تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٣٦

الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨))

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا) أي : بما لنا من العظمة (إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) أي : الجامع خيري الدارين.

تنبيه : (مِنَ الْكِتابِ) يجوز أن تكون من للبيان كما يقال : أرسل إلى فلان من الثياب جملة ، وأن تكون للجنس ، وأن تكون لابتداء الغاية كما يقال : جاءني كتاب من الأمير ، وعلى كل فالكتاب يمكن أن يراد به اللوح المحفوظ يعني : الذي أوحينا من اللوح المحفوظ (هُوَ الْحَقُ) أي : الكامل في الثبات ومطابقة الواقع ، ويمكن أن يراد به القرآن وهو ما اقتصر عليه الجلال المحلي يعني : الإرشاد التبيين اللذين أوحينا إليك من القرآن ، ويمكن أن تكون من للتبعيض وهو فصل أو مبتدأ وقوله تعالى (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : لما تقدمه من الكتب حال مؤكدة ؛ لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق وهذا تقرير لكونه وحيا ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما لم يكن قارئا كاتبا وأتى ببيان ما في كتاب الله لا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى ، فإن قيل : لم يجعل ما تقدم مصدقا للقرآن؟ أجيب : بأن القرآن كونه معجزة يكفي تصديقه بأنه وحي وأما ما تقدم فلا بد فيه من معجزة تصدقه.

تنبيه : قوله تعالى (هُوَ الْحَقُ) آكد من قول القائل الذي أوحينا إليك حق من وجهين : أحدهما : أن التعريف للخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور ؛ لأن الخبر في الأكثر يكون نكرة. الثاني : أن الإخبار في الغالب يكون إعلاما بثبوت أمر لا يعرفه السامع كقولنا : زيد قام فإن السامع ينبغي أن يكون عارفا ولا يعلم قيامه فيخبر به ، فإذا كان الخبر معلوما فتكون الأخبار للنسبة فتعرف باللام كقولنا : إن زيدا العالم في هذه المدينة إذا كان علمه مشهورا.

(إِنَّ اللهَ) أي : الذي له جميع صفات الكمال (بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ) أي : عالم أدق العلم وأتقنه ببواطن أحوالهم (بَصِيرٌ) أي : بظواهر أمورهم وبواطنها أي : فهو يسكن الخشية والعلم في القلوب على قدر ما أوتوا من الكتاب في علمه ، فأنت أحقهم بالكمال ؛ لأنك أخشاهم وأتقاهم فلذلك آتيناك هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب ، وتقديم الخبير للدلالة على أن العمدة في ذلك الأمور الروحانية.

وقوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) في معناه وجهان : أحدهما : إنا أوحينا إليك القرآن ثم أورثناه من بعدك أي : حكمنا بتوريثه أو قال تعالى (أَوْرَثْنَا) وهو يريد نورثه فعبر عنه بالماضي لتحققه وقال مجاهد : أورثنا أعطينا ؛ لأن الميراث إعطاء واقتصر على هذا الجلال المحلي ، وقيل : أورثنا أخرنا ومنه الميراث ؛ لأنه تأخر عن الميت ومعناه : أخرنا القرآن من الأمم السالفة وأعطيناكموه وأهلناكم له.

تنبيه : أكثر المفسرين على أن المراد بالكتاب القرآن ، وقيل : إن المراد جنس الكتاب (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) أي : اخترنا (مِنْ عِبادِنا) قال ابن عباس رضي الله عنه : يريد بالعباد أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة ، ونقل ابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله عنه أن الله تعالى أورث أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل كتاب أنزله أي : لأن الله تعالى اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس ، وخصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسله تعالى ، وحمل الكتاب الذي هو أفضل كتب الله تعالى ، ثم قسمهم بقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ

٤٠١

لِنَفْسِهِ) أي : في التقصير بالعمل به (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) أي : يعمل به في أغلب الأوقات (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) وهو من يضم إلى العمل به التعليم والإرشاد إلى العمل.

روى أسامة بن زيد في هذه الآية قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلهم من هذه الأمة» (١). وروى أبو عثمان النهدي قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ على المنبر (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) الآية فقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له» (٢) وروى أبو الدرداء قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) الآية [فاطر : ٣٢] قال : أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا ، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم ثم يدخل الجنة ، ثم قرأ قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية.

وقال عقبة بن صهبان : سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله عزوجل (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) الآية فقالت : يا بني كلهم في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهد له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنة ، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق بهم ، وأما الظالم فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معنا ، وقال مجاهد والحسن : فمنهم ظالم لنفسه هم أصحاب المشأمة ، ومنهم مقتصد هم أصحاب الميمنة ، ومنهم سابق بالخيرات السابقون المقربون من الناس كلهم.

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : السابق المؤمن المخلص ، والمقتصد المرائي والظالم الكافر نعمة الله تعالى غير الجاحد لها ؛ لأنه تعالى حكم للثلاثة بدخول الجنة.

وقيل : الظالم هو الراجح السيئات ، والمقتصد هو الذي تساوت سيئاته وحسناته ، والسابق هو الذي رجحت حسناته ، وقيل : الظالم هو الذي ظاهره خير من باطنه ، والمقتصد من تساوى ظاهره وباطنه ، والسابق من باطنه خير من ظاهره ، وقيل : الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه ، والمقتصد : هو الموحد الذي يمنع جوارحه من المخالفة بالتكليف ، والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد.

وقيل : الظالم صاحب الكبيرة ، والمقتصد صاحب الصغيرة ، والسابق المعصوم ، وقيل : الظالم التالي للقرآن غير العالم به والعامل به ، والمقتصد التالي العالم غير العامل ، والسابق التالي العالم العامل ، وقيل : الظالم الجاهل ، والمقتصد المتعلم ، والسابق العالم.

وقال جعفر الصادق : بدأ بالظالم إخبارا بأنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه وإن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء ، ثم ثنّى بالمقتصد ؛ لأنه بين الخوف والرجاء ، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة ، وقال أبو بكر الوراق : رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس ؛ لأن أحوال العبد ثلاثة : معصية وغفلة ، ثم توبة ، ثم قربة ، فإذا عصى دخل في حياز الظالمين ، فإذا تاب دخل في

__________________

(١) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١ / ١٣١ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ٩٦ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٤٥٦٥ ، وابن كثير في تفسيره ٦ / ٥٣٤.

(٢) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٨ / ٦٠٠ ، والسيوطي في الدر المنثور ٥ / ٢٥٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٩٢٥ ، ٤٥٦٢ ، ٤٥٦٣ ، والقرطبي في تفسيره ١ / ٣٤٦.

٤٠٢

جملة المقتصدين ، فإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عداد السابقين ، وقيل غير ذلك والله أعلم.

ولما كان هذا ليس في قوة العبد في مجاري العادات ولا يوجد بالكسب والاجتهاد أشار إلى عظمته بقوله تعالى : (بِإِذْنِ اللهِ) أي : بتمكين من له القدرة التامة والعظمة العامة والفعل بالاختيار وجميع صفات الجمال والجلال والكمال وتسهيله وتيسيره ، لئلا يأمن أحد مكره تعالى ، قال الرازي في «اللوامع» : ثم من السابقين من يبلغ محل القرب فيستغرق في وحدانيته تعالى (ذلِكَ) أي : إيراثهم الكتاب أو السبق أو الاصطفاء (هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).

ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أحوالهم بين جزاءهم وما لهم بقوله تعالى مستأنفا جوابا لمن سأل عن ذلك : (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي : إقامة بلا رحيل ؛ لأنه لا سبب للترحيل عنها وقوله تعالى (يَدْخُلُونَها) أي : الثلاثة أصناف ، خبر جنات عدن ومن دخلها لم يخرج منها ؛ لأنه لا شيء يخرجه ولا هو يريد الخروج منها ، وقرأ أبو عمرو بضم الياء وفتح الخاء ، والباقون بفتح الياء وضم الخاء.

ولما كان الداخل إلى مكان أول ما ينظر إلى ما فيه من النفائس قال تعالى (يُحَلَّوْنَ فِيها) أي : يلبسون على سبيل التزين والتحلي (مِنْ أَساوِرَ) أي : بعض أساور (مِنْ ذَهَبٍ) فمن الأولى للتبعيض ، والثانية للتبيين وقوله تعالى (وَلُؤْلُؤاً) عطف على ذهب أي : من ذهب مرصع باللؤلؤ ، أو من ذهب في صفاء اللؤلؤ ، وقرأ عاصم ونافع بالنصب عطفا على محل من أساور ، والباقون بالجر.

تنبيه : أساور جمع أسورة وهي جمع سوار ، وذكر الأساور من بين سائر الحلي في مواضع كثيرة كقوله تعالى (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) [الإنسان : ٢١] يدل على كون المتحلي غير مبتذل في الأشغال ؛ لأن كثرة الأعمال باليد فإذا حليت بالأساور علم الفراغ من الأعمال ، ولما كانت هذه الزينة لا تليق إلا على اللباس الفاخر قال تعالى (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ).

(وَقالُوا) أي : ويقولون عند دخولهم ، وعبر عنه بالماضي تحقيقا له (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : حزن النار ، وقال قتادة : حزن الموت وقال مقاتل : لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنع بهم ، وقال عكرمة : حزن السيئات والذنوب وخوف رد الطاعات ، وقال القاسم : حزن زوال النعم وخوف العاقبة ، وقيل : حزن أهوال القيامة ، وقال الكلبي : ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة ، وقال سعيد بن جبير : الحزن في الدنيا ، وقيل : همّ المعيشة ، وقال الزجاج : أذهب الله تعالى عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو معاد أي : وهذا أولى الكل قال عليه الصلاة والسلام : «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في منشرهم ، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون : «الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» (١).

ثم قالوا (إِنَّ رَبَّنا) أي : المحسن إلينا مع إساءتنا (لَغَفُورٌ) أي : محّاء للذنوب عينا وأثرا للصنفين الأولين ولغيرهما من المذنبين (شَكُورٌ) للصنف الثالث ولغيره من المطيعين.

__________________

(١) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٨٢ ، ٣٣٣ ، والمنذري في الترغيب والترهيب ٢ / ٤١٦ ، وابن حجر في فتح الباري ٥ / ١٠ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ١٨٨ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٢٨ ، ١٧٦.

٤٠٣

تنبيه : ذكر الله تعالى عن هذه الثلاثة ثلاثة أمور كلها تفيد الكرامة ، الأول : قولهم (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فإن الحامد يثاب. الثاني : قولهم (رَبَّنا) فإن الله تعالى إذا نودي بهذا اللفظ استجاب للمنادي ما لم يكن يطلب ما لا يجوز. الثالث : قولهم (لَغَفُورٌ شَكُورٌ) والغفور إشارة إلى ما غفر لهم في الآخرة بحمدهم في الدنيا ، والشكور إشارة إلى ما يعطيهم الله ويزيدهم بسبب حمدهم في الآخرة.

وقولهم : (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ) أي : الإقامة إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل منها إلى منزلة القبور ، ومن القبور إلى منزلة العرصة التي فيها الجمع ومنها التفريق إلى دار البقاء ، إما إلى الجنة ، وإما إلى النار أجارنا الله تعالى ومحبينا منها. وقولهم (مِنْ فَضْلِهِ) أي : بلا عمل منا فإن حسناتنا إنما كانت منا منه تعالى إذ لا واجب عليه ، متعلق بأحلنا ، ومن إما للعلة ، وإما لابتداء الغاية.

وقولهم (لا يَمَسُّنا فِيها) أي : في وقت من الأوقات (نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) حال من مفعول أحلنا الأول أو الثاني ، لأن الجملة مشتملة على ضمير كل منهما ، وإن كان الحال من الأول أظهر ، والنصب التعب والمشقة ، واللغوب الفتور الناشئ عنه ، وعلى هذا فيقال : إذا انتفى السبب انتفى المسبب ، فإذا قيل : لم آكل فيعلم التغاء الشبع فلا حاجة إلى قوله ثانيا فلم أشبع بخلاف العكس ، ألا ترى أنه يجوز لم أشبع ولم آكل والآية الكريمة على ما تقرر من نفي السبب ثم نفي المسبب فما فائدته؟ أجيب : بأن النصب هو تعب البدن واللغوب هو تعب النفس ، وقيل : اللغوب الوجع وحينئذ فالسؤال زائل ، وأجاب الرازي بجواب قال ابن عادل : ليس بذاك فتركته.

ولما بين تعالى ما هم فيه من النعمة في دار السرور التي قال فيها القائل (١) :

علياء لا تنزل الأحزان ساحتها

لو مسها حجر مسته سراء

بين ما لأعدائهم من النقمة زيادة في سرورهم بما قاسوا في الدنيا من تكبرهم عليهم وفخارهم بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ستروا ما دلت عليه عقولهم من شموس الآيات وأنوار الدلالات (لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ) أي : بما تجهموا أولياء الله الدعاة إليه (لا يُقْضى) أي : يحكم (عَلَيْهِمْ) أي : بموت ثان (فَيَمُوتُوا) أي : فيتسبب عن القضاء موتهم فيستريحوا كقوله تعالى (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف : ٧٧] أي : بالموت فنستريح بل العذاب دائم.

تنبيه : نصب فيموتوا بإضمار أن.

ولما كانت الشدائد في الدنيا تنفرج وإن طال أمدها قال تعالى : (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ) وأعرق في النفي بقوله تعالى : (مِنْ عَذابِها) أي : جهنم.

تنبيه : في الآية الأولى أن العذاب في الدنيا إن دام قتل وإن لم يقتل يعتاده البدن ويصير مزاجا فاسدا لا يحس به المعذب فقال : عذاب نار الآخرة ليس كعذاب الدنيا إما أن يفنى وإما أن يألفه البدن بل هو في كل زمان شديد والمعذب فيه دائم.

الثانية : وصف العذاب بأنه لا يفتر ولا ينقطع ولا بأقوى الأسباب وهو الموت حتى يتمنوه ولا يجابون كما قال تعالى (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف : ٧٧] أي : بالموت.

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لأبي نواس في ديوانه ١ / ٢٢ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٥٩.

٤٠٤

الثالثة ، ذكر في المعذبين الأشقياء أنه لا ينقضي عذابهم ولم يقل تعالى : نزيدهم عذابا وفي المثابين قال تعالى (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [النور : ٣٨] وقوله تعالى (كَذلِكَ) إما مرفوع المحل أي : الأمر كذلك وإما منصوبه أي : مثل ذلك الجزاء العظيم (نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) أي : كافر بالله تعالى وبرسوله ، وقرأ أبو عمرو بياء مضمومة وفتح الزاي ورفع كل ، والباقون بنون مفتوحة وكسر الزاي ونصب كل.

(وَهُمْ) أي : فعل ذلك بهم والحال أنهم (يَصْطَرِخُونَ فِيها) أي : يوجدون الصراخ فيها بغاية ما يقدرون عليه من الجهد في الصياح من البكاء والتوجع يقولون (رَبَّنا) أي : أيها المحسن إلينا (أَخْرِجْنا) أي : من النار (نَعْمَلْ صالِحاً) ثم فسروه وبينوه بقولهم (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) في الدنيا ، فإن قيل : هلا اكتفى بقولهم (نَعْمَلْ صالِحاً) كما اكتفى به في قولهم (فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) [السجدة : ١٢] وما فائدة زيادة (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) على أنه يوهم أنهم يعملون صالحا آخر غير الصالح الذي عملوه؟ أجيب : بأن فائدته زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وظهور المعاصي ، ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة كما قال تعالى (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف : ١٠٤] فقالوا : أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نحسبه صالحا فنعمله ، فيقال لهم توبيخا وتقريعا : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) أي : نطل أعماركم مع إعطائنا لكم العقول ولم نعاجلكم بالأخذ.

(ما) أي : زمانا (يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) قال عطاء وقتادة والكلبي : ثماني عشرة سنة وقال الحسن : أربعون سنة وقال ابن عباس : ستون سنة ، وروي ذلك عن علي ، وروى البزار أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «العمر الذي أعذر الله تعالى فيه إلى ابن آدم ستون سنة» (١) وروى البخاري أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من عمرّه الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر» (٢) وروى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» (٣) وأقلهم من يجوز ذلك.

وقوله تعالى : (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) عطف على (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) لأنه في معنى قد عمرناكم كقوله (أَلَمْ نُرَبِّكَ) [الشعراء : ١٨] ثم قال (وَلَبِثْتَ) وقال تعالى (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] ثم قال تعالى (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) [الشرح : ٢] إذ هما في معنى ربيناك وشرحنا ، واختلف في النذير فقال الأكثرون : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : القرآن ، وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع : هو الشيب ، والمعنى : أو لم نعمركم حتى شبتم ويقال : الشيب نذير الموت ، وفي الأثر ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها : استعدي فقد قرب الموت.

ولما تسبب عن ذلك أن عذابهم لا ينفك قال تعالى : (فَذُوقُوا) أي : ما أعددناه لكم من العذاب دائما أبدا (فَما لِلظَّالِمِينَ) أي : الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها (مَنْ

__________________

(١) أخرجه ابن كثير في تفسيره ٦ / ٥٤٠ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٣٩.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٤١٧ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٣ / ٣٧٠ ، والسيوطي في الدر المنثور ٥ / ٢٥٤ ، والطبري في تفسيره ٢٢ / ٩٣ ، والقرطبي في تفسيره ٦ / ٦٣ ، وابن كثير في تفسيره ٦ / ٥٤٠.

(٣) أخرجه الترمذي في الدعوات حديث ٣٥٥٠ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤٢٣٦ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٣ / ٣٧٠ ، والحاكم في المستدرك ٢ / ٤٢٧.

٤٠٥

نَصِيرٍ) أي : في وقت الحاجة حتى يرفع العذاب عنهم قال البقاعي وهذا عام في كل ظالم.

ولما كان تعالى عالما بكل ما نفى وما أثبت قال تعالى : (إِنَّ اللهَ) أي : الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلما (عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا تخفى عليه خافية فلا يخفى عليه تعالى أحوالهم وقوله تعالى (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل له ؛ لأنه إذا علم مضمرات الصدور قبل أن يعلمها أربابها حتى تكون غيبا محضا كان أعلم بغيره ، ويعلم أنكم لو مدّت أعماركم لم ترجعوا عن الكفر أبدا ولو رددتم لعدتم لما نهيتم عنه وإنه لا مطمع في صلاحكم.

ولما كان من أنشأ شيئا كان أعلم به قال تعالى :

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥))

(هُوَ) أي : وحده لا شركاؤكم ولا غيرهم (الَّذِي جَعَلَكُمْ) أيها الناس (خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي : يخلف بعضكم بعضا ، وقيل : جعلكم أمة واحدة خلفت من قبلها ورأت فيمن قبلها ما ينبغي أن يعتبر به ، وقال القشيري : أهل كل عصر خليفة عمن تقدّمهم فمن قوم هم لسلفهم جمال ومن قوم هم أرذال وأسافل.

تنبيه : خلائف جمع خليفة وهو الذي يقوم بعد الإنسان بما كان قائما به والخلفاء : جمع خليفة قاله الأصبهاني (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي : وبال كفره (وَلا) أي : والحال أنه لا (يَزِيدُ الْكافِرِينَ) أي : المغطين للحق (كُفْرُهُمْ) أي : الذي هم ملتبسون به ظانون أنه يسعدهم وهم راسخون فيه غير منتقلين عنه (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي : المحسن إليهم (إِلَّا مَقْتاً) أي : غضبا ؛ لأن الكافر السابق كان ممقوتا (وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ) أي : العريقين في صفة التغطية للحق (كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) أي : للآخرة ؛ لأن العمر كرأس مال من اشترى به رضا الله تعالى ربح ، ومن اشترى به سخط الله تعالى خسر.

ولما بين أنه سبحانه هو الذي استخلفهم أكد بيان ذلك عندهم بأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يضطرهم إلى الاعتراف بقوله تعالى : (قُلْ) أي : لهم (أَرَأَيْتُمْ) أي : أخبروني (شُرَكاءَكُمُ) أضافهم إليهم ؛ لأنهم وإن كانوا جعلوهم شركاءه لم ينالوا شيئا من شركته ؛ لأنهم ما نقصوه شيئا من ملكه وإنما شاركوا العابدين في أموالهم بالسوائب وغيرها وفي أعمالهم فهم شركاؤهم بالحقيقة لا شركاؤه ، ثم بين المراد من عدّهم لهم شركاء بقوله تعالى : (الَّذِينَ تَدْعُونَ) أي : تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ)

٤٠٦

أي : غيره وهم الأصنام الذين زعمتم أنهم شركاء الله تعالى (أَرُونِي) أي : أخبروني (ما ذا) أي : الذي أو أي شيء (خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي : لتصح لكم دعوى الشركة فيهم وإلا فادعاؤكم ذلك فيهم كذب محض وإنكم تدعون أنكم أبعد الناس منه في الأمور الهينة فكيف بمثل هذا (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ) أي : شركة مع الله تعالى وإن قلت (فِي السَّماواتِ) أي : أروني ماذا خلقوا لكم من السموات فالآية من الاحتباك حذف أولا الاستفهام عن الشركة في الأرض لدلالة مثله في السماء ثانيا عليه ، وحذف الأمر بالإراءة ثانيا له لدلالة مثله أولا عليه.

(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً) ينطق على أنا اتخذنا شركاء (فَهُمْ) الأحسن في هذا الضمير أن يعود على الشركاء لتناسق الضمائر ، وقيل : يعود على المشركين قاله مقاتل فيكون التفاتا من خطاب إلى غيبة (عَلى بَيِّنَةٍ) أي : حجة (مِنْهُ) بأن لهم معي شركة ، ولما كان التقدير لا شيء لهم من ذلك قال تعالى منبها على ذميم أحوالهم وسفه آرائهم وخسة هممهم ونقصان عقولهم (بَلْ إِنْ) أي : ما (يَعِدُ الظَّالِمُونَ) أي : الواضعون الأشياء في غير موضعها (بَعْضُهُمْ بَعْضاً) أي : الاتباع للمتبوعين بأن شركاءهم تقربهم إلى الله تعالى زلفى ، وأنها تشفع وتضر وتنفع (إِلَّا غُرُوراً) أي : باطلا.

ولما بين تعالى حقارة الأصنام بين عظمته سبحانه بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له جميع صفات الكمال (يُمْسِكُ السَّماواتِ) أي : على كبرها وعلوها (وَالْأَرْضَ) أي : على سعتها وبعدها عن التماسك على ما تشاهدون ، وقوله تعالى (أَنْ تَزُولا) أي : برجة عظيمة وزلزلة كبيرة يجوز أن يكون مفعولا من أجله أي : كراهة أن تزولا ، وقيل : لئلا تزولا ، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا على إسقاط الخافض أي : يمنعهما من أن تزولا ، ويجوز أن يكون بدل اشتمال أي : يمنع زوالهما ؛ لأن ثباتهما على ما هما عليه على غير القياس لو لا شامخ قدرته وباهر عزته وعظمته ، فإن ادعيتم عنادا أن شركاءكم لا يقدرون على الخلق لعلة من العلل فادعوهم لإزالة ما خلق الله تعالى.

ولما كان في هذا دليل على أنهما حادثتان زائلتان أتبعه ما هو أبين منه بقوله تعالى : معبرا بأداة الإمكان (وَلَئِنْ) لام قسم (زالَتا) أي : بزلزلة خراب أو غير ذلك (إِنَ) أي : ما (أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) جواب القسم الموطأ له بلام القسم وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب القسم ، ولذلك كان فعل الشرط ماضيا ، وقول البيضاوي تبعا للزمخشري : والجملة سدت مسد الجوابين فيه تجوز ، فالمراد بسدها مسدهما أنها تدل عليهما لا أنها قائمة مقامهما إذ يلزم أن تكون معمولة وغير معمولة ؛ لأنها باعتبار جواب القسم لا محل لها من الإعراب ، وباعتبار جواب الشرط لها محل ، ومن في (مِنْ أَحَدٍ) مزيدة لتأكيد الاستغراق وفي (مِنْ بَعْدِهِ) لابتداء الغاية ، والمعنى : أحد سواه أو من بعد الزوال (إِنَّهُ كانَ) أي : أزلا وأبدا (حَلِيماً) إذ أمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدّا هدّا كما قال تعالى (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) [مريم : ٩٠] لأنه لا يستعجل إلا من يخاف الفوت فينتهز الفرصة (غَفُوراً) أي : محاء لذنوب من رجع إليه وأقبل بالاعتراف عليه فلا يعاقبه ولا يعاتبه.

ولما بلغ كفار مكة أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم : (وَأَقْسَمُوا) أي : كفار مكة (بِاللهِ) أي : الذي لا يقسم بغيره (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي : غاية اجتهادهم فيها (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) أي : رسول (لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أي : اليهود والنصارى وغيرهم أي : آية واحدة منها لما رأوا من تكذيب بعضها بعضا (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ

٤٠٧

النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) [البقرة : ١١٣] (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) أي : على ما شرطوا وزيادة وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كانوا يشهدون أنه خيرهم نفسا وأشرفهم نسبا وأكرمهم خلقا (ما زادَهُمْ) أي : مجيئه شيئا مما هم عليه من الأحوال (إِلَّا نُفُوراً) أي : تباعدا عن الهدى ؛ لأنه كان سببا في زيادتهم في الكفر كالإبل التي كانت نفرت من ربها فضلت عن الطريق فدعاها فازدادت بسبب دعائه نفرة فصارت بحيث يتعذر أو يتعسر ردها ، فتبين أنه لا عهد لهم مع ادعائهم أنهم أوفى الناس ولا صدق عندهم مع جزمهم بأنهم أصدق الخلق.

ثم علل نفورهم بقوله تعالى : (اسْتِكْباراً) أي : طلبا لإيجاد الكبر لأنفسهم (فِي الْأَرْضِ) أي : التي من شأنها السفول والتواضع والخمول فلم يكن نفورهم لأمر محمود ولا مباح ، ويجوز أن يكون استكبارا بدلا من نفورا وأن يكون حالا أي : حال كونهم مستكبرين قاله الأخفش.

وقوله تعالى (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) فيه وجهان : أظهرهما : أنه عطف على استكبارا ، والثاني : أنه عطف على نفورا وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته في الأصل إذ الأصل والمكر السيىء ، والبصريون يؤولونه على حذف موصوف أي : العمل السيىء أي : الذي من شأنه أن يسوء صاحبه وغيره وهو إرادتهم لإهانة أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإطفاء نور الله عزوجل ، وقال الكلبي : هو اجتماعهم على الشرك وقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرأ حمزة في الوصل بهمزة ساكنة أي : بنية الوقف إشارة إلى تدقيقهم المكر واتقانه وإخفائه جهدهم ، والباقون بهمزة مكسورة ، وإذا وقف حمزة أبدل الهمزة ياء وأدغم الياء الأولى في الياء الثانية ، ووقف الباقون بهمزة ساكنة (وَلا) أي : والحال أنه لا (يَحِيقُ) أي : يحيط إحاطة لازمة خسارة (الْمَكْرُ السَّيِّئُ) أي : الذي هو عريق في السوء (إِلَّا بِأَهْلِهِ) أي : وإن أذى غير أهله لكنه لا يحيط بذلك الغير ، فإن قيل : كثيرا ما نرى الماكر يمكر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك ، أجيب : بأجوبة : أحدها : أن المكر في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم حيث قتلوا يوم بدر وغيره.

ثانيها : أنه عام وهو الأصح ، ويدل له قول الزهري : بلغنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا فإن الله تعالى يقول : وقرأ هذه الآية ، ولا تبغوا ولا تعينوا باغيا يقول الله تعالى : (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) [يونس : ٢٣] ولا تنكثوا ولا تعينوا ناكثا قال الله تعالى (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ)(١) [الفتح : ١٠].

ثالثها : أن الأعمال بعواقبها ومن مكر بغيره ونفذ فيه المكر عاجلا في الظاهر فهو في الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك كمثل راحة الكافر ومشقة المسلم في الدنيا ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) أي : ينتظرون (إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي : سنة الله تعالى فيهم من تعذيبهم بتكذيبهم رسلهم ، والمعنى : فهل ينتظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن مضى من الكفار.

ولما كان هذا النظر يحتاج إلى صفاء في اللب وذكاء في النفس عدل عن ضميرهم إلى خطاب أعلى الخلق بقوله تعالى : (فَلَنْ تَجِدَ) أي : في وقت من الأوقات (لِسُنَّتِ اللهِ) أي : طريقة الملك الأعظم التي شرعها وحكم بها وهي إهلاك العاصين وإنجاء الطائعين (تَبْدِيلاً) أي :

__________________

(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٦٥٥.

٤٠٨

من أحد يأتي بسنة غيرها تكون بدلا لها ؛ لأنه تعالى لا مكافئ له (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ) أي : الذي لا أمر لأحد معه (تَحْوِيلاً) أي : من حالة إلى أخف منها ؛ لأنه لا مرد لقضائه.

فائدة : ترسم سنت لسنت الثلاثة بالتاء المجرورة كما رأيت ، ووقف أبو عمرو وابن كثير والكسائي بالهاء ، والباقون بالتاء ، وإذا وقف الكسائي أمال الهاء على أصله.

ولما ذكر الله تعالى الأولين وسنتهم في إهلاكهم نبههم بتذكير حال الأولين بقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا) أي : فيما مضى من الزمان (فِي الْأَرْضِ) أي : التي ضربوا في المتاجر بالسير إليها في الشام واليمن والعراق (فَيَنْظُرُوا) أي : فيتسبب عن ذلك السير أنه يتجدد لهم نظر واعتبار يوما من الأيام ، فإن العاقل من إذا رأى شيئا تفكر فيه حتى يعرف ما ينطق به لسان حاله إن خفي عليه ما جرى من مقاله ، وأشار بسوقه في أسلوب الاستفهام إلى أنه لعظمه خرج عن أمثاله فاستحق السؤال عن حاله (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) أي : آخر أمر (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : على أي حالة كان آخر أمرهم ليعلموا أنهم ما أخذوا إلا بتكذيب الرسل عليهم‌السلام فيخافوا أن يفعلوا مثل أفعالهم فيكون حالهم كحالهم فإنهم كانوا يمرون على ديارهم ويرون آثارهم ، وأملهم كان فوق أملهم وعملهم كان دون عملهم ، وكانوا أطول منهم أعمارا وأشد اقتدارا ومع هذا لم يكذبوا مثل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأنتم يا أهل مكة كفرتم بمحمد ومن قبله عليهم‌السلام (وَكانُوا) أي : أهلكناهم لتكذيبهم رسلنا ، والحال أنهم كانوا (أَشَدَّ مِنْهُمْ) أي : من هؤلاء (قُوَّةً وَما كانَ اللهُ) أي : الذي له جميع العظمة وأكد الاستغراق في النفي بقوله تعالى : (لِيُعْجِزَهُ) أي : مريدا لأن يعجزه ، ولما انتفت إرادة العجز فيه انتفى العجز بطريق الأولى ، وأبلغ في التأكيد بقوله تعالى : (مِنْ شَيْءٍ) أي : قل أو جل وعم بما يصل إليه إدراكنا بقوله تعالى : (فِي السَّماواتِ) أي : جهة العلو ، وأكد بقوله عزوجل (وَلا فِي الْأَرْضِ) أي : جهة السفل (إِنَّهُ كانَ) أي : أزلا وأبدا (عَلِيماً) أي : بالأشياء كلها حقيرها وجليلها (قَدِيراً) أي : كامل القدرة أي : فلا يريد شيئا إلا كان ولما كانوا يستعجلون بالتوعد استهزاء ، كقولهم : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] على أن التقدير ولو عاملكم الله تعالى معاملة المؤاخذ لعجل إهلاككم عطف عليه قوله تعالى إظهارا للحكم مع العلم.

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ) أي : بما له من صفات العلو (النَّاسَ) أي : المكلفين (بِما كَسَبُوا) أي : من المعاصي (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) أي : الأرض (مِنْ دَابَّةٍ) أي : نسمة تدب عليها كما كان في زمن نوح عليه‌السلام أهلك الله تعالى ما على ظهر الأرض إلا من كان في السفينة مع نوح.

فإن قيل : إذا كان الله تعالى يؤاخذ الناس بما كسبوا فما بال الدواب؟ أجيب : بأن المطر إنعام من الله في حق العباد ، وإذا لم يستحقوا الإنعام قطعت الأمطار عنهم فيظهر الجفاف على وجه الأرض فيموت جميع الحيوانات ، وبأن خلقة الحيوانات نعمة والمعاصي تزيل النعم وتحل النقم والدواب أقرب النعم ؛ لأن المفرد أولا ثم المركب ، والمركب إما أن يكون معدنا وإما أن يكون ناميا ، والنامي إما أن يكون حيوانا أو نباتا ، والحيوان إما إنسان أو غير إنسان فالدواب أعلى درجات المخلوقات في عالم العناصر للإنسان.

فإن قيل : كيف يقال لما علته الخلق من الأرض وجه الأرض وظهر الأرض مع أن الظهر مقابله الوجه فهو كالمتضاد؟ أجيب : بأن الأرض كالدابة الحاملة للأثقال والحمل يكون على

٤٠٩

الظهر ، وأما وجه الأرض فلأن الظاهر من باب والبطن والباطن من باب فوجه الأرض ظهر ؛ لأنه هو الظاهر وغيره منها باطن وبطن.

(وَلكِنْ) لم يعاملهم معاملة المؤاخذ المناقش بل يحلم عنهم فهو (يُؤَخِّرُهُمْ) أي : في الحياة الدنيا ثم في البرزخ (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي : سماه في الأزل لانقضاء أعمارهم ثم يبعثهم من قبورهم وهو تعالى لا يبدل القول لديه لما له من صفات الكمال (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) أي : الفناء الإعدامي قبض كل واحد منهم عند أجله ، أو الإيجاد الإبقائي بعث كلا منهم فجازاه بعمله (فَإِنَّ اللهَ) أي : الذي له الصفات العليا (كانَ) ولم يزل (بِعِبادِهِ) الذين أوجدهم ولا شريك له في إيجاد واحد منهم بجميع ذواتهم وأحوالهم (بَصِيراً) أي : بالغ البصر والعلم بمن يستحق العذاب ومن يستحق الثواب ، قال ابن عباس : يريد أهل طاعته وأهل معصيته ، وما رواه البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثمانية أبواب الجنة أن ادخل من أي الأبواب شئت» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٣ / ٦٢٩.

٤١٠

سورة يس

مكية وهي ثلاث وثمانون آية ، وسبعمائة وتسعة وعشرون كلمة ، وثلاثة آلاف حرف

وتسمى أيضا : القلب والدافعة والقاضية والمعممة تعم صاحبها بخير الدارين ، وتدفع عنه كل سوء وتقضي له كل حاجة ، والبيضاوي ذكر هذه التسمية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال شيخنا القاضي زكريا : لم أره ولكن المثبت مقدم على النافي.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) أي : الذي جل ملكه على أن يحاط بمقداره (الرَّحْمنِ) الذي جعل إنذار يوم الجمع رحمة عامة (الرَّحِيمِ) الذي أنار قلوب أوليائه بالاجتهاد ليوم لقائه وقوله تعالى :

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧))

(يس) كألم في المعنى والإعراب وقال ابن عباس : يس قسم ، وروي عن شعبة أن معناه يا إنسان بلغة طيّىء على أن أصله يا أنيسين فاقتصر على شطره لكثرة النداء به كما قيل : م الله في أيمن الله ، وقال أكثر المفسرين : يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله الحسن وسعيد بن جبير وجماعة وقال أبو

٤١١

العالية : يا رجل وقال أبو بكر الوراق : يا سيد البشر.

قال ابن عادل في ذكر هذه الحروف أوائل السور : أمور تدل على أنها غير خالية من الحكمة ، لكن علم الإنسان لا يصل إليها والذي يدل على أنها فيها حكمة هو أن الله عزوجل ذكر من الحروف نصفها وهي أربعة عشر حرفا نصف ثمانية وعشرين حرفا هي جميع الحروف التي في لسان العرب على قولنا : الهمزة ألف متحركة ، ثم إن الله تعالى قسم الحروف ثلاثة أقسام تسعة أحرف من الألف إلى الذال ، والتسعة الأخيرة من الفاء إلى الياء وعشرة في الوسط من الراء إلى الغين ، وذكر من القسم الأول حرفين الألف والحاء ، وترك سبعة وترك من القسم الأخير حرفين هما الألف واللام ، وذكر سبعة ولم يترك من القسم الأول من حروف الحلق والصدر إلا واحدا لم يذكره وهو الخاء ، ولم يذكر من القسم الأخير من حروف الشفة إلا واحدا لم يتركه وهو الميم والعشر الأوسط ذكر منه حرفا وترك حرفا فترك الزاي وذكر الراء ، وذكر السين وترك الشين وذكر الصاد وترك الضاد وذكر الطاء وترك الظاء وذكر العين وترك الغين ، وليس لها أمر يقع اتفاقا بل هو ترتيب مقصود فهو لحكمة لكنها غير معلومة.

وهب أن واحدا يدعي فيه شيئا فماذا يقول في كون بعض السور مفتتحة بحرف كسورة ن وق وص ، وبعضها بحرفين كسورة حم ويس وطس وطه ، وبعضها بثلاثة أحرف كألم وطسم والر ، وبعضها بأربعة أحرف كسورة المر والمص ، وبعضها بخمسة أحرف كسورة حم عسق وكهعيص.

وهب أن قائلا يقول : إن هذه إشارة بأن الكلام إما حرف وإما فعل وإما اسم ، والحرف كثيرا ما جاء على حرف كواو العطف وفاء التعقيب وهمزة الاستفهام وكاف التشبيه وباء الإلصاق وغيرها ، وجاء على حرفين كمن للتبعيض وأو للتخيير وأم للاستفهام المتوسط وإن للشرط وغيرها ، والفعل والاسم والحرف جاءت ثلاثة أحرف كإلى وعلى في الحرف وإلى وعلى في الاسم وألا يألوا بالواو ، وعلا يعلو في الفعل والاسم ، والفعل جاء على أربعة أحرف ، والاسم خاصة جاء على ثلاثة أحرف وأربعة وخمسة كعجل ومسجد وجردحل.

فما جاء في القرآن إشارة إلى أن تركيب العربية من هذه الحروف على هذه الوجوه فماذا يقول هذا القائل في تخصيص بعض السور بالحرف الواحد والبعض بأكثر فلا يعلم ما السر إلا الله تعالى ، ومن أعلمه الله تعالى به.

وإذا علم هذا فالعبادة منها قلبية ومنها لسانية ومنها جارحية ، وكل واحد منها قسمان : قسم عقل معناه وحقيقته ، وقسم لم يعلم ، أما القلبية مع أنها أبعد عن الشك والجهل فمنها ما لم يعلم دليله عقلا ، وإنما وجب الإيمان به والاعتقاد سمعا كالصراط الذي هو أدق من الشعر وأحد من السيف ويمر عليه المؤمن كالبرق الخاطف ، والميزان الذي توزن به الأعمال التي لا ثقل لها في نظر الناظر ، وكيفية الجنة والنار ، فإن هذه الأشياء وجودها لم يعلم بدليل عقلي ، وإنما المعلوم بالعقل إمكانها ووقوعها معلوم مقطوع به بالسمع ، ومنها ما علم كالتوحيد والنبوة وقدرة الله تعالى وصدق الرسل ، وكذلك في العبادات الجارحية ما علم معناه وما لم يعلم كمقادير النصب وعدد الركعات.

والحكمة في ذلك أن العبد إذا أتى بما أمر به من غير أن يعلم ما فيه من الفائدة فلا يكون الإتيان إلا لمحض الفائدة بخلاف ما لم تعلم الفائدة ، فربما تأتي الفائدة وإن لم يؤمر كما لو قال

٤١٢

السيد لعبده : انقل هذه الحجارة من ههنا ولم يعلمه بما في النقل فنقلها ، ولو قال : انقلها فإن تحتها كنزا هو لك فإنه ينقلها وإن لم يؤمر.

وإذا علم هذا فكذلك في العبادات اللسانية الذكرية يجب أن يكون ما لم يفهم معناه إذا تكلم به العبد علم أنه لا يعقل غير الانقياد لأمر المعبود الإلهي فإذا قال : حم طس يس علم أنه لا يذكر ذلك لمعنى يفهمه بل يتلفظ به امتثالا لما أمر به ، انتهى كلام ابن عادل بحروفه وهو كلام دقيق ، وقرأ يس بإمالة الياء شعبة وحمزة والكسائي ، والباقون بالفتح ، وأظهر النون من يس عند واو (وَالْقُرْآنِ) قالون وابن كثير وأبو عمرو وحفص وحمزة ، وأدغم الباقون ، وهي واو القسم أو العطف إن جعل يس مقسما به ، ثم وصف القرآن بقوله تعالى : (الْحَكِيمِ) أي : المحكم بعظيم النظم وبديع المعاني.

وقوله تعالى : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي : الذين حكمت عقولهم على دواعي نفوسهم فصاروا بما وهبهم الله من القوة النورانية وبما تخلقوا به من أوامره ونواهيه كالملائكة الذين تقدم ذكرهم في السورة الماضية إنهم رسله جواب القسم وهو رد على الكفار حيث قالوا : لست مرسلا ، فإن قيل : المطلب يثبت بالدليل لا بالقسم فما الحكمة بالإقسام؟ أجيب : بأوجه : أولها : أن العرب كانوا يتقون الأيمان الفاجرة ، وكانوا يقولون إن الأيمان الفاجرة توجب خراب العالم ، وصحح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك بقوله : «اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع» (١) ثم إنهم كانوا يقولون : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصيبه من آلهتهم وهي الكواكب عذاب ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحلف بأمر الله وإنزال كلامه عليه بأشياء مختلفة ، وما كان يصيبه عذاب بل كان كل يوم أرفع شأنا وأمنع مكانا فكان ذلك يوجب اعتقاد أنه ليس بكاذب.

ثانيها : أن المناظرين إذا وقع بينهما كلام وغلب أحدهما الآخر بتمشية دليله وأسكته يقول المغلوب : إنك قررت هذا بقوة جدالك وأنت خبير في نفسك بضعف مقالتك ، وتعلم أن الأمر ليس كما تقول وإن أقمت عليه الدليل صورة وعجزت أنا على القدح فيه ، وهذا كثير الوقوع بين المتناظرين فعند هذا لا يجوز أن يأتي هو بدليل آخر ؛ لأن الساكت المنقطع يقول في الدليل الآخر ما قاله في الأول فلا يجد أمرا إلا اليمين ، فكذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام البراهين وقالت الكفرة (ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) [سبأ : ٤٣] (وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [سبأ : ٤٣] فالتمسك بالأيمان لعدم فائدة الدليل.

ثالثها : أن هذا ليس بمجرد الحلف بل دليل خرج في صورة اليمين ؛ لأن القرآن معجزة ، ودليل كونه مرسلا هو المعجزة والقرآن كذلك ، فإن قيل : لم لم يذكر في صورة الدليل وما الحكمة في ذكر الدليل في صورة اليمين؟ أجيب : بأن الدليل إذا ذكر في صورة اليمين ، واليمين لا يقع ولا سيما من العظيم الأعلى أمر عظيم والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه فلصورة اليمين يقبل عليه السامع لكونه دليلا شافيا يسر به الفؤاد فيقع في السمع وفي القلب.

وقوله تعالى : (عَلى صِراطٍ) أي : طريق واسع واضح (مُسْتَقِيمٍ) أي : هو التوحيد والاستقامة في الأمر ، يجوز أن يكون متعلقا بالمرسلين تقول : أرسلت عليه كذا قال تعالى (وَأَرْسَلَ

__________________

(١) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ١٠ / ٣٥ ، والطبراني في الأوسط ٢ / ١٩.

٤١٣

عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) [الفيل : ٣] وأن يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكن في (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) لوقوعه خبرا ، وأن يكون حالا من المرسلين ، وأن يكون خبرا ثانيا لإنك. وقرأ قنبل «سراط» بالسين عوضا عن الصاد ، وخلف بالإشمام وهو بين الصاد والزاي ، والباقون بالصاد الخالصة.

ولما كان كأنه قيل : ما هذا الذي أرسل به؟ كان كأنه قيل جوابا : هو القرآن الذي وقع الإقسام به وهو : (تَنْزِيلَ) أو حال كونه تنزيل (الْعَزِيزِ) أي : المتصف بجميع صفات الجلال (الرَّحِيمِ) أي : الحاوي لجميع صفات الإكرام الذي ينعم على من يشاء من عباده بعد الإنعام بإيجادهم فهو الواحد المنفرد في ملكه ، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي تنزيل بالنصب على الحال كما مر ، أو بإضمار أعني ، والباقون بالرفع على أنه خبر مبتدأ مضمر كما مر.

ولما ذكر تعالى المرسل وهو الله تعالى ، والمرسل وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمرسل به وهو القرآن ذكر المرسل لهم بقوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً) أي : ذوي بأس وقوة وذكاء وفطنة (ما أُنْذِرَ) أي : لم تنذر أصلا (آباؤُهُمْ) أي : لم ينذروا في زمن الفترة (فَهُمْ) أي : بسبب زمان الفترة (غافِلُونَ) أي : عن الإيمان والرشد وقوله تعالى :

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) فيه وجوه : أشهرها : أن المراد بالقول هو قوله تعالى : «لقد حق القول مني لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين» (١) ثانيها : أن معناه لقد سبق في علمه تعالى أن هذا يؤمن وهذا لا يؤمن فحق القول أي : وجب وثبت بحيث لا يبدل بغيره كما قال تعالى (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) [ق : ٢٩] ثالثها : المراد لقد حق القول الذي قاله الله تعالى على لسان الرسل من التوحيد وغيره (فَهُمْ) أي : بسبب ذلك (لا يُؤْمِنُونَ) أي : بما يلقى إليهم من الإنذار بل يزيدهم عمى استكبارا في الأرض ومكر السيء.

ونزل في أبي جهل وصاحبه : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) أي : بأن تضم إليها الأيدي ؛ لأن الغل يجمع اليد إلى العنق ، وذلك أن أبا جهل كان قد حلف لئن رأى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي ليرضخن رأسه ، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه به فلما رفعه أثبتت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده إلى عنقه ، فلما رجع إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر فقال رجل من بني مخزوم : أنا أقتله بهذا الحجر فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر فأعمى الله تعالى بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه ، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقالوا له : ما صنعت؟ فقال : ما رأيته ولقد سمعت كلاما وحال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه ولو دنوت منه لأكلني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

ووجه المناسبة لما تقدم أنه لما قال تعالى (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) وتقدم أن المراد به البرهان وقال بعد ذلك : بل عاينوا وأبصروا ما يقرب من الضرورة حيث التزقت يده بعنقه ، ومنع من إرسال الحجر وهو مضطر إلى الإيمان ولم يؤمن علم أنه لا يؤمن أصلا ، وقال أهل المعاني : هذا

__________________

(١) هذه مأخوذة من آيتين : الأولى : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣].

والثانية : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٥].

٤١٤

على طريق المثل ولم يكن هناك غل ، أراد منعناهم عن الإيمان بموانع ، فجعل الأغلال مثلا لذلك فهو تقرير لتصميمهم على الكفر والطبع على قلوبهم بحيث لا تغني عنهم الآيات والنذر بتمثيلهم بالذين غلت أيديهم.

وقال الفراء : معناه حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله كقوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) [الإسراء : ٢٩] معناه : ولا تمسكها عن النفقة ، ومناسبة هذا لما تقدم أن قوله تعالى (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يدخل فيه أنهم لا يصلون لقوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] أي :

صلاتكم عند بعض المفسرين والزكاة مناسبة للصلاة فكأنه قال : لا يصلون ولا يزكون ، واختلف في عود الضمير في قوله تعالى (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) على وجهين : أشهرهما : أنه عائد على الأغلال ؛ لأنها هي المحدث عنها ، ومعنى هذا الترتيب بالفاء أن الغل لغلظه وعرضه يصل إلى الذقن ؛ لأنه يلبس العنق جميعه ، قال الزمخشري : والمعنى أنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ثقالا بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطئ رأسه.

ثانيهما : أن الضمير يعود إلى الأيدي ، وإليه ذهب الطبري وعليه جرى الجلال المحلي ؛ لأن الغل لا يكون إلا في العنق واليدين ، ودل على الأيدي وإن لم تذكر الملازمة المفهومة من هذه الآلة أعني الغل. وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء ، والباقون بكسرها والأذقان جمع ذقن وهو مجمع اللحيين (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي : رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم في أنهم لا يلتفتون لفتة إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ولا يطأطؤن رؤوسهم له ، والإقماح رفع الرأس إلى فوق كالإقناع وهو من قمح البعير رأسه إذا رفعها بعد الشرب إما لبرودة الماء ، وإما لكراهة طعمه.

ولما كان الرافع رأسه غير ممنوع من النظر أمامه قال تعالى : (وَجَعَلْنا) أي : بعظمتنا (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) أي : الوجه الذي يمكنهم عمله (سَدًّا) فلا يسلكون طريق الاهتداء.

ولما كان الإنسان إذا انسدت عليه جهة مال إلى أخرى قال تعالى (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي : الوجه الذي هو خفي عنهم (سَدًّا) فلا يرجعون إلى الهداية فصارت كل جهة يلتفتون إليها منسدة فصاروا لذلك لا يمكنهم النظر إلى الحق ، ولا الخلوص إليه ، فلذلك قال تعالى (فَأَغْشَيْناهُمْ) أي : جعلنا على أبصارهم بما لنا من العظمة غشاوة (فَهُمْ) أي : بسبب ذلك (لا يُبْصِرُونَ) أي : لا يتجدد لهم هذا الوصف من إبصار الحق وما ينفعهم بصر ظاهر ولا بصيرة باطنة ، وأيضا الإنسان مبدؤه من الله تعالى ومصيره إليه فعمى الكافرين بأن لا يبصروا ما بين أيديهم من المصير إلى الله تعالى ، وما خلفهم من الدخول في الوجود بخلق الله تعالى كمن أحاط بهم سد فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم ووراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل ، وأيضا فإن السالك إذا لم يكن له بد من سلوك طريق فإن انسد الطريق الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع ، فإذا انسد الطريق من خلفه ومن قدامه والموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامته هلك.

فإن قيل : ذكر السد من بين الأيدي ومن الخلف ولم يذكره من اليمين والشمال فما الحكمة في ذلك؟ أجيب : بأنهم إذا قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء فصار ما إليه توجههم ما بين أيديهم ، فيجعل الله تعالى السد هناك فيمنعه من السلوك فكيفما توجه الكافر يجعل الله تعالى بين يديه سدا ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص سدا

٤١٥

بفتح السين في الموضعين وهو لغة فيه ، والباقون بالضم.

ولما منعوا بذلك حس البصر أخبر عن حس السمع بقوله تعالى : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ) أي : مستو ومعتدل غاية الاعتدال (أَأَنْذَرْتَهُمْ) أي : بما أخبرناك به من الزواجر المانعة للكفر (أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ؛ لأنهم ممن علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون ، وقد سبق أيضا في البقرة تفسيره والكلام على الهمزتين ، ثم بين الله تعالى الأقل الناجي ؛ لأنه المقصود بالذات بقوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ) أي : إنذارا ينفع المنذر فتتأثر عنه النجاة (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي : القرآن بالتأمل فيه والعمل به (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ) أي : خاف عقابه (بِالْغَيْبِ) أي : قبل موته ومعاينة أهواله أو في سريرته ولا يغتر برحمته فإنه تعالى كما هو رحمن رحيم منتقم جبار (فَبَشِّرْهُ) أي : بسبب خشيته بالغيب (بِمَغْفِرَةٍ) أي : لذنوبه وإن عظمت وتكررت.

ولما حصل العلم بمحو الذنوب عينها وأثرها قال تعالى (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي : هو الجنة فإنها دار لا كدر فيها بوجه ، والمقصود منها هو النظر لوجهه الكريم ، اللهم متعنا ومحبينا بالنظر إلى وجهك الكريم.

ولما ذكر تعالى خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحياء الموتى بقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ) أي : بما لنا من العظمة التي لا تضاهى (نُحْيِ الْمَوْتى) أي : كلهم حسّا بالبعث ، ومعنى بالإنقاذ إذا أردنا من ظلمة الجهل (وَنَكْتُبُ) أي : جملة عند نفخ الروح وشيئا فشيئا بعده فلا يتعدى التفصيل شيئا في ذلك الإجمال (ما قَدَّمُوا) أي : وأخروا من جميع أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم من صالح وغيره فاكتفى بأحدهما لدلالة الآخر عليه كقوله تعالى (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي : والبرد.

وقيل المعنى : ما أسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة كقوله تعالى (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) [الجمعة : ٧] أي : بما قدموا في الوجود وأوجدوه ، وقيل : نكتب نياتهم فإنها قبل الأعمال وقوله تعالى (وَآثارَهُمْ) فيه وجوه : أحدها : وهو مبني على التفسير الأخير ، وهو كتب النيات المراد بالآثار : الأعمال.

ثانيها : ما سنوا من سنة حسنة وسيئة ، فالحسنة كالكتب المصنفة والقناطر المبنية ، والسيئة كالظلامات المستمرة التي وضعتها الظلمة والكتب المضلة قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها من بعده كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها من بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» (١).

ثالثها : خطاهم إلى المساجد لما روى أبو سعيد الخدري قال : شكت بنو سلمة بعد منازلهم عن المسجد فأنزل الله تعالى (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يكتب خطواتكم ومشيكم ويثيبكم عليها» (٢) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم مشيا والذي ينتظر

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٠١٧ ، والترمذي في العلم حديث ٢٦٧٥ ، والنسائي في الزكاة حديث ٢٥٥٤.

(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٤١٦

الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصلي ثم ينام» (١) ، فإن قيل : الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال تعالى (نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ) ولم يقل نكتب ما قدموا ونحييهم؟ أجيب : بأن الكتابة معظمة لأمر الإحياء ؛ لأن الإحياء إن لم يكن للحساب لا يعظم ، والكتابة في نفسها إن لم يكن هناك إحياء ولا إعادة لا يبقى لها أثر أصلا ، والإحياء هو المعتبر والكتابة مؤكدة معظمة لأمره فلهذا قدم الإحياء ؛ لأنه تعالى قال : (إِنَّا نَحْنُ) وذلك يفيد العظمة والجبروت ، والإحياء العظيم يختص بالله تعالى والكتابة دونه تقرير التعريف الأمر العظيم وذلك مما يعظم ذلك الأمر العظيم.

ولما كان ذلك الأمر ربما أوهم الاقتصاد على ما ذكر من أحوال الآدميين دفع ذلك بقوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ) من أمور الدنيا والآخرة (أَحْصَيْناهُ) أي : قبل إيجاده بعلمنا القديم إحصاء وحفظا وكتبناه (فِي إِمامٍ) وهو اللوح المحفوظ (مُبِينٍ) أي : لا يخفى فيه شيء من جميع الأحوال والأقوال فهو تعميم بعد تخصيص ؛ لأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم وليست الكتابة مقتصرة عليه بل كل شيء محصى في إمام مبين ، وهذا يفيد أن شيئا من الأقوال والأفعال لا يعزب عن علم الله تعالى ولا يفوته كقوله تعالى (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر : ٥٢ ـ ٥٣] يعني ليس ما في الزبر منحصرا فيما فعلوه بل كل شيء مكتوب لا يبدل ، فإن القلم جف بما هو كائن فلما قال تعالى (نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) بين أن قبل ذلك كتابة أخرى ، فإن الله تعالى كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ، ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه ، قيل : إن ذلك مؤكد لمعنى قوله تعالى (وَنَكْتُبُ) ؛ لأن من يكتب شيئا في أوراق ويرميها قد لا يجدها فكأنه لم يكتب فقال تعالى : نكتب ونحفظ ذلك في إمام مبين وهو كقوله تعالى (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢].

وقوله سبحانه وتعالى : (وَاضْرِبْ) بمعنى واجعل (لَهُمْ) وقوله تعالى (مَثَلاً) مفعول أول ، وقوله تعالى : (أَصْحابَ) مفعول ثان والأصل : واضرب لهم مثلا مثل أصحاب (الْقَرْيَةِ) فترك المثل وأقيم الأصحاب مقامه في الإعراب كقوله تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] قال الزمخشري : وقيل لا حاجة إلى الإضمار بل المعنى : اجعل أصحاب القرية لهم مثلا ، أو مثل أصحاب القرية بهم قال المفسرون : المراد بالقرية أنطاكية وقوله تعالى (إِذْ جاءَهَا) إلخ بدل اشتمال من أصحاب القرية أي : إذ جاء أهلها (الْمُرْسَلُونَ) أي : رسل عيسى عليه‌السلام وإضافة إلى نفسه في قوله تعالى :

(إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) لأنه فعل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِذْ أَرْسَلْنا) إلخ بدل من إذ الأولى ، وفي هذا لطيفة وهي أن في القصة أن الرسل كانوا مبعوثين من جهة عيسى عليه‌السلام أرسلهم إلى أنطاكية فقال تعالى : إرسال عيسى عليه‌السلام هو إرسالنا ورسول رسول الله بإذن الله رسول الله فلا تفهم يا محمد أن أولئك كانوا رسل الرسول وإنما هو رسل الله تعالى ، فتكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا) ويؤيد هذا مسألة فقهية وهي أن كل وكيل للوكيل بإذن الموكل عند الإطلاق وكيل الموكل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه ، وينعزل إذا عزله الموكل الأول.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٦٥١ ، ومسلم في المساجد حديث ٦٦٢.

٤١٧

تنبيه : في بعث الاثنين حكمة بالغة وهي أنهما كانا مبعوثين من جهة عيسى عليه‌السلام بإذن الله تعالى ، فكان عليهما إنهاء الأمر إليه والإتيان بما أمر الله تعالى ، والله سبحانه عالم بكل شيء لا يحتاج إلى شاهد يشهد عنده ، وأما عيسى عليه‌السلام فبشر فأمر الله تعالى بإرسال اثنين ليكون قولهما على قومهما عند عيسى عليه‌السلام حجة ثابتة ، وقرأ أبو عمرو بكسر الهاء والميم في الوصل ، وحمزة والكسائي بضمهما ، والباقون بكسر الهاء وضم الميم وأما الوقف فحمزة بضم الهاء ، والباقون بكسرها ، والجميع في الوقف بسكون الميم. (فَكَذَّبُوهُما) أي : مع ما لهما من الآيات ؛ لأن من المعلوم أنا ما أرسلنا رسولا إلا كان معه من الآيات ما مثله آمن عليه البشر سواء أكان عنا من غير واسطة ، أو كان بواسطة رسولنا كما كان للطفيل بن عمرو الدوسي ذي النورين لما ذهب إلى قومه وسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تكون له آية فكانت نورا في جبهته ، ثم سأل أن تكون في غير وجهه فكانت في سوطه.

ولما كان المتظافر على الشيء أقوى لشأنه وأعون على ما يراد منه تسبب عن ذلك قوله تعالى (فَعَزَّزْنا) أي : قوينا (بِثالِثٍ) يقال : عزز المطر الأرض أي : قواها ولبدها ويقال لتلك الأرض العزاز وكذا كل أرض صلبة ، وتعزز لحم الناقة أي : صلب وقوي والمفعول محذوف أي : فقويناهما بثالث ، أو فغلبناهما بثالث ؛ لأن المقصود من البعثة نصرة الحق لا نصرتهما ، والكل كانوا مقوين للدين بالبرهان قال وهب : اسم المرسلين يحيى ويونس ، واسم الثالث شمعون ، وقال كعب : الرسولان صادق ومصدوق والثالث : سلوم ، وقرأ شعبة بتخفيف الزاي الأولى ، والباقون بتشديدها والزاي الثانية ساكنة بلا خلاف. (فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) وذلك أنهم كانوا عبدة أصنام فأرسل إليهم عيسى عليه‌السلام اثنين فلما قربا من المدينة رأيا حبيبا النجار يرعى غنما فسلما عليه فقال : من أنتما؟ فقالا : رسولا عيسى عليه‌السلام يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن فقال : أمعكما آية؟ قالا : نعم نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى فقال : إن لي ابنا مريضا منذ سنين قالا : فانطلق بنا ننظر حاله فأتى بهما إلى منزله فمسحاه فقام في الوقت بإذن الله تعالى صحيحا ففشا الخبر في المدينة وآمن حبيب النجار ، وشفى الله تعالى على أيديهما كثيرا من المرضى وكان لهم ملك اسمه أنطيخس وكان من ملوك الروم فانتهى الخبر إليه فدعاهما فقال لهما : من أنتما؟ فقالا : رسولا عيسى عليه‌السلام قال : وفيما جئتما؟ قالا : ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر قال : أولنا إله دون آلهتنا؟ قالا : نعم من أوجدك وآلهتك فقال : قوما حتى أنظر في أمركما وأمر بحبسهما وجلد كل واحد منهما مائة جلدة ، فلما كذبا وضربا بعث عيسى عليه‌السلام رأس الحواريين شمعون الصفا على أثرها لينصرهما ، فدخل البلد متنكرا وجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به وأوصلوا خبره إلى الملك فدعاه فرضي عشرته وأنس به وأكرمه ، ثم قال له ذات يوم : أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعوا إلى غير دينك فهل كلمتهما وسمعت قولهما؟ فقال الملك : حال الغضب بيني وبين ذلك قال : فإن رأى الملك دعاهما حتى نطلع على ما عندهما فدعاهما الملك فقال لهما شمعون : من أرسلكما إلى هاهنا؟ قالا : الله تعالى الذي خلق كل شيء وليس له شريك فقال لهما شمعون : فصفاه وأوجزا قالا : يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد قال لهما شمعون : وما آيتكما؟ قالا : ما يتمنى الملك فدعا بغلام مطموس العينين موضع عينيه كالجبهة فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر فأخذا

٤١٨

بندقتين من الطين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما فتعجب الملك فقال شمعون للملك : أرأيت إن سألت إلهك يصنع مثل هذا حتى يكون لك الشرف ولآلهتك؟ فقال الملك : ليس لي عنك سر إن إلهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع ، وكان شمعون إذا دخل الملك على الصنم يدخل بدخوله ويصلي كثيرا ويتضرع حتى ظنوا أنه على ملتهم ، ثم قال الملك لهما : إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما قالا : إلهنا قادر على كل شيء فقال الملك : إن هنا ميتا مات منذ سبعة أيام ابن لدهقان وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه ، وكان غائبا فجاؤوا بالميت وقد تغير وأروح فجعلا يدعوان ربهما علانية وجعل شمعون يدعو ربه سرا ، فقام الميت وقال : إني دخلت سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله تعالى ، ثم قال : فتحت أبواب السماء فرأيت شابا حسنا يشفع لهؤلاء الثلاثة قال الملك : ومن الثلاثة؟ قال : شمعون وهذان وأشار إلى صاحبيه فتعجب الملك لما علم ، فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك أخبره بالحال ودعاه فآمن الملك وآمن قوم وكفر آخرون ، فمن لم يؤمن صاح عليهم جبريل فهلكوا.

وقيل : إن ابنة الملك كانت قد توفيت ودفنت فقال شمعون للملك : اطلب من هذين الرجلين أن يحييا ابنتك فطلب الملك منهما ذلك فقاما وصليا ودعوا الله تعالى وشمعون معهما في السر فأحيا الله تعالى المرأة ، ثم انشق القبر عنها فخرجت وقالت : أسلموا فإنهما صادقان قالت : ولا أظنكم تسلمون ثم طلبت من الرسولين أن يرداها إلى مكانها فذرا ترابا على رأسها فعادت إلى قبرها كما كانت ، وقال ابن إسحاق عن كعب ووهب : بل كفر واجتمع هو وقومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيبا وهو على باب المدينة بالأقصى ، فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين.

(قالُوا) أي : أهل القرية للرسل (ما أَنْتُمْ) أي : وإن زاد عددكم (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) لا مزية لكم علينا فما وجه الخصوصية لكم في كونكم رسلا دوننا ، فجعلوا كونهم بشرا مثلهم دليلا على عدم الإرسال ، وهذا عام في المشركين قالوا في حق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] وقد استوينا في البشرية فلا يمكن الرجحان ، فرد الله عليهم بقوله سبحانه (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] وبقوله تعالى : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) [الشورى : ١٣] إلى غير ذلك.

تنبيه : رفع بشر لانتقاض النفي المقتضي إعمال ما بإلا ثم قالوا (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ) أي : العام الرحمة ، فعموم رحمته مع استوائنا في عبوديته يقتضي أن يسوي بيننا في الرحمة فلا يخصكم بشيء دوننا ، وأغرقوا في النفي بقولهم (مِنْ شَيْءٍ) أي : وحي ورسالة (إِنْ) أي : ما (أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) أي : في دعوى رسالة حالا ومآلا.

(قالُوا) أي : الرسل (رَبُّنا) أي : الذي أحسن إلينا (يَعْلَمُ) أي : ولهذا يظهر على أيدينا الآيات (إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) استشهدوا بعلم الله تعالى وهو يجري مجرى القسم ، وزادوا اللام المؤكدة ؛ لأنه جواب عن إنكارهم.

(وَما عَلَيْنا) أي : وجوبا من قبل من أرسلنا (إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي : المؤيد بالأدلة القطعية من الحجج القولية والفعلية بالمعجزات ، وهي إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الميت وغيرهما.

فما كان جوابهم بعد هذا إلا أن : (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا) أي : تشاء منا (بِكُمْ) وذلك أن المطر

٤١٩

حبس عنهم فقالوا : أصابنا هذا بشؤمكم ولاستغرابهم ما ادعوه واستقباحهم له ونفرتهم عنه قالوا : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) أي : عن مقالتكم هذه (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) أي : لنقتلنكم قال قتادة : بالحجارة ، وقيل : لنشتمنكم وقيل : لنقتلنكم شر قتلة (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا) أي : لا من غيرنا (عَذابٌ أَلِيمٌ) كأنهم قالوا : لا نكتفي برجمكم بحجر وحجرين بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو العذاب الأليم ، أو يكون المراد وليمسنكم بسبب الرجم منا عذاب أليم أي : مؤلم ، وإن قلنا : الرجم : الشتم فكأنهم قالوا : ولا يكفينا الشتم بل شتم يؤدي إلى الضرب والإيلام الحسي ، وإذا فسرنا أليم بمعنى مؤلم ففعيل بمعنى مفعل قليل ، ويحتمل أن يقال : هو من باب قوله تعالى (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] أي : ذات رضا أي : عذاب ذو ألم فيكون فعيلا بمعنى فاعل وهو كثير.

ثم أجابهم المرسلون بأن : (قالُوا طائِرُكُمْ) أي : شؤمكم الذي أحل بكم البلاء (مَعَكُمْ) وهو أعمالكم القبيحة التي منها تكذيبكم وكفركم فأصابكم الشؤم من قبلكم ، وقال ابن عباس والضحاك : حظكم من الخير والشر ، والهمزة في قوله تعالى (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) أي : وعظتم وخوفتم همزة استفهام وجواب الشرط محذوف أي : تطيرتم وكفرتم فهو محل الاستفهام والمراد به التوبيخ ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الثانية ، وأدخل قالون وأبو عمرو بينهما ألفا ، وورش وابن كثير بغير إدخال ، والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال.

ولما كان ذلك لا يصح أن يكون سببا للتطير بوجه أضربوا عنه بقولهم (بَلْ) أي : ليس الأمر كما زعمتم في أن التذكير بسبب التطير بل (أَنْتُمْ قَوْمٌ) أي : غركم ما آتاكم الله من القوة على القيام فيما تريدون (مُسْرِفُونَ) أي : عادتكم الخروج عن الحدود والطغيان فعوقبتم لذلك.

ولما كان السياق لأن الأمر بيد الله تعالى ، فلا هادي لمن يضل ولا مضل لمن هدى فهو يهدي البعيد في البقعة والنسب إذا أراد ، ويضل القريب فيهما إذا أراد وكان بعد الدار ملزوما في الغالب لبعد النسب قدّم مكان المجيء على فاعله بيانا لأن الدعاء نفع الأقصى ولم ينفع الأدنى فقال تعالى : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا) أي : أبعد بخلاف ما مر في القصص ولأجل هذا الغرض عدل عن التعبير بالقرية وقال (الْمَدِينَةِ) لأنها أدل على الكبر المستلزم بعد الأطراف وجمع الأخلاط ولما بين الفاعل بقوله تعالى : (رَجُلٌ) بين اهتمامه بالنهي عن المنكر ومسابقته إلى إزالته كما هو الواجب بقوله تعالى : (يَسْعى) أي : يسرع في مشيه فوق المشي ودون العدو حرصا على نصيحة قومه.

تنبيه : في تنكير الرجل مع أنه كان معلوما معروفا عند الله تعالى فيه فائدتان ، الأولى : أن يكون تعظيما لشأنه أي : رجل كامل في الرجولية ، الثانية : أن يكون مفيدا ليظهر من جانب المرسلين أمر رجل من الرجال لا معرفة لهم به فلا يقال : إنهم تواطؤوا ، والرجل هو حبيب النجار كان ينحت الأصنام ، وقال السدي : كان قصارا ، وقال وهب : كان يعمل الحرير وكان سقيما قد أسرع فيه الجذام وكان منزله عند أقصى باب في المدينة ، وكان مؤمنا وآمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل وجوده حين صار من العلماء بكتاب الله تعالى ورأى فيه نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعثته وقوله : (يَسْعى) تبصير للمسلمين وهداية لهم ليبذلوا جهدهم في النصح.

ولما تشوفت النفس إلى الداعي إلى إتيانه بينه بقوله تعالى : (قالَ) واستعطفهم بقوله تعالى : (يا قَوْمِ) وأمرهم بمجاهدة النفوس بقوله (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) أي : في عبادة الله تعالى وحده ،

٤٢٠