شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذّهبي
المحقق: الدكتور عمر عبدالسلام تدمري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٩
سيكون في قومك أمور ، فلا تدخل معهم في شيء ، فلما كان من أهل المدينة ما كان ، كتب مع مسلّم بن عقبة كتابا فيه أماني ، فلما فرغ مسلّم من الحرّة بعث إليّ ، فجئته وقد كتبت وصيّتي ، فرمى إليّ بالكتاب ، فإذا فيه : استوص بعلي بن الحسين خيرا ، وإن دخل معهم ، في أمرهم فأمّنه واعف عنه ، وإن لم يكن معهم فقد أصاب وأحسن (١).
وقال غير واحد : قتل مع الحسين ابن عمّه مسلّم بن عقيل بن أبي طالب ، وقد كان في آخر سنة ستين ، قتله ابن زياد صبرا ، وكان الحسين قد قدّمه إلى الكوفة ، ليخبر من بها من شيعته بقدومه ، فنزل على هانئ بن عروة المرادي ، فأحسّ به عبيد الله بن زياد ، فقتل مسلما وهانئا.
وممّن قتل مع الحسين يوم عاشوراء إخوته بنو أبيه : جعفر ، وعتيق ، ومحمد ، والعباس الأكبر بنو علي ، وابنه الأكبر علي ـ وهو غير علي زين العابدين ـ ، وابنه عبد الله بن الحسين ، وابن أخيه القاسم بن الحسين ، ومحمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وأخوه عون ، وعبد الله ، وعبد الرحمن ابنا مسلّم بن عقيل ، رضياللهعنهم (٢).
* * *
(وفيها) : ظنّا وتخمينا ، قدم على ابن الزبير وهو بمكة المختار بن أبي عبيد الثقفي من الطائف ، وكان قد طرد إلى الطائف ، وكان قويّ النفس ، شديد البأس ، يظهر المناصحة والدهاء ، وكان يختلف إلى محمد بن الحنفيّة ، فيسمعون منه كلاما ينكرونه ، فلما مات يزيد استأذن ابن الزبير في المضيّ إلى العراق ، فأذن له وركن إليه ، وكتب إلى عامله على العراق عبد الله بن مطيع يوصيه به ، فكان يختلف إلى ابن مطيع ، ثم أخذ يعيب في الباطن ابن الزبير ويثني على ابن الحنفيّة ، ويدعو إليه ، ويحرّض أهل الكوفة على ابن مطيع ، ويكذب وينافق ، فراج أمره واستغوى طائفة ، وصار له شيعة ، إلى أن خافه ابن مطيع ، وهرب منه ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
__________________
(١) سير اعلام النبلاء ٣ / ٣٢٠ ، ٣٢١.
(٢) انظر تاريخ الطبري ٥ / ٤٦٨ ، ٤٦٩ ، وتاريخ خليفة ٢٣٤.
[حوادث]
سنة اثنتين وستين
توفي فيها : بريدة بن الحصيب ، وعبد المطّلب بن ربيعة بن الحارث الهاشمي ، ومسلمة بن مخلد ، وأبو مسلّم الخولانيّ الدارانيّ الزاهد ، وعلقمة بن قيس النخعي الفقيه.
* * *
وفيها استعمل عبيد الله بن زياد أمير العراق على السند (١) المنذر بن الجارود العبديّ ، ولابنه الجارود بن عمرو صحبة.
وكان المنذر من وجوه أهل البصرة من أصحاب علي ، قتله الحجّاج.
وفيها غزا سلّم بن أحور (٢) خوارزم فصالحوه على مال ، ثم عبر إلى سمرقند ، فنازلها ، فصالحوه أيضا.
وفيها نقض أهل كابل ، وأخذوا أبا عبيدة بن زياد بن أبي سفيان بن حرب أسيرا ، فسار أخوه يزيد في جيش ، فهجم عليهم ، فقاتلوه ، فقتل يزيد ، وقتل معه زيد بن جدعان التّيمي والد علي بن زيد ، وصلة بن أشيم العدوي ، وولداه (٣) ، وعمرو بن قثم (٤) ، وبديل بن نعيم العدوي ، وعثمان بن آدم العدوي ، في رجال من أهل الصدق. قاله خليفة.
وأقام الموسم للناس عثمان بن محمد بن أبي سفيان بن حرب (٥).
__________________
(١) في تاريخ خليفة ص ٢٣٦ «ثغر قندابيل».
(٢) في تاريخ خليفة بن خياط ٢٣٥ : «سلّم بن زياد».
(٣) في تاريخ خليفة : «وابنه».
(٤) في تاريخ خليفة : «عمرو بن قتيبة».
(٥) تاريخ خليفة ٢٣٦.
[حوادث]
سنة ثلاث وستين
فيها توفي : ربيعة بن كعب الأسلمي ، ومسروق بن الأجدع.
* * *
وفيها وقعة الحرّة على باب طيبة ، واستشهد فيها خلق وجماعة من الصحابة.
وفيها بعث سلّم بن زياد : ابن أبيه طلحة بن عبد الله الخزاعي واليا على سجستان ، فأمره أن يفدي أخاه من الأسر ، ففداه بخمسمائة ألف ، وأقدمه على أخيه ، وأقام طلحة بسجستان (١).
فيها غزا عقبة بن نافع من القيروان ، فسار حتى أتى السوس الأقصى ، وغنم وسلّم ، وردّ ، فلقيه كسيلة وكان نصرانيا ، فالتقيا ، فاستشهد في الوقعة عقبة بن نافع ، وأبو المهاجر دينار مولى الأنصار ، وعامّة أصحابهما. ثم سار كسيلة الكلب ، فسار لحربه زهير بن قيس البلوي خليفة عقبة على القيروان ، فقتل في الوقعة كسيلة ، وهزم جنوده ، وقتلت منهم مقتلة كبيرة (٢).
قصة الحرّة
قال جويرية بن أسماء : سمعت أشياخنا يقولون : وفد إلى يزيد عبد الله بن حنظلة بن الغسيل الأوسي المدني ، وله صحبة ، وفد في ثمانية بنين له ،
__________________
(١) تاريخ خليفة ٢٥٠ ، ٢٥١.
(٢) تاريخ خليفة ٢٥١ ، البيان المغرب ١ / ٢٦ ـ ٣٠.
فأعطاه يزيد مائة ألف ، وأعطى لكل ابن عشرة آلاف ، سوى كسوتهم ، فلما رجع إلى المدينة قالوا : ما وراءك؟ قال : أتيتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم ، قالوا : إنه قد أكرمك وأعطاك ، قال : نعم وما قبلت ذلك منه إلا لأتقوّي به عليه ، ثم حضّ الناس فبايعوه (١).
وقال خليفة بن خياط (٢) : قال أبو اليقظان : دعوا إلى الرضا والشورى ، وأمّروا على قريش عبد الله بن مطيع العدوي ، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة ، وعلى قبائل المهاجرين معقل بن سنان الأشجعي ، وأخرجوا من بالمدينة من بني أميّة.
وقال غيره : خلعوا يزيد ، فأرسل إليهم جيشا عليه مسلّم بن عقبة ، وأرسل أهل المدينة إلى مياه الطريق ، فصبّوا في كل ماء زقّ قطران وغوّروه ، فأرسل الله السماء عليهم ، فما استقوا بدلو (٣).
وجاء من غير وجه أنّ يزيد لما بلغه وثوب أهل المدينة بعامله وأهل بيته ، ونفيهم ، جهّز لحربهم مسلّم بن عقبة المرّي ، وهو شيخ ، وكانت به النوطة ، وجهّز معه جيشا كثيفا ، فكلّم يزيد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في أهل المدينة ، وكان عنده ، وقال : إنما تقتل بهم نفسك ، فقال : أجل أقتل بهم نفسي وأشقى ، ولك عندي واحدة ، آمر مسلما أن يتّخذ المدينة طريقا ، فإن هم لم ينصبوا له الحرب ، وتركوه يمضي إلى ابن الزبير فيقاتله ، وإن منعوه وحاربوه قاتلهم ، فإن ظفر بهم قتل من أشرف له وأنهبها ثلاثا ، ثم يمضي إلى ابن الزبير. فكتب عبد الله بن جعفر إلى أهل المدينة أن لا تعرضوا لجيشه ، فورد مسلّم بن عقبة ، فمنعوه ونصبوا له الحرب ، ونالوا من يزيد ، فأوقع بهم وأنهبها ثلاثا ، وسار إلى الزبير ، فمات بالمشلل (٤) ، وعهد
__________________
(١) تاريخ خليفة ٢٣٧ ، تاريخ الطبري ٢ / ٤٢٣ ، ٤٢٤.
(٢) تاريخ خليفة ٢٣٧.
(٣) تاريخ خليفة ٨٣٨ ، تاريخ الطبري ٥ / ٤٩٥.
(٤) المشلّل : بضمّ أوله ، وفتح ثانيه ، وفتح اللام وتشديدها ، وهي ثنيّة مشرفة على قديد. (معجم ما استعجم ٤ / ١٢٣٣).
إلى حصين بن نمير في أول سنة أربع وستين (١).
وروى محمد بن عجلان ، عن زيد بن أسلم قال : دخل عبد الله بن مطيع ليالي الحرّة على ابن عمر ، فقال ابن عمر : سمعت النبيّ صلىاللهعليهوسلم يقول : «من نزع يدا من طاعة لم يكن له حجّة يوم القيامة ، ومن مات مفارقا للجماعة فإنه يموت موتة جاهلية» (٢).
وقال المدائني : توجّه مسلم بن عقبة إلى المدينة في اثني عشر ألف رجل ، ويقال في اثنى عشر ألف فارس ، وخمسة عشر راجل ، ونادى منادي يزيد : سيروا على أخذ أعطياتكم ، ومعونة أربعين دينارا لكل رجل.
وقال النعمان بن بشير ليزيد : وجّهني أكفك ، قال : لا ، ليس لهم إلا هذا ، والله لا أقبلهم بعد إحساني إليهم وعفوي عنهم مرة بعد مرة ، فقال : أنشدك الله يا أمير المؤمنين في عشيرتك وأنصار رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقال له عبد الله بن جعفر : أرأيت إن رجعوا إلى طاعتك ، أتقبل ذلك منهم؟ قال : إن فعلوا فلا سبيل عليهم ، يا مسلم إذا دخلت المدينة ولم تصدّ عنها ، وسمعوا وأطاعوا فلا تعرضنّ لأحد ، وامض إلى الملحد ابن الزبير ، وإن صدّوك عن المدينة فادعهم ثلاثة أيام ، فإن لم يجيبوا فاستعن بالله وقاتلهم ، فستجدهم أول النهار مرضى ، وآخره صبرا ، سيوفهم أبطحية ، فإذا ظهرت عليهم ، فإن كان بنو أميّة قد قتل منهم أحد فجرّد السيف واقتل المقبل والمدبر ، وأجهز على الجريح وانهبها ثلاثا ، واستوص بعلي بن الحسين ، وشاور حصين بن نمير ، وإن حدث بك حدث ، فولّه الجيش.
وقال جرير بن حازم ، عن الحسن ، أنه ذكر الحرّة فقال : والله ما كاد ينجو منهم أحد ، ولقد قتل ابنا زينب بنت أم سلمة ، فأتيت بهما فوضعتهما بين يديها ، فقالت : والله إنّ المصيبة عليّ فيكما لعظيمة ، وهي في هذا ـ وأشارت إلى أحدهما ـ أعظم منها في هذا ـ وأشارت إلى الآخر ـ ، لأنّ هذا
__________________
(١) تاريخ الطبري ٥ / ٤٩٨.
(٢) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٧٠ و ٨٣ و ٩٣ و ٩٧ و ١٢٣ و ٣٣ و ١٥٤.
بسط يده ، وأما هذا فقعد في بيته ، فدخل عليه فقتل ، فأنا أرجو به.
وقال جرير بن عبد الحميد ، عن مغيرة قال : نهب مسرف (١) بن عقبة المدينة ثلاثا ، وافتضّ فيها ألف عذراء.
قال يزيد بن الهاد ، عن أبي بكر بن المنكدر ، عن عطاء بن يسار ، عن السائب بن خلّاد ، أنه سمع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من أخاف أهل المدينة أخافه الله ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (٢). رواه مسلّم بن أبي مريم ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة ، عن عطاء عن السائب ، وخالفهم موسى بن عقبة ، عن عطاء فقال : عن عبادة بن الصّامت ، والأول أصحّ.
وقال جويرية بن أسماء : سمعت أشياخنا من أهل المدينة يتحدّثون قالوا : خرج أهل المدينة يوم الحرّة بجموع كبيرة ، وهيئة لم ير مثلها ، فلما رآهم أهل الشام كرهوا قتالهم ، فأمر مسلّم بن عقبة بسريره ، فوضع بين الصفّين ، ثم أمر مناديه : قاتلوا عنّي ، أو دعوا ، فشدّ الناس في قتالهم ، فسمعوا التكبير خلفهم من المدينة ، وأقحم عليهم بنو حارثة وهم على الحرّة ، فانهزم الناس ، وعبد الله بن حنظلة متساند إلى بعض بنيه يغطّ نوما ، فنبّهه ابنه ، فلما رأى ما جرى أمر أكبر بنيه ، فقاتل حتى قتل ، ثم لم يزل يقدّمهم واحدا بعد واحد ، حتى أتى على آخرهم ، ثم كسر جفر سيفه ، فقاتل حتى قتل (٣).
وقال وهيب بن خالد : ثنا عمرو بن يحيى ، عن أبيه قال : قيل لعبد الله ابن زيد يوم الحرّة : ها ذاك ابن حنظلة يبايع الناس على الموت ، فقال : لا أبايع عليه أحدا بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم (٤). إسناده صحيح.
__________________
(١) هو مسلم بن عقبة ، وقد سمّي «مسرف» بعد وقعة الحرّة.
(٢) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٥٥.
(٣) انظر تاريخ الطبري ٥ / ٤٨٩ ، والخبر في تاريخ خليفة ٢٣٨.
(٤) أخرجه البخاري في الجهاد ٤ / ٨ باب البيعة في الحرب أن لا يفرّوا .. ، وفي المغازي ٥ / ٦٥ باب غزوة الحديبيّة ، ومسلم في الإمارة (٨١ / ١٨٦١) ، وأحمد في المسند ٤ / ٤١ و ٤٢.
وقال الواقدي : أنا ابن أبي ذئب ، عن صالح بن أبي حسّان ، أنا إسماعيل بن إبراهيم المخزومي ، عن أبيه ، وثنا سعيد بن محمد بن عمرو بن يحيى ، عن عبادة بن تميم ، كلّ قد حدّثني ، قالوا : لما وثب أهل الحرّة ، وأخرجوا بني أمية عن المدينة ، واجتمعوا على عبد الله بن حنظلة ، وبايعهم على الموت قال : يا قوم اتّقوا الله ، فو الله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمي بالحجارة من السماء ، إنه رجل ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات ، ويشرب الخلّ ويدع الصلاة ، قال : فكان ابن حنظلة يبيت تلك الليالي في المسجد ، وما يزيد على أن يشرب ، يفطر على شربة سويق ويصوم الدهر ، وما رئي رافعا رأسه إلى السماء إخباتا (١) ، فلما قرب القوم خطب عبد الله بن حنظلة أصحابه ، وحرّضهم على القتال ، وأمرهم بالصدق في اللقاء وقال : اللهمّ إنّا بك واثقون ، فصبّح القوم المدينة ، فقاتل أهل المدينة قتالا شديدا حتى كثّرهم (٢) أهل الشام ، ودخلت المدينة من النواحي كلها ، وابن حنظلة يمشي بها في عصابة من الناس أصحابه ، فقال لمولى (٣) له : احم لي ظهري حتى أصلّي الظهر ، فلما صلّى قال له مولاه : ما بقي أحد ، فعلام نقيم؟ ولواؤه قائم ما حوله إلا خمسة (٤) ، فقال : ويحك ، إنما خرجنا على أن نموت ، قال : وأهل المدينة كالنّعام الشرود ، وأهل الشام يقتلون فيهم ، فلما هزم الناس طرح الدّرع ، وقاتلهم حاسرا حتى قتلوه ، فوقف عليه مروان وهو مادّ إصبعه السّبّابة ، فقال : أما والله لئن نصبتها ميتا لطالما نصبتها حيا (٥).
وقال مبارك بن فضالة ، عن أبي هارون العبديّ قال : رأيت أبا سعيد الخدريّ ممعّط اللحية ، فقلت : تعبث بلحيتك! فقال : لا ، هذا ما لقيت من ظلمة أهل الشام يوم الحرّة ، دخلوا عليّ زمن الحرّة فأخذوا ما في البيت ، ثم دخلت عليّ طائفة ، فلم يجدوا في البيت شيئا ، فأسفوا وقالوا : أضجعوا
__________________
(١) في نسخة القدسي ٢ / ٣٥٦ : «أحيانا» ، والتصويب من (الطبقات الكبرى ٥ / ٦٧).
(٢) في نسخة القدسي ٢ / ٣٥٦ : «كبر» ، والتصويب من (الطبقات الكبرى).
(٣) في نسخة القدسي ٢ / ٣٥٦ : «ولى» ، والتصويب من (الطبقات).
(٤) في (الطبقات الكبرى ٥ / ٦٧) : «ما حوله خمسة».
(٥) طبقات ابن سعد ٥ / ٦٧ ، ٦٨.
الشيخ ، فأضجعوني ، فجعل كلّ واحد منهم يأخذ من لحيتي خصلة.
عن بعضهم قالوا : ودخلوا المدينة ونهبوا وأفسدوا ، واستحلّوا الحرمة.
قال خليفة (١) : فجميع من أصيب من قريش والأنصار يوم الحرّة ثلاثمائة وستة رجال ، ثم سرد أسماءهم في ستّ (٢) أوراق ، قال : وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجّة.
الواقدي : حدّثني أبو بكر بن أبي سبرة ، عن يحيى بن شبل ، عن أبي جعفر ، أنه سأله عن يوم الحرّة : هل خرج فيها أحد من بني عبد المطّلب؟ قال : لا ، لزموا بيوتهم ، فلما قدم مسرف وقتل الناس ، سأل عن أبي ، أحاضر هو؟ قالوا : نعم ، قال : ما لي لا أراه! فبلغ ذلك أبي ، فجاءه ومعه ابنا محمد ابن الحنفية ، فرحّب بهم ، وأوسع لأبي على سريره وقال : كيف كنت؟ إنّ أمير المؤمنين أوصاني بك خيرا ، فقال : وصل الله تعالى أمير المؤمنين ، ثم سأله عن عبد الله والحسين ابني محمد ، فقال : هما ابنا عمّي ، فرحّب بهما.
قلت : فمن أصيب يومئذ : أميرهم عبد الله بن حنظلة ، وبنوه ، وعبد الله ابن زيد بن عاصم الأنصاري الّذي حكى وضوء رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ومعقل بن سنان الأشجعي ، حامل لواء قومه يوم الفتح ، وواسع بن حبّان الأنصاري ، مختلف في صحبته ، وكثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ، أحد من نسخ المصاحف التي سيّرها عثمان ، رضياللهعنه ، إلى الأمصار ، وأبوه أفلح ، ومحمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدوي ، ومحمد بن أبي حذيفة ، قتلا مع معقل الأشجعي صبرا.
وممّن قتل يومئذ : سعد ، وسليمان ، ويحيى ، وإسماعيل ، وسليط ، وعبد الرحمن ، وعبد الله بنو زيد بن ثابت لصلبه. قاله محمد بن سعد.
وممّن قتل يوم الحرّة : إبراهيم بن نعيم النّحّام (٣) بن عبد الله بن أسيد
__________________
(١) تاريخ خليفة ٢٥٠.
(٢) في الأصل «ستة».
(٣) في (نزهة الألباب في الألقاب للحافظ ابن حجر) : ضبطه الأكثر بفتح النون وتشديد الحاء ، وضبطه ابن الكلبي بضم النون وتخفيف الحاء.
القرشي (١) العدوي.
قال ابن سعد (٢) : كان ابن النّحّام أحد الرءوس يوم الحرّة ، وقتل يومئذ ، وكان زوج رقيّة ابنة عمر بن الخطّاب.
وقتل يوم الحرّة أيضا محمد بن أبيّ بن كعب ، وعبد الرحمن بن أبي قتادة ، ويزيد ، ووهب ابنا عبد الله بن زمعة ، ويعقوب بن طلحة بن عبيد الله التيمي ، وأبو حكيمة معاذ بن الحارث الأنصاري القارئ ، الّذي أقامه عمر يصلّي بالناس التراويح ، وقد روى عن أبي بكر وعمر ، وروى عنه سعيد المقبري ، ونافع مولى ابن عمر.
ومنهم عمران بن أبي أنيس ، توفي النبيّ صلىاللهعليهوسلم وله ستّ سنين ، والفضل ابن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب ، ويزيد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري ، ومحمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ، ومحمد بن ثابت بن قيس بن شماس.
قال عوانة بن الحكم : أتى مسلم بن عقبة بين يدي عبد الله بن زمعة ابن الأسود الأسدي فقال : بايع على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فامتنع ، فأمر به مسلم فقتل (٣).
وقال : دخل مسلم بن عقبة المدينة ، ودعا الناس إلى البيعة ، على أنهم خول ليزيد ، يحكم في أهلهم ودمائهم وأموالهم ما شاء ، حتى أتي بابن عبد الله بن زمعة ، وكان صديقا ليزيد وصفيّا له ، فقال : بل أبايعك على أنّي ابن عمّ أمير المؤمنين ، يحكم في دمي وأهلي ، فقال : اضربا عنقه ، فوثب مروان بن الحكم فضمّه إليه ، فقال مسلم : والله لا أقتله أبدا ، وقال : إن تنحّى مروان ، وإلا فاقتلوهما معا ، فتركه مروان ، فضربت عنقه (٤).
وقتل أيضا صبرا أبو بكر بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب ، وأبو بكر بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، ويعقوب بن طلحة بن عبيد الله.
__________________
(١) في الأصل «العرسي» ، والتصحيح من أسد الغابة ٥ / ٣٢.
(٢) الطبقات الكبرى ٥ / ١٧٠ و ١٧١.
(٣) انظر : تاريخ الطبري ٥ / ٤٩٢ ، تاريخ خليفة ٢٣٩.
(٤) تاريخ الطبري ٥ / ٤٩٣ والخبر في تاريخ خليفة ٢٣٨ ، ٢٣٩.
وجاء أنّ معقل بن سنان ، ومحمد بن أبي الجهم كانا في قصر العرصة ، فأنزلهما مسلم بالأمان ، ثم قتلهما ، وقال لمحمد : أنت الوافد على أمير المؤمنين (١) ، فوصلك وأحسن جائزتك ، ثم تشهد عليه بالشرب.
وقيل : بل قال له : تبايع أمير المؤمنين على أنك عبد قنّ ، إن شاء أعتقك ، وإن شاء استرقّك ، قال : بل أبايع على أنّي ابن عمّ لئيم ، فقال : اضربوا عنقه.
وروي عن مالك بن أنس قال : قتل يوم الحرّة من حملة القرآن سبعمائة.
قلت : ولما فعل يزيد بأهل المدينة ما فعل ، وقتل الحسين وإخوته وآله ، وشرب يزيد الخمر ، وارتكب أشياء منكرة ، بغضه الناس ، وخرج عليه غير واحد ، ولم يبارك الله في عمره ، فخرج عليه أبو بلال مرداس بن أديّة (٢) الحنظليّ.
قال ثابت البناني : فوجّه عبيد الله بن زياد جيشا لحربه ، فيهم عبد الله ابن رباح الأنصاري ، فقتله أبو بلال.
وقال غيره : وجّه عبيد الله بن زياد أيضا عبّاد بن أخضر في أربعة آلاف ، فقاتلوا أبا بلال في سواد ميسان ، ثم قتل عبّاد غيلة.
وقال يونس بن عبيد : خرج أبو بلال أحد بني ربيعة بن حنظلة في أربعين رجلا ، فلم يقاتل أحدا ، لم يعرض للسبيل ، ولا سأل ، حتى نفذ زادهم ونفقاتهم ، حتى صاروا يسألون ، فبعث عبيد الله لقتالهم جيشا ، عليهم عبد الله بن حصن الثعلبي ، فهزموا أصحابه ، ثم بعث عليهم عبّاد بن أخضر ، فقتلهم أجمعين (٣).
__________________
(١) سيأتي في الجزء الخامس في ترجمة (يزيد بن معاوية) أن نوفل بن أبي الفرات قال : كنت عند عمر بن عبد العزيز ، فذكر رجل يزيد فقال : قال أمير المؤمنين يزيد بن معاوية ، فقال : تقول أمير المؤمنين! وأمر به فضرب عشرين سوطا.
(٢) هذا ما في تاريخ الطبري ٥ / ٣١٣ ، وفي الأصل «أذنه».
(٣) تاريخ خليفة ٢٥٦.
وروى غسّان بن مضر ، عن سعيد بن يزيد قال : خرج أبو بلال من البصرة في أربعين رجلا ، فلم يقاتلوا ، فحدّثني من كان في قافلة قال : جاءونا يقودون خيولهم ، فتكلّم أبو بلال فقال : قد رأيتم ما كان يؤتى إلينا ، ولعلّنا لو صبرنا لكان خيرا لنا ، وقد أصابتنا خصاصة ، فتصدّقوا ، إنّ الله يجزي المتصدّقين ، قال : فجاءه التجّار بالبدر ، فوضعوها بين يديه ، فقال : لا ، إلا درهمين لكلّ رجل ، فلعلّنا لا نأكلها حتى نقتل ، فأخذ ثمانين درهما لهم ، قال : فسار إليهم جند فقتلوهم (١).
وقال عوف الأعرابي : كان أبو بلال صديقا لأبي العالية ، فلما بلغ أبا العالية خروجه ، أتاه فكلّمه فما نفع.
وقال ابن عيينة : كان أبو بلال يلبس سلاحه في الليل ، ويركب فرسه ، فيرفع رأسه إلى السماء ويقول :
إنّي وزنت الّذي يبقى لأعدله |
|
ما ليس يبقى فلا والله ما اتّزنا |
خوف الإله وتقوى الله أخرجني |
|
ويبيع نفسي بما ليست له ثمنا |
وخرج نافع بن الأزرق في آخر خلافة يزيد ، فاعترض الناس ، فانتدب له أهل البصرة مع مسلم بن عبيس (٢) العبشمي القرشي ، فقتلا كلاهما.
قال معاوية بن قرّة : خرجت مع أبي في جيش ابن عبيس ، فلقيناهم بدولاب ، فقتل منا خمسة أمراء (٣).
وقال غيره : قتل في الوقعة قرّة بن إياس المزني أبو معاوية ، وله صحبة ورواية (٤).
وقال أبو اليقظان : قتل ربيعة السليطي مسلم بن عبيس فارس أهل
__________________
(١) تاريخ خليفة ٢٥٦.
(٢) هو مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة. كما في (تاريخ الطبري ٥ / ٥٦٩ ، الكامل في التاريخ ٤ / ١٩٤).
(٣) تاريخ خليفة ٢٥٦ و ٢٥٧.
(٤) تاريخ خليفة ٢٥٧.
البصرة ، ولما قتل ابن الأزرق رأست الخوارج عليهم عبد الله بن ماحوز ، فسار بهم إلى المدائن (١).
ولما قتل مسعود المعنّى غلبوا على الأهواز وجبوا المال ، وأتتهم الأمداد من اليمامة والبحرين ، وخرج طوّاف بن المعلّى السّدوسيّ في نفر من العرب ، فخرج في يوم عيد ، فحكّم أبيّ قال : لا حكم إلا عند قصر أوس ، فرماه الناس بالحجارة ، وقاتله ابن زياد ثلاثة أيام ، قتل وتمزّق جمعه (٢).
__________________
(١) تاريخ خليفة ٢٥٦.
(٢) تاريخ خليفة ٢٥٩.
[حوادث]
سنة أربع وستين
توفي فيها : ربيعة الجرشيّ في ذي الحجّة بمرج راهط ، وشقيق بن ثور السّدوسي ، والمسور بن مخرمة ، والضّحّاك بن قيس الفهري ، ويزيد بن معاوية ، ومعن بن يزيد السلمي ، وابنه ثور ، والنعمان بن بشير في آخرها ، ومعاوية بن يزيد بن معاوية ، والوليد بن عقبة بن أبي سفيان الأموي ، والمنذر ابن الزبير بن العوّام ، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف ، ومسعود بن عمرو الأزدي ، ومسلم بن عقبة.
* * *
قال محمد بن جرير (١) : لما فرغ مسلم بن عقبة المرّي من الحرّة ، توجّه إلى مكة ، واستخلف على المدينة روح بن زنباع الجذاميّ ، فأدرك مسلما الموت ، وعهد بالأمر إلى حصين بن نمير ، فقال : انظر يا برذعة الحمار ، لا ترع سمعك قريشا ، ولا تردّنّ أهل الشام عن عدوّهم ، ولا تقيمنّ إلا ثلاثا حتى تناجز ابن الزبير الفاسق ، ثم قال : اللهمّ إنّي لم أعمل عملا قطّ بعد الشهادتين أحبّ إليّ من قتل أهل المدينة ، ولا أرجى عندي منه ، ثم مات ، فقدم حصين على ابن الزبير ، وقد بايعه أهل الحجاز ، وقدم عليه وفد أهل المدينة ، وقدم عليه نجدة بن عامر الحنفي الحروريّ ، في أناس من الخوارج ، فجرّد أخاه المنذر لقتال أهل الشام ، وكان ممّن شاهد الحرّة ، ثم لحق به ، فقاتلهم ساعة ، ثم دعي إلى المبارزة ، فضرب كلّ واحد صاحبه ،
__________________
(١) تاريخ الطبري ٥ / ٤٩٦ و ٤٩٧.
وخرّ ميتا. وقاتل مصعب بن عبد الرحمن حتى قتل ، صابرهم ابن الزبير على القتال إلى الليل ، ثم حاصروه بمكة شهر صفر ، ورموه بالمنجنيق ، وكانوا يوقدون حول الكعبة ، فأقبلت شررة هبّت بها الريح ، فأحرقت الأستار وخشب السقف ، سقف الكعبة ، واحترق قرنا الكبش الّذي فدى الله به إسماعيل ، وكانا في السقف. قال : فبلغ عبد الله بن الزبير موت يزيد بن معاوية ، فنادى بأهل الشام : إنّ طاغيتكم قد هلك. فغدوا يقاتلون ، فقال ابن الزبير للحصين ابن نمير : أدن منّي أحدّثك ، فدنا ، فحدّثه ، فقال : لا نقاتلك ، فائذن لنا نطف بالبيت وننصرف ، ففعل.
وذكر عوانة بن الحكم ، أنّ الحصين سأل ابن الزبير موعدا بالليل ، فالتقيا بالأبطح ، فقال له الحصين : إن يك هذا الرجل قد هلك ، فأنت أحقّ الناس بهذا الأمر ، هلمّ نبايعك ، ثم اخرج معي إلى الشام ، فإنّ هؤلاء وجوه أهل الشام وفرسانهم ، فو الله لا يختلف عليك اثنان ، وأخذ الحصين يكلّمه سرا ، وابن الزبير يجهر جهرا ، ويقول : أفعل ، فقال الحصين : كنت أظنّ أنّ لك رأيا ، ألا أراني أكلّمك سرا وتكلّمني جهرا ، وأدعوك إلى الخلافة وتعدني القتل! ثم قام وسار بجيشه ، وندم ابن الزبير فأرسل وراءه يقول : لست أسير إلى الشام ، إني أكره الخروج من مكة ، ولكن بايعوا لي الشام ، فإنّي عادل عليكم ، ثم سار الحصين ، وقلّ عليهم العلف ، واجترأ على جيشه أهل المدينة وأهل الحجاز ، وجعلوا يتخطّفونهم وذلّوا ، وسار معهم بنو أميّة من المدينة إلى الشام (١).
وقال غيره : سار مسرف بن عقبة وهو مريض من المدينة ، حتى إذا صدر عن الأبواء هلك ، وأمّر على جيشه حصين بن نمير الكندي ، فقال : قد دعوتك ، وما أدري أستخلفك على الجيش ، أو أقدّمك فأضرب عنقك؟ ، قال : أصلحك الله ، سهمك ، فارم به حيث شئت ، قال : إنك أعرابيّ جلف جاف ، وإنّ قريشا لم يمكّنهم رجل قط من أذنه إلا غلبوه على رأيه ، فسر بهذا
__________________
(١) تاريخ الطبري ٥ / ٥٠٢ ، ٥٠٣ ، وانظر : الأخبار الطوال ٢٦٨.
الجيش ، فإذا لقيت القوم فاحذر أن تمكّنهم من أذنيك ، لا يكون إلا الوقاف ثم الثقاف ثم الانصراف (١).
وقال الواقدي : ثنا عبد الله بن جعفر ، عن أبي عون قال : جاء نعي يزيد ليلا ، وكان أهل الشام يردّون ابن الزبير ، قال ابن عون : فقمت في مشربة لنا في دار مخرمة بن نوفل ، فصحت بأعلى صوتي : يا أهل الشام ، يا أهل النفاق والشؤم ، قد والله الّذي لا إله إلا هو مات يزيد ، فصاحوا وسبّوا وانكسروا ، فلما أصبحنا جاء شابّ فاستأمن ، فأمّنّاه ، فجاء ابن الزبير ، وعبد الله بن صفوان ، وأشياخ جلوس في الحجر ، والمسور يموت في البيت ، فقال الشابّ : إنكم معشر قريش ، إنما هذا الأمر أمركم ، والسلطان لكم ، وإنما خرجنا في طاعة رجل منكم ، وقد هلك ، فإن رأيتم أن تأذنوا لنا فنطوف بالبيت وننصرف إلى بلادنا ، حتى يجتمعوا على رجل. فقال ابن الزبير : لا ، ولا كرامة ، فقال ابن صفوان : لم! بلى نفعل ذلك ، فدخلا على المسور فقال : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) الآية (٢) ، قد خرّبوا بيت الله ، وأخافوا عوّاده ، فأخفهم كما أخافوا عوّاده ، فتراجعوا ، وغلب المسور ومات من يومه.
قلت : وكان له خمسة أيام قد أصابه من حجر المنجنيق شقّه في خدّه فهشم خدّه.
وروى الواقدي ، عن جماعة ، أنّ ابن الزبير دعاهم إلى نفسه ، فبايعوه ، وأبى عليه ابن عباس وابن الحنفية وقالا : حتى تجتمع لك البلاد وما عندنا خلاف ، فكاشرهما ثم غلظ عليهما سنة ست وستين.
وقال غيره : لما بلغ ابن الزبير موت يزيد بايعوه بالخلافة ، لما خطبهم ودعاهم إلى نفسه ، وكان قبل ذلك إنما يدعو إلى الشورى ، فبايعوه في رجب. (٣)
__________________
(١) تاريخ خليفة ٢٥٤ ، ٢٥٥.
(٢) سورة آل عمران / ١١٤.
(٣) تاريخ خليفة ٢٥٧ و ٢٥٨.
ولما هلك يزيد بويع بعده ابنه معاوية بن يزيد ، فبقي في الخلافة أربعين يوما ، وقيل شهرين ، أو أكثر متمرّضا ، والضّحّاك بن قيس يصلّي بالناس ، فلما احتضر قيل له : ألا تستخلف؟ فأبى وقال : ما أصبت من حلاوتها ، فلم أتحمّل مرارتها! وكان لم يغيّر أحدا من عمّال أبيه (١).
وكان شابا صالحا ، أبيض جميلا وسيما ، عاش إحدى وعشرين سنة (٢). وصلّى عليه عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان (٣) ، فأرادت بنو أميّة عثمان هذا على الخلافة ، فامتنع ولحق بخاله عبد الله بن الزبير.
وقال حصين بن نمير لمروان بن الحكم عند موت معاوية : أقيموا أمركم قبل أن يدخل عليكم شامكم ، فتكون فتنة ، فكان رأي مروان أن يردّ إلى ابن الزبير فيبايعه ، فقدم عليه عبد الله بن زياد هاربا من العراق ، وكان عند ما بلغه موت يزيد خطب الناس ، ونعى إليهم يزيد وقال : اختاروا لأنفسكم أميرا ، فقالوا : نختارك حتى يستقيم أمر الناس ، فوضع الديون وبذل العطاء ، فخرج عليه سلمة الرياحيّ بناحية البصرة ، فدعا إلى ابن الزبير ، فمال الناس إليه.
وقال سعيد بن يزيد الأزدي : قال عبيد الله لأهل البصرة : اختاروا لأنفسكم ، قالوا : نختارك ، فبايعوه وقالوا : أخرج لنا إخواننا ، وكان قد ملأ السجون من الخوارج ، فقال : لا تفعلوا فإنّهم يفسدون عليكم ، فأبوا عليه ، فأخرجهم ، فجعلوا يبايعونه ، فما تتامّ آخرهم حتى أغلظوا له ، ثم خرجوا في ناحية بني تميم (٤).
وروى جرير بن حازم ، عن عمّه ، أنهم خرجوا ، فجعلوا يمسحون أيديهم بجدر باب الإمارة ، ويقولون : هذه بيعة ابن مرجانة ، واجترأ عليه
__________________
(١) تاريخ خليفة ٢٥٥.
(٢) تاريخ دمشق (الظاهرية) ١٦ / ٣٩٥ ب.
(٣) في البداية والنهاية ٨ / ٢٣٧ : صلى عليه أخوه خالد ، وقيل عثمان بن عنبسة ، وقيل الوليد بن عقبة وهو الصحيح ، فإنه أوصى إليه بذلك.
(٤) انظر تاريخ الطبري ٥ / ٥٠٥.
الناس حتى نهبوا خيله من مربطه.
وقال غيره : فهرب بالليل ، فاستجار بمسعود بن عمرو رئيس الأزد ، فأجاره.
ثم إنّ أهل البصرة بايعوا عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي ببّه (١) ، ورضوا به أميرا عليهم ، واجتمع الناس لتتمة البيعة ، فوثبت الحروريّة على مسعود بن عمرو ، فقتلوه ، وهرب الناس ، وتفاقم الشرّ ، وافترق الجيش فرقتين ، وكانوا نحوا من خمسين ألفا ، واقتتلوا ثلاثة أيام ، فكان على الخوارج نافع بن الأزرق.
وقال الزبير بن الخرّيت ، عن أبي لبيد ، إنّ مسعودا جهّز مع عبيد الله بن زياد مائة من الأزد ، فأقدموه الشام.
وروى ابن الخرّيت ، عن أبي لبيد ، عن الحارث بن قيس الجهضمي قال : قال ابن زياد : إني لأعرف سورا كان في قومك ، قال الحارث : فوقفت عليه فأردفته على بغلتي ، وذلك ليلا ، وأخذ على بني سليم فقال : من هؤلاء؟ قلت : بنو سليم ، قال : سلمنا إن شاء الله ، ثم مررنا على بني ناجية وهم جلوس معهم السلاح ، فقالوا : من ذا؟ قلت : الحارث بن قيس ، قالوا : امض راشدا ، فقال رجل : هذا والله ابن مرجانة خلفه ، فرماه بسهم ، فوضعه في كور عمامته ، فقال : يا أبا محمد من هؤلاء؟ قلت : الذين كنت تزعم أنهم من قريش ، هؤلاء بنو ناجية ، فقال : نجونا إن شاء الله ، ثم قال : إنك قد أحسنت وأجملت ، فهل تصنع ما أشير به عليك ، قد عرفت حال مسعود بن عمرو وشرفه وسنّه ، وطاعة قومه له ، فهل لك أن تذهب بي إليه ، فأكون في داره ، فهي أوسط الأزد دارا ، فإنك إن لم تفعل تصدع عليك قومك؟ قلت : نعم ، فانطلقت به ، فأشعر مسعود وهو جالس يوقد له بقصب على لبنة ، وهو يعالج أحد خفّيه بخلعه ، فعرفنا فقال : إنه قد كان يتعوّذ من طوارق السوء ، فقلت له : أفتخرجه بعد ما دخل عليك بيتك! فأمره ، فدخل عليه بيت ابنه
__________________
(١) بتشديد الموحدة ، كما في (نزهة الألباب في الألقاب لابن حجر العسقلاني).
عبد الغافر ، وركب معي في جماعة من قومه ، وطاف في الأزد فقال : إنّ ابن زياد قد فقد ، وإنّا لا نأمن أن نلطخ به ، فأصبحت الأزد في السلاح ، وأصبح الناس قد فقدوا ابن زياد فقالوا : أين توجّه ، ما هو إلا في الأزد؟
قال خليفة (١) : قال أبو اليقظان : فسار مسعود وأصحابه يريدون دار الإمارة ، ودخلوا المسجد ، وقتلوا قصّارا كان في ناحية المسجد ، ونهبوا دار امرأة ، وبعث الأحنف حين علم بذلك إلى بني تميم ، فجاءوا ، ودخلت الأساورة المسجد فرموا بالنشّاب ، فيقال : فقئوا عين أربعين نفسا. وجاء رجل من بني تميم إلى مسعود فقتله ، وهرب مالك بن مسمع ، فلجأ إلى بني عديّ ، وانهزم الناس.
وقال الزبير بن الخرّيت ، عن أبي لبيد : إن عبد الله قدم الشام ، وقد بايع أهلها عبد الله بن الزبير ، ما خلا أهل الجابية ومن كان من بني أميّة ، فبايع هو ومروان وبنو أميّة خالد بن يزيد بن معاوية ، بعد موت أخيه معاوية ، في نصف ذي القعدة ، ثم ساروا فالتقوا هم والضّحّاك بن قيس الفهري بمرج راهط ، فاقتتلوا أياما في ذي الحجّة ، وكان الضّحّاك في ستين ألفا ، وكان مروان في ثلاثة عشر ألفا ، فأقاموا عشرين يوما يلتقون في كل يوم. فقال عبيد الله بن زياد لمروان : إنّ الضّحّاك في فرسان قيس ، ولن تنال منهم ما تريد إلا بمكيدة ، فسلهم الموادعة ، وأعدّ الخيل ، فإذا كفّوا عن القتال فادهمهم ، قال : فمشت بينهم السفراء حتى كفّ الضّحّاك عن القتال ، فشدّ عليهم مروان في الخيل ، فنهضوا للقتال من غير تعبئة ، فقتل الضّحّاك ، وقتل معه طائفة من فرسان قيس (٢). وسنورد من أخباره في اسمه.
وقال أبو عبيدة : لما مات يزيد انتقض أهل الريّ ، فوجّه إليهم عامر بن مسعود أمير الكوفة محمد بن عمير بن عطارد الدارميّ. وكان أصبهبذ (٣) الريّ
__________________
(١) تاريخ خليفة ٢٥٨.
(٢) تاريخ خليفة ٢٥٩ ، ٢٦٠.
(٣) الأصبهبذ : اسم يطلق على كل من يتولّى بلاد طبرستان (انظر معجم البلدان ٤ / ١٤ و ١٥) وهو أمير الأمراء ، وتفسيره حافظ الجيش لأن الجيش «إصبه» و «بذ» حافظ. وهذه ثالثة =
يومئذ الفرخان (١) ، فانهزم الفرخان والمشركون.
* * *
(وفيها) ظهرت الخوارج الذين بمصر ، ودعوا إلى عبد الله بن الزبير ، وكانوا يظنّونه على مذهبهم ، ولحق به خلق من مصر إلى الحجاز ، فبعث ابن الزبير على مصر : عبد الرحمن بن جحدم الفهري (٢) ، فوثبوا على سعيد الأزدي فاعتزلهم.
وأما الكوفيون ، فإنّهم بعد هروب ابن زياد اصطلحوا على عامر بن مسعود الجمحيّ ، فأقرّه ابن الزبير (٣)
* * *
(وفيها) هدم ابن الزبير الكعبة لما احترقت ، وبناها على قواعد إبراهيم الخليل ، صلّى الله عليه وعلى نبيّنا ـ الحديث المشهور ـ ، وهو في البخاري ، ومتنه أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يا عائشة ، لو لا أنّ قومك حديثو عهد بكفر لنقضت الكعبة ، ولأدخلت الحجر في البيت ، ولجعلت لها بابين ، بابا يدخل الناس منه ، وبابا يخرجون منه ، وقال : «إنّ قريشا قصّرت بهم النفقة ، فتركوا من أساس إبراهيم الحجر ، واقتصروا على هذا» ، وقال : «إنّ قومك عملوا لها بابا عاليا ، ليدخلوا من أرادوا ، أو يمنعوا من أرادوا» (٤)
فبناه ابن الزبير كبيرا ، وألصق بابه بالأرض ، فلما قتل ابن الزبير وولّي الحجّاج على مكة أعاد البيت على ما كان في زمن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، ونقض حائطه
__________________
= المراتب العظيمة عند الفرس. (التنبيه والإشراف للمسعوديّ ٩١).
(١) في تاريخ خليفة ٢٦١ «البرجان».
(٢) تاريخ الطبري ٥ / ٥٣٠ و ٥٤٠.
(٣) تاريخ الطبري ٥ / ٥٢٤
(٤) أخرجه البخاري في العلم ١ / ١٩٨ ١ / ١٩٨ و ١٩٩ ، باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشدّ منه ، وفي الحج ، باب فضل مكة وبنيانها ، وفي الأنبياء ، باب قول الله تعالى (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) ، وفي تفسير سورة البقرة ، باب قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ) ، وفي التمنّي ، باب ما يجوز من اللّو. وأخرجه مسلم في الحجّ (١٣٣٣) باب نقض الكعبة وبنائها.
من جهة الحجر فصغّره ، وأخرج منه الحجر ، وأخذ ما فضل من الحجارة ، فدكّها في أرض البيت ، فعلا بابه ، وسدّ الباب الغربي (١).
__________________
(١) أخبار مكة ١ / ٢٠٦ و ٢٠٧ ، شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام (بتحقيقنا) ـ ج ١ / ٣٤٢ ، تاريخ خليفة ٢٦١ ، الطبري ٥ / ٥٨٢.