تأسيس الغرب الإسلامي

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

عبد العزيز نفسه عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة (١) وليس الوالي إسماعيل بن أبي المهاجر. وبنفس الكيفية عيّن مروان بن محمد عبد الرحمان بن زياد في المرّة الأولى من قضائه وعيّنه أبو جعفر المنصور في فترته الثانية (٢). لكن في المقابل وهنا في الفترة العبّاسية نسجّل عزل الوالي يزيد بن حاتم لقاضيين على الأقلّ هما عبد الرحمان بن زياد (٣) ويزيد بن الطّفيل (٤) وتسميته ماتع الرّعيني (٥).

ويبدو أنّ ابن فرّوخ تحصّل على قضائه العابر من تعيين روح بن حاتم له (٦) ونفس الشيء بالنسبة لخليفته ابن غانم.

وهكذا يتدخّل خليفتان أمويان في تعيين قضاة إفريقية (٧) رأسا في حين أنّ ولاة من العهد العباسي لم يتردّدوا في تسميتهم وعزلهم ، وهذا خلافا للصورة الاستشراقية التي قد لا تنطبق إلّا على المركز. وحقيقة الأمر أنّ إفريقية القرن الثاني كان لها وضع خاص ولا يمكن أن تمثّل كلّ دار الإسلام في هذا الصّدد ، فهي بعيدة جدا وشاسعة ، والولاة المهلّبيون خاصة كان لهم هامش استثنائي من الاستقلالية ، وأخيرا يجب استعمال مصادرنا المتأخّرة زمنيا بكثير من الحذر والاحتراز. مع هذا ، لا نرى موجبا في أن يختلق التقليد المغربي وقد جمّعه أبو العرب والمالكي مثل هذه التفاصيل وبهذه الكيفية.

وإذا كان هذا التقليد يريد أن يثبت شيئا تجاوزا للحقيقة التاريخية فهو أن ينسب للخليفة عددا كبيرا من تعيينات القضاة كي يرفع من شأن هذه الخطة ويعليها. فهذا التقليد تكوّن في العهد الأغلبي حيث برز وسط

__________________

(١) المالكي ، رياض النفوس ، ص ٨٢.

(٢) م. ن ، ص ١٠٢.

(٣) م. ن ، ص ١٠٢.

(٤) م. ن ، ص ١١١ ؛ أبو العرب ، طبقات ، ص ٣٤.

(٥) المالكي ، رياض ، ص ١٠١.

(٦) طبقات ، ص ٣٥ ؛ رياض ، ص ١١٨.

(٧) وأيضا قاضي الجند من طرف هشام : رياض ، ص ٧٥.

١٢١

علمي وفقهي متماسك وارتفعت وظيفة القضاء إلى درجة أن صار مزاحما للإمارة في قيادة المجتمع ، وبالتالي فقد يكون يجنح إلى خلق سوابق من عهد الولاة. وهذا ما لم يفعله ، إذ نسب تعيينات كثيرة إلى الوالي. ونحن نعلم أنّ الرأي العام في القيروان وفي أوائل العهد الأغلبي يمنح قيمة كبيرة لامتياز التسمية من طرف الخليفة نفسه. ونجد معلومة لدى أبي العرب والمالكي وكذلك النّباهي (١) تفيد أنّ جدلا طرأ في القيروان في الوسط العلمي حول كيفية تسمية ابن غانم : هل هي صادرة عن الخليفة أم عن الوالي ، والمقصود هنا الأمير الأغلبي على الأرجح. فأصدقاء القاضي ادّعوا للرفع من شأنه ـ ومن الممكن لتركيز استقلاليته بالنسبة للأمير ـ أنه يدين بتعيينه للخليفة. غير أنّ القاضي كذّبهم واعترف أنّ تعيينه يعود إلى الأمير ـ الوالي.

هل هذا يعني أنّ التقليد هنا اختلق هذه القصة لتعزيز سلطة الوالي في أوائل الفترة الأغلبية والرّفع من صورته؟ هذا ممكن. لكنّ الجوّ العدواني تجاه الأمراء المحليين كان طاغيا على الأدب المنقبي في إفريقية وبالتالي فنحن نقبل بما ورد فيه بخصوص دور الولاة في تسمية القضاة إلى حدود آخر الفترة التي نبحثها.

أمّا فيما يخصّ توزيع المهامّ العدلية بين القاضي والوالي ، فلم تكن الأمور واضحة. قد وجد دون شك تنافس بين الاثنين خصوصا عند ما دوّن الفقه فقويت تطلّعات القضاة ومطامحهم. هكذا نشهد تلاميذ مالك في الفسطاط مثلا يتساءلون عمّا إذا كانت أحكام الوالي صالحة وصحيحة وهل كان من حقها أن تكون نافذة المفعول مثل أحكام القاضي (٢) حيث لا تعتمد على الشريعة بكفاية. وكما في الفسطاط لا بدّ أنّ والي إفريقية تمادى على ممارسة القضاء بنفسه في أحيان عديدة ، بحيث تختلط علينا

__________________

(١) طبقات ، ص ٤٤ ـ ٤٣ ؛ رياض ، ص ١٤٧ ـ ١٤٨ ؛ النباهي ، تاريخ ... ، ص ٢٥ ، وهو يؤكّد أنّ التعيين تمّ بأمر من الرّشيد.

(٢) المدوّنة ، ج ١٢ ، ص ١٤٦.

١٢٢

الأمور فلا نعرف بالضبط ما يعود إلى الوالي شخصيا وإلى شرطته وما يعود إلى القاضي ومحكمته. يبدو ـ وقد ذكرنا ذلك من قبل ـ أنّ للوالي تعود القضايا السياسية ولو أنّ ما يجري في هذا الميدان الحسّاس لا يمسّ أبدا بالعدالة فهي أحكام اعتباطية دون محاكمة وتعود إليه أيضا قضايا الدّماء وغير ذلك من الجرائم ، وللشرطة حقّ سجن المشبوه فيهم.

ويهتمّ القاضي من جهته بالقضايا المدنية من مثل الزّواج والطلاق والميراث وعلى الأرجح يقوم بتطبيق الحدود باستثناء القتل الذي يعود للوالي. ولا توجد في فترتنا هذه أيّة إشارة إلى صلاحيات القاضي بخصوص قضايا السوق التي سيمارسها صاحب السوق والمحتسب لاحقا ، ونفس الشيء بخصوص المظالم. من الأقرب أن وجدت هذه المؤسّسات من زمن المهلّبيين رغم ما تذكره المصادر من أنّ سحنون هو الذي دشّن الحسبة ، لأنّ سحنون في رأينا لم يفعل سوى أن أعطى لهذه المؤسّسة نفسا جديدا وأخضعها لسلطة القاضي (١). ونحن نعلم كذلك أنّ سحنون كان له صاحب مظالم تحت تصرّفه (٢) وأنه عبّر عن طموحه في الاستيلاء على جانب من حقل القضاء الاستثنائي التابع عادة للأمير من مثل مجال السياسة ومجال الدماء وهذا تحت غطاء مدّ كبير لمهامّه القضائية العادية (٣) وبارتباط كلّ ذلك بهالته الشخصية إذ غدا الفقيه المشرّع هو القاضي المنفّذ وهي وضعية جديدة تماما.

لقد كان اللّقب الصحيح لقاضي القيروان هو" قاضي إفريقية" ما دام لم يوجد بعد في المغرب الإسلامي لقب" قاضي الجماعة" الذي يقول عنه النّباهي إنه لقب جديد لم يوجد في الماضي (٤). ونصّب عدد من القضاة المحلّيين في مراكز الكور ، وكان يتمّ تعيينهم من طرف العمّال

__________________

(١) رياض النفوس ، ص ٢٧٩.

(٢) طبقات ، ص ١.

(٣) رياض ، ص ٢٧٦ و ٨٢ ـ ٢٨١.

(٤) النباهي ، تاريخ ... ، ص ٢١.

١٢٣

المحليين (١) لكنّهم يقعون تحت رقابة قاضي إفريقية وهم مجبرون على تطبيق أوامره وأحكامه (٢).

وتوفّر لنا المصادر إشارات متفرّقة عن كيفية ممارسة القضاء في القيروان. فكان القاضي يقضي في الجامع الأكبر (٣) ، إلّا أنه قد يجلس للقضاء في بيته وهو ما لا يحبّذه الفقه والفقهاء (٤). وله خاتم شخصي تحت تصرّفه يختم به أحكامه (٥) ، وديوان أي سجلّ يرجع إليه وتسجّل فيه القضايا والأحكام (٦) ، وأعوان للتنفيذ وكتبة (٧) ، هذا على الأقلّ في آخر فترة الولاة وفي عهد هارون الرشيد حيث انتظمت المؤسّسة القضائية واشتدّ عودها في المركز والولايات.

هل كان القاضي يتقاضى راتبا أو مكافأة من الإدارة على عمله هذا؟ الأقرب أنّ الأمر كان كذلك سواء بالنسبة لشخصه أو بالنسبة لموظّفيه ، لأنّ منصبه كان منصبا إداريا متّصلا بالسلطة وأساسيا بالنسبة للمجتمع ، ولأنّ كلّ من يقوم بدوره في المجتمع بما في ذلك الجندي يتقاضى عطاء. ونظرا لمهمّته العليا ، لا بدّ أنّ الوالي كان يغدق عليه هبات (٨) ، وكان يأخذ هدايا من متقاضيه.

ومن الصّعب في هذه الفترة أن نعرف مدى استقلالية القاضي عن الجهاز الإداري ، فقد حصلت تغيّرات بين خلافة عبد الملك وخلافة الرّشيد واشتدّ عود العامل الديني وتكوّنت الشريعة شيئا فشيئا ، وعلى كلّ

__________________

(١) هذا ثابت في العهد الأغلبي : Vonderheyden ,Berberie ,op ,cit.,p.٨٢٢. في فترات لاحقة ، نرى أن قضاة إفريقية يعيّنون القضاة المحلّيين ، لكنّ الأمير يتدخّل في بعض الأحيان في التّسميات : هوبكنز ، م. س ، ص ١٢٤.

(٢) المدوّنة ، ج ١٢ ، ص ١٤٦.

(٣) أبو العرب ، طبقات ، ص ٣٣ ؛ المالكي ، رياض ، ص ١١١.

(٤) المدوّنة ، ج ١٢ ، ص ١٤٤.

(٥) المالكي ، رياض ، ص ١٠٠.

(٦) أبو العرب ، طبقات ، ص ٣٤.

(٧) المدوّنة ، ج ١٢ ، ص ١٤٦.

(٨) المالكي ، رياض ، ص ١٠٠ ، يؤكّد أنّ عبد الرحمان بن زياد لم يكن يقبل الهدايا.

١٢٤

الاستقلالية متوقّفة كثيرا على شخصية صاحب اللّقب. غير أنّه ومهما كان الأمر فإنّ القاضي معتبر كموظّف سام للسلطة ويعيّنه صاحب الحكم السياسي ، فهو مرتبط شاء أم أبي بالنّظام القائم. رغم ذلك فإنّ قامته أكبر لأنّ الوظيفة العدلية تفترض الموضوعية والتّسامي عن الضغوطات وقدرا من النزاهة ، وهي مرتبطة في الحضارة الإسلامية بسلطة الدّين أي القرآن ثم السنّة والفقه أي بالمركّب دين / علم. ولكلّ ذلك هيبة واحترام في نفوس النّاس.

ولذا ، قد يحدث أن يفوّض له الأمير صلاحياته ، كما يحدث في فترات الاضطراب والفتنة أن يفرض سلطته على الجميع وفي حالة شغور الحكم أن يظهر بمظهر زعيم الجماعة والمدافع عن حرمتها ، كما فعل ذلك أبو كريب في سنة ١٣٩ ـ ١٤٠ ه‍ حيث أخذ قيادة المعركة ضد الخوارج على أبواب القيروان (١).

إنّ وجود مثل هذا التقليد السياسي والعسكري ضمن القضاء الإفريقي يعود في جانب كبير منه إلى وعي حادّ عند هؤلاء بكونهم يتقمّصون سلطة روحية انبنت شيئا فشيئا. وهذا ما يفسّر الدّور الذي قام به بعد ذلك أسد بن الفرات ، وهذا الدّور يطبع القضاء الإفريقي بصفة خاصّة وأكثر ممّا يجري عليه ذلك في الشرق. ودون شك ، كان القضاة في القرن الثاني منخرطين في سلك العلم ومؤتمنين على ومنفّذين للشريعة الإلهية.

وهكذا نتصوّر بسهولة أنّهم تأثّروا بتيار الزّهد والورع الذي نحت الحساسية الدينية لزمانهم وفيما بعد زمانهم وأنه وجد نزوع ، هنا كما في الشرق ، إلى الهروب من القضاء إمّا تورّعا من الاختلاط بدنس السّلطة وإمّا كموقف خاصّ بفئة اجتماعية تصبو إلى زرع الهيبة في صدور الشّعب. وترسّخت هذه النزعة في العهد الأغلبي ، لكنّ جذورها كانت موجودة من قبل. ولقد مثّل فعلا ابن فرّوخ بامتياز هذا الموقف الإسلامي

__________________

(١) المالكي ، رياض ، ص ١٠٧ ـ ١١٠ : قاوم عاصم بن جميل.

١٢٥

في الفترة التي نبحثها (١). فكتب المناقب أخرجت لنا إخراجا مشاهد من هذا الموقف مفصّلة ، لكنّ المادّة التاريخية الموجودة متأخّرة على الأرجح ووقع إسقاطها على الماضي ، إلّا أنها تحوي جانبا كبيرا من الصحة.

لم يحفظ لنا أي شيء عن أحكام القضاة (Jurisprudence) الإفريقيين في العهد الأموي ، لكن إذا اتّبعنا نظرية شاخت ، لا بدّ أنهم كانوا يعتمدون على القرآن في أسس التشريع ، إنّما القرآن لا يجيب على كلّ المسائل التفصيلية التي تطرأ على الدّوام. ومن الممكن أنهم اتّبعوا إلى حدّ ما القانون الرّوماني (٢) الذي كان طاغيا على إفريقية قبل الفتح كما حصل في الشام وفي بيروت على الخصوص (٣). ولا بدّ أيضا أنهم اجتهدوا واستنبطوا أحكاما وأنّ هذه الأحكام صارت تراثا مشتركا ، لكن لم يحدث في إفريقية أنّ هذه الأحكام غدت قاعدة للحديث أو للتشريع الفقهي. لقد تمّ هذا العمل في الكوفة وحدها حسب شاخت وفي رأينا في المدينة أيضا حيث دور الفقهاء السبعة والدور الأساسي لعمل أهل المدينة لدى مالك.

وهكذا بعد أن تمّ تكوين المذهبين الأوّلين ـ الحنفي والمالكي (٤) ـ الأكثر اتّصالا بالأصول الأوّلية للتقنين ، وقبل أن يطغى الحديث على الفقه ويبتلعه ، تقبّل الإفريقيون الحلول الشرقية للقانون ، كما تقبّل البربر الفكر الخارجي البصري ، أوّلا الفقه العراقي وثانيا فقه مالك وأخيرا حلول سفيان الثّوري.

ولقد كان أسد بن الفرات حنفيا مالكيا ، كما أنّ الأغالبة الأوائل

__________________

(١) أبو العرب ، طبقات ، ص ٣٥ ؛ المالكي ، رياض ص ١١٨ ؛ هوبكنز ، م. س ، ص ١١٥ ١١٦.

(٢) P. Crone, Roman, provincial; J. Schacht, The Origins ـ ـ ـ , op. cit., and Int. to Islamic Law, op. cit.

(٣) بيروت كانت قاعدة لإنتاج القانون الروماني ، وتمادى هذا التقليد في الإسلام حيث هناك برز الأوزاعي.

(٤) شاخت لا يسمّيها مذاهب ، حيث هذا المفهوم برز فيما بعد وإنّما المدرستين القديمتين معارضة بالشافعية والحنبلية : The Origins ـ ـ ـ.

١٢٦

شجعوا المذهب العراقي لقربه من الخليفة العبّاسي. لكن في فترتنا هذه ـ أي إلى حدود ١٨٤ ه‍. ـ لم يأخذ هذا المذهب أو بالأحرى هذه المدرسة شكله النهائي وكان بصدد التكوين مع أبي يوسف وبالخصوص مع الشّيباني وهما من تلاميذ أبي حنيفة ومالك في آن واحد ، لكنّ" الأسدية" وهي سابقة عن المدوّنة اعتمدت عليهما. وكان مالك يدرّس في تلك الفترة ـ توفي ١٧٩ ه‍. ـ وانبثّ تلاميذه في مصر من أمثال ابن القاسم واللّيث بن سعد ، وقد بقيا وفيّين لشيخهما خلافا للشّافعي الذي رحل إلى مصر هو أيضا فكوّن مدرسة.

وقد كان تأثير مصر كبيرا في تقبّل المذهب المالكي في إفريقية ، لما للبلدين من علاقات وطيدة منذ الفتح وبسبب القرب الجغرافي. ويروي النّباهي أنّ ابن غانم كان يرسل أسئلة إلى مالك بخصوص المشاكل الفقهية الشائكة ، وكان هذا يجيب عن طريق ابن كنانة (١). وهكذا يبدو المغرب تابعا للشرق المركزي (٢) الذي أفرز المدارس الفقهية ، مثله في ذلك كمثل كلّ ولايات الأطراف بما في ذلك مصر وخراسان.

لكنّ المصادر لم تحتفظ لنا بمحتوى الأحكام القضائية لا في الفترة الأموية كما ذكرنا ولا في الفترة العبّاسية. فوكيع بن خلف ، صاحب كتاب أخبار القضاة لا يذكر شيئا عن إفريقية. حتى في العهد الأغلبي ، حيث راجت المذاهب واستوعبت ، لسنا ندري هل أنّ المدوّنة كانت في عرضها المطوّل للمسائل الممكنة ـ وحتى الخيالية على الأغلب ـ كانت تستعرض مشاكل واقعية طرحت نفسها على القضاة السابقين. وكلّ ما يذكر عن سيرة سحنون هي مواقف من السلطة والقوّاد ـ أي مناقب ـ

__________________

(١) النباهي ، تاريخ ... ، ص ٢٥. لا ننسى أيضا أنّ مدرسة مالك راجت في الأندلس اعتمادا على تأثير الإفريقيين والمصريين من ورائهم. والأثر الكبير في الفقه المالكي هو واضحة ابن حبيب.

(٢) يبدو ذلك بوضوح في كتب الطبقات المغربية : مثلا أبو العرب ، طبقات ، ص ٣٤ ـ ٣٧ ؛ والمالكي ، رياض ، ص ١١٥. ولا يذكر وكيع في أخبار القضاة ، القاهرة ١٩٥٠ ، شيئا عن إسهام قضاة إفريقية في إبداع القانون.

١٢٧

وليست أحكامه القضائية ؛ والمسألة في الحقيقة تستحقّ الاستقصاء والبحث المعمّق.

بخصوص أسماء القضاة وتواريخهم ، ليست لدينا أيّة قائمة جاهزة من المصادر ، إنّما يمكن تلافي هذا النقص بالاعتماد على كتب التراجم. لقد ذكر هوبكنز بعض الأسماء وسنحاول إنجاز قائمة مكتملة.

قائمة قضاة إفريقية

أبو الجهم عبد الرحمان بن رافع التنوخي : تولّى سنة ٨٤ ، توفي ١١٣ (١).

عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة (٢) : ١٠٠ ـ ١٢٣ ه‍.

عبد الرحمان بن عقبة الغفاري (٣) : ١٢٣ ـ ١٢٩ ه‍.

عبد الرحمان بن زياد (٤) : ١٢٩ ـ ١٣٢ ه‍.

أبو كريب (٥) : ١٣٢ ـ ١٣٩ ه‍.

عبد الرحمان بن زياد (٦) : (للمرّة الثانية) : ١٤٤ ـ ١٥٥ ه‍.

ماتع بن عبد الرحمان الرّعيني (٧) : ١٥٥ ـ؟ ه.

يزيد بن الطّفيل (٨) :؟ ـ ١٧١ ه‍.

ابن فرّوخ (٩) : ١٧١ ـ ١٧١ ه‍.

__________________

(١) يقول المالكي ، رياض ، ص ٧٢ ، إنّ موسى بن نصير هو الذي عيّنه في سنة ٨٠ ويتبعه هوبكنز في تورخته : Medieval ، ص ١١٦. لكنّا لا نقبل بتولية موسى على إفريقية والمغرب قبل سنة ٨٤. فتاريخ ٨٠ ه‍. مغلوط إذن.

(٢) المالكي ، رياض ، ص ٨١. عوّض في سنة ١٢٣ عند مجيء كلثوم بن عياض.

(٣) م. ن ، ص ٨٢.

(٤) م. ن ، ص ١٠١ ـ ١٠٢.

(٥) م. ن ، ص ١٠١ ، ١٠٧ و ١١٠.

(٦) أبو العرب ، طبقات ، ص ٣٢ ؛ المالكي ، رياض ، ص ١٠٢.

(٧) الخشني ، نشرة بن شنب ، الجزائر ١٩١٤ ، ص ٢٣٤ ؛ المالكي ، رياض ، ص ١٠١.

(٨) أبو العرب ، ص ٣٣ ؛ المالكي ، رياض ، ص ١٠١ و ١١١.

(٩) أبو العرب ، طبقات ، ص ٣٥ ؛ الخشني ، م. س ، ص ٢٣٥ ؛ المالكي ، رياض ، ص ١١٤ و ١١٨ ؛ النّباهي ، تاريخ ... ، ص ٢٥.

١٢٨

ـ عبد الله بن غانم (١) : ١٧١ ـ ١٩٠ ه‍.

قاضي الجند

أبو سعيد جعثل بن هاعان (٢) : ١٠٥ ـ ١١٥ ه‍.

خاتمة

إنّ الفتح العربي كان الحدث الأصلي الذي حرّك تحوّل إفريقية والمغرب من مصير تاريخي إلى مصير تاريخي آخر. وفترة الولاة أو الأمراء وهي في الحقيقة فترة اندماج المغرب في الإمبراطورية الإسلامية ، هي التي غرست في الواقع هذا التحوّل مدّة قرن كامل (٨٤ ـ ١٨٤ ه‍) ووضعت له أسسه.

ويتّضح هكذا أنّ دراسة المؤسّسات هامّة جدا لأنها كانت إطار الفعالية الإسلامية والنظام الإسلامي الذي كان نظام دولة. وقد أهمل المستشرقون هذه الفترة إمّا بسبب شحّ المصادر وإمّا لأنهم أكّدوا على استمرارية الهياكل السابقة للإسلام كما فعلوا في الشرق. ولقد وضّحنا في هذا الباب التفوق الساحق للمؤسّسات العربية على الموروث البيزنطي.

أمّا عن تأثير الشرق فكثيرا ما وقع الإلحاح على ذلك من طرف المدرسة الفرنسية. والحقيقة أنّه لم يوجد شرق ولا غرب أو قليلا ما وجد بالمعنى الجغرافي ، إنّما مركز دار الإسلام كان في المدينة ثم في الشام ثم في العراق وليس بصفته شرقا.

__________________

(١) أبو العرب ، طبقات ، ص ٤٣ ؛ الخشني ، م. س ، ص ٢٣٥ ، وهو إذ يأتي على تورخة ١٧١ ه‍ ، يخطئ في نظام تتالي القضاة ؛ المالكي ، ص ١٤٧ ؛ النباهي ، ص ٢٥. الذي يدقّق أنه مات قاضيا ، لكنّه يخطئ في التورخة حيث يذكر سنة ١٧٩ ه‍.

(٢) عيّنه هشام بن عبد الملك : رياض ، ص ٧٥. أمّا تاريخ وفاته ، ١١٥ ه‍ ، فنجده في معالم الإيمان ، ج ١ ، ص ١٥٤. من الأرجح أنّ اسمه كان جعيل ، مثل الشاعر ، وأنّ اسم جعثل أتى من خطأ للنّاسخ. وزيادة على هؤلاء القضاة التّسعة في فترتنا ، يذكر كتاب معالم الإيمان ، اسم قاض عاشر هو أبو علقمة ، مولى ابن عبّاس ، ج ١ ، ص ١٦٣. وهذه المعلومة منفردة وغير مؤرّخة ، كما أنّ منصب القضاء لم يكن ليسند إلى الموالي في القرن الأوّل.

١٢٩

والمؤسّسات الإسلامية أوجدت هناك وتأثّرت في فترة أولى بالموروث الفارسي والبيزنطي ثم تحرّرت منها بدءا من عبد الملك (٦٥ ـ ٨٦ ه‍). وهي التي انتقلت إلى المغرب وشهدت فيه نفس التطوّر بإيعاز من المركز أي في سبيل التحرّر وكسب الاستقلالية عن الموروث البيزنطي. وهذا الموروث يصعب تقييمه ولا نعرف أين يبتدأ وأين ينتهي بالضبط. بخصوص الدواوين والموظّفين المعتمدين فيها وتقنيات الإدارة وضرب النقود واستعمال اللاتينية ، وقع اعتماد هذا الإرث لمدّة ربع قرن ثم حصل تجاوزه وإلغاؤه. أمّا بخصوص المنشآت العسكرية والإدارية ، فقد وقع دمج أو تركيب ، فاعتبر التقسيم البيزنطي إلى حدّ ما لكنّ العرب أدخلوا تصوّرهم الخاصّ لهياكل المغرب وطغى هذا التصوّر فأوجدت تقسيمات جديدة للمعطى الجغرافي.

إنّ الحضور العربي اخترق أكثر بكثير من الحضور الرّوماني الأرض المغربية. وبالمعنى المؤسّساتي ، كان المغرب كلّه والأندلس خاضعا لسلطة والي القيروان ، فهذه المدينة الجديدة العربية المحضة باتت عاصمة مجال واسع جدا لفترة معيّنة على الأقلّ. من هنا جاءت أهمية الولاية بالنسبة إلى سلطان الخليفة على الرّغم من بعدها. وداخل هذا المجال ـ وقد رأينا ذلك ـ كانت إفريقية بجناحيها طرابلس والزّاب قلب الحكم الإسلامي والحضور العربي.

وهذا ما يفسّر الانشطار ـ ولو داخل الإسلام ـ وبروز سجلماسة والأدارسة والأمويين ، وفي نفس الوقت بقاء إفريقية وفيّة للخلافة حتى في دائرة استقلالها مع الأغالبة. لقد كانت لها إمكانات حضرية واقتصادية ولها تاريخ ، إنّما هيّأت هذه الفترة لتكوين الإمارة الأغلبية وأصبحت إفريقية قاعدة لتكوّن دول في المستقبل ، لأنها كانت أرض السلطة دون منازع.

إنّ فترتنا كانت عهد إمارة اتّضحت أكثر فأكثر مع آخر العهد العبّاسي حيث برز شكل من الاستقلالية. بل إنّ إفريقية صارت البلد الحامل لإمارات متتالية تتأرجح بين التبعية والاستقلال المقيّد.

١٣٠

قائمة ولاة إفريقية والمغرب

معاوية بن حديج : ٤٥ ـ ٥٠ ه‍.

عقبة بن نافع الفهري : ٥٠ ـ ٥٥ ه‍.

أبو المهاجر دينار وفوقه مسلمة بن مخلّد أمير مصر والمغرب كلّه : ٥٥ ـ ٦٢ ه‍.

عقبة بن نافع (للمرّة الثانية) : ٦٢ ـ ٦٤ ه‍.

زهير بن قيس البلوي : ٦٩ ـ ٧٦ ه‍؟

حسّان بن النّعمان : ٧٨ ـ ٨٤ ه‍.

موسى بن نصير : ٨٤ ـ ٩٦ ه‍.

محمّد بن يزيد : ٩٧ ـ ١٠٠ ه‍.

إسماعيل بن أبي المهاجر : ١٠٠ ـ ١٠٢ ه‍.

يزيد بن أبي مسلم : ١٠٢ ـ ١٠٣ ه‍.

بشر بن صفوان : ١٠٣ ـ ١٠٩ ه‍.

عبيدة بن عبد الرحمان السّلمي : ١١٠ ـ ١١٤ ه‍.

عبيد الله بن الحبحاب : ١١٦ ـ ١٢٣ ه‍.

كلثوم بن عياض : ١٢٣ ـ ١٢٣ ه‍.

حنظلة بن صفوان : ١٢٣ ـ ١٢٩ ه‍.

عبد الرحمان بن حبيب : ١٢٩ ـ ١٣٧ ه‍.

فترة اضطراب : ١٣٧ ـ ١٤٤ ه‍.

محمد بن الأشعث الخزاعي : ١٤٤ ـ ١٤٨ ه‍.

الأغلب بن سالم التميمي : ١٤٨ ـ ١٥١ ه‍.

عمرو بن حفص بن قبيصة : ١٥١ ـ ١٥٤ ه‍.

١٣١

ـ يزيد بن حاتم المهلّبي : ١٥٤ ـ ١٧١ ه‍.

روح بن حاتم المهلّبي : ١٧١ ـ ١٧٤ ه‍.

نصر بن حبيب المهلبي : ١٧٤ ـ ١٧٧ ه‍.

الفضل بن روح بن حاتم : ١٧٧ ـ ١٧٨ ه‍.

هرثمة بن أعين : ١٧٨ ـ ١٨١ ه‍.

محمد بن مقاتل العكّي : ١٨١ ـ ١٨٤ ه‍.

١٣٢

III

الحياة الاقتصادية والاجتماعية

في إفريقية العربية

القرن الثاني هجري

١٣٣
١٣٤

نعلم أن المدرسة الاستشراقية الفرنسية ، قد اهتمت أساسا وإلى عهد قريب بالمجال المغربي. ونحن نعرف أعمال كلّ من جورج مارسي G.Marcais ، وروبير برانشفيك R.Brunshvig ، وروجي لوتورنوR.Le Tourneau ، وهي أعمال تواصلت مع أبحاث جيل جديد من المستعربين سواء كانوا فرنسيين أو تونسيين من ذوي الثقافة الفرنسية.

فنتج عن ذلك ، في أيامنا هذه التغطية الكاملة تقريبا للعهد الإسلامي العربي البربري من تاريخ إفريقية عن طريق الأبحاث. غير أنه إذا ما وقع درس الفتح العربي نفسه من قبل المصريين ، فإن فترة التحولات والتنظيم التي تلت الفتح بقيت معتّمة ، لذلك أردنا هنا إكمال هذا النقص مع الإحالة على تحاليل منشورة في مواضع أخرى للحصول على أوسع تفاصيل.

إنّ ما يثير الاهتمام في الفتح العربي للمغرب ، أنه كان طويلا ، مضنيا وصعبا. هنا ـ على خلاف المشرق ـ حصل انهيار الهيمنة البيزنطية من الوهلة الأولى ، غير أنّ هذا لم يؤدّ إلى الخضوع المباشر للبلاد. لقد قاومت بالفعل القوى المحليّة المنظمة بطريقة جيدة ، طويلا وبضراوة.

ومع ذلك تبنّى جميع البربر تقريبا العقيدة الجديدة ، وحدث أن قاوموا الهيمنة العربية من داخل الإطار الإيديولوجي الإسلامي. وهكذا يمكن القول إنّ تراجيديا الفتح واستقرار الإسلام بالقوّة ولّدا العالم البربري في اتّجاه مصيره التاريخي.

لقد كان الصانع الحقيقي لفتح إفريقية هو حسّان بن النعمان (٧٦ ـ ٨٤ ه‍). غير أنّ إتمام الفتح تطلّب سنتين كاملتين من خليفته موسى بن نصير. فخرجت إفريقية في سنة ٨٦ ه‍ ، من عهد الفتح المضطرب والبطولي لتدخل في طور التنظيم الذي اصطلح على تسميته ب «قرن

١٣٥

الولاة» ، وقد تزامن هذا التحول الفعلي مع تغيّر الوضع القانوني تدقيقا.

سواء كانت إفريقية مجرّد مجال لخوض الجهاد ، أو متمتّعة بالوضع القانوني لولاية بواليها ومدينتها ـ المعسكر انطلاقا من ٥٥ ه‍ ، فإنها كانت في كل الأحوال تابعة لولاية مصر.

لقد كان والي الفسطاط هو الذي يعيّن ويخلع ولاة القيروان ، وإليه يعود حقّ النظر في مسيرة جيش الفتح ، وكان هذا الأمر يتمّ بمساعداته المالية وجنوده (١). وكان هذا الخضوع يثقل كاهل إفريقية خاصّة وأن والي مصر عبد العزيز بن مروان المشدود بأهمية الغنيمة كان يفعل كل شيء من أجل الزيادة في الضرائب. ومن هنا حدث الصّراع بينه وبين حسّان مما أدى إلى خلع هذا الأخير. ولم يكن موسى سوى صنيعة عبد العزيز فكانت أفعاله الأولى مرآة لشدة طاعته (٢).

غير أن طبيعة الأمور ، فرضت أن تحلّق إفريقية بأجنحتها الخاصّة إذ توفي عبد العزيز بعد قليل (٨٦ ه‍ / ٧٠٥ م) ، فلم يتردد موسى لحظة في توجيه البريد مباشرة إلى الخليفة في دمشق ، ومن فوق والي الفسطاط الجديد عبد الله بن الخليفة عبد الملك نفسه الذي احتج ولكن دون جدوى. هكذا أخذت إفريقية مكانها كولاية تابعة مباشرة للخلافة ، فتحصّلت في الجملة على الوضع القانوني لولاية مكتملة. أصبحت لها ـ بقوة القانون ـ رتبة موازية لبقيّة ولايات الإمبراطورية بما فيها مصر (٣).

ما هو أهمّ أن نواتها الأصلية (تونس ، منطقة طرابلس وبلاد الزاب) كانت تتسع بلا انقطاع على حساب المغربين الأوسط والأقصى.

وهكذا أصبح لدينا في حدود ١٢٣ ه‍ «ولاية إفريقية الكبيرة» التي كان مركزها القيروان حيث تتّخذ القرارات ، غير أنها سريعا ، وانطلاقا من

__________________

(١) انظر دراستنا في : Studia Islamica ,XXVIII ,pp.٧٧ ـ ٧٠١ ، وخاصة ص ٧٨ ـ ٨١.

(٢) ابن عبد الحكم ، فتوح ، م. س ، ص ٢١٤ ؛ الكندي ، ولاة مصر ، م. س ، ص ٧٤ ؛ ابن عساكر ، تاريخ ، ج ٤ ، م. س ، ص ١٤٦ ـ ١٤٧.

(٣) الكندي ، ولاة ، ص ٨١ و ٨٢.

١٣٦

الثورات الخارجية ، بدأت تتفكّك إلى أن أصبحت لا تضم سوى جناحها الشرقي. وبالتدرج ، نشأت الممالك الخارجية لبورغواطة (١٢٤) ، وسجلماسة (١٤٠) ، وتاهرت (١٦١) ، وأخيرا وفي سنة ١٧٢ ه‍ ، برزت المملكة الإدريسية في المغرب الأقصى. وفضلا عن ذلك وانطلاقا من ١٢٩ ه‍ ، خرجت إسبانيا نهائيا عن سلطة القيروان لتنخرط في مصير مستقل عن الخلافة ذاتها. يعني أن النّواة الوفيّة والقارّة كانت إفريقية بالمعنى الدقيق ، إذ كانت أرض السلطة العربية دون منازع.

تنظيم إفريقية العربية

ملخص ما سبق

حصلت إفريقية على مؤسسات عربية بحتة ، لم تتأثر إلّا قليلا بالمؤسسات البيزنطية المتواجدة من قبل.

النظام السياسي

يمثل الوالي الأساس الذي انبنى عليه النظام العربي : فهو ممثل الخليفة الذي يجمع بين كل عناصر السّيادة ، لأنه قائد الجيش ، وإمام الصلاة ، ورئيس الإدارة. ويمسك بيديه القضاء الرّدعي والجنائي. وعلى خلاف ما حدث في إفريقية زمن البيزنطيين ، وما حدث في نفس الفترة في مصر الإسلامية ، لم يوجد انقسام بين حاكم عسكري سياسي ، وآخر إداري وجبائي. بدون شك ، وبحكم ابتعادها لم يكن لإفريقية سوى وال واحد تعود إليه كلّ السلطة السياسية ، وهو يسكن في القيروان في قصر الحاكم أو قصر الإمارة ، وهو الذي مكّنت الحفريات الحالية من تحديد موقعه على الجانب الجنوبي الشرقي للمسجد.

وكان يحيط بالقصر حرس خاصّ ، تكوّن لفترة من البربر البتر النصيريين ، ثم من حلفاء الولاة المتتالين ومواليهم. وقد كانت تنقلاتهم محاطة بنوع من الأبهة ، التي لم تكن تضاهي بالرّغم من ذلك أبّهة البطارقة

١٣٧

الشرقيين القدامى ، أو حتى أبّهة قوّاد المعسكرات الرومانية ، لأننا لا زلنا في فترة تسودها بساطة العرب البدائية.

لقد عرفت إفريقية اثنين وعشرين واليا منهم من كانوا ولاة كبارا مثل موسى بن نصير (٨٤ ـ ٩٦) ، وحنظلة بن صفوان (١٢٤ ـ ١٢٩) ، وعبد الرحمان بن حبيب (١٢٩ ـ ١٣٧) ، وخاصّة المهلّبي يزيد بن حاتم (١٥٥ ـ ١٧٠) الذي أقام عهد سلم وإصلاح.

وفي العهد الأموي ، كان يقع اختيار الولاة عادة من بين الموالي (١) ، أي من صنف اجتماعي متدن ، وعلى العكس من ذلك ، تداول في العهد العبّاسي المهلّبيون لأكثر من ربع قرن على القيروان (١٥١ ـ ١٧٨) ، وقد كانوا من كبار الأشراف المؤثّرين. ويمكن أن تقول نفس الشيء بالنسبة إلى ابن الأشعث (١٤٤ ـ ١٤٥) ، وهرثمة بن أعين (١٧٩ ـ ١٨٠). ومهما يكن من أمر ، فقد كان لإفريقية ولمرّات متعدّدة ، ولاة من كبار أعيان الدولة من الذين سبق لهم أن مارسوا وظائف عليا في المشرق ، وهو ما يؤكّد اهتمام الخلفاء بإفريقية التي كانت تضاهي في أعينهم أحسن ولايات الإمبراطورية (٢). وفي حين أنه من النّادر أن يصل عربي من أصل إفريقي إلى رتبة وال ، إذ كان إسماعيل بن أبي المهاجر (١٠٠ ـ ١٠١) استثناء ، وإذا استطاع الفهريون السيطرة على السلطة لفترة تفوق عشر سنوات (١٢٩ ـ ١٤٠) ، وتأسيس سلالة مستقلة فعليا ، فلأنهم كانوا ـ بالتدقيق ـ مغتصبين ، استغلوا أزمة الدولة الإسلامية العامة ، وقد انتهت تجربتهم الاستقلالية بالفشل ، لذلك لا بدّ من انتظار نصف قرن آخر لتحلّق إفريقية بأجنحتها الخاصة بقيادة إبراهيم بن الأغلب (١٨٤ ه‍ / ٨٠٠ م).

__________________

(١) البيان ، ج ١ ، ص ٢١ ، ٢٢ ، ٤٧ و ٥١.

(٢) سيّر يزيد بن أبي مسلم زمن الحجّاج ديوان الرسائل ، الجهشياري ، وزراء ، ص ٤٢ ؛ وأدار عمرو بن حفص وظائف مهمّة في المشرق ؛ البلاذري ، فتوح ، ص ٢٣٤ ؛ وأخيرا كان هرثمة واحدا من كبار أعيان بلاط بغداد وكبار قوّاده العسكريين ، وزراء ، ص ٢٠٧.

١٣٨

التنظيم العسكري

كان جيش إفريقية يتكوّن في الأصل من جنود مصريين أي من عرب مصر ، ثم انفتح مع حسّان وموسى على البربر الذين تجنّدت من بينهم وحدات عسكرية إضافية (١) ؛ وبمجيء العبّاسيين ، تغيّرت التركيبة العرقية للجيش كثيرا ، إذ رافق ابن الأشعث سنة ١٤٤ ه‍ ، ٤٠ ألف رجل ، وفي سنة ١٥٥ ه‍ ، وصل ما بين ٥٠ و ٦٠ ألف رجل مع يزيد بن حاتم (٢). وقد احتوت هذه الجموع البشرية الجديدة على نسبة مهمّة من العرب ، غير أنّ الأغلبية الساحقة منها كانت تتكوّن من الخراسانيين. لقد وقع تسريح الجيش الأموي القديم على الأرجح فاستقرّ الجنود القدامى على الأرض في الشمال والشمال الشرقي للبلاد ، في الوقت الذي تدربت خلاله الجيوش الجديدة ، الأمر الذي أدّى في نهاية فترتنا إلى تتالي التمرّدات العسكرية أكثر فأكثر.

خضع التنظيم العسكري إلى التصوّر الإسلامي الكلاسيكي ، إذ كان الجنود يتقاضون أجورهم عن طريق العطايا (٣) ، التي كانت تدفع إليهم بطريقة منتظمة تقريبا ، ويقدّر معدّلها بألف درهم بالنسبة إلى الفارس و ٥٠٠ بالنسبة إلى الراجل. وكان يشرف على توزيعها «عرفاء» (٤) في المستوى الصغير ، وقوّاد وحدات التعبئة ، الذين كان عددهم ـ على الأرجح ـ سبعة في العهد الأموي. وكان باستطاعة عمّال المقاطعات قيادة الفصائل المحليّة (٥) ، غير أن في الجملة كان للجيش قيادته الخاصة ، ورؤساء حامياته وقوّاده.

وقد كان هؤلاء يجنّدون في العهد الأموي من الأرستقراطية المحلية

__________________

(١) ابن عبد الحكم ، فتوح ، م. س ، ص ٢٧٢ ؛ البيان ، ص ٣٨ ؛ ابن الرّقيق ، تاريخ ، ص ٦٤ ؛ معالم الإيمان ، ج ١ ، ص ٦١.

(٢) ابن الأثير ، الكامل ، ص ٣٣.

(٣) فتوح ، ص ٢٨٨ ؛ ابن الرّقيق ، تاريخ ، فوليو ٢٣ وص ١١٩ بالنسبة إلى طبعة تونس ؛ البيان ، ص ٥٨ ؛ رياض ، ص ١٢٢.

(٤) ابن الرّقيق ، تاريخ ، ص ١١٩.

(٥) مثال سليمان بن زياد عامل طبرقة ، البيان ، ص ٦٨.

١٣٩

في حين كان الجيش يتكوّن من عرب إفريقية الأقوياء البنية ، مثل حبيب بن أبي عبدة أو عبيدة ، وابنه عبد الرحمان ، وخالد بن أبي حبيب وكان جميعهم فهريين. وفي العهد العباسي كان قوّاد الجيش محترفين يختارهم ضبّاط الوحدات الجديدة القادمين من المشرق مثل أبو العنبر ، وابن الجارود ، وتمام بن تميم وإبراهيم بن الأغلب.

استعمل جيش إفريقية خاصة في ردع الفوضى الداخلية ، ولكنه شارك أيضا في غارات على صقلية (١) وسردانيا ، وهي غزوات تهدف إلى جمع الغنيمة والأسرى ، أكثر منها عمليات عسكرية بتحديد المعنى.

لقد كانت إفريقية تتمتّع ، بفضل دار صناعة تونس بأسطول تفرض عن طريقه هيمنتها البحرية على المتوسط الغربي الذي تحوّل إلى" بحيرة إسلامية".

أمّا بالنسبة إلى الجيش في الجهات ، فإن مدينة القيروان وبحكم اعتبارها متخصّصة كحامية ومعسكر ، قد نجحت في المحافظة على دورها كأهم مركز للتجمّع على الأقل حتى اندلاع الانتفاضات الخارجية (١٢٢ ـ ١٢٣ ه‍) (٢).

غير أنه وبسرعة ، تأكّد دور تونس التي أصبحت تنافس القيروان لأنها غدت نقطة الانطلاق للتمرّدات العسكرية (٣). ثم في آخر فترتنا ، جلبت بلاد الزاب التي كانت تعتبر منطقة عسكرية العديد من الجنود إلى مختلف حامياتها ، مما أدّى إلى تكوين جيش بلاد الزاب ، الذي استغل الخصومات بين القيروان وتونس وفرض قائده ابن الأغلب كشخصية أولى ثم كوال.

__________________

(١) غارات دورية تترجم مطامع ثابتة ، مثل غارات بشر بن صفوان بين ١٠٣ و ١٠٧ ه‍ ، وحبيب بن عبيدة في ١٢٣ ه‍ : البيان ، ص ٤٩ و ٥٣.

(٢) البيان ، ص ٧٥ و ٨٧ ـ ٨٨.

(٣) فتوح ، ص ٣٠٠ ؛ البيان ، ص ٦٠ ؛ النويري في : De Slane ,Berberes ,I ,p.٤٦٣. بالنسبة إلى التمرّدات التي اندلعت في تونس : البيان ، ص ٧٤ ، ٨٦ و ٨٩ ؛ الرّقيق ، ص ١٨٦ ، ١٨٨ و ٢٠٥ ؛ ابن الأبار ، حلّة ، ج ١ ، ص ٧٦ و ٧٧.

١٤٠