تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٣٦

معها وهي أجنبية فإن ذلك يورث التهمة العظيمة وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا مواضع التهم» (١) ، وثانيها : أنه سقى أغنامهما تقرّبا إلى الله تعالى فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه وذلك غير جائز في الشريعة ، وثالثها : أنه عرف فقرهما وفقر أبيهما وأنه عليه‌السلام كان في نهاية القوّة بحيث يمكنه الكسب بأقل سعي فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من الشيخ الفاني الفقير والمرأة الفقيرة ، ورابعها : كيف يليق بالنبيّ شعيب عليه‌السلام أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شاب قبل العلم بكون الرجل عفيفا أو فاسقا؟.

أجيب عن الأوّل : بأن الخبر يعمل فيه بقول المرأة فإن الخبر يعمل فيه بقول الواحد حرّا كان أو عبدا ذكرا كان أو أنثى وهي ما كانت مخبرة إلا عن أبيها وأما المشي مع المرأة بعد الاحتياط والتورّع فلا بأس به ، وعن الثاني : بأن المرأة لما قالت ذلك لموسى عليه‌السلام ما ذهب إليهم طلبا للأجرة بل للتبرّك بذلك الشيخ الكبير ، لما روي أنه لما دخل على شعيب عليه‌السلام إذا هو بالعشاء مهيئا فقال اجلس يا شاب فتعش فقال موسى أعوذ بالله فقال شعيب ولم ذلك ألست بجائع قال بلى ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وأنا من أهل بيت لا نطلب على عمل من أعمال الآخرة عوضا من الدنيا ، وفي رواية لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ بالمعروف ثمنا ، فقال له شعيب لا والله يا شاب ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى عليه‌السلام فأكل ، وأيضا فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ إلى حيث ما كان يطيق يحمله ففعل ذلك اضطرارا وهو الجواب عن الثالث فإن الضرورات تبيح المحظورات ، وعن الرابع : بأن شعيبا عليه‌السلام كان يعلم طهارة ابنته وبرائتها إما بوحي أو بغيره فكان يأمن عليها قال عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه : فقام يمشي والجارية أمامه فهبت الريح فوصفت ردفها فكره موسى عليه‌السلام أن يرى ذلك منها فقال لها امشي خلفي أو قال موسى أني من عنصر إبراهيم فكوني خلفي حتى لا يرفع الريح ثيابك فأرى ما لا يحلّ ، وفي رواية كوني خلفي ودليني على الطريق برمي الحصا لأن صوت المرأة عورة.

فإن قيل : لم خشى موسى عليه‌السلام أن يكون ذلك أجرة له على عمله ولم يكره مع الخضر عليه‌السلام ذلك حين قال لو شئت لتخذت عليه أجرا؟ أجيب : بأن أخذ الأجرة على الصدقة لا يجوز ، وأما الاستئجار ابتداء فغير مكروه (فَلَمَّا جاءَهُ) أي : موسى شعيبا (وَقَصَ) أي : موسى عليه‌السلام (عَلَيْهِ) أي : شعيب عليه‌السلام (الْقَصَصَ) أي : حدّثه حديثه مع فرعون وآله في كفرهم وطغيانهم وإذلالهم لعباد الله تعالى.

(تنبيه) : القصص مصدر كالعلل سمى به المقصوص ، قال الضحاك : قال له : من أنت يا عبد الله ، قال : أنا موسى بن عمران بن يصهر بن قاهت بن لاوي بن يعقوب عليه‌السلام وذكر له جميع أمره من لدن ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم وقتل القبطي وأنهم يطلبونه ليقتلوه.

ثم إن شعيبا عليه‌السلام أمنه بأن : (قالَ) له (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي : فإن فرعون لا سلطان له بأرضنا ، فإن قيل : إن المفسرين قالوا : إن فرعون يوم ركب خلف موسى ركب في ألف ألف وستمائة ألف والملك الذي هذا شأنه كيف يعقل أن لا يكون في ملكه قرية على بعد

__________________

(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ٢٨٣ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٤٥ ، والشوكاني في الفوائد المجموعة ٢٥١ ، والألباني في السلسلة الضعيفة ١١٣.

١٤١

ثمانية أيام؟ أجيب : بأن هذا ليس بمحال وإن كان نادرا ولما أمنه واطمأن (قالَتْ إِحْداهُما) أي : المرأتين وهي التي دعته إلى أبيها مشيرة بالنداء بأداة البعد إلى استصغارها لنفسها وجلالة أبيها (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) أي : اتخذه أجيرا ليرعى أغنامنا (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أي : خير من استعملت من قوي على العمل لشيء من الأشياء وأداء الأمانة ، قال أبو حيان : وقولها قول حكيم جامع لا يزاد عليه لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة أن تقول استأجره لقوّته وأمانته ، وإنما جعل خير من استأجرت اسما والقويّ الأمين خبرا مع أن العكس أولى لأنّ العناية هي سبب التقديم ، وقد صدقت حتى جعل لها ما هو أحق بأن يكون خبرا اسما ، وورود الفعل بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف.

وعن ابن عباس : أن شعيبا اختطفته الغيرة فقال وما علمك بقوّته وأمانته فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو وإنه صوّب أي : خفض رأسه حين بلغته رسالة أبيها إليه وأمرها بالمشي خلفه ، وعن ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة بنت شعيب وصاحب يوسف في قوله (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) وأبو بكر في عمر.

ولما أعلمته ابنته بذلك (قالَ) لموسى عليه‌السلام عند ذلك (إِنِّي أُرِيدُ) يا موسى والتأكيد لأن الغريب قلما يرغب فيه أوّل ما يقدم لا سيما من الرؤساء أتم الرغبة (أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) أي : الحاضرتين اللتين سقيت لهما ليتأمّلهما فينظر من يقع اختياره عليه منهما ليعقد له عليها ، قال أكثر المفسرين إنه زوجه الصغرى منهما وهي التي ذهبت لطلب موسى واسمها صفورا على خلاف تقدّم في اسمها ، وقوله (هاتَيْنِ) فيه دليل على أنه كان له غيرهما وقوله (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) إما من أجرته إذا كنت له أجيرا كقولك أبوته إذا كنت له أبا ، وثماني حجج ظرفه ، أي : ترعى غنمي ثماني حجج ، وإما من أجرته كذا إذا أثبته إياه قاله الفراء أي : تجعل ثوابي من تزويجها أي : تجعل أجري على ذلك وثوابي ثماني حجج ، تقول العرب أجرك الله يأجرك أي : أثابك ، ومنه تعزية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آجركم الله ورحمكم» (١) وثماني حجج مفعول به ، ومعناه رعية ثماني حجج ، فإن قيل : كيف صح أن ينكحه إحدى ابنتيه من غير تمييز؟ أجيب : بأن ذلك لم يكن عقدا ولكن مواعدة ومواصفة أمر قد عزم عليه ، ولو كان عقدا لقال أنكحتك ولم يقل : إني أريد أن أنكحك ، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك ، والحجج ، السنون وإحدها حجة (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً) أي : عشر سنين وقوله (فَمِنْ عِنْدِكَ) يجوز أن يكون في محل رفع خبرا لمبتدأ محذوف تقديره فهي من عندك ، أو نصب أي : فقد زدتها من عندك أو تفضلت بها من عندك ، وليس ذلك بواجب عليك.

تنبيه : هذا اللفظ يدل على أن العقد وقع على أقلّ الأجلين والزيادة كالتبرّع فالعقد وقع على معين ، ودلت الآية على أن العمل قد يكون مهرا كالمال وعلى أن عقد النكاح لا يفسد بالشروط التي لا يوجبها العقد إن كان وقع شرط هذه الزيادة في العقد.

ولما ذكر له ذلك أراد أن يعلمه أن الأمر بعد الشرط بينهما على المسامحة فقال (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) أي : أدخل عليك مشقة بمناقشة ومراعاة أوقات ولا في إتمام عشر ولا غير ذلك ، ثم

__________________

(١) أخرجه أبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان ١ / ٨٧.

١٤٢

أكد معنى المساهلة بقوله (سَتَجِدُنِي) وفتح الياء نافع عند الوصل ، والباقون بسكونها ، ثم استثنى على قاعدة : أنبياء الله وأوليائه في المراقبة على سبيل التبرك بقوله (إِنْ شاءَ اللهُ) أي : الذي له جميع الأمر (مِنَ الصَّالِحِينَ) قال عمر : أي : في حسن الصحبة والوفاء بما قلت ، أي : وكل ما تريد من كل خير ، وقيل : أراد الصلاح على العموم ، فإن قيل : كيف ينعقد العقد بهذا الشرط ولو قلت أنت طالق إن شاء الله لم تطلق؟ أجيب : بأن هذا إنما يختلف بالشرائع أو أن ذلك ذكر للتبرك.

(قالَ) أي : موسى عليه‌السلام (ذلِكَ) أي : الذي ذكرته وعاهدتني فيه وشارطتني عليه (بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أي : قائم بيننا جميعا لا يخرج كلانا عنه لا أنا عما شرطت علي ولا أنت عما شرطت على نفسك.

تنبيه : ذلك مبتدأ ، والظرف خبره ، وأضيفت بين لمفرد لتكرّرها ، وعطفت بالواو ، ولو قلت : المال لزيد فعمرو لم يجز ، والأصل ذلك بيننا كما مرّ ففرق بالعطف ، ثم فسر ذلك بقوله (أَيَّمَا) أي : أيّ (الْأَجَلَيْنِ) فما : زائدة (قَضَيْتُ) أي : فرغت أطولهما الذي هو العشر أو أقصرهما الذي هو الثمان (فَلا عُدْوانَ) أي : اعتداء بسبب ذلك لك ولا لأحد (عَلَيَ) في طلب أكثر منه لأنه كما لا تجب الزيادة على العشر لا تجب الزيادة على الثمان.

فإن قيل : تصوّر العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو أقصر وهو المطالبة بتتمة العشر فما معنى تعليق العدوان بهما جميعا؟ أجيب : بأنّ معناه كما أني إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدوانا لا شك فيه فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمان أراد بذلك تقرير أمر الخيار وأنه ثابت مستقرّ وأنّ الأجلين على السواء إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء ، وأمّا التتمة فموكلة إلى رأيي إن شئت أتيت بها وإلا لم أجبر عليها ، وكأنه أشار بنفي صيغة المبالغة إلى أنه لا يؤاخذ لسعة صدره وطهارة أخلاقه بمطلق العدوان (وَاللهُ) أي : الملك الأعظم (عَلى ما نَقُولُ) أي : كله في هذا الوقت وغيره (وَكِيلٌ) قال ابن عباس ومقاتل : شهيد فيما بيني وبينك ، وقيل : حفيظ ، وعن سعيد بن جبير قال : سألني يهودي من أهل الحيرة أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقلت : لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله فقدمت فسألت ابن عباس فقال : قضى أكثرهما.

وروي عن أبي ذرّ مرفوعا إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى فقل : خيرهما ، وإذا سئلت فأي المرأتين تزوّج فقل الصغرى منهما وهي التي جاءت فقالت يا أبت استأجره فتزوّج صغراهما وقضى أوفاهما ، وقال وهب : أنكحه الكبرى ، وروي عن شدّاد بن أوس مرفوعا بكى شعيب عليه‌السلام حتى عمي فردّ الله تعالى عليه بصره ثم بكى حتى عمي فردّ الله تعالى عليه بصره ثم بكى حتى عمي فردّ الله تعالى عليه بصره وقال له : ما هذا البكاء أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار؟ قال لا يا ربّ ولكن شوقا إلى لقائك فأوحى الله تعالى إليه إن يكن ذلك فهنيأ لك يا شعيب لذلك أخدمتك موسى كليمي.

ولما تم العقد بينهما أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه.

واختلفوا في تلك العصا؟ فقال عكرمة : خرج بها آدم من الجنة فأخذها جبريل بعد موت آدم فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلا فدفعها إليه ، وقال آخرون كانت من آس الجنة حملها آدم من الجنة فتوارثها الأنبياء وكان لا يأخذها غير نبيّ إلا أكلته فصارت من آدم إلى نوح ثم إلى إبراهيم

١٤٣

حتى وصلت إلى شعيب وكانت عصيّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عنده فأعطاها موسى ، وقال السدي : كانت تلك العصا استودعها إياه ملك في صورة رجل فأمر ابنته أن تأتيه بعصا فدخلت فأخذت العصا فأتت بها فلما رآها شعيب قال لها ردّي هذه العصا وأتيه بغيرها فدخلت فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها فلا يقع في يدها إلا هي حتى فعلت ذلك ثلاث مرّات فأعطاها موسى فأخذها موسى معه ، ثم إنّ الشيخ ندم فقال : كانت وديعة فذهب في أثره فطلب أن يردّ العصا فأبى موسى أن يعطيه وقال : هي عصاي فرضيا أن يجعلا بينهما أوّل رجل يلقاهما فلقيهما ملك في صورة رجل فحكم أن تطرح العصا فمن حملها فهي له فطرح موسى العصا فعالجها الشيخ فلم يطقها فأخذها موسى بيده فرفعها فتركها له الشيخ.

وروي أنّ شعيبا عليه‌السلام كان عنده عصيّ الأنبياء فقال لموسى بالليل ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصيّ فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ولم تزل الأنبياء تتوارثها حتى وقعت إلى شعيب فمسها وكان مكفوفا فضنّ أي : بخل بها فقال غيرها فما وقع في يده إلا هي سبع مرّات فعلم أنّ له شأنا.

وعن الحسن ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضا ، وعن الكلبي الشجرة التي منها نودي موسى شجرة العوسج ومنها كانت عصاه.

ولما أصبح قال له شعيب إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك فإن الكلأ وإن كان بها كثيرا إلا أنّ فيها تنينا أخشاه عليك فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد أقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى دامية فلما أبصرها دامية والتنين مقتولا ارتاح لذلك.

ولما رجع إلى شعيب مس الغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن فأخبره موسى ففرح وعلم أنّ لموسى والعصا شأنا.

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ

١٤٤

وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣))

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) أي : أتمه وفرغ منه وزوّجه ابنته ، قال مجاهد مكث بعد ذلك عند صهره عشرا أخرى فأقام عنده عشرين سنة ، ثم إنّ شعيبا عليه‌السلام أراد أن يجازي موسى على رعيته إكراما له وصلة لابنته فقال له إني وهبت لك من الجداء التي تضعها أغنامي هذه السنة كل أبلق وبلقاء فأوحى الله تعالى إلى موسى في المنام أن اضرب بعصاك الماء الذي في مستقى الأغنام قال فضرب موسى بعصاه الماء ثم سقى الأغنام منه فما أخطأت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب أنّ ذلك رزق ساقه الله عزوجل إلى موسى وامرأته فوفى له بشرطه وسلم الأغنام إليه ، ثم إنّ موسى استأذنه في العود إلى مصر فأذن له فخرج (وَسارَ بِأَهْلِهِ) أي : امرأته راجعا إلى أقاربه بمصر (آنَسَ) أي : أبصر من بعيد (مِنْ جانِبِ الطُّورِ) اسم جبل (ناراً) آنسته رؤيتها وكان في البرية في ليلة مظلمة شديدة البرد وأخذ امرأته الطلق حينئذ (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) أي : ههنا ، وقرأ حمزة في الوصل بضم الهاء قبل همزة الوصل ، وعبر موسى عليه‌السلام بضمير الذكور فلعل كان معه بنون فغلبهم على امرأته ، وقد ذكرت غير ذلك في السورة التي قبل هذه ، ثم علل ذلك بقوله مؤكدا لاستبعاد أن يكون في ذلك المكان القفر وفي ذلك الوقت الشديد البرد نارا (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) فتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو ، وسكنها الباقون ، كأنه قيل فماذا تعلم بها فقال معبرا بالترجي لأنه أليق بالتواضع (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها) أي : من عندها (بِخَبَرٍ) أي : عن الطريق لأنه كان قد أخطأها (أَوْ جَذْوَةٍ) أي : قطعة وشعلة (مِنَ النَّارِ) وقال قتادة ومقاتل : هو العود الذي احترق بعضه.

تنبيه : من النار صفة لجذوة ولا يجوز تعلقها بآتيكم كما تعلق به منها لأنّ هذه النار هي النار المذكورة ، والعرب إذا قدمت نكرة وأرادت إعادتها أعادتها مضمرة أو معرفة بأل العهدية وقد جمع الأمرين هنا ، وقرأ عاصم بفتح الجيم وحمزة بضمها ، والباقون بالكسر وكلها لغات وجمعها جذى.

ثم استأنف قوله (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي : لتكونوا على رجاء من أن تقربوا من النار فتعطفوا عليها للتدفؤ ، وهذا دليل على أنّ الوقت كان شتاء.

(فَلَمَّا أَتاها) أي : النار ، وبنى (نُودِيَ) للمفعول لأنّ آخر الكلام يدلّ دلالة واضحة على أنّ المنادي هو الله تعالى ولما كان نداؤه تعالى لا يشبه نداء غيره بل يكون من جميع الجوانب ومع ذلك قد يكون لبعض المواضع مزيد شرف بوصف من الأوصاف إمّا بأن يكون أوّل السماع منه أو غير ذلك أو يكون باعتبار موسى عليه‌السلام قال (مِنْ شاطِئِ الْوادِ) فمن : لابتداء الغاية ، وقوله تعالى (الْأَيْمَنِ) صفة للشاطئ أو للوادي ، والأيمن من اليمن وهو البركة أو من اليمين المعادل لليسار من العضوين ومعناه على هذا بالنسبة إلى موسى أي : الذي يلي يمينك دون يسارك ، والشاطئ ضفة الوادي والنهر أي : حافته وطرفه وكذا الشط والسيف والساحل كلها بمعنى ، وجمع الشاطئ أشطأ

١٤٥

قاله الراغب وشاطأ فلانا ماشيته سار بها على الشاطئ ، وقوله تعالى (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) متعلق بنودي أو بمحذوف على أنه حال من الشاطئ ومعنى المباركة جعلها الله تعالى مباركة لأنّ الله تعالى كلم موسى عليه‌السلام هناك وبعثه نبيا ، وقال عطاء : يريد المقدسة وقوله تعالى : (مِنَ الشَّجَرَةِ) بدل من شاطئ الوادي بإعادة الجار بدل اشتمال لأنّ الشجرة كانت ثابتة على الشاطئ ، قال البقاعي : ولعلّ الشجرة كانت كبيرة فلما وصل إليها دخل النور من طرفها إلى وسطها فدخلها وراءه بحيث توسطها فسمع وهو فيها الكلام من الله تعالى حقيقة وهو المتكلم سبحانه وتعالى لا الشجرة.

قال القشيري : وحصل الإجماع على أنه عليه‌السلام سمع تلك الليلة كلام الله تعالى ولو كان ذلك نداء الشجرة لكان المتكلم الشجرة وقال التفتازانيّ في شرح المقاصد إنّ اختيار حجة الإسلام أنه سمع كلامه الأزليّ بلا صوت ولا حرف كما ترى ذاته في الآخرة بلا كمّ ولا كيف.

واختلف في الشجرة ما هي؟ فقال ابن مسعود : كانت سمرة خضراء ، وقال قتادة ومقاتل والكلبي : كانت عوسجة ، وقال وهب : من العليق ، وعن ابن عباس أنها العناب ، ثم ذكر المنادى به بقوله تعالى : (أَنْ يا مُوسى) فأن هي مفسرة لا مخففة (إِنِّي أَنَا اللهُ) أي : المستجمع للأسماء الحسنى والصفات العليا ، وفتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون ثم وصف نفسه سبحانه تعالى بقوله (رَبُّ الْعالَمِينَ) أي : خالق الخلائق أجمعين ومربيهم ، قال البيضاوي : هذا وإن خالف ما في طه والنمل في اللفظ فهو طبقه في المقصود انتهى ، وقال ابن عادل : واعلم أنه تعالى قال في سورة النمل (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) [النمل : ٨] وقال ههنا (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) وقال في سورة طه (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) ولا منافاة بين هذه الأشياء فهو تعالى ذكر الكل إلا أنه تعالى حكى في كل سورة ما اشتمل عليه ذلك النداء.

ثم إنّ الله تعالى أمره أن يلقي عصاه ليريه آية بقوله تعالى : (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) أي : لأريك فيها آية فألقاها فصارت في الحال حية عظيمة وهي مع عظمها في غاية الخفة (فَلَمَّا رَآها) أي : العصا (تَهْتَزُّ) أي : تتحرّك كأنها في سرعتها وخفتها (جَانٌ) أي : حية صغيرة (وَلَّى مُدْبِراً) خوفا منها ولم يلتفت إلى جهتها وهو معنى قوله تعالى (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي : موسى عليه‌السلام وذلك كناية عن شدّة التصميم على الهرب والإسراع فيه خوفا من الإدراك في الطلب فقيل له (يا مُوسى أَقْبِلْ) أي : التفت وتقدّم إليها (وَلا تَخَفْ) ثم أكد له الأمر لما الآدميّ مجبول عليه من النفرة وإن اعتقد صحة الخبر بقوله تعالى : (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) أي : العريقين في الأمن كعادة إخوانك من المرسلين فإنه لا يخاف لديّ المرسلون.

ثم زاد طمأنينة بقوله تعالى : (أَسْئَلَكَ) أي : ادخل على الاستقامة مع الخفة والرشاقة (يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي : القطع الذي في ثوبك وهو الذي يخرج منه الرأس أو هو الكم كما يدخل السلك وهو الخيط الذي ينظم فيه الدرّ (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) بياضا عظيما يكون له شأن خارق للعادات (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي : عيب من أثر الحريق الذي عجز فرعون عن مداواته أو غيره فخرجت ولها شعاع كشعاع الشمس يعشي البصر.

تنبيه : قد ذكر هذا المعنى بثلاث عبارات إحداها هذه وثانيتها : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) [طه : ٢٢] وثالثتها : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) [النمل ، ١٢].

١٤٦

(وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) أي : يديك المبسوطتين تتقي بهما الحية كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى وبالعكس ، أو بإدخالهما في الجيب فيكون تكريرا لغرض آخر وهو أن يكون ذلك في وجه العدو أظهر جراءة ومبدأ لظهور معجزة ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه ، ومنه ما يحكى عن عمر بن عبد العزيز : أن كاتبا له كان يكتب بين يديه فانفلتت منه فلتة ريح فخجل وانكسر فقام وضرب بقلمه الأرض فقال له عمر : خذ قلمك واضمم إليك جناحك وليفرخ روعك فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي.

ومعنى قوله تعالى (مِنَ الرَّهْبِ) من أجل الرهب أي : إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك تجلدا وضبطا لنفسك ، جعل الرهب الذي كان يصيبه سببا وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه ، قال الفراء : أراد بالجناح العصا ومعناه اضمم إليك عصاك ، قال البغويّ : وقيل الرهب الكمّ بلغة حمير ، قال الأصمعي : سمعت بعض الأعراب يقول أعطني ما في رهبك أي : في كمك ومعناه اضمم إليك يدك وأخرجها من الكمّ لأنه تناول العصا ويده في كمه انتهى ، قال الزمخشريّ معترضا هذا القول : ومن بدع التفاسير أن الرهب الكمّ بلغة حمير وأنهم يقولون أعطني ما في رهبك وليت شعري كيف صحته في اللغة وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترضى عربيتهم ثم ليت شعري كيف وقعه في الآية وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل على أن موسى عليه‌السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها انتهى.

ويحتمل أن يكون لها كمّ قصير فمن نفى نظر إلى قصره ومن أثبت نظر إلى أصله وحينئذ لا تعارض ، وفي البغوي عن ابن عباس : إن الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره ليذهب عنه الروع وما ناله من الخوف عند معاينة الحية وقال : وما من خائف بعد موسى عليه‌السلام إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه ، وقال مجاهد : وكل من فزع فضمّ جناحه إليه ذهب عنه الفزع ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الراء والهاء وحفص بفتح الراء وسكون الهاء ، والباقون بضمّ الراء وسكون الهاء ، والكل لغات.

ولما تم كونه آية بانقلابها إلى البياض ثم رجوعها إلى لونها قال الله تعالى : (فَذانِكَ) أي : العصا واليد البيضاء ، وشدد ابن كثير وأبو عمرو النون ، وخففها الباقون (بُرْهانانِ) أي : سلطانان وحجتان قاهرتان مرسلان (مِنْ رَبِّكَ) أي : المحسن إليك لا يقدر على مثلهما غيره (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي : وأنت مرسل بهما إليهم كلما أردت ذلك وجدته لا أنهما يكونان لك هنا في هذه الحضرة فقط ، فإن قيل لم سميت الحجة برهانا؟ أجيب : بأنّ ذلك لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء برهرهة بتكرير العين واللام معا والدليل على زيادة النون قولهم أبره الرجل إذا جاء بالبرهان ونظيره تسميتهم إياها سلطانا من السليط وهو الزيت لإنارتها.

ثم علل الإرسال إليهم على وجه إظهار الآيات لهم واستمرارها بقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا) أي : جبلة وطبعا (قَوْماً) أي : أقوياء (فاسِقِينَ) أي : خارجين عن الطاعة فكانوا أحقاء أن يرسل إليهم.

ولما قال تعالى : (فَذانِكَ بُرْهانانِ) إلى آخره تضمن ذلك أن يذهب موسى بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه فعند ذلك طلب من يعينه بأن (قالَ رَبِ) أي : أيها المحسن إليّ (إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ

١٤٧

نَفْساً) هو القبطي السابق وأنت تعلم أني ما خرجت إلا هاربا منهم لأجلها (فَأَخافُ) إن بدأتهم بمثل ذلك (أَنْ يَقْتُلُونِ) به لوحدتي وغربتي وثقل لساني في إقامة الحجج فأخاف أن يفوت المقصود بقتلي ولا يحمي من ذلك إلا أنت وإنّ لساني فيه عقدة.

(وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) أي : من جهة اللسان للعقدة التي كانت حصلت له من وضع الجمرة في فيه وهو طفل في كفالة فرعون ، وقيل كانت من أصل الخلقة والفصاحة لغة الخلوص ومنه فصح اللبن خلص من رغوته وفصح الرجل جادت لغته ، وأفصح تكلم بالعربية (فَأَرْسِلْهُ) أي : بسبب ذلك (مَعِي رِدْءاً) أي : معينا من ردأت فلانا بكذا أي : جعلته له قوّة وعاضدا وردأت الحائط إذا دعمته بخشب أو كبش يدفعه أن يسقط ، وقرأ نافع بنقل حركة الهمزة إلى الدال وحذف الهمزة ، والباقون بسكون الدال وتنوين الهمزة بعدها.

ولما كان له عليه من العطف والشفقة ما يقصر الوصف عنه نبه على ذلك بإجابة السؤال بقوله (يُصَدِّقُنِي) أي : بأن يخلص بفصاحته ما قلته ويبينه ويقيم الأدلة عليه حتى يصير كالشمس وضوحا فيكون مع تصديقه لي بنفسه سببا في تصديق غيره لي.

وقرأ عاصم وحمزة بضم القاف على الاستئناف أو الصفة لردءا والباقون بالسكون جوابا للأمر ، قال الرازي : ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول للناس صدق موسى وإنما هو أن يخلص بلسانه الفصيح وجوب الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد ، وفائدة الفصاحة إنما تظهر في ذلك لا في مجرّد قوله صدقت ، قال السدي : نبيان وآيتان أقوى من نبي واحد وآية واحدة وهذا ظاهر من جهة العادة وأما من جهة الدلالة فلا فرق بين معجز ومعجزين ، ثم علل سؤاله هذا بقوله (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) أي : فرعون وقومه ولساني لا يطاوعني عند المحاجة.

(قالَ) الله تعالى له مجيبا لسؤاله (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ) أي : أمرك (بِأَخِيكَ) أي : سنقويك ونعينك به (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) أي : ظهورا عظيما وغلبة لهم بالحجج والهيبة لأجل ما ذكرت من الخوف (فَلا) أي : فتسبب عن ذلك أنهم لا (يَصِلُونَ إِلَيْكُما) بنوع من أنواع الغلبة (بِآياتِنا) أي : نجعل ذلك بسبب ما يظهر على أيديكما من الآيات العظيمة بنسبتها إلينا ولذلك كانت النتيجة (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا) من قومكما وغيرهم (الْغالِبُونَ) أي : لا غيركم وهذا يدل على أنّ فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين أنفسهم في الله تعالى وليس في القرآن ما يدل على أنه فعل بهم ما أوعدهم به.

قال البقاعي : وكأنه حذف أمرهم هنا لأنه في بيان أمر فرعون وجنوده بدليل ما كرّر من ذكرهم وقد كشفت العاقبة عن أنّ السحرة ليسوا من جنوده بل من حزب الله تعالى وجنده ، ومع ذلك فقد أشار إليهم بهذه الآية والتي بعدها. ا ه ولما كان التقدير فأتاهم كما أمره الله تعالى وعاضده أخوه كما أخبر الله تعالى ودعاهم إلى الله تعالى وأظهرا ما أمرا به من الآيات بنى عليه مبينا بالفاء سرعة امتثاله.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ) أي : فرعون وقومه ولما كانت رسالة هارون عليه‌السلام إنما هي تأييد لموسى عليه‌السلام أشار إلى ذلك بالتصريح باسم الجائي بقوله تعالى : (مُوسى بِآياتِنا) أي : التي أمرناه بها الدالة على جميع الآيات للتساوي في خرق العادة حال كونها (بَيِّناتٍ) أي : في غاية الوضوح (قالُوا)

١٤٨

أي : فرعون وقومه ما هذا أي : الذي أظهرته من الآيات (إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) أي : مختلق لا أنه معجزة من عند الله ثم ضموا إليه ما يدل على جهلهم وهو قولهم (وَما سَمِعْنا) أي : ما حدّثنا (بِهذا) أي : الذي تدعونا إليه وتقوله من الرسالة عن الله تعالى (فِي آبائِنَا) وأشاروا إلى البدعة التي أضلت كثيرا من الخلق وهي تحكيم عوائد التقليد لا سيما عند تقادمها على القواطع في قولهم (الْأَوَّلِينَ) وقد كذبوا وافتروا لقد سمعوا بذلك على أيام يوسف عليه‌السلام (١).

وما بالعهد من قدم

فقد قال لهم الذي آمن (يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) إلى قوله (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) [البقرة ، ٩٢]. (وَ) لما كذبوه وهم الكاذبون (قالَ) لهم (مُوسى رَبِّي) أي : المحسن إليّ (أَعْلَمُ) أي : عالم (بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى) أي : الذي أذن الله تعالى فيه وهو حق في نفسه (مِنْ عِنْدِهِ) فيعلم أني محق وأنتم مبطلون ، وقرأ ابن كثير بغير واو قبل القاف لأنه قاله جوابا لمقالهم ، والباقون بالواو لأنّ المراد حكاية القولين ليوازن الناظر بينهما ليميز صحيحهما من فاسدهما (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ) أي : لكونه منصورا مؤيدا (عاقِبَةُ الدَّارِ) أي : الراحة والسكن والاستقرار ، فإن قيل : العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسميا عاقبة الدار لأنّ الدنيا إما أن تكون خاتمتها بخير أو بشر فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمها بالشرّ؟.

أجيب : بأنّ الله تعالى قد وضع الدنيا مجازا إلى الآخرة وأراد بعباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ، وما خلقهم إلا لأجله ليبلغوا خاتمة الخير وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تخويف الفجار ، وقرأ حمزة والكسائيّ بالياء على التذكير ، والباقون بالتاء على التأنيث ، ثم علل ذلك بما أجرى الله تعالى به عادته فقال معلما بأنّ المخذول هو الكاذب إشارة إلى أنه الغالب لكون الله تعالى معه مؤكدا لما استقرّ في الأنفس من أنّ القويّ لا يغلبه الضعيف (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ) أي : لا يظفر ولا يفوز (الظَّالِمُونَ) أي : الكافرون الذين يمشون كما يمشي من هو في الظلام بغير دليل.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ) جوابا لهذا الترغيب والترهيب (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) أي : الأشراف معظما لهم استجلابا لقلوبهم (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) فتضمن كلامه نفي إلهية غيره وإثبات إلهية نفسه فكأنه قال : ما لكم من إله إلا أنا كما قال الله تعالى : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [يونس : ١٨] أي : بما ليس فيهنّ وذلك أنّ العلم تابع للموجود لا يتعلق به إلا على ما هو عليه فإذا كان الشيء معدوما لم يتعلق به موجود فمن ثم كان انتفاء العلم بوجوده انتفاء لوجوده ، فعبر عن انتفاء وجوده بانتفاء العلم بوجوده ، ويجوز أن يكون على ظاهره وأنّ إلها غير معلوم عنده ولكنه مظنون بدليل قوله (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) وإذا ظنه كاذبا في إثباته إلها غيره ولم يعلمه كاذبا فقد ظنّ أنّ في الوجود إلها غيره ولو لم يكن المخذول ظانا ظنا كاليقين بل عالما بصحة قول

__________________

(١) البيت بتمامه :

لم ألف بالدار ذا نطق سوى طلل

قد كاد يعفو وما بالعهد من قدم

والبيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في الدرر ٣ / ٩٥ (صدره فقط) ، والمقاصد النحوية ٣ / ١١٩ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٠٢ (صدره فقط).

١٤٩

موسى لقول موسى له : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الإسراء ، ١٠٢] ثم تسبب عن جهله قوله لوزيره معلما له صنعة الآجر لأنه أوّل من عمله ، قال عمر رضي الله تعالى عنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر ما علمت أنّ أحدا بنى بالآجر غير فرعون (فَأَوْقِدْ لِي) وأضاف الإيقاد إليه إعلاما بأنه لا بدّ منه (يا هامانُ) وهو وزيره (عَلَى الطِّينِ) أي : المتخذ لبنا ليصير آجرا ، ثم تسبب عن الإيقاد قوله (فَاجْعَلْ لِي) أي : منه (صَرْحاً) أي : قصرا عاليا ، وقيل : منارة ، وقال الزجاج : هو كل بناء متسع مرتفع (لَعَلِّي أَطَّلِعُ) أي : أتكلف الطلوع (إِلى إِلهِ مُوسى) أي : الذي يدعو إليه فإنه ليس في الأرض أحد بهذا الوصف الذي ذكره فأنا أطلبه في السماء موهما لهم أنه مما يمكن الوصول إليه وهو قاطع بخلاف ذلك ولكنه يقصد المدافعة من وقت إلى وقت.

قال أهل السير : لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع العمال والفعلة حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء ومن يطبخ الآجر والجص وينجر الخشب ويضرب المسامير فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد من الخلق أراد الله تعالى أن يفتنهم فيه فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه فأمر بنشابه فضرب بها نحو السماء فردّت إليه وهي ملطخة دما فقال : قد قتلت إله موسى وكان فرعون يصعد على البراذين فبعث الله تعالى جبريل عليه‌السلام فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقع منها قطعة على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف ألف رجل ، ووقعت قطعة في البحر ، وقطعة في المغرب ولم يبق أحد ممن عمل فيه بشيء إلا هلك ثم زادهم شكا بقوله مؤكدا لأجل رفع ما استقرّ في الأنفس من صدق موسى عليه‌السلام (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ) أي : موسى عليه‌السلام (مِنَ الْكاذِبِينَ) أي : دأبه ذلك وفرعون هو الذي قد لبس وكذب ووصف أصدق أهل ذلك الزمان بصفة نفسه العريقة في العدوان.

(وَاسْتَكْبَرَ) أي : أوجد الكبر بغاية الرغبة فيه (هُوَ) بقوله هذا الذي صدّهم به عن السبيل (وَجُنُودُهُ) بإعراضهم لشدّة رغبتهم في الكبر على الحق والاتباع للباطل (فِي الْأَرْضِ) أي : أرض مصر قال البقاعي : ولعله عرّفها إشارة إلى أنه لو قدر على ذلك في غيرها فعل (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي : بغير استحقاق قال البقاعي : والتعبير بالتعريف يدل على أنّ التعظيم بنوع من الحق ليس بكبر وإن كانت صورته كذلك وأما تكبره سبحانه فهو بالحق كله قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما حكاه عن ربه : «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار» (١)(وَظَنُّوا) أي : فرعون وجنوده ظنا بنوا عليه اعتقادهم في أصل الدين الذي لا يكون إلا بقاطع (أَنَّهُمْ إِلَيْنا) أي : إلى حكمنا خاصة الذي يظهر عند انقطاع الأسباب (لا يُرْجَعُونَ) بالنشور ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم والباقون بضمّ الياء وفتح الجيم.

ولما تسبب عن ذلك إهلاكهم قال تعالى : (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ) كلهم أخذ قهر ونقمة وذلك علينا هيّن وأشار تعالى إلى احتقارهم بقوله تعالى : (فَنَبَذْناهُمْ) أي : طرحناهم (فِي الْيَمِ) أي : البحر المالح فغرقوا فكانوا على كثرتهم وقوّتهم كحصيات صغار قذفها الرامي الشديد الدرء من يده شامخات في البحر ونحو ذلك قوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ) [المرسلات ، ٢٧] وقوله تعالى (وَحُمِلَتِ

__________________

(١) أخرجه أبو داود في اللباس حديث ٤٠٩٠ ، وابن ماجه في الزهد حديث ٤١٧٤.

١٥٠

الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة : ١٤].

ولما تسبب عن هذه الآيات من العلوم ما لا تحيط به الفهوم قال تعالى : (فَانْظُرْ) أي : أيها المعتبر بالآيات الناظر فيها نظر اعتبار (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) أي : آخر أمر (الظَّالِمِينَ) حيث صاروا إلى الهلاك فحذّر قومك عن مثلها وفي هذا إشارة إلى أنّ كل ظالم تكون عاقبته هكذا إن صابره المظلوم المحق ورابطه (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) [يونس ، ١٠٩].

ولما كان : «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» (١) قال الله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ) أي : في الدنيا (أَئِمَّةً) أي : قدوة للضلال بالحمل على الإضلال ، وقيل بالتسمية كقوله تعالى (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩] أو بمنع الألطاف الصارفة عنه (يَدْعُونَ) أي : يوجدون الدعاء لمن اغتر بحالهم فضل بضلالهم (إِلَى النَّارِ) أي : إلى موجباتها من الكفر والمعاصي ، وأمّا أئمة الحق فإنما يدعون إلى موجبات الجنة من فعل الطاعات والنهي عن المنكرات : جعلنا الله تعالى وأحبابنا معهم بمحمد وآله.

ولما كان الغالب من حال الأئمة النصرة وقد أخبر عن خذلانهم في الدنيا قال تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : الذي هو يوم التغابن (لا يُنْصَرُونَ) أي : لا يكون لهم نوع نصرة تدفع العذاب عنهم.

(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) أي : طردا عن الرحمة ودعاء عليهم بذلك من كل من سمع خبرهم بلسانه إن خالفهم أو بفعله الذي يكون عليهم مثل وزره إن وافقهم ، وإنما قال الله تعالى : (الدُّنْيا) ولم يقل الحياة ، قال البقاعي : لأنّ السياق لتحقير أمرهم ودناءة شأنهم.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ) أي : خاصة ومن شاكلهم (مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) أي : المبعدين أيضا المخزيين مع قبح الوجوه والأشكال والشناعة في الأقوال والأفعال والأحوال من القبح الذي هو ضد الحسن من قولهم : قبح الله العدو أبعده عن كل خير ، وقال أبو عبيدة : من المهلكين ، قال البقاعي : فيا ليت شعري أي صراحة بعد هذا في أنّ فرعون عدوّ الله في الآخرة كما كان عدوّ الله في الدنيا فلعنة الله على من يقول إنه مات مؤمنا وأنه لا صراحة في القرآن بأنه من أهل النار وعلى من يشك في كفره بعدما ارتكبه من جلي أمره انتهى ، وقد قدّمت الكلام في سورة يونس على قول فرعون (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس : ٩٠].

ثم إنه تعالى أخبر عن أساس إمامة بني إسرائيل مقسما عليه مع الافتتاح بحرف التوقع بقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا) أي : بما لنا من الجلال والكمال (مُوسَى الْكِتابَ) أي : التوراة الجامعة للهدى والخير في الدارين ، قال أبو حيان : وهو أوّل كتاب نزلت فيه الفرائض والأحكام.

(مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) أي : من قوم نوح إلى قوم فرعون وقوله تعالى (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) حال من الكتاب جمع بصيرة وهي نور القلب أي : أنوار القلوب فيبصر بها الحقائق ويميز بين الحق والباطل كما أنّ البصر نور العين الذي تبصر به (وَهُدىً) أي : للعامل بها إلى كل خير

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٠١٧ ، والترمذي في العلم ٢٦٧٥ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ٢٠٣ ، والدارمي في المقدمة حديث ٥١٢.

١٥١

(وَرَحْمَةً) أي : نعمة هنيئة شريفة لأنها قائدة إليهما.

ولما ذكر حالها ذكر حالهم بعد إنزالها بقوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي : ليكون حالهم حال من يرجى تذكره.

ثم إنّ الله تعالى خاطب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى :

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩))

(وَما كُنْتَ) أي : يا أفضل الخلق (بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) قال قتادة : بجانب الجبل الغربي ، وقال الكلبي : بجانب الوادي الغربي أي : الوادي من الطور الذي رأى موسى عليه‌السلام فيه النار وهو ما يلي البحر من جهة الغرب على يمين المتوجه إلى ناحية مكة المشرّفة من ناحية مصر فناداه فيه العزيز الجبار وهو ذو طوى (إِذْ) أي : حين (قَضَيْنا) أي : أوحينا (إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) أي : أمر الرسالة إلى فرعون وقومه وما يريد أن يفعل من ذلك في أوّله وأثنائه وآخره مجملا فكان كل ما أخبرنا به مطابقا تفصيله لإجماله (وَما كُنْتَ) أي : بوجه من الوجوه (مِنَ الشَّاهِدِينَ) لتفاصيل ذلك الأمر الذي أجملناه لموسى عليه‌السلام حتى تخبر به كله على هذا الوجه الذي آتيناك به في هذه الأساليب المعجزة ، ولا شك أنّ معرفتك لذلك من قبيل الإخبار عن المغيّبات التي لا تعرف إلا بالوحي ولذلك استدرك عنه بقوله تعالى : (وَلكِنَّا) أي : بما لنا من العظمة (أَنْشَأْنا) بعدما أهلكنا أهل ذلك الزمان الذين علموا هذه الأمور بالمشاهدة وهم السبعون المختارون للميقات أو بالإخبار كلهم (قُرُوناً) أي : أمما كثيرة بعد موسى عليه‌السلام (فَتَطاوَلَ) أي : بمروره وعلوه (عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي : ولكنا أوحينا إليك أنا أنشأنا قرونا مختلفة بعد موسى عليه‌السلام فتطاولت عليهم المدد فنسوا العهود

١٥٢

واندرست العلوم وانقطع الوحي فحذف المستدرك وهو أوحينا وأقام سببه وهو الإنشاء مقامه على عادة الله تعالى في اختصاراته فهذا الاستدراك شبيه بالاستداركين بعده ، فإن قيل : ما الفائدة في إعادة قوله تعالى : (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) بعد قوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) لأنه ثبت بذلك أنه لم يكن شاهدا لأنّ الشاهد لا بدّ أن يكون حاضرا؟ أجيب : بأنّ ابن عباس قال : التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت ما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى.

وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الهاء والميم ، وحمزة والكسائي بضمّ الهاء والميم ، وحمزة في الوقف بضمّ الهاء وسكون الميم ، والباقون في الوصل بكسر الهاء وضمّ الميم.

ولما نفي العلم عن ذلك بطريق الشهود نفي سبب العلم بذلك بقوله تعالى : (وَما كُنْتَ ثاوِياً) أي : مقيما إقامة طويلة مع الملازمة بمدين (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) أي : قوم شعيب عليه‌السلام كمقام موسى وشعيب فيهم (تَتْلُوا) أي : تقرأ (عَلَيْهِمُ) تعلما منهم (آياتِنا) العظيمة التي منها قصتهما لتكون ممن يهتم بأمور الوحي ويتعرّف دقيق أخباره فيكون خبرهم وخبر موسى عليه‌السلام معك (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) إياك رسولا وأنزلنا عليك كتابا فيه هذه الأخبار تتلوها عليهم ولو لا ذلك ما علمتها ولم تخبرهم بها.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) أي : بناحية الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه‌السلام (إِذْ) أي : حين (نادَيْنا) أي : أوقعنا النداء لموسى عليه‌السلام فأعطيناه التوراة وأخبرناه بما لا يمكن الاطلاع عليه إلا من قبلنا أو من قبله ، ومن المشهور أنك لم تطلع على شيء من ذلك من قبله لأنك ما خالطت أحدا ممن حمل تلك الأخبار عن موسى عليه‌السلام ولا أحدا حملها ممن حملها عنه ولكن كان ذلك إليك منا ، وهو معنى قوله تعالى (وَلكِنْ) أي : أنزلنا ما أردنا وأرسلناك به (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) لك خصوصا وللخلق عموما.

وقيل : إذ نادينا موسى خذ الكتاب بقوّة ، وقال وهب : قال موسى يا رب أرني محمدا قال : إنك لن تصل إلى ذلك وإن شئت ناديت أمّته وأسمعتك صوتهم قال : بلى يا رب فقال الله تعالى : يا أمّة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم ، وقال أبو زرعة : نادى يا أمّة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني ، وروي عن ابن عباس ورفعه بعضهم : قال الله تعالى يا أمّة محمد فأجابوه من أصلاب الآباء وأرحام الأمّهات لبيك اللهمّ لبيك إن الحمد لله والنعمة لك والملك لا شريك لك ، قال الله تعالى يا أمّة محمد إنّ رحمتي سبقت غضبي وعفوي عقابي قد أعطيتكم قبل أن تسألوني وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني وقد غفرت لكم من قبل أن تستغفروني من جاء يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبدي ورسولي دخل الجنة وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر.

تنبيه : قال البيضاوي : لعل المراد به أي : بقوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) [القصص : ٤٦] وقت ما أعطاه التوراة وبالأول أي : قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا) حيث استنبأناه لأنهما المذكوران في القصة وقوله تعالى (لِتُنْذِرَ) أي : لتحذر تحذيرا كثيرا (قَوْماً) أي : أهل قوّة ونجدة ليس بهم عائق عن أعمال الخير العظيمة إلا الإعراض عنك ، وهم العرب ومن في ذلك الزمان من الخلق يتعلق بالفعل المحذوف (ما أَتاهُمْ) وعمم النفي بزيادة

١٥٣

الجار في قوله تعالى : (مِنْ نَذِيرٍ) وزيادة الجار في قوله تعالى (مِنْ قَبْلِكَ) يدل على الزمن القريب وهو زمن الفترة بينه وبين عيسى عليهما الصلاة والسلام وهو خمسمائة وخمسون سنة ونحو هذا قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) [يس : ٦] وقيل : ليس المراد زمن الفترة بل ما بينه وبين إسماعيل عليهما‌السلام على أنّ دعوة موسى وعيسى كانت مختصة ببني إسرائيل وما حولهم (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي : يتعظون.

(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ) أي : في وقت من الأوقات (مُصِيبَةٌ) أي : عظيمة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي : من المعاصي التي قضينا بأنها مما لا يعفى عنها (فَيَقُولُوا رَبَّنا) أي : أيها المحسن إلينا (لَوْ لا) أي : هلا ولم لا (أَرْسَلْتَ إِلَيْنا) أي : على وجه التشريف لنا لنكون على علم بأنا ممن يعتني الملك الأعلى به (رَسُولاً) وأجاب التحضيض الذي شبهوه بالأمر ليكون كل منهما باعثا على الفعل بقوله تعالى : (فَنَتَّبِعَ) أي : فيتسبب عن إرسال رسولك أن نتبع (آياتِكَ وَنَكُونَ) أي : كونا هو في غاية الرسوخ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : المصدقين لك في كل ما أتى به عنك رسولك.

تنبيه : (لو لا) الأولى : امتناعية وجوابها محذوف تقديره كما قال الزجاج ما أرسلنا إليهم رسولا يعني أنّ الحامل على إرسال الرسل إزاحة عللهم بهذا القول فهو كقوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥] والثانية : تحضيضية ونتبع جوابها كما مرّ فلذلك أضمر أن ، فإن قيل : كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول لدخول حرف الامتناع عليها دونه؟.

أجيب : بأنّ القول هو المقصود بأن يكون سببا للإرسال ولكنّ العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها سبب للإرسال بواسطة القول فأدخلت عليها (لو لا) وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية ويؤول معناه إلى قولك ولو لا قولهم هذا إذا أصابتهم مصيبة لما أرسلنا ولكن اختيرت هذه الطريقة لنكتة وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلا على كفرهم وقد عاينوا ما ألجؤا به إلى العلم اليقيني ببطلان دينهم لم يقولوا لو لا أرسلت إلينا رسولا بل إنما يقولون إذا نالهم العقاب ، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم عزوجل وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفي وهو كقوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] ولما كان التقدير ولكنا أرسلناك بالحق لقطع حجتهم هذه بنى عليه.

(فَلَمَّا جاءَهُمُ) أي : أهل مكة (الْحَقُ) أي : الذي هو أعم من الكتاب والسنة وما يقاس عليهما وهو في نفسه جدير بأن يقبل لكونه في الذروة العليا من الثبات فكيف وهو (مِنْ عِنْدِنا) على ما لنا من العظمة وهو على لسانك وأنت أعظم الخلق (قالُوا) أي : أهل الدعوة من العرب وغيرهم تعنتا وكفرا به (لَوْ لا) أي : هلا ولم لا (أُوتِيَ) أي : هذا الآتي بما يزعم أنه الحق من الآيات (مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) من الآيات كاليد البيضاء والعصا وغيرهما من كون الكتاب أنزل عليه جملة واحدة قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا) أي : العرب ومن بلغته الدعوة من بني إسرائيل ومن كان مثلهم في البشرية والعقل في زمن موسى (بِما أُوتِيَ مُوسى) عليه‌السلام من قبل أي : من قبل مجيء الحق على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما كان كأنه قد قيل ما كان

١٥٤

كفرهم به قيل (قالُوا) أي : فرعون وقومه ومن كفر من بني إسرائيل (سِحْرانِ) أي : موسى وأخوه عليهما‌السلام (تَظاهَرا) أي : أعان كل منهما صاحبه على سحره حتى صار سحرهما معجزا فغلبا جميع السحرة وتظاهر الساحرين من تظاهر السحرين على قراءة الكوفيين بكسر السين وسكون الحاء ، وقرأ الباقون بفتح السين وكسر الحاء وألف بينهما.

تنبيه : يجوز أن يكون الضمير لمحمد وموسى عليهما الصلاة والسلام ، قال البقاعي : وهو أقرب وذلك لأنه روي أن قريشا جاءت إلى اليهود فسألوهم عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروهم أنّ نعته في كتابهم فقالوا هذه المقالة فيكون الكلام استئنافا لجواب من كأنه قال : ما كان كفرهم بهما؟ فقيل قالوا أي : العرب : الرجلان ساحران أو الكتابان ساحران ظاهر أحدهما الآخر مع علم كل ذي لب أنّ هذا القول زيف لأنه لو كان شرط إعجاز السحر التظاهر لكان سحر فرعون أعجز إعجازا لأنه تظاهر عليه جميع سحرة بلاد مصر وعجزوا عن معارضة ما أظهر موسى عليه‌السلام من آياته كالعصا ، وأمّا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد دعا أهل الأرض من الجنّ والأنس إلى معارضة كتابه وأخبرهم أنهم عاجزون ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا فعجزوا عن آخرهم.

ولما تضمن قولهم ذلك الكفر صرّحوا به (وَقالُوا) أي : كفار قريش (إِنَّا بِكُلٍ) أي : من الساحرين أو السحرين اللذين تظاهرا بهما وهما ما أتيا به من عند الله (كافِرُونَ) جراءة على الله تعالى وتكبرا على الحق.

ثم قال الله تعالى : (قُلْ) أي : لهم إلزاما إن كنتم صادقين في أني ساحر وكتابي سحر وكذلك موسى عليه‌السلام (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : الملك العلي الأعلى (هُوَ) أي : الذي تأتون به (أَهْدى مِنْهُما) أي : من الكتابين وقوله (أَتَّبِعْهُ) أي : وأتركهما جواب الأمر وهو فأتوا (إِنْ كُنْتُمْ) أي : أيها الكفار (صادِقِينَ) أي : في أنا ساحران فأتوا بما ألزمتكم به ، قال البيضاوي : وهذا من الشروط التي يراد بها الإلزام والتبكيت ولعل مجيء حرف الشك للتهكم بهم.

(فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) أي : دعاءك إلى الكتاب الأهدى فحذف المفعول للعلم به ولأن فعل الاستجابة يتعدّى بنفسه إلى الدعاء وباللام إلى الداعي فإذا عدي إليه حذف الدعاء غالبا كقول القائل (١) :

وداع دعا يا من يجيب إلى الندا

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وداع (أي : ورب داع).

الشاهد في يستجبه حيث عدّاه إلى الداعي وحذف الدعاء والتقدير فلم يستجب دعاءه (فَاعْلَمْ) أنت (أَنَّما يَتَّبِعُونَ) أي : بغاية جهدهم فيما هم عليه من الكفر والتكذيب (أَهْواءَهُمْ) أي : دائما وأكثر الهوى مخالف للهدى فهم ضالون غير مهتدين بل هم أضلّ الناس وذلك معنى قوله تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ) أي : بغاية جهده (هَواهُ) أي : لا أحد أضل منه فهو استفهام بمعنى النفي وقوله تعالى : (بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) في موضع الحال للتوكيد والتقييد فإن هوى النفس

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لكعب بن سعد الغنوي في الأصمعيات ص ٩٦ ، ولسان العرب (جوب) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ٥٥ ، وجمهرة أشعار العرب ص ٧٠٥ ، وتاج العروس (جوب) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١١ / ٢١٩.

١٥٥

قد يوافق الهدى (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي : وإن كانوا أقوى الناس لاتباعهم أهواءهم.

(وَلَقَدْ وَصَّلْنا) قال ابن عباس : بيّنا ، وقال الفراء : أنزلنا آيات القرآن يتبع بعضها بعضا (لَهُمُ) أي : خاصة فكان تخصيصهم بذلك منّة عظيمة يجب عليهم شكرها (الْقَوْلَ) أي : القرآن ، قال مقاتل : بيّنا لكفار مكة بما في القرآن من أخبار الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم وقال ابن زيد : وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي : ليكون حالهم حال من يرجى لهم أن يرجعوا إلى عقولهم فيجدوا فيما طبع فيها ما يذكرهم بالحق.

ثم كأنه قيل هل تذكر منهم أحد؟ قيل نعم أهل الكتاب الذين هم أهله حقا تذكروا وذلك معنى قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) أي : قبل القرآن أو قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (هُمْ بِهِ) أي : بما تقدّم (يُؤْمِنُونَ) أيضا : نزل في جماعة أسلموا من اليهود عبد الله بن سلام وأصحابه ، وقال مقاتل هم أهل الإنجيل الذين قدموا من الحبشة وآمنوا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال سعيد بن جبير هم أربعون رجلا قدموا مع جعفر من الحبشة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة قالوا له يا نبيّ الله إنّ لنا أموالا فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا بها المسلمين فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فنزل فيهم ذلك إلى قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) وعن ابن عباس : نزلت في ثمانين من أهل الكتاب أربعون من نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الشام.

ثم وصفهم الله تعالى بقوله تعالى : (وَإِذا يُتْلى) أي : تتجدّد تلاوة القرآن (عَلَيْهِمْ قالُوا) أي : مبادرين لذلك (آمَنَّا بِهِ) ثم عللوا ذلك بقولهم (إِنَّهُ الْحَقُ) أي : الكامل الذي ليس وراءه إلا الباطل مع كونه (مِنْ رَبِّنا) أي : المحسن إلينا ثم عللوا مبادرتهم بقولهم (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ) أي : القرآن (مُسْلِمِينَ) أي : منقادين غاية الانقياد مخلصين لله بالتوحيد مؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نبيّ حق.

(أُولئِكَ) أي : العالو الرتبة (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) أي : لإيمانهم به غيبا وشهادة أي : بالكتاب الأوّل ثم بالكتاب الثاني (بِما صَبَرُوا) أي : بسبب صبرهم على دينهم ، وقال مجاهد : نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأؤذوا ، وعن أبي بردة عن أبي موسى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين رجل كانت له جارية فأدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوّجها ، ورجل كان من أهل الكتاب آمن بكتابه وآمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعبد أحسن عبادة الله تعالى ونصح لسيده» (١) ولما كان الصبر لا يتم إلا بالاتصاف بالمحاسن والانخلاع من المساوي قال تعالى عاطفا على يؤمنون مشيرا إلى تجديد هذه الأفعال كل حين (وَيَدْرَؤُنَ) أي : يدفعون (بِالْحَسَنَةِ) من الأقوال والأفعال (السَّيِّئَةَ) أي : فيمحونها بها ، وقال ابن عباس : يدفعون بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك ، وقال مقاتل : يدفعون بها ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين أي : بالصفح والعفو.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٣٠١١ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٥٤.

١٥٦

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ) أي : بعظمتنا لا بحول منهم ولا قوّة قليلا كان أو كثيرا (يُنْفِقُونَ) أي : يتصدّقون معتمدين في الخلف على الذي رزقه.

ولما ذكر الله أنّ السماح بما تضنّ النفوس به من فضول الأموال من أمارات الإيمان أتبعه أنّ خزن ما تبذله الأنفس من فضول الأقوال من علامات العرفان بقوله تعالى :

(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) أي : ما لا ينفع في دين ولا دنيا من شتم وتكذيب وتعيير ونحوه (أَعْرَضُوا عَنْهُ) تكرّما عن الخنا ، وقيل اللغو : القبيح من القول ؛ وذلك أنّ المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون لهم تبا لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم (وَقالُوا) وعظا وتسميعا لقائله (لَنا) خاصة (أَعْمالُنا) لا تثابون على شيء منها ولا تعاقبون (وَلَكُمْ) أي : خاصة (أَعْمالُكُمْ) لا نطالب بشيء منها فنحن لا نشتغل بالرد عليكم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) متاركة لهم وتوديعا ودعاء لهم بالسلامة عما هم فيه ، لا سلام تحية وإكرام ، ونظير ذلك (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان ، ٦٣] ثم أكد ذلك تعالى بقوله تعالى : حاكيا عنهم (لا نَبْتَغِي) أي : لا نكلف أنفسنا أن نطلب (الْجاهِلِينَ) أي : لا نريد شيئا من أموالهم وأقوالهم أو غير ذلك من خلالهم ، وقيل لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه قيل نسخ ذلك بالأمر بالقتال وهو بعيد لأنّ ترك المسافهة مندوب إليه وإن كان القتال واجبا ، ونزل في حرصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إيمان عمه أبي طالب (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أي : نفسه أو هدايته بخلق الإيمان في قلبه ، روى سعيد بن المسيب عن أبيه أنه قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال : «أي عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرضها ويصدانه بتلك الكلمة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عن ذلك» فأنزل الله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣] وأنزل الله تعالى في أبي طالب فقال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) الآية ، وفي مسلم عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمره بالتوحيد فقال له لو لا أن تعيرني قريش تقول إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك فأنزل الله تعالى الآية» (١) وروي أنّ أبا طالب قال عند موته يا معشر بني هاشم أطيعوا محمدا وصدّقوه تفلحوا وترشدوا فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا عمّ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك» قال فما تريد يا ابن أخي قال «أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله» قال يا ابن أخي قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت ولو لا أن يكون عليك وعلى بني أبيك غضاضة وسبة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدّة وجدك ونصيحتك ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وعبد مناف فإن قيل قال الله تعالى في هذه الآية (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وقال تعالى في آية أخرى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢] أجيب : بأنه لا تنافي بينهما فإن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة والذي نفى عنه هداية التوفيق وشرح الصدور وهو نور يقذف في القلب فيحيا به القلب كما قال تعالى : (أَوَ

__________________

(١) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٥.

١٥٧

مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) [الأنعام : ١٢٢] (وَهُوَ أَعْلَمُ) أي : عالم (بِالْمُهْتَدِينَ) أي : الذين قد هيأهم لتطلب الهدى عند خلقه لهم سواء كانوا من أهل الكتاب أم من العرب أقارب كانوا أم أباعد.

ثم حكى الله تعالى عن كفار قريش شبهة تتعلق بأحوال الدنيا بقوله تعالى : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى) أي : الإسلام فنوحد الله تعالى من غير إشراك (مَعَكَ) وأنت على ما أنت عليه من مخالفة الناس (نُتَخَطَّفْ) أي : من أيّ خاطف أرادنا لأنا نصير قليلا في كثير من غير نصير (مِنْ أَرْضِنا) كما تتخطف العصافير لمخالفة كافة العرب لنا وليس لنا نسبة إلى كثرتهم ولا قوّتهم فيسرعوا إلينا فيتخطفونا ، أي : يتقصدون خطفنا واحدا واحدا فإنه لا طاقة لنا على إدامة الاجتماع وأن لا يشذ بعضنا عن بعض.

قال المبرد : والخطف الانتزاع بسرعة نزلت في الحارث بن نوفل بن عبد مناف قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا لنعلم أن الذي تقوله حق ولكنا إن اتبعناك على دينك وخالفنا العرب بذلك وإنما نحن أكلة رأس خفنا أن تخرجنا العرب من أرضنا مكة ، ثم ردّ الله تعالى عليهم هذه الشبهة وألقمهم الحجر بقوله تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ) أي : غاية التمكين (لَهُمْ) أي : في أوطانهم ومحلّ سكناهم بما لنا من القدرة (حَرَماً آمِناً) أي : ذا أمن يأمن فيه كل خائف حتى الطير من كواسرها والوحش من جوارحها حتى إن سيل الحلّ لا يدخل الحرم بل إذا وصل إليه عدل عنه ، وروي أنّ مكة كانت في الجاهلية لا يعرضها ظلم ولا بغي ولا يبغي فيها أحد إلا أخرجته وكان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه فيها فلا يهيجه ولا يتعرّض له بسوء ، وروى الأزرقي في تاريخ مكة عن حويطب بن عبد العزى قال : كان في الكعبة حلق يدخل الخائف يده فيها فلا يريبه أحد فجاء خائف ليدخل يده فاجتذبه رجل فشلت يده فلقد رأيته في الإسلام وإنه لأشلّ.

وعن ابن عباس قال : أخذ رجل ذود ابن عمّ له فأصابه في الحرم فقال : ذودي فقال اللص : كذبت قال فاحلف فحلف عند المقام فقام ربّ الذود بين الركن والمقام باسطا يديه يدعو فما برح مقامه يدعو حتى ذهب عقل اللص وجعل يصيح بمكة مالي ولفلان رب الذود فبلغ ذلك عبد المطلب فجمع الذود ودفعه إلى المظلوم فخرج به وبقي الآخر حتى وقع من جبل فتردّى فأكلته السباع.

وعن ابن جريج : أنّ غير قريش من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا إن أعارتهم قريش ثيابا فجاءت امرأة لها جمال فطافت عريانة فرآها رجل فأعجبته فدخل فطاف إلى جنبها فأدنى عضده من عضدها فالتزقت عضده بعضدها فخرجا من المسجد هاربين فزعين على وجوههما لما أصابهما من العقوبة فلقيهما شيخ من قريش فأفتاهما أن يعودا إلى المكان الذي أصابا فيه الذنب فيدعوان ويخلصان أن لا يعودا فعادا ودعوا وأخلصا النية فافترقت أعضادهما فذهب كل واحد منهما في ناحية.

وعن عبد العزيز بن رواد أنّ قوما انتهوا إلى ذي طوى فإذا ظبي قد دنا منهم فأخذ رجل منهم بقائمة من قوائمه فقال له أصحابه : ويحك أرسله فجعل يضحك وأبى أن يرسله فبعر الظبي وبال ثم أرسله فناموا في القائلة ثم انتبهوا فإذا بحية متطوّقة على بطن الرجل الذي أخذ الظبي فلم تنزل الحية عنه حتى كان منه من الحدث مثل ما كان من الظبي.

١٥٨

وعن مجاهد قال : دخل قوم مكة تجارا من الشام في الجاهلية فنزلوا ذا طوى فاختبزوا ملة لهم ولم يكن معهم إدام فرمى رجل منهم ظبية من ظباء الحرم وهي حولهم ترعى فقاموا إليها فسلخوها وطبخوها ليأتدموا بها فبينما قدرهم على النار يغلي لحمه إذ خرجت من تحت القدر عنق من النار عظيمة فأحرقت القوم جميعا ولم تحرق ثيابهم ولا أمتعتهم.

وعن أيوب بن موسى أنّ امرأة في الجاهلية كان معها ابن عمّ لها صغير فقالت له : يا بني إني أغيب عنك وإني أخاف أن يظلمك أحد فإن جاءك ظالم بعدي فإنّ لله بمكة بيتا سيمنعك فجاءه رجل فاسترقه فلما رأى الغلام البيت عرفه بالصفة فنزل يشتد حتى تعلق بالبيت فجاءه سيده فمدّ يده إليه ليأخذه فيبست يده فمدّ الأخرى فيبست فاستفتى فأفتي أن ينحر عن كل واحدة من يديه بدنة ففعل فأطلقت يداه وترك الغلام وخلى سبيله.

وعن أبي ربيع بن سالم الكلاعي أنّ رجلا من كنانة بن هذيل ظلم ابن عمّ له فخوّفه بالدعاء في الحرم فقال هذه ناقتي فلانة اركبها فاذهب إليه فاجتهد في الدعاء في الحرم فجاء في الحرم في الشهر الحرام فقال اللهمّ إني أدعوك جاهدا مضطرّا على ابن عمي فلان ترميه بداء لا دواء له ثم انصرف فوجد ابن عمه قد رمي في بطنه فصار مثل الزق فما زال ينتفخ حتى انشق.

وعن عمر رضي الله عنه أنه سأل رجلا من بني سليم عن ذهاب بصره فقال يا أمير المؤمنين كنا بني ضبعاء عشرة وكان لنا ابن عمّ فكنا نظلمه فكان يذكرنا الله والرحم فلما رأى أنا لا نكف عنه انتهى إلى الحرم في الأشهر الحرم فجعل يرفع يديه ويقول (١) :

لا همّ أدعوك دعاء جاهدا

اقتل بني ضبعاء إلا واحدا

ثم اضرب الرجل ودعه قاعدا

أعمى إذا قيد يعيي القائدا

قال فمات أخوتي التسعة في تسعة أشهر في كل شهر واحد وبقيت أنا فعميت ورماني الله عزوجل في رجلي فليس يلائمني قائد فقال عمر رضى الله تعالى عنه جعل الله هذا في الجاهلية إذ لا دين حرمة حرمها وشرفها ليرجع الناس عن انتهاك ما حرم مخافة تعجيل العقوبة فلما جاء الدين صار التوعد للساعة ويستجيب الله تعالى لمن يشاء فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين وإنما أكثرت من هذه الحكايات ليكون الداخل للحرم على حذر فإنّ الله تعالى حماه ومكّن أهله في الحرم الذي أمنّه بحرمة البيت وأمن قطانه بحرمته وكانت العرب في الجاهلية حولهم يتغاورون ويتناجدون وهم آمنون في حرمهم لا يخافون وبحرمة البيت هم قارّون بواد غير ذي زرع والثمرات والأرزاق تجبى إليهم كما قال تعالى :

(يُجْبى) أي : يجمع ويحمل (إِلَيْهِ) أي : خاصة دون غيره من جزيرة العرب (ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) من النبات الذي بأرض العرب من ثمر البلاد الحارة كالبسر والرطب والنبق ، والباردة كالعنب والتفاح والرمّان والخوخ ، فإذا خولهم الله تعالى ما خوّلهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وحدها وهم كفرة عبدة أصنام فكيف يستقيم أن يعرّضهم للخوف والتخطف ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة وإلى الحرم مجاز.

تنبيه : معنى الكلية هنا الكثرة كقوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] ولكن في

__________________

(١) الرجز لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

١٥٩

تعبيره بالمضارع وما بعده إشارة إلى الاستمرار وأنه يأتي إليه بعد ذلك من كل ما في الأرض من المال ما لم يخطر لأحد منهم في بال ، وقرأ نافع بالتاء الفوقية ، والباقون بالياء التحتية ، وأمال حمزة والكسائي محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين ، والباقون بالفتح ، ثم إنه تعالى بين أنّ الرزق من عنده بقوله تعالى : (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) أي : فلا صنع لأحد فيه بل هو محض تفضل.

تنبيه : انتصاب رزقا على المصدر من معنى يجبى أو الحال من ثمرات لتخصيصها بالإضافة كما تنصب عن النكرة المخصصة وإن جعلته اسما للمرزوق انتصب على الحال من ثمرات (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي : أهل مكة وغيرهم ممن لا هداية له (لا يَعْلَمُونَ) أي : ليس لهم قابلية للعلم حتى يعلموا أنا نحن الفاعلون لذلك بل هم جهلة لا يتفطنون له ولا يتفكرون ليعلموا ، وقيل : إنه متعلق بقوله تعالى : (مِنْ لَدُنَّا) أي : قليل منهم يتدبرون فيعلمون أنّ ذلك رزق من عند الله إذ لو علموا لما خافوا غيره.

ثم بين تعالى أنّ الأمر بالعكس فإنهم أحقّاء بأن يخافوا من بأس الله تعالى على ما هم عليه بقوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) أي : من أهل قرية وأشار إلى سبب الإهلاك بقوله تعالى : (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) أي : وقع منها البطر في زمن عيشها الرخيّ الواسع فكان حالهم كحالكم في الأمن وإدرار الرزق فلما بطروا معيشتهم أهلكناهم ، ومعنى بطرهم لها قال عطاء : أنهم أكلوا رزق الله وعبدوا غيره ، وقيل : البطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله تعالى فيه.

تنبيه : انتصاب معيشتها إما بحذف الجار واتصال الفعل كما في قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف : ١٥٥] أو بتقدير حذف ظرف الزمان وأصله بطرت أيام معيشتها ، وإما بتضمين بطرت معنى كفرت أو خسرت ، أو على التمييز ، أو على التشبيه بالمفعول به وهو قريب من سفه نفسه (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ) خاوية (لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ) بعد أن طال ما تعالوا فيها ونمّقوها وزخرفوها وزفوا فيها الأبكار وفرحوا بالأعمال الكبار (إِلَّا) سكونا (قَلِيلاً) قال ابن عباس : لم يسكنها إلا المسافرون ومارّوا الطريق يوما أو ساعة من ليل أو نهار ثم تصير يبابا موحشة كالقفار بعد أن كانت متمنعة الفناء ببيض الصفاح وسمر القنا ، قال الزمخشري : ويحتمل أنّ شؤم معاصي المهلكين بقي أثره في ديارهم فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلا (وَكُنَّا) أي : أزلا وأبدا (نَحْنُ) لا غيرنا (الْوارِثِينَ) منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرّف تصرّفهم في ديارهم وسائر متصرّفاتهم قال القائل (١) :

تتخلف الآثار عن أصحابها

حينا ويدركها الفناء فتتبع

(وَما كانَ رَبُّكَ) أي : المحسن إليك بالإحسان بإرسالك إلى الناس (مُهْلِكَ الْقُرى) أي : هذا الجنس كله بجرم وإن عظم (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) أي : أعظمها وأشرفها (رَسُولاً) لأنّ غيرها تبع لها ولم يشترط كونه من أمها فقد كان عيسى عليه‌السلام من الناصرة وبعث إلى بيت المقدس (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ) أي : أهل القرى كلهم (آياتِنا) الدالة على ما ينبغي لنا من الحكمة وبما لها من الإعجاز على نفوذ الكلمة وباهر العظمة إلزاما للحجة وقطعا للمعذرة لئلا يقولوا ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا ، ولذلك لما أردنا عموم الخلق بالرسالة جعلنا الرسول وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم الأنبياء من

__________________

(١) البيت بلا نسبة في الكشاف للزمخشري ٣ / ٤٢٨.

١٦٠