البلدان

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]

البلدان

المؤلف:

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]


المحقق: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٠

وإنّكما على مرّ اللّيالي

لأبقى من فروع ابني شمام

وأنشد أبو دلف فيهما لنفسه :

ما صورتان بتدمر قد راعتا

أهل الحجى وجماعة العشاق

غبرا على طول الزمان ومرّه

لم يسأما من ألفة وعناق

فليرمينّ الدّهر من نكباته

شخصيهما منه بسهم فراق

وليبلينّهما الزمان بكرّه

وتعاقب الإظلام والإشراق

كي يعلم العلماء ألّا دائما

غير الإله الواحد الخلّاق

وأنشد أبو الحسن العجليّ فيهما :

إنّ اللّتين صيغتا بتدمر

وكّلتا قلبي بوجد مضمر

صوّرتا في أحسن التصوّر

لم يرهبا كرّ صروف الأعصر

وتدمر صلحيّة صالح أهلها خالد بن الوليد.

والسواحل من حمص الستّة : كورة اللاذقيّة ، وكورة جبلة ، وكورة بلنياس ، وكورة أنطرطوس ، وكورة مرقيّة ، وكاسرة ، والسّقي ، وحبنة ، والحولة ، وعملوا ، ورندك ، وقبراثا. وإذا عبرت الفرات جئت إلى خشاف وناعورة ، ثم إلى حلب وقنّسرين وكورها ، وخراج قنّسرين أربعة آلاف دينار.

وقال مشايخ أنطاكية : كانت ثغور المسلمين أيّام عمر وعثمان أنطاكية والكور التي سمّاها الرشيد العواصم وهي : كورة قورس ، والجومة ، ومنبج ، وأنطاكية وتوزين ، وبالس ، ورصافة هشام ، فكان المسلمون يغزون ما وراءها كغزوهم الروم ، وكانت فيما بين الإسكندريّة وطرسوس حصون ومسالح للروم.

وقالوا : حمص من بناء اليونانيّين ، وزيتون فلسطين من غرسهم ، ومدينة حمص افتتحها خالد بن الوليد صالحهم على مائة وسبعين ألف دينار ، وكانت مدينة حمص مفروشة بالصخر ، وهي اليوم كذلك.

ومن عجائب حمص : صورة على باب المسجد الجامع بجنب البيعة على

١٦١

حجر أبيض ، أعلى الصورة. صورة إنسان ، وأسفلها صورة عقرب ، فإذا لدغ العقرب إنسانا فأخذ طينا ، ووضعه على تلك الصورة ، ثم أدافه بالماء وشربه سكن وجعه وبرئ من ساعته ، ويقال : إن تلك الصورة طلسم للعقرب خاصّة ، وكان فتح حمص قبل دمشق في أوّل ليلة من رجب سنة أربع عشرة.

وبدمشق لبنان وهو الجبل الذي يكون عليه العبّاد والأبدال ، وعليه من كلّ الثمر والفواكه ، وفيه عيون كثيرة عذبة ، وهو متّصل ببلاد الروم ، وعند باب دمشق جيرون ، وهي من بناء سليمان بن داود ، وهي سقيفة مستطيلة على عمد ، وحولها مدينة تطيف بجيرون ، قال أبو عبيدة : الجيرون عمود عليه صومعة ، وهو من البناء المذكور ، ومن البناء المذكور الأبلق الفرد والورد أيضا ، قصر بناه سليمان بن داود.

قالوا : وأول من ابتنى حصن المصّيصة في الإسلام عبد الملك بن مروان على يد ابنه عبد الله ، ثم بنى عمر بن عبد العزيز بها مسجدا من ناحية كفربيّا ، واتّخذ فيها صهريجا وكان اسمه عليه مكتوبا ، ثم إن المسجد خرب في خلافة المعتصم ، وهو يدعى مسجد الحصن ، وشحنوها بالرجال ، وبنى المنصور فيها مسجدا جامعا في موضع هيكل كان بها ، وجعله مثل مسجد عمر ثلاث مرّات ، ثم زاد فيه المأمون أيّام ولاية عبد الله بن طاهر المغرب ، وفرض فيها المنصور لألف رجل ، وزاد فيها المهديّ ألفي رجل ، ولم يعطهم شيئا لأنها قد كانت شحنت بالجند والمطّوعة.

وقال أبو النعمان الأنطاكي : كان الطريق فيما بين أنطاكية والمصّيصة مسبعة ، يعرض للناس فيها الأسد ، فلمّا كان أيّام الوليد بن عبد الملك شكي ذلك إليه ، فوجّه أربعة آلاف جاموس وجاموسة فنفع الله جلّ وعزّ بها.

قال الواقديّ : ولمّا غزا الحسن بن قحطبة الطائيّ بلاد الروم سنة ١٦٣ في أهل خراسان والموصل والشام ومطوّعة العراق والحجاز خرج ممّا يلي طرسوس ، فأخبر المهديّ ما في بنائها وتحصينها وشحنتها بالمقاتلة من عظيم الغناء عن الإسلام والكبت للعدوّ ، وكان خرج في مرج طرسوس ، فركب إلى مدينتها ، وهي

١٦٢

يومئذ خراب ، فنظر إليها وأطاف بها من جميع جهاتها ، وحرز عدّة من يسكنها فوجدهم مائتي ألف ، فلمّا كان سنة ١٧١ بلغ الرشيد أن الروم قد ائتمروا بينهم للخروج إلى طرسوس لتحصينها وترتيب المقاتلة بها. فأغزى الصائفة هرثمة بن أعين ، وأمر بعمارة طرسوس وبنائها وتمصيرها ، ففعل فأجرى أمرها على يدي فرج بن سليم الخادم ، فبنى قصبتها ومسجدها ، ومسح ما بين النهر إلى النهر ، فبلغ ذلك أربعة آلاف خطّة ، كلّ خطّة عشرون ذراعا في مثلها ، وأقطع أهل طرسوس الخطط في شهر ربيع الآخر سنة ١٧٣ ، ولمّا كانت سنة ١٨٠ أمر الرشيد ببناء مدينة عين زربة وتحصينها (١) ، وحوّل إليها خلقا من الخراسانيّة وأقطعهم المنازل ، وفي سنة ١٨٣ أمر ببناء الهارونيّة ، فبنيت وشحنت بالمقاتلة ، ونسبت إليه ، وأمر الرشيد ببناء مدينة الكنيسة السوداء وتحصينها ، وأمر المنصور صالح بن عليّ ببناء ملطية وكانت خرابا ، وكان الحسن بن قحطبة أتمّها بأمر المنصور وأعان الفعلة بنفسه وماله ، وكان الحسن يقول : من سبق إلى شرفة فله كذا ، فجدّ الناس في العمل حتى فرغوا من بناء ملطية ومسجدها في ستّة أشهر ، وهم يومئذ سبعون ألفا وبني بها للجند الذين أسكنوها ، لكلّ عرّافة بيتان سفليّان وعليّتان ، والعرّافة عشرة نفر إلى خمسة عشر رجلا ، وبنى لهم مسلحة على ثلاثين ميلا منها ، ومسلحة على نهر يدعى قباقب يدفع في الفرات ، وأسكنها أربعة آلاف مقاتل من أهل الجزيرة ، وزاد كلّ واحد منهم عشرة دنانير ، وأقطع الجند المزارع ، وبنى حصن قلوذية ، وأرض التيه بموضع يقال له حصن منصور أربعون فرسخا.

وقال الحجّاج بن يوسف لزادان فرّوخ : أخبرني عن العرب والأمصار. فقال : أصلح الله الأمير ، أنا بالعجم أبصر مني بالعرب. قال : لتخبرني. قال : فسل عمّا بدا لك. قال : أخبرني عن أهل الكوفة. قال : نزلوا بحضرة أهل السواد فأخذوا من ضيافتهم وسماحتهم. قال : فأهل البصرة. قال : نزلوا بحضرة الخوز. فأخذوا من مكرهم وبخلهم. قال : فأهل الحجاز. قال : نزلوا بحضرة السودان.

__________________

(١) في معجم البلدان ٣ : ٧٦١ (قال ابن الفقيه : كان تجديد زربي وعمارتها على يد أبي سليمان التركي الخادم في حدود سنة ١٩٠ وكان قد ولي الثغور من قبل الرشيد).

١٦٣

فأخذوا من ضيافتهم وسماحتهم. قال : فأهل البصرة. قال : نزلوا بحضرة الخوز. فأخذوا من مكرهم وبخلهم. قال : فأهل الحجاز. قال : نزلوا بحضرة السودان فأخذوا من حمقة عقولهم وطربهم ، فغضب الحجّاج فقال له : أعزّك الله لست حجازيّا ، إنما أنت رجل من أهل الشام. قال : فأخبرني عن أهل الشام. قال : نزلوا بحضرة الروم فأخذوا من ترفّقهم وصناعتهم وشجاعتهم.

ويقال : ريف الدنيا من السمك ما بين ماهيرويان إلى عمان ، وريف الدنيا من التمر ما بين اليمن إلى البصرة وهجر ، وريف الدنيا من الزيتون فلسطين إلى قنّسرين.

وقال المدائنيّ : قدم وفد من العراق على معاوية بن أبي سفيان فيهم صعصعة بن صوحان العبديّ ، فقال معاوية : مرحبا بكم وأهلا ، قدمتم خير مقدم ، وقدمتم على خير خليفة ، وهو جنّة لكم ، وقدمتم الأرض المقدّسة ، وقدمتم أرض المحشر والمنشر ، وقدمتم أرضا بها قبور الأنبياء. فقال صعصعة : أما قولك يا معاوية قدمتم خير مقدم فذاك من قدم على الله والله عنه راض ، وأما قولك قدمتم على خليفتكم وهو جنّة لكم فكيف بالجنّة إذا احترقت ، وأما قولك قدمتم الأرض المقدّسة ، فإن الأرض لا تقدّس أهلها لكن أهلها يقدّسونها ، وأما قولك قدمتم أرض الحشر والمنشر فإن بعد الأرض لا ينفع كافرا ولا يضرّ مؤمنا ، وأما قولك قدمتم أرض الأنبياء بها قبور الأنبياء فإن من مات بها من الفراعنة أكثر ممّن مات فيها من الأنبياء. فقال معاوية : اسكت لا أرض لك. قال : ولا لك يا معاوية ، الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين. قال معاوية : يا صعصعة إني كنت لأبغض أن أراك خطيبا. قال : وأنا والله يا معاوية أبغض أن أراك أميرا.

قالوا : ودومة الجندل شاميّة ، وهي فصل ما بين العراق والشام ، وهي على سبع مراحل من دمشق.

قال : ولمّا فتح أنوشروان قنّسرين ومنبج وحلب وأنطاكية وحمص ودمشق وإيلياء استحسن أنطاكية وبناءها ، فلمّا انصرف إلى العراق بنى مدينة على مثال أنطاكية بأسواقها وشوارعها ودورها وسمّاها زندخسره ، وهي التي تسمّيها العرب

١٦٤

روميّة ، وأمر أن يدخل إليها سبي أنطاكية فلمّا دخلوها لم ينكروا من منازلهم شيئا ، فانطلق كلّ رجل منهم إلى منزلة إلّا رجلا اسكافا ، كان على بابه بأنطاكية شجرة فرصاد ، فلم يرها على بابه بروميّة ، فتحيّر ساعة ، ثم اقتحم الدار فوجدها مثل داره ، فلمّا رأى ملك الروم ما قد فتحه كسرى من مدائنه وادعه ووجّه كسرى رجلا من مرازبته إلى أرض الروم يقبض الأتاوة.

وقال عمرو بن بحر : ربّ بلد يستحيل فيه العطر ، وتذهب رائحته كقصبة الأهواز(١).

وقد كان هارون الرشيد همّ بالمقام بأنطاكية وكره أهلها ذلك ، فقال شيخ منهم وصدقة : ليست من بلادك يا أمير المؤمنين ، قال : وكيف؟ قال : لأن الطيب الفاخر يتغيّر فيها حتى لا ينتفع منه بكبير شيء ، والسلاح يصدأ فيها ولو كان من قلعة الهند.

وقالوا : سيحان بأذنة ، وجيحان بالمصّيصة ، والبردان ويسمّى الغضبان بطرسوس ، وجيحون نهر بلخ.

وقال ابن شوذب : تغور المياه قبل يوم القيامة إلّا بئر زمزم ونهر الأردنّ وهو الذي قال الله عزّ وجلّ : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ).

وكور الأردنّ : طبريّة ، والسامرة ، وبيسان ، وفحل ، وكورة جرش ، وعكّا ، وكورة قدس ، وكورة صور. وخراج الأردنّ ثلاثمائة ألف وخمسون ألف دينار ، من الطبريّة إلى اللّجّون عشرون ميلا ، ثم إلى القلنسوة عشرون ميلا ، ثم إلى الرملة مدينة فلسطين أربعة وعشرون ميلا وهي على الجادّة فحاجّ الشام والثغور ينزلونها (٢).

ومدينة اللجّون : فيها صخرة عظيمة مدوّرة خارج المدينة ، وعلى الصخرة قبّة زعموا أنها مسجد إبراهيم (عليه السلام) يخرج من تحت الصخرة ماء كثير ،

__________________

(١) كلام الجاحظ هذا في الحيوان ٣ : ١٤٣.

(٢) من قوله (وكور الأردن) إلى هنا لدى ابن خرداذبه ص ٧٨.

١٦٥

وذكروا أن إبراهيم ضرب بعصاه هذه الصخرة فخرج منها من الماء ما يتّسع فيه أهل المدينة ورساتيقهم إلى يومنا هذا.

قالوا : ولنا الزيت والزيتون الذي ليس في شيء من البلدان أكثر منه في بلادنا ، وقال الله عزّ وجلّ : (مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) ومن أبنيتهم العجيبة لدّ ، وحدّثني رجل قال : قلت لأهل لدّ هذا بنته الشياطين لسليمان ، قال : أنتم إذا جلّ في صدوركم البنيان أضفتموه إلى الجنّ والشياطين ، هذا قبل مولد سليمان (عليه السلام) بدهور كثيرة.

وعلى سبعة أميال من منبج حمّة. عليها قبّة تسمّى المدير ، وعلى شفير الحمّة صورة رجل من حجر أسود ، تزعم النساء أن كلّ من لا تلد تحكّ فرجها بأنف الصورة فيولد لها ، وفيها حمّام يقال له حمّام الصّوابي فيه صورة رجل حجر يخرج ماء الحمّام من إحليله.

قالوا : ومن عجائبنا تفّاح لبنان ، وفيه أعجوبة وذلك أنه يحمل التفّاح من لبنان ، وهو تفّاح جبل عذى لا طعم له ولا رائحة ، فإذا توسّط نهر البليخ فاحت رائحته ، وهذا شبيه بالذريرة التي بنهاوند ، فإن بها قصبا يتّخذ منه الذريرة ، فليست له رائحة بتّة حتى يجاز بها ثنيّة الرّكاب ، وهي من نهاوند على فراسخ كثيرة ، فإذا جازت الثنيّة فاحت رائحته وحمل منها إلى البلدان ، وبشيراز شجرة تفّاح ، التفّاحة منها نصفها حلو في غاية الحلاوة ، ونصف حامض في غاية الحموضة ، وليس بفارس كلّها من هذا النوع إلّا هذه الشجرة الواحدة.

قالوا : من عجائب الشام أربعة أشياء : بحيرة الطبريّة ، والبحيرة المنتنة ، وأحجار بعلبك ، ومنارة الإسكندريّة.

فأما أحجار بعلبكّ فإن فيها حجرا على خمسة عشر ذراعا أقلّ وأكثر ارتفاعه في السماء عشرة أذرع في عرض خمسة عشر ذراعا في طول خمسة وأربعين ذراعا هذا حجر واحد في حائط.

١٦٦

وأما منارة الإسكندريّة فإنه يصعد إليها رجل على برذون حتى يبلغ أعلاها ، وهي مبنيّة على سرطان من زجاج.

وأما بحيرة الطبريّة فإنه يشرع إليها وينتفع بها للغسالات ، فإذا منع منها هذا أنتنت.

والبحيرة المنتنة لا يغرق فيها شيء ، وكلّ شيء يقع فيها فإنما يطفو على رأس الماء.

ومن عيوب الشام كثرة طواعينها ، والناس يقولون : حمّى خيبر وطواعين الشام ودماميل الجزيرة وجرب الزنج وطحال البحرين.

قالوا : ومن أقام بالموصل حولا وجد في قوّته فضلا ، ومن أطال الصوم بالمصّيصة خيف عليه الجنون ، ومن قدم من شقّ العراق إلى بلاد الزنج لم يزل حزينا ما أقام بها ، فإن أكثر من شرب نبيذها وشرب ماء النارجيل صار كالمعتوه (١).

وقال أبو هريرة : أنا لبراغيث الشام أخوف مني لغيرها.

وقالوا في قول الله عزّ وجلّ : (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) قال : من فلسطين.

افتخار الشاميّين على البصريّين وفضل الحبلة على النّخلة

قال أبو عبّاد محمّد بن سلمة البصريّ المعروف بابن العلّاف القارئ : إني لفي يوم من أيّام المعتزّ بالله في ديوان الخراج بسرّمن رأى مع جماعة من قرّاء البصريّين نطالب بأرزاقنا ، وفينا عليّ بن أبي ناشر ، إذ طلع علينا فتية من كتّاب الأنبار ، ومعهم أبو حمران الشاعر ، ونحن نصف البصرة وما خصّت به من أرض الصدقة التي لا يسوغ للسلطان الأعظم تبديلها ، ولا للعمّال تغييرها ، وما فيها من المدّ والجزر والخلجان ومقادير الساعات ومنازل القمر ، فقال أبو حمران : ما من بلد إلّا وقد أعطي نوعاً من الفضل يتفرّد به ، وضربا من المرافق معدولا عن غيره ،

__________________

(١) من قوله (قالوا : ومن أقام ...) إلى هنا في حيوان الجاحظ ٤ : ١٣٥ ، ١٣٩.

١٦٧

يعجب به أهله ، ويطمئنّون إليه في تقريظه ، فقلت له مجيبا : لئن قلت ذلك فإنّا لا نعرف مصرا جاهليّا ولا إسلاميّا أفضل من البصرة ، ولا أرضا يجري عليها الأتاوة أشرف من أرض الصّدقة ، ولا شجرة هي أفضل من النخلة ، ولا نعرف بلدا أقرب برّأ من بحر ، وحضرا من بدو ، وريفا من فلاة ، وملّاحا من جمّال ، وقانص وحش من صائد سمك ، ونجدا من غور من البصرة ، فهي واسطة الأرض ، وغوصة البحر ، ومغيض الأقطار ، وقلب الدنيا ، ولقد مثّلت الحكماء الأرض بصورة طائر ، فجعلوا الجؤجؤ بما فيه من القلب البصرة ، والرأس الشام والروم ، والجناحين المشرق والمغرب ، والذنب السودان ، وهم أكثر عددا من البيضان ، فكفى بهذا وحده فخرا ، فقال أبو حمران :

كلّ فتاة بفتاها معجبه

والخنفسى في عين أمّه لؤلؤه

وقالت الأعرابيّة وهي تزفّن ابنا لها وتقول :

يا قوم ما لي لا أحبّ حشوده

وكلّ خنزير يحبّ ولده

فأين أنت يا أخا البصرة عن خصب الشام والجزيرة وعن فضل المسجد الأقصى والبلاد المقدّسة ، وعن عذاة داري مصر وربيعة ، وعن رفيع قدر الكرمة وعن قول عمرو بن كلثوم :

وعند الله يأتيه دعاها

إلى أرض يعيش بها الفقير

لأرض الشام وهي حمّى وحبّ

وزيتون وثمّ نشا العصير

ووالله للرقّة البيضاء وحدها أطيب من البصرة ، وللرافقة أغذى من الأبلّة ، ولحلب أخصب من الكوفة ، وللخم وجذام وأفناء قبائل قضاعة أشرف من بكر وتميم وضبّة ، وللحبلة أفضل من النخلة ، وللعنب أحلى من الرطبة ، وللزبيبة أطيب من التمرة ، ولقد خصّ الله بلاد الشام من بركة الزيتون ، والعواصم والجزيرة من لذّة التين ومن أنواع الفواكه بما يتهالك في أصغره النخل ، ويستبشع معه الرطب والتمر ، قال : فقلت لأبي حمران : قد سمعنا نشيدك ووعينا افتخارك ، ولا

١٦٨

أحسبك سمعت قول الخليل بن أحمد في وصف البصرة إذ يقول في قصر أنس بن مالك ونهر بن عمرو وادي العقيق :

يا وادي القصر نعم القصر والوادي (١)

وقول ابن أبي عيينة في ذلك (٢) :

يا جنّة فاقت الجنان فما

تبلغها قيمة ولا ثمن

علقتها فاتّخذتها وطنا

إنّ فؤادي بذكرها وطن

زوّج حيتانها الضّباب بها

فانظر وفكّر يا صاح في سفن

وقوله أيضا في أرض البصرة :

يذكّرني الفردوس طورا فأرعوي

وطورا يواتيني إلى القصف والفتك

لغرس كأبكار الجواري وتربة

كأنّ ثراها ماء ورد على مسك

وسرب من الغزلان يرتعن حوله

كما انسلّ منظوم من الدّرّ من سلك

وورقاء تحكي الموصليّ إذا شدت

بتغريدها أحبب بها وبمن تحكي

فيا طيب ذاك القصر قصرا ونزهة

بأفيح رحب غير وعر ولا ضنك

وسأل هشام بن عبد الملك خالد بن صفوان عن البصرة فقال : إذا أخبرك يا أمير المؤمنين ، يخرج قانصان فيجيء هذا بالطير والظليم ، وهذا بالسمك والشبّوط ، ونحن أكثر الناس ساجا وعاجا وخزّا وديباجا وبرذونا هملاجا ، وجارية مغناجا ، بيوتنا الذهب ، ونهرنا العجب ، أوّله رطب وآخره عطب ، فالنحل في

__________________

(١) في حيوان الجاحظ ٦ : ٩٩.

زر وادي القصر نعم القصر والوادي

لا بد من زورة عن غير ميعاد

ترى به السفن كالظلمان واقفة

والضب والنون والملاح والحادي

(٢) هو محمد بن أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة من شعراء الدولة العباسية من ساكني البصرة. (الأغاني ٢٠ : ٧٥ ـ ١١٨) وتاريخ التراث العربي مج ٢ ج ٤ ص ٢٠٢. وبقية هذا الشعر في حيوان الجاحظ ٦ : ٩٩.

١٦٩

مكاربه كالزيتون عندكم في منابته ، ثم هو في أكمامه كذاك في أغصانه ، ثم هو في إبّانه كذاك في زمانه ، هنّ الراسخات في الوحل ، المطعمات في المحل ، الملقحات بالفحل ، يخرجن أسفاطا عظاما وأوساطا نظاما ، كأنّما ملئت رياطا ، ثم تفترّ عن قضبان اللّجين منظومة باللؤلؤ الأخضر ، ثم يصير ذهبا منظوما بالزبرجد الأخضر ، ثم يصير عسلا معلّقا في الهواء ، ليس في قربة ولا سقاء ، بعيدا من التراب كالشهد المذاب ، ثم يصير في أكيسة الرجال فيستعان به على العيال. وأما نهرنا العجب فإنه يقبل عند حاجتنا إليه ويدبر عند ريّنا منه ، وله عباب لا يحجبه ، ولا يغلق عنّا دونه حجاب.

فقال هشام : بلدكم أكرم بقاع الأرض يا أخا بني تميم ، فلمّا رأى أبو حمران إطراب النشيد في مدح بلدي قطع عليّ كلامي ، وعارضني دون مرادي فقال : والله إنّ لنا معكم بنخل بيسان ونواحي الأردنّ لأعظم الشرك في النخل ، فما نعبأ به ، ولا نراه طائلا فنذكره ، وما نصنع بطلب الحجّة من بعد ونحن نجدها من قرب هذا الحسن بن هانئ صاحبكم الذي لا تنكرونه ، وخرّيجكم الذي لا تدفعونه يقول في البصرة :

ألا كلّ بصريّ يرى أنّما العلى

مكمّمة سحق لهنّ جرين

فإن يغرسوا نخلا فإنّ غراسنا

ضراب وطعن في النّحور سخين

فإن أك بصريّا فإنّ مهاجري

دمشق ولكنّ الحديث شجون

لإزد عمان بالمهلّب ثروة

إذا افتخر الأقوام ثم تلين

وبكر ترى أنّ النّبوّة أنزلت

على مسمع في الرّحم وهو جنين

ولا لمت قيسا في قتيبة بعدها

وفخرا به إنّ الحديث فنون

وأنشد أبو حمران يصف نفسه لمّا اجتمعوا عليه في المناظرة وهو وحده :

حمول لما حمّلته غير ضيّق

ذراعا بما ضاق الكرام به مسكا

دعاني فأعطاني مودّة قلبه

مودّته المثلى وفي ماله الشركا

١٧٠

ثم أشار إلى ابن أبي ناشر فقال :

جندلتان اصطكّتا اصطكاكا

إنّ الذّليل يكره العراكا

وقد يضرط العير والمكواة في النار ، ثم قال أبو حمران : لنا الزيت والزيتون ، ولنا عروسا الدنيا غزّة وعسقلان ، ومدينة دمشق وهي إرم ذات العماد ، ولنا الأرض المقدّسة ، وفي بلادنا الجبل الذي كلّم الله عزّ وجلّ عليه موسى (عليه السلام) ، وجبل لبنان من جبالنا ، وبيت المقدس من بلادنا ، ولنا المدن العجيبة والكور الشريفة مثل : طرسوس والمصّيصة ، وملطية ، والرملة ، وفلسطين ، وأنطاكية ، وحلب ، وصور ، وصيدا ، وطبريّة ، والكرمة أفضل الأشجار والعنب سيّد الثمار ، وهي ناعمة الورق ، ناضرة الخضرة ، غريبة تقطيع الورقة ، بديعة الزوايا ، مليحة الحروف ، حسنة المقادير ، كأنما قوّرت من سرقة حرير ، واستخرجت من ثوب نسيج ، كثيفة الظلّ خفيفة الفيء ، لدنة الأغصان ، ليّنة الأفنان ، خضرة الأطراف ، كريمة الأخلاق ، سلسلة القياد ، رفيعة جوهر الأعواد ، لذيذة الجنى ، قريبة المجتنى ، صغيرة العجمة ، رقيقة الجلدة ، عذبة المذاق ، سهلة المزدرد ، كثيرة الماء ، فاضلة المخبر على المنظر ، شريفة العنصر والجوهر ، وكلام كثير لم يستدرك ، ثم لا يألف الغربان الناعقات الكرم كإلفها النخل ، ولا يعشّش في جوانبها العصافير المؤذية بصيلانة أصواتها عند غناء النّغران وورق العيدان كتعشيشها في الأدقال وأصول الكرانيف والأكراب ، ولا يتولّد منها من ضخام الدود وسمجة الحشرات والهوامّ ما يتولّد من الليف ، ولا يستكنّ في أثنائه من الذرّ والفراش ، ولا يتحصّن فيها من الحيّات والعقارب وعظام العناكب وذوات السموم القاتلة ما يتحصّن في رؤوس النخل ، فهذا على هذا والنخل تخلف وتحيل ، ولم نر كرمه حالت ولا أخلفت ، واسم الكرم مشتقّ من الكرم والكرامة والإكرام والتكرّم ، وقد قدّم الله جلّ وعزّ ذكره في كتابه على سائر الأشياء فقال جلّ وعزّ : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) فقدّم ذكر الكرم وجعل النخل نداء للزرع ، ولله أن يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وقال جلّ وعزّ : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ

١٧١

وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) فجعل الكرم أصلا للجنّتين والنخل من الزوائد ، وقال : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ) وقال : (أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) فالجنّات حدائق الكرم وقال : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً) فجعل النخل في ترتيب من الخلق والكرم في مكانه من التقدّم وقال : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ) فهل يعرش من الشجر شيء غير الكرم والجنّة المؤنقة مقصور عليه ، والمعروشة المرفوعة العيدان على الخشب والقصب وهي في الفراديس. واحدها فردوس ، والحصرم أرفع من البلح ، والوكاب أطيب من البسر ، والعنب ألذّ من الرّطب ، والعجد أقلّ غوائل من التمر ، والخمر أنفع من النبيذ ، وخلّ الخمر أثقف وأحسن من خلّ الدقل ، والطلاء فوق الدّوشاب ، والحبلة سيّدة النخلة ، لأن الحبلة خير ونفع كلّها ، والنخلة شرّ وعرّ وكذلك قال بعض المحدثين :

النّخل عبد وهذا الكرم سيّده

ومن يقايس بين التّمر والعنب

وذكر أبو إسحاق أنه رأى بمدينة صنعاء عنبا يقال له المختّم ، فوزن منه حبّة فوجدها أكثر من أربعة أساتير ، والأستار أربعة دراهم ، وحمل بعض عمّال الرشيد باليمن إليه في بعض ما حجّ عنقودين في محملين على بعير ، وقد يحمّل من جبال أرمينية وآذربيجان أخونة عظيمة جدّا يكون دور بعضها عشرين شبرا من خشب الكرمة. قالوا : وأطيب العنب الجرشيّ ، وهو دقيق وله عناقيد تكون ذراعا ، ومنه عيون البقر وهو عنب أسود عظام الحبّ ، ومنه السّكّر عنب صادق الحلاوة ، ومنه أطراف العذارى عنب أسود كأنه بلّوط عنقوده نحو الذراع ، ومنه الضّروع عنب أبيض كبار الحبّ قليل الماء عظيم العناقيد ، ومنه الكلافيّ منسوب إلى كلاف بلد في شقّ اليمن ، ومنه الدّواليّ عنب أسود غير حالك ، وهل نحن وإن أطنبنا في ذكر العنب ، وأسهبنا في نعت منافعه ومناقبه فمعطوه ما له ، أو بالغون به استحقاقه ، وموفّوه ما هو له من الخصال المحمودة والخلال المرضيّة ، ومن طيب الطعم وشدّة الحلاوة ، وكثرة الماء ، وعموم النفع ووفور الجسم ، وصغر العجم ، وكثرة

١٧٢

الأجناس والضروب والأنواع ، ولو أن رجلا خرج من بيته مسافرا في عنفوان شبيبته ، وحداثة سنّه ، واستقرى البلدان صقعا فصقعا ، يتتّبع الكروم مصرا فمصرا. حتى يهرم ، وصغيرا حتى يبدن لتعرّف أجناسه وإحاطة العلم بأنواعه ، بل إقليما واحدا من الأقاليم ، وناحية من أقطار الأرض ، لأعوزه وغلبه وعزّه وبهره ، إذ كان كثرة فنونه واختلاف أنواعه لا يدرك كالسرنابا (١) ، والخمريّ بطسّوج قطربّل ، والملاحيّ ببغداذ ، والصّقلبيّ والأحمر بسرّمن رأى ، والزّراويّ بالكوفة ، والحلاوي والبيروزيّ والجرشيّ بالبصرة وأنهارها ، والسّمّاقيّ بالأهواز ، وعيون البقر بالشام ، والمورّقيّ بالبليخ ونهر سعيد ، والمختّم بالريّ ، والفارسيّ والزّرجون والأسفيذمشك ، والسياوشك والناشقينيّ والبازجنك ، والخرجج بقزوين ، والوفرباي والماني ، والماسبذيّ بناحية الجبل ، وأهل الطبّ مجمعون على أن العنب أكثر غذاء ، وأنقى كيموسا من جميع الفواكه والثمار ، وأن الإكثار منه غير ضارّ كضرر التين والخوخ وسائر الفواكه الرطبة ، وأنه حارّ رطب على طبع الحياة ، قليل الفضول مولّد للدم الصحيح النقيّ ، وأنه ملاوم بجميع الطبائع ، نافع لجميع الأسنان في كلّ البلدان ، والأبيض أقلّ حرارة من الأسود ، ولخمريّ قطربّل خاصّيّة في الرائحة عجيبة.

وقال الثقفيّ : أطيب الطعام عنب قطيف أصابه الخريف بوادي ثقيف. وقال خالد بن صفوان : من فاته الرازقيّ في إدباره فحقّ لأهله أن يبكوا عليه.

وقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) : كلوا الزبيب فإنه يأكل البلغم ، ويطفئ المرّة ويذهب بالنصب ، ويشدّ العصب ، ويحسن الخلق.

وقالوا : أنفع الأشربة شراب الكرم فإنها أفضل الأشربة ، كما أن ثمرتها رأس الثمار ، وشجرتها رئيس الأشجار ، وإنها دواء لا داء فيه ، وخير لا شرّ معه ، وأن من أصحّ الدلائل على ذلك وأوضح البرهانات له وصف ربّ العالمين لها باللّذّة ،

__________________

(١) الصواب : سونايا وهي قرية ببغداد بقيت في موضعها بعد إنشاء بغداد وصارت تعرف بالعتيقة وإليها ينسب العنب الأسود الذي يبكر على سائر العنب مجناه (ياقوت ٣ : ١٩٧ ، ٦١٣).

١٧٣

وإجماع محلّليها ومحرّميها على تقديمها في الطيب ، وتفرّدها بطيب النكهة ، وصفاء اللون ، وسلس المذاقة ، وسهولة المجرى ، ولذاذة الطعم ، وحسن اللون ، وذكاء العرف ، وحمرة البشرة ، وصحّة الجوهر ، وطول البقاء على الدهر ، وتوليد الفرح والسرور ، ونفي الهمّ والغمّ ، وعلى أنها تغذو فلا تؤذي ، وتنفع ولا تضرّ ، وأنها أنفع المشروبات المفرّقة والمركّبة لجميع الأسنان في كلّ البلدان وفي كلّ فصل وزمان ، وأنها تشارك المسكرات في منافعها وتنافيها في رذائلها ، وأن من أفعالها التي هي لها دون غيرها تنظيف الأبدان ورحض الأبدان ، وتوفير المخاخ وتنقية الأمشاج ، وتصفية النطفة ، وغسل المفاصل الربيسة من الأمشاج القذرة والكيموسات المتّسخة ، وأنها تفتح السّدد المنعقدة ، وتذيب الفضول الزائدة ، وتولد الدم الصحيح الذي هو الحياة ، وتسخن الدم الغليظ الجامد الفاسد الذي منه بدو الأدواء الفاحشة ، وتذكي النار الغريزيّة ، وتقوي الحرارة الطبيعيّة ، وتحسن اللون ، وتدفئ الكلى ، وتدرّ البول ، وتغسل المثانة ، وتقوي الكبد والمعدة ، وتهضم الطعام ، وتطرد الرياح ، وترقّق البلغم المالح واللّزج ، ثم الخمر مع ما قد وصف لها من الطيب والحسن وصار في حيّزها من ذكاء المشمّ وصحّة الجوهر فوق كبار المعجونات في دفع المضارّ وأرفع الإيارجات في تحليل أوصاب الدماغ والأعصاب ، وألطف من دهن الخروع في التمشّي في عمق المفاصل ، والوغول في العظام ، تجانس بنفعها العقاقير المختارة ، وتنوب عن السموم المحلّلة ، والضمادات المندّدة ، والأطلية المقوية ، وتجري مع الأدوية النافعة حيث جرت ، ولا بدّ للمعجونات الكبار منها إذا ركّبت ، فهي أفضل ما غيّر به الماء بعد شرب الأدوية المسهلة ، وعند العلاج في الحمية ، ولا تذاب الصموغ المتجسّدة ، وتماع ألبان النبات الداخلة في المعجونات الرفيعة ، نحو الشّليثا والترياق والتياذريطوس والهبطارعان (١) إلّا بها ، وبما كان من نوعها من العقيد أو نبيذ الزبيب وخلّ

__________________

(١) الاصطلاحات أعلاه هي : ايارجات : قال في برهان قاطع ١ : ١٩٢ (ايارة على زنة شرارة : مركب من مجموعة أودية مليّنة يركّب منها دواء مسهل. معربها : ايارجة.

أما الشليثا والترياق والتياذريطوس. فقد ورد في كتاب هداية المتعلمين ٢٥٦ علاج للسكتة ـ

١٧٤

الخمر ، فقالوا : آنس الله ببقائك الأيّام ، وعمر بك الآداب ، وأحيا بحياتك العلوم.

__________________

ـ البلغمية التي تنسد فيها التجاويف الدماغية بواسطة البلغم اللزج (ص ٢٥٥) وهو (الشليثا والترياق والمثروديطوس).

ولم نعثر على خبر للشليثا ، أما الترياق فهو دواء نافع من لدغ الهوام والسموم وهو البادزهر : ما يمنع ميكانيكيا امتصاص السم من المعدة والأمعاء (المصطلحات العلمية والفنية ص ٩٠) قال في برهان قاطع ٤٩٣ (يقال له بالعربي : حجر التيس).

مثروديطوس من المعاجين الطبية يستخدم لعلاج الصرع (تاريخ طب در إيران ٥٠٤). ولم نهتد لمعنى (الهبطارعان).

١٧٥

القول في الجزيرة

سئل الشعبيّ عن الجزيرة جزيرة العرب فقال : ما بين العذيب إلى حضرموت.

وقال الأصمعيّ : جزيرة العرب ما لم تظلّه فارس والروم.

وقال الرياشيّ : جزيرة العرب ما بين نجران إلى العذيب.

وقال أبو عبيدة : جزيرة العرب ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول ، وفي العرض ما بين رمل يبرين إلى السّماوة.

وقالوا : الجزيرة ما بين دجلة والفرات والموصل من الجزيرة وكذلك الرّقّة والرافقة.

وقال محمّد بن الحسن : بلاد العرب الذين لا تقبل منهم الجزية ، ولا يرضى منهم إلّا بالدخول في الإسلام أو السيف من العذيب إلى أبين عدن فذلك الجزيرة.

قال ابن الأعرابيّ : الجزيرة ما كان فوق بقّة ، وإنما سمّيت الجزيرة لأنها تقطع الفرات ودجلة وقد تقطع في البرّ.

وإنما سمّيت الموصل موصلا لأنها وصلت بين الجزيرة والشام ، والجزيرة من عمل سميساط إلى بلد ومن الموصل إلى الأردنّ ، ويقال سمّيت الموصل لأنها وصلت بين الفرات ودجلة.

ومدينة الموصل بناها محمّد بن مروان ، وراوند الموصل بناها راوند بن بيوراسف.

وولّى عمر بن الخطّاب عتبة بن فرقد السّلميّ الموصل سنة عشرين ، فقاتله

١٧٦

أهل الحصن فأخذ حصنها الشرقيّ عنوة ، وعبر دجلة فصالحه أهل الحصن الآخر على الجزية والأذن لمن أراد الجلاء في الجلاء ، ثم فتح المرج وقراه وأرض بانهدرا وداسن وجميع معاقل الأكراد ، وأوّل من اختطّ الموصل وأسكنها العرب ، ومصّرها هرثمة بن عرفجة البارقيّ ، وكان عمر عزل عتبة عن الموصل وولّاها هرثمة ، وكان بها الحصن وبيع النصارى ومنازلهم ومحلّة اليهود ، فمصّرها هرثمة ثم بنى المسجد الجامع ، ثم بنى بعدها الحديثة ، وكانت قرية قديمة فيها بيعتان ، فمصّرها ، وأسكنها قوما من العرب فسمّيت الحديثة ، لأنها بعد الموصل ، وافتتح عتبة بن فرقد الطيرهان وتكريت ، وآمن أهل حصن تكريت على أنفسهم وأموالهم ، وسار في كورة باجرمق حتى صار إلى شهرزور (١).

وتكريت من كور الموصل ، وبإزائها في البريّة مدينة الحضر على برّيّة سنجار ، وبينها وبين دجلة خمسة عشر فرسخا ، وبينها وبين الفرات خمسة عشر فرسخا ، وهي مبنيّة بالحجارة البيض ، بيوتها وسقفها وأبوابها ، وهي على تلّ ولها ستّون برجا كبارا ، وبين البرج والبرج تسعة أبراج صغار ، على رأس كلّ برج قصر ، وأسفله حمّام ، وقد حمل عليها نهر الثّرثار ، ويشقّ المدينة ثم يخرج ، وعلى حافتي الثرثار القرى والجنان ، والثرثار يخرج من سنجار ويصبّ في الفرات ، ويحمل عليه السفن ، وكان ملك الحضر السّاطرون ثم الضّيزن ، ويقال : إنه كان على الحضر باب يغلقه رجل ولا يفتحه إلّا خلق كثير ، وهو الذي قال فيه عديّ بن زيد :

وأخو الحضر إذ بناه وإذ

دجلة تجبى إليه والخابور

وقال : الشرقيّ بن قطاميّ : لمّا افترقت قضاعة خرجت فرقة منهم إلى الجزيرة ، وعليهم ملك يقال له الضيزن بن جبهلة ، أحد الأحلاف ، فنزلوا مدينة الحضر ، وكان بناؤها ، على طلسمين ألّا يهدمها إلّا حمامة ورقاء مطوّقة بحيض امرأة زرقاء ، فأخرج ضيزن كلّ امرأة عارك (٢) ، وغزا الضيزن في جميع قضاعة

__________________

(١) من قوله (وولى عمر بن الخطاب ، عتبة بن فرقد ...) إلى هنا في فتوح البلدان للبلاذري ص ٣٢٧ ـ ٣٢٨.

(٢) العارك : الحائض.

١٧٧

فأصاب خلقا من أهل شهرزور فقتلهم ، وأغار على السواد فأصاب ، ماه أخت سابور ذي الأكتاف ، فسمع سابور بذلك فخرج وأقام عليهم سنتين ، لا يظفر منهم بشيء حتى عركت النّضيرة بنت الضيزن ، فأخرجت إلى الربض ، فنظر إليها سابور فعشقها وعشقته فقالت له : ما لي عندك أن دللتك على ما تفتح به هذه المدينة قال لها : أجعلك فوق نسائي. قالت : فاعمد إلى حيض امرأة زرقاء فاكتب به في ورقة ثم اجعلها في عنق ورشان وسرّحه ، فإذا وقع على القصر أرفضّ بأهله ، ففعل فكان كما قالت ، فقتل من قضاعة نحو مائتي ألف رجل ، وأفنى قبائل كثيرة ، وبادت إلى يومنا هذا ، فقال الجديّ القضاعيّ :

ألم يحزنك والأنباء تنبي

بمقتل ضيزن وبني العبيد

ثم إنه خرج بابنة الضيزن حتى عرّس بعين التمر ، فلم تنم تلك الليلة ، قال لها : ما لك؟ قالت : لم أنم على فراش قطّ أخشن من فراشك هذه. قال : ويلك وهل نامت الملوك على فرش قطّ أوطأ من فرشي؟ قالت : نعم ، ونظر فإذا في الفراش ورقة آس وكانت قد التزقت ببطنها ، فقال : بما كان أبواك يغذوانك قالت : بشهد الأبكار ولباب البرّ وصغار المعز فقال سابور : أنت لم تكافئي أبويك على حسن صنيعهما بك ، ولم تفي لهما ، فكيف تفين لي؟ فشدّت ذوائبها إلى ذنب فرسين جموحين ثم استحضرا فقطّعاها (١).

__________________

(١) الحضر : مدينة عراقية على بعد ١١٠ كم من الموصل و ٣ كم من وادي الثرثار أطلق عليها الرومان اسم (هترا). وما تزال جوانب من معابدها الكبيرة قائمة حتى يومنا هذا. وواقعة فتحها على يد الملك الفارسي سابور الأول بعد محاصرتها من ١٢ نيسان ٢٤٠ حتى أول نيسان ٢٤١ م فاستسلمت المدينة بعد ذلك ، مذكورة في التواريخ العربية والفارسية مع ما فيها من الأساطير.

وكان السبب في هجوم سابور الأول عليها هو تحالفها مع الرومان عام ٢٣٥ م. (معجم الحضارات السامية مادة : الحضر).

يعلق الأستاذ هنري عبودي (مادة : الضيزن) على اسم هذا الملك بقوله : (إن اسم الضيزن لم يرد في كتابات الحضر وليس هنالك أي دليل على أنه شخصية تاريخية. والمعروف أن التنوخيين العرب أسسوا مدينة الحيرة ، وقد أغار عليهم سابور فذهب أغلبهم إلى الحضر وكان على ـ

١٧٨

ومن الموصل أيضا : الطيرهان ، والسنّ ، والحديثة ، ومرج جهينة ، ونينوى وباجلى ، والمرج ، وبانهدار ، وباعذرا ، وحبتون ، وبانقلى ، وحزّة ، وبانعاس ، والمعله ، ورامين ، والحناية ، وباجرمى ، وبابغيش ، والداسن ، وكفر عزّى ، وخراج الموصل أربعة آلاف ألف درهم (١).

وبالموصل جبل يسمّى شعران ، لكثرة أشجاره ، ويقال للشجر الشعراء ويقال : بل هو جبل بباجرمى ، ويسمّى جبل قنديل وبالفارسيّة تخت شيرويه ، وهو من أعمر الجبال ، وفيه كمثري والعنب وأنواع الطير وشجر عظام كبار يقطع فيحمل إلى العراق ، والثلج فيه قائم في الشتاء والصيف ، وإذا خرجت من دقوقا ظهر لك وجه منه يلي الزاب الصغير.

وقال الزّهريّ : لم يبق بالجزيرة موضع قدم إلّا فتح على عهد عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه) ، على يدي عياض بن غنم فتح حرّان ، والرّقّة ، وقرقيسيا ، ونصيبين ، وسنجار ، وآمد ، وميّافارقين ، وكفرتوثا ، وطور عبدين ، وحصن ماردين ، ودارا ، وقردى ، وبزبدى ، وأرزن.

والرّقّة : واسطة ديار مضر ، ولم يكن للرّافقة أثر ، وإنّما بناها المنصور سنة مائة وخمس وخمسين على بناء مدينته ببغداذ ، ورتّب فيها جندا من أهل خراسان.

قال الكنانيّ في قول الله عزّ وجلّ (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) قال : إلى حرّان. وفي قوله (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) قال : إلى حرّان. قال كعب في قوله عزّ وجلّ : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) قال : حرّان. وقوله (أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً) قال : حرَّان ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «رفعت ليلة أسري بي فرأيت مدينة فأعجبتني فقلت : يا جبريل ما هذه المدينة؟ فقال : نصيبين. فقلت :

__________________

ـ رأسهم الضيزن بن معاوية التنوخي. وقد يكون حارب إلى جانب ملك المدينة مما سبّب الالتباس الواقع. (معجم الحضارات ٥٦٠).

(١) من قوله (ومن الموصل أيضا ...) حتى هنا في ابن خرداذبه ص ٩٤. مع اختلاف في كتابة بعض الأسماء أحيانا.

١٧٩

اللهمّ اعجل فتحها واجعل فيها بركة للمسلمين».

ومن مدنها : الرّها ، وسميساط ، وسروج ، ورأس كيفا ، والأرض البيضاء ، وتلّ موزن ، والرّوابي ، والمازحين ، والمديبر ، والرّصافة ، وكفر حجر ، والجزيرة ، وتقدير خراج ديار مضر ألف ألف وستّمائة ألف درهم.

ومن عمل الفرات قرقيسيا ، وهي على الفرات ، وعلى الرّحبة ، وعلى الخابور ، وهيت وعانات والحديثة والزاب. ومن كور الخابور : الصّوّر ، والغدير ، وماكسين ، والشمسانيّة ، والسّكير ، وعرابان ، وطابان ، وتنينير العليا ، وتنينير السفلى ، وشاعا ، وهذه المدن على الخابور.

فأما كور ديار ربيعة : فنصيبين ، وأرزن ، وآمد ، ورأس العين ، وميّافارقين ، قال الشاعر :

بآمد مرّة وبرأس عين

وأحيانا بميّافارقينا

ومن الموصل إلى بلد سبعة فراسخ ، ومن نصيبين إلى أرزن ذات اليمين سبعة وثلاثون فرسخا ، ومن آمد إلى الرّقة أربعة وخمسون فرسخا ، وخراج ديار ربيعة سبعة آلاف ألف وسبع مائة ألف درهم (١).

ومن عجائب الجزيرة كنيسة الرّها ، والروم تقول : ما من بناء بالحجارة أبهى من كنيسة الرها ، ولا بناء بالخشب أبهى من كنيسة منبج ، لأنها بطاقات من خشب العنّاب ، ولا بناء بالرخام أبهى من قسيان أنطاكية ، ولا بناء بطاقات الحجارة أبهى من كنيسة حمص. وقالوا : إن حول مدينة الرها ثلاثمائة وستّين ديرا ، وكان بالرها صورة امرأة يقال لها هيلانة قاعدة على كرسيّ لم ير في جسمها وجمالها مثلها ، فعشقها رجل فمرض من حبّها ، فجاء أبوه فسكر رأسها ، فلمّا نظر إليها الفتى تسلّى عنها.

__________________

(١) من (فأما كور ديار ربيعة) ... إلى هنا في ابن خرداذبه ص ٩٥.

١٨٠