تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٣

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٣٦

إِلَيْهِمْ) أي : الذين ذكرت أنهم يعبدون الشمس وذلك للاهتمام بأمر الدين ، وقرأ أبو عمرو وشعبة وخلاد بخلاف عنه فألقه بسكون الهاء ، واختلس الكسرة قالون وهشام بخلاف عنه ، والباقون بإشباع الكسرة. (ثُمَ) قال له إذا ألقيته إليهم (تَوَلَ) أي : تنحّ (عَنْهُمْ) إلى مكان تسمع فيه كلامهم ولا يصلون معه إليك (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) أي : يردّون من الجواب ، وقال ابن زيد في الآية تقديم وتأخير ، مجازها اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ، ثم توّل عنهم أي : انصرف إليّ ، فأخذ الهدهد الكتاب وأتى إلى بلقيس وكانت بأرض يقال لها مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام.

قال قتادة : فوافاها في قصرها وقد غلقت الأبواب وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها ، فأتاها الهدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها فألقى الكتاب على نحرها ، وقيل نقرها فانتبهت فزعة ، وقال مقاتل : حمل الهدهد الكتاب بمنقاره حتى وقف على رأس المرأة وحولها القادة والجنود فرفرف ساعة ، والناس ينظرون إليه حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها ، وقال وهب بن منبه وابن زيد : كانت لها كوة مستقبلة الشمس تقع الشمس فيها حين تطلع فإذا نظرت إليها سجدت لها ، فجاء الهدهد إلى الكوّة فسدها بجناحه فارتفعت الشمس ولم تعلم بها ، فلما استبطأت الشمس قامت تنظر إليها ، فرمى بالصحيفة إليها فأخذت بلقيس الكتاب وكانت قارئة فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأنّ ملك سليمان كان في خاتمه وعرفت أنّ الذي أرسل الكتاب أعظم ملكا منها ، وقرأت الكتاب وتأخر الهدهد فجاءت حتى قعدت على سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها وهم اثنا عشر ألف قائد مع كل قائد ألف مقاتل ، وعن ابن عباس قال : كان مع بلقيس مائة ألف ، قيل مع كل قيل مائة ألف ، والقيل : الملك دون الملك الأعظم ، وقال قتادة ومقاتل : كان أهل مشورتها ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة آلاف ، فلما جاؤوا أخذوا مجالسهم.

(قالَتْ) لهم بلقيس (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) وهم أشراف الناس وكبراؤهم (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَ) أي : بإلقاء ملق على وجه غريب (كِتابٌ) أي : صحيفة مكتوب فيها كلام وخبر جامع ، قال الزمخشريّ : وكانت كتب الأنبياء جملا لا يطنبون ولا يكثرون.

ولما حوى هذا الكتاب من الشرف أمرا باهرا لم يعهد مثله وصفته بقولها (كَرِيمٌ) وقال عطاء والضحاك : سمته كريما لأنه كان مختوما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كرامة الكتاب ختمه» (١) ، «وكان عليه‌السلام يكتب إلى العجم فقيل له إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه خاتم فاصطنع له خاتما» (٢) ، وعن ابن المقنع : من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به ، وقال مقاتل : كريم أي : حسن ، وعن ابن عباس : أي : شريف لشرف صاحبه ، وقيل : سمته كريما لأنه كان مصدرا ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

ثم بينت ممن الكتاب فقالت : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) ثم بينت المكتوب فيه فقالت (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

__________________

(١) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ٩٩ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٩٢٩٥.

(٢) أخرجه البخاري في اللباس حديث ٥٨٧٥ ، ومسلم حديث ٢٠٩٢.

١٠١

(أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) قال ابن عباس : لا تتكبروا عليّ ، وقيل لا تتعظموا ولا تترفعوا عليّ ، أي : لا تمتنعوا عن الإجابة فإن ترك الإجابة من العلو والتكبر (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي : منقادين خاضعين فهو من الاستسلام ، أو مؤمنين فهو من الإسلام ، فإن قيل : لم قدم سليمان اسمه على البسملة؟ أجيب : بأنه لم يقع منه ذلك بل ابتدأ الكتاب بالبسملة وإنما كتب اسمه عنوانا بعد ختمه لأنّ بلقيس إنما عرفت كونه من سليمان بقراءة عنوانه كما هو المعهود ، ولذلك قالت : (إِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أي : إنّ الكتاب ، فالتقديم واقع في حكاية الحال ، واعلم أن قوله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) مشتمل على إثبات الصانع وإثبات كونه عالما قادرا حيا مريدا حكيما رحيما قال الطيبي : وقال القاضي : هذا كلام في غاية الوجازة مع إثبات كمال الصانع وإثبات كمال الدلالة على المقصود لاشتماله على البسملة الدالة على ذات الإله وصفاته صريحا أو التزاما ، والنهي عن الترفع الذي هو أمّ الرذائل ، والأمر بالإسلام الذي هو جامع لأمّهات الفضائل.

ولما سكتوا عن الجواب. (قالَتْ) لهم (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) ثم بينت ما داخلها من الرعب من صاحب هذا الكتاب بقولها (أَفْتُونِي) أي : تكرّموا عليّ بالإنابة عما أفعله (فِي أَمْرِي) هذا الذي أجيب به هذا الكتاب جعلت الشورى فتوى توسعا ، لأنّ الفتوى الجواب في الحادثة ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة واوا ، والباقون بتحقيقها وفي الابتداء الجميع بالتحقيق.

ثم عللت أمرها لهم بقولها (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً) أي : فاعلته وفاصلته غير متردّدة فيه (حَتَّى تَشْهَدُونِ) أفادت بذلك أن شأنها دائما مشاورتهم في كل جليل وحقير فكيف بهذا الأمر الخطير ، وفي ذلك استعطافهم بتعظيمهم وإجلالهم وتكريمهم ودلالة على غزارة عقلها وحسن أدبها.

ثم إنهم أجابوها عن ذلك بأن. (قالُوا) مائلين إلى الحرب (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) أي : بالمال والرجال (وَأُولُوا) أي : أصحاب (بَأْسٍ) عزم في الحرب (شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ) أي : في كل من المصادمة والمسالمة راجع وموكول (إِلَيْكِ فَانْظُرِي) أي : بسبب أنه لا نزاع معك (ما ذا تَأْمُرِينَ) فإنا نطيعك ونتبع أمرك.

ولما علمت أن من سخر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده. (قالَتْ) جوابا لما أحست في جوابهم من ميلهم إلى الحرب والحرب سجال لا يدري عاقبتها (إِنَّ الْمُلُوكَ) أي : مطلقا فكيف بهذا النافذ الأمر ، العظيم القدر (إِذا دَخَلُوا) عنوة بالقهر (قَرْيَةً أَفْسَدُوها) أي : بالنهب والتخريب (وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) أي : أهانوا أشرافها وكبراءها كي يستقيم لهم الأمر ، ثم أكدت هذا المعنى بقولها (وَكَذلِكَ) أي : ومثل هذا الفعل العظيم الشأن (يَفْعَلُونَ) أي : هو خلق لهم مستمرّ في جميعهم فكيف بمن تطيعه الوحوش والطيور وغيرهما.

تنبيه : هذه الجملة من كلامها وهو كما قال ابن عادل الظاهر ، ولهذا جبلت عليه فتكون منصوبة بالقول ، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى تصديقا لها فهي استئنافية لا محل لها من الإعراب ، وهي معترضة بين قولها.

ولما بينت ما في المصادمة من الخطر أتبعته بما عزمت عليه من المسالمة بقولها : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ) أي : إلى سليمان وقومه (بِهَدِيَّةٍ) وهي العطية على طريق الملاطفة ، وذلك أن بلقيس كانت امرأة كيسة قد سيست وساست فقالت للملأ من قومها إني مرسلة إلى سليمان وقومه بهدية

١٠٢

أصانعه بها عن ملكي فاختبره بها أملك هو أم نبي؟ فإن يكن ملكا قبل الهدية وانصرف ، وإن يكن نبيا لم يقبل الهدية ولم يرضها منا إلا أن نتبعه على دينه ، فذلك قولها (فَناظِرَةٌ بِمَ) أي : أيّ شيء (يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) فأهدت إليه وصفا ووصائف ، قال ابن عباس : ألبستهم لباسا واحدا كي لا يعرف ذكرا من أنثى ، وقال مجاهد ألبست الجواري لباس الغلمان وألبست الغلمان لباس الجواري ، واختلف في عددهم : فقال ابن عباس : مائة وصيف ومائة وصيفة ، وقال مجاهد ومقاتل : مائة غلام ومائتا جارية ، وقال قتادة : أرسلت إليه بلبنات من ذهب في حرير وديباج ، وقال ثابت البناني : أهدت إليه صفائح الذهب في أوعية الديباج ، وقيل : كانت أربع لبنات من ذهب ، وقال وهب وغيره : عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية فألبست الجواري لباس الغلمان الأقبية والمناطق وألبست الغلمان لباس الجواري وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب وفي أعناقهم أطواقا من ذهب وفي آذانهم أقراطا وشنوفا مرصعات بأنواع الجواهر وغواشيها من الديباج الملونة وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة من فضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع وأرسلت المسك والعنبر وعمدت إلى حقة فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة ، وجذعة لعلها مثقوبة معوّجة الثقب ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو وضمت إليه رجالا من قومها أصحاب رأي وعقل ، وكتبت معهم كتابا بنسخة الهدية.

وقالت : إن كنت نبيا فميز بين الوصف والوصائف ، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها ، واثقب الدرة ثقبا مستويا ، وأدخل خيطا في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جنّ ، وأمرت بلقيس الغلمان : إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء ، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال ، ثم قالت للرجل انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه ، وإن رأيت الرجل بشاشا لطيفا فاعلم أنه نبيّ مرسل ، فتفهم قوله ورد الجواب.

فانطلق الرسول بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان فأخبره الخبر كله فأمر سليمان عليه‌السلام الجنّ أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا ، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميدانا واحدا بلبنات الذهب والفضة وأن يجعلوا حول الميادين حائطا شرفها من الذهب والفضة ففعلوا ، ثم قال أيّ الدواب أحسن مما رأيتم في البر والبحر قالوا يا نبيّ الله إنا رأينا دوابّ في مجر كذا وكذا منقطة مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص ، قال عليّ بها الساعة ، فأتوا بها فقال شدّوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة وألقوا لها علوفتها فيها ، ثم قال للجنّ عليّ بأولادكم فاجتمع خلق كثير فأقامهم عن يمين الميدان ويساره ، ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره ووضع له أربعة آلاف كرسي على يمينه ومثلها على يساره وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفا فراسخ وأمر الإنس فاصطفوا صفوفا فراسخ وأمر الوحوش والسباع والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه ويساره.

فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم مثلها تروث على لبن الذهب والفضة تقاصرت أنفسهم ورموا ما معهم من الهدايا ، وفي بعض الروايات أن سليمان لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر موضع اللبنات التي معهم فلما رأى الرسل موضع اللبنات خاليا وكل الأرض مفروشة خافوا أن

١٠٣

يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك الموضع الخالي فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر عجيب ففزعوا ، فقالت لهم الشياطين جوزوا فلا بأس عليكم ، فكانوا يمرّون على كردوس من الجنّ والإنس والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان ، فنظر إليهم سليمان نظرا حسنا بوجه طلق وقال : ما وراءكم؟ فأخبره رئيس القوم بما جاءوا له وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه وقال أين الحقة؟ فأتى بها فحركها وجاء جبريل عليه‌السلام فأخبره بما في الحقة فقال : إنّ فيها درة ثمينة غير مثقوبة وجزعة مثقوبة معوّجة الثقب ، فقال الرسول صدقت فاثقب الدرّة وأدخل الخيط في الخرزة ، فقال سليمان عليه‌السلام من لي بثقبها فسأل سليمان الإنس ثم الجنّ فلم يكن عندهم علم بذلك ثم سأل الشياطين فقالوا أرسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر ، فقال لها سليمان سلي حاجتك قالت تصير رزقي في الشجرة فقال لك ذلك ، وروي أنها جاءت دودة تكون في الصفصاف فقالت أنا أدخل الخيط في الثقب على أن يكون رزقي في الصفصاف فجعل لها ذلك ، فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب وخرجت من الجانب الآخر ، ثم قال من لهذه الخرزة بسلكها بالخيط فقالت دودة بيضاء أنا لها يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها سليمان سلي حاجتك قالت : تجعل رزقي في الفواكه قال لك ذلك ، ثم ميز بين الجواري والغلمان بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه ، والغلام يأخذ من الآنية بيديه ويضرب بهما وجهه وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعدها ، والغلام على ظاهر الساعد وكانت الجارية تصبّ الماء صبا ، وكان الغلام يحدر الماء على ساعده حدرا ، فميز بينهم بذلك.

ثم ردّ سليمان الهدية كما قال تعالى : (فَلَمَّا جاءَ) أي : الرسول الذي بعثته ، والمراد به الجنس ، قال أبو حيان وهو يقع على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث (سُلَيْمانَ) ورفع إليه ذلك (قالَ) أي : سليمان عليه‌السلام للرّسول ولمن في خدمته استصغارا لما معه (أَتُمِدُّونَنِ) أي : أنت ومن معك ومن أرسلك (بِمالٍ) وإنما قصدي لكم لأجل الدين تحقيرا لأمر الدنيا وإعلاما بأنه لا التفات له نحوها بوجه ولا يرضيه شيء دون طاعة الله تعالى ، وقرأ نافع وأبو عمرو : بإثبات الياء وصلا لا وقفا ، وابن كثير : بإثبات الياء وصلا ووقفا ، وحمزة بإدغام النون الأولى في الثانية وإثبات الياء وصلا ووقفا ، ثم تسبب عن ذلك قوله استصغارا لما معهم (فَما آتانِيَ اللهُ) أي : الملك الأعظم من الحكمة والنبوّة والملك ، وهو الذي يغني مطيعه عن كل شيء سواه فمهما سأله أعطاه ، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص : بفتح الياء في الوصل ، ولقالون وأبي عمرو وحفص أيضا إثباتها وقفا ، والباقون بحذف الياء وقفا ووصلا ، وأمالها حمزة والكسائي محضة ، وورش بالفتح وبين اللفظين (خَيْرٌ) أي : أفضل (مِمَّا آتاكُمْ) أي : من الملك الذي لا دين ولا نبوّة فيه (بَلْ أَنْتُمْ) أي : بجهلكم بالدين (بِهَدِيَّتِكُمْ) أي : بإهداء بعضكم إلى بعض (تَفْرَحُونَ) وأمّا أنا فلا أفرح بها وليست الدنيا من حاجتي لأنّ الله تعالى قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحدا ، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوّة.

ثم قال للمنذر بن عمرو أمير الوفد. (ارْجِعْ) أي : بهديتهم وجمع في قوله (إِلَيْهِمْ) إكراما لنفسه وصيانة لاسمها عن التصريح بضميرها وتعظيما لكل من يهتم بأمرها ويطيعها (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ

١٠٤

بِجُنُودٍ لا قِبَلَ) أي : لا طاقة (لَهُمْ بِها) أي : بمقابلتها (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) أي : من أرضهم وبلادهم وهي سبأ (أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) أي : ذليلون لا يملكون شيئا من المنعة.

فإن قيل : فلنأتينهم ولنخرجنهم قسم فلا بدّ أن يقع؟ أجيب : بأنه معلق على شرط محذوف لفهم المعنى ، أي : إن لم يأتونى مسلمين ، قال وهب وغيره من أهل الكتب ، لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان قالت لهم قد عرفت والله ما هذا بملك وما لنا به من طاقة فبعثت إلى سليمان أني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ، ثم أمرت بعرشها فجعلته داخل سبعة أبواب داخل قصرها وقصرها داخل سبعة قصور وأغلقت الأبواب وجعلت عليها حرّاسا يحفظونه ، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها احتفظ بما وكلتك وبسرير ملكي لا يخلص إليه أحد حتى آتيك ، ثم أمرت مناديا ينادي في أهل مملكتها تؤذنهم بالرحيل وتجهزت للمسير فارتحلت في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن تحت يد كل قيل ألوف كثيرة.

قال ابن عباس : كان سليمان رجلا مهيبا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه ، فخرج يوما فجلس على سرير ملكه فرأى رهجا قريبا منه ، فقال ما هذا؟ قالوا بلقيس وقد نزلت منا على مسيرة فرسخ ، فأقبل سليمان حينئذ على جنوده بأن (قالَ) لهم (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا) أي : الأشراف (أَيُّكُمْ) وفي الهمزتين ما تقدم (يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي : مؤمنين ، وقال ابن عباس : واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها فقال أكثرهم : لأنّ سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها ، وقيل : ليريها قدرة الله تعالى ببعض ما خصه به من العجائب الدالة على عظيم القدرة وصدقه في دعوى النبوّة في معجزة يأتي بها في عرشها ، وقال قتادة : لأنه أعجبته صفته لما وصفه الهدهد بالعظم فأحبّ أن يراه ، وقال ابن زيد : يريد أن يأمر بتنكيره وتغييره فيختبر بذلك عقلها.

(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ) وهو المارد القوي ، قال وهب : اسمه كودي ، وقيل : ذكوان ، وقال ابن عباس العفريت الداهي ، وقال الضحاك : هو الخبيث ، وقال الربيع : الغليظ ، وقال الفراء : القويّ الشديد ، قيل : إنّ الشياطين أقوى من الجنّ وأنّ المردة أقوى من الشياطين وأنّ العفريت أقوى منهما ، قال بعض المفسرين العفريت من الرجال الخبيث المتكبر ، وقيل : هو صخر الجني وكان بمنزلة جبل يضع قدمه عند منتهى طرفه ، وقوله تعالى (أَنَا آتِيكَ بِهِ) قرأه في الموضعين نافع بإثبات الألف من أنا وصلا ووقفا ، والباقون وصلا لا وقفا ، ثم بيّن سرعة إسراعه بقوله (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) أي : الذي تجلس فيه للقضاء ، قال ابن عباس : كان له غداة كل يوم مجلس يقضي فيه إلى نصف النهار ، ثم أوثق الأمر وأكده بقوله (وَإِنِّي عَلَيْهِ) أي : على الإتيان به سالما (لَقَوِيٌ) أي : على حمله لا يحصل عجزي عنه (أَمِينٌ) أي : على ما فيه من الجواهر وغيرها ، قال سليمان عليه‌السلام أريد أسرع من ذلك.

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) المنزل وهو علم الوحي والشرائع ، وقيل : كتاب سليمان ، وقيل : اللوح المحفوظ ، والذي عنده علم من الكتاب جبريل ، قال البقاعي ولعله التوراة والزبور انتهى ، وفي ذلك إشارة إلى أنّ من خدم كتاب الله حق الخدمة كان الله تعالى معه ، كما ورد في شرعنا «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويديه التي يبطش بها ورجله التي

١٠٥

يمشي عليها» (١) ، أي : أنه يفعل له ما يشاء.

واختلفوا في تعيينه : فقال أكثر المفسرين : هو آصف بن برخيا كاتب سليمان ، وقيل اسمه أسطوم وكان صديقا عالما يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى ، وقيل ملك أيد الله تعالى به سليمان عليه‌السلام ، وعن ابن لهيعة بلغني أنه الخضر عليه‌السلام (أَنَا آتِيكَ بِهِ) ثم بين فضله على العفريت بقوله (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ) أي : يرجع (إِلَيْكَ طَرْفُكَ) أي : بصرك إذا طرفت أجفانك فأرسلته إلى منتهاه ، ثم رددته فالطرف : تحريكك أجفانك إذا نظرت فوضع في موضع النظر.

ولما كان الناظر موصوفا بإرسال الطرف في نحو قوله (٢) :

وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا

لقلبك يوما أتعبتك المناظر

وصف برد الطرف ووصف الطرف بالارتداد ، روي أن آصف قال لسليمان مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك ، فمدّ سليمان عينيه فنظر نحو اليمين ودعا آصف فبعث الله تعالى الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يجدّون جدا حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان ، وقال الكلبي : خرّ آصف ساجدا ودعا باسم الله الأعظم فغار عرشها تحت الأرض حتى نبع تحت كرسي سليمان بقدرة الله تعالى ، وقيل : كانت المسافة شهرين ، وقال سعيد بن جبير : يعني من قبل أن يرجع إليك أقصى من ترى وهو أن يصل إليك من كان منك على مدّ بصرك ، وقال قتادة : قبل أن يأتيك الشخص من مدّ البصر ، وقال مجاهد : يعني : إدامة النظر حتى يرد البصر خاسئا ، قال الزمخشري : ويجوز أن يكون هذا مثلا لاستقصار مدّة المجيء به ، كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة وفي ردّ طرف والتفت ترني وما أشبه ذلك تريد السرعة انتهى.

واختلفوا في الدعاء الذي دعا به آصف : فقال مجاهد ومقاتل : بياذا الجلال والإكرام ، وقال الكلبي : يا حيّ يا قيوم ، وروي ذلك عن عائشة رضي الله عنها ، وروي عن الزهريّ قال دعاء الذي عنده علم من الكتاب يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها ، وعن الحسن يا الله يا رحمن ، وقال محمد بن المنكدر إنما هو سليمان قال له عالم من بني إسرائيل آتاه الله تعالى علما وفهما أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك قال سليمان هات قال أنت النبيّ ابن النبيّ وليس أحد أوجه عند الله منك فإن دعوت الله كان عندك فقال صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت.

قال الرازي وهذا القول أقرب واستدل لذلك بوجوه منها : أنّ سليمان كان أعرف بالكتاب من غيره لأنه هو النبي فكان صرف اللفظ إليه أولى ، ومنها : أنّ إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لآصف دون سليمان لاقتضى ذلك قصور حال سليمان في أعين الخلق ، ومنها : أنه قال هذا من فضل ربي فظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان.

(فَلَمَّا رَآهُ) أي : رأى سليمان العرش (مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) أي : حاصلا بين يديه (قالَ) شاكرا

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٠٢.

(٢) البيت بلا نسبة في الكشاف للزمخشري ٣ / ٣٢٢.

١٠٦

لربه لما آتاه الله تعالى من هذه الخوارق (هذا) أي : الإتيان المحقق (مِنْ فَضْلِ رَبِّي) أي : المحسن إليّ لا بعمل أستحق به شيئا فإنه أحسن إليّ بإخراجي من العدم ونظر إليّ بتوفيقي للعمل فكل عمل نعمة يستوجب عليّ بها الشكر ، ولذلك قال (لِيَبْلُوَنِي) أي : ليختبرني (أَأَشْكُرُ) فاعترف بكونه فضلا (أَمْ أَكْفُرُ) بظني أني أوتيته باستحقاق.

تنبيه : ههنا همزتان مفتوحتان فنافع يسهل الهمزة الثانية ، وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه ، وأدخل بينهما ألفا قالون وأبو عمرو وهشام ، ولم يدخل ورش وابن كثير ، ولورش أيضا إبدالها ألفا ، والباقون بالتحقيق وعدم الإدخال ، ثم زاد في حث نفسه على الشكر بقوله (وَمَنْ شَكَرَ) أي : أوقع الشكر لربه (فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) فإن نفعه لها وهو أن يستوجب تمام النعمة ودوامها لأنّ الشكر قيد للنعمة الموجودة وجلب للنعمة المفقودة (وَمَنْ كَفَرَ) أي : بالنعمة (فَإِنَّ رَبِّي) أي : المحسن إليّ بتوفيقي لما أنا فيه من الشكر (غَنِيٌ) عن شكره لا يضرّه تركه شيئا (كَرِيمٌ) أي : بإدرار الإنعام عليه فلا يقطعه عنه بسبب عدم شكره.

ولما حصل العرش عنده. (قالَ نَكِّرُوا) أي : غيروا (لَها عَرْشَها) أي : سريرها إلى حالة تنكره إذا رأته ، قال قتادة ومقاتل : هو أن يزاد فيه وينقص ، وروي أنه جعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه وجعل مكان الجوهر الأحمر أخضر ومكان الأخضر أحمر اختبارا لعقلها ، كما اختبرتنا بالوصفاء والوصائف والدرة وغير ذلك.

وإليه أشار بقوله (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي) أي : إلى معرفته فيكون ذلك سببا لهدايتها في الدين (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ) شأنهم أنهم (لا يَهْتَدُونَ) بل هم في غاية الغباوة ولا يتجدّد لهم اهتداء ، وقال وهب ومحمد بن كعب : إنما حمل سليمان على ذلك ، أنّ الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي له أسرار الجنّ لأنّ أمها كانت جنية وإذا ولدت له ولدا لا ينفكون عن تسخير سليمان وذرّيته من بعده ، فأساؤوا الثناء عليها ليزهدوه فيها ، فقالوا : إنّ في عقلها شيئا وإنّ رجليها كحافر الحمار وأنها شعراء الساقين ، فأراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وينظر إلى قدميها ببناء الصرح.

ثم أشار إلى سرعة مجيئها إشارة إلى خضوعها بالتعبير بالفاء في قوله : (فَلَمَّا جاءَتْ) وكانت قد وضعت عرشها في بيت خلف سبعة أبواب ووكلت به حراسا أشدّاء (قِيلَ) لها وقد رأت عرشها بعد تنكيره (أَهكَذا عَرْشُكِ) أي : مثل هذا عرشك (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) قال مقاتل : عرفته ولكنها شبهت عليهم كما شبهوا عليها ، وقال عكرمة : كانت حكيمة لم تقل نعم خوفا من أن تكذب ولم تقل لا خوفا من التكذيب فقالت كأنه هو فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر ولم تنكر ، وقيل : اشتبه عليها أمر العرش لأنها خلفته في بيت خلف سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها فقيل لها فإنه عرشك فما أغنى عنك إغلاق الأبواب.

وقوله تعالى : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها) فيه وجهان : أحدهما : أنه من كلام بلقيس فالضمير في قبلها راجع للمعجزة والحالة الدال عليها السياق ، والمعنى : وأوتينا العلم بنبوّة سليمان من قبل ظهور هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة ، وذلك لما رأت قبل ذلك من أمر الهدهد ورد الهدية والرسل من قبلها من قبل الآية في العرش (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) أي : منقادين طائعين لأمر سليمان ، والثاني : أنه من كلام سليمان وأتباعه فالضمير في قبلها عائد على بلقيس فكان سليمان وقومه

١٠٧

قالوا : إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة وقد رزقت الإسلام ، ثم عطفوا على ذلك قولهم (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) يعني بالله تعالى وبقدرته على ما يشاء من قبل هذه المرأة في مثل علمها وغرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزيد التقديم في الإسلام قاله مجاهد ، وقيل : معناه وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبل مجيئها وكنا مسلمين طائعين لله تعالى.

واختلف في فاعل قوله عزوجل : (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) على ثلاثة أوجه : أحدها : ضمير البارئ تعالى ، الثاني ضمير سليمان عليه‌السلام ، أي : منعها ما كانت تعبد من دون الله وهو الشمس ، وعلى هذا فما كانت تعبد منصوب على إسقاط الخافض ، أي : وصدّها الله تعالى أو سليمان عما كانت تعبد من دون الله قاله الزمخشريّ مجوزا له ، قال أبو حيان وفيه نظر من حيث إنّ حذف الجار ضرورة كقوله (١) :

تمرّون الديار فلم تعوجوا

وقد تقدم آيات كثيرة من هذا النوع ، والثالث : أنّ الفاعل هو ما كانت أي : صدّها ما كانت تعبد عن الإسلام أي : صدّها عبادة الشمس عن التوحيد وقوله تعالى : (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) استئناف أخبر الله تعالى أنها كانت من قوم يعبدون الشمس ، فنشأت بينهم ولم تعرف العبادة ولم تعرف إلا عبادة الشمس.

ولما تم ذلك فكأنه قيل : هل كان بعد ذلك اختبار؟ فقيل نعم.

(قِيلَ لَهَا) أي : قائل من جنود سليمان عليه‌السلام فلم يمكنها المخالفة (ادْخُلِي الصَّرْحَ) وهو سطح من زجاج أبيض شفاف تحته ماء جار فيه سمك اصطنعه سليمان.

ولما قالت له الشياطين إنّ رجليها كحافر الحمار وهي شعراء الساقين ، فأراد أن ينظر إلى ساقيها من غير أن يسألها كشفهما ، وقيل الصرح صحن الدار أجرى تحته الماء وألقى فيه كل شيء من دواب البحر السمك والضفادع وغيرهما ثم وضع سريره في صدره وجلس عليه وعكف عليه الطير والجنّ والأنس ، وقيل : اتخذ صحنا من قوارير وجعل تحتها تماثيل من الحيتان والضفادع فكان الواحد إذا رآه ظنه ماء (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً) وهي معظم الماء (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) لتخوضه فنظر إليها سليمان فرآها أحسن الناس ساقا وقدما إلا أنها كانت شعراء الساقين.

ما رأى سليمان ذلك صرف نظره عنها ، وناداها بأن (قالَ) لها (إِنَّهُ) أي : هذا الذي ظننته ماء (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) أي : مملس ومنه الأمرد لملاسة وجهه من الشعر (مِنْ) أي : كائن من (قَوارِيرَ) أي : زجاج وليس بماء ، ثم إنّ سليمان دعاها إلى الإسلام وكانت قد رأت حال العرش والصرح فأجابت بأن (قالَتْ رَبِ) أي : أيها المحسن إليّ (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) أي : بما كنت فيه من العمى بعبادة غيرك عن عبادتك (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ) أي : مقرّة له بالألوهية والربوبية على سبيل الوحدانية ، ثم رجعت إشارة للعجز عن معرفة الذات حق المعرفة إلى الأفعال التي هي

__________________

(١) عجزه :

كلامكم عليّ إذا حرام

والبيت من الوافر ، وهو لجرير في ديوانه ص ٢٧٨ ، والأغاني ٢ / ١٧٩ ، وتخليص الشواهد ص ٥٠٣ ، وخزانة الأدب ٩ / ١١٨ ، والدرر ٥ / ١٨٩ ، ولسان العرب (مرر) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٦ / ١٤٥ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٧٢.

١٠٨

بحر المعرفة فقالت (رَبِّ الْعالَمِينَ) فعممت بعد أن خصت إشارة إلى الترقي من حضيض دركات العمى إلى أوج درجات الهدى ، وقيل : إنها لما بلغت الصرح وظنته لجة قالت في نفسها إنّ سليمان يريد أن يغرقني وكان القتل أهون من هذا ، فقولها ظلمت نفسي أي : بذلك الظنّ.

واختلفوا في أمرها بعد إسلامها هل تزّوجها سليمان عليه‌السلام؟ فالذي عليه أكثر المفسرين فيما رأيت أنه تزوّج بها وكره ما رأى من شعر ساقيها فسأل الإنس ما يذهب هذا فقالوا الموس فقالت المرأة لا تمسني حديدة قط ، فسأل الجنّ فقالوا لا ندري ، فسأل الشياطين فقالوا إنا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا النورة والحمام فكانت النورة والحمامات من يومئذ ، فلما تزوّجها سليمان أحبها حبا شديدا وأقرّها على ملكها وأمر الجنّ فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا ، قال الطيبي سلحين ومؤمنة باليمن وغمدان قال في النهاية هم بضم الغين وسكون الميم البناء العظيم ، وكان يزورها في الشهر مرّة ويقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له وقيل : إنها لما أسلمت قال لها سليمان اختاري رجلا من قومك أن أزوجك له قالت ومثلي يا نبيّ الله ينكح الرجال وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان ، قال نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك ، ولا ينبغي لك أن تحرّمي ما أحل الله ، فقالت إن كان ولا بدّ فزوّجني ذا تبع ملك همدان فزوّجه بها ثم ردّها إلى اليمن وسلطن زوجها ذا تبع على اليمن وأمر زوبعة أمير جنّ اليمن أن يطيعه فبنى له المصانع ولم يزل أميرا حتى مات سليمان عليه‌السلام ، فلما أن حال الحول وتبينت الجنّ موت سليمان أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته يا معشر الجنّ إنّ الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرّقوا وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان ، وقيل : إنّ الملك وصل إلى سليمان وهو ابن ثلاثة عشر سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة فسبحان من يدوم ملكه وبقاؤه.

ولما أتم سبحانه وتعالى قصة سليمان وداود عليهما‌السلام ذكر قصة صالح عليه‌السلام وهي القصة الثالثة بقوله تعالى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ

١٠٩

الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣))

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) أي : بما لنا من العظمة (إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ) أي : من القبيلة (صالِحاً) ثم ذكر المقصود من الرسالة بما لا أعدل منه ولا أحسن بقوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) أي : الملك الأعظم وحده ولا تشركوا به شيئا ، ثم تعجب منهم بما أشارت إليه الفاء وإذا المفاجأة من المبادرة إلى الافتراق بما يدعو إلى الاجتماع بقوله : (فَإِذا هُمْ) أي : ثمود (فَرِيقانِ) وبين بقوله تعالى : (يَخْتَصِمُونَ) أنهم فرقة افتراق بكفر وإيمان لا فرقة اجتماع في هدى وعرفان ، ففريق صدق صالحا واتبعه وفريق استمرّ على شركه وكذبه وكل فريق يقول أنا على الحق وخصمي على الباطل.

ثم استعطف صالح عليه‌السلام على المكذبين بأن (قالَ) لهم (يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ) أي : تطلبون العجلة بالإتيان (بِالسَّيِّئَةِ) أي : التي مساءتها ثابتة وهي العقوبة التي أنذرت بها من كفر (قَبْلَ) الحالة (الْحَسَنَةِ) من الخيرات التي أبشركم بها في الدنيا والآخرة إن آمنتم ، والاستعجال : طلب الإتيان بالأمر قبل الوقت المضروب ، واستعجالهم لذلك بالإصرار على سببه وقولهم استهزاء (ائْتِنا بِما تَعِدُنا) وكانوا يقولون إنّ العقوبة التي يعدها صالح إن وقعت على زعمه تبنا حينئذ واستغفرنا ، فحينئذ يقبل الله تعالى توبتنا ويدفع العذاب عنا ، فخاطبهم صالح عليه‌السلام على حسب عقولهم واعتقادهم فقال : (لَوْ لا) أي : هلا ولم لا (تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) أي : تطلبون غفرانه قبل نزول العذاب ، فإنّ استعجال الخير أولى من استعجال الشرّ (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) تنبيها لهم على الخطأ فيما قالوه فإنّ العذاب إذا نزل بهم لا تقبل توبتهم.

تنبيه : وصف العذاب بأنه سيئة مجازا إمّا لأن العقاب من لوازمه أو لأنه يشبهه في كونه مكروها ، وأمّا وصف الرحمة بأنها حسنة فقيل حقيقة وقيل مجاز.

ثم إنّ صالحا عليه‌السلام لما قرّر لهم هذا الكلام الحق أجابوه بكلام فاسد بأن (قالُوا) فظاظة وغلظة (اطَّيَّرْنا) أي : تشاءمنا (بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي : وبمن آمن بك ، وذلك أن الله تعالى قد أمسك عنهم المطر في ذلك الوقت وقحطوا ، فقالوا حل بنا هذا الضرر والشدّة من شؤمك وشؤم أصحابك ، قال الزمخشري : كان الرجل يخرج مسافرا فيمرّ بطائر فيزجره فإن مرّ سانحا تيمن وإن مرّ بارحا تشائم ، قال الجوهريّ : السنيح والسانح ما ولاك ميامنه من ظبي أو طائر وغيرهما وبرح الظبي بروحا إذا ولاك مياسره يمرّ من ميامنك إلى مياسرك والعرب تتطير بالبارح وتتفائل بالسانح ، فلما نسبوا الخير والشرّ إلى الطائر استعير لما كان سببهما من قدر الله تعالى وقسمته.

تنبيه : أصل اطيرنا تطيرنا أدغمت التاء في الطاء واجتلبت همزة وصل.

ثم أجابهم صالح عليه‌السلام بأن (قالَ) لهم (طائِرُكُمْ) أي : ما يصيبكم من خير وشرّ (عِنْدَ اللهِ) أي : الملك الأعظم المحيط بكل شيء علما وقدرة وهو قضاؤه وقدره وليس شيء منه بيد غيره ، وسمي طائرا لسرعة نزوله بالإنسان ، فإنه لا شيء أسرع من قضاء محتوم ، وقال ابن عباس : الشؤم أتاكم من عند الله تعالى بكفركم ، وقيل : طائركم عملكم عند الله سمي طائرا لسرعة صعوده إلى

١١٠

السماء ، ومنه قوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣] (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) قال ابن عباس : تختبرون بالخير والشرّ كقوله تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] وقال محمد بن كعب : تعذبون ، وقيل : يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم بالتطير.

لما أخبر الله تعالى عن عامة هذا الفريق بالشرّ نبه على بعض شرّهم بقوله تعالى : (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ) أي : مدينة ثمود وهي الحجر (تِسْعَةُ رَهْطٍ) أي : رجال وإنما جاز تمييزا لتسعة بالرهط لأنه في معنى الجماعة فكأنه قيل تسعة أنفس أو رجال كما قدّرته ، والفرق بين الرهط والنفر أنّ الرهط من الثلاثة إلى العشرة أو من السبعة إلى العشرة والنفر من الثلاثة إلى التسعة.

وأسماؤهم عن وهب : الهذيل بن عبد رب غنم بن غنم ، رياب بن مهرج ، مصدع بن مهرج ، عمير بن كردبة ، عاصم بن مخرمة ، سبيط بن صدقة ، سمعان بن صفي ، قدار بن سالف وهم الذي سعوا في عقر الناقة وكانوا عتاة قوم صالح وكانوا من أبناء أشرافهم ورأسهم قدار بن سالف وهو الذي تولى عقر الناقة ، وقوله : (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) إشارة إلى عموم فسادهم ودوامه وقوله : (وَلا يُصْلِحُونَ) يحتمل أن يكون مؤكدا للأوّل ويحتمل أن لا يكون وهو الأولى ، لأنّ بعض المفسدين قد يندر منه بعض الصلاح فنفى عنهم ذلك فليس شأنهم إلا الفساد المحض الذي لا يخالطه شيء من الصلاح.

ولما اقتضى السياق السؤال عن بعض حالهم أجاب بقوله : (قالُوا تَقاسَمُوا) أي : قال بعضهم لبعض احلفوا (بِاللهِ) أي : الملك العظيم (لَنُبَيِّتَنَّهُ) أي : صالحا (وَأَهْلَهُ) أي : من آمن به لنهلكنّ الجميع ليلا ، فإنّ البيات مباغتة العدوّ ليلا.

تنبيه : محل تقاسموا جزم على الأمر ، ويجوز أن يكون فعلا ماضيا ، وحينئذ يجوز أن يكون مفسرا لقالوا كأنه قيل : ما قالوا : فقيل تقاسموا ، ويجوز أن يكون حالا على إضمار قدر أي : قالوا ذلك متقاسمين وإليه ذهب الزمخشريّ.

(ثُمَّ لَنَقُولَنَ) أي : بعد إهلاك صالح ومن معه (لِوَلِيِّهِ) أي : المطالب بدمه إن بقي منهم أحد (ما شَهِدْنا) أي : ما حضرنا (مَهْلِكَ) أي : إهلاك (أَهْلَهُ) أي : أهل ذلك الولي فضلا عن أن نكون باشرنا أو أهل صالح عليه‌السلام فضلا عن أن نكون شهدنا مهلكه أو باشرنا قتله ولا موضع إهلاكه ، وقرأ حمزة والكسائي بعد اللام من لنبيتنه بتاء فوقية مضمومة وبعد الياء التحتية بتاء فوقية مضمومة وبعد اللام من ليقولنّ بتاء فوقية مفتوحة وضمّ اللام بعد الواو ، والباقون بعد اللام من لنقولنّ بنون مفتوحة ونصب اللام من لنقولنّ ، وقرأ عاصم مهلك بفتح الميم ، والباقون بضمها ، وكسر اللام حفص ، وفتحها الباقون.

ولما صمموا على هذا الأمر وظنوا أنفسهم على المبالغة في الحلف بقولهم (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) أي : في قولنا ما شهدنا مهلك أهله ذلك ، فإن قيل : كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟ أجيب : على التفسير الثاني بأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين ، ثم قالوا ما شهدنا مهلك أهله فذكروا أحدهما ، كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما ، وفي هذا دليل قاطع على أنّ الكذب قبيح عند الكفرة الذين لا يعرفون الشرع ونواهيه ولا يخطر ببالهم إلا أنهم قصدوا قتل نبيّ الله ولم يرضوا لأنفسهم أن يكونوا كاذبين حتى سوّوا للصدق في خبرهم حيلة يتفصون فيها عن الكذب.

١١١

ولما كان منهم عمل من لم يظنّ أنّ الله عالم به قال تعالى محذرا أمثالهم عن أمثال ذلك.

(وَمَكَرُوا مَكْراً) وهو ما أخفوه من تدبيرهم الفتك بصالح وأهله (وَمَكَرْنا مَكْراً) أي : جازيناهم على مكرهم بتعجيل العقوبة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي : لا يتجدّد لهم شعور بما قدّرناه عليهم ، شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة ، وقيل : إنّ الله تعالى أخبر صالحا بمكرهم فتحرّز عنهم فذاك مكر الله تعالى في حقهم.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ) في ذلك (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) أي : أهلكناهم (وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) روي أنه كان لصالح عليه‌السلام مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه ، فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاثة فخرجوا إلى الشعب وقالوا إذا جاء يصلي قتلناه ، ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فبعث الله تعالى صخرة من أهضب جبالهم فبادروا إلى الشعب فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل الله تعالى بهم وبقومهم ، وعذب الله تعالى كلا منهم في مكانه بصيحة جبريل عليه‌السلام ورمتهم الملائكة بحجارة يرونها ولا يرونهم.

وقال ابن عباس : أرسل الله تعالى الملائكة تلك الليلة إلى دار صالح يحرسونه فأتى التسعة دار صالح شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلتهم ، وقال مقاتل : نزلوا في سفح الجبل ينتظر بعضهم بعضا ليأتوا دار صالح فحمى عليهم الجبل فأهلكهم وأهلك الله تعالى قومهم بالصيحة.

(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ) أي : ثمود كلهم (خاوِيَةً) أي : خالية من خوى البطن إذا خلا أو ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط.

تنبيه : خاوية منصوب على الحال ، والعامل فيها معنى اسم الإشارة ، وقرأ الكوفيون أنا دمرناهم بفتح الهمزة إما على حذف حرف الجرّ ، أي : لأنا دمرناهم وإمّا أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي : هي أنا دمرناهم أي : العاقبة تدميرنا إياهم ، وقيل غير ذلك ، والباقون بكسر الهمزة على الاستئناف وهو تفسير للعاقبة ، وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بيوتهم بضم الباء الموحدة ، وكسرها الباقون.

ولما ذكر تعالى هلاكهم اتبعه بقوله تعالى : (بِما ظَلَمُوا) أي : بسبب ظلمهم وهو عبادتهم من لا يستحق العبادة وتركهم من يستحقها ، ثم زاد في التهويل بقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : هذا الأمر الباهر للعقول الذي فعل بثمود (لَآيَةً) أي : عبرة عظيمة ولكنها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) قدرتنا فيتعظون أما من لا علم عنده فقد نادى على نفسه في عداد البهائم.

ولما ذكر تعالى الذين أهلكهم أتبعه بذكر الذين نجاهم فقال : (وَأَنْجَيْنَا) أي : بعظمتنا وقدرتنا (الَّذِينَ آمَنُوا) وهم الفريق الذين كانوا مع صالح كلهم (وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي : متصفين بالتقوى أيضا فكأنهم مجبولون عليه فيجعلون بينهم وبين ما يسخط الله وقاية من الأعمال الصالحة. ولما ذكر تعالى قصة صالح عليه‌السلام أتبعها قصة لوط عليه‌السلام وهي القصة الرابعة بقوله تعالى : (وَلُوطاً) وهو إما منصوب عطفا على صالح ، أي : وأرسلنا لوطا ، وإما عطفا على الذين آمنوا أي : وأنجينا لوطا ، وإما باذكر مضمرة ويبدل منه على هذا.

(إِذْ) أي : حين (قالَ لِقَوْمِهِ) أي : الذين كان سكن فيهم لما فارق عمه إبراهيم الخليل

١١٢

عليهما‌السلام وصاهرهم وكانوا يأتون الأحداث منكرا موبخا (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أي : الفعلة المتناهية في الفحش (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) من بصر القلب ، أي : تعلمون فحشها واقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح ، أو يبصرها بعضكم من بعض لأنهم كانوا في ناديهم يرتكبونها معلنين لا يستتر بعضهم من بعض خلاعة ومجانة وانهماكا في المعصية ، قال الزمخشري وكان أبا نواس بنى على مذهبهم قوله (١) :

وبح باسم ما تأتي وذرني من الكنى

فلا خير في اللذات من دونها ستر

أو تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم ، فإن قيل : إذا فسر تبصرون بالعلم وبعده بل أنتم قوم تجهلون فكيف يكونون علماء جهلاء؟.

أجيب : بأنهم يفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمهم بذلك أو يجهلون العاقبة ، أو أنّ المراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها.

ثم عين ما أبهمه بقوله : (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ) وقال (الرِّجالَ) إشارة إلى أنّ فعلتهم هذه مما يعني الوصف ولا يبلغ كنه قبحها ولا يصدّق ذو عقل أنّ أحدا يفعلها ، ثم علل ذلك بقوله (شَهْوَةً) إنزالا لهم إلى رتبة البهائم التي ليس فيها قصد ولد ولا إعفاف ، وقال (مِنْ دُونِ النِّساءِ) إشارة إلى أنهم أساؤوا من الطرفين في الفعل والترك ، وقوله : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) تقدّم في جواب تبصرون تفسيره ، فإن قيل : تجهلون صفة لقوم والموصوف لفظه لفظ الغائب فهلا طابقت الصفة الموصوف؟ أجيب : بأنه قد اجتمعت الغيبة والمخاطبة فغلبت المخاطبة لأنها أقوى وأرسخ أصلا من الغيبة ، وقرأ أئنكم نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية المكسورة كالياء ، وحققها الباقون ، وأدخل بينهما قالون وأبو عمرو ألفا ، وهشام بخلاف عنه.

لما بين تعالى بجهلهم بين أنهم أجابوا بما لا يصلح أن يكون جوابا بقوله تعالى : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) أي : لهذا الكلام الحسن لما لم يكن لهم حجة ولا شبهة في دفعه (إِلَّا أَنْ قالُوا) عدولا إلى المغالبة وتماديا في الخبث (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) أي : أهله وقالوا (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) منا عليه بإسكانه عندهم ، وعللوا ذلك بقولهم (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) أي : يتنزهون عن القاذورات كلها فينكرون هذا العمل القذر ويغيظنا إنكارهم ، وعن ابن عباس : هو استهزاء أي : قالوه تهكما بهم.

ولما وصلوا في الخبث إلى هذا الحدّ سبب سبحانه وتعالى عن قولهم وفعلهم قوله تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) أي : كلهم من أن يصلوا إليهم بأذى ويلحقهم من عذابنا (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها) أي : قضينا عليها وجعلناها بتقديرنا (مِنَ الْغابِرِينَ) أي : الباقين في العذاب ، وقرأ شعبة بتخفيف الدال والباقون بالتشديد.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) هو حجارة السجيل ، أي : أهلكتهم ولذلك تسبب عنه قوله (فَساءَ) أي : فبئس (مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) بالعذاب مطرهم.

ولما أتم سبحانه وتعالى هذه القصص الدالة على كمال قدرته وعظيم شأنه وما خص به رسله من الآيات والانتصار من البعداء أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحمده على هلاك الأمم الخالية بقوله : (قُلِ) يا أفضل الخلق. (الْحَمْدُ) أي : الوصف بالإحاطة بصفات الكمال (لِلَّهِ) على إهلاك هؤلاء البعداء

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو في الكشاف للزمخشري ٣ / ٣٧٨.

١١٣

البغضاء ، وأن يسلم على من اصطفاه بالعصمة من الفواحش والنجاة من الهلاك بقوله تعالى : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) أي : اصطفاهم ، واختلف فيهم فقال مقاتل : هم الأنبياء والمرسلون بدليل قوله تعالى : (وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) [الصافات ، ١٨١] وقال ابن عباس في رواية أبي مالك هم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وقيل : هم كل المؤمنين من السابقين واللاحقين.

تنبيه : سلام مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه دعاء.

ولما بين أنه تعالى أهلكهم ولم تغن عنهم آلهتهم من الله شيئا قال تعالى : (آللهُ) أي : الذي له الجلال والإكرام (خَيْرٌ) أي : لعباده الذين اصطفاهم وأنجاهم (أَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : الكفار من الآلهة خير لعبادها فإنهم لا يغنون عنهم شيئا.

تنبيه : لكل من القراء السبعة في هاتين الهمزتين وجهان : الأوّل : تحقيق همزة الاستفهام وإبدال همزة الوصل ألفا مع المدّ ، والثاني : تحقيق همزة الاستفهام أيضا وتسهيل همزة الوصل مع القصر ، وقرأ أبو عمرو وعاصم يشركون بالياء التحتية بالغيبة حملا على ما قبله من قوله تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) وما بعده من قوله تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) والباقون بالتاء الفوقية على الخطاب ، وهو التفات للكفار ، بعد خطاب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا تبكيت للمشركين بحالهم لأنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى ، ولا يؤثر عاقل شيئا على شيء إلا لزيادة خير ومنفعة ، فقيل لهم هذا الكلام تنبيها لهم على نهاية ضلالهم وجهلهم وتهكما بهم وتسفيها لرأيهم إذ من المعلوم أنه لا خير فيما أشركوه رأسا حتى يوازنون بينه وبين من هو مبتدأ كل خير وروي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأها قال : «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم» (١) ، ثم عدد سبحانه وتعالى أنواعا من الخيرات والمنافع التي هي آثار رحمته وفضله : الأوّل منها قوله تعالى : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : التي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع ، فإن قيل : ما الفرق بين أم وأم في (أَمَّا يُشْرِكُونَ) و (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ)؟ أجيب : بأنّ تلك متصلة لأنّ المعنى أيهما خير ، وهذه منقطعة بمعنى بل والهمزة ، لما قال الله خير أم الآلهة قال بل أم من خلق السموات والأرض خير تقريرا لهم بأنّ من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) أي : لأجلكم خاصة وأنتم تكفرون به وتنسبون ما تفرد به من ذلك لغيره (مِنَ السَّماءِ ماءً) هو للأرض كالماء الدافق للأرحام (فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) جمع حديقة وهي البستان ، وقيل : القطعة من الأرض ذات الماء.

قال الراغب : سميت بذلك تشبها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها ، وقال غيره : سميت بذلك لإحداق الجدران بها قاله ابن عادل ، وليس بشيء لأنه يطلق عليها ذلك مع عدم الجدران (ذاتَ بَهْجَةٍ) أي : بهاء وحسن ورونق وسرور على تقارب أصولها مع اختلاف أنواعها وتباين طعومها وأشكالها ومقاديرها وألوانها.

ولما أثبت الإنبات له نفاه عن غيره بقوله تعالى : (ما كانَ) أي : ما صح وما تصوّر بوجه من الوجوه (لَكُمْ) وأنتم أحياء فضلا عن شركائكم الذين هم أموات بل موات (أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي : شجر تلك الحدائق (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أعانه على ذلك ، أي : ليس معه إله (بَلْ هُمْ) أي : في

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٣ / ٢٢١ ، وابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ١٢٥.

١١٤

ادعائهم معه سبحانه شريكا (قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) أي : عن الحق الذي لا مرية فيه إلى غيره ، وقيل : يعدلون عن هذا الحق الظاهر ، ونظير هذه الآية أوّل سورة الأنعام.

الثاني : منها قوله تعالى : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) وهو بدل من (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ) وحكمه حكمه ، ومعنى قرارا ألا تميد بأهلها ، وكان القياس يقتضي أن تكون هادئة أو مضطربة كما يضطرب ما هو معلق في الهواء ، ولكن الله تعالى أبدى بعضها من الماء بحيث يتأتى استقرار الإنسان والدواب عليها (وَجَعَلَ خِلالَها) أي : وسطها (أَنْهاراً) أي : جارية على حالة واحدة فلو اضطربت الأرض أدنى اضطراب لتغيرت مجاري المياه.

ثم ذكر تعالى سبب القرار بقوله تعالى : (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) أي : جبالا أثبت بها الأرض على ميزان دبّره سبحانه وتعالى في مواضع من أرجائها بحيث اعتدلت جميع جوانبها فامتنعت من الاضطراب.

ولما كان بعض مياه الأرض عذبا وبعضها ملحا مع القرب جدّا ، بيّن الله تعالى أن أحدهما لم يختلط بالآخر بقوله تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) أي : العذب والملح (حاجِزاً) من قدرته يمنع أحدهما أن يختلط بالآخر (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي : المحيط علما وقدرة معين له على ذلك (بَلْ أَكْثَرُهُمْ) أي : الذين ينتفعون بهذه المنافع (لا يَعْلَمُونَ) توحيد ربهم بل هم كالبهائم لإعراضهم عن هذا الدليل الواضح.

تنبيه : في قراءة أإله مثل أئنكم.

الثالث منها قوله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ) أي : المكروب وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجأ والتضرّع إلى الله تعالى (إِذا دَعاهُ) وقت اضطراره ، وعن ابن عباس : هو المجهود ، وعن السدي هو الذي لا حول له ولا قوة. فإن قيل : هذا يعم كل مضطرّ وكم مضطرّ يدعو فلا يجاب؟ أجيب : بأنّ اللام فيه للجنس لا للاستغراق ولا يلزم منه إجابة كل مضطرّ ، وقوله تعالى : (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) كالتفسير للاستجابة وأنه لا يقدر أحد على كشف ما وقع له من فقر إلى غنى ومرض إلى صحة إلا القادر الذي لا يعجزه شيء والقاهر الذي لا ينازع ، والإضافة في قوله تعالى : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) بمعنى في أي يخلف بعضكم بعضا لا يزال يجدّد ذلك بإهلاك قرن وإنشاء آخر إلى قيام الساعة (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي : الملك الذي لا كفؤ له ثم استأنف التبكيت تفظيعا له ومواجها به بقوله تعالى : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي : تتعظون وقرأ أبو عمرو وهشام بالياء ، التحتية على الغيبة ، والباقون بالخطاب وفيه ادغام التاء في الذال وما زائدة لتقليل القليل.

الرابع منها : قوله تعالى : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ) أي : يرشدكم إلى مقاصدكم (فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ) أي : بالنجوم والجبال والرياح (وَالْبَحْرِ) بالنجوم والرياح (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ) أي : التي هي دلائل السير (بُشْراً) أي : تنشر السحاب وتجمعها (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي : التي هي المطر تسمية للمسبب باسم السبب والرياح التي يهتدي بها في المقاصد أربع : التي من تجاه الكعبة الصبا ، ومن ورائها الدبور ، ومن جهة يمينها الجنوب ، ومن شمالها الشمال ولكل منها طبع فالصبا حارة يابسة ، والدبور باردة رطبة ، والجنوب حارة رطبة ، والشمال باردة يابسة وهي ريح الجنة التي تهب على أهلها جعلنا الله ووالدينا ومشايخنا وأصحابنا ومن انتفع بشيء من هذا التفسير ودعا لنا بالمغفرة

١١٥

منهم ، وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير الريح بالإفراد ، والباقون بالجمع ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو نشرا بضم النون والشين وابن عامر بضم النون وسكون الشين ، وحمزة والكسائي بفتح النون وسكون الشين وعاصم بالباء الموحدة مضمومة وسكون الشين.

ولما انكشف بما مضى من الآيات ما كانوا في ضلامه من واهي الشبهات واتضحت الأدلة ، ولم يبق لأحد في شيء من ذلك علة ، كرّر سبحانه وتعالى الإنكار في قوله تعالى (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي : الذي كمل علمه (تَعالَى اللهُ) أي : الفاعل القادر المختار (عَمَّا يُشْرِكُونَ) به غيره ، وأين رتبة العجز من رتبة القدرة.

الخامس : منها قوله تعالى :

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦))

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) أي : كلهم في الأرحام من نطفة ما علمتم منهم وما لم تعلموا (ثُمَّ يُعِيدُهُ) أي : بعد الموت لأنّ الإعادة أهون ، فإن قيل : كيف قيل : لهم ثم يعيده؟ أجيب : بأنهم كانوا مقرين بالابتداء ودلالته على الإعادة ظاهرة قوية لأنّ الإعادة أهون عليه من الابتداء ، فلما كان الكلام مقرونا بالدلالة الظاهرة صاروا كأنهم لا عذر لهم في إنكار الإعادة لقيام البراهين عليها.

ولما كان الإمطار والإنبات من أدلّ ما يكون على الإعادة قال مشيرا إليهما على وجه عمّ جميع ما مضى.

(وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) أي : بالمطر والحرّ والبرد وغيرها مما له سبب في التكوين أو التلوين (وَالْأَرْضِ) أي : بالنبات والمعادن والحيوان وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله تعالى : وعبر عنها بالرزق لأنّ به تمام النعمة (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي : الذي له صفات الجلال والإكرام.

ولما كانت هذه كلها براهين ساطعة ودلائل قاطعة أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إعراضا عنهم بقوله تعالى : (قُلْ) أي : لهؤلاء المدّعين للعقول (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي : حجتكم على نفي شيء من ذلك عن الله تعالى أو على إثبات شيء منه لغيره (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي : في أنكم على حق في أنّ مع الله تعالى غيره ، وأضاف تعالى البرهان إليهم تهكما بهم وتنبيها على أنهم أبعدوا في الضلال وأغرقوا في المحال.

ثم إنهم سألوه عن وقت قيام الساعة فنزل. (قُلْ) أي : لهم (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والناس (الْغَيْبَ) أي : ما غاب عنهم وقوله تعالى : (إِلَّا اللهُ) استثناء

١١٦

منقطع أي : لكن الله يعلمه.

ولما كان الله تعالى منزها عن أن يحويه مكان جعل الاستثناء هنا منقطعا ، فإن قيل : من حق المنقطع النصب؟

أجيب : بأنه رفع بدلا على لغة بني تميم يقولون ما في الدار أحد إلا حمار يريدون ما فيها إلا حمار كأن أحدا لم يذكر ، ومنه قولهم : ما أتاني زيد إلا عمرو ، وما أعانه إخوانكم إلا أخوانه ، فإن قيل : ما الداعي إلى المذهب التميمي على الحجازي؟ أجيب : بأنه دعت إليه حاجة سرية حيث أخرج المستثنى مخرج قوله إلا اليعافير بعد قوله ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس ليؤل المعنى إلى قولك إن كان الله ممن في السموات والأرض فهم يعلمون الغيب بمعنى أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم ، كما أنّ معنى ما في البيت (١) إن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس ، إنباء عن خلوها عن الأنيس.

ويصح أن يكون متصلا والظرفية في حقه تعالى مجاز بالنسبة إلى علمه وإن كان فيه جمع بين الحقيقة والمجاز كما قال به إمامنا الشافعيّ رضي الله تعالى عنه ، وإن منعه بعضهم ، ومن ذلك قول المتكلمين : الله تعالى في كل مكان على معنى أنّ علمه في الأماكن كلها فكأن ذاته فيها ، وعلى هذا فيرتفع على البدل والصفة ، والرفع أفصح من النصب لأنه منفي ، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية ، والله تعالى يقول : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) وعن بعضهم أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحدا لئلا يأمن أحد من عبيده مكره ، وقوله تعالى : (وَما يَشْعُرُونَ) صفة لأهل السموات والأرض نفي أن يكون لهم علم بالغيب ، وإن اجتمعوا وتعاونوا (أَيَّانَ) أي : أيّ وقت (يُبْعَثُونَ) أي : ينشرون.

وقوله تعالى : (بَلِ) بمعنى هل (ادَّارَكَ) أي : بلغ وتناهى (عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي : بها حتى سألوا عن وقت مجيئها ، ليس الأمر كذلك (بَلْ هُمْ فِي شَكٍ) أي : ريب (مِنْها) كمن تحير في الأمر لا يجد عليه دليلا (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم ، وهذا وإن اختص بالمشركين بمن في السموات والأرض ، نسب إلى جميعهم كما يسند فعل البعض إلى الكل.

فإن قيل : هذه الاضرابات الثلاثة ما معناها؟ أجيب : بأنها لتنزيل أحوالهم وصفهم أوّلا بأنّهم

__________________

(١) يشير إلى قول الشاعر :

وبلدة ليس بها أنيس

إلّا اليعافير وإلّا العيس

والرجز لجران العود في ديوانه ص ٩٧ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٥ ـ ١٨ ، والدرر ٣ / ١٦٢ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١٤٠ ، وشرح التصريح ١ / ٣٥٣ ، وشرح المفصل ٢ / ١١٧ ، ٣ / ٢٧ ، و ٧ / ٢١ ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٠٧ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٩١ ، والإنصاف ١ / ٢٧١ ، وأوضح المسالك ٢ / ٢٦١ ، والجنى الداني ص ١٦٤ ، وجواهر الأدب ص ١٦٥ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٢١ ، ١٢٣ ، ١٢٤ ، ٧ / ٣٦٣ ، ٩ / ٢٥٨ ، ٣١٤ ، ورصف المباني ص ٤١٧ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٢٩ ، وشرح شذور الذهب ص ٣٤٤ ، وشرح المفصل ٢ / ٨٠ ، والصاحبي في فقه اللغة ص ١٣٦ ، والكتاب ١ / ٢٦٣ ، ٢ / ٣٢٢ ، ولسان العرب (كنس) ، (ألا) ، ومجالس ثعلب ص ٤٥٢ ، والمقتضب ٢ / ٣١٩ ، ٣٤٧ ، ٤١٤ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٢٥ ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٤٢٦ ، وتاج العروس (كنس) ، (ألا) ، (الواو).

١١٧

لا يشعرون بوقت البعث ، ثم بأنهم لا يعلمون أنّ القيامة كائنة ، ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية فلا يزيلونه والإزالة مستطاعة ، ثم بما هو أسوأ حالا وهو العمى وأن يكون مثل البهيمة قد عكف همه على بطنه وفرجه لا يخطر بباله حقا ولا باطلا ولا يفكر في عاقبة وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه فلذلك عدّاه بمن دون عن لأنّ الكفر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون ولا يتبصرون ، ووصفهم باستحكام علمهم في أمر الآخرة تهكما.

وقرأ أبو عمرو وابن كثير بقطع الهمزة مفتوحة وسكون اللام قبلها وسكون الدال بعدها ، والباقون بكسر اللام وإسقاط الهمزة بعدها وتشديد الدال وبعدها ألف بمعنى تتابع حتى استحكم أو تتابع حتى انقطع من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك.

وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا) أي : نحن وآباؤنا الذين طال العهد بهم (لَمُخْرَجُونَ) كالنبات ، والعامل في إذا محذوف يدل عليه لمخرجون تقديره نبعث ونخرج ، لأنّ بين يدي عمل اسم المفعول فيه عقبات وهي همزة الاستفهام وإنا ولام الابتداء وواحدة منها كافية فكيف إذا اجتمعت ، والمراد الإخراج من الأرض أو من حال الفناء إلى حال الحياة وتكرير حرف الاستفهام بإدخاله على إذا وأنا جميعا إنكار على إنكار وجحود عقب جحود ودليل على كفر مؤكد مبالغ فيه ، والضمير في إنا لهم ولآبائهم لأنّ كونهم ترابا قد تناولهم وآباؤهم.

تنبيه : آباؤنا عطف على اسم كان وقام الفصل بالخبر مقام الفصل بالتوكيد.

وقرأ نافع بالخبر في إذا وبالاستفهام في أئنا ، وابن عامر والكسائي بالاستفهام في الأوّل والخبر في الثاني وزادا فيه نونا ثانية ، وباقي القراء بالاستفهام في الأوّل والثاني وهم على مذاهبهم من التسهيل والتحقيق والمدّ والقصر ، فمذهب قالون وأبي عمرو التسهيل في الهمزة الثانية ، وإدخال ألف بينها وبين همزة الاستفهام ، ومذهب ورش وابن كثير التسهيل وعدم الإدخال ومذهب هشام الإدخال وعدمه مع التحقيق ، ومذهب الباقين التحقيق وعدم الإدخال.

ثم أقام الكفار الدليل في زعمهم على ذلك فقالوا تعليلا لاستبعادهم : (لَقَدْ وُعِدْنا هذا) أي : الإخراج من القبور كما كنا أوّل مرّة (نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) أي : قبل محمد فقد مرّت الدهور على هذا الوعد ولم يقع منه شيء فذلك دليل على أنه لا حقيقة له ، فكأنه قيل : فما فائدة المراد به فقالوا (إِنْ) أي : ما (هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها ولا حقيقة لها.

تنبيه : أساطير الأوّلين : جمع أسطورة بالضم أي : ما سطر من الكذب ، فإن قيل : لم قدم في هذه الآية هذا ، على نحن وآباؤنا ، وفي آية أخرى قدم نحن وآباؤنا ، على هذا؟ أجيب : بأنّ التقديم دليل على أنّ المقدّم هو الغرض المقصود بالذكر وأنّ الكلام إنما سيق لأجله ، ففي إحدى الآيتين دل على أنّ إيجاد البعث هو الذي تعمد بالكلام وفي الأخرى على أنّ إيجاد المبعوث بذلك الصدد.

ثم أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرشدهم بما في صورة التهديد بقوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي : أيها العمي الجاهلون (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) بإنكارهم وهي هلاكهم بالعذاب فإنكم إن نظرتم وتأمّلتم أخبارهم حق التأمّل أسرع بكم ذلك إلى التصديق فنجوتم وإلا هلكتم كما هلكوا ، وأراد بالمجرمين الكافرين ، فإن قيل : فلم لم يقل عاقبة الكافرين؟ أجيب : بأنّ

١١٨

هذا يحصل به التخويف لكل العصاة.

ثم إنّ الله تعالى صبر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يناله من جلافتهم وعماهم عن السبيل الذي هدى إليه الدليل بقوله تعالى : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) أي : في عدم إيمانهم فإنما عليك البلاغ (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي : لا تهتم بمكرهم عليك فأنا ناصرك عليهم وجاعل تدميرهم في تدبيرهم كطغاة قوم صالح.

تنبيه : الضيق الحرج يقال ضاق الشيء ضيقا وضيقا بالفتح والكسر ، ولهذا قرأ ابن كثير بكسر الضاد ، والباقون بالفتح.

ولما أشار تعالى إلى أنهم لم يبقوا في المبالغة في التكذيب بالساعة وجها أشار تعالى إلى أنهم في التكذيب بالوعيد بالساعة وغيرها من عذاب الله أشدّ مبالغة بقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ) بالمضارع المؤذن بالتجدّد كل حين والاستمرار (مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي : العذاب والبعث والمجازاة الموعود بها وسموه وعدا إظهارا لمجيئه تهكما به (إِنْ كُنْتُمْ) أي : أنت ومن تبعك (صادِقِينَ) فيه ، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجيبهم بقوله تعالى :

(قُلْ) لهم (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) أي : تبعكم وردفكم ولحقكم ، فاللام مزيدة على هذا للتأكيد كالباء في قوله (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) [البقرة ، ١٩٥] ويصح أن يكون تضمن ردف معنى فعل فتعدى باللام نحو دنا وقرب وأردف وبهذا فسره ابن عباس ، وقد عدّي بمن في قول القائل (١) :

فلما ردفنا من عمير وصحبه

تولوا سراعا والمنية تعنق

يعني دنونا من عمير (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) أي : فحصل لهم القتل ببدر وباقي العذاب يأتي بعد الموت.

تنبيه : عسى ولعلّ وسوف في مواعيد الملوك كالجزم بها ، وإنما يطلقون إظهارا لوقارهم وإشعارا بأنّ الرمز منهم كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله ووعيده.

ولما كان التقدير فإنّ ربك لا يعجل على هذا العاصي بالانتقام مع تمام قدرته عطف عليه : (وَإِنَّ رَبَّكَ) أي : المحسن إليك بالحلم على أمّتك (لَذُو فَضْلٍ) أي : تفضل وإنعام (عَلَى النَّاسِ) أي : كافة (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) أي : لا يعرفون حق النعمة له ولا يشكرونه بل يستعجلون بجهلهم العذاب ، قال ابن عادل : وهذه الآية تبطل قول من قال لا نعمة لله على كافر.

(وَإِنَّ رَبَّكَ) أي : والحال أنه (لَيَعْلَمُ ما تُكِنُ) أي : تضمر وتسرّ وتخفي (صُدُورُهُمْ) أي : الناس كلهم فضلا عن قومك (وَما يُعْلِنُونَ) أي : يظهرون من عداوتك وغيرها فيجازيهم على ذلك.

(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : في أيّ موضع كان منهما ، وأفردهما دلالة على إرادة الجنس الشامل لكل فرد.

تنبيه : في هذه التاء قولان : أحدهما : أنها للمبالغة كراوية وعلّامة في قولهم ويل للشاعر من راوية السوء ، كأنه تعالى قال وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله تعالى ، والثاني : أنها كالتاء الداخلة على المصادر نحو العاقبة والعافية ، قال الزمخشريّ : ونظيرها الذبيحة

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

١١٩

والنطيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات (إِلَّا فِي كِتابٍ) هو اللوح المحفوظ كتب فيه ذلك قبل إيجاده لأنه لا يكون شيء إلا بعلمه وتقديره (مُبِينٍ) أي : ظاهر لمن ينظر فيه من الملائكة.

ولما تمم تعالى الكلام في إثبات المبدأ والمعاد ذكر بعده ما يتعلق بالنبوّة بقوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ) أي : الآتي به هذا النبيّ الأميّ الذي لم يعرف قبله علما ولا خالط عالما (يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : الموجودين في زمان نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي : من أمر الدين وإن بالغوا في كتمه كقصة الزاني المحصن في إخفائهم أنّ حدّه الرجم ، وقصة عزير والمسيح ، وإخراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك مما في توراتهم فصح بحقيقته على لسان من لم يلمّ بعلم قط نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّ ذلك لا يكون إلا من عند الله.

ثم وصف تعالى فضل هذا القرآن بقوله تعالى :

(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨))

(وَإِنَّهُ لَهُدىً) أي : من الضلالة لما فيه من الدلائل على التوحيد والحشر والنشر والنبوّة وشرح صفات الله تعالى (وَرَحْمَةٌ) أي : نعمة وإكرام (لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : الذين طبعهم على الإيمان فهو صفة لهم راسخة كما أنه للكافرين وقر في آذانهم وعمى في قلوبهم.

ولما ذكر تعالى دليل فضله أتبعه دليل عدله بقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ) أي : المحسن إليك بما لم يصل إليه أحد (يَقْضِي بَيْنَهُمْ) أي : بين جميع المختلفين (بِحُكْمِهِ) أي : الذي هو أعدل حكم وأتقنه وأنفذه ، فإن قيل : القضاء والحكم شيء واحد فقوله تعالى : (يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ) أي : بما يحكم به كقوله يقضي بقضائه ويحكم بحكمه؟ أجيب : بأنّ معنى قوله تعالى : (بِحُكْمِهِ) أي : بما يحكم به وهو عدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكما أو أراد بحكمته (وَهُوَ) أي : والحال أنه هو (الْعَزِيزُ) أي : فلا يردّ له أمر (الْعَلِيمُ) فلا يخفى عليه سرّ ولا جهر.

فلما ثبت له تعالى العلم والحكمة والعظمة والقدرة تسبب عن ذلك قوله تعالى : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي : ثق به لتدع الأمور كلها إليه وتستريح من تحمل المشاق وثوقا بنصره ، ثم علل ذلك بقوله تعالى : (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) أي : البين في نفسه الموضح لغيره فصاحب الحق حقيق بالوثوق بحفظ الله تعالى ونصره.

وقوله تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) تعليل آخر للأمر بالتوكل من حيث إنه يقطع طمعه من معاضدتهم ، وإنما شبهوا بالموتى لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم كما شبهوا بالصم في قوله

١٢٠