تأسيس الغرب الإسلامي

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

وإشبيلية. وكانت عندئذ إسبانيا تعجّ بالمدن خلافا للمغرب الأوسط والأقصى وأكثر ممّا كانت عليه الحال بإفريقية ، وهذه المدن محصّنة وهو ما يفسّر أنّ الغزو كان يتماثل مع احتلال المدن وأنّ الاتساعية الإسلامية داخل الجزيرة دامت طويلا حتى بعد استتباب الحكم الأموي.

كما أنّ هذه الوضعية تفسّر كثرة الانتفاضات العسكرية زمن الولاة كما زمن الأمويين الأوائل ، فهي لا تني تقريبا أبدا. ومن الممكن أنّ هذا النزوع نحو الاستقلالية من طرف القوّاد وعمّال المدن كان استمرارا لنزعة كبراء" الفيزيغوط" لتكوين حكم محلّي أو إمارات صغيرة كما في كلّ أوروبا التي كانت تميل في القرنين الثامن والتاسع م. إلى تفتيت السلطة في مقاطعات جهوية. لكنّ الحكم الإسلامي لم يكن ليقبل بهذا الأمر بسبب إيديولوجيا الطّاعة والجماعة ولأنّه حكم مركزي وعسكري وبيروقراطي أكثر فأكثر ، لأنّ اقتصاده مبني على النّقد وليس على المقايضة كما لدى" الميروفنجيين والكارلوجيين" في الشمال. هنّا المجتمع منفتح ، فلاحي وتجاري وصناعي وهو يحتاج إلى حكم مركزي قويّ وهذا ما سيؤول إليه الأمر في العهد الأموي الأندلسي من بعد وفي العهد الأموي الخليفي آنذاك.

فإلى حدود أزمة الثلاثينات بعد المائة ، كانت الشرعية الخليفية مؤكّدة جدا ، فهي المرجع والملاذ وإلّا أكل المقاتلة العرب بعضهم بعضا. فلمّا قفل موسى راجعا إلى القيروان ، خلّف ابنه عبد العزيز واليا على الأندلس بإشبيلية ، كما خلّف ابنه مروان على طنجة ، وعند ما ذهب في ٩٥ ه‍ إلى المشرق بأمر من الوليد جعل ابنه عبد الله مكانه بإفريقية ، أي أنّه اتّخذ سياسة أسروية في المجال الذي افتتحه وروّضه يعني إفريقية والمغرب والأندلس. لكنّه كان بعيدا عن أن يفكّر في خلع الطّاعة وتكوين إمارة لنفسه وبنيه ، فهذا لم يكن أبدا ممكنا بل كان موسى ضحية التعسّف الخليفي إذ نكبه سليمان أشدّ ما نكبة. وعند ما أراد ابنه عبد العزيز في الأندلس خلع الطّاعة انتقاما لأبيه أو طموحا منه ، كان من الهيّن على

٢٠١

سليمان أن يأمر القوّاد العرب بقتله وهذا ما تمّ (١).

وهنا يتبيّن أنّ الخليفة لم يكن يحكم الأقطار النّائية بعمّاله فحسب بل وأيضا بالنّخبة العربية المسلمة الموجودة على عين المكان التي قد يتّجه إليها من فوق الولاة وضدّهم أحيانا. ذلك أنّ البيعة كانت في أعناق المسلمين وأنّ الخلافة كانت تجسيدا للجماعة وليس فقط رمزا فهو يأمر من بعيد فيطاع أمره. وإذا كانت هنا إرادة بطش الخليفة في محلّها إذ حصل خلع ، فإنّ السياسة الأموية إزاء الولاة منذئذ فسدت وتسربلت بالعنف والتّعذيب لمطامع مالية فحسب ، على حساب الثقة المتبادلة كما كانت عليه أيّام معاوية وزياد وعبد الملك والحجّاج ، وسيقوى هذا الاتجاه في عهد هشام كما تدلّ على ذلك سياسته إزاء خالد القسري في المشرق. لكن حوالى سنة ١٠٠ ه‍ ما زالت السلطة المعنوية للخليفة قويّة بل قوية جدا.

وبعد مقتل عبد العزيز بن موسى «مكث أهل الأندلس شهورا لا يجمعهم وال حتى اجتمعوا على أيّوب بن حبيب اللّخمي ابن أخت موسى بن نصير» كما يقول ابن العذاري. وهكذا بالرّغم من غضب الخليفة على موسى وموته مغضوبا عليه أو مقتولا وبالرّغم من مقتل ابنه عبد العزيز ، اجتمع رأي الناس بالأندلس على شخص من قرابة موسى ، ويعني هذا الأمر ما كان يتمتّع به موسى من هالة عندهم أدبيا كفاتح المغرب والأندلس المظفّر ، وماديا لما جلب لهم من غنائم ومتعة ، ولتواجد عدد هائل من صنائعه ومواليه في الغرب الإسلامي كلّه. وفي انتخاب النّخبة لوال من بينهم وعليهم ، تجدر الإشارة أيضا إلى الدّور الذي لعبه حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة الفهري رأس العرب المستوطنين

__________________

(١) البيان المغرب ، ج ٢ ، ص ٢٤ ؛ الأخبار المجموعة تعتبر أنّ سليمان كان ضدّ قتل عبد العزيز ، ص ٢٢. وقد اتّبع هذا الرّأي حسين مؤنس في فجر الأندلس ، القاهرة ، ١٩٥٩ ، ص ص ١٣٠ ـ ١٣١. قد يكون سليمان لم يأمر بقتله فهذا صعب الاحتمال لكنّه ممكن ، أمّا أنّه نفر من قتل عبد العزيز فهذا غير مقبول.

٢٠٢

بإفريقية منذ زمن عقبة والذي نجده الآن في الأندلس وقد أتى دون شكّ مع عرب إفريقية المصاحبين لموسى.

وبعد هذه الفترة الانتقالية رجعت الأندلس إلى نظر والي القيروان مع بعض الاستثناءات. ففي عهد سليمان ، إلى حدود سنة ١٠٠ ه‍ ، يقول ابن العذاري" كانت الأندلس وطنجة إلى صاحب إفريقية" (١) وهكذا وجّه محمد بن يزيد الحرّ بن عبد الرحمان عاملا على البلد سنة ٩٩ ه‍.

ومن جملة الاستثناءات تولية السّمح بن مالك من طرف عمر بن عبد العزيز (٢) ، وكان عمر يتدخّل كثيرا في سياسة الولايات حسب المصادر ولعلّ السبب في ذلك انتهاجه لسياسة جديدة يريد تطبيقها مع من يستثيق بهم. ودام عهده قليلا إذ رجع يزيد بن عبد الملك إلى المناهج القديمة في تسيير الأمور. وبالتالي فإنّ والي إفريقية يزيد بن أبي مسلم هو الذي عيّن في ١٠٣ ه‍ العامل عنبسة بن سهيم وقد بقي إلى ١٠٧ ه‍ (٣).

ويأتي استثناء ثان في ١٠٩ ه‍ حيث يعيّن هشام بن عبد الملك العامل مباشرة.

القاعدة العامة المعمول بها هي تبعية الأندلس لوالي إفريقية ، لكنّها لم تكن قاعدة قانونية ممأسسة إذ يتدخّل الخليفة في بعض الظروف في التّسميات ، إلّا أنّ التعيين الخليفي لا يعني أنّ عامل الأندلس ينفلت تماما من مراقبة والي القيروان أو أنّ خمس الغنيمة والخراج لا يوجّه إليه كي يوجّهها إلى الخليفة بدوره. بل إنّا لا نعلم شيئا عن التنظيم الإداري وعن الجباية في الأندلس في تلك الفترة الأوّلية. فما زال هذا القطر أرض جهاد ولم تخمد تماما المقاومة الفيزيغوطية ولا احتلّت كلّ المدن. إنّما من الأرجح أنّ الدّواوين دوّنت فيما فتح من الأرض حسب المنهج العربي

__________________

(١) البيان المغرب ، ج ٢ ، ص ٢٥ ؛ ابن القوطية ، تاريخ افتتاح الأندلس ، طبعة بيروت ، ص ٣٩ ؛ أخبار مجموعة ، ص ٢٢.

(٢) البيان المغرب ، ج ٢ ، ص ٢٦ ؛ الرسالة الشريفية ، في كتاب تاريخ افتتاح الأندلس ، ص ٢٠٦.

(٣) البيان ، ج ٢ ، ص ٢٧.

٢٠٣

في الفتوحات أي باتّباع ما هو معمول به قبلهم في بلد ما مع ضرورة نظام العطاء (١).

على كلّ ، حفظت لنا دنانير مضروبة في إسبانيا من ٩٣ ه‍ إلى ٩٥ ه‍ ومكتوبة باللاتينية وكلمة إسبانيا موجودة عليها وكذلك التقويم الهجري :Hic solidus feritus in Spania, Anno XCIII, indictione X (٢).

في نفس الوقت ، كانت تضرب الدنانير بإفريقية بنفس الكتابة المنقوشة : Hic solidus feritus in Africa (٣) ، قبل تعريب النقود. ذلك أنّ إسبانيا كانت في الماضي مقاطعة رومانية مهيكلة جدا وذات أهميّة بالغة فاحتفظت حتّى بعد غزوها من البرابرة الجرمان بمؤسّساتها ومدنها وشخصيتها الإدارية والحضارية. وقد استرجع البيزنطيون قسما منها وبالأخصّ الجنوب ، وحتى الفيزيغوط كانوا أكثر الشعوب الجرمانية تطوّرا وحضارة. كلّ هذا ، زيادة على الإمكانات الجغرافية من مثل اعتدال المناخ والوفرة النسبية للأنهار والمياه ، وزيادة على كثافة الحضور العربي جعل فيما بعد من الأندلس أرض حضارة رفيعة وبامتياز.

إنّ كثافة الحضور العربي لم توجد من الأوّل بل كان العنصر البربري هو الغالب عدديا ، على أنّ موجات الهجرة من إفريقية إلى الأندلس للجهاد والاستقرار تتالت لمدّة جيل من ٩٣ إلى ١٢٣ ه‍ وكانوا يأتون مع كلّ وال جديد ، والولاة عادة ما يكونون من عرب إفريقية. ثم إنّ الفتنة الخارجية ـ البربرية وقعت بالمغرب في سنة ١٢٢ ه‍ وامتدّت إلى الأندلس في سنة ١٢٣ ه‍ حيث ثارت المقاتلة من البربر بسبب هضم العرب لحقوقهم في الجهاد والغنيمة. وعند استفحال الفتنة بالمغرب ، بعث الخليفة كلثوم بن عياض في جيش مكثّف من أهل الشام" وكان

__________________

(١) وديوان الجند ، وهي مؤسّسات عربيّة.

(٢).Walker ,Catalogue ـ ـ ـ ,op.cit.,p.٤٧ et pl.XI

(٣).Ibid.,pp.٢٧ ـ ٣٧

٢٠٤

على طلائعه بلج بن بشر القشيري ابن عمّه" وبلغ عدد الجيش ١٢٠٠٠ مقاتل ، كما أنّ كلثوما اصطحب قسما من أهل مصر وأهل طرابلس.

وبعد هزيمة العرب ومقتل كلثوم ، حصل نزاع كبير بين بلج وعرب إفريقية على وادي مثلف كاد أن يؤدّي إلى نزاع مسلّح (١) ، وسبب ذلك أنّ الإفريقيين ومعهم أهل مصر رفضوا لأهل الشام الاستقرار بالمغرب ومزاحمتهم على وجودهم ومزاياهم. صحيح أنّهم كلّهم عرب ومسلمون ، لكنّ عامل الزمن يلعب دوره بين إفريقيين انغرسوا على أرض إفريقية منذ عهد عقبة ثمّ حسّان بن النّعمان ثمّ موسى بن نصير وبين وافدين جدد من أهل الشام مسلّحين بالقوّة. هناك عنصر من" الوطنية" في هذا الصّراع أي تعلّق بأرض افتتحوها أو افتتحها أجدادهم ونشأوا فيها وكوّنوا فيها شبكة العلاقات الإنسانية فيما بينهم وقاعدة اقتصادية قد لا تتّسع إلى عدد أكبر.

ولم يكن هذا خاصا بإفريقية بل هو شعور موجود في كافّة دار الإسلام حيث كان يعتبر المقاتلة أو أبناؤهم أنّ كلّ قطر افتتحوه واستوطنوه هو قطرهم دون غيرهم من بلاد أخرى حيث يتعيشون منه : هناك أهل العراق وأهل الشام وأهل مصر وأهل خراسان ... إلخ. من الممكن أنّ إفريقية لم تكن لتحتمل نزوحا إضافيا كبيرا ، ومن الأرجح أنّ أهلها ـ يعني دائما العرب ـ تأصّلوا فيها أكثر من غيرهم في أقطار أخرى بسبب البعد عن الجذور الذي يخلق الحرص على تنظيم البقاء فيما هو منفى أبدي. وكان لبلج وأصحابه من أهل الشام وعدد من أهل مصر إمكانية الهجرة إلى الأندلس ، وترسّخت هذه الفكرة في قلوبهم. لكنّ الأندلس كان بها أصحابها وأهلها وعليهم وال هو عبد الملك بن قطن الذي عيّن للمرّة الثانية وكان فرع من آل فهر من أبناء عقبة مستقرّين بها ومن ذوي التأثير الكبير على المقاتلة العرب وعلى الوالي على حدّ سواء ،

__________________

(١) ابن العذاري ، البيان المغرب ، ج ١ ، ص ٥٤ ـ ٥٥ : وكان على رأس الإفريقيين حبيب بن أبي عبدة أو عبيدة.

٢٠٥

ومنهم سيخرج يوسف الفهري المتغلّب على الأندلس في زمن الفتنة بين بني أميّة وبني العبّاس.

إذن رفض الوالي عبور بلج ورجاله (١) وأمهله عاما ، خوفا منه إذ كانت بيده قوّة ضاربة عظيمة لن يستطيع مقاومتها كما أنّه لا يستطيع أن يرفض إلى الأبد دخولها ، خاصّة وأنّ مسلمي الأندلس وعربهم محتاجون إلى مدد لتوسيع دائرة الجهاد ولتخويف البربر الذين ثاروا في ١٢٣ ه‍ كما ذكرنا (٢). ثم إنّ الشعور بوحدة الأمّة وتضامنها لم تطفئه تماما المصالح المحليّة بصفة عامّة وفي ثغر جهاد عظيم مثل الأندلس بصفة خاصّة. ولذا عبر بلج في سنة ١٢٣ ه‍ مع شاميّيه وفي المراكب التي أرسل بها والي الأندلس (٣). وهذا حدث كبير سيؤثّر على تاريخ البلاد سواء في العاجل وأكثر من ذلك في الآجل. ففي العاجل ، ما كان يتخوّف منه الوالي عبد الملك بن قطن وقع ، فقتل الوالي من طرف أهل الشام (٤) وهم عشرة آلاف من المقاتلة وتولّى بلج بن بشر مكانه تغلّبا على الأندلس وحدث قتال بين عرب الأندلس القدامى وبين جيش بلج رفضا لتغلّب عناصر جديدة ، بسبب خصوصية كلّ عنصر ، وخوفا من المزاحمة على التسلّط على البلد وعلى الغنيمة والأموال. ومات بلج بعد سنة ، في ١٢٤ ه‍. كلّ هذا في خلافة هشام ، في آخرها بالضبط ، حيث بدت حتى في المركز إرهاصات الفتنة الثالثة وهي أزمة خلافات في الشام ذاتها ـ قاعدة الخلافة ـ بين اليمنية والقيسية وداخل البيت الأموي ذاته.

وفي سنة ١٢٥ ه‍ تولّى أبو الخطّار الكلبي بتعيين من والي القيروان (٥) وبطلب من أهل الأندلس الذين فزعوا إلى الشرعية خوفا من

__________________

(١) البيان المغرب ، ج ٢ ، ص ٣٠.

(٢) م. ن ، ص ٣٠.

(٣) م. ن ، ص ٣٠ ـ ٣١ ؛ الكامل ، ج ٥ ، ص ٢٥٠ ـ ٢٥٢.

(٤) البيان المغرب ، ج ٢ ، ص ٣٢.

(٥) هو آخر من عيّن من طرف والي إفريقية والمغرب : البيان المغرب ، ج ٢ ، ص ٣٣ ؛ الأخبار المجموعة.

٢٠٦

الفتنة (١). لكنّ الفتنة حصلت على كلّ حال ، إذ نقل أهل الشام إلى الأندلس صراعاتهم الذاتية بين المضريّة واليمنية ، فثار الصّميل بن حاتم مع المضريّة وأزاح أبا الخطّاب وحصلت فتنة بين قيس / مضر واليمن بل ومعركة كبيرة بين أبي الخطّاب الوالي ويمنيّيه وبين الصّميل ومضريّيه وهي يوم" شقندة" التي يصفها ابن العذاري ب" يوم عظيم" (٢).

لكنّ أبا الخطّاب هذا ، قبل أن يغلب ، فرّق أهل الشام في الكور على الصفة التي وجدوا عليها في بلادهم أي استيطانهم في الأجناد.

فوضع من أصلهم جند دمشق في إلبيرة وأهل الأردن في ريّة وأهل فلسطين في شذوذة وأهل حمص في إشبيلية وأهل قنّسرين في جيّان وأهل مصر ـ وقد دخل عدد منهم مع بلج ـ في باجة. وهذا التوزيع مهمّ لأنّه سيخفّف من خصوصية أهل الشام ككتلة وككلّ وسيلعب دورا كبيرا في المستقبل في تعريب الأندلس وفي جعلها بلدا تواجدت فيه كلّ البطون والقبائل العربية. ف جمهرة أنساب العرب لابن حزم ، وقد كتبت في القرن الخامس الهجري ، تأتي على كلّ القبائل والعشائر العربية في حدّ ذاتها وتبرز لنا أنّ أغلبها إذا لم يكن كلّها ممثّلة في الأندلس وفي كلّ صقع من أصقاعها. فالحضور العربي سرى في شرايين الأندلس مع كلّ ما يحمله من لغة وثقافة وأشعار وحضارة وتجربة طويلة على أرض قلب الخلافة في دمشق والشام. لكن في فترة أولى حمل هذا العنصر معه نزاعاته فلم تعد هذه تستعر بين النازحين القدامى الإفريقيين والجدد الشاميين ، بل بين كلّ قيس وكلّ اليمن وهو نزاع لا معنى له في الأندلس سوى أنّ المقاتلة حملوا معهم الصّراع في أذهانهم. لقد كان تعلّة لرهانات أخرى كالمطامع والمطامح والنّزوع إلى الفتنة والفوضى من طرف جند حافظوا على تركيبتهم القبلية أو بالأحرى ما فوق القبلية حيث إنّ قيسا مجموعة قبائل وكذلك اليمن ، والذّاكرة التي تحفظ النّزاع مترسّخة في

__________________

(١) م. ن ، ص ٣٤ : «واجتمع على أبي الخطّار أهل الشام وعرب البلد ودانت له الأندلس».

(٢) م. ن ، ص ٣٦.

٢٠٧

تاريخية الشام الخاصّة (١).

بعد الفتنة ، اجتمع أهل الأندلس على تولية يوسف بن عبد الرحمان الفهري أخي حبيب بن عبد الرحمان (٢) ، وبقي يوسف في الحكم إلى مجيء عبد الرحمان الدّاخل. إنّ طول مدّته مأتاها كونه قرشيا ومبدئيا فوق الأحزاب ومن سلالة عقبة بن نافع ومن أسرة عربية إفريقية هي رأس عرب هذه الولاية ، وقد تغلّب أخوه على إفريقية عشر سنوات. لقد بقي يوسف مدّة طويلة تمادت إلى ما بعد مجيء عبد الرحمان الدّاخل لأنّه حاربه وحاول منعه من الوصول إلى السّلطة (٣) ، وكان الصّميل رأس مضرية الشّام يسانده مع أنّه قابل على المكر به ، لكن من الواضح أنّ الفهري له نصيب من المشروعية لدى أهل الأندلس كان يفقدها الصّميل.

وشهدت الفترة سنوات قحط ومجاعة وانتفاضات عديدة من القوّاد وكأنّهم ينزعون إلى انتصاب نوع من الفيودالية. هل كان ممكنا مع الفهري أن تفوز الأندلس باستقلالها وتكوين ذاتها. لقد حاولت ذلك إفريقية مع فهريّ آخر دون نجاح ، في هذه الفترة بالتدقيق لانعدام وجود حاجز بينها وبين مصر ، أهمّ الولايات الغربية. لقد كانت الأندلس أبعد ومقطوعة بالبحر ، لكن فاقدة تماما للاستقرار ولشرعية مقبولة تلتئم حولها. سيأتي عبد الرحمان الأموي بهذا المبدأ ـ فهو أموي وابن خلفاء ـ مبدأ الشرعية وإمكانية تأسيس سلالة حاكمة مقبولة من الجميع وخصوصا من أهل الشام. فوجود هؤلاء كان له تأثير بالغ. لكنّ عبد الرحمان كان عليه أن يقاوم كثيرا الثورات العسكرية ، بل أمضى أكثر عهده في ذلك (٤) ، ولعلّ

__________________

(١) في هذا الصدد ، انظر : الطبري ، تاريخ ، ج ٦ ؛ البلاذري ، أنساب الأشراف ، ج ٥ ؛ ابن الأثير ، الكامل ، ج ٤ ، ص ١٤٩ ، ص ٣٠٦ ـ ٣٣٣.

(٢) البيان المغرب ، ج ٢ ، ص ٣٦ ـ ٣٧.

(٣) البيان المغرب ، ص ٤٤ ـ ٤٧ ، ٤٨ ـ ٥٠ ؛ الكامل ، ص ٤٨٩ ـ ٤٩٦.

(٤) البيان المغرب ، ص ٥١ وما بعدها ؛ زيادة على انتفاضات القادة ، ظهرت ثورة كبيرة للبربر وعلى رأسها شنقا أعيت عبد الرحمان مدّة سنوات : الكامل ، ج ٥ ، ص ٦٠٥.

٢٠٨

من أسباب ترسّخ الإمارة الأموية مع هشام ابنه والحكم حفيده ، وجود حاجز بعد تكوّن إمارة سجلماسة وبالأخصّ إمارة الأدارسة يحميه من الجحافل العبّاسية. في كلّ الغرب الإسلامي ، من إفريقية إلى الأندلس ، كان نموّ الفكرة الأسروية والأميرية واضحا وسيأتي دور مصر فيما بعد مع ابن طولون ، لكنّ الخلافة استرجعت مصر في عهد المأمون.

إنّ تفجّر أزمة كبيرة في آخر خلافة هشام بن عبد الملك لم يطل فقط قلب الإمبراطورية ، الشّام والعراق وخراسان والحجاز ، بل كلّ البلاد الإسلامية لأنّ الأزمة لم تكن فقط انتقال الحكم من أسرة إلى أخرى ، بل كان وراء تلك" الدّولة" ـ أي التغيّر ـ قوى كبيرة وعميقة تفجّرت بهذه المناسبة : إيديولوجيات ، مطامح جماعات عرقية أو سياسية ـ دينية ، أو مطامع بسيطة من أولي البأس والمقدرة. وقد تلتحم هذه القوى مع بعضها البعض ، كالبربر والحسني إدريس في المغرب الأقصى والبربر وبني مدرار ثمّ الرّستميين ، والأموي وجيش الشّام المهاجر إلى الأندلس ، والأغلبي وأهل إفريقية الطّامحين إلى الاستقلالية. إنّ المغرب والأندلس ـ أي الغرب المتأسلم الشّاسع ـ كان يرنو إلى هيكلة الذّات والدّخول في التاريخية. إنّ النّزوع إلى المشاركة في الحكم من أبناء فارس أعطى له العبّاسيون حقّه في صلب الدولة ذاتها ، والشّعوب المغلوبة الأخرى من أولي البأس مثل البربر التفّت حول قادة من أبنائهم كرؤساء الخوارج أو حول رموز كاريزمية مثل الحسني إدريس. أمّا في الأندلس ، فالعناصر الإفريقية القديمة وجيش أبناء الشام النازحين والقليل من أهل مصر لم يكن لهم أن يلتفّوا إلّا حول مبدأ أسروي كانوا تعوّدوا عليه وهم بنو أمية ، وبعد فهم معرّضون دائما لجهاد متواصل.

مع هذا ، فإنّ إطلاق طاقات التمرّد والعنف ولّد في منعطف المائة والثلاثين (١٣٠ ه‍) حركات انتفاضية لم تنضب أبدا طيلة قرن أو أكثر ، سواء في إفريقية ما قبل الأغالبة أو في زمنهم أو في الأندلس قبل الأمويين وفي ظلّ حكمهم. كلّ عهد هذه الإمارات ممتلئ بثورات القوّاد والجند ،

٢٠٩

وفي كلّ مرّة كان الحكم القائم يتغلّب عليها. من الممكن أن وجدت نزعة إلى الاستقلالية في الوحدات الصغيرة ، مثل ما سيحصل في الغرب المسيحي ومثل ما سيحصل زمن السلاجقة في الشّرق فيما بعد. لكن ما دام الحكم المركزي قادرا على إخمادها بالعنف المنظّم والقوّة المستديمة ، فهي تتكرّر لكي تغلب. ومتى ما ضعف الحكم فالإمارات المشتّتة تنبثق وتستفحل. هذه قاعدة عامّة لا تخصّ الغرب الإسلامي فقط ولا حتّى دار الإسلام ، بل هو التاريخ وعمله التّحتي إذ ذاك في تمخّض.

ولأسلوب الحكم وبنية الاقتصاد والمواصلات وشكل الحضارة في زمن ما قبل الحداثة علاقة وطيدة بذلك. إنّ الأشكال والهياكل السياسية تمرّ ولا تبقى طويلا ، لكنّ هذه الفترة المدروسة ، على الرّغم من صخب الأحداث أو بسبب ذلك ، وهي فترة تمتدّ على قرن ونصف من التولّد الصّعب الأليم ، أقحمت المغرب الإسلامي والأندلس في مصير جديد سيبقى أو ستبقى أسسه الثّابتة ، وهذه الأسس طويلة المدى والتأثير : وهي اللّغة والدّين والحضارة ، وكلّها ثوابت إذا رسّخت يستحيل تقريبا اقتلاعها.

لقد أطرد الإسبان بعد سبعة قرون العرب المسلمين من الأندلس تماما. وهو أمر طبيعي لأنّ الإسبان كانوا يتّكئون على مجال أوروبي متّسع جدا ، ولأنّ المسيحية البابوية كانت حادّة وشرسة. لكنّ المسلمين أيضا التجأوا إلى دار الإسلام القريبة وهي المغرب لكي يثروه بعطائهم.

وبقي المغرب متمحورا على ذاته موحّدا كمجال جغرافي ، كذاكرة لتاريخ مشترك ، كتنويعة من حضارة الإسلام الكبرى ، كانتماء ديني.

كل هذا انطلق من فترة ـ رحم كانت قاسية في الأوّل على المغلوبين ، أبرز فيها العرب الفاتحون مقدرة هائلة على التّعنّت في البقاء وعلى التّنظيم الصارم ، كما على الاختراق في الأعماق ، في الصحاري النائية والجبال الشامخة ، اختراق هذا العالم الممتدّ بأسلوب لم يعرف قطّ قبل ذلك ، لا من طرف القرطاجنين ولا من طرف الفندال ولا حتى من

٢١٠

طرف الرومان. والمغرب بعد ، خلافا للأندلس ، متّصل فضائيا بأرض الإسلام أفقيّا ، إنما قاعدته الاقتصادية لم تكن لتخوّل له بناء حضارة لامعة مثلما حصل في الأندلس ، وفي مصر الفاطميين ، وفي العراق وخراسان لمدّة معيّنة. كما أنّه كان فاقدا في جناحه الغربي ، فيما وراء الزّاب ، لتقليد تاريخي وحضاري.

٢١١
٢١٢

ملحق :

المصادر الكتابية

للمغرب ومصر والقارّة

الإفريقية إلى حدود العصر الحديث

٢١٣
٢١٤

إنّ مفهوم المصادر المكتوبة شاسع إلى حدّ يصبح مبهما. فإذا ما قصد بالمكتوب كلّ ما يوصل الصوت والحسّ ، تصبح الشهادة المكتوبة تضم الرسوم المحفورة على الصخور والأقراص والقطع النقدية ... وباختصار كل ما من شأنه أن يحفظ اللغة والفكرة بقطع النظر عن الحامل (١). وهذا الاتساع قد يحدو بنا إلى أن نقحم في ميداننا العملة وعلم النقائش وسائر العلوم «المساعدة» التي أصبحت في الحقيقة مستقلّة عن دائرة النص المكتوب ، لذلك سنحصر بحثنا على ما هو مخطوط أو مطبوع في علامات متفق عليها مهما كان حاملها سواء بردي ، رقّ ، عظم أو ورق. ويمثل هذا في حد ذاته حقلا شاسعا للبحث والتأمل ، وذلك لأنّه يمثل أولا حيّزا زمنيا يبتدئ باختراع الكتابة وينتهي على عتبة الأزمنة الحديثة (القرن الخامس عشر الميلادي) ، ثم لأنه يتفق مع قارّة بأكملها أين تجمّعت وتلاحقت حضارات شتى. وأخيرا لأن هذه المصادر وقع التعبير عنها بلغات مختلفة وقد تطوّرت في تقاليد متنوعة فكان لها أنماط متعدّدة.

سنعالج ما تطرحه هذه المصادر من مشاكل عامّة (التحقيب ، والتقسيم إلى مناطق والتصنيف) قبل أن نقيّمها تقييما نقديا.

المشاكل العامّة

إلى حدّ الآن لم توجد دراسة شاملة للمصادر المكتوبة لتاريخ إفريقية ، وبسبب التخصّص حسب الأزمنة أو المناطق ، بقيت الدّراسات القليلة المنجزة مرتبطة بميادين متقطعة من البحث العلمي ، فكانت مصر الفرعونيّة مثلا ميدانا لدارس الحضارة المصريّة القديمة ، ومصر البطيلمية

__________________

(١) A.Dain ,١٦٩١ ,p.٩٤٤.

٢١٥

والرّومانية ميدان الباحث الكلاسيكي ، ومصر الإسلامية ميدان الباحث في الإسلاميات. فهذه ثلاث فترات وثلاثة اختصاصات تدور في مدارات أكثر اتساعا (العالم الكلاسيكي والإسلام). وحدث نفس الأمر في بلاد المغرب ، إذ اعتبر المهتم بالعالم البونيقي مستشرقا وكلاسيكيا في نفس الوقت ، في حين اعتبر المهتم بالبربر هامشيّا وغير قابل للتصنيف.

وتتداخل اللغات والاختصاصات المختلفة في ميدان إفريقية السّوداء المتنوّع هو أيضا ، إذ توجد مصادر كلاسيكية ، ومصادر عربية ، وأخرى إفريقية تحديدا ، غير أنّه إذا ما وجدنا نفس الثلاثية في شمال الصحراء فإنّ هذه ليس لها نفس الأهمية ولا مدلول مماثل. توجد منطقة شاسعة أين لم توجد مصادر مكتوبة قبل القرن الخامس عشر ميلادي. بالنسبة لما تبقى من المناطق ، يمكن أن يكتسب مصدر عربي يتعلّق ببلاد المغرب ، بدرجة ثانية أهمية أساسيّة فيما يتعلق بحوض النيجر. إن المؤرّخ المختص في إفريقية السّوداء ، عند ما ينكبّ على وثيقة مكتوبة بالعربية ، لا يتعامل معها بنفس الطريقة التي يتعامل معها المؤرخ المختص في بلاد المغرب ، ولا نفس طريقة تعامل مؤرخ الإسلام بصفة عامّة.

يترجم هذا التقاطع والتداخل التركيبة الموضوعية لتاريخ إفريقية ، وكذلك توجّه علم التاريخ الحديث منذ القرن التاسع عشر. إنه حدث بالفعل أن أدمجت مصر في العالم الهلّنستي ، ثمّ في الإمبراطورية الرومانية ، وبعدها البيزنطيّة ثم لمّا دخلت في الإسلام أصبحت موطنه المشع. وقد حدث بالفعل أن نظر الكلاسيكيون إلى تاريخ إفريقيةAfrica على أساس أنّه صورة من تاريخ روما ، وأن إفريقية قد ترسّخت بعمق في مصير الرّومنة ، غير أنه كذلك حقيقي أن يكون مؤرخ إفريقية الرّومانية المعاصر نفسه مؤرخا للحضارة الرومانية قبل أن يكون مؤرخا لإفريقية وأن يخرج القسم الإسلامي من حقل اهتماماته العلمية (الإبستمولوجية).

إن إدراك تاريخ إفريقية إذن باعتباره كلا ، وأن نلقي عليه في هذا

٢١٦

المسعى نظرة على المصادر المكتوبة ، يبقى مهمّة دقيقة وصعبة بصفة خاصة.

مشكل التحقيب

في دراسة المصادر المكتوبة ، نتساءل كيف يمكننا تبرير الانقطاع الموجود في بداية القرن الخامس عشر. أيحدث ذلك في البنية الداخلية للمجموعة الوثائقية التي بحوزتنا ـ والتي رغم الخلافات الثقافية والزمنية ـ حافظت على بعض الوحدة ، أم عن طريق حركة التاريخ ذاته والتي يجمعها مع العصور القديمة والقرون الوسطى في زمن طويل واحد يفصل بينها وبين العصر الحديث المتميّز في خصوصيته؟ في الحقيقة تتماسك الحجّتان وتتكاملان ، فالمصادر القديمة والوسيطة تختصان بالكتابة الأدبية ، وهي شهادات واعية في معظمها تسمّى حوليات ، أخبارا ، رحلات أو جغرافيا. بينما وانطلاقا من القرن الخامس عشر ، أصبحت الوثائق الأرشيفية (وثائق الأرشيف) والشهادات غير الواعية كثيرة. ومن جهة أخرى إذا كان الانتشار المسيطر في هذه الفترة يعود إلى المصادر الكلاسيكية والعربية ، فإنه وانطلاقا من القرن الخامس عشر نضبت المصادر العربية ، في حين برزت في حقل الشهادات الوثيقة الأوروبية (الإيطالية ، والبرتغالية ... إلخ) ، وفيما يتعلق بإفريقية السوداء ، ظهرت الوثيقة الأهلية.

ويعبّر هذا التغيير في طبيعة المصادر ومصدرها أيضا عن تحوّل في المصير التاريخي الحقيقي لإفريقية. إن القرن الخامس عشر هو قرن التوسّع الأوروبي (١) ، إذ برز البرتغاليون سنة ١٤٣٤ على سواحل إفريقية

__________________

(١) يقترح موني R.Mauny تاريخ ١٤٣٤ ، وهو تاريخ التوسع البحري البرتغالي في إفريقية السوداء :

» Le Probleme des Sources de L\'histoire de L\'Afrique noire jusqu\'a la colonisation europeenne «, in : XII Congres ?? ? international des Sciences historiques, Vienne, ٩٢ Aout ـ ٥ Septembre, ٥٦٩١, II, Rapports, Histoire des continents, p. ٨٧١.

انظر أيضا موني : R.Mauny ,١٦٩١ ,op.cit.,p.٨١.

٢١٧

السوداء ، وأقاموا قبل ذلك بعشرين سنة (١٤١٥) في سبتة (١). وظهر بالنسبة إلى الشريط السّاحلي المتوسطي والإسلامي لإفريقية (بلاد المغرب ومصر) ، فصل بين فترتين تاريخيتين منذ القرن الرابع عشر ، عند ما أحسّ هذا العالم بتأثيرات التوسع البطيء للغرب كما أحسّ ـ من دون شكّ ـ بعمل القوى الذاتية للانحلال. لكن القرن الخامس عشر كان حاسما ، لأنه نضبت خلاله مصادر الشرق الأقصى للتجارة الإسلامية التي انتهى هكذا دورها فيما بين القارات. ومن هنا فصاعدا سقط إسلام إفريقية المتوسطية على منحدر انحطاط ما فتئ يتفاقم. وشرط أن يكون مرنا فإنّ وضع النهاية الفاصلة في القرن الخامس عشر يجد ما يبرّره بإسهاب. ولكن لعل يمكن أن نبرر هذه النهاية أكثر إذا ما أخرناها بقرن (بداية القرن السّادس عشر). هكذا سوف نفكك الفترة موضوع الدراسة إلى ثلاثة مقاطع رئيسية مع الأخذ بعين الاعتبار ثنائية حتمية التنوع والتوحد.

العصور القديمة إلى حدود ظهور الإسلام : من الإمبراطورية القديمة حتى ٦٢٢ م.

العصر الإسلامي الأول من ٦٢٢ م إلى منتصف القرن الحادي عشر (١٠٥٠).

العصر الإسلامي الثاني من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر.

من المؤكد هنا أن مفهوم العصور القديمة لا يشبه المفهوم المعتاد بخصوص العصور القديمة للتاريخ الغربي من حيث إنه لا يتطابق إلا جزئيا مع العصور القديمة «الكلاسيكية». فهي لا تنتهي بهجومات البرابرة وإنما باقتحام الفعل الإسلامي. لقد مثّل الإسلام بفضل عمقه وسعة تأثيره قطيعة مع الماضي ، هذا الماضي الذي يمكن نعته بالعتيق أو بما قبل التاريخ أو بما قبل تاريخي حسب المناطق. وفي الحقيقة أيضا إنّ معظم مصادرنا منذ العهد الهلنستي مكتوبة باليونانية واللاتينية.

__________________

(١) Laroui (A) ,٠٧٩١ ,p.٨١٢.

٢١٨

وإذا ما لزم علينا اعتبار القرن السابع الميلادي وقرن ظهور الإسلام والمصادر العربية ، بداية عصر جديد بحكم بنية الوثائق وحركة التاريخ الشاملة ، فإن الاستمرار الإسلامي يتطلب في حدّ ذاته أن يقسّم إلى فترتين. أمّا الأولى فتبدأ من الفتح إلى منتصف القرن الحادي عشر ، وأما الثانية فمن القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر. ففي إفريقية شمال الصّحراء يوافق الطّور الأول تنظيم هذه المنطقة حسب النمط الإسلامي وربطها بإمبراطورية متعدّدة القارات (خلافة أموية وعباسية وفاطمية). وأما الطور الثاني فقد شهد مقابل ذلك مبادئ محليّة للتنظيم. وفي نفس الوقت ومن وجهة نظر حضارية ، حدثت تحولات عميقة. فبالنسبة إلى بلاد المغرب ، مثّل منتصف القرن الحادي عشر فترة نشأة الإمبراطورية المرابطية ، واسترجاع بني زيري لحكمهم الذاتي ونتيجته الطبيعية المتمثلة في زحف الهلاليّين. وفي مصر تحدث القطيعة السياسية بعد ذلك بقرن مع الأيوبيين ، على أنّ في هذا العصر ، شهدت المراكز الحيّة للتجارة الكبرى الانتقال من الخليج الفارسي إلى البحر الأحمر ، فقامت بالتدريج شبكة للتبادل على صعيد عالمي كان لها الأثر البالغ.

وفي جنوب الصحراء وخلال القرن الحادي عشر أيضا ، تطوّرت علاقات دائمة مع الإسلام وخاصة على الصعيدين التجاري والديني.

إن المادة الوثائقية في حدّ ذاتها تتغيّر ملامحها ، فإذا كانت كميّا غزيرة ومتنوّعة ، فإنها كيفيّا وكلما انحدرنا في الزمن إلا واعترضتنا في إفريقية المتوسطية مصادر غير واعية (وثائق أرشيف ، فتاوى قضائية) ومعلومات دقيقة فيما يتعلّق بإفريقية السوداء.

المجالات الإثنية ـ الثقافية وأنماط المصادر

لا يكفي تصنيف المصادر حسب الفترات التاريخية لوحدها ، بل يجب الأخذ بعين الاعتبار تمفصل إفريقية إلى مناطق إثنية ـ ثقافية أين تلعب عديد القوى لتميّز بين المناطق بصفة خاصة ، وكذلك بخصوص

٢١٩

تصنيف المصادر التي بحوزتنا من وراء الفترات التاريخية والفروقات الفضائية.

ولمعالجة النقطة الأولى ، يمكن أن يستهوينا رأسا إقامة تمييز أوّلي بين إفريقية شمال الصحراء ـ البيضاء ـ التي تعرّبت وأسلمت ، وتأثرت في أعماقها بالحضارات المتوسطية ما أدى إلى زوال إفريقيتها ، وإفريقية جنوب الصّحراء ـ السّوداء ـ والإفريقية إلى أقصى الحدود والتي تحظى بخصوصية إثنية تاريخية متميّزة. في الحقيقة ودون إنكار الثقل التاريخي لمثل هذه الخصوصيات ، فإن الفحص التاريخي المعمّق يكشف لنا عن خطوط فصل أكثر تعقيدا وأشدّ تباينا. لقد عاش مثلا السودان السينغالي والنيجري في اتحاد وثيق مع المغرب العربي ـ البربري ، فكان أقرب على مستوى مصادره إلى بلاد المغرب منه إلى عالم البانطوBantu ، وحدث نفس الأمر بالنسبة إلى السودان النيلي في علاقته بمصر ، والقرن الشرقي لإفريقية في علاقته بالعربية الجنوبية. هكذا إذن يستهوينا أن نقابل بين إفريقية المتوسّطية والقاحلة وتلك التي تنبت فيها السّافانا والمشتملة على بلاد المغرب ومصر وبلاد السودان وأثيوبيا والقرن الإفريقي والساحل الشرقي إلى حدود جنزيبار ، وبين إفريقية أخرى إيحائية مداريّة واستوائية تتكوّن من حوض الكونغو والساحل الغيني ومجال الزنباز ـ لنبوبو ومنطقة ما بين البحيرات ، وأخيرا بين إفريقية الجنوبية.

في الحقيقة تبرز هذه المفاضلة الثانية إلى حدّ كبير بمقياس الانفتاح على العالم الخارجي ، وكذلك بأهمية التسرّب الإسلامي. إنّ حالة المصادر المكتوبة تؤيّد الواقع الحضاري حيث تقابل بين إفريقية تتوفّر فيها هذه المصادر بغزارة ـ مع الأخذ بعين الاعتبار عامل التدرج من الشمال إلى الجنوب ـ وإفريقية تفتقد تماما إليها على الأقل بالنسبة إلى الفترة المدروسة ، غير أن الاعتبار المزدوج للانفتاح على الخارج وحالة المصادر المكتوبة يمكن أن يسقطنا في أحكام تقييمية من شأنها أن تسدل

٢٢٠