البلدان

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]

البلدان

المؤلف:

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]


المحقق: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٠

لم يبق في الدور بل في الأرض من حسن

إلّا وأصبح مجموعا بها ولها

فالحسن خارجها والحسن داخلها

والحسن يضحك أعلاها وأسفلها

لو كمّلت صورة من حسنها بشرا

لكمّلت وهي تمثال ممثلها

كأنها غادة أهدت لمالكها

عشقا فوشّحها حليا وكلّلها

حبا أعاليها من عسجد بدعا

صيغت وبالدرّ والمرجان فصّلها

ما يبصر المرء فيها بدعة بعدت

إلّا رأى حسرة أن لا يقتّلها

كأنّها درة بيضاء أبرزها

لا تعرف العين أخراها وأوّلها

كأنّها روضة زهراء ناضرة

جاد الحيا زهرها ليلا فأخضلها

كأنّها جنة الفردوس أنزلها

إليه ذو العرش إكراما لينزلها

لم يقض في مصر أن تبدو محاسنها

إلّا ليؤمنها من أن يزلزلها

في بقعة حرة كالمسك تربتها

فلم يكن لسوى حرّ ليجعلها

لقد حبا داره منه وخوّلها

فتى يرى الأرض نزرا أن يخوّلها

لم يبنها ويوسّع باب مدخلها

إلّا يقصدها الراجي ويدخلها

فلن يساويه حر بعد يعدله

حتى تساويها دار فتعدلها (١)

[١٠٤ أ] وقد () (٢) قوم البناء وذموه ورووا في ذلك أخبارا كثيرة أنا ذاكر بعضها إن شاء الله :

رووا أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : ما أنفق الرجل من نفقة ، إلّا كان خلفها على الله عزّ وجلّ ضامنا لذلك ، إلّا ما كان في بنيان أو معصية.

وقال عليه السلام : إذا أراد الله بعبد هونا ، أنفق ماله في البنيان.

__________________

(١) في المخطوطة : فلن تساويه حتى تعدله. وفي المختصر : فلن يساويه حر ليعدله. وكلاهما مضطرب. فاقترحنا كتابته على الشكل أعلاه.

(٢) كلمة مطموسة.

٤٤١

وقال عبد الله بن زحر : من كسب مالا حراما ، بعث الله عليه منتصرات من الأرض.

وقال مروان لأبي هريرة : اكتب لنا شيئا نذكرك به. فقال : تبنون ما لا تسكنون ، وتأملون ما لا تدركون ، وتجمعون ما لا تأكلون. قال : اكتب لنا غير هذا. قال : ما عندي غيره.

وقال الله عزّ وجلّ في ذم البناء (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ).

ودخل النبي (صلى الله عليه وسلم) المسجد فإذا هو بعبد الله بن رواحة وأبي الدرداء بمساحته. فقال : ما هذا؟ قال : أردنا أن نمسحه ثم نسأل في الأنصار فنبنيه مثل المسجد الذي بالشام. فقال عليه السلام : خشيبات وثمام وظلّة كظلة موسى ، والأمر أعجل من ذلك.

وقال إسحاق بن سويد : كانت المساجد بالقصب مدة ، ثم صارت بالرهص حينا ، ثم صارت باللبن زمنا ، ثم صارت بالآجر. فكان أصحاب القصب خير من أصحاب الرهص (١) ، وأصحاب الرهص خير أصحاب اللبن ، وأصحاب اللبن خير من أصحاب الآجر.

وقيل للمسيح : لو اتخذت بيتا جديدا. قال : يكفينا خلقان من كان قبلنا.

وقال حذيفة لسلمان : ألا تبني لك بيتا؟ فكأنه كره ذلك. فقال حذيفة : رويدا حتى أخبرك أنني أبني لك بيتا إذا اضطجعت فكان رأسك من هذا الجانب ورجلك من الجانب الآخر ، وإذا قمت أصاب رأسك سقفه. قال : كأنك كنت في نفسي.

ولما بنى معاوية الخضراء قال لأبي (٢) ذر : كيف ترى هذا البناء؟ قال : إن

__________________

(١) الرهص : الطين الذي يجعل بعضه على بعض فيبنى به (المعجم الوسيط).

(٢) في المخطوطة : لأبي هريرة. وفي المختصر : لأبي ذر. والأمر مناسب لأبي ذر لما عرف عنه

٤٤٢

كنت بنيته من مال الله ، فإنك من الخائنين. وإن كنت بنيته من مالك فإنك من المسرفين.

وكان الثوري يقول : ما أنفقت درهما قط في بناء.

وبلغ عمر أن رجلا من عمّاله يقال [١٠٤ ب] له هارون جصّص بيته. فكتب إليه : إلى هارون بن أم هارون وبيته المجصّص.

وبنى ابن مسعود [بيتا] ، فقال له عمّار : بنيت شديدا وتأمل بعيدا وتموت قريبا.

وبنى رجل بناء عاليا فقال له بعض الزهاد : نزلت حيث رحل الناس وأنشد :

أبعد عاد ترجّون الخلود وهل

يبقى على الدهر بيت اسّه المدر

إلى الفراق وإن طالت سلامتهم

يصير كل بني ام وإن كثروا

وبنى رجل دارا فقال للحسن البصري : كيف ترى هذا البناء؟ قال : أما أهل الأرض فغرّوك ، وأما أهل السماء فمقتوك.

وقال الحسن لرجل بنى بنيانا عاليا : عمدت إلى رزق الله فجعلته في رأس قصر جبار.

وقال المدائني : لما بنى عبيد الله بن زياد البيضاء بالبصرة أمر وكلاءه أن لا يمنعوا أحدا دخولها وأن يحفظوا كلاما إن تكلم به إنسان. فدخلها أعرابي ـ وكان فيها تصاوير ـ فتأمّلها ثم قال : لا ينتفع بها صاحبها ، ولا يلبث فيها إلّا قليلا. فأتي به ابن زياد وأخبر بمقالته. فقال له : لم قلت هذا؟ قال : لأني رأيت أسدا كالحا وكلبا نابحا وكبشا ناطحا. فكان الأمر على ما قال. لم يسكنها إلّا يسيرا حتى أخرجه أهل البصرة إلى الشام ولم يعد إليها.

وفي خبر آخر : أنه لما بنى البيضاء أمر أصحابه أن يسمعوا ما يقول الناس. فجاؤوه برجل فقيل له : إنه قرأ ـ وهو ينظر إليها ـ : «(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ

__________________

من شدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (انظر مثلا ابن الأثير ٣ : ١١٣ ـ ١١٥).

٤٤٣

وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ)». فقال : ما دعاك إلى هذا؟ قال : آية من كتاب عرضت لي. فقال : والله لأعملنّ بك بالآية الثالثة : (وَإِذا بَطَشْتُمْ ، بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ). ثم أمر فبني عليه ركن من أركان القصر.

وأنشد لبعضهم.

يا أيّها الباني بناء يفنى

هل أنت محتال فباني حصنا؟

من حدّث الدهر يكن محبّا

أم للخراب يا ضعيف يبنى؟

إن كنت لا تبقى فلم تعنّى

يكفيك بيت أن يكون كنّا

[١٠٥ أ]

أما ترى الدهر الذي قد أخنى

على بني آدم كيف أفنى؟

السلف الماضين قرنا قرنا

فلم يذر منهم أبا ولا ابنا

وقال بعض الشعراء وقد نظر إلى قصور آل طاهر بالشاذياخ وقد خربت (١) :

وكان الشاذياخ قصور ملك

فزال الملك عن ذاك المناخ

وكانت دورهم للهو وقفا

فصارت للنوائح والصراخ

فعين الشرق باكية عليكم

وعين الغرب تسعد بانتضاخ

كذاك يكون من صحب التراخي

فذاك الدهر يعقبه التراخي

وقال () (٢) في ذلك :

فإن يمس وحشا بابه فلربما

تزاحم أفواجا لديه الركائب

يحيّون بسّاما كأنّ جبينه

هلال بدا وأنجاب عنه السحائب

وما غائب من غاب يرجى إيابه

ولكنّ من قد ضمّه القبر غائب

__________________

(١) في المختصر (قال محمد بن حبيب الضبي في دور آل طاهر).

(٢) كلمة مطموسة.

٤٤٤

وقال آخر في ذلك (١) :

فتلك قصور الشاذياخ بلاقع

خراب يباب والميان مزارع

وأضحت خلاء شادمهر وأصبحت

معطلة في الأرض تلك المصانع

وغنّى مغنّي الدهر في آل طاهر

بما هو رأي العين في الناس رائع

عفا الملك من أولاد طاهر مثلما

عفا جشم من أهله فمتالع

وأيامهم كانت لديهم وودائعا

فأرهقهم دهر فردّ الودائع

وقال آخر في البرامكة :

أوحش النوبهار من بعد جعفر

ولقد كان بالبرامك يعمر

قل ليحيى أين الكهانة والسحر

وأين النجوم عن قتل جعفر

أنسيت المقدار أم زاغت الش

مس عن الوقت حين قمت تقدّر

كيف لم تسحر السيوف فلا

تعمل في جعفر كما كنت تسحر؟

إنّ يحيى بن خالد وبنيه

أصبحوا فكرة لمن يتفكّر

وقال آخر منهم :

مررت على ربع ليحيى بن خالد

وباطنه يشكو الخراب وظاهره

فكادت مغانيه تقول من البلى

لسائلها عن أهلها مات عامرة

وقال آخر :

مررت على دار لظمياء باللوى

ودار لليلى إنّهنّ قفار

فقلت لها يا دار غيّرك البلى

وعصران ليل مرة ونهار

فقالت نعم أفنى القرون التي مضت

وأنت ستفنى والشباب معار

لئن طلن أيام بحزوى لقد أتت

عليّ ليال بالعقيق قصار

__________________

(١) في المختصر ، جاءت هذه القصيدة بعد الخائية التي قال إنها لمحمد بن حبيب الضبي ، ثم قال عن هذه أنها له أيضا.

٤٤٥

[١٠٥ ب] ومر بعض الكتاب بالدسكرة فرأى ما فيها من البنيان والمصانع والقصور وخان الآجر وحبس كسرى والمدينة فقال (١) :

يا من يأمّ إلى بغداد مجتهدا

أرح مطيّك بين الحبس والحان

بين القناطر والدساكر والقرى

فمحلّ كسراها أنوشروان

تنبيك آثار الملوك بأنّهم

كانوا ذوي بأس ذوي سلطان

ولقد عجبت وفي الزمان عجائب

ما عاينت عيناي في الإيوان

إيوان كسرى شاهق شرفاته

عالي الذرى مستوثق الحيطان

ما أن به إلّا الصدى وحمائم

مخضرة تدعو على الأغصان

بعد النواعم والأوانس بدّلت

هاما وعقبانا مع الغربان

وتبدّلت بعد الأنيس فما ترى

إلّا العزيف بها من الجنّان

وقال يحيى بن معاذ : اصرف طرفك في القصور المشيدة والحصون الممردة الأركان ، الشاهقة الجدران ، وانظر إلى الأبواب المترفة العجيبة البنيان. كيف قد نظمت بكيد المحتالين وإنفاق المشرقين ومهارة الشابزين (٢). عريضة القواعد ، محكمة الوسائد ، منيفة الذرى ، صعبة المرتقى. للطير في جوانبها وكور ، وللقطر في معالمها ندوب. قد أنافت على الأبنية () (٣) وتطاولت على الهضاب بارتفاعها. وأحكمها عاملوها وجردوا فكرهم فيها وبذنوا ذخائرهم فيها وأزاحوا علل مشيديها ، وبلغوا أقصى الأمل منها. وجعلوها عدة للدهر وحصنا للزمن. فلا ينالهم فيها عناء. ولا ظفر محاول. فيها العيون الجارية والقباب العالية والحجر السامية. والخرد النواعم والأبكار الفواتن يجررن في عرصاتها الذيول ، يسطع منهن ذكي المسك ويعبق العنبر. ترى باطن حيطانها كالو (٤) ذابلة تبرق بماء

__________________

(١) انفرد المختصر بذكره هذه القصيدة.

(٢) كذا في الأصل.

(٣) كلمة مطموسة.

(٤) كذا في الأصل.

٤٤٦

الطراة. قد مثل فيها التصاوير من الطير والسباع والبهائم والبسنا (١) المرسلات الشعور الفاتنات الثغور. إذا تأملها الناظر توهمها تنطق بألسنة الابتهاج. فكانت لهم مساكن مدة من الدهر ، يكلفون بعمارتها ، ويفنون في فنون نعمتها ، ويرتعون في صحون عرصتها. حتى إذا قصدتهم العزم بانتزاع (٢) ما في أيديهم من عوارف النعم ، وصبحتهم المثل بخواطف التكبر. فأسلمتهم إلى مدة الفناء ونزعتهم من البقاء. فعادت القصور خلاء لا أنيس فيها ولا ديّار بها. قد أخذ الخراب في أطرافها. واستحالت إلى تحير القصد محارتها. وتنكرت له الأيام مترجمة عما تؤول إليه عواقب أمرها. فللرياح فيها هتيف ، وللجن بها عزيف. تصفقها هوج الأعاصير ، وتنبت في أغراضها أسهم الدمار. يوقد رمتها عين البلى. وتناولتها يد الفناء. يحار الطرف في حجراتها ، وتعجب الأفكار من عرضاتها. لا أنيس فيها ولا أحد يخبر عنها ، ولا عالم ينبيك عن أهلها ، ولا يحدثك عن سكانها. يرتاع قلبك إذا دخلتها ، وتخفق جوانحك متى تأملتها ويسترهن اعتبارك [١٠٦ أ] نقوش طيقانها وأصباغ حيطانها بعد ما كانت قرة عين الناظرين ، عادت عبرة للمتأملين. وكذلك فعل الله عزّ وجلّ بالعباد وآثاره في البلاد.

قال : وكان السبب في بناء قصر شيرين ـ وهو أحد عجائب الدنيا ـ أن أبرويز أمر أن يبنى له باغ (٣) فرسخين في فرسخين. وأن يحصل فيه من كل صيد حتى يتناسل جميعه. ووكل بذلك ألف رجل ، وأجرى على كل رجل من كل يوم خمسة أرغفة [من الخبز](٤) ورطلين لحما ودورق خمر. فأقاموا في عمله وما أمر أن يجعل فيه من الصيد سبع سنين حتى فرغوا من جميع ذلك. فلما تمّ واستحكم صاروا إلى الفلهبد المغني وسألوه أن يخبر الملك بفراغهم مما أمرهم به. فقال : افعل. ثم عمل صوتا وغناه به بين يدي الملك ، وسماه باغ نخجيران أي باغ

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) في الأصل : انتزاع.

(٣) باغ : هو البستان في الفارسية.

(٤) تكملة من ياقوت (قصر شيرين).

٤٤٧

الصيد. فطرب الملك عليه وأمر للصناع بمال فجعلوه للفهلبد. فلما سكر أبرويز قال لشيرين : سليني حاجة. قالت : حاجتي أن تصيّر في هذا الباغ نهرين من حجارة تجري فيهما الخمر (١) ، وتبني لي بينهما قصرا لم يبن في مملكتك مثله. فأجابها إلى ذلك. وكان السكر قد عمل فيه ، فأنسى ما سألته ولم تجسر على أن تذكّره. فقالت للفهلبد : ذكره حاجتي وإليك عليّ أن أهب لك ضيعتي بأصبهان. فأجابها إلى ذلك وعمل صوتا أذكره فيه ما وعد شيرين وغناه إياه. فقال : أذكرتني ما كنت قد أنسيته. وأمر ببناء النهرين والقصر. فبني ذلك. ووفت شيرين للفهلبد بضمانها. فنقل عياله إلى هناك. فلذلك صار من ينتمي إليه بأصبهان.

قال بعض أهل الأدب : قرأت على قصر خراب في المفاوز هذه الأبيات

يا باني القصر كم أنفقت من مال

على بنائك والبنا بالي (؟)

أطمعت نفسك في سكناه مجتهدا

فصار منك وممن يقتني خالي

وعاد بعدك قصرا لا أنيس به

لم يبق منه سوى رسم وأطلال

هذا دليل على توحيد خالقنا

أرضا (؟) (٢) وينقل من حال إلى حال

[١٠٦ ب] قال : وقرئ على حائط شيرين (٣).

يا ذا الذي غرّه الدنيا وبهجتها

وحسن زهرة أنوار البساتين

والدور تخربها طورا وتعمرها

باللبن والجصّ والآجرّ والطين

والمال تكنزه حرصا وتمنعه

عن الحقوق التي فيها لمسكين

أما رأيت صروف الدهر ما صنعت

بالقصر قصر أبرويز وشيرين

أما نظرت إلى إحكام صنعته

كأنه قطعة من طور سينين

قد صار قفرا خلاء ما به أحد

إلّا النعام مع الوحشية العين

__________________

(١) في المختصر : الخمر واللبن.

(٢) كذا في الأصل.

(٣) انفرد المختصر بهذه القصيدة.

٤٤٨

من بعد ما كان أبرويز أشحنها

بالدارعين وكتّاب الدواوين

وكلّ ليث شجاع باسل بطل

كمثل خرّيتها أو مثل شروين

وكلّ رعبوبة بيضاء بهكنة

تحكي بنغمتها صوت الوراشين

وبالعجائب من ألوان زهرتها

من بين ورد وخيريّ ونسرين

لم يبق من رسمها إلّا تلؤلؤها

أو ربع دار عفت من طور عبدين

سبحان من خلق الدنيا ودبّرها

وأنشأ الخلق من ماء ومن طين

ومرّ معاوية بوادي القرى فتلا هذه الآية (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) ثم قال : نزلت هذه الآية في أهل هذه البلدة وهي بلاد عاد ، فأين العيون؟ فجاءنا رجل وقال : صدق الله في قوله. أتحب أن أستخرج العيون؟ قال نعم. فاستخرج ثمانين عينا. وعرف معاوية ذلك فقال : الله أصدق من معاوية.

وقال محمد بن عيينة المهلبي : البئر التي بالماوية هي بئر عاد ، لا يقل ماؤها ولو وردها سائر أهل الأرض. وإياها عني أبو النجم العجلي بقوله :

من نحت عاد في الزمان الأوليّ

وذكر الكلبي قال : بينا قوم من كلب يعرفون ببني عمد الله بن كنانه على ما لهم وقد نحروا جزورا ومعهم زهير بن جناب الكلبي ، إذ أقبل رجل من بقايا عاد يقال له عبيد بن مسهر وكان أعظم الناس جسما حتى وقف عليهم فهالهم لمّا نظروا إليه. فقالوا : دونك الركاء فشرب جميعه. ثم وقع نائما. فأقام في نومه سبعة أيام ، وهرب القوم فزعا وقد ثبت زهير ، فلما استيقظ قال : أين قومك؟ قلت : هربوا من رهبتك. فقال : أما لينفعنك ذلك. قم اركب معي. فركب معه فدلّه على مياه كانت لعاد مندفنة ، ولم يكن أحد يعرفها غيره. منها الدمقانة (١) وأثرى ونكب ورج والحالة وغير ذلك. ثم قال عبيد لزهير : أخبرني عن ريحكم. قال : زفزف تسقط

__________________

(١) في ياقوت الدمعانة.

٤٤٩

الورق. قال فأخبرني عن مطركم. قال : يزيل العود ويقلب الحجر. قال : بحسب ريحكم يكون مطركم.

قال : والعرب تزعم أن بني زهير بن جناب أقوم العرب مياها. وهي التي أوقف إياهم عليها عبيد بن مسهر العادي.

ولبني غاضرة مياه تعرف بلينة يقال إنها ثلاثمائة عين. ويزعم أهل السير أن سليمان بن داود عليهما السلام ، خرج من بيت المقدس يريد الشام فلما صار إلى هذا الموضع الذي يقال له لينة ـ وهي أرض خشنة ـ عطش الناس ، ولحق أهل العسكر أمر عظيم من ذلك. ووجه سليمان [١٠٧ أ] عليه السلام جماعة يطلبون الماء ، ونزل في ذلك الموضع لعطش الناس. قال : فبينا هو كذلك إذ نظر إلى شيطان يضحك ويستغرب في الضحك ، فغاط سليمان وأمر بقتله. فقال : لم تقتلني يا نبي الله؟ قال : لضحكك والناس مشرفون على الموت. فقال : إنما أضحك لعطشهم وهم على لجة بحر. قال سليمان : وكيف ذلك؟ قال : مرهم أن يحفروا. فإن الماء على ذراع. فأمرهم بذلك ، فحفروا وأنبطوا الماء. وكان رجل قد حفر حفيرة لنفسه. فلما طال على ذلك الدهر ، يدفن عامتها وبقي نميرها ما ذكرنا. وفيها يقول مضرس الأسدي.

لمن الديار غشيتها بالإثمد

فصفاء لينة كالحمام اللّبّد

ويقال : إنه لم يمت قوم عطشا إلّا على ماء.

ومات قوم من العطش الشجى في أيام الحجاج ـ والشجيّ منزل من منازل طريق مكة من ناحية البصرة ـ فاتصل خبرهم بالحجاج فقال : إني أظنهم دعوا الله حين بلغ بهم الجهد ، فاحفروا في مكانهم الذي كانوا فيه ، فلعل الله أن يسقي الناس. فقال رجل من جلسائه : قد قال الشاعر :

تراءت له بين اللوى وعنيزة

وبين الشجى مما أحال على الوادي

ما تراءت له إلّا على ماء. فأمر الحجاج عبيدة السلمي أن يحفر بالشجى بئرا. فحفر فأنبط ماء لا ينزح.

٤٥٠

وكانت الفلاسفة تقول : أفضل مستنبط المياه ما كان محاطا بشعاب الأودية. وأمثل منازل السفر ما اتخذ على مجامع الطرق. وأمثل الغيث ما أمرع.

وقال بعض العرب : إن الله عزّ وجلّ أخفى ماء بإرم والبديعة ونعمان وعنلان لعباده المؤمنين. وهذه المياه كلها.

وقال المنصور يوما لجلسائه ـ وقد تذاكروا البرّ والبحر ـ : عدوّا أربعة عشر مرحلة من أي موضع شئتم ، فإنكم لا تبلغون آخر العدد حتى تصلوا إلى البحر ، إن شئتم شرقا وإن شئتم غربا.

وقال السدي : الجبل الذي تطلع الشمس من ورائه ، ارتفاعه في السماء ثمانون (١) فرسخا.

وقال [١٠٧ ب] المروزي (٢) : قرأت على المأمون جواب أرسطاطاليس أستاذ الإسكندر إلى الإسكندر فيما أعلمه من فتحه البلدان وجمعه الأموال التي يتعذر عليه حملها ، وعجبه من بيت ذهب ظهر له بالهند. فأجابه : إني رأيتك تعجب من عمل عملته أيدي الآدميين ، وتترك التعجب من هذا السقف الرفيع الذي هو فوقك وتزيين من زيّنه بالكواكب ونصبه على الحكمة البالغة. فأما البلدان التي افتتحتها ، فليكن ملكك إياها بالتودد إلى أهلها. ولا تملكها عليهم بالقهر والبغضاء. فإن طاعة المودة أحمد بدءا وعاقبة من طاعة القهر والاستكراه. وأما الأموال ، فليكن حملك إياها في جلد ثور. ففهم عنه الإسكندر ما رمز به إليه في هذه اللقطة ودفن في كل بلد شيئا من الأموال ، وأثبت مواضع الكنوز في جلد ثور مدبوغ وحمله إلى الروم. فهو إلى اليوم باق في خزانة الملك. فربما أمر بإخراجه وانتساخ مواضع منه ، وأنفذ قوما من أصحابه وكتبها لهم فاستخرجوها. وأكثر ذلك في الجبال والمواضع التي يخفى أمرها.

__________________

(١) في الأصل : ثمانين.

(٢) يوجد اثنان باسم (أبي يحيى المروزي) أحدهما طبيب مشهور بمدينة السلام والآخر طبيب وعالم بالهندسة (ابن النديم ٣٢٢).

٤٥١

واجتاز رجل من بني تميم برجل منهم وهو يغرس فسيلا. وكان الغارس شيخا. فقال له : كم أتى عليك من السنين أيها الشيخ؟ قال : قد جاوزت السبعين (١). قال : فمثلك يعمل ما أرى؟ فأنشأ الشيخ يقول

اغرس فسيلا ونم عنه فسوف ترى

يوما فسيلك إن عمّرت عيدانا

فالعرق يسري إذا ما نام صاحبه

وليس يسري إذا ما كان يقظانا

نغرس يا أخا تميم ما ترى. فإن عشنا أكلنا من تمره. وإن متنا خلفناه الأولاد. قال : إنك لبعيد الأمل. قال : اي والله. إني لبعيد الأمل ، خائف لقرب الأجل. ولست ممن يفرط في عمران دار لا يدري لعله سيطول مقامه فيها. ومنها يتزود إلى الدار التي لا يدري متى يصير إليها. ولو أنّ من كان قبلنا أخذوا بمثل رأيك ما خلف الوالد لولده شيئا ولا ورث ميتا حيّ.

قال التميمي : فانصرفت عنه وغبرت برهة من الدهر ثم مررت بذلك المكان. فرأيت نخلا عاليا مثمرا وآخر دونه. وإذا فتيان وأحداث ، فقعدت إليهم وقلت [١٠٨ أ] : من غرس هذا النخل؟ قالوا : ذلك الشيخ. فأتيته فسلمت عليه ثم قلت : أتعرفني؟ فتأملني ثم قال : أحسبك صاحبنا المعنّف لنا على غرس ما ترى. قلت : أنا والله هو وأنشدته بيته. فعانقني وأقبل يحدثني وقال : إن الله فاعل ما يشاء. فلا يكونن خوفك ماحقا لرجائك ولا بأسك غالبا لطمعك. وإذا الفتيان بنوه وبنو بنيه. فأقمت في ضيافته أياما وانصرفت.

وقال بعضهم : قرأت على باب قصر خراب (٢) :

كم قد توارث هذا القصر من ملك

فمات والوارث الباقي على أثر

قال : وقرأت على باب مدينة خراب :

كم من مدائن بالآفاق خالية

أمست خرابا وذاق الموت بانيها

__________________

(١) في المختصر : الستين.

(٢) المختصر : على قصر بالعقيق.

٤٥٢

وقال بعضهم : مررت في ربض أبي يزيد الشروي وقد خرب. وإذا على باب (١) قصره مكتوب :

أفنى جميعهم وخرّب دورهم

ملك تفرّد بالبقاء عزيز

وقرئ على باب قصر :

نزل الموت منزلا سلب القوم وارتحل

وقال صالح المري : دخلت قصرا بالبصرة وقد باد أهله فرأيت في بعض مجالسه مكتوبا (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً). وإذا في الجانب الآخر (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ). وفي الجانب الآخر (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) وفي الرابع (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا).

وقرئ على حائط بيعة بالحيرة : بنيت هذه البيعة والملك عمرو بن المنذر بن الشقيقة ، على يدي عمرو بن حيان. فالإله يغفر له خطيئته ويقبل نقلته إلى دار الحق. وأسفل من ذلك مكتوب :

رأينا () (٢) بالإنسان جمّا

ولا تنجي من الدهر الحدود

ولا تنجي من الآجال أرض

تحلّ بها ولا قصر مشيد

وحدثنا بعض إخواننا أنه قرأ على باب قصر أشناس بسرمرّى :

هذي منازل أقوام عهدتهم

في ظلّ عيش خصيب ماله خطر

دارت عليهم صروف الدهر فانتقلوا

إلى القبور فلا عين ولا أثر

وقرئ على حائط قصر عاديّ : [١٠٨ ب]

يموت الذي يبني ويبقى بناؤه

ألست ترى بالله في ذاك عبرة

__________________

(١) المختصر : على باب مسجد.

(٢) كلمة مطموسة.

٤٥٣

فيا غافلا عن حينه أين من بنى

مدائن أضحت بعده اليوم مقفرة

رمت بهم الأيام في عرصة البلى

كأن لم يكونوا زينة الأرض مرة

وما زال هذا الموت يغشى ديارهم

يكرّ عليهم كرّة بعد كرّة

فأجلاهم عنها سريعا فأصبحت

مساكنهم في الأرض لحدا وحفرة

وقرئ على باب قصر :

ما حال من قد عمل القصورا

وبات فيها آمنا مسرورا

ثم غدا في رمسه مقبورا

يقيم فيه أبدا مأسورا

حتى يرى من قبره محشورا

إمّا قرير العين أو مثبورا

وعلى آخر :

يا من يشيّد للخراب بناءه

شيّد بناءك في الثرى وتحصّن

وذكر رجل من الصوفية أنه قرأ على باب قصر في بعض السواحل مكتوبا :

كم كان يعمر هذا القصر من ملك

سهل المحيّا كريم الخيم والنسب

دارت عليه المنايا في تقلّبها

فصار مأواه بعد العزّ في الترب

قال : ودخلت قصرا فرأيت قصرا حسنا كثير المجالس. فبينا أنا أدوره إذ دخلت مجلسا ما رأيت أحسن منه وفيه قبر عليه مكتوب :

ولمّا بنيت القصر أمّلت نفعه

وإنّي فيه باقيا آخر الدهر

فلما استوى والتام بوّأت كارها

من القصر في بيت هناك وفي قبر

كذلك كان الدهر يفعل قبلنا

ولكن تجاهلنا وحدنا عن الأمر

قال : ورأيت في مجلس آخر مكتوبا :

جار الزمان علينا بعد غبطتنا

فلم يغادر لنا في القصر إنسانا

وصار مأوىّ لوحش الأرض تسكنه

أفناه ريب زمان ثم أفنانا

٤٥٤

ولو لم يفدك هذا الكتاب من الأخبار العجيبة والأشعار الظريفة والأمور الغريبة ، لكان فيما يفيدك من أخبار البلدان وعجائب الكور والأمصار بلاغا ومقنعا. فكيف وقد أفادك [١٠٩ أ] علم الماضين وأخبار الأولين. وذلك علم المعنيين. ووقفك على الطريقين وأرشدك إلى الأمرين جميعا : حكمة بالغة وموعظة موجزة. تعرفت منه أخبار الماضين ، وأبنية من قد سلف من الأولين. وفي هذا الخبر الذي أثبته هاهنا عبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر ، ودليل على وحدانية الله تعالى ، ومخبر عن آياته وقدرته. فصفّ ذهنك وفرّغ قلبك وأقبل عليه بسمعك وتفكّر فيه ، وفيما تضمنته من الأعجوبة. فإن فيه عبرة لأولي الألباب.

قال عبد الرحمن بن محمد بن نصر : سمعت أحمد بن الحسن يذكر عن علي بن عاصم عن أبيه قال : كان الخضر عليه السلام يأتي شابا زاهدا من بني إسرائيل فيحدثه كما يأتي الرجل أخاه وصديقه. وكان الشاب خيّرا فاضلا. فبلغ ذلك ملك بني إسرائيل ، فأرسل إلى الشام فدعاه وقال : بلغني أن الخضر يأتيك فيحدثك كما يحدث الرجل أخاه. قال الفتى : نعم. قال : فإذا جاء فائتني به. قال : كيف آتيك به أيها الملك؟ قال : والله لتأتيني به أو لأقتلنّك. قال : أجهد. ثم انصرف الفتى.

فلما كان بعد أيام ، أتاه الخضر عليه السلام فقال له : إن ملك بني إسرائيل قال لي كذا وكذا. قال الخضر : انطلق بنا إليه. فانطلقا حتى دخلا عليه. فوقف الخضر فقال له الملك : أنت الخضر؟ قال : نعم. فأعظمه وبجله ثم قال له : حدثني بأعجب ما رأيت في الدنيا. فقال : أعجب ما رأيت ، أني مررت بمدينتك هذه ، وهي مدينة لم أر على وجه الأرض مثلها حسنا وجمالا وكثرة أهل وأسواق وعمارة ، فدنوت من بعض البوابين فقلت : متى بنيت هذه المدينة ومن الذي بناها؟ فقال لي : ما يذكر أحد من الناس متى بنيت ولا من بناها. فتركته ومضيت. وعبرت عنها خمسمائة عام. ثم اجتزت بها فإذا هي تلول وخرابات ولم أر أحدا أسأله عنها. فعلوت بعض تلك التلول ، فإذا أنا براع يرعى غنما فنزلت إليه وسألته عن المدينة ومتى خربت. فقال : ما نعلم أنه كانت هاهنا مدينة قط ، ولا نعرف غير

٤٥٥

هذه التلول والخرابات ، ولا يدرى أي شيء أمرها. فتركته ومضيت. وعبرت خمسمائة عام ، ثم مررت بها [١٠٩ ب] فإذا موضعها بحر وقد زالت تلك التلول والخرابات فصارت كلها فيه. وإذا بجماعة يغوصون فيخرجون اللؤلؤ من قراره. فدنوت من بعضهم وقلت : مذ كم صار هذا البحر هاهنا؟ فضحك ثم قال : سبحان الله. ما زال هذا البحر وهذا المكان منذ كانت الدنيا. فمضيت وغبت خمسمائة عام ثم اجتزت بالموضع فإذا ذاك البحر قد غاض ماؤه وفي مكانه غيضه ملتفة بالقصب والبردي وبين ذلك القصب والبردي مناقع ماء فيها سمك كثير وصيادون يصيدون ذلك السمك في زواريق صغار. فقلت لبعضهم : أكان هاهنا بحر؟ قال : لا. ما كان هاهنا إلّا هذه الآجام وهذه المياه لا غير ذلك. فانصرفت. وعبرت خمسمائة عام ثم اجتزت بالمكان فإذا رمال متصلة بينها حمى. وإذا [هي] أكثر بلاد الله ظباء. فالتمست أن أرى إنسانا ، فلم أر إلّا رجلا يصيد تلك الظباء بحبالة له. فدنوت منه وسألته عن تلك الآجام ، فقال : والله ما نعرف ولا آباؤنا وأجدادنا هذا البلد إلّا على ما تراه ، وما كانت فيه أجمة ولا شجر ومستنقع قط. فانصرفت متعجبا. وعبرت خمسمائة عام ثم اجتزت به فإذا هو جبل وعر وفيه كهوف يخرج منه الدخان. فلم أر أحدا أسأله عنها إلى أن رأيت رجلا متعسفا فقصدته وسألته عن تلك الرمال فقال : ما نعرف الموضع إلّا على ما ترى. فتركته ومضيت. وغبت خمسمائة عام ثم عدت فإذا مدينتك هذه في تلك المواضع. وإذا هي أحسن ما يراه الناس من قصورها ودورها وحدائقها وأسواقها. فدنوت من بعض البوابين وسألته عنها ومذ كم بنيت فقال : يا هذا! ما نعرف هذه المدينة إلّا كما تراها ، ولا حدّثنا أحد من أولينا أنه يعرف ما فيها. فهذا أعجب شيء رأيته فيما أطوفه من البلدان وأخترقه من المفاوز والقفار.

فوثب الملك عن سريره فسجد للخضر. فقال له : ارفع رأسك واسجد للذي خلقني وخلقك. فقال : أريد أن أصحبك وأخلي ما أنا فيه من الملك. فقال : لا تقدر على ذلك. لأني اليوم هاهنا وغدا ببيت المقدس وبعد غد بمكة. ولكن إن أردت العبادة فاصحب هذا الفتى وكن معه.

٤٥٦

قال : فترك [١١٠ أ] الملك مملكته وخرج هو والشاب يسيحان في الأرض.

وأنشد لبعضهم [في] الزمان :

ولربّ حصن قد تخرّم أهله

ريب الزمان فبابه مسدود

عدت المنون عليهم من فوقهم

والقوم فيه آمنون هجود

فتفرقت أجيادهم وجنودهم

عنهم فكلّهم هناك شديد

لم يدفعوا عنهم وإنّ سلاحهم

متيسّر بفنائهم موجود

من نسج داود النبيّ أعدّها

للحرب يوم أعدّها داود

لو أنهم سئلوا القتال لقاتلوا

ولنيل منهم فيهم المجهود

فابتزّهم ريب المنون نفوسهم

قسرا وإنّ حماتهم لشهود

حلّوا بطون الأرض بعد ظهورها

ومضى بهم سفر هناك بعيد

صارت نساؤهم حلائل غيرهم

خلفت عليهم سفلة وعبيد

فأسمع وأبصر أين عاد أصبحت

أخلت منازلها وأين ثمود

أين الذين بنوا فأصبح ما بنوا

فيه الأفرور أو شيد (١)

وقال خالد بن عمير بن الخباب السلمي : كنا مع مسلمة بن عبد الملك في غزوة قسطنطينية فخرج إلينا في بعض الأيام رجل من الروم يدعو إلى المبارزة فخرجت إليه فلم أر فارسا كان مثله. تجاولنا عامة يومنا فلم يظفر واحد منّا بصاحبه. ثم تداعينا إلى المصارعة ، فصارعت منه أشدّ الناس. فصرعني وجلس على صدري ليذبحني ـ وكان رسن دابته مشدودا في عاتقه ـ وانه ليعالجني للذبح إذ حاصت دابته حيصة جرّته عني ووقع من على صدري وبادرت إليه وجلست على صدره فنفست به عن القتل ، وأخذته أسيرا وجئت به إلى مسلمة فساءله فلم يجبه بحرف وكان أجسم الرجال وأعظمهم. فأراد أن يبعث إلى هشام وهو يومئذ [١١٠ ب] بحرّان. فقلت : دلّني الوفادة به. قال : إنك لأحق الناس بذلك. فبعث

__________________

(١) عجز البيت مضطرب.

٤٥٧

به معي ، فأقبلت أكلمه وهو لا يكلمني حتى انتهينا إلى موضع من ديار مضر يعرف بالجريش وتل محرى فقال لي : ما يقال لهذا المكان؟ قلت : الجريش وتل محرى. فقال :

ثوى بين الجريش وتل محرى

فوارس من نمارة غير ميل

فلا جزعون إن ضرّاء نابت

ولا فرحون بالخير القليل

فإذا هو أفصح الناس. ثم سكت فكلّمناه وهو لا يجيبنا. فلما صرنا إلى الرها قال : دعوني أصلي في بيعتها. قلنا دونك فصلي. فلما صرنا إلى حران قال : أما إنها أول مدينة بنيت بعد بابل. ثم قال : دعوني أستحمّ في حمامها وأطلي. فتركناه. فخرج إلينا كأنه برطيل فضة بياضا وعظما. فأدخلته إلى هشام وأخبرته جميع قصته. فقال له من أنت؟ قال : رجل من إياد ثم أحد بني حذافة. فقال له : أراك غريبا ، لك جمال وفصاحة فأسلم تحقن دمك. قال : إن لي ببلاد الروم أولادا. فقال : ونفك أولادك ونحسن عطاءك. قال : ما كنت لأرجع عن ديني. فأقبل به وأدبر فأبي. فقال دونك فاضرب عنقه. فضربت عنقه.

٤٥٨

القول في همذان

قال أبو المنذر هشام بن السائب الكلبي : سميت همذان بهمذان بن الفلوج بن سام بن نوح عليه السلام. وهمذان وإصبهان أخوان ، بنى أحدهما إصبهان والآخر همذان. فسميت كل مدينة منهما باسم بانيها. وسميت نهاوند لأنهم وجدوها كما هي. ويقال إنها من بناء نوح عليه السلام. وإنما هي نوح أوند. أي أنها من بناء نوح وهي أعتق مدينة بالجبل.

قال : وقرأ عليّ بعض النصارى كتابا بالسريانية فيه أخبار الملوك والبلدان ، فترجمه لي وذكر أن الذي بنى همذان ملك يقال له كرميس بن حليمون. وذكر بعض الفرس أن اسم همذان مقلوب. إنما هو ناذمه ومعناه المحبوبة.

وروي عن شعبة قال : الجبال عسكر وهمذان معمعتها وهي أعذبها ماء وأطيبها هواء.

وقال ربيعة بن [١١١ أ] عثمان : كان فتح همذان في جمادى الأولى على رأس ستة أشهر من مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان الذي فتحها المغيرة بن شعبة في سنة أربع وعشرين من الهجرة.

وفي خبر آخر قال : وجه المغيرة بن شعبة (١) ـ وهو عامل عمر بن الخطاب على الكوفة بعد عزل عمار بن ياسر عنها ـ جرير بن عبد الله البجلي إلى همذان في سنة ثلاث وعشرين ، فقاتله أهلها وأصيبت عينه بسهم فذهبت. فقال احتسبها عند الله الذي زين بها وجهي ونوّر لي ما شاء ثم سلبنيها في سبيله.

__________________

(١) من هنا إلى قوله (في آخر سنة ثلاث وعشرين) في فتوح البلدان ٣٠٦.

٤٥٩

وجرى أمر همذان على مثل صلح نهاوند وذلك في آخر سنة ثلاث وعشرين.

وقال بعض علماء الفرس : كانت همذان أكبر مدينة بالجبل وكانت أربعة فراسخ في مثلها. وكان طولها من الجبل إلى قرية يقال لها زينوآباد. وكان صنف الفاخرانيين بها وصنف الصيارفة بسيجاباد (١).

وكان القصر الخراب الذي بسيجاباد تكون فيه الخزائن والأموال. وكان صنف البزازين بقرية يقال لها بريشقان (٢). فيقال إن بخت نصر لما غلب على الأرض وأخرب بيت المقدس ، بعث إليها قائدا يقال له صقلاب في خمسمائة ألف رجل. فأناخ عليها وأقام يحارب أهلها مدة وهو لا يقدر عليها. فلما أعيته الحيلة فيها وعزم على الانصراف استشار أصحابه. فقالوا له : الرأي أن تكتب إلى بخت نصر تعلمه أمرك وتستأذنه في الانصراف. فكتب إليه : أمّا بعد ، فإني وردت على مدينة حصينة كثيرة الأهل منيعة واسعة الأنهار ملتفة الأشجار كثيرة المقاتلة. وقد رمت فتحها فلم أقدر عليها. وقد ضجر أصحابي المقام وضاقت عليهم الميرة والعلوفة. فإن أذن لي الملك بالانصراف ، انصرف.

فلما ورد الكتاب على بخت نصر كتب إليه : أما بعد ، فقد فهمت كتابك وقد رأيت أن تصوّر لي المدينة بجبالها وعيونها وطرقها وقراها ومنبع مياهها وتنفذ إليّ ذلك حتى يأتيك أمري.

ففعل صقلاب ما أمر به. وصور له المدينة وأنفذ الصورة إليه وهو ببابل. فلما وقف عليها جمع الحكماء وقال : أجيلوا الرأي في هذه الصورة وانظروا من أين تفتح هذه المدينة. فأجمعوا على أن تسدّ عيونها [١١١ ب] حولا ثم يفتح السد ويرسل على المدينة فإنها تغرق. فكتب بخت نصر إلى صقلاب بذلك وأمره بما قاله الحكماء. ففعل ذلك. فلما كان عند الحول فتح الماء وأرسله على المدينة فهدم سورها وغرق أكثرها ودخلها صقلاب ، فقتل المقاتلة وسبى الذرية وأقام بها

__________________

(١) في ياقوت : سنجاباد ، وفيه أيضا سبجاباد.

(٢) في ياقوت : برشيقان ٤ : ٩٨١.

٤٦٠