله السماء بها أم لا؟ والأول : باطل ؛ لأنها تبطل وتضمحل فلو كانت تلك الشهب تلك الكواكب الحقيقية لوجب أن يظهر نقصان كثير في أعداد كواكب السماء ولم يوجد ذلك فإن أعداد كواكب السماء باقية لم تتغير البتة ، وأيضا فجعلها رجوما للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء الدنيا فكان الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض ، وإن كانت هذه الشهب جنسا آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهو أيضا مشكل ؛ لأنه تعالى قال في سورة الملك (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك : ٥] فالضمير في قوله (وَجَعَلْناها) عائد على المصابيح فوجب أن تكون تلك المصابيح هي المرجوم بها بأعيانها.

ثانيها : كيف يجوز أن تذهب الشياطين حيث يعلمون أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم البتة؟ وهل يمكن أن يصدر هذا الفعل من عاقل؟ فكيف من الشياطين الذين لهم مزية في معرفة الحيل الدقيقة؟.

ثالثها : دلت التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلا قبل مجيء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذلك ترى الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه ، وإذا ثبت أن ذلك كان موجودا قبل مجيء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم امتنع حمله على مجيء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

رابعها : الشيطان مخلوق من النار كما حكى عن قول إبليس لعنه الله تعالى (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) [الأعراف : ١٢] وقال تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) [الحجر : ٢٧] ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار؟.

أجيب عن الأول : بأن هذه الشهب غير تلك الكواكب الثابتة وأما قوله تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) [الملك : ٥] فنقول : كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الدهر آمنة من التغير والفساد ومنها ما لا

٤٥٢

يكون كذلك وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوما للشياطين إلى حيث يعلمون وبها يزول الإشكال.

وعن الثاني : بأن هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب ندرتها بين الشياطين وأجاب أبو علي الجبائي : بأن حصول هذه الحالة ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى موضع الملائكة ومواضعها مختلفة ، فربما صاروا إلى موضع تصيبهم الشهب ، وربما صاروا إلى غيره ولا صادفوا الملائكة ولا تصيبهم الشهب ، فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعض الأوقات جاز أن يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنها لا تصيبهم الشهب فيها ، كما يجوز فيمن سلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة ، وفي جواب أبي علي نظر : إذ ليس في السماء موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد.

وعن الثالث : بأن الأقرب أن هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكن بقلة ، ولما جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقعت بكثرة فصارت بسبب الكثرة معجزة.

وعن الرابع : بأن الشياطين ليسوا من نار خالصة وعلى التنزل بأنهم من النيران الخالصة إلا أنها نيران ضعيفة ونيران الشهب أقوى حالا منهم فلا جرم صار الأقوى مبطلا للأضعف ، ألا ترى أن السراج الضعيف إذا وضع في النار القوية فإنه ينطفئ؟ فكذلك ههنا.

ولما كان المقصود الأعظم من القرآن إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيات والمعاد والنبوات وإثبات القضاء والقدر افتتح الله سبحانه هذه السورة بإثبات ما يدل على الصانع وعلى علمه وقدرته وحكمته ووحدانيته ، وهو خالق السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق والمغارب ، ثم فرع عليها إثبات الحشر والنشر والقيامة وهو أن من قدر على ما هو أشق وأصعب وجب أن يقدر على ما هو دونه ، وهو قوله تعالى :

(فَاسْتَفْتِهِمْ) أي : سل كفار مكة أن يفتوك بأن يبينوا لك ما تسألهم عنه من إنكارهم البعث وأصله من الفتوة وهي الكرم (أَهُمْ أَشَدُّ) أي : أقوى وأشق وأصعب (خَلْقاً) أي : من جهة إحكام الصنعة وقوتها وعظمها (أَمْ مَنْ خَلَقْنا) أي : من الملائكة والسموات والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب.

تنبيه : في الإتيان بمن تغليب للعقلاء وهو استفهام بمعنى التقرير أي : هذه الأشياء أشد خلقا كقوله تعالى (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧] وقوله تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) [النازعات : ٢٧] وقيل : معنى أم من خلقنا أي : من الأمم الماضية ؛ لأن لفظ من يذكر لمن يعقل ؛ والمعنى : أن هؤلاء الأمم ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم الخالية وقد أهلكناهم بذنوبهم فمن الذي يؤمن هؤلاء من العذاب (إِنَّا خَلَقْناهُمْ) أي : أصلهم آدم بعظمتنا (مِنْ طِينٍ) أي : تراب رخو مهين (لازِبٍ) أي : شديد اختلاط بعضه ببعض فالتصق وخمر بحيث يعلق باليد وقال مجاهد والضحاك : منتن فهو مخلوق من غير أب ولا أم.

وقرأ حمزة والكسائي : (بَلْ عَجِبْتَ) بضم التاء والباقون بفتحها ، أما بالضم فبإسناد التعجب إلى الله تعالى وليس هو كالتعجب من الآدميين كما قال تعالى (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) [التوبة : ٧٩] وقال تعالى (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] فالعجب من الآدميين إنكاره وتعظيمه ، والعجب من الله تعالى قد يكون بمعنى الإنكار والذم وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما في

٤٥٣

الحديث : «عجب ربكم من شاب ليست له صبوة» (١) وفي حديث آخر : «عجب ربكم من إلكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم» (٢) قوله إلكم الإلّ أشد القنوط.

وقيل : هو رفع الصوت بالبكا ، وسئل الجنيد عن هذه الآية فقال : إن الله تعالى لا يعجب من شيء ولكن وافق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما عجب رسوله قال تعالى (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) [الرعد : ٥] أي : هو كما تقوله ، وأما الفتح فعلى أنه خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : عجبت من تكذيبهم إياك.

(وَيَسْخَرُونَ) أي : وهم يسخرون من تعجبك قال قتادة : عجب نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا القرآن حين أنزل ومن ضلال بني آدم ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يظن أن كل من سمع القرآن يؤمن به فلما سمع المشركون القرآن سخروا منه ولم يؤمنوا به عجب من ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تعالى (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ).

(وَإِذا ذُكِّرُوا) أي : وعظوا بالقرآن (لا يَذْكُرُونَ) أي : لا يتعظون.

(وَإِذا رَأَوْا آيَةً) قال ابن عباس وقتادة : يعني انشقاق القمر (يَسْتَسْخِرُونَ) أي : يستهزئون بها وقيل : يستدعي بعضهم من بعض السخرية.

(وَقالُوا إِنْ) أي : ما (هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي : ظاهر في نفسه ومظهر لسخريته ثم خصّوا البعث بالإنكار إعلاما بأنه أعظم مقصود بالنسبة إلى السحر فقالوا مظهرين له في مظهر الإنكار : (أَإِذا مِتْنا) وعطفوا عليه ما هو موجب عندهم لشدة الإنكار فقالوا (وَكُنَّا) أي : كونا في غاية التمكن (تُراباً) وقدموه ؛ لأنه أدل على مرادهم ؛ لأنه أبعد عن الحياة (وَعِظاماً) كأنهم جعلوا كل واحد من الموت أو الكون إلى الترابية المحضة والعظامية المحضة والمختلطة بهما مانعا من البعث ، وهذا بعد اعترافهم بأن ابتداء خلقهم كان من التراب ، ثم كرروا الاستفهام الإنكاري على قراءة من قرأ به كما سيأتي بيانه زيادة في الإنكار فقالوا (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ).

وقولهم (أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) عطف على محل إن واسمها أو على الضمير في مبعوثون فإنه مفصول عنه بهمزة الاستفهام لزيادة الاستبعاد لبعد زمانهم ، وهذا بيان للسبب الذي حملهم على الاستهزاء بجميع المعجزات وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض اختلط بالأرض وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم ، فهذا الإنسان كيف يعقل عوده بعينه حيا؟

ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذه الشبهة قال لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ) أي : لهؤلاء البعداء البغضاء (نَعَمْ) أي : تبعثون على كل تقدير قدرتموه (وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي : مكرهون عليه صاغرون ذليلون وإنما اكتفى تعالى بهذا القدر من الجواب ؛ لأنه ذكر في الآية المتقدمة البرهان القطعي على أنه أمر ممكن وإذا ثبت الجواز القطعي فلا سبيل إلى القطع بالوقوع إلا بإخبار المخبر الصادق ، فلما قامت المعجزة على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان واجب الصدق فكان مجرد قوله (نَعَمْ) دليلا قاطعا على الوقوع ، وقرأ متنا بضم الميم ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة ، وكسرها الباقون.

وأما ا اذا وا انا فقرأ نافع والكسائي بالاستفهام في الأول والخبر في الثاني وابن عامر

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٥١ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٥ ، ٧١.

(٢) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٥ / ٧٠ ، وذكره ابن الأثير الجزري في «النهاية في غريب الحديث» ١ / ٦١.

٤٥٤

بالخبر في الأول والاستفهام في الثاني ، والباقون بالاستفهام فيهما وسهل الهمزة الثانية في الاستفهام نافع وابن كثير وأبو عمرو وحقق الباقون ، وأدخل في الاستفهام الفاء بين الهمزتين قالون وأبو عمرو وهشام ، والباقون بغير إدخال ، وقرأ قالون وابن عامر أو آباؤنا بسكون الواو على أنها أو العاطفة المقتضية للشك ، والباقون بفتحها على أنها همزة الاستفهام دخلت على واو العطف ، وقرأ الكسائي (نَعَمْ) بكسر العين وهو لغة فيه.

وقوله تعالى : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) جواب شرط مقدر أي : إذا كان كذلك فإنما البعثة زجرة أي : صيحة واحدة هي النفخة الثانية من زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها ، وأمرها في الإعادة كأمرها بكن في الابتداء ولذلك رتب عليها (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي : أحياء في الحال من غير مهلة ينظر بعضهم بعضا ، وقيل : ينظرون ما يحدث لهم أو ينظرون إلى البعث الذي كذبوا به ، ولا فرق بين من صار كله ترابا ومن لم يتغير أصلا ومن هو بين ذلك ، قال البقاعي : ولعله خص بالذكر ؛ لأنه لا يكون إلا مع كمال الحياة ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قبض الروح تبعه البصر» (١) وأما السمع فقد يكون لغير الحي ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في الكفار من قتلى بدر : «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» (٢) قال : وشاهدت أنا في بلاد العرب المجاورة لنابلس شجرة لها شوك يقال لها : الغبيرا متى قيل عندها : هات لي المنجل لأقطع هذه الشجرة أخذ ورقها في الحال في الذبول فإنه سبحانه أعلم ما سبب ذلك.

تنبيه : لا أثر للصيحة في الموت ولا في الحياة بل خالق الموت والحياة هو الله تعالى كما قال تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] روي أن الله تعالى يأمر الملك إسرافيل فينادي : أيها العظام النخرة والجلود البالية والأجزاء المتفرقة اجتمعوا بإذن الله تعالى.

(وَقالُوا) أي : كل من جمعه البعث من الكفرة بعد القيام من القبور معلنين بما انكشف لهم من أنه لا ملازم لهم غير الويل (يا وَيْلَنا) أي : هلاكنا وهو مصدر لا فعل له من لفظه وقال الزجّاج : الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة وتقول لهم الملائكة : (هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي : الحساب والجزاء. (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي : بين الخلائق (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) وقيل : هو أيضا من كلام بعضهم لبعض.

وقوله تعالى : (احْشُرُوا) أي : اجمعوا بكره وصغار (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : ظلموا أنفسهم بالشرك أمر من الله تعالى للملائكة عليهم‌السلام ، وقيل : أمر من بعضهم لبعض أي : احشروا الظلمة من مقامهم إلى الموقف ، وقيل : منه إلى جهنم (وَأَزْواجَهُمْ) أي : وأشباههم عابدوا الصنم مع عبدة الصنم وعابدو الكواكب مع عبدتها كقوله تعالى (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) [الواقعة : ٧] أي : أشكالا وأشباها ، وقال الحسن : وأزواجهم المشركات ، وقال الضحاك ومقاتل : قرناؤهم من الشياطين وعلى هذا اقتصر الجلال المحلي أي : يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : غيره في الدنيا من الأوثان والطواغيت زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم ،

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجنائز حديث ٩٢٠ ، وابن ماجه في الجنائز حديث ١٤٥٤.

(٢) أخرجه البخاري في المغازي حديث ٣٩٧٦ ، ومسلم في الجنة حديث ٢٨٧٣ ، والنسائي في الجنائز حديث ٢٠٧٤.

٤٥٥

ومثل الأوثان الذين رضوا بعبادتهم لهم ولم ينكروا عليهم ذلك ويأمروهم بعبادة الله تعالى الذي تفرد بنعوت العظمة وصفات الكمال ، وقال مقاتل : يعني إبليس وجنوده واحتج بقوله تعالى : (أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) [يس : ٦٠] (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) قال ابن عباس : دلوهم إلى طريق النار ، وقال ابن كيسان : قدموهم ، قال البغوي : والعرب تسمي السائق هاديا ، قال الواحدي : هذا وهم ؛ لأنه يقال : هدى إذا تقدم ومنه الهادية والهوادي وهاديات الوحوش ولا يقال : هدى بمعنى قدم.

(وَقِفُوهُمْ) أي : احبسوهم قال البغوي : قال المفسرون : لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط فقيل لهم : قفوهم (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) قال ابن عباس : عن جميع أقوالهم وأفعالهم ، وروي عنه عن لا إله إلا الله ، وقيل : تسألهم خزنة جهنم عليهم‌السلام (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) [الملك : ٨] أي : رسل منكم جاؤكم بالبينات (قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر : ٧١] ، وروي عن أبي برزة الأسلمي قال : «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعلمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه». وفي رواية و«عن شبابه فيم أبلاه» (١) ، وعن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفا يوم القيامة لازما به وإن دعا رجل رجلا ثم قرأ (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ)(٢).

ويقال لهم توبيخا :

(ما لَكُمْ) أي : أي شيء حاصل لكم شغلكم وألهاكم حال كونكم (لا تَناصَرُونَ) قال ابن عباس : لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا ، وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر : نحن جميع منتصر ، فقيل لهم يوم القيامة ما لكم لا تناصرون ، وقيل : يقال للكفار ما لشركائكم لا يمنعونكم من العذاب ويقال عنهم : (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) قال ابن عباس : خاضعون وقال الحسن : منقادون يقال : استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع ، والمعنى : هم اليوم أذلاء منقادون لا حيلة لهم في دفع تلك المضار.

ولما أخبر سبحانه وتعالى عنهم بأنهم سئلوا فلم يجيبوا ربما كان يظن أنهم أخرسوا فنبه على أنهم يتكلمون بما يزيد تكذيبهم فقال عاطفا على قوله تعالى : (وَقالُوا يا وَيْلَنا) [الصافات : ٢٠]. (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ) أي : الذين ظلموا (عَلى بَعْضٍ) أي : بعد إيقافهم لتوبيخهم وعبر عن خصامهم تهكما بقوله تعالى : (يَتَساءَلُونَ) أي : يتلاومون ويتخاصمون.

(قالُوا) أي : الأتباع منهم للمتبوعين (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) قال الضحاك : أي : من قبل الدين فتضلوننا عنه ، وقال مجاهد : عن الصراط الحق واليمين عبارة الدين الحق كما أخبر الله تعالى عن إبليس لعنه الله تعالى (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [الأعراف : ١٧] فمن أتاه الشيطان من قبل اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق واليمين ههنا استعارة عن الخيرات والسعادات ، لأن الجانب الأيمن أفضل من الجانب الأيسر ، قال ابن عادل : لا تباشر الأعمال الشريفة إلا باليمين ويتفاءلون بالجانب الأيسر و«كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب التيامن في شأنه

__________________

(١) أخرجه الترمذي حديث ٢٤١٦ ، ٢٤١٧.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٢٨.

٤٥٦

كله» (١) ، وكاتب الحسنات من الملائكة على اليمين ، ووعد الله تعالى المؤمن أن يعطيه الكتاب باليمين ، وقيل : إن الرؤساء كانوا يحلفون للمستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم ، وقيل : عن اليمين عن القوة والقدرة كقوله تعالى : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) [الحاقة : ٤٥].

(قالُوا) أي : المتبوعون لهم (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي : وإنما يصدق الإضلال منا أن لو كنتم مؤمنين فرجعتم عن الإيمان إلينا وإنما الكفر من قبلكم.

(وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي : قوة وقدرة حتى نقهركم ونجبركم على متابعتنا (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) أي : ضالين مثلنا.

(فَحَقَ) أي : وجب (عَلَيْنا) جميعا (قَوْلُ رَبِّنا) أي : كلمة العذاب وهو قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود : ١١٩] (إِنَّا) أي : جميعا (لَذائِقُونَ) أي : العذاب بذلك القول ونشأ عنه قولهم : (فَأَغْوَيْناكُمْ) أي : فأضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى ما كنا عليه (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) أي : ضالين فأحببتم أن تكونوا مثلنا ، وفيه إيماء بأن غوايتهم في الحقيقة ليست من قبلهم إذ لو كان كل غواية بإغواء غاو فمن أغوى الأول قال الله تعالى : (فَإِنَّهُمْ) أي : المتبوعين والأتباع (يَوْمَئِذٍ) أي : يوم القيامة (فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي : كما كانوا مشتركين في الغواية.

(إِنَّا) أي : بما لنا من العظمة والقدرة (كَذلِكَ) أي : كما نفعل بهؤلاء (نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) غير هؤلاء أي : نعذبهم التابع منهم والمتبوع.

ثم وصفهم الله تعالى بقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) أي : يتكبرون عن كلمة التوحيد أو عمن يدعوهم إليها.

(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا) في الهمزتين ما مر (لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم إن الله تعالى كذبهم في ذلك الكلام بقوله تعالى : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) أي : الدين الحق (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) أي : صدقهم في مجيئهم بالتوحيد فأتى بما أتى به المرسلون من قبله.

ثم التفت من الغيبة إلى الحضور فقال تعالى : (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) ثم كأنه قيل : كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي الغني عن الضر والنفع أن يعذب عباده؟ فأجاب بقوله تعالى : (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : جزاء عملكم وقوله تعالى : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) أي : المؤمنين استثناء منقطع ، وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام بعد الخاء أي : إن الله تعالى أخلصهم واصطفاهم بفضله ، والباقون بالكسر أي : إنهم أخلصوا الطاعة لله تعالى.

وقوله : (أُولئِكَ لَهُمْ) أي : في الجنة (رِزْقٌ مَعْلُومٌ) أي : بكرة وعشيا بيان لحالهم وإن لم يكن ثم بكرة ولا عشية فيكون المراد منه معلوم الوقت وهو مقدار غدوة أو عشية ، وقيل : معلوم الصفة أي : مخصوص بصفات من طيب طعم ولذة وحسن منظر ، وقيل معناه : أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى ينقطع ، وقيل : معلوم القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله تعالى.

وقوله : (فَواكِهُ) يجوز أن يكون بدلا من رزق ، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي : ذلك الرزق

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصلاة حديث ٤٢٦ ، والنسائي في الزينة حديث ٥٢٤٠.

٤٥٧

فواكه وفي الفواكه جمع فاكهة قولان :

أحدهما : أنها عبارة عما يؤكل للتلذذ لا للحاجة وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه ؛ لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإن أجسامهم محكمة مخلوقة للأبد فكل ما يأكلونه فعلى سبيل التلذذ.

والثاني : أن المقصود بذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى أي : لما كانت الفاكهة حاضرة أبدا كان المأكول للغذاء أولى بالحضور.

(وَهُمْ مُكْرَمُونَ) أي : في نيله يصل إليهم من غير تعب وسؤال لا كما عليه رزق الدنيا.

ولما ذكر مأكلهم ذكر مسكنهم بقوله تعالى : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي : في جنات ليس فيها إلا النعيم وهو متعلق بمكرمون أو خبر ثان لأولئك أو حال من المستكن في مكرمون وقوله تعالى : (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) أي : لا يرى بعضهم قفا بعض حال ، ويجوز أن يتعلق على سرر بمتقابلين.

ولما ذكر سبحانه وتعالى المأكل والمسكن ذكر بعد ذلك صفة المشرب بقوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ) أي : على كل منهم (بِكَأْسٍ) أي : بإناء فيه خمر فهو اسم للإناء بشرابه فلا يكون كأسا حتى يكون فيه شراب وإلا فهو إناء ، وقيل : المراد بالكأس : الخمر كقول الشاعر (١) :

وكأس شربت على لذة

وأخرى تداويت منها بها

أي : رب كأس شربت لطلب اللذة وكأس شربت للتداوي من خمارها ، والكأس مؤنثة كما قاله الجوهري ، وقوله تعالى (مِنْ مَعِينٍ) أي : من شراب معين أو من نهر معين مأخوذ من عين الماء أي : يخرج من العيون كما يخرج الماء وسمي عينا لظهوره يقال : عان الماء إذا ظهر جاريا.

وقوله تعالى : (بَيْضاءَ) أي : أشد بياضا من اللبن قاله الحسن صفة لكأس ، وقال أبو حيان : صفة لكأس أو للخمر ، واعترض بأن الخمر لم يذكر ، وأجيب عنه : بأن الكأس إنما سميت كأسا إذا كان فيها الخمر وقوله تعالى (لَذَّةٍ) صفة أيضا وصفه بالمصدر مبالغة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال : فلان جود وكرم إذا كان المراد المبالغة ، وقال الزجاج : أو على حذف المضاف أي : ذات لذة وقوله تعالى (لِلشَّارِبِينَ) أي : بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب ، صفة للذة ، وقال الليث : اللذة واللذيذة يجريان مجرى واحد في النعت يقال : شراب لذ ولذيذ.

وقوله تعالى : (لا فِيها غَوْلٌ) صفة أيضا ، واختلف في الغول فقال الشعبي أي : لا تغتال عقولهم فتذهب بها وقال الكلبي : معناه الإثم أي : لا إثم فيها ، وقال قتادة : وجع البطن ، وقال الحسن : صداع ، وقال أهل المعاني الغول : فساد يلحق في خفاء يقال : اغتاله اغتيالا إذا أفسد عليه أمره في خفية ، وخمر الدنيا يحصل منها أنواع الفساد منها السكر وذهاب العقل ووجع البطن والصداع والقيء والبول ولا يوجد شيء من ذلك في خمر الجنة (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) أي : يسكرون ، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي من أنزف الشارب إذا نزف عقله من السكر ، والباقون بفتحها من نزف الشارب نزيفا إذا ذهب عقله أفرده بالذكر وعطفه على ما يعمه ؛ لأنه من عظم فساده

__________________

(١) يروى البيت بلفظ :

وكأس شربت على لذّة

دهاق ترنّح من ذاقها

والبيت من المتقارب ، وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (رنح) ، وتاج العروس (رنج).

٤٥٨

كأنه جنس برأسه.

ولما ذكر تعالى صفة مشروبهم ذكر عقبه صفة منكوحهم بقوله تعالى : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي : حابسات الأعين غاضات الجفون قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم لحسنهم عندهن وقوله تعالى (عِينٌ) جمع عيناء وهي الواسعة العين والذكر أعين قال الزجاج : كبار الأعين حسانها يقال : رجل أعين وامرأة عيناء ورجال ونساء عين.

(كَأَنَّهُنَ) أي : في اللون (بَيْضٌ) للنعام (مَكْنُونٌ) أي : مستور بريشه لا يصل إليه غبار ولونه وهو البياض في صفرة.

يقال : هذا أحسن ألوان النساء تكون المرأة مشربة بصفرة قال ذو الرمة في ذلك (١) :

بيضاء في ترح صفراء في غنج

كأنها فضة قد مسها ذهب

قال المبرد : والعرب تشبه المرأة الناعمة في بياضها وحسن لونها ببيضة النعامة ، وقال بعضهم : إنما شبهت المرأة بها في أجزائها فإن البيضة من أي جهة أتيتها كانت في رأي العين مشبهة للأخرى وهو في غاية المدح وقد لحظ هذا بعض الشعراء فقال (٢) :

تناسبت الأعضاء فيها فلا ترى

بهن اختلافا بل أتين على قدر

ويجمع البيض على بيوض قال الشاعر (٣) :

بتيهاء قفر والمطي كأنها

قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ) أي : بعض أهل الجنة (عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) معطوف على يطاف عليهم أي : يشربون فيتحادثون على الشراب قال القائل (٤) :

وما بقيت من اللذات إلا

محادثة الكرام على المدام

وأتى بقوله تعالى : (فَأَقْبَلَ) ماضيا لتحقق وقوعه كقوله تعالى (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) [الأعراف : ٤٤] وقوله تعالى (يَتَساءَلُونَ) حال من فاعل أقبل وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا.

ولما ذكر تعالى أن أهل الجنة يتساءلون عند اجتماعهم على الشراب ويتحدثون كان من جملة كلماتهم أنهم يتذكرون ما كان حصل لهم في الدنيا مما يوجب الوقوع في عذاب الله تعالى ثم إنهم تخلصوا منه وهو ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) أي : من أهل الجنة في الجنة في مكالمتهم (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) أي : في الدنيا ينكر البعث.

__________________

(١) يروى صدر البيت بلفظ :

كحلاء في برج صفراء في دعج

والبيت من البسيط ، وهو لذي الرمة في ديوانه ص ٣٣ ، وجمهرة اللغة ص ١٣٣١ ، وجمهرة أشعار العرب ص ٩٤٥ ، والكامل ص ٩٣٤ ، وبلا نسبة في المخصص ١ / ٩٨.

(٢) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لعمرو بن أحمر في ديوانه ص ١١٩ ، والحيوان ٥ / ٥٧٥ ، وخزانة الأدب ٩ / ٢٠١ ، ولسان العرب (عرض) ، (كون).

(٤) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٤٥٩

(يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢))

(يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) أي : كان يوبخني على التصديق بالبعث ويقول تعجبا : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) أي : مجزيون ومحاسبون من الدين بمعنى الجزاء وهذا استفهام إنكار.

تنبيه : اختلف في ذلك القرين فقال مجاهد : كان شيطانا ، وقيل : كان من الإنس ، وقال مقاتل : كانا أخوين ، وقيل : كانا شريكين حصل لهما ثمانية آلاف دينار فتقاسماها واشترى أحدهما دارا بألف دينار فأراها صاحبه ، وقال : كيف ترى حسنها؟ فقال : ما أحسنها ثم خرج فتصدق بألف دينار وقال : اللهم إن صاحبي قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك دارا من دور الجنة ، ثم إن صاحبه تزوج امرأة حسناء بألف دينار ، فتصدق صاحبه بألف دينار لأجل أن يزوجه الله تعالى من الحور العين ، ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار ، فتصدق هذا بألفي دينار ثم إن الله تعالى أعطاه ما طلبه في الجنة ، وقيل : كان أحدهما كافرا اسمه ينطواوس والآخر مؤمن اسمه يهودا وهما اللذان قص الله تعالى خبرهما في سورة الكهف في قوله تعالى (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) [الكهف : ٣٢].

(قالَ) أي : ذلك القائل لإخوته (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) أي : معي إلى النار لننظر حاله فيقولون : لا. (فَاطَّلَعَ) ذلك القائل من بعض كوى الجنة قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار (فَرَآهُ) أي : رأى قرينه (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) أي : وسط النار وإنما يسمى وسط الشيء سواء لاستواء الجوانب منه.

٤٦٠