البلدان

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]

البلدان

المؤلف:

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]


المحقق: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٠

الأدب وناظرت المتكلمين ، فلم يبق شيء من العلم إلّا وقد كشفت ظاهره وفتشت باطنه [١١ أ] إلّا ما يتنازع فيه أهل الكوفة والبصرة ، من فخر بعضهم على بعض. وقد أحببت أن تتكلموا في ذلك حتى أسمعه.

فقال هشام (١) : أيّد الله أمير المؤمنين. ما زلنا نسمع أن أهل البصرة أبعد في الأرض آثارا وأكثر فتوحا وأبلغ خطيبا وأكثر أدبا ، والبصرة قبل الكوفة.

قال الحجاج بن خيثمة : أبقى الله أمير المؤمنين ، وكيف يكون أهل الكوفة أشرف من أهل البصرة وعندنا من معايبهم والطعن عليهم ما لو سمعه أمير المؤمنين لعجب منه وسيّما ما صنف فيهم شيخ لأهل البصرة يكنونه أبا عبيدة؟

فقال أحمد بن يوسف (٢) : أيد الله أمير المؤمنين ، أبو عبيدة وأهل البصرة كما قال الفرزدق :

جرير وقيس مثل كلب وثلّة

يبيت حواليها يطوف وينبح.

وأبو عبيدة يهودي من يهودهم كان قال لأبيه موزجير اليهودي ليس له قديم ولا حديث ولا أول ولا آخر. عاب أنسابهم وتناول أحسابهم وشتم الأمهات والآباء وذكر الأخوة والأخوات ، وعاش بينهم سبعين سنة يشتم أعراضهم وينتهك أحسابهم.

فقال أحمد بن هشام : أنتم لا تعتدون على أهل البصرة أنهم عابوكم ولا شتموكم بأكثر من قول أبي عبيدة. فإن أردتم الانتقام فليكن ذلك فيه ، لأن الله عزّ وجلّ يقول (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ).

فقال المأمون : قد كنت أعلم أن عندكم اختلافا وافتخارا. ولم أكن أحسبه بلغ هذا ، والكلام كثير ، وقد رأيت أن يدلي كل فريق بحجته ويكتبه كاتب حفيظ.

__________________

(١) هو أحمد بن هشام أحد أفراد حاشية المأمون ، وكان على شرطة طاهر بن الحسين. (الطبري ٨ : ٣٩١ وابن الأثير ٦ : ٢٤٢).

(٢) أحمد بن يوسف : كاتب المأمون (ابن النديم ١٣٥ واعلام الزركلي ١ : ٢٧٢).

٢٤١

فقال الخليل بن هشام (١) : اكتبوا ما شئتم ولا تنسوا خذلان علي وقتل الحسين عليهما السلام.

فقال العباس : لقد أمسكنا عن مساوئكم وقلنا بأحسن ما حضرنا من أمركم ، فأتيتم الآن تهيجونا على أنفسكم ، كقول الأخطل : [١١ ب]

ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت

فدلّ عليها صوتها حيّة البحر

قال أحمد بن يوسف : يا أمير المؤمنين. هو أعلم بمآثر الكوفة ومفاخرهم مني. وأنا أعلم بمعايب أهل البصرة والطعن عليهم منه. فقال : قل ما أحببت.

فقال أحمد : ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلّا بالله. إنّا وجدنا أهل البصرة فتقوا في الإسلام فتوقا وابتدعوا من الضلالة بدعا ، وبنوا من الباطل منارا. إثم ذلك في أعناقهم ، وعارة باق في أعقابهم. ولو استقصينا القول في ذلك كان كثيرا. ولكنّا نذكر بعض ما لا يجوز تركه ، ونترك ما يستغنى عن ذكره. فكان من ذلك : إنهم أول شهود ردت شهادتهم في الإسلام. وهم شبل بن معبد البجلي ونافع بن الحارث وأبو بكرة نفيع بن مسروح (٢) حين شهدوا على المغيرة بن شعبة ، فحدّهم عمر بن الخطاب. ومنهم أول قسّامة شهدت على زور وباطل ، وذلك عند الجواب حين قالت عائشة رضي الله عنها ـ وقد سمعت نباح كلاب الحوأب : أي مكان هذا؟ فقيل لها الحوأب. فقالت : ردّوني ، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول : أي نسائي تنبحها كلاب الحوأب. فجاء خمسون شيخا ممن تلقاها من البصريين فحلفوا لها ما هو الحوأب. ومنهم أول ساع سعى وغماز غمز وهو أبو

__________________

(١) شقيق أحمد بن هشام واحد رجالات دولة المأمون وقادة الجيش ، ولي له قم والجبل وأصفهان وآذربيجان ، ثم غضب عليه المأمون وصادر أمواله وسلاحه وقتله بعد ذلك عام ٢١٧ ه‍ بعد ما بلغه عن ظلمه وأخذه الأموال .... (ابن الأثير ٦ : ٢٥٧ ، ٣٩٩ ، ٤٢٠ ، ٤٢١).

(٢) في الأصل : وأبو بكرة ونفيع. والتصحيح من (عبد الله بن سبأ ١ : ٢٣٢) حيث فصّل هذه الواقعة تفصيلا.

٢٤٢

المختار يزيد بن قيس بن يزيد بن الصعو الكلابي حين كتب إلى عمر شعرا ، يسعى بعماله. يقول فيه :

أبلغ أمير المؤمنين رسالة

فأنت أمين الله في الحال والأمر

فأرسل إلى النعمان وابن معقّل

وأرسل إلى حزّى وأرسل إلى نشر

فأرسل إليهم يصدقوك ويخبروا

أحاديث مال الله ذي العدّ والدّثر

وقاسمهم نفسي فداؤك إنهم

سيرضون إن قاسمتهم منك بالشّطر

[١٢ أ] فكانت هذه أول سعاية في الإسلام ، وذلك باق فيهم إلى اليوم. ومنهم أول عمال أقرّوا بالخيانة في الإسلام ، لأن عمر قال لهم : إن شئتم فتشتكم وإن شئتم صالحتكم. فقالوا : تصالحنا. فقاسمهم أموالهم. منهم النعمان بن عدي بن نقلة قرشي عدويّ ، وعبد الله بن معقل المزني وعبد الله بن جزي والسعد بن عمر والأحنف بن قيس وبشر بن المحيص المزني والحجاج بن عثمان الثقفي.

ومنهم أول شهود ردّ شهادتهم حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ثم أخذوا على شهادتهم الجعالة والرشى. والمنذر بن الزبير وأبو مريم السلولي وغيرهما شهدوا أن أبا سفيان أقرّ عندهم أنه فجر بأم زياد ، وزعم أبو مريم أنه هو كان القوّاد الذي جاء بسمية إلى أبي سفيان. فردّ معاوية بشهادة هؤلاء حكم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (الولد للفراش وللعاهر الحجر). فجعل الحجر للفراش وللعاهر الولد.

وهم أول من تابع إمام هدى ثم خالفوه ونكثوا بيعته وذلك أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.

وهم أول من جرى عليه حكم الحرب في الإسلام حين قتلهم الله بأيدينا يوم الجمل. فقال أمير المؤمنين رضي الله عنه : لا تتبعوا مولّيا ولا تجيزوا على جريح (١). وأخذ ما في بيوت أموالهم فقسمه بيننا ، فأصاب كل رجل منا خمسمائة

__________________

(١) في (الجمل) للشيخ المفيد ص ٢١٦ لا تجهزوا على جريح.

٢٤٣

درهم وفي ذلك قال شاعرنا :

فإذا فاخرتمونا فاذكروا

ما فعلنا بكم يوم الجمل

ابعث الكوفيّ في الخيل ولا

تبعث البصريّ إلّا في الثقل

ومنهم أول من أجار ثم غدر في الإسلام وهو المجاشعي الذي أجار الزبير بن العوام حين انصرف من وقعة الجمل ثم غدر به حتى قتل.

ومنهم أول من ارتد عن الإسلام وهم بنو ناجية ، تنصروا بعد الإسلام ، فبعث إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه [١٢ ب] معقل بن قيس الرياحي فقتل المقاتلة وسبى الذرية.

ومنهم من عطّل حدود الله وهو عبد الله بن عامر بخراسان في خلافة عثمان بن عفان ، فقيل له : عطلت الحدود. فقال : أنا أعطيهم مالي وهم يذموني ، فكيف لو ضربت ظهورهم؟

ومنهم أول من خرج على المسلمين وهم أصحاب عبد الله بن عامر بخراسان.

ومنهم أول من ردّ قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (من انتفى من أبيه فعليه لعنة الله) فكان ذلك زياد وهو منهم.

وهم أول من ردّ قول النبي (صلى الله عليه وسلم) (لا حلف في الإسلام) فتحالفت الأزد وبكر بن وائل. وكان الذي عقد الحلف مالك بن مسمع. فقال له الأحنف : يا مالك أحلف في الإسلام؟ فقال مالك : أدعوة في الإسلام وقد قال الله ادعوهم لآبائهم؟ ـ يريد أمر زياد.

ومنهم أول من انهزم في الإسلام هزيمة محلية وهو سلمة بن زرعة ، انهزم من مرداس الخارجي. فصاح به الصبيان في الطرقات : يا سلمة! قد جاء أبو بلال مرداس. فحرد من ذلك. وزاد عليه الأمر حتى أقام في منزله ولم يخرج حتى مات.

٢٤٤

ومنهم أول من عرف بالتطفيل وهو الجارود بن سبرة الهذلي. كان يجيء إلى موائد الأمراء والأشراف من غير أن يدعوه. وكذلك كان إمام مسجدهم سعيد بن أسعد الأنصاري إذا كانت وليمة سبق إليها.

ومنهم أول من أعلن الفاحشة وأقرّ على نفسه بالأبنة والفضيحة جحشويه (١).

وهم المقدمون على الناس بالحمق ، المعروفون بالنوك. منهم هبنقة القيسي وهو الذي يضرب به المثل حتى قيل (أحمق من هبنقة). وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان : أما بعد ، فاحذر أهل بلدك فإن أكثر أهله تميم وهم بخل. وبكر بن وائل وهم كذب. وإن في الأزد لموقا. فهذا قول عمر فيهم خاصة. ولو كان عرف ذلك في أهل الكوفة لكتب إلى سعد [١٣ أ] بن أبي وقاص.

ومن حمقهم أن أبا خيرة القشيري كان مملقا فخدعه الفرزدق وأمره أن يبيع ابنته من المهلب على أنها وصيفة له : فهيّأها ثم ذهب بها إليه وعرضها عليه ، فوقعت بقلبه واستام عليه بها مائة ألف فأخذها منه بما قال. فقال الفرزدق للمهلب : إن أبا خيرة إنما باعك ابنته. قال : كذبت. فأرسل إليه فسأله ، فقال نعم ، لم أطمع أن أزوّجك فبعتك بيعا حلالا. فوقف على جهله فقال : قد جعلت المائة ألف مهرها. فولدت له محمدا وأبا عيينة.

ومن حمقهم ما ذكره الشرقي بن القطامي قال : كان رجل من أهل البصرة جالسا مع امرأته فدعا الحجام ليحجمه ، فلما وضع المحاجم على عنقه شرطه وهو غافل ، فضرط. فضحكت امرأته. فأخذ السيف وضرب الحجام فقتله. فصاحت امرأته واجتمع الناس فأخذ وأتي به عبيد الله بن زياد وهو على البصرة. فقال : لم قتلت هذا؟ قال : لأنه يشرط ولا يحذر.

ومن حمقهم أن شيخين من الأزد تنازعا في شيء ، فقال أحدهما لصاحبه : والله لو كان غيرك. قال : فأنا غيري. قال : أنت غيرك. قال نعم. فرفع يده ولطم عينه.

__________________

(١) انظر عنه الحيوان للجاحظ ٤ : ١٨١ ، ٦ : ٢٦١.

٢٤٥

ومن حمقهم أن مصعب بن الزبير لما أراد المسير إلى المختار بعث إلى الأحنف بن قيس بمائة ألف درهم وقال سر معي. فأمر الأحنف بفسطاطه فضرب في العسكر. فبلغ ذلك زبرا جارية الأحنف وكانت صاحبة أمره فقالت : ما أرسل إليّ مصعب شيئا؟ قيل : لا. فجاءت حتى دخلت على الأحنف وبكت ثم قالت : أبعد قتالك المشركين ومواقفك المحمودة في بلد العدو ، تخرج إلى المسلمين ومن يطلب بثأر أولاد النبي عليهم السلام تقاتلهم؟ قال : صدقت زبرا. قوّضوا (١) فسطاطي. ففعلوا. فبلغ ذلك مصعبا فقال : ما الذي دهاه؟ [١٣ ب] فخبروه بقصة زبرا. فبعث إليها ثلاثين ألف درهم. فجلست بين يدي الأحنف ثم قالت : أمر قد اجتمعت إليه العرب والأشراف ، ويوم من أيامهم المذكورة ، له ما بعده ، تغيب عنه فيخمل ذكرك ويدرس اسمك؟ قال : صدقت زبرا. أعيدوا فسطاطي ، فأعيد.

ومن حمق الأحنف أنه جرى بينه وبين الحتات كلام فقال له : إنك لضئيل ، وإن أمّك لورهاء ، وإن خالك للئيم. فقال له الأحنف : إنك لجلف جاف ، وما فيك من شيء إلّا أنك ابن دارم. اسكت يا دبرة. فطرح الحتات ثيابه بين الناس وقال : هل ترون شيئا؟ فبلغ من حمق الأحنف أنه كذب كذبا كذب به قبل أن يبرح.

ومن حمقه : أنّ الحسن بن علي رضي الله عنهما كتب إليه يستنصره فقال : قد بلونا حسنا وأبا حسن فلم نجد عندهما ابالة للملك ولا سببا للحرب ولا خيانة للمال الأمر هاهنا ـ وأشار بيده إلى الشام ـ فخذّل الناس عن الحسن رضي الله عنه. ثم شخص مع من شخص أمثال الحسين رضي الله عنه فقامت ركابه فكان ذلك سبب تخلفه.

ومن حمقه : انه حين نزل به الموت قيل له ما تشتهي؟ فلم يقل رحمة الله. وقال : شربة من ماء الغرير. وهو ماء رديء لبني سعد. فترك ما ينفعه وتمنى ما لا يرجع إليه منه نفع في دنيا ولا آخرة.

__________________

(١) قوّضوا : اجمعوا.

٢٤٦

وسئل قتادة عن الأحنف فقال : كان ممن زفّ سجاح إلى مسيلمة الكذاب.

ومن حمق أهل البصرة : ان الحبل لما اضطرب عند موت يزيد بن معاوية ، قام عبيد الله بن زياد على منبر البصرة فقال : أيها الناس : إنه لا بدّ لكم من إمام يقاتل عدوكم ويجبي فيئكم ويقسم بينكم. فاختاروا رجلا يلي أمركم حتى يصطلح أهل الشام على رجل فتدخلوا في اختيارهم. فقام إليه الأحنف فقال : أنت فكن ذلك [١٤ أ] الرجل. ثم ضرب يده على يده فبايعه وتتابعوا كلهم على ذلك.

ومن حمقهم : ان سفيان بن مسعود بن عمر الأزدي دخل على عبد الملك وافدا من عند الحجاج. فأراد أن يطريه ويعظّم شأنه فقال : أصلح الله أمير المؤمنين ، قد خرينا من خوف الحجاج.

ومن حمقهم ، ان الثافال البكراوي كان فاجرا خليعا فكان أن فسق برجل كرهنا أن نسميه. ولولا أن جحشويه كشف ذلك على نفسه ما ذكرناه. فخطب الثافال بنت المفعول به ، وظنّ أن تزويجها لا يحلّ له لفسقه بأبيها. فأتى الحسن البصري وهو جالس والناس عنده فقال : يا أبا سعيد ما تقول في رجل نكح رجلا ، أيحلّ له أن يتزوج ابنته؟ فقال له الحسن : لعلك أردت أنه نكح أمّها؟ قال : لا. أنا أدرى ما سعيت فيه. فأعرض عنه الحسن.

وليس في الأرض بصري يدخل الكتّاب إلّا وله كرسي يجلس عليه لئلا تأكل الأرض ثوبه.

ومن بخلهم أن صاحب باقلي كان في بعض سككهم فأخرجوه وقالوا : تعلّم صبياننا الإسراف ويقتلهم الجوع لأنهم يشترون منك بخبزهم باقليّ.

وأخرجوا غريبا كان نازلا في بعض سككهم فقال لهم : أي شيء أجرمت إليكم؟ قالوا : تأكل اللحم في كل يوم.

ولقي بعضهم صاحبا له : أعرني نعلك إلى الكلأ بتعليق يريد أنه يعلقها بيده ويمشي ليظن الناس أنها منقطعة الشراك.

وليس في الأرض أهل بلد أطمع ولا أدق أخلاقا وأنظر في الخطر الخسيس

٢٤٧

منهم. فإنهم أول من جعل حب الأرز في الموازين. وأربع حبات أرز ، حبة شعير. ولا نعرف ذاك في شيء من البلدان إلّا بلدهم.

ومن فضل الكوفة على البصرة : ان ملوك العرب والعجم طافوا الآفاق واختاروا البلاد فوقع اختيارهم على الكوفة وما يقرب منها. من ذلك الأنبار نزلها دارا بن دارا وجذيمة الأبرش [١٤ ب]. ومنها بابل نزلها بخت نصر ومن كان قبله وبعده من الملوك. ومنها مدائن كسرى نزلها أردشير بن بابك ومن بعده من ملوك فارس إلى يزدجرد. ومنها الخورنق نزله بهرام جور والنعمان بن الشقيقة وغيره من ملوك العرب. ومنها الحيرة نزلها عمرو بن عدي وولده بعده إلى عمرو وقابوس ابني المنذر ، والنعمان بن المنذر ، وإياس بن قبيصة الطائي حتى جاء الله بالإسلام. وإنما كانت البصرة منازل ينزلها الجند مثل منجشان صاحب المنجشانية ومن أشبهه من السفلة والرعاع.

وهم الذين شخصوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال الأحنف يا أمير المؤمنين. إن إخواننا من أهل مصر نزلوا منازل فرعون ، وإن إخواننا من أهل الشام نزلوا في منازل ملوك الروم ، وإن إخواننا من أهل الكوفة نزلوا بين حيرة النعمان ومدائن كسرى في مثل حولاء الناقة أو حدقة البعير الغاسقة في جنان خصبة وأنهار عذبة تأتيهم ما يأتيهم من رزقهم غريضا غضا. وإنّا نزلنا في سبخة هشاشة نشاشة زعفة لا يجفّ ثراها ولا ينبت مرعاها عسفتها الفلاة من خلفها وخنقها البحر الأجاج من أمامها ، يأتيها ما أتاها في مثل حلقوم النعامة. فلا يزيد من الفخر عليهم بطيب المنازل إلّا بما أقرّ به صاحبهم. ولم يزل أهل البصرة يشربون الماء المالح حتى وليها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ، فحفر لهم نهرا من البطيحة فهم يسمونه نهر ابن عمر ، وفيه يقول بشار في شعر طويل :

لا نشرب الماء إلّا قال قائلنا

نعم الأمير ، فداه السمع والبصر

روى من العذب ها مات مصرّدة

قد كان أزرى بهنّ الملح والكدر

٢٤٨

وقال شاعرنا يصف الكوفة وطيب هوائها وأن الشام ارتفعت عنها والبصرة سفلت منها :

سفلت عن برد أرض

زادها البرد عذابا

وعلت عن حر أرض

تلهب النار التهابا

مزجت حرا ببرد

فصفا العيش وطابا

ولم يزل عمال العراق ينزلون الكوفة يرونها [١٥ أ] عذب ماء وأصفى هواء وأطيب ترابا. وكل الأرض يجعلها الله للمسلمين طهورا. ومسجدا إلّا أرض البصرة فإنه ليس يستطيع أحد أن يتيمم ولا يصلي على أرضها لقذرها وفسادها وكثرة سمارها. وما نزلها من أمراء العراق أحد إلّا الحجاج مديدة ثم تحول إلى واسط. ومسلمة بن عبد الملك أياما حين قتل يزيد بن الأسلت. فأما الكوفة فأكثر الولاة كانوا ينزلونها ويقيمون بها ولا يمضون إلى البصرة إلّا لحادثة تحدث ، أو فتق يحذر. كان خالد بن عبد الله القسري يسميها الذفراء. وكذلك يوسف بن عمر.

ولما ولى يزيد بن عمر بن هبيرة العراق ، لم يختر شيئا على الكوفة وبنى عند قنطرتا مدينة وسماها الهبيرة وهي المعروفة بقصر ابن هبيرة. ولم يزل مقيما بالكوفة حتى جاءت الدولة الهاشمية فتحول إلى واسط.

ومن الكوفة ظهرت دولة بني العباس وفيها كان وزيرهم وبها عقد لهم الملك.

والكوفة بمنزلة العين من الرأس ، والبصرة بمنزلة الكراع من الأديم. ثم ترك المهدي الكوفة وبنى القصر الأبيض بالحيرة وهو الذي كان النعمان بن المنذر ينزله ، وبنى بها قصر أبي الخصيب على طرف النجف وفيه يقول الشاعر :

يا دار غيّر رسمها

مرّ الشمال مع الجنوب

بين الخورنق والسدير

فبطن قصر أبي الخصيب

٢٤٩

فالدير فالنجف الأشمّ

حيال أرباب الصليب

ولا يحتج علينا أهل البصرة أن أحدا من ولاة العراق نزلها إلّا زيادا وعبيد الله ابنه. فإنها كانت وطنهما ومشتاهما. ولم يكونا على نتنها وملوحة مائها وشدة بخرها وكثرة بقّها وكدورة هوائها وفساد طينتها. يطيلان المقام بها. بل كان أكثر مقامهما بالكوفة. وبحسبك أن السمك في نهرها لا يصبر على ملوحة الماء حتى ينتقل. فإذا كان سمك البحر لا يصبر ، فكيف ينبغي لذوي العقول أن يفخروا بها؟

[١٥ ب] ولو لم يكن من فضل بلدنا على بلدهم إلّا أنّا لا نحتاج إلى دباغ العفص وقشور الرمان في الصيف ، لكان ذلك فضلا عظيما. وفي الحديث (إن الفرات ودجلة من أنهار الجنة) وقد خصنا الله بعذوبتهما وبردهما. وحرم الله على أهل البصرة أن يذوقوا منهما قطرة حتى يختلط بهما البحر الأجاج. فهم كما قال الله عزّ وجلّ (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ. قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ).

وقدم أبو شدقم العنبري البصرة فملح عليه الماء واشتد عليه الحرّ وآذاه تهاوش ريحها وكثرة بعوضها. ثم مطرت السماء فصارت ردغاء. فقال :

أشكو إلى الله ممسانا ومصبحنا

وبعد شقّتنا يا أمّ أيوب

وإنّ منزلنا أمسى بمعترك

يزيده طبعا وقع الأهاضيب

ما كنت أدري وقد عمّرت من زمن

ما قصر أوس وما سحّ الميازيب

تهيجني نفحات من يمانية

من نحو نجد وتنعاب الغرابيب

كأنهنّ على الأجدال كلّ ضحى

مجالس من بني حام أو النوب

يا ليتنا قد حللنا واديا أنفا

أو حاجزا نصبا غضّ اليعاسيب

وحبذا شربة من شنّة خلق

من ماء صدّاء تسلي (١) كلّ مكروب

وآذاه قذرها فقال أيضا :

__________________

(١) في الأصل : تعلى.

٢٥٠

إذا ما سقى الله البلاد فلا سقى

بلادا بها سيحان برقا ولا رعدا

بلاد تهبّ الريح فيها خبيثة

وتزداد نتنا حين تمطر أو تندى

خليلي أشرف فوق غرفة درهم

إلى قصر أوس فانظرن هل ترى قصرا؟

وقال أعرابي قدمها فنزل إلى جانب دار محمد بن سليمان :

هل الله من وادي البصيرة مخرجي

فأصبح لا تبدو لعيني قصورها

وأصبح قد جاوزت سيحان سالما

وأسلمني أسواقها وجسورها

[١٦ أ]

ومربدها المذري علينا ترابه

إذا شحجت أبغالها وحميرها

فنضحى بها غبر الرءوس كأنّنا

أناسيّ موتى نبش عنها قبورها

وقال أبو تغلب يذكر نتنها وقذرها :

يا ربّ لا تسق نازل البصرة

فهي على كلّ حالة قذره

تأتيك منها إذا نزلت بها

روائح من روائح العذرة

فقال علي بن هشام : يا أمير المؤمنين! إن أحمد بن يوسف عدد عيوب البصرة ومثالبهم وترك ما على أهل الكوفة. فلئن كان الذي ذكر من أهل البصرة على ما ذكر فما يعرفه إلّا خواص من الناس ممن نظر في الأمور وبحث عن المستور. فأما عيوب الكوفة فأوضح من النهار وأبين من الشمس ، تعرفها العاتق في خدرها والعجوز في مجراها والصبيّ في كتّابه.

قال المأمون : وأيّ شيء تعرف؟

قال : عليّ أول ذلك قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال على المنبر : يا أيها الملأ المجتمعة أبدانهم ، المختلفة أهواؤهم. ما عدت دعوة من دعاكم ، ولا استراح من قاساكم. كلامكم يوهن الصمّ الصلاب ، وفعلكم يطمع فيكم الخود الكعاب. إن قلت لكم انفروا في الشتاء قلتم أمهلنا يذهب عنا الصر

٢٥١

والقر. وإن قلت لكم انفروا في الصيف ، قلتم أمهلنا تذهب عنا حمّارة القيظ وينسلخ عنا الحرّ. أعاليل بأضاليل. أية دار بعد داركم تمنعون؟ أم عن أي إمام بعدي تقاتلون؟ في خطبة طويلة (١).

فقال أحمد بن يوسف : إن أمير المؤمنين عليه السلام لما انتقضت عليه البلاد وخالفه أكثر (٢) ، اختارنا لنفسه ورضينا لنصره. فكنا إذا أحسّنا دعا لنا وأثنى علينا. وإذا أسأنا عاتبنا واستبطأنا كما يعاتب الرجل ولده. وإنك لتعلم يا أمير المؤمنين إنه انحدر من المدينة يريد البصرة فنزل ذا قار ثم بعث إلينا فخرجنا لنصره على الصعب [١٦ ب] والذلول. فنصرناه قبل أن نراه ، وآزرناه بعد أن رآنا. فكان يقول عليه السلام : أنتم الشعار وأنتم الدثار ، وفيكم محياي وعندكم مماتي. وكان يقول : اختار الله لنبيه مكة ، فاختار رسول الله عليه السلام لهجرته المدينة (٣). وكان يقول على منبر البصرة : يا أهل البصرة! يا أهل الحيرة. يا أهل تدمر. يا أهل المؤتفكة ائتفكت بأهلها ثلاث مرات وعلى الله تمام الرابعة. يا جند المرأة ، يا أنصار البهيمة. رغا فأجبتم وعقر فانهزمتم. أخلاقكم رقاق وعهدكم نفاق وماؤكم زعاق. وقد لعنكم الله ورسوله. فالمقيم بذنب والخارج عنها بنجاة (٤).

قال علي بن هشام : فإن أهل الكوفة قتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قتله ابن ملجم وكان نازلاً في دار الأشعث وتزوج قطام التميمية.

فقال أحمد بن يوسف : احتججت على نفسك. إن كان من أهل الكوفة ، فكيف ينزل دار الأشعث ويترك دار قومه؟ إنما هو رجل من مصر ممن كان مع محمد بن أبي بكر رحمه الله. فلما قتله عمرو بن العاص ومضى جنده إلى علي رضي الله عنه كان ابن ملجم فيهم.

قال عمرو بن الحارث : فإن أهل الكوفة قد قتلوا الحسين عليه السلام. وقد

__________________

(١) الخطبة كاملة في : الغارات ٢ : ٤٧٦ ، ٤٨٣.

(٢) سقط هنا شيء من الكلام ، لعله (الناس).

(٣) في الأصل : مدينة.

(٤) انظر : نهج البلاغة ٥٥ والجمل للمفيد ٢١٧ مع اختلافات يسيرة.

٢٥٢

قتلوا زيد بن علي ويحيى بن زيد عليهما السلام وغروهما وخذلوهما.

قال العباسي : قد علم الناس أنه ليس في الأرض بلد أجمع أهله على حب بني هاشم إلّا الكوفة. وما قتل أحد من بني هاشم في شرق ولا غرب إلّا وحوله قتلى من أهل الكوفة تختلط دماؤهم بدمه. فأما الحسين عليه السلام فإنه كتب إلى أشرافكم. فأما منذر بن الجارود فإنه أخذ الرسول وهو عبد الله بن يقطن (١) الليثي فدفعه إلى ابن زياد فقتله ، وذلك أن أنبته بحربة كانت عند ابن زياد. وكان من أمر الحسين عليه السلام ما كان. وما أكرم الله رجلا أن يسفك دمه [١٧ أ] معه فيكون في ذلك شرف الدنيا والآخرة. فهل سمع سامع بمثل أنصار الحسين وهم سبعون رجلا لقوا جبال الحديد حتى قتلوا حوله؟

قال الحجاج بن خيثمة : فإن الله قد أعطى أهل البصرة ما لم يعط أهل الكوفة. إن الماء يغدوا عليهم إذا غدوا إلى ضياعهم فيأخذونه إذا أرادوه. وإن استغنوا عنه حجبوه.

قال أحمد بن يوسف : ما رأيت ذلك عندهم. فلم ينقطع أعناقهم من العطش فلا يشربون حسوتين إلّا بالمنجنون (٢) والإبل ، فإن عطب بعير وانكسرت منجنونه أو أبطأ الموكل بذلك تعطلت السقايات. وإنما يقيم لهم الماء ساعة في أول النهار وساعة في آخره. وما أحد من أهل البصرة يشرب الماء العذب إلّا أن يتصدق به عليه. ومتى كثر عليهم الماء خافوا الغرق وضربوا الفساطيط على المكان الذي يخشونه. وإن قلّ عطشوا حتى يمزجوا الماء بالخل من ملوحته. وإن المريض منهم ليقال له ما تشتهي؟ فيقول : الماء العذب. وهم يسمون ماءنا الماء الحي. وإذا قدم الغائب وكان طريقه على الماء العذب أخذ منه ليفرقه هدايا على أقاربه وأهله وإخوانه. وماؤهم صبابة المياه ومفيض الأنهار.

وقال ابن عياش الهمداني لأبي بكر الهذلي يوم فاخره عند أبي العباس

__________________

(١) المعروف أنه ابن بقطر ـ أخو الإمام الحسين من الرضاعة ـ (الطبري ٥ : ٣٩٨ ، ٤٦٩).

(٢) المنجنون : الدولاب التي يسقى عليها (لسان العرب).

٢٥٣

السفاح : إنما الكوفة مثل اللهاة من البدن يأتيها الماء ببرده وعذوبته. والبصرة بمنزلة المثانة يأتيها الماء بعد تغييره وفساده.

وكان بالبصرة رجل من أهل الكوفة يقال له أبا المعذل بن غيلان ففاخرهم يوماً فقال : ألستم تروون أن من بال في الماء القائم المبال أربعين صباحاً تغير عقله؟ قالوا : بلى. قال : فهو ذا أنتم يشرب أحدكم الماء القائم المبال فيه ثمانين سنة. فكيف تكون عقولكم مثل عقول أهل الكوفة؟ فما استطاعوا أن يجيبوه.

فقال عمرو بن الحارث (١) : فإن [١٧ ب] لأهل البصرة الرطب الذي ليس في الدنيا أكثر ولا ألذّ منه.

فقال ابن يوسف : أما الكثير ليس بزائده في الطيب. ولو كان الكثير أطيب لكان بعر الإبل أطيب من الجوز. وأما الطيب ، فإن أهل العراق اجتمعوا ليلة في سمر عند يزيد بن عمر بن هبيرة فقالوا : أي البلدين أطيب تمرا الكوفة أم البصرة؟ فقال خالد بن صفوان : بل تمرنا أطيب وأعذب ، ولنا على أهل البصرة فضل العنب الرازقي في طيبه السونابي (٢) في حلاوته والخمري في رقته. فإذا فخر البصري بالعنب ذكر لهم عنبا يسمونه المتروري ، وما رأيت الحصى قطّ يباع حتى رأيت هذا العنب يباع.

قال علي بن هشام : فإن لأهل البصرة فيلسوفي الإسلام اللذين استخرجا النحو والعروض : أبو الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد.

فقال عمرو بن مسعدة (٣) : أما العروض فهو وإن كان علما فما يحتاج إليه كثير من الناس ، وليس من علم الأشراف. وأما النحو فإن أبا الأسود احتاج إليه لفساد السنة أهل البصرة. ولم يحتج أصحابنا لفصاحتهم. ولئن كان أبو الأسود

__________________

(١) عمرو بن الحارث بن يعقوب المتوفى عام ١٤٨ ه‍ (ابن الأثير ٥ : ٥٨٩) فيكون هذا الكلام جزءا من المفاخرة التي وقعت عند أبي العباس السفاح.

(٢) في الأصل : السوناني. والصواب ما أثبتناه. وهو نسبة إلى سونايا من قرى بغداد.

(٣) أحد وزراء المأمون مات عام ٢١٧ ه‍ (مروج ٣ : ٤١٧) ترجمته في ابن خلكان ٣ : ٤٧٥.

٢٥٤

تقدم في النحو ، إنّ لأصحابنا الفصاحة في العلم بالقرآن والإعراب به والمعرفة بوجوه القراءات حتى أكثر القراء بقراءتهم يقرءون. ومنا الفقهاء والعلماء والأدباء والفصحاء والنجباء والشجعان والفرسان المذكورون والشعراء المعروفون.

قال علي بن هشام : فإن أبا عمرو بن العلاء من أنبل الناس وأفصحهم لسانا.

قال ابن يوسف : إن كان الناس يقولون : أبو عمرو الراوية كما يقولون حماد الرواية. فهو مثله إذ كان ديوان الشعر مجموعا في قلبه. ومن مثل المفضل في رواية أشعار الشعراء وأشعار القبائل وأيام الجاهلية وأخبارهم؟ ومنا خالد بن كلثوم (١) كان إذا علم شيئا أدّاه كما سمعه. [لا كمن] (٢) كان يروي الخبر لا أصل له وربما زاد فيه ونقص منه.

قال عمرو بن الحارث [١٨ أ] : فإن لأهل البصرة أبا بكر الهذلي أعلى الناس بالجاهلية والإسلام.

قال عمرو بن مسعدة : فأين هو من قبيصة بن ذؤيب الأسدي وعبد الملك المعيطي وعبد الله بن عياش الهمداني والحجاج بن أرطاة النخعي. وهم كلموه عند السفاح ، فما تأتى له الردّ عليهم.

ومنا الثقة المؤتمن هشام بن محمد بن سائب الكلبي الذي ملأ الآفاق علما ، وأبو مخنف لوط بن يحيى بن مخنف بن سليم الأزدي والهيثم بن عدي.

قال الحجاج : أو ليس دغفل بن حنظلة الشيباني من أهل البصرة؟

قال ابن يوسف : فإن التجار العذري (٣) كوفئ بهلال بن الكيس الحميري وابن لسان الحمّي التيمي ومحمد بن السائب الكلبي وهشام بن محمد والمنتوف والشرقي بن القطامي. وما منهم أحد إلّا كما قال الأول :

__________________

(١) الكوفي (ابن النديم ١٧٧ و ٧٣).

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

(٣) لدى ابن النديم ١٠٨ (النجاد بن أوس العدوي) أو (النجار بن أوس العدواني).

٢٥٥

وما كان بين الخافقين قبيلة

يقال اشتروهم ، واحد فتبادله

قال الحجاج : فإن خطباء البصرة أخطب وأبلغ. منهم : عبد الله بن الأهتم وصفوان بن الأهتم وخالد بن صفوان وشبيب بن شبه.

قال عمرو : فأين هم من خطباء الكوفة مثل صعصعة بن صوحان والقعقاع بن عمرو الأسدي ومصقلة بن رقبة العبدي ومحمد بن المفضل السكوني وابنه خطباء الرشيد وخطبائك يا أمير المؤمنين.

قال علي بن هشام : فإن الشعراء بالبصرة أشعر وأكثر منهم : جرير والفرزدق وذو الرمة ويزيد بن الحكم والعجاج ورؤبة وأبو النجم. فهل لأهل الكوفة مثلهم؟

قال عمرو : أما جرير فإنه أعرابي صاحب عمود وبيت شعر كان يدخل البصرة كما يدخل الكوفة. وكان أكثر دهره باليمامة. ومنا الشماخ بن مزرد ولبيد والعباس بن مرداس والكميت بن زيد الأسدي وعمرو بن شاس وضابئ البرجمي والحطيئة وأبو محجن الثقفي وأبو شمال الأسدي وأبو زيد الطائي والنجاشي الحارثي وأعشى همدان وعمرو بن معدي كرب وعدي بن حاتم وعروة بن زيد الخيل وابن [١٨ ب] مقبل والقطامي وكعب بن جعيل والجحاف بن حكيم وغيرهم من الشعراء المجودين.

قال عمرو بن الحارث : فإن الأسخياء بالبصرة أكثر منهم بالكوفة. منهم : عبد الرحمن بن أبي بكرة وطلحة الطلحات فهل سمعت بمثلها؟

قال ابن مسعدة : فينا عدي بن حاتم الجواد بن الجواد. وعبد الملك بن بشر بن مروان ومحمد بن عمير بن عطارد.

قال عمرو بن الحارث : فإنه لم يل (١) العراق أحد من أهل الكوفة ، وقد وليه غير واحد من أهل البصرة منهم زياد وابنه ويزيد بن المهلب.

قال ابن مسعدة : هذا الحسن بن سهل معنا في المجلس ، ومن قبله علي بن

__________________

(١) في الأصل : لم يلي.

٢٥٦

أبي سعيد كلاهما قد ولي العراق. وثالثهما الفضل بن سهل ولي المشرق والمغرب ودعي له على أكثر منابر الأرض في ولاية واحدة. فهل لأهل البصرة مثله؟

قال الحجاج : فمن أهل البصرة كتّاب أمر العراق منهم صالح بن عبد الرحمن وهو الذي قلب الدواوين من الفارسية إلى العربية وهو كاتب الحجاج بن يوسف. ومنهم المغيرة بن أبي قرّة كاتب المهلب. وشيبة بن أيمن كاتب يوسف بن عمر. وقحذم مولى أبي بكر كاتب يوسف. وهارون بن ياسين كاتب خالد بن عبد الله القسري. وجبلة بن عبد الرحمن والقاسم بن سلم وعبد ربه بن أبي أيوب وابن أبي عبيدة وعمير بن أبي معن والمغيرة بن عطية وأخوه سعيد بن عطية.

قال العباس : أما صالح بن عبد الرحمن فهو مولى امرأة من أهل الكوفة من بني تميم. ولكن منّا زياد بن عبد الرحمن كاتب الحجاج. وسعد كاتب خالد. وعون كاتب خالد. ويونس بن مروة كاتب يوسف بن عمر. وعبد الجبار بن مغيث. والهيثم بن مسلم كاتبا عيسى بن موسى. وحماد بن موسى كاتب محمد بن سليمان. وكتّاب الخلفاء منا ، لم يكتب لهم قط أحد من أهل البصرة. منهم يحيى بن زياد بن عبد الرحمن استكتبه المنصور وضمه إلى جعفر ابنه. وعمرو بن كليع وإبراهيم ومحمد ابنا حبيش. هؤلاء كتّاب المنصور. وكتّاب المهدي [١٩ أ] علي بن يقطين وعمرو بن بزيع. وكتاب الرشيد : يحيى بن سليمان ومنصور بن زياد ومجاشع بن مسعدة ويوسف بن القاسم. ثم هؤلاء كتاب أمير المؤمنين (١) : الحسن بن سهل على الخراج ، وعمرو بن مسعدة على الرسائل ، وأحمد بن يوسف على الديوان بالجبل وخراسان ، ومحمد بن عمران على ديوان البريد بالآفاق. وثابت بن يحيى منّا وإن كان قد نشأ بالري.

قال علي بن هشام : إن أبا عبيدة زعم أن عليا عليه السلام قال على منبر الكوفة فقال : إنكم تزعمون أن دابة الأرض (٢) إن كنتم كاذبين فلا أماتكم الله

__________________

(١) أمير المؤمنين ، أي المأمون.

(٢) يوجد نقص في العبارة.

٢٥٧

حتى يخرج من أصلابكم نساء زواني.

قال ابن يوسف : كان علي عليه السلام اتقى الله وأرحم بعباده وأفقه في دينه من أن يقول هذا لقوم مسلمين. وأما الفجور فمعاذ الله أن يرمي به المسلمات. ولكن قد علم الله أن النهاريات والليليات لا يعرفن في شيء من البلدان إلّا بالبصرة. وليس بالبصرة شريف إلّا وقد بنى في داره دكانا تركب منه امرأته. وما بالبصرة امرأة جليلة إلّا ولها حريف من المكاريين يخرجها إلى الأعياد والمواسم وقدوم الولاة. وكل حدث يكون.

وما يحل للمسلمين أن يقدموا رجلا من أهل البصرة يصلي بهم حتى يحبس كما تحبس الإبل الجلالة سبعة أيام لأن غداءه السماء. فضحك المأمون.

فقال علي بن هشام : أنت بالفحش أحذق وبه أرفق. ولكن بالبصرة أربعة بيوتات من بيوتات العرب ليس بالكوفة مثلها بيت : بيت بني الجارود ، وليس في عبد القيس بالكوفة مثلهم. وبيت بني المهلب وليس في أزد الكوفة مثلهم. وبيت بني مسمع ليس في بكر الكوفة مثلهم.

قال عمرو بن مسعدة : أما بيت بني المهلب فإن النجاشي قال :

وكنت كذي رجلين : رجل صحيحة

ورجل بها ريب من الحدثان

فأمّا التي صحّت فأزد شنوءة

وأمّا التي شلّت فأزد عمان

[١٩ ب] وبالكوفة بيت بني مخنف بن سليم بن مزيقياء بن ماء السماء. ليس في أزد البصرة مثله. ولهم بعد ذلك من البيوتات الشريفة ما لا يحدّ ولا يوصف. فمنهم بيت النعمان بن مقرن صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم). وقال النبي عليه السلام : آل مقرن من بيوتات الجنة. ومنهم حذيفة بن اليمان صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ومنهم فرسان العرب الذين أدركوا الجاهلية والإسلام : عمرو بن معدي : كرب وقيس بن مكشوح وعروة بن زيد الخيل والعباس بن مرداس وطليحة الأسدي والأشتر بن الحارث النخعي ومصقلة بن هبيرة وإبراهيم بن الأشتر وأبو بردة بن أبي موسى.

٢٥٨

فنحن فينا بيوتات العرب وأشراف الجاهلية وفرسان الإسلام. خير الأقاليم إقليمنا وخير الإقليم بلدنا وخير الأنهار نهرنا وخير الصحابة فقهاؤنا. ومنهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وابن مسعود وعمار بن ياسر وحذيفة اليمان ، وسلمان منا. ومسجدنا المسجد الرابع في الفضل. مسجد كان من علي وسعد عامرا برهة ، ومن عمار والرجال المهاجرين إلى الله من الأولين والآن. وفيه يقول السيد بن محمد الحميري :

لعمرك ما من مسجد بعد مسجد

بمكة طهرا أو مصلى بيثرب

لشرق ولا غرب علمنا مكانه

من الأرض معمور ولا متجنّب

بأبين فضلا من مصلى مبارك

بكوفان رحب ذي أواسي ومخصب

مصلى به نوح تأثّل وابتنى

به ذات حيزوم وصدر محتّب

وفار به التنّور ماء وعندها

له قيل قم يا نوح في الفلك واركب

وباب أمير المؤمنين الذي به

ممرّ أمير المؤمنين المهذّب

[٢٠ أ] وليس فينا قدري ولا خارجي.

فقال المأمون للبصريين : قد نظرت في أمركم وسمعت قولكم وفهمت احتجاجكم ، فما لمتكم في جدال ولا مدافعة. ولكني رأيت مثلكم في مفاخرة أهل.

الكوفة كقول القائل :

يا حار قد كنت في عزّ ومكرمة

لو أنّ مسعاه من جاريته أمم

ثم دعا المأمون صاحب يبت حكمته فقال : اجعل هذا الكتاب في خواص كتبنا. ثم قال علي بن صالح للقوم انهضوا. فنهضوا وانقضى المجلس والحمد لله رب العالمين.

٢٥٩

القول في واسط

وإنما ذكرنا واسط في هذا الموضع لأنها توسطت المصرين أعني البصرة والكوفة ولذلك سميت واسط.

وقال يحيى بن مهدي بن كلال : بنى الحجاج بن يوسف [واسط] في سنتين وكان فراغه منها في سنة ست وثمانين. وهي السنة التي مات فيها عبد الملك بن مروان.

ويروى أن ابن عمر بن عبد العزيز قال : إن الحجاج إنما بنى واسط إضرارا بالمصرين يعني الكوفة والبصرة. وقد أردت أن أهدم مسجدها وأخربها وأردّ كل قوم إلى وطنهم. فقال له أبو منبه : يا أمير المؤمنين! إن جلّ قومها فيها ولدوا وبها نشأوا ، لا يعرفون غيرها ، ومسجد جماعة قد قرأ فيه القرآن. فسكت.

وذكر بعض أهل الكوفة قال : سألت حازما أبا عبد الله الضبي أن يشهد على دار اشتريتها بواسط فقال : لا أشهد على شيء بيع بواسط. قلت : ولم ذاك؟ قال : لأن الحجاج غصب عليها.

وذكرت واسط عند أبي سفيان الحميري وقيل ليس بها فاكهة. فقال : لأنها مشؤومة بناها رجل مشؤوم.

وقال أبو سفيان الحميري : ولي الحجاج العراق عشرين سنة ، قدمها سنة خمس وسبعين ومات سنة خمس وتسعين في شهر رمضان ليلة سبع وعشرين. وكانت ولايته في [٢٠ ب] أيام عبد الملك أحد عشر سنة ، وفي أيام الوليد بن عبد الملك تسع سنين.

٢٦٠