تأسيس الغرب الإسلامي

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

مستوى نشاطها تقريبا ، وأخيرا جاءت الإنشاءات الجديدة لتبرز رغبة الفاتحين في القطع مع الماضي ، ووضع بصماتهم على البلاد ، وهذه هي حالة القيروان ، وبصفة أقل تونس عموما. إنّ الحفاظ على شبكة المدن القديمة وتواصلها ، يشهد على النزعة الحضرية للبلاد ، هذه النزعة التي وقع تدعيمها بمجيء العرب.

لقد وقع تقريبا من دون شك ، إخلاء النواة الضخمة القديمة ، أو حتى نهبها وتدميرها ، لتعوض بنواة عربية تقوم على المسجد الجامع والسوق المركزية ؛ غير أنه ليست لدينا المعلومات الأثرية الكافية لنتمثّل التحولات الداخلية التي عرفتها المدن أو لتقدير القوى المحافظة عليها والمجهود التجديدي فيها. في المقابل ، نعرف أكثر قليلا عن القيروان وتونس بوصفهما مصرين عربيين.

في الحالة الأولى والثانية ، وبالنسبة إلى اختيار الموضع والموقع قامت الإرادة البشرية بدور أكبر بكثير من الحتمية الجغرافية التي كانت بالتأكيد غير ملائمة. فيما يتعلق بالقيروان التي وقع اتخاذها معسكرا مؤقتا في شكل مخيمات سريعة الرّفع عند قيام الغارات منذ عهد معاوية بن حديج. ويعود إلى عقبة انطلاقا من سنة ٥٠ ه‍ فضل القيام بعملية التمصير واستقرار الجنود بعائلاتهم في المساكن ، وكذلك التخطيط أو تحديد النّواة العمرانية والخطط الجماعية للقبائل. لقد عرفت المدينة ـ المعسكر هجرة سكانها لصالح منافستها تكروان بين ٥٥ و ٦٢ ه‍ ، ثم في ٦٢ ه‍ ، عاد العرب للاستقرار بها. لا يبدو أن فترة كسيلة قد ألحقت بالقيروان ضررا ما ، لأنّ القائد البربري عند استقراره بها ، أبقى العرب أو البعض منهم فيها.

إنّ الانطلاق الحقيقي لهذه المدينة وقع مع حسّان ، لما فرغ من أمر الفتح ، حيث بنيت وبرز وجهها الحقيقي ، فحسّان أعاد بناء المسجد الجامع وقصر الوالي أساسا. ومنذ ذلك الحين أصبح تاريخ القيروان في تطوّر متواصل أعاقته موجات العنف الخارجية بعض الشيء. وفي عهد

١٦١

هشام بن عبد الملك ، وقع توسيع المسجد ، وترفيع الصومعة.

وفي هذا العهد تمّ إنهاء إقامة السوق المركزية على طول السّماط ، وهو شارع يقسّم المدينة إلى قسمين ، وقع تنظيمها وتخصيصها حسب المهن من قبل يزيد بن حاتم المهلبي. فضلا عن ذلك ، سوف لن يصبح للمدينة سور قبل ولاية ابن الأشعث (١٤٦ ه‍) ـ الذي ومن أجل التصدّي للتهديدات الخارجية ، بنى سورا من لبن كان يفتح على عدّة أبواب (١) وهي باب الرّبيع من الجنوب ، وباب تونس في اتجاه الشمال الذي يحدّ السّماط ، وباب سالم (٢) ، وباب نافع ، وباب أصرم. ولم يمنع كل هذا أبا حاتم الخارجي من دخول القيروان ، لذلك وجب عليه حرق الأبواب وفتح ثغرات في الحيطان ، أمّا ما بقي من هذه التحصينات ، فقد دكّه زيادة الله الأوّل في ٢٠٩ ه‍.

لا يمكن أن تختلف القيروان عن المدن ـ المعسكرات الأخرى التي شيّدها العرب في المشرق. وقد تأثرت في مظهرها على الأخصّ بالفسطاط والبصرة. فكان للمدينة شكل دائري يتوسطه المسجد الجامع ودار الإمارة يلاصق أحدهما الآخر. وانطلاقا من هذه النّواة الرئيسية ، أشعّت السكك والمساجد التي تقسّم مساكن القبائل ، وهي موزّعة بدورها إلى أحياء حضرية أو دروب : كدرب الفهريين ، ودرب بني هاشم ، ودرب يحصب ، ودرب المغيرة ، ودرب أزهر ، ودرب أمّ أيوب ... إلخ.

وتحمل هذه الدروب ـ كما يتراءى لنا ـ اسم إحدى العشائر أو اسم شخصية بارزة (٣). وتجتمع هذه الشوارع في الأماكن المسمّاة رحبة مثل رحبة القرشيين ورحبة الأنصار. ويوجد في كل مكان من أحياء المدينة ، وبشكل مبعثر الأسواق والمساجد. وفي هذا الصّدد تذكر لنا المصادر سوق بني هاشم ، وسوق الأحد ، وسوق اليهود ، ودار الإمارة ، وسوق

__________________

(١) البيان ، ج ١ ، ص ٧٢.

(٢) أبو العرب ، طبقات ، ص ٤٩.

(٣) إشارات متفرّقة في كتب الطبقات وفي البكري ، المسالك والممالك.

١٦٢

الضرب ، أمّا مساجد الأحياء فهي إما مساجد عشائر أو مساجد خاصة تكون امتدادا لدار هذا أو ذلك الشخص. ويعدّ الرّواة سبعة مساجد من هذا النوع يعود جميعها إلى القرن الأول هجري وهي مسجد الأنصار ، ومسجد الزيتونة الذي أسسه إسماعيل بن عبيد الأنصاري المكنّى ب «تاجر الله» لأعماله الخيّرة (٩٣ ه‍) ، ومسجد أبي ميسرة ، ومسجد أبي عبد الرحمان الحبلي في حارة الأزهر (١٠٠ ه‍) ، ومسجد حنش الصنعاني (في باب الرّيح) ، ومسجد علي بن رياح اللخمي وهو مسجد السّبت.

وعلى أطراف المدينة امتدت الجبانات ، وكانت جبّانة باب تونس أو البلوية وجبانة قريش في اتجاه الجنوب الغربي الأكثر ذكرا (١) ، غير أن هذه الجبانات لا يبدو أن كان لها دور أساسي أو عسكري مثلما كان شأنها في العراق.

لقد شغل مشكل المياه العرب ، بحكم قلتها ، ممّا اضطرهم إلى حفر الآبار ، وإنشاء قنوات لجلب الماء ، ومنشآت لتخزينه. وهذا ما جعل موضع المسجد ذاته يتحدّد في علاقة بوجود موضع ماء يتمثل في بئر أم عياض ، ويحدّثنا أصحاب المناقب كذلك عن بئر خديج أو خديج الذي نسبوه دون شكّ بصفة خاطئة إلى معاوية بن حديج.

وبذل الولاة الذين عينهم هشام بن عبد الملك (١٠٥ ـ ١٢٥) ، ما في وسعهم لتشييد مباني حبس المياه من السيلان والخزّانات. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما أورده الجغرافي البكري ، نجد أن خمسة عشر من هذه المواجل (٢) قد تمّ إنشاؤها في ضواحي العاصمة. وقد مكّننا التقاط صورة من الجوّ من الاستدلال على أحدها وهو ماجل سيدي الدّهماني نسبة إلى وليّ مدفون بالقرب منه (٣).

__________________

(١) أبو العرب ، طبقات ، ص ٤٩.

(٢) اليعقوبي ، بلدان ، ص ٢٠٩ ؛ البكري ، المسالك والممالك ، ص ٥٧.

(٣)Solignac,» Installations Hydrauliques de Kairouan et des Steppes Tunisiennes du VII ٠ au XI ٠ Siecle «, Annales de L\'Institut d\'Etudes Orientales d\'Alger, X ـ XI / ٢٥٩١ ـ ٣٥.

.

١٦٣

يتكوّن هذا الخزان من حوضين لهما بعدان مختلفان لكل منهما شكل دائري ، أحدهما مقترن بالآخر ، ويستعمل الأصغر منهما لتصفية المياه ، أمّا الأكبر فيستعمل لخزنها.

لم يوجد في العهد القديم ، ولا في الشرق الإسلامي ، إنجاز شبيه لهذا ، ممّا يجعلنا نعتبره إذن إنشاء خاصّا بإسلام إفريقية بالرّغم من أنه يمكن إدراك بصمات مصر القديمة على هذا الشكل من الفن المعماري المتعلق بالمنشآت المائية.

هكذا يتبيّن أن ولاة الأمويين كانت لهم سياسة مائية واعية وذكية سوف يتابعها ولاة العباسيين مثل هرثمة بن أعين الذي حفر بئر روطة (الذي حرّف برّوطة). وأكثر من هذا حدث مع الأمراء الأغالبة الذين ارتكزوا على عادة مترسّخة فأقاموا بناءاتهم بسهولة. وقد كانت هذه البناءات أكثر فخامة وجاذبية دون أن يكون لها نفس التركيبة ونفس مصدر الإلهام.

لقد كان الفن المعماري في إفريقية إذن في أوج مخاضه خلال القرن الثاني ، باحثا عن ذاته في التأليف بين التأثيرات السورية المصرية والتقاليد القديمة للبلاد. ويمكن أن تشهد صومعة الجامع الكبير على هذا إذا ما ثبت أنها سبقت القرن التاسع ميلادي. خاصّة وأنه إلى جانب ماجل إفريقية الأصلي ، كان الرّباط قد ظهر في آخر الفترة التي تهمّنا بالدرس ، طارحا نفسه كابتكار محلي استمد أصالته من تصوّره أكثر من غايته.

لقد شيد هرثمة ، المشيّد الكبير رغم قصر إقامته في البلاد ، رباط المنستير في ١٧٩ ه‍ / ٧٩٥ م. وقد استلهم في هذا التشييد من الدّير البيزنطي ، غير أنه كيّف هيكله مع الذوق الشرقي وحاجات الجهاد والصلاة. ولم يبق من نواة هذا الرّباط الأولي سوى النصف الجنوبي.

لقد كان شكل البناء شكلا مربّعا محصنا بثلاثة أبراج مراقبة ومحتويا على قاعة صلاة مقسّمة إلى حجيرات بسيطة ومجهّزة بمقاعد حجرية تحيط بساحة وسطية.

١٦٤

كان الرّباط ، باعتباره قلعة بحرية ومكان عزلة دينية في نفس الوقت ، إنجازا تحوّل إلى مؤسسة حقيقية ستلعب دورا مهمّا في الحياة الروحية لإفريقية.

لقد كانت تونس بالتأكيد المدينة المهمة الثانية بعد العاصمة ، فهي «أحد القيروانين» حسب العبارة المأخوذة عن المنصور. إنّ تونس تجمّعت فيها القوى الاقتصادية والاجتماعية لشمال إفريقية مؤكّدة بذلك نفسها على أساس أنها الوريثة الجغرافية لقرطاج. لقد كانت هذه المدينة تقريبا إنشاء عربيا بحتا ، إذ يعود إلى حسان بن النعمان وجودها وازدهارها ، غير أنها ورثت أيضا من العاصمة القديمة البعض من تقاليدها وسكانها وصولا إلى صخورها من غير شك. ولذلك ، فنحن هنا أمام مدينة أقل بروزا من القيروان وأكثر حساسية لتأثير الماضي. في العهد الأموي ، كانت تونس مقرّا للحضريين الأفارق والبيزنطيين ، ومن التجار والملاكين العقاريين وبطبيعة الحال العرب والأقباط. في العهد العباسي وحتى قبل ذلك ، اعتبرت تونس مركزا عسكريا من الطراز الأول ، فهي باعتبارها مقرّ الجند خاصة ، تواجد فيها الصراع بين العناصر القديمة المهزومة والعقلية المطلبية للجند مما جعلها مدينة العصيان المستمر.

إنّ النزعة العسكرية والبحرية لتونس ، كانت قد أملتها ظروف ولادتها نفسها المرتبطة شديد الارتباط بإنشاء حسّان لأسطول بحري.

وهو ذا حسّان أيضا الذي حفر القناة التي جعلت الميناء على اتصال بالبحر ، ولحمايته بنفس المناسبة من كل هجوم مفاجئ.

من وجهة نظر طبوغرافية ، كان يجب إقامة الأسطول على ضفّة رادس ، غير أن قلب المدينة كان يهيمن عليه حضور المسجد الجامع (الزيتونة) ، الذي قد يكون حسان قد حدّده فقط ليقع بناؤه بعد ذلك ، أو إعادة بنائه وتوسيعه من قبل الوالي ابن الحبحاب (١١٦ ـ ١٢٢ ه‍) ، ليقع تجديده كليا بعد ذلك من قبل الأغالبة. وحول الزيتونة أقيمت الأسواق ومنها ـ مثلما كان الأمر في القيروان ـ أشعّت الأزقة حيث ترصّفت الدور

١٦٥

التي تمتد نحو الغرب إلى ساحة القصبة الحالية ذلك أن علي بن زياد عالم القرن الثاني دفن بالقرب منها.

ويعود إلى القرن الثاني أيضا بناء السور المصنوع من الآجر ـ اللّبن باستثناء جانبه المحاذي للبحر الذي كان حسب شهادة اليعقوبي (١) جدارا من حجارة متأتّية دون شك من سور قرطاج القديم. ومثل سور القيروان ، سيهدم زيادة الله الأول هذا السور مباشرة بعد ثورة منصور الطّنبذي.

كان لتونس مثل القيروان مدرسة علم وتصوّف ، وكان علماؤها ومحدّثوها ومسجدها الزيتونة يمثلون في الفترة التي تهمّنا بالدرس مركز ثقافة وعلم ، فيها تأكدت شهرة رجلين يحملان اسمي خالد بن أبي عمران وعلي بن زياد.

تنقصنا العناصر التي من شأنها أن تمكّننا من وصف الحركة الديناميكية والواقعية لحياة الناس في ذلك العصر ، بعد أن قدمنا إطار هذه الحياة نفسه. فقوى الماضي لا بد أن تظل عميقة ، غير أن تأثير الشرق كان لا يقاوم. إن شهادات الحضارة المادية لم تكتسب بعد صلابة المنشآت الأغلبية ، ولن يكون لها دوامها ، لأن العرب ما زالوا لم يتقنوا المادّة. من الأكيد أن هذه الحضارة كانت قليلة التعقيد ، غير أنها كانت متفرّدة في انفتاحها وديناميتها ؛ هذا هو التقدير الذي يمكن أن نحمله عن فترة بدت في أكثر من جانب فترة بحث وتحضير وولادة جمعت التجديد مع الانقطاع والتعايش مع الاستمرار.

الحياة الثقافية والروحية

فيما يتعلّق بحياة العقل ، كانت القطيعة أكثر عمقا ، غير أننا شاهدنا تواليف غريبة أيضا. لقد عاشت الثقافة اللاتينية في التهميش ، فاختنقت وتراجعت ، في حين فرضت الثقافة العربية في الميدان الدنيوي ، والثقافة الإسلامية في الميدان الديني معاييرها.

__________________

(١) البلدان ، ص ٢١١.

١٦٦

إلّا أنه وفي الوقت الذي عاشت فيه إفريقية إدخال المشارقة للمشروع الأدبي العربي بطريقة سلبية ، كانت تردّ الفعل على المحتوى الديني الإسلامي بإدماجه في البعد الإفريقي البربري ، بشكل يجعل من الممكن التحدّث عن مدرسة إفريقية روحية.

في هذا المجال ، مثّلت القيروان المركز المشعّ كما هو مترقّب. ومثلما تصف لنا ذلك كتب الطّبقات ، وبتوخّي أكثر ما يمكن من التحفّظ فيما يتعلق بالإسقاطات التي تستعيد أحداث الماضي ، برزت تيارات التقوى والورع في زمن الولاة موسومة بنوع من الإقليمية الريفية القائمة على السذاجة الفكرية والحرارة اليقينية للمعتقد. من وجهة نظر تكوّن القضاء والحديث ، لم يكن الأمر إلّا زهيدا لأنّه لم يوجد مجهود ذهني يستحق الذكر ، وإنما وجد بحث سلبي في الأحكام الشرقية وأساسا أحكام مالك أو سفيان الثوري وأيضا أبي حنيفة ، وبهذا أمكن لإفريقيين الانزلاق في الأسانيد الصحيحة فاختلقوا ـ على حدّ تعبير حتى أصحاب المناقب ـ الكثير من الأحاديث التي يطغى عليها في أغلب الأحيان الكثير من السّذاجة (١). على المستوى اللاهوتي ، تواجهنا في إفريقية أهم الاتجاهات الإسلامية لذلك العصر : مرجئة ، قدرية ، ومعتزلة ، غير أن جميعها كان مخنوقا بسيطرة الاتجاه الأورثوذكسي البحت.

حسب رأينا ، كان الشعور الديني في حد ذاته أكثر أهمية من التفكير الدّيني ، لذلك يحق أن يحظى بالتعاطف والاهتمام ، خاصة وأن التوجه اللائيكي للاستشراق شوّه قيمة هذا النوع من التديّن وأفقده معناه ، وهو ما مكّنه من التحدث عن قيروان «متدين» مع كل ما لهذه الكلمة من تحقير ورياء.

في الحقيقة إن المقصود بالتديّن هو التوجه لعظمة الله المتشبّعة بالورع في معناها العميق ، وهنا نجد العقلية البربرية الساذجة والعاجزة عن السخرية أو الليونة ، وهي لذلك متصلبة وعنيفة طبعا ، غير أنها متفردة في

__________________

(١) رياض ، أورد ابن سعد ترجمة خالد بن علي عمران لوحده ، طبقات ، ج ٨ ، ص ٥٢١.

١٦٧

توثبها وانفعاليتها ، فهي صادقة ولا تقبل التنازل أبدا.

هكذا تقدم لنا المناقب القديمة أجمل الوجوه التي تترجم أقصى ما بلغ إليه الورع في إفريقية مثل عبد الرحمان بن زياد بن أنعم ، وابن فروخ ورباح بن يزيد ، وبهلول بن راشد. أما الأوّلان منهم فقد كانا عالمين قبل كل شيء. ولد عبد الرحمان حوالى ٧٦ ه‍ وتوفي في ١٦١ ه‍. وعرف المشرق جيدا ، وأخذ منه أحاديث وروّج فيه أخرى. من المؤكّد أنه التقى بسفيان الثوري وكذلك بابن لهيعة. وكان سلوكه إزاء السلطة محكّا للأخلاقية الدينية في إفريقية مما جعله موضوع حشو وإسقاط ، غير أن يزيد بن حاتم عزله بسبب شجاعته في تصدّيه له. أما ابن فروخ فقد كان أكثر ابتعادا عن الدنيا وأكثر ميلا للعبارات المؤثرة في الوجدان الديني.

غير أن المجسّدين لتيار التصوّف الأوّلي كانا رباح بن يزيد والبهلول. وقد مثل هذا التزهّد ظاهرة مبتكرة بحقّ. ابتعد هذان الشخصان عن العلم ، ووجّها اهتمامهما إلى التطبيق العملي Praxis ، فهما ليسا فقيهين ولا محدّثين وإنما من رجال الله. لقد وقع الإلحاح على عدائهما للأفكار الجديدة والبدع ، غير أن هذا الأمر مثّل الجانب الأقل أهمية فيهما.

فهما يعرفان أولا كأهل صلاح بمعنى توخّي التمشي الأخلاقي المتوجّه إلى الخير وإلى الله في نفس الوقت. وهما طاهران وعادلان ومتعطشان للمطلق ، وفي نفس الوقت كانا رجلي فعل يتربّصان لمقاومة الشر. فزهدهما لم يكن تقشفا ولا تنسّكا كاملا ولكن تزهّدا.

لقد كانت حياة رباح وحدها مثالا واضحا لتعريف كمال الفقر والخشوع ، إذ ذكر أنه يهرب من الثروة مثلما يهرب آخرون من الفقر ، وأنه ومنذ ١٥ سنة أي منذ حظيه الله بفضله ورعايته لم يعد يخشى سوى نفسه ، فهو يحب مرضه عند ما يمرض وتوفي في سنّ ٣٨ سنة.

أمّا البهلول فهو أقلّ تأثيرا في إدراكنا لأنه أصبح شخصية مشغولة بسمعتها وتحيا حياتها كدور مسرحي ، وكذلك لم يكن على قدر عظيم من الأخلاقية الدينية.

١٦٨

لقد كانت هذه اللحظة الدينية مهمّة جدا في تاريخ إفريقية لأنها سمحت بظهور رؤية مغربية للإسلام ، تطوّرت لا حقا في الطرق التي تبحث بدقّة عن القداسة ، فأخذت جذورها من وجدان البربر وروحهم الصادقة ، وهذا ما يتطابق في التأليف بين الإسهام العربي والإسهام المحلي.

في مجال الثقافة الدنيوية لا يمكن أن توجد مثل هذه التوليفات إذ كانت الثقافة العربية سيدة الموقف ، وكان الرّواة وأصحاب المعاجم والنحويّون العراقيّون ماسكين بالصّدارة ، ومن هنا يمكن لنا إذن الحديث عن تأثير شرقي مباشر.

من المؤكد ، أنه في العصرين الأموي والعباسي ، لم تدّخر بعض الوجوه البارزة في الجيش جهدا في نظم الأشعار ونقل الروايات القديمة التي لعبت دورا في نشر التقاليد اللغوية والأدبية العربية والمحافظة عليها ، غير أن إفريقية لم تصبح مركز جذب إلّا مع يزيد بن حاتم خاصة الذي واكب قدوم محدّثين وعلماء عراقيين سيعملون على تعليم الثقافة وترويجها. ونحن نعرف بالفعل أن يزيد كان نصيرا للشعر ذائع الصّيت ، مكنته ولادته الشريفة وأصله العراقي من المحافظة على روابط مع البصرة.

وكان الشعراء يستعجلون الخطى للوصول إلى بلاطه لمدحه مثل ربيعة بن ثابت ، والرّقيق الأسدي ، والمسهر التميمي وابن المولى. ولم يكن العلماء المعروفون بأقلّ عددا منهم ونذكر منهم يونس النحوي من مدرسة البصرة ، وقتيبة الجعفي النحوي من مدرسة الكوفة والرّواة مثل عوانة الكلبي ، وابن الطرماح. وكان هؤلاء الرجال يبيعون مواهبهم وعلمهم ثم يعودون إلى المشرق. ولذلك لا يمكن أن نعتبرهم بأية طريقة كانت ممثّلين لثقافة إفريقية وإنما ساهموا في إعطاء بريقها الوهّاج في الفترة المهلبية وفي زرع سحر اللغة العربية على أرض إفريقية (١).

__________________

(١) عبد الوهاب ، ورقات ، م. س ، ج ١ ، ص ١٣١ ـ ١٦٤.

١٦٩

من المشروع التساؤل لماذا لم يوجد هنا محدّثون ولغويون كبار ، غير أن هذه كانت حالة مصر أيضا. لقد كانت هاتان الولايتان بعيدتين فعلا وبدرجات متفاوتة عن النواة المركزية ، فضلا على أن إفريقية مثلت ولاية فتحت لاحقا. لقد ظلّت عروبة إفريقية هامشية ومبتورة من جذورها ، وفي هذا المعنى لم يكن ولن يكون لها نفس خاصية إبداع العراق بالنسبة إلى نفس الفترة.

ألن تكون فترة الولاة في هذا المستوى وفي مستويات أخرى ، قبل كل شيء فترة تقبّل واستيعاب تشكّلت خلالها الشخصية العربية التي اكتسبتها البلاد حديثا؟

١٧٠

IV

التّطور السياسي والصراعات الدينية

١٧١
١٧٢

بين ٨٤ ه‍ و ١٨٤ ه‍ ، من انتهاء الفتح إلى انتصاب الولاية الأغلبية وطيلة قرن من السيطرة العربية المباشرة ، نلحظ فترة من الهدوء تتلوها فترة من الاضطرابات. لقد دامت فترة الهدوء أربعين سنة (٨٤ ـ ١٢٢ ه‍) مطبوعة بالتوسّعات العسكرية داخل كامل بلاد المغرب كما بالتنظيم الدّاخلي ، ثم أتت فترة ثورات الخوارج والانتفاضات العسكرية. فوضع كلّ شيء موضع التساؤل بما في ذلك استقرار الوجود العربي ، وندخل عندئذ في عهد فوضى لن تنتهي إلّا بقيام النظام الأغلبي وهو عهد إمارة متوارثة تتمتّع بنصف استقلال إزاء سلطة الخليفة.

السلم العربية (٨٤ ـ ١٢٢ ه‍)

صارت إفريقية مع موسى بن نصير قاعدة التوسّع نحو الغرب حيث ما زلنا إلى حدّ هذا الطور في مرحلة فتح غامضة بعض الشيء. لقد ركع المغرب الأقصى أمام قوّة الفاتحين ثم غلبت إسبانيا على أمرها (٩٢ ـ ٩٤ ه‍).

وكانت الظاهرة السياسية الداخلية الأكثر بروزا هي تنامي السلطة النّصيرية تدعمها سيول ثروات الفتح. إنّ موسى بن نصير وأبناءه عبد الله ومروان وعبد العزيز وعبد الملك كانوا يهيمنون على الغرب الإسلامي (إفريقية والمغرب والأندلس) بإحسانهم للناس وبتركيزهم لشبكات صنائعهم ومواليهم.

وفي نفس الوقت ، كانت جموع المهاجرين العرب تتزايد ، لكنّ جاذبية إسبانيا المفتوحة حديثا كانت تغري الأغلبية. وكان العالم البربري راكعا للعرب ويعضدهم في فتوحاتهم. ولم تطرح بعد في المغرب المشاكل التي سيطرت على أذهان المشارقة في تلك الفترة ـ التشيع

١٧٣

ومشكلة الخلافة وغير ذلك ـ كما لو أنّ السياسة كانت هناك بدون دينامية ذاتية. ذلك أنّ المشرق كان مركز دار الإسلام ، نعني الحجاز والشام والعراق وإيران ، وكان المغرب هامشيا ، وهذا شأن مصر بدرجة أقلّ ـ لأنه بعيد جدا ولأنه لم يستقطب عددا كبيرا من المهاجرين العرب مثلما جرى عليه الأمر في أمصار العراق وفي الشام وحتّى في خراسان. لكن في ٩٦ ه‍ تمّت دعوة موسى للشرق ومنذ ذلك الحين سيناله التعذيب هو وسائر أسرته. فقد اتّهم موسى من طرف الخليفة الأموي سليمان بالاستحواذ على مبلغ ٠٠٠ ، ٣٠٠ دينار وأجبر على إرجاع هذا المبلغ كما وقعت ملاحقة مواليه والمقرّبين إليه. وقام الوالي الجديد محمد بن يزيد بإعدام ابنه عبد الله الذي خلفه على القيروان ، ثم عمد الولاة المتتابعون على إفريقية طيلة عشر سنوات إلى تصفية التأثير النّصيري بإفريقية ولكنّهم لم ينجحوا إلّا بقدر محدود.

ويبدو أنّ الصراع بين العصبيات القيسية والكلبيّة قد اخترقت إفريقية. فقد وجدت الأغلبية اليمنية صعوبات عديدة مع الولاة القيسيين ، لكنّهم نجحوا في إنهاء مهام عبيد الله بن عبد الرحمان السلمي (١١٠ ـ ١١٤ ه‍) لمبالغته في تمييز القيسيين صراحة. لذلك صارت سياسة الخلافة تجاه المغرب مرتكزة على إحلال التوازن بين المجموعتين وهو ما يتجلّى في تعيين الولاة بالتداول من كلا الطرفين. ولعلّ أهمّ جانب يتمثّل في شعور عرب إفريقية بذاتهم ، بخصوصيتهم ، بتضامنهم ، وهو ما انعكس في بروز شخصيات مؤثرة أو مجموعات ضغط من بينهم بالذات. ومن الملفت للانتباه أن سقوط العائلة النّصيرية قد عوّضه الصعود المذعر للفهريين الذين سيظهرون بمظهر قادة العرب الأفارقة. لكن في النهاية ، لم يكن كلّ هذا سوى خدوش تافهة في واجهة موحّدة. فقد حصل ارتياح بالسلم العربية مع إقامة اقتصاد مزدهر وتشييد بطيء لحضارة جديدة وكذلك تفشّي الأسلمة والتعايش بين الغالب والمغلوب. مع ذلك ، فقد تراكمت أحقاد وضغائن سترتجّ لها سلطة القيروان ومن وراء ذلك سلطة الخليفة في الأعماق.

١٧٤

أزمة ١٢٢ ـ ١٢٧ ه

إنّ نهاية عهد هشام بن عبد الملك (١٠٥ ـ ١٢٥) مثّلت بالنسبة لكلّ العالم الإسلامي أو دار الإسلام انطلاقة لأزمة عامة وخطيرة. وما يشدّ الانتباه في إفريقية خاصيتان أساسيتان هما انفجار ثورات الخوارج ومن جهة ثانية نشأة سلطة إفريقية مستقلّة تحت راية الفهريين.

فمنذ أن تمّ إيقاف حركات الخوارج في الولايات المركزية الشرقية (العراق وفارس) ، كانت هذه الحركات تبحث عن مواصلة البقاء في أطراف البلاد الإسلامية ، في نواحي إيران والمغرب. وانتشر الدّعاة من العرب والموالي المشارقة بين قبائل البربر ونجحوا في غرس مبادئ الصّفرية والإباضيّة في هذه الربوع. هاتان فرقتان معتدلتان مقارنة بعنف الأزارقة وحدّتهم ، لكنّهما مع ذلك كانتا ككل الحركة الخارجية في توجّهها تشكّلان مذهبا يقوم على الرّوح الثورية والفوضى الاجتماعية. بكلّ تأكيد ومن وجهة نظر سياسية ، كانت حركة الخوارج مؤهّلة للإفصاح عن الكراهية الاحتجاجية للعالم البربري والطبقات الشعبية في المدن ، وبالتالي فإنّ احتضانها كان يتماشى مع التكدر العام والعميق للمجتمع البربري والقبلي منه على وجه الخصوص. فبعد أن أسلموا كان البربر يشتكون من النظام الجبائي المفروض عليهم والذي كان قاسيا في بعض الأحيان واعتباطيا بل كان مغتصبا وعاتيا. ولذا أرسلوا وفدا للتشكي إلى هشام لم يحظ بالاستقبال.

وهناك من البربر من كان يألم من انتفاء المساواة الفعلية في العطاء والجيش وبصفة عامّة في الحياة الاجتماعية. وهؤلاء بربر مسلمون يشاركون في الفتوحات. وبالتالي ، كان يوجد شعور عامّ بالمقت والازدراء ، فاستعادوا تقاليدهم القديمة في الانتفاضات ، احتجاجا على الظروف الرّهيبة التي يعيشونها على الدّوام في بلادهم الأصلية.

وفي ١١٦ ه‍ أتى إلى القيروان الوالي عبد الله بن الحبحاب ، وقد كانت سيرته قاسية وفظة في مصر حيث كان من قبل واليا على الخراج

١٧٥

ونتجت عن ذلك ثورة الأقباط. وواصل في المغرب سياسة الابتزاز إلى درجة أنه اعتبره أرض غنيمة. وبأمر منه أراد عامل طنجة" تخميس" قبائل البربر في السّوس الأوسط ، يعني أخذ الخمس منهم كما لو لم يكونوا مسلمين. فظهر هذا المطلب بمظهر الفظاعة وسرعان ما تحوّل إلى فرصة للثورة وإشارة لاندلاعها.

وسرعان ما ثارت قبائل المغرب الأقصى تحت قيادة سقّاء سابق ـ حسب المصادر ـ هو ميسرة المتغري الذي اتّخذ لقب خليفة بعد أن قتل العامل عمرو بن عبد الله المرادي. وبعد زمن قليل هزم الجيش العربي هزيمة نكراء تحت قيادة شخصين من أفضل قواد إفريقية هما خالد بن أبي حبيب وحبيب بن أبي عبيدة وذلك على ضفاف نهر" شلف". ومات خالد ومعه عدد ضخم من أشراف القادة العرب ولذلك سمّيت هذه الوقعة" بوقعة الأشراف" إشارة لهذه المواجهة التي لم يسبق لها نظير.

وفي السنة الموالية ، اصطدم الوالي الجديد كلثوم بن عياض بجيش خالد بن حميد الزنّاتي الذي عوّض ميسرة في قيادة الثورة. وبالرّغم من أنّ كلثوما كان مدعوما بجيوش الشام وقد أقبلت خصّيصا من المشرق ، فهو لم يستطع اجتناب الكارثة قرب نهر" السّبو" (١٢٤ ه‍) ، فقتل كلثوم في المعركة إلى جانب حبيب بن أبي عبيدة.

وهكذا خرج الخوارج البربر منتصرين بعد هاتين المواجهتين ودخل المغرب كلّه في دوّامة الانتفاضة والرّفض. وانتشرت الحركة بأقصى المغرب بل ضمّت كلّ الفضاء المغربي إلى حدّ أن وقعت القيروان بين نارين ، بلاد طرابلس وبلاد الزّاب ، وهما المنطقتان الأكثر وجود بربري في إفريقية والأكثر لذاعة عسكرية ، فكان من الطبيعي أن تستقرّ بهما بؤر الثورة. لكن يكون من الخطأ أن نعتبر أنّ حركة الخوارج هي من فعل هذا الفصيل البربري دون ذلك. فمثلا هذه الفكرة هي التي حدت بشكل خاصّ بالمؤرّخ الفرنسي غوتييي أن يعتبر أنّ الحركة البربرية كانت من نصيب قبائل" زناتة". غير أن هذا اللفظ لم يكن يعني في تلك الفترة ما

١٧٦

صار يدلّ عليه لاحقا. هذا علاوة على أنّ فحص المصادر بدقّة يأتي بتأكيد المشاركة الكثيفة والشاملة لكل البربر في الحركة الخارجية. وقد كسبت هذه الحركة فعلا وبسرعة كبيرة توسّعا هائلا وتماهت مع قضية البربر في جملتها.

وعيّن وال جديد على إفريقية وهو حنظلة بن صفوان في سنة ١٢٤ ه‍ ، ولم يكن في حاجة إلى تقصّي الثوار ، إذ هجم هؤلاء على القيروان رأسا في وحدتين يقود الأولى عكاشة الصّفري وقد تجمّعت فيها" كلّ قبائل البربر" حسب ما يذكره الإخباريون ، ويقود الثانية عبد الواحد بن يزيد وهي تتركب أساسا من عناصر من" هوّارة".

ولم يصل الجيشان في نفس اللحظة إلى القيروان وهو ما أسعف وضعية حنظلة ، إذ انقضّ أولا على عكاشة وسحقه في معركة" القرن" ، ثم انتصر على عبد الواحد في معركة" الأصنام" (١٢٤ ه‍). ولاقت هذه الانتصارات صدّى كبيرا في المشرق ، كما أوقفت مؤقتا الهجمات الخارجية على القيروان.

وهكذا ، من ١٢٤ إلى ١٢٧ ه‍ ، أمكن للولاية أن تتمتّع بهدوء نسبي ، بعد سنتين من التهديدات الكبرى والصدامات على كامل بلاد المغرب. لكنّ الحركة الخارجية غلبت على أمرها في آخر المطاف ، فتوقفت كانتفاضة عنيفة وستجد فيما بعد مخرجا آخر إذ ستكوّن إمارات مهمّة وستبقي على وجودها إلى الآن في بلاد المغرب ، وهذا ما يمثّل وزن التاريخ على المصائر الإنسانية. الحركة الخارجية حركة تعتمد على هرطقة خرجت من صلب الإسلام وأصابت بدعوتها مسلمين بربر مؤطّرين في قبائل ، من طنجة إلى طرابلس ، على امتداد أرض المغرب الشاسعة. فهي ثورة مسلمين هضموا في حقوقهم ورفض دمجهم بل عوملوا معاملة المغلوبين ومغلوبين مقهورين بصفة فظة من طرف العرب المحتلين للبلاد والمرتبطين بحكم أجنبي إمبراطوري بعيد.

المشكلة هي أنّ المغرب أسلم سريعا وهذا لم يحصل في غيره من

١٧٧

البلاد المفتوحة الخاضعة لحكم العرب المسلمين من مثل عراق النبط وشام السريان ومصر القبط وإيران الفرس ـ باستثناء خراسان. وبقي البربر على إسلامهم ولم يكن لهم في الحقيقة خيار آخر ، إذ المسيحية لم تنتشر إلّا في مدن إفريقية وفي سهولها الزراعية المستقرّة. وهؤلاء بربر قبائل وعدد منهم من الرّحّل ولهم تقاليد حربية وقبلية يشبهون فيها العرب ذاتهم ، فهم أقرب الشعوب المفتوحة شبها بالعرب. وواضح أن الإسلام حرّر طاقات البربر ومنحهم تأطيرا وتنظيما واتجاها ، فعبّر الفكر الخارجي أحسن تعبير عن روحهم التمرّدية المطبوعة بشعور قوي بالضّيم.

لكنّ وضعية المغرب لا تتوقّف عند علاقة السلطة العربية ـ ولا نقول العرب جملة ككتلة مستقرّة نهائيا ـ بالقبائل البربرية الرافعة للواء المذهب الخارجي. فهناك تعقّدات كبيرة وصراعات آتية ستنال العرب ذاتهم. وهؤلاء إذ استوطنوا إفريقية صاروا ينزعون إلى شكل ما من الاستقلالية عن سلطة الخليفة فأفرزوا زعماء لهم. لقد حصل عندهم شعور بالذات وبالخصوصية وتغذّى بالبعد الفعلي عن مركز الخلافة. فلم يكن نتيجة صراعات تاريخية وإيديولوجية مثلما ما جرى بين أهل الشام وأهل العراق زمن الفتنة وبعدها في العهد الأموي ، وإنّما نتيجة التأهّل والخصوصية الجغرافية.

وقد وجدت هذه الحركات الانفصالية قادة لدى الفهريين ـ عشيرة عقبة ـ وأهمّهم عبد الرحمان بن حبيب. فبعد هزيمة" السّبع" وموت أبيه حبيب بن أبي عبيدة ، انتقل عبد الرحمان هذا إلى الأندلس مع أتباعه الأوفياء. وعند عودته إلى تونس في ١٢٧ ه‍ ـ وهو تأريخ بدء الاضطرابات في صلب السلطة الأموية ـ تمكّن من جمع عرب إفريقية حول شخصه بسهولة إذ اعتبروه أفضل ممثّل لهم. وتفاقمت الحركة بسرعة إلى درجة أنّ الوالي حنظلة عجز عن المقاومة. وفي نفس السنة (١٢٧ ه‍) رحل عن القيروان تاركا البلاد للقائد الفهري الذي قام هكذا بحركة انفصالية. وهي حركة كانت تمثّل في زمن آخر مسعى شديد

١٧٨

الخطورة ، لكنّها مثّلت في هذه الفترة بالذات حلقة جديدة من حلقات الانحلال الكامل لسلطة الخلافة الإسلامية.

حكم الفهريين في إفريقية : ١٢٧ ـ ١٤٠ ه

لقد استولى إذن عبد الرحمان بن حبيب على السلطة بالقيروان ، لكنّه لم يقطع الصلة بالحكم المركزي ، فوجّه بداية من ١٢٧ ه‍ ولاءه للخليفة مروان بن محمد الذي تقبّله بحكم عجزه عن مراقبة الولايات. على أنّ عبد الرحمان حكم إفريقية كأمير مستقلّ وبقوّة نادرة. فسيطر على النظام العام بشدّة وقام بتقتيل رهيب في صفوف القبائل البربرية. وهكذا ، لمدّة عشر سنوات (١٢٩ ـ ١٣٩ ه‍) ضعفت الحركة الخارجية وتقهقرت. لقد قمع عبد الرحمان الثورات الصّفرية سواء بمدينة تونس أو بمدينة باجة في إفريقية بالذات ، لكنّ هذه الحركة ازدادت قوة في باقي بلاد المغرب ـ الأوسط والأقصى ـ حيث استفحلت ونمت بعد موت عبد الرحمان. فأمّا حركات الإباضية ، فقد اشتدت بطرابلس وبجنوب تونس الحالية ، ولم تضعف إلّا بفعل تناقضاتها الداخلية التي أثّرت تأثيرا كبيرا حتى تولّي أبي الخطاب الإمامة في سنة ١٤٠ ه‍. وأمّا حركة قبيلة نفوسة الإباضية ، فقد استولت على قابس سنة ١٣٢ ه‍ ، لكنّ عامل عبد الرحمان على طرابلس دحرها ودمّرها ، وقام الأمير بتذبيح كبير في صفوف الأسرى.

الحقيقة أنّ المشاكل الكبرى تأتّت من أزمة الخلافة في المشرق ، من انتهاء الدولة الأموية وانتصاب الدولة العبّاسية وهو حدث خطير جدا في المركز والأطراف. إنّ انهيار الدولة الأموية في ١٣٢ ه‍ جعل عبد الرحمان في حلّ من تعهّداته بحيث أمكن تحقيق استقلالية إفريقية فعليا على المستوى القانوني. ولم يدم ذلك طويلا لكنّ الخليفة العبّاسي أبا العبّاس السّفاح عيّن في سنة ١٣٦ ه‍ عمّه صالح بن علي واليا على مصر وفلسطين وإفريقية ، فجمع جيشا بالفسطاط ليغزو

١٧٩

المغرب ويفرض عليه الطاعة للحكم الجديد. صحيح أنّ عبد الرحمان لم يكن من أنصار العباسيين وهذا ما يفسّر فتح بلاده في وجه الأمويين الهاربين من المشرق ، لكنّه رأى نفسه مجبرا على الاعتراف في ١٣٧ ه‍ بسلطة المنصور العليا على البلد وقد أمر المنصور بإيقاف الحملة التي قرّرها أخوه سابقا.

ويبدو في هذه اللحظة أنّ الهدوء سيطر على العلاقات بين الخلافة والولاية. لكنّ المصادر تذكر أنّ المنصور طالب بمطالب تعجيزية إزاء إفريقية التي ما انفكّت السلطة المركزية تعتبرها كأرض فيء وغنيمة. فاتخذ عبد الرحمان من هذه الشروط ذريعة للقطع مع الخلافة ، ولكي يبرز بمظهر بطل استقلالية إفريقية ، خلع البيعة وأكد علنا استقلال الولاية.

لكن القادة العرب لم يكونوا مستعدّين للقبول بهذه العملية وبالتالي بالانشقاق التام عن سلطة الخليفة ، وكانت سياسة عبد الرحمان الداخلية تسلّطية فهي تقلقهم وترهقهم. لذلك تشكلت مؤامرة ضدّه في نفس تلك السنة (١٣٧ ه‍) حول أخويه إلياس وعبد الوارث اللذين كانا مستاءين من النوايا التي تعزى للأمير في توريث ابنه حبيب من بعده. وقتل هكذا عبد الرحمان بيد إلياس بالذّات الذي حلّ محلّه على الإمارة ، لكن هذا الحدث أدخل إفريقية في دوّامة فوضى مظلمة. واندلعت الصراعات. وأوّلها فيما بين الأمير الجديد وابن أخيه حبيب وقد سانده عمّه عمران وموالي أبيه ، فأعلن مطامحه إلى الإمارة والثأر لأبيه عبد الرحمان. وبعد اتّفاق أوّلي بين المدّعين الثلاثة إلياس وحبيب وعمران حول اقتسام إفريقية لم يتمّ تطبيقه ، رجعت الحرب من جديد وانتصر فيها إلياس على ابن أخيه ثم قام بنفيه. لكنّ حبيبا سرعان ما تمكّن من العودة بقوة ونجح في قتل خصمه (١٣٨ ه‍). بقي تحييد قوى عبد الواحد أخ إلياس وحليفه.

هنا بالذات يتدخّل البربر الخوارج عبر قبيلة" ورفجّومة" التي تبنّت مساندة هذا الشقّ الأخير ، وهكذا دخل عاصم بن جميل رئيسها إلى القيروان آتيا من قابس بعد انتصاره على حبيب. ويقال إنه دعي من بعض

١٨٠