تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٣٦

سفيان بن حرب ومن تبعه من قريش ، ومن تبعه من كنانة وعيينة بن حصن ، ومن تبعه من غطفان وطليحة ، ومن تبعه من بني أسد وبنو الأعور ، ومن تبعهم من بني سليم وقريظة ، كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد فنقضوا ذلك وظاهروا المشركين فأنزل الله تعالى فيهم : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ).

وكانت غزوة بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة ، وعن موسى بن عقبة أنها في سنة أربع قال العلماء بالسير : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أصبح في الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون عن الخندق إلى المدينة ووضعوا السلاح فلما كان الظهر أتى جبريل عليه‌السلام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس والسرج فقال : ما هذا يا جبريل قال : من متابعة قريش فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه فقال : يا رسول الله إن الملائكة لم تضع السلاح إن الله تعالى يأمرك بالسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم ، فإن الله دقهم دق البيض على الصفا وإنهم لك طعمة فأذن في الناس أن من كان سامعا مطيعا فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة وقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرها الناس.

فسار عليّ حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجع حتى لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالطريق فقال : يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخباث قال : أظنك سمعت فيّ منهم أذى قال : نعم يا رسول الله قال : لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا ، فلما دنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حصنهم قال : يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمة قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولا ، ومر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه قبل أن يصل إلى بني قريظة قال : هل مر بكم أحد قالوا : مر بنا دحية بن خليفة على بغلة شهباء عليها قطيفة من ديباج قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف في قلوبهم الرعب» (١).

ولما أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني قريظة نزل على بئر من آبارها فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد صلاة العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة» (٢) فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم الله تعالى بذلك ، ولا عنفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده ، فلما أيقنوا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد : يا معشر يهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما نزل ، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم قالوا : وما هي قال : نبايع هذا الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين أنه نبي مرسل ، وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنوا على دياركم وأبنائكم وأموالكم ونسائكم.

قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره ، قال : فإذا أبيتم هذا فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وأصحابه ، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا أحدا ولا شيئا

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره ٢١ / ٩٥ ، ٩٦ ، وابن كثير في البداية والنهاية ١ / ١٦٦.

(٢) أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤١١٩ ، ومسلم في الجهاد حديث ١٧٧٠.

٣٠١

نخشى عليه وإن نظهر فلعمري لتحدث النساء والأبناء قالوا : نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم ، قال : فإن أبيتم هذه فإن الليلة ليلة السبت فعسى أن يكون محمد وأصحابه قد آمنوا ، فانزلوا لعلنا أن نصيب منهم غرة قالوا : نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا فتركهم.

قال علماء السير : وحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تنزلون على حكمي؟ فأبوا وكانوا قد طلبوا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس يستشيرونه في أمرهم ، فأرسله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال والنساء والصبيان يبكون في وجهه ، فرق لهم فقالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال : نعم وأشار بيده إلى حلقه يعني أنه يقتلكم قال أبو لبابة : فو الله ما زالت قدماي حتى قد عرفت أني خنت الله ورسوله ، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال : لا أبرح من مكاني حتى يتوب الله تعالى علي مما صنعت ، وعاهد الله تعالى لا يطأ بني قريظة أبدا ولا يراني الله تعالى في بلد خنت فيه الله ورسوله.

فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبره وأبطأ عليه قال : أما لو جاءني لاستغفرت له ، فأما إذ فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : تنزلون على حكم سعد بن معاذ فرضوا به فقال سعد : حكمت فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم ، فكبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة» (١) ، ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقا وقدمهم فضرب أعناقهم من ثمانمائة إلى تسعمائة وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير (وَقَذَفَ) أي : الله تعالى (فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي كما قال الله تعالى : (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) وهم الرجال يقال : كانوا ستمائة (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) وهم النساء والذراري يقال : كانوا سبعمائة وخمسين ، ويقال : تسعمائة.

فإن قيل : ما فائدة تقديم المفعول في الأول حيث قال تعالى : (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) وتأخيره في الثاني حيث قال : (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) أجيب : بأن الرازي قال : ما من شيء من القرآن إلا وله فائدة ، منها ما يظهر ومنها ما لا يظهر ، والذي يظهر من هذا والله أعلم ؛ أن القائل يبدأ بالأهم فالأهم والأقرب فالأقرب ، والرجال كانوا مشهورين ، وكان القتل واردا عليهم ، وكان الأسراء هم النساء والذراري ولم يكونوا مشهورين ، والسبي والأسر أظهر من القتل لأنه يبقى فيظهر لكل أحد أنه أسير فقدم من المحلين ما اشتهر على الفعل القائم به ، ومن الفعلين ما هو أشهر قدمه على المحل الخفي انتهى. وقرأ ابن عامر والكسائي الرعب بضم العين والباقون بسكونها.

ولما ذكر الناطق بقسميه ذكر الصامت بقوله تعالى : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ) من الحدائق والمزارع (وَدِيارَهُمْ) أي : حصونهم لأنه يحامى عليها ما لا يحامى على غيرها (وَأَمْوالَهُمْ) من النقد والماشية والسلاح والأثاث وغيرها ، فقسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان ولفارسه سهم» (٢) ، كما للراجل ممن ليس له فرس سهم. وأخرج منها الخمس وكانت

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٣٠٤٣ ، ومسلم في الجهاد حديث ١٧٦٨ ، وأحمد في المسند ٣ / ٢٢ ، ٦ / ١٤٢.

(٢) أخرجه الترمذي في السير حديث ١٥٥٤ ، وابن ماجه في الجهاد حديث ٢٨٥٤.

٣٠٢

الخيل ستة وثلاثين فرسا ، وكان هذا أول فيء وضع فيه السهمان ، وجرى على سننه في المغازي واصطفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سباياهم ريحانة بنت عمرو بن قريظة.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرص عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت : يا رسول الله تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك فتركها ، وكانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلا اليهودية فعزلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووجد في نفسه من أمرها ، فبينما هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال : إن هذا لثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة ، فجاءه فقال : يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسره ذلك.

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقالت الأنصار في ذلك فقال : إنكم في منازلكم وقال عمر : إنا نخمس كما خمست يوم بدر ، قال : لا إنما جعلت هذه طعمة لي دون الناس قال : رضينا بما صنع الله ورسوله.

وأنزل الله تعالى توبة أبي لبابة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في بيت أم سلمة ، فسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضحك فقالت : مم تضحك يا رسول الله أضحك الله تعالى سنك فقال : تيب على أبي لبابة فقالت : ألا أبشره بذلك يا رسول الله قال : بلى إن شئت ، فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب فقالت : يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله تعالى عليك ، فثار الناس إليه ليطلقوه فقال : لا والله حتى يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يطلقني بيده ، فلما مر عليه خارجا إلى الصبح أطلقه ، ومات سعد بن معاذ بعد انقضاء غزوة بني قريظة.

قالت عائشة : فحضره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر ، فو الذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي ، قالت : وكانوا كما قال الله تعالى (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] واختلف في تفسير قوله تعالى (وَأَرْضاً) أي : وأورثكم أرضا (لَمْ تَطَؤُها) فعن مقاتل أنها خيبر وعليه أكثر المفسرين ، وعن الحسن فارس والروم ، وعن قتادة كما تحدث أنها مكة ، وعن عكرمة كل أرض تفتح إلى القيامة ، ومن بدع التفسير أنه أراد نساءهم انتهى.

ولما كان ذلك أمرا باهرا سهله بقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ) أي : أزلا وأبدا بما له من صفات الكمال (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) هذا وغيره (قَدِيراً) أي : شامل القدرة ، روى أبو هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «لا إله إلا الله وحده أعز جنده ونصر عبده وغلب الأحزاب وحده فلا شيء بعده» (١).

ولما أرشد الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جانب ما يتعلق بجانب التعظيم لله تعالى بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) ذكر ما يتعلق بجانب الشفقة ، وبدأ بالزوجات فإنهن أولى الناس بالشفقة ولهذا قدمهن في النفقة فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) أي : نسائك (إِنْ كُنْتُنَ) أي : كونا راسخا (تُرِدْنَ) أي : اختيارا على (الْحَياةَ) ووصفها بما يزهد فيها ذوي الهمم ، ويذكر من له عقل بالآخرة بقوله تعالى : (الدُّنْيا) أي : ما فيها من السعة والرفاهية والنعمة (وَزِينَتَها) أي : المنافية لما أمرني به ربي من الإعراض عنه واحتقاره من أمرها لأنها أبغض خلقه إليه لأنها قاطعة عنه

__________________

(١) أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤١١٤ ، ومسلم في الحج حديث ١٢١٨ ، وأبو داود في المناسك حديث ١٩٠٥.

٣٠٣

(فَتَعالَيْنَ) أصله أن الآمر يكون أعلى من المأمور فيدعوه أن يرفع نفسه إليه ، ثم كثر حتى صار معناه أقبل وهو هنا كناية عن الإخبار والإرادة بعلاقة أن المخبر يدنو إلى من يخبره (أُمَتِّعْكُنَ) أي : بما أحسن به إليكن من متعة الطلاق ، وهي واجبة لزوجة لم يجب لها نصف مهر فقط بأن وجب لها جميع المهر ، أو كانت مفوضة لم توطأ ولم يفرض لها شيء صحيح.

أما في الأولى : فلأن المهر في مقابلة منفعة بضعها ، وقد استوفاها الزوج فتجب للإيحاش المتعة ، وأما في الثانية : فلأن المفوضة لم يحصل لها شيء ، فيجب لها متعة للإيحاش ، بخلاف من وجب لها النصف فلا متعة لها لأنه لم يستوف منفعة بضعها فيكفي نصف مهرها للإيحاش. هذا إذا كان الفراق لا بسببها ، وسن أن لا تنقص عن ثلاثين درهما أو ما قيمته ذلك ، وأن لا تبلغ نصف المهر ، فإن تراضيا على شيء فذاك ، وإلا قدرها قاض باجتهاده بقدر حالهما من يساره وإعساره ونسبها وصفاتها قال تعالى (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) [البقرة : ٢٣٦] (وَأُسَرِّحْكُنَ) أي : من حبالة عصمتي (سَراحاً جَمِيلاً) أي : طلاقا من غير مضارة ولا نوع حطة ولا مقاهرة.

(وَإِنْ كُنْتُنَ) أي : بما لكن من الجبلة (تُرِدْنَ اللهَ) أي : الآمر بالإعراض عن الدنيا (وَرَسُولَهُ) أي : المؤتمر بما أمره به من الانسلاخ عنها ، المبلغ للعباد جميع ما أرسله به من أمر الدنيا والدين ، لا يدع منه شيئا لما له عليكن وعلى سائر الناس من الحق بما يبلغهم عن الله تعالى (وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) أي : التي هي الحيوان بما لها من البقاء والعلو والارتقاء (فَإِنَّ اللهَ) بما له من جميع صفات الكمال (أَعَدَّ) أي : في الدنيا والآخرة (لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَ) أي : اللاتي يفعلن ذلك (أَجْراً عَظِيماً) تستحقر دونه الدنيا وزينتها ، ومن للبيان لأنهن كلهن محسنات.

قال المفسرون : سبب نزول هذه الآية : أن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألنه من عرض الدنيا شيئا ، وطلبن منه زيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض ، فهجرهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآلى أن لا يقربهن شهرا ولم يخرج إلى أصحابه فقالوا : ما شأنه وكانوا يقولون : طلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه ، فقال عمر : لأعلمن لكم شأنه قال : فدخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله أطلقتهن قال : لا فقلت : يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون : طلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه ، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن قال : نعم إن شئت.

فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه» (١) ونزل قوله تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣] فكنت أنا الذي استنبط ذلك الأمر ، وأنزل الله تعالى آية التخيير وكان تحت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسع نسوة ، خمس من قريش عائشة بنت أبي بكر ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأم سلمة بنت أبي أمية ، وسودة بنت زمعة ، وأربع من غير القريشيات : زينب بنت جحش الأسدية ، وميمونة بنت الحارث الهلالية ، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية.

فلما نزلت آية التخيير عرض عليهن رضي الله تعالى عنهن ذلك ، وبدأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعائشة رأس المحسنات إذ ذاك ، وكانت أحب أهله فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار

__________________

(١) أخرجه مسلم في الطلاق حديث ١٤٧٩.

٣٠٤

الآخرة ، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتابعنها على ذلك قال قتادة : فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال تعالى : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) [الأحزاب : ٥٢].

وعن جابر بن عبد الله قال : دخل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم ، فأذن لأبي بكر فدخل ، ثم أقبل عمر ثم استأذن فأذن له ، فوجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا قال : فقال لأقولن شيئا أضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال «هن حولي كما ترى يسألنني النفقة» ، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها كلاهما يقول : لا تسألن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا أبدا ليس عنده ، ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين يوما ، ثم نزلت هذه الآية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) [الأحزاب : ٢٨] حتى بلغ (لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب : ٢٩].

قال : فبدأ بعائشة فقال : يا عائشة إني أعرض عليك أمرا لا أحب أن تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك قالت : وما هو يا رسول الله فتلا عليها الآية فقالت : أفيك يا رسول الله أستشير أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت قال : لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها أن الله لم يبعثني معنتا ، ولكن بعثني معلما ميسرا (١).

قوله «واجما» أي : مهتما والواجم : الذي أسكته الهم ، وعلته الكآبة وقيل : الوجوم الحزن ، وقوله : فوجأت عنقها أي : دققته ، وقوله : لم يبعثني معنتا العنت : المشقة والصعوبة ، وروى الزهري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا ، قال الزهري : فأخبرني عروة عن عائشة قالت : فلما مضت تسع وعشرون أعدهن دخل عليّ فقلت : يا رسول الله إنه مضى تسع وعشرون أعدهن فقال : «إن الشهر تسع وعشرون» (٢).

تنبيه : اختلف العلماء في هذا الخيار هل كان ذلك تفويضا للطلاق إليهن حتى يقع بنفس الاختيار أو لا ، ذهب الحسن وقتادة وأكثر أهل العلم : إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق ، وإنما خيرهن على أنهن إذا اخترن الدنيا فارقهن لقوله تعالى : (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَ) ويدل عليه أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة : لا تعجلي حتى تستشيري أبويك ، وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور ، وذهب آخرون : إلى أنه كان تفويض طلاق ، ولو اخترن أنفسهن كان طلاقا.

واختلف العلماء في حكم التخيير : فقال عمر وابن مسعود وابن عباس : إذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها لا يقع شيء ، ولو اختارت نفسها وقع طلقة واحدة ، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وسفيان والشافعي وأصحاب الرأي ، إلا أن عند أصحاب الرأي : أنه يقع طلقة بائنة إذا اختارت نفسها.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الطلاق حديث ١٤٧٨.

(٢) أخرجه مسلم في الصيام حديث ١٠٨٣ ، والطلاق حديث ١٤٧٨ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣١٨.

٣٠٥

وعند الآخرين : رجعية. وقال زيد بن ثابت : إذا اختارت الزوج تقع طلقة واحدة ، وإن اختارت نفسها فثلاث وهو قول الحسن ورواية عن مالك ، وروي عن علي : أنها إذا اختارت زوجها تقع طلقة واحدة رجعية ، وإن اختارت نفسها فطلقة بائنة ، وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء.

وعن مسروق قال : ما أبالي خيرت امرأتي واحدة أو مائة أو ألفا بعد أن تختارني. قال الرازي : وهنا مسائل :

منها هل كان هذا التخيير واجبا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم لا ، والجواب : أن التخيير كان قولا واجبا من غير شك لأنه إبلاغ لرسالة لأن الله تعالى لما قال له : قل لهن صار من الرسالة ، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا ، والظاهر أنه للوجوب.

ومنها : أن واحدة منهن لو اختارت نفسها وقلنا : إنها لا تبين إلا بإبانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهل كان يجب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الطلاق أم لا ، الظاهر نظرا إلى منصب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يجب لأن الخلف في الوعد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير جائز ، بخلاف أحدنا فإنه لا يلزمه شرعا الوفاء بما يعد.

ومنها : أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره أم لا ، الظاهر أنها لا تحرم وإلا لم يكن التخيير ممكنا لها من التمتع بزينة الدنيا.

ومنها : أن من اختارت الله ورسوله هل كان يحرم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلاقها أم لا ، الظاهر الحرمة نظرا إلى منصب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على معنى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يباشره أصلا ، لا بمعنى أنه لو أتى به لعوقب أو عوتب انتهى.

ولما خيرهن واخترن الله ورسوله هددهن الله للتوقي عما يسوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأوعدهن بتضعيف العذاب بقوله : (يا نِساءَ النَّبِيِ) أي : المختارات له لما بينه وبين الله تعالى مما يظهر شرفه (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ) أي : سيئة من قول أو فعل كالنشوز وسوء الخلق واختيار الحياة الدنيا وزينتها على الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغير ذلك ، وقال ابن عباس : المراد هنا بالفاحشة : النشوز وسوء الخلق وقيل : هو كقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَ) [الزمر : ٦٥] وقرأ ابن كثير وشعبة (مُبَيِّنَةٍ) بفتح الياء التحتية أي : ظاهر فحشها ، والباقون بكسرها أي : واضحة ظاهرة في نفسها (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ) أي : بسبب ذلك (ضِعْفَيْنِ) أي : ضعفي عذاب غيرهن أي : مثيله وإنما ضوعف عذابهن لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن وأقبح لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة ، ولذلك كان ذم العقلاء للعاصي العالم أشد منه للعاصي الجاهل لأن المعصية من العالم أقبح ، ولذلك جعل حد الحر ضعفي حد العبد ، وعوتب الأنبياء بما لم يعاتب به غيرهم ، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي بالياء التحتية وألف بعد الضاد وتخفيف العين مفتوحة ، العذاب بالرفع ، وابن كثير وابن عامر بالنون ، ولا ألف بعد الضاد وتشديد العين مكسورة ، العذاب بالنصب ، وأبو عمرو بالياء وتشديد العين مفتوحة العذاب بالرفع. وقوله تعالى : (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) فيه إيذان بأن كونهن نساء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بمغن عنهن شيئا ، وكيف يغني عنهن وهو سبب مضاعفة العذاب ، فكان داعيا إلى تشديد الأمر عليهن غير صارف عنه.

ولما بين تعالى زيادة عقابهن أتبعه زيادة ثوابهن بقوله تعالى :

٣٠٦

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣))

(وَمَنْ يَقْنُتْ) أي : يطع (مِنْكُنَّ لِلَّهِ) الذي هو أهل لأن لا يلتفت إلى غيره (وَرَسُولِهِ) الذي لا ينطق عن الهوى فلا تخالفه فيما أمر به ولا تختار عيشا غير عيشه (وَتَعْمَلْ) أي : مع ذلك بجوارحها (صالِحاً) أي : في جميع ما أمر به سبحانه أو نهى عنه فلا تقتصر على عمل القلب (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) أي : مثلي ثواب غيرهن من النساء. قال مقاتل : مكان كل حسنة عشرين حسنة فمرة على الطاعة ، ومرة لطلبهن رضا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحسن الخلق وطيب المعاشرة والقناعة.

تنبيه : قوله تعالى : (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) في مقابلة قوله تعالى (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) وفيه لطيفة وهي أنه عند إيتاء الأجر ذكر المؤتي وهو الله تعالى ، وعند العذاب لم يصرح بالمعذب بل قال : يضاعف ، وهذا إشارة إلى كمال الرحمة والكرم ، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية في يعمل ، ويؤتها حملا على لفظ من وهو الأصل ، والباقون بالتاء الفوقية في يعمل على معنى من ، والنون في نؤتها على أن فيه ضمير اسم الله تعالى (وَأَعْتَدْنا) أي : هيأنا بما لنا من العظمة (لَها) أي : بسبب قناعتها مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المزيد للتخلي من الدنيا التي يبغضها الله تعالى مع ما في ذلك من توفير الحظ في الآخرة (رِزْقاً كَرِيماً) أي : في الدنيا والآخرة زيادة على أجرها.

أما في الدنيا : فلأن ما يرزقهن منه يوفقن لصرفه على وجه يكون فيه أعظم الثواب ولا يخشى من أجله نوع عقاب. وأما في الآخرة : فلا يوصف ولا يحد ولا نكد فيه أصلا ولا كدّ ، وهذا ما جرى عليه البقاعي وهو أولى مما جرى عليه كثير من المفسرين من الاقتصار على رزق الجنة ، وعلله الرازي بقوله : ووصف رزقا بكونه كريما مع أن الكريم لا يكون وصفا إلا للرازق ، وذلك

٣٠٧

إشارة إلى أن الرزق في الدنيا مقدر على أيدي الناس ، فإن التاجر يسترزق من السوقة ، والعاملون والصناع من المستعملين ، والملوك من الرعية والرعية منهم ، فالرزق في الدنيا لا يأتي بنفسه إنما هو مسخر للغير يكتسبه ويرسله إلى الأعيان ، وأما في الآخرة فلا يكون له مرسل وممسك في الظاهر فهو الذي يأتي بنفسه فلأجل هذا لا يوصف في الدنيا بالكريم إلا الرازق ، وفي الآخرة يوصف بالكريم نفس الرزق. انتهى.

ولما ذكر تعالى أن عذابهن ضعف عذاب غيرهن وأجرهن مثلا أجر غيرهن صرن كالحرائر بالنسبة إلى الإماء قال تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ) قال البغوي : ولم يقل كواحدة لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ، والمعنى : لستن كجماعة واحدة (مِنَ) جماعات (النِّساءِ) إذا تقصيت جماعة النساء واحدة واحدة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة. ومنه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) [النساء : ١٥٢] يريد بين جماعة واحدة منهم تسوية بين جميعهم في أنهم على الحق المبين وقوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] وقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٧] والحمل على الأفراد بأن يقال : ليست كل واحدة منكن كواحدة من آحاد النساء صحيح بل أولى ليلزم تفضيل الجماعة ، بخلاف الحمل على الجمع ، وعن ابن عباس معنى لستن كأحد من النساء : يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات ، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي.

ولما كان المعنى بل أنتن أعلى النساء ذكر شرط ذلك بقوله تعالى : (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) الله تعالى أي : جعلتن بينكن وبين غضب الله تعالى وغضب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقاية ، ثم سبب عن هذا النهي قوله تعالى : (فَلا تَخْضَعْنَ) أي : إذا تكلمتن بحضرة أجنبي (بِالْقَوْلِ) أي : بأن يكون لينا عذبا رخما ، والخضوع التطامن والتواضع واللين ، ثم سبب عن الخضوع قوله تعالى : (فَيَطْمَعَ) أي : في الخيانة (الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أي : فساد وريبة من فسق ونفاق أو نحو ذلك ، وعن زيد بن علي قال : المرض مرضان : مرض زنا ، ومرض نفاق ، وعن ابن عباس : أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله تعالى : (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) قال : الفجور والزنا قال : وهل تعرف العرب ذلك قال : نعم أما سمعت الأعشى وهو يقول (١) :

حافظ للفرج راض بالتقى

ليس ممن قلبه فيه مرض

والتعبير بالطمع للدلالة على أن أمنيته لا سبب لها في الحقيقة ؛ لأن اللين في كلام النساء خلق لهن لا تكلف فيه ، وأريد من نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التكلف للإتيان بهذه بل المرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع.

ولما نهاهن عن الاسترسال مع سجية النساء في رخاوة الصوت أمرهن بضده بقوله تعالى : (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي : يعرف أنه بعيد عن محلّ الطمع من ذكر الله وما تحتجن إليه من الكلام مما يوجب الدين والإسلام بتصريح وبيان من غير خضوع.

ولما أمرهن بالقول وقدمه لعمومه أتبعه الفعل بقوله تعالى : (وَقَرْنَ) أي : اسكن وامكثن

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٣٠٨

دائما (فِي بُيُوتِكُنَ) فمن كسر القاف وهم غير نافع وعاصم جعل الماضي قرر بفتح العين ، ومن فتحه وهو نافع وعاصم فهو عنده قرر بكسرها وهما لغتان. قال البغوي : وقيل وهو الأصح : أنه أمر من الوقار كقوله : من الوعد عدن ، ومن الوصل صلن أي : كن أهل وقار وسكون من قوله : وقر فلان يقر وقورا إذا سكن واطمأن انتهى. ومن فتح القاف فخم الراء ، ومن كسرها رقق الراء ، وعن محمد بن سيرين قال : نبئت أنه قيل لسودة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لك لا تحجين ولا تعتمرين كما تفعل أخواتك فقالت : قد حجبت واعتمرت ، وأمرني الله أن أقر في بيتي فو الله لا أخرج من بيتي حتى أموت ، قال فو الله ما خرجت من باب حجرتها حتى خرجت بجنازتها.

واختلف في معنى التبرج في قوله تعالى : (وَلا تَبَرَّجْنَ) فقال مجاهد وقتادة : هو التكسر والتغنج ، وقال ابن جريج : هو التبختر وقيل : هو إبراز الزينة وإبراز المحاسن للرجال ، وقرأ البزي بتشديد التاء في الوصل والباقون بالتخفيف ، واختلف أيضا في معنى قوله تعالى : (تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) فقال الشعبي : هي ما بين عيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال أبو العالية : هي زمن داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام ، كانت المرأة تتخذ قميصا من الدر غير مخيط الجانبين فيرى خلقها منه ، وقال الكلبي : كان ذلك في زمن نمروذ الجبار ، كانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره ، وتعرض نفسها على الرجال.

وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس عليهما‌السلام ، وكانت ألف سنة ، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل ، والآخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبل صباحا ، وفي النساء دمامة وكان نساء السهل صباحا ، وفي الرجال دمامة ، وإن إبليس أتى رجالا من أهل السهل وأجر نفسه منهم فكان يخدمهم ، واتخذ شيئا مثل الذي يزمر به الرعاء ، فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله ، فبلغ ذلك من حوله فأتوه وهم يستمعون إليه ، واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة فيتبرج النساء للرجال ويتزين الرجال لهن ، وأن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهنّ فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فنحوا إليهم فنزلوا معهم وظهرت الفاحشة بينهم فذلك قوله تعالى (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى).

وقال قتادة : ما قبل الإسلام وقيل : الجاهلية الأولى ما ذكرنا ، والجاهلية الأخرى قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان وقيل : الجاهلية الأولى ما كانوا عليه قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق في الإسلام ، ويعضده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي ذر كما في الصحيحين : «إن فيك جاهلية كفر وإسلام» (١) وقول البيضاوي عن أبي الدرداء ، قال ابن حجر : لم أجده عن أبي الدرداء وقيل : قد تذكر الأولى وإن لم تكن لها أخرى كقوله تعالى (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) [النجم : ٥٠] ولم تكن لها أخرى.

ولما أمرهن بلزوم البيوت للتخلية عن الشوائب أرشدهن إلى التحلية بالرغائب بقوله تعالى : (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ) أي : فرضا ونفلا صلة لما بينكن وبين الخالق (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥] (وَآتِينَ الزَّكاةَ) إحسانا إلى الخلائق وفي هذا بشارة بالفتوح

__________________

(١) أخرجه بنحوه البخاري في الإيمان حديث ٣٠ ، ومسلم في الأيمان حديث ١٦٦١ ، وأبو داود في الأدب حديث ٥١٥٧.

٣٠٩

وتوسيع الدنيا عليهن ، فإن العيش وقت نزولها كان ضيقا عن القوت فضلا عن الزكاة.

ولما أمرهن بخصوص ما تقدم لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية ، ومن اعتنى بهما حق الاعتناء جرتاه إلى ما وراءهما تمم وجمع في قوله تعالى : (وَأَطِعْنَ اللهَ) أي : الذي له صفات الكمال (وَرَسُولَهُ) أي : الذي لا ينطق عن الهوى فيما أمرا به ونهيا عنه (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ) أي : الذي هو ذو الجلال والإكرام بما أمركن به ونهاكن عنه من الإعراض عن الزينة وما يتبعها والإقبال عليه (لِيُذْهِبَ) أي : لأجل أن يذهب (عَنْكُمُ الرِّجْسَ) أي : الإثم الذي نهى الله تعالى عنه النساء قاله مقاتل ، وقال ابن عباس : يعني عمل الشيطان وما ليس فيه رضا الرحمن. وقال قتادة : يعني السوء وقال مجاهد : الرجس الشك وقوله تعالى : (أَهْلَ الْبَيْتِ) في ناصبه أوجه : أحدها : النداء أي : يا أهل البيت ، أو المدح أي : أمدح أهل البيت ، أو الاختصاص أي : أخص أهل البيت كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» (١) والاختصاص في المخاطب أقل منه في المتكلم ، وسمع : منك الله نرجو الفضل والأكثر إنما هو في المتكلم كقولها (٢) :

نحن بنات طارق نمشي على النمارق

وقولهم (٣) :

نحن بني ضبة أصحاب الجمل

الموت أحلى عندنا من العسل

وقولهم : نحن العرب أقرى الناس للضيف

واختلف في أهل البيت والأولى فيهم ما قال البقاعي : إنهم كل من يكون من إلزام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرجال والنساء والأزواج والإماء والأقارب ، وكلما كان الإنسان منهم أقرب وبالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخص وألزم كان بالإرادة أحق وأجدر ويؤيده قول البيضاوي ، وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعلي وابنيهما رضي الله تعالى عنهم ؛ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات غدوة وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجلس فجاءت فاطمة فأدخلها فيه ، ثم جاء علي فأدخله فيه ، ثم جاء الحسن والحسين فأدخلهما فيه ، ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ)(٤) والاحتجاج بذلك على عصمتهم وكون إجماعهم حجة ضعيف.

وعن ابن عباس أنهم نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهن في بيته وتلا قوله تعالى : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ) [الأحزاب : ٣٤] وعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت : «في بيتي أنزل (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) قالت : فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى فاطمة وعلي

__________________

(١) أخرجه البخاري في الفرائض حديث ٦٧٢٥ ، ومسلم في الجهاد حديث ١٧٥٨ ، والترمذي في السير حديث ١٦١٠.

(٢) الرجز لهند بنت عتبة في أدب الكاتب ص ٩٠ ، والأغاني ١٢ / ٣٤٣ ، ولها أو لهند بنت بياضة في شرح شواهد المغني ٢ / ٨٠٩ ، ولسان العرب (طرق) ، ولهند بنت الفند الزماني في الأغاني ٢٣ / ٢٥٤ ، ولقرشية في جمهرة اللغة ص ٧٥٦ ، وبلا نسبة في المخصص ١٣ / ٢١٠.

(٣) الرجز للحارث الضبي في الدرر ٣ / ١٣ ، وللأعرج المعني في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٢٩١ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٩ / ٥٢٢.

(٤) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٤٢٤.

٣١٠

والحسن والحسين فقال : هؤلاء أهل بيتي فقلت : يا رسول الله ما أنا من أهل البيت فقال بلى إن شاء الله» (١) وقال زيد بن أرقم : أهل بيته من حرم الصدقة بعده آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس ، قال الرازي : والأولى أن يقال لهم أولاده وأزواجه والحسن والحسين ، وعلي منهم لأنه كان من أهل بيته لمعاشرته بنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولملازمته له.

ولما استعار للمعصية الرجس استعار للطاعة الطهر ترغيبا لأصحاب الطباع السليمة والعقول المستقيمة في الطاعة وتنفيرا لهم عن المعصية بقوله تعالى : (وَيُطَهِّرَكُمْ) أي : يفعل في طهركم الصيانة عن جميع القاذورات الحسية والمعنوية فعل المبالغ فيه ، وزاد ذلك عظما بالمصدر بقوله تعالى : (تَطْهِيراً) وعن ابن عباس قال : شهدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسعة أشهر يأتي كل يوم باب علي بن أبي طالب عند وقت كل صلاة فيقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) الصلاة رحمكم الله كل يوم خمس مرات (٢) ، ثم بين تعالى ما أنعم الله به عليهن من أن بيوتهن مهابط الوحي بقوله تعالى : (وَاذْكُرْنَ) أي : في أنفسكن ذكرا دائما ، واذكرنه لغيركن على جهة الوعظ والتعليم (ما يُتْلى) أي : يتابع ويوالى ذكره (فِي بُيُوتِكُنَ) أي : بواسطة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي خيركن. وقوله تعالى : (مِنْ آياتِ اللهِ) أي : القرآن بيان للموصول فيتعلق بأعني ، ويجوز أن يكون حالا إما من الموصول ، وإما من عائده المقدر فيتعلق بمحذوف أيضا ، واختلف في قوله تعالى : (وَالْحِكْمَةِ) فقال قتادة : يعني السنة ، وقال مقاتل : أحكام القرآن ومواعظه (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له جميع العظمة (كانَ) أي : ولم يزل (لَطِيفاً) أي : يوصل إلى المقاصد بلطائف الأضداد (خَبِيراً) أي : بجميع خلقه يعلم ما يسرون وما يعلنون لا تخفى عليه خافية ، فيعلم من يصلح لبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن لا ، وما يصلح الناس دينا ودنيا ، وما لا يصلحهم. والطرق الموصلة لكل ما قضاه وقدره وإن كانت على غير ما يألفه الناس.

من انقطع إلى الله كفاه الله تعالى كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها ، ولقد صدق الله تعالى وعده في لطفه وحقق بره في خبره بأن فتح على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر ، فأفاض بها من رزقه الواسع.

ولما توفى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحميه من زهرة الحياة الدنيا فتح الفتوحات الكبار من بلاد فارس والروم ومصر وما بقي من اليمن ، فعم الفتح جميع الأقطار ، الشرق والغرب والجنوب والشمال ، ومكن أصحاب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كنوز تلك البلاد وذخائر أولئك الملوك حتى صار الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يكيلون المال كيلا ، وزاد الأمر حتى دوّن عمر رضي الله تعالى عنه الدواوين. وفرض للناس عامة أرزاقهم حتى للرضعاء ، وكان أولا لا يفرض للمولود حتى يفطم ، فكانوا يستعجلون بالفطام فنادى مناديه لا تعجلوا أولادكم بالفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام ، وفاوت بين الناس في العطاء بحسب القرب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والبعد منه ، وبحسب السابقة في الإسلام والهجرة. ونزل الناس منازلهم بحيث أرضى جميع الناس ، حتى قدم عليه خالد بن عرفطة فسأله عما وراءه فقال : تركتهم يسألون الله تعالى أن يزيد في عمرك من أعمارهم ، قال عمر : إنما هو حقهم ، وأنا أسعى بأدائه

__________________

(١) أخرجه بلفظ : «أنت على مكانك وأنت على خير» الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٠٥.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٠٦.

٣١١

إليهم وإني لأعم بنصيحتي كل من طوقني الله أمره ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من مات غاشا لرعيته لم ير ريح الجنة» (١) فكان فرضه لأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اثني عشر ألفا لكل واحدة ، وهي نحو ألف دينار في كل سنة ، وأعطى عائشة خمسة وعشرين ألفا لحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياها ، فأبت أن تأخذ إلا ما تأخذه صواحباتها.

وروي عن برزة بنت رافع قالت : لما خرج العطاء أرسل عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها ، فلما أدخل إليها قالت : غفر الله لعمر ، غيري من أخواتي أقوى على قسم هذا مني قالوا : هذا كله لك قالت : سبحان الله ثم قالت : صبوه واطرحوا عليه ثوبا ، ثم قالت لي : أدخلي يديك واقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان من ذوي رحمها وأيتام لها ، فقسمته حتى بقيت منه بقية تحت الثوب قالت برزة بنت رافع : نظر الله لك يا أم المؤمنين والله لقد كان لنا في هذا المال حق قالت : فلكم ما تحت الثوب قالت : فوجدنا تحته خمسمائة وثمانين درهما ، ثم رفعت يديها إلى السماء وقالت : اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا فماتت ، قال البقاعي : ذكر ذلك البلاذري في كتاب «فتوح البلاد» انتهى. وعن مقاتل قال : قالت أم سلمة بنت أبي أمية ، ونسيبة بنت كعب الأنصارية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه نخشى أن لا يكون فيهن خير» فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ)(٢) أي : الداخلين في الإسلام المنقادين لحكم الله في القول والعمل.

ولما كان الإسلام مع كونه أكمل الأوصاف وأعلاها يمكن أن يكون بالظاهر فقط أتبعه المحقق له وهو إسلام الباطن بالتصديق التام بغاية الإذعان فقال عاطفا له ولما بعده من الأوصاف التي يمكن اجتماعها بالواو للدلالة على تمكن الجامعين لهذه الأوصاف في كل وصف منها : (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي : المصدقين بما يجب أن يصدق به.

ولما كان المؤمن المسلم قد لا يكون في أعماله مخلصا قال : (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) أي : المخلصين في إيمانهم وإسلامهم المداومين على الطاعة.

ولما كان القنوت قد يطلق على الإخلاص المقتضى للمداومة ، وقد يطلق على مطلق الطاعة قال : (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) أي : في ذلك كله من قول وعمل.

ولما كان الصدق وهو إخلاص القول والعمل عن شوب يلحقه أو شيء يدنسه قد لا يكون دائما قال مشيرا إلى أن ما لا يكون دائما لا يكون صدقا في الواقع : (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) أي : على الطاعات وعن المعاصي.

ولما كان الصبر قد يكون سجية دل على صرفه إلى الله بقوله تعالى : (وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) أي : المتواضعين لله تعالى بقلوبهم وجوارحهم.

ولما كان الخشوع والخضوع والإخبات والسكون لا يصح مع توفير المال ، فإنه سكون إليه قال معلما : إنه إذ ذاك لا يكون على حقيقته (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) بما وجب في أموالهم وبما استحب سرا وعلانية تصديقا لخشوعهم.

__________________

(١) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ١١٦٦١ ، بلفظ : «من مات غاشا لرعيته لم يرح رائحة الجنة».

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٦ / ٣٠١ ، ٣٠٥.

٣١٢

ولما كان بذل المال قد لا يكون مع الإيثار أتبعه ما يعين عليه بقوله تعالى : (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) أي : فرضا ونفلا للإيثار بالقوت وغير ذلك.

ولما كان الصوم يكسر شهوة الفرج وقد يثيرها قال تعالى : (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) أي : عما لا يحل لهم. وحذف مفعول الحافظات لتقدم ما يدل عليه ، والتقدير : والحافظاتها ، وكذلك والذاكرات ، وحسن الحذف رؤوس الفواصل.

ولما كان حفظ الفرج وسائر الأعمال لا يكاد يوجد إلا بالذكر وهو الذي يكون عنده المراقبة الموصلة إلى المحاضرة المحققة للمشاهدة المحببة للفناء قال تعالى : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) أي : بقلوبهم وألسنتهم في كل حالة.

ومن علامات الإكثار من الذكر اللهج به عند الاستيقاظ من النوم ، وقال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا ، روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سبق المفردون قالوا : وما المفردون قال : «الذاكرون الله تعالى كثيرا والذاكرات» (١) قال عطاء بن أبي رباح : من فوض أمره إلى الله عزوجل فهو داخل في قوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) ومن أقر بأن الله تعالى ربه ، ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسوله ولم يخالف قلبه لسانه فهو داخل في قوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ومن أطاع الله تعالى في الفرض ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السنة فهو داخل في قوله تعالى : (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله تعالى : (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) ومن صبر على الطاعات وعن المعصية وعلى الرزية فهو داخل في قوله تعالى : (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ). ومن صلى ولم يعرف من عن يمينه وعن يساره فهو داخل في تعالى : (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) ومن صام في كل شهر أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فهو داخل في قوله تعالى : (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) ومن حفظ فرجه عن الحرام فهو داخل في قوله تعالى : (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله تعالى : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ) أي : الذي لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره مع أنه لا يعاظمه شيء (لَهُمْ مَغْفِرَةً) أي : لما اقترفوه من الصغائر لأنها مكفرات بفعل الطاعات ، والآية عامة وفضل الله تعالى واسع.

ولما ذكر تعالى الفضل بالتجاوز أتبعه الفضل بالكرم والرحمة بقوله تعالى : (وَأَجْراً عَظِيماً) أي : على طاعتهم ، والآية وعد لهن ولأمثالهن بالإثابة على الطاعة والتدرع بهذه الخصال ، وروي أن سبب نزول هذه الآية : «أن أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلن : يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به؟ إنا نخاف أن لا تقبل منا طاعة! فأنزل الله تعالى هذه الآية».

روي أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن قلن : لا فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : «يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار قال : ومم ذاك قالت : لأنهن لا يذكرن بخير كما تذكر الرجال» فأنزل

__________________

(١) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٢٦٧٦ ، والترمذي حديث ٣٥٩٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٢٣ ، ٤١١.

٣١٣

الله عزوجل هذه الآية. وقيل : لما نزل في نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما نزل قال نساء المسلمين : فما نزل فينا شيء فنزلت.

تنبيه : عطف الإناث على الذكور لاختلاف جنسهما ، والعطف فيه ضروري لاختلافهما ذاتا ، وعطف الزوجين وهو مجموع المؤمنين والمؤمنات على الزوجين ، وهو مجموع المسلمين والمسلمات لتغاير وصفيهما. وليس العطف فيه بضروري بخلافه في الأول ؛ لأن اختلاف الجنس أشد من اختلاف الصفة ، وفائدة العطف عند تغاير الأوصاف الدلالة على أن أعداد المعد من المغفرة والأجر العظيم أي : تهيئته للمذكورين للجمع بين هذه الصفات ، فصار المعنى : أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات العشر أعد الله تعالى لهم مغفرة وأجرا عظيما.

وقوله تعالى : (وَما كانَ) أي : وما صح (لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) أي : إذا قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر الله تعالى لتعظيم أمره ، والإشعار بأنه قضاء الله تعالى. نزلت في زينب بنت جحش الأسدية وأخيها عبد الله بن جحش ، وأمها أمية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب على مولاه زيد بن حارثة ، وكان اشترى زيدا في الجاهلية بعكاظ فأعتقه وتبناه ، فلما خطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه ، فلما علمت أنه يخطبها لزيد بن حارثة أبت وقالت : أنا ابنة عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي ، وكانت بيضاء جميلة فيها حدة ، وكذلك كره أخوها» (١) ذلك رواه الدار قطني بسند ضعيف ، وقيل : في أم كلثوم بنت عقبة وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزوجها من زيد (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أي : أن يختاروا من أمرهم شيئا ، بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختيار الله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

تنبيه : الخيرة : مصدر من تخير كالطيرة من تطير على غير قياس ، وجمع الضمير في قوله تعالى : (لَهُمُ) وفي قوله تعالى : (مِنْ أَمْرِهِمْ) لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث إنها في سياق النفي ، ويجوز أن يكون الضمير في من أمرهم لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجمع للتعظيم كما جرى عليه البيضاوي ، وقرأ أن يكون الكوفيون وهشام بالياء التحتية والباقون بالفوقية ، ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينطق عن الهوى ، ومن عصاه فقد عصى الله تعالى كما قال تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ) أي : الذي لا أمر لأحد معه (وَرَسُولُهُ) أي : الذي معصيته معصية الله تعالى لكونه بينه وبين الخلق في بيان ما أرسل به إليهم. وقوله تعالى : (فَقَدْ ضَلَ) قرأه قالون وابن كثير وعاصم بالإظهار ، والباقون بالإدغام وزاد ذلك بقوله تعالى : (ضَلالاً مُبِيناً) أي : فقد أخطأ خطأ ظاهرا لا خفاء فيه ، فالواجب على كل أحد أن يكون معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما يختاره ، وإن كان فيه أعظم المشقات عليه تخلقا. يقول الشاعر (٢) :

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي

متأخر عنه ولا متقدم

وأهنتني فأهنت نفسي عامدا

ما من يهون عليك ممن يكرم

فلما نزلت هذه الآية رضيت زينب بذلك وجعلت أمرها بيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك أخوها

__________________

(١) أخرجه الدارقطني في سننه ٣ / ٣٠١.

(٢) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٣١٤

فأنكحها صلى‌الله‌عليه‌وسلم زيدا ، فدخل بها وساق إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرة دنانير وستين درهما ، وخمارا ودرعا وإزارا وملحفة ، وخمسين مدا من الطعام ، وثلاثين صاعا من تمر. ومكثت عنده حينا. ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى زيدا ذات يوم لحاجة ، فأبصر زينب قائمة في درع وخمار وكانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش ، فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها فقال : سبحان الله مقلب القلوب وانصرف ، فلما جاء زيد ذكرت ذلك له ففطن زيد ، فألقي في نفس زيد كراهتها في الوقت ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني أريد أن أفارق صاحبتي قال : مالك أرابك منها شيء؟ قال : لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيرا ، ولكنها تتعاظم عليّ لشرفها ، وتؤذيني بلسانها ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمسك عليك زوجك يعني زينب بنت جحش واتق الله في أمرها فأنزل الله تعالى : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ) أي : الملك الذي له كل الكمال (عَلَيْهِ) وتولى نبيه عليه الصلاة والسلام إياه» ، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بالإظهار والباقون بالإدغام.

ثم بين تعالى منزلته من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) أي : بالعتق والتبني حيث استشارك في فراق زوجته التي أخبرك الله تعالى أنه يفارقها وتصير زوجتك (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) أي : زينب رضي الله عنها (وَاتَّقِ اللهَ) الذي له جميع العظمة في جميع أمرك (وَتُخْفِي) أي : والحال أنك تخفي أي : تقول قولا مخفيا (ما فِي نَفْسِكَ) أي : ما أخبرك الله من أنها ستصير إحدى زوجاتك عند طلاق زيد (مَا اللهُ مُبْدِيهِ) أي : مظهره بحمل زيد على تطليقها ، وإن أمرته بإمساكها وتزويجك بها وأمرك بالدخول عليها ، وهذا دليل على أنه ما أخفى غير ما أعلمه الله تعالى من أنها ستصير زوجته عند طلاق زيد ؛ لأن الله تعالى ما أبدى غير ذلك ، ولو أخفى غيره لأبداه سبحانه ؛ لأنه لا يبدل قوله ، وقول ابن عباس كان في قلبه حبها بعيد ، وكذا قول قتادة : ودّ لو أنه لو طلقها زيد ، وكذا قول غيرهما : كان في قلبه لو فارقها زيد تزوجها.

ولما ذكر تعالى إخفاءه ذلك ذكر علته بقوله تعالى : عاطفا على تخفي (وَتَخْشَى النَّاسَ) أي : من أن تخبر بما أخبر الله تعالى به فيصوبوا إليك مرجمات الظنون لا سيما اليهود والمنافقون ، وقال ابن عباس والحسن : تستحييهم ، وقيل : تخاف لأئمة الناس أن يقولوا : أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها (وَاللهُ) أي : والحال أن الذي لا شيء أعظم منه (أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) أي : وحده ولا تجمع خشية الناس مع خشيته في أن تؤخر شيئا أخبرك به حتى يأتيك فيه أمر. قال عمر وابن مسعود وعائشة : ما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية هي أشد عليه من هذه ، وروي عن مسروق قال : قالت عائشة : «لو كتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا مما أوحي إليه لكتم هذه الآية (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ)(١).

ويؤيد ما مر ما روى سفيان بن عيينة عن علي عن زيد بن جدعان قال : سألني علي ابن الحسين زين العابدين ما يقول الحسن في قوله تعالى : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) قال : قلت يقول لما جاء زيد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا رسول الله إني أريد أن أطلقها فقال له : «أمسك عليه زوجك» فقال علي بن الحسين : ليس كذلك ؛ لأن الله

__________________

(١) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٤٢٠ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٧٧ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢١٢.

٣١٥

تعالى قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه ، وأن زيدا سيطلقها ، فلما جاء زيد وقال : إني أريد أن أطلقها قال له : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) فعاتبه الله تعالى وقال : «لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك» وهذا هو اللائق والأليق بحال الأنبياء عليهم‌السلام ، وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) أي : حاجة من زواجها والدخول بها ، وذلك بانقضاء عدتها منه ؛ لأن به يعرف أنه لا حاجة له فيها ، وأنه قد تقاصرت عنها همته وإلا راجعها (زَوَّجْناكَها) أي : ولم نحوجك إلى ولي من الخلق يعقد لك عليها تشريفا لك ولها بما لنا من العظمة التي خرقنا بها عوائد الخلق حتى أذعن لذلك كل من علم به ، وسرت به جميع النفوس.

ولم يقدر منافق ولا غيره على الخوض في ذلك ببنت شفة مما يوهنه ويؤثر فيه ، فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره ، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله تعالى من أنها ستكون زوجة له. وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد : إن التي تحتك وفي نكاحك ستكون امرأتي.

قال البغوي : وهذا هو الأولى والأليق وإن كان الآخر وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء عليهم‌السلام ؛ لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المأثم ؛ لأن الود وميل النفس من طبع البشر ، وقوله : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) أمر بالمعروف وهو خشية الإثم فيه وقوله : (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه الصلاة والسلام قال : «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له» (١) ولكن المعنى : الله أحق أن تخشاه وحده ولا تخشى أحدا معه ، فأنت تخشاه وتخشى الناس أيضا. ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء انتهى.

وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبنى تحل بعد الدخول بها إذا طلقت وانقضت عدتها ، روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال : «لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لزيد : اذهب فاذكرها علي قال : فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال : فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرها ، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت : يا زينب أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكرك قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن.

وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخل عليها بغير إذن قال : ولقد رأيتنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أطعمنا الخبز واللحم حتى امتد النهار ، فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتبعته ، فجعل يتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن : يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ قال : فما أدري ، أنا أخبرته أن القوم خرجوا أو أخبرني قال : فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب» (٢).

وعن أنس رضي الله عنه قال : «ما أولم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على شيء من نسائه ما أولم على زينب ،

__________________

(١) أخرجه البخاري في النكاح حديث ٥٠٦٣.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٧٩٣ ، ومسلم في النكاح حديث ١٤٢٨.

٣١٦

أولم بشاة» (١) وفي رواية : «أكثر وأفضل ما أولم على زينب» (٢) قال ثابت : فما أولم قال : أطعمهم خبزا ولحما حتى تركوه قال أنس رضي الله عنه : «كانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقول : زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات» (٣) وقال الشعبي : «كانت زينب تقول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن : جدي وجدك واحد ، وأنكحنيك الله في السماء ، وإن السفير لجبريل عليه‌السلام» (٤) وأخرج ابن سعد والحاكم عن محمد بن يحيى بن حبان قال : «جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت زيد بن حارثة يطلبه ، وكان زيد يقال له : زيد بن محمد ، فربما فقده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الساعة فيقول : أين زيد؟ فجاء منزله يطلبه فلم يجده ، وتقوم إليه زينب بنت جحش زوجته فضلا ، فأعرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها فقالت : ليس هو ههنا يا رسول الله فادخل ، فأبى أن يدخل ، فأعجبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فولى وهو يهمهم بشيء لا يكاد يفهم منه إلا ربما أعلن بسبحان الله العظيم سبحان مصرف القلوب ، فجاء زيد إلى منزله فأخبرته امرأته أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى منزله فقال زيد : ألا قلت له أن يدخل قالت : قد عرضت ذلك عليه فأبى قال : فسمعت شيئا منه قالت : سمعته حين ولى تكلم بكلام لا أفهمه وسمعته يقول : سبحان الله العظيم سبحان مصرف القلوب ، فجاء زيد حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله بلغني أنك جئت منزلي فهلا دخلت يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) فما استطاع زيد إليها سبيلا بعد ذلك اليوم فيأتي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيخبره فيقول : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) ففارقها زيد واعتزلها وانقضت عدتها ، فبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس يتحدث مع عائشة إذ أخذته غشية ، فسري عنه وهو يبتسم ويقول : من يذهب إلى زينب يبشرها أن الله زوجنيها من السماء ، وقرأ (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي) الآية قالت عائشة : فأخذني ما قرب وما بعد لما يبلغنا من جمالها ، وأخرى هي أعظم الأمور وأشرفها زوجها الله من السماء وقلت : هي تفخر علينا بهذا» (٥).

ولما ذكر تعالى التزويج على ما له من العظمة ذكر علته بقوله تعالى : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ) أي : ضيق وإثم (فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) أي : الذين تبنوهم وأجروهم في تحريم أزواجهم مجرى أزواج البنين على الحقيقة (إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) أي : حاجة بالدخول بهن ، ثم الطلاق وانقضاء العدة.

فائدة : لا مقطوعة في الرسم من (لِكَيْ).

تنبيه : الأدعياء : جمع دعي وهو المتبنى أي : زوجناك زينب وهي امرأة زيد الذي تبنيته ليعلم أن زوجة المتبنى حلال للمتبني وإن كان قد دخل بها المتبنى ، بخلاف امرأة ابن الصلب لا تحل للأب (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) من الحكم بتزويجها وإن كرهت وتركت إظهار ما أخبرك الله تعالى به

__________________

(١) أخرجه البخاري في النكاح حديث ٥١٦٨ ، ومسلم في النكاح حديث ١٤٢٨ ، وأبو داود في الأطعمة حديث ٣٧٤٣.

(٢) انظر الحاشية السابقة.

(٣) أخرجه البخاري في التوحيد حديث ٧٤٢٠ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢١٣.

(٤) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٥) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى ٨ / ٧٢.

٣١٧

كراهية لسوء المقالة واستحياء من ذلك ، وكذا كل أمر يريده سبحانه (مَفْعُولاً) أي : قضاء الله تعالى ماضيا وحكمه نافذا في كل ما أراده لا معقب لحكمه.

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِ) أي : الذي منزلته من الله تعالى الاطلاع على ألا يطلع عليه غيره من الخلق (مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ) أي : قدر (اللهُ) بما له من صفات الكمال وأوجبه (لَهُ) لأنه لم يكن على المؤمنين مطلقا حرج في ذلك فكيف برأس المؤمنين؟! وقوله تعالى (سُنَّةَ اللهِ) منصوب بنزع الخافض أي : كسنة الله (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) من الأنبياء عليهم‌السلام أنه لا حرج عليهم فيما أباح لهم ، قال الكلبي ومقاتل : أراد داود عليه‌السلام حين جمع بينه وبين المرأة التي هويها ، فكذلك جمع بين محمد وبين زينب. وقيل : أراد بالسنة النكاح فإنه من سنة الأنبياء عليهم‌السلام ، فكان من كان من الأنبياء عليهم‌السلام هذا سنتهم ، فقد كان لسليمان بن داود عليهما‌السلام ألف امرأة ، وكان لداود مائة امرأة (وَكانَ أَمْرُ اللهِ) أي : قضاء الملك الأعظم في ذلك وغيره (قَدَراً) وأكده بقوله تعالى : (مَقْدُوراً) أي : لا خلف فيه ولا بد من وقوعه في حينه الذي حكم بكونه فيه.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ) نعت للذين قبله (يُبَلِّغُونَ) أي : إلى أممهم (رِسالاتِ اللهِ) أي : الملك الأعظم ، سواء كانت في نكاح أم غيره (وَيَخْشَوْنَهُ) أي : فيخبرون بكل ما أخبرهم به (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً) قل أو جلّ (إِلَّا اللهَ) فلا يخشون قالة الناس فيما أحل الله لهم (وَكَفى بِاللهِ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال (حَسِيباً) أي : حافظا لأعمال خلقه ومحاسبهم.

ولما أفاد هذا كله أن الدعي ليس ابنا وكانوا قد قالوا : لما تزوج زينب كما رواه الترمذي عن عائشة تزوج حليلة ابنه قال تعالى : (ما كانَ) أي : بوجه من الوجوه (مُحَمَّدٌ) أي : على كثرة نسائه وأولاده (أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) لا مجازا بالتبني ولا حقيقة بالولادة ، فثبت بذلك أنه يحرم عليه زوجة الابن ، ولم يقل تعالى من بنيكم ؛ لأنه لم يكن له في ذلك الوقت سنة خمس ، وما داناها ابن ذكر لعلمه تعالى أنه سيولد له ابنه إبراهيم عليه‌السلام مع ما كان له قبله من البنين الطاهر والطيب والقاسم ، وأنه لم يبلغ أحد منهم الحلم عليهم‌السلام. قال البيضاوي : ولو بلغوا لكانوا رجاله لا رجالهم. انتهى. وهذا إنما يأتي على أن المراد التبني. وقال البغوي : والصحيح أنه أراد بأحد من رجالكم : الذين لم يلدهم. انتهى. ومع هذا الأول أوجه كما جرى عليه البقاعي.

ثم لما نفى تعالى أبوته عنهم قال : (وَلكِنْ) كان في علم الله غيبا وشهادة (رَسُولَ اللهِ) أي : الملك الأعظم الذي كل من سواه عبده (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) أي : آخرهم الذي ختمهم لأن رسالته عامة ومعها إعجاز القرآن فلا حاجة مع ذلك إلى استنباء ولا إرسال ، وذلك مفض لئلا يبلغ له ولد إذ لو بلغ له ولد ، لاق بمنصبه أن يكون نبيا إكراما له ؛ لأنه أعلى النبيين رتبة وأعظمهم شرفا ، وليس لأحد من الأنبياء كرامة إلا وله مثلها وأعظم منها ، ولو صار أحد من ولده رجلا لكان نبيا بعد ظهور نبوته ، وقد قضى الله تعالى أن لا يكون بعده نبي إكراما له.

روى أحمد وابن ماجه عن أنس وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في ابنه إبراهيم عليه‌السلام : «لو عاش لكان صديقا نبيا» (١) وللبخاري نحوه عن البراء بن عازب. وللبخاري من حديث ابن أبي أوفى : «لو قضي أن يكون بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبي لعاش ابنه ولكن لا نبي بعده» (٢) وقال

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه في الجنائز حديث ١٥١١ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٢٢٠٤.

(٢) أخرجه البخاري في الأدب حديث ٦١٩٤ ، وابن ماجه في الجنائز حديث ١٥١٠.

٣١٨

ابن عباس رضي الله عنه : يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابنا يكون من بعده نبيا.

وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه : لما حكم أنه لا نبي بعده لم يعطه ولدا ذكرا يصير رجلا. وقيل : من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم ، إذ هو كالوالد لولد ليس له غيره ، والحاصل أنه لا يأتي بعده نبي مطلقا بشرع جديد ولا يتجدد بعده مطلقا استنباء ، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتما على أبلغ وجه وأعظمه ، وذلك أنها في سياق الإنكار بأن يكون بينه وبين أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية ، ولو كانت بعده لأحد لم يكن ذلك إلا لولده ، ولأن فائدة إثبات النبي تتميم شيء لم يأت به من قبله. وقد حصل به صلى‌الله‌عليه‌وسلم التمام ، فلم يبق بعد ذلك مرام : «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (١) وأما تجديد ما وهى مما أحدث بعض الفسقة فالعلماء كافون فيه لوجود ما خص به صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا القرآن المعجز الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله عزوجل ؛ لوقوع التحقق والقطع بأنه لا يقدر غيره أن يقول شيئا منه ، فمهما حصل ذهول عن ذلك قرره من يريد الله تعالى من العلماء فيعود الاستبصار ، كما روي في بعض الآثار : «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» (٢) وأما إتيان عيسى عليه‌السلام بعد تجديد الهدى لجميع ما وهى من أركان المكارم فلأجل فتنة الدجال ثم طامة يأجوج ومأجوج ونحو ذلك مما لا يستقل بأعبائه غير نبي ، وما أحسن قول حسان بن ثابت في مرثية لإبراهيم ابن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) :

مضى ابنك محمود العواقب لم يشب

بعيب ولم يذمم بقول ولا فعل

رأى أنه إن عاش ساواك في العلا

فآثر أن تبقى وحيدا بلا مثل

وقال الغزالي في آخر كتابه الاقتصاد : إن الأمة فهمت من هذا اللفظ ومن قرائن أحواله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أفهم عدم نبي بعده أبدا ، وعدم رسول بعده أبدا ، وأنه ليس فيه تأويل ولا تخصيص. وقال : إن من أوله بتخصيص النبيين بأولي العزم من الرسل ونحو هذا فكلامه من أنواع الهذيان لا يمنع الحكم بتكفيره ؛ لأنه مكذب لهذا النص الذي أجمعت الأمة على أنه غير مؤول ولا مخصوص انتهى.

وقد بان بهذا أن إتيان عيسى عليه‌السلام غير قادح في هذا النص ، فإنه من أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم المقررين لشريعته ، وهو قد كان نبيا قبله لم يستجد له شيء لم يكن ، فلم يكن ذلك قادحا في الختم. وهو مثبت لشرف نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لولاه لما وجد ، وذلك أنه لم يكن لنبي من الأنبياء شرف إلا وله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله أو أعلى منه ، وقد كانت الأنبياء تأتي مقررة لشريعة موسى عليه‌السلام مجددة لها ، فكان المقرر لشريعة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم المتبع لملته من كان ناسخا لشريعة موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ عاصم بفتح التاء والباقون بكسرها ، فالفتح : اسم للآلة التي يختم بها كالطابع والقالب لما يطبع به ويقلب فيه ، والكسر على أنه اسم فاعل. وقال بعضهم : هو بمعنى المفتوح يعني بمعنى آخرهم لأنه ختم النبيين فهو خاتمهم (وَكانَ

__________________

(١) أخرجه مالك في حسن الخلق حديث ٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٨١ ، وبلفظ : «بعثت لأتمم حسن الأخلاق». وأخرجه القاضي عياض في الشفاء ١ / ٢٠٧.

(٢) أخرجه الألباني في السلسلة الضعيفة ٦٦٦ ، وعلي القاري في الأسرار المرفوعة ٢٤٧ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٨٣.

(٣) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٣١٩

اللهِ) أي : الذي له كل صفة كمال أزلا وأبدا (بِكُلِّ شَيْءٍ) من ذلك وغيره (عَلِيماً) فيعلم من يليق بالختم ومن يليق بالبدء.

قال الأستاذ ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس : في سؤال القبر واختصاصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأحمدية والمحمدية علما وصفه برهان على ختمه ، إذ الحمد مقرون بانقضاء الأمور مشروع عنده (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس ، ١٠] وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحكم بنيانه ، ترك منه موضع لبنة فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنائه إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون بسواها ، فكنت أنا موضع تلك اللبنة ختم بي البنيان وختم بي الرسل» (١) وقال عليه الصلاة والسلام : «إن لي أسماء أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي يمحو الله تعالى بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الله تعالى الناس على قدمي ، وأنا العاقب» (٢) والعاقب الذي ليس بعده نبي.

ولما كان ما أثبته لنفسه سبحانه وتعالى من إحاطة العلم مستلزما للإحاطة بأوصاف الكمال قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : ادعوا ذلك بألسنتهم (اذْكُرُوا اللهَ) الذي هو أعظم من كل شيء تصديقا لدعواكم ذلك (ذِكْراً كَثِيراً) قال ابن عباس : لم يفرض الله تعالى على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما ، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر ، فإنه لم يجعل له حدا ينتهي إليه ، ولم يعذر أهله في تركه إلا مغلوبا على عقله. وأمرهم به في الأحوال فقال تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) [النساء : ١٠٣] وقال تعالى : (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) أي : بالليل والنهار والبر والبحر والصحة والسقم في السر والعلانية ، وقال مجاهد : الذكر الكثير : أن لا ينساه أبدا ، فيعم ذلك سائر الأوقات وسائر ما هو أهله من التقديس والتهليل والتمجيد.

(وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي : أول النهار وآخره خصوصا ، وتخصيصهما بالذكر للدلالة على فضلهما على سائر الأوقات ؛ لكونهما مشهودين. كإفراد التسبيح من جملة الإذكار لأنه العمدة فيها ، وقال البغوي : وسبحوه أي : صلوا له بكرة أي : صلاة الصبح ، وأصيلا يعني صلاة العصر. وقال الكلبي : وأصيلا يعني صلاة الظهر والعصر والعشاءين وقال مجاهد : معناه قولوا سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فعبر بالتسبيح عن إخوانه ، وقيل : المراد من قوله تعالى : (ذِكْراً كَثِيراً) هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب والمحدث.

وعن أنس لما نزل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٦] وقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله ما أنزل الله تعالى عليك خيرا إلا أشركنا فيه أنزل الله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) أي : يرحمكم (وَمَلائِكَتُهُ) أي : يستغفرون لكم ، فالصلاة من الله تعالى رحمة ، ومن الملائكة استغفار للمؤمنين ، فذكر صلاته تحريضا للمؤمنين على الذكر والتسبيح. قال السدي : قالت بنو إسرائيل لموسى عليه‌السلام : أيصلي ربنا؟ فكبر هذا الكلام على موسى ، فأوحى الله

__________________

(١) أخرجه البغوي في شرح السنة ١٣ / ٢٠١ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٥٧٤٥ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٢١٢٧.

(٢) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٥٣٢ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٣٥٤.

٣٢٠