تأسيس الغرب الإسلامي

المؤلف:

هشام جعيط


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٦٢

أهلها ، من طرف عناصر لا نعرفها بالضبط. وهذا حدث كبير (١٣٩ ه‍) لا بدّ من تفسيره.

لقد قويت الحركة الإباضية واشتدّ عودها فيما دحرت الحركة الصّفرية من إفريقية ذاتها فعادت إلى موطنها الأصلي بالمغرب الأوسط والأقصى من حيث اندلعت. الحقيقة أنّ الإباضية كوّنوا لأنفسهم تنظيما جيّدا وقاعدة مذهبية متينة. فبعد أن أضعفهم في طرابلس قمع عبد الرحمان وعامله ، توجّهوا إلى مشائخ المذهب في البصرة للتّضلّع في الفقه حسب الشمّاخي ولتهيئة ظروف ثورة شاملة لا مردّ لها. وبقوا في البصرة خمس سنوات تحت تأثير أحد شيوخ الإباضية ، أبي عبيدة مسلم بن أبي كريبة الذي أوصاهم بتسليم القيادة إلى أحد المشارقة أبي الخطّاب المعافري. ورجعوا في سنة ١٤٠ ه‍.

هنا يقوم أبو الخطّاب ببثّ الدعوة السرّية في القبائل على أساس إعلان" إمامة الظهور" فانضمّت إليه في جهة طرابلس قبائل زناتة وهوّارة ونفوسة وهاجم بها هذه المدينة وغلب على أمرها. ومن هنا بثّ القائد البربري جيوشه فاستولى على جربة سنة ١٤٠ ه‍. ثم على قابس وكلّ هذه الجهة الجنوبية. لقد تغلّبوا على الصفرية وأخرجوهم من إفريقية وهكذا دخلوا القيروان. ولا شكّ أنّ نيّتهم كانت تكوين دولة إباضية في إفريقية.

لقد عوّضوا الحضور الصّفري لقبيلة" ورفجّومة" في القيروان وكانت سياستهم أكثر اعتدالا إزاء السكان. فالصفرية عاثوا في القيروان فسادا بعد أن قتلوا قاضيها أبا كريب والألف شخص الذين كانوا معه من الفقهاء ورجال الدّين وقد حاولوا صدّهم عن المدينة.

لكن على العكس من هؤلاء ، نجح أبو الخطّاب زعيم الإباضية في إثبات سلطانه وفي التصرّف كصاحب إفريقية لمدّة أربع سنوات (١٤٠ ـ ١٤٤ ه‍) بل تمكّن من سحق جيش بعث به والي مصر ابن الأشعث قرب ساحل طرابلس (١٤٢ ه‍) ، هذا الوالي الذي حاول استعادة إفريقية للعبّاسيين. ولم تكن إفريقية العربية بلغت طورا أقرب إلى الانقراض من

١٨١

تلك المرحلة. فقد كان الإباضية ماسكين بزمام الحكم في القيروان وإفريقية بينما تمكّن الصفرية من تكوين إمارتين في المغرب الأوسط ، واحدة بتلمسان والأخرى بسجلماسة وهي دولة بني" مدرار" ، على أثر هزيمتهم بالقيروان سنة ١٤٠ ه‍.

لقد كانت سجلماسة بعيدة وسيكون لها مستقبل ، أمّا مطامح الإباضية في تكوين مملكة بربرية خارجية بإفريقية بالذات وفي القيروان نفسها ، فهذا أمر صعب لسببين : كثافة الحضور العربي ، والرّفض المبدئي لسلطة الخلافة في أن تقبل بهذا الأمر. إلّا أنه يبدو من وهلة أولى وكأنّ العناصر العربية من الذين استوطنوا إفريقية طوال العهد الأموي أضحوا منهكين وكأنهم عجزوا على الحفاظ على سلطانهم بإفريقية أو ربط صلة وثيقة بسلطان الخلافة العباسية الجديدة. لقد فشلوا في تكوين حكم ذاتي تحت راية الفهريين بسبب انشقاقاتهم الداخلية ولأنهم في آخر المطاف لم يكونوا في تلك الآونة مستعدين للابتعاد عن مظلة الخلافة.

العودة العباسية (١٤٤ ـ ١٥٥ ه‍ / ٧٦١ ـ ٧٧١ م)

لقد أظهر الخلفاء العباسيون اهتماما كبيرا ببلاد المغرب ، ذاك الجناح الغربي الشاسع لدار الإسلام. ومثل الأمويين لم يكونوا ليفرّطوا في مصيره كجزء مهمّ من الإمبراطورية. فلهذه قلب ـ العراق والشام وحتى الحجاز ـ وجناح شرقي ممتدّ على العالم الإيراني إلى تخوم الصّين وجناح غربي يضم مصر وليبيا الحالية والمغرب كلّه إلى الأطلسي والأندلس. وأمام الاضطرابات الداخلية ومحاولات الانفلات من قبضة الخلافة وكذلك الثورات الخارجية ، هذه الثورات التي كانت عارمة في المشرق في آخر لحظة من العهد الأموي والتي غلبت على أمرها ، أظهر المنصور ومن بعده من الخلفاء إرادة فولاذية في استرجاع المغرب وقام عبر جحافل جيوشه بعودة عارمة للحضور الخليفي.

في تلك اللحظة وطّدت الخلافة الجديدة وجودها بعد صعوبات

١٨٢

الانتقال واشتدّ عودها (١٤٤ ه‍) ولذا بعث بابن الأشعث نفسه في جيش كبير مع ٠٠٠ ، ٤٠ رجل كما أنّ الخليفة فيما بعد أرسل جيشا آخر يحتوي على ٠٠٠ ، ٦٠ رجل. وهذه الأرقام مضخّمة دون شكّ ويجب في رأيي تخفيضها إلى النّصف. لكنّ الاستعادة كانت صعبة وغير واضحة ليس فقط لأنّ التهديد الخارجي بقي مستمرا وإنّما أيضا لأن تدفّق الجنود العرب / الخراسانيين سيدخل على البلد عنصر اضطرابات كبيرة. لذلك فانتفاضات الجند ستصاحب انتفاضات الخوارج ثم ستحلّ محلّها كعنصر فوضى.

وفي لحظة أولى كانت انتصارات الجيش العبّاسي يسيرة وشاملة. فبخصوص البربر برزت انشقاقات بين قبيلتي هوّارة وزنّاتة ، وهذه قبيلة أبي الخطاب ، ممّا سمح لابن الأشعث بإزاحتهم عن الميدان ، وفي جنوب طرابلس قاد العرب حملة أنزلت القمع على الواحات الإباضية بودّان وزويلة. وهكذا انتهت فعاليات القائد العربي بإقصاء الحركة الخارجية ممّا هو التراب التونسي الآن وإخمادها مؤقتا من بؤرها الطرابلسية. فالانتفاضة التي ظهرت بطنجة والمغرب الأقصى وتسرّبت من هناك إلى إفريقية ـ بالمعنى الجغرافي ـ بما في ذلك طرابلس وعلى الرّغم من انقسامها إلى حركتين ـ صفرية وإباضية ـ كانت تتهيأ الآن لإعادة الطريق معكوسة والتسرّب في هذه المرّة تدريجيا من الشرق إلى الغرب ، ذلك العالم المفرغ من المدن وبالكاد من الحضور الإنساني.

في هذه الفترة أضحت منطقة" الزّاب" تثبت أنّها العمود الفقري للمقاومة البربرية ـ الخارجية كما كانت من قبل ومن عهد بعيد إذ الزّاب هو" نوميديا" ذات الحركية التاريخية التي لا تدانى على أرض المغرب ورمز الاستقلالية المغربية من عهد قرطاج. ولو لا الرّومان وشؤم الصيرورة التاريخية ، لكان من المؤكّد أن تصبح بؤرة مملكة بربرية ـ مغربية تجسّد مبدأ الدولة ومن وراء ذلك تهيئ لحضارة منبثقة من روح هذه الأرض. وقد لمّحنا إلى هذا سابقا. أمّا الآن فقد اتّجهت الجيوش

١٨٣

العربية إلى الزّاب مركز جذب القوات العربية وشيئا فشيئا مركز استيطانها وتواجدها ، وبالتالي بؤرة الاضطرابات العسكرية إذ أكّدت هذه المقاطعة على دورها كأرض حدودية وكثغر كبير (marche). وأراضي الحدود ، عبر التاريخ ، كانت مؤهّلة لتكوين الممالك لأنها تجمع بين كثافة القوّة ودور حماية البلاد وقسط من الاستقلالية. ومن هنا ستخرج إمارة إبراهيم بن الأغلب وليس من القيروان ولا من سهول مدينة تونس.

على الرّغم من انتصاراته على الخوارج ، وجد ابن الأشعث نفسه مجبرا في سنة ١٤٨ ه‍ أن يترك ولايته على إفريقية وأن يلتحق بالمشرق بحكم كراهية الجيش له. ومن الأرجح أنّ سبب غضب الجند هو عدم ارتياحهم لابتعادهم عن ديارهم وأهليهم بالقيروان أو بتونس أو بالشرق.

وهذه ظاهرة قديمة منذ العهد الأموي وهي ما كان يسمّى" بتجمير" البعوث وفي المشرق خصيصا بسبب استمرار الفتوحات. فالمقاتلة إذ يوجّههم الوالي إلى منطقة حرب يعتبرون أنّ هذا التوجيه وقتي لا يأخذ إلّا ردح زمن صائفة وحملة ثم يرجعون إلى أهليهم في مصرهم سواء الكوفة أو البصرة في العراق مثلا حيث كانوا مستقرّين كمسلمين يتقاضون العطاء ويشاركون في حياة مصرهم وعليهم فقط واجب الجهاد لكن ليس كجيش مرتزقة. هذا ما يفسّر ثورة جيش ابن الأشعث العارمة في سجستان في ٨٢ ه‍ ، أيام الوالي الحجّاج بن يوسف إثر تجميره أي بقائه في أرض الجهاد أكثر من اللازم. وقد كادت هذه الثورة أن تذهب بالدولة الأموية جملة.

هذه المشكلة صارت تطال ذلك البعث الكبير من المشرق أي أناسا ابتعدوا عن مناخهم لفترة ولا يرضون بالبقاء طويلا في أرض نائية. لقد اعتمدت الخلافة على جيشها وليس على المقاتلة العرب المستوطنين إفريقية لضعف عددهم ولضعف ولائهم وعجزهم عن دحر الثورة الخارجية وعلى التئام شملهم. هذا ما يفسّر غضب وتحركات الجيش العبّاسي الجديد الآن وفيما بعد. لكنّ هناك بؤرة ثانية بعد الزاب لثورات

١٨٤

المقاتلة وهي مدينة تونس التي صارت أكثر فأكثر ثغرا عسكريا وستطفو ثورات هذه المدينة على السطح في آخر هذه الفترة كما في العهد الأغلبي ، ولعلّه يوجد فرق بين هوية جند الزاب ووضعيته وبين هوية جند تونس ووضعيته.

بعد رحيل ابن الأشعث ، سمّي الأغلب بن سالم على الولاية والتحق بالزّاب بهدف الاقتتال مع الصّفرية وهم تحت قيادة أبي قرّة. لكنّ أبا قرّة رفض المصادمة وفرّ نحو الغرب الأقصى وهو موطن الصفرية خلافا للأدنى موطن الإباضية. ولم يرد الجند ملاحقته واعتبروها تجميرا بإيعاز من القادة العرب بالرّغم من إلحاح الأغلب بن سالم. ولا ندري هل كان يعتبر القوّاد أنّ الملاحقة في أراض شاسعة لا تؤدّي إلى شيء أم صاروا يعتبرون أنّ في إفريقية إلى حدود الزّاب وطرابلس كفاية لتوطيد ولاية مهيكلة لها وجود وشخصية ويمكن مراقبتها. وفي نفس الحين ، اندلعت ثورة جند في تونس ، ذلك القطب العسكري الثاني ، يرأسها الحسن بن حرب ، ورجع الوالي أدراجه والتقى بالمتمرّدين في معركة غير متكافئة هلك فيها (١٥٠ ه‍ / ٧٦٧ م).

وهكذا يتبيّن الآن وسيتبيّن أكثر بعد قليل أنّ المجهودات العسكرية من طرف الخلافة لا تحلّ المشاكل وأنّ عدم الاستقرار من نصيب بلاد المغرب ، خلافا لمصر والعراق والشام وحتى إيران ، حيث التحرّكات تأتي من العرب المسلمين أنفسهم وليس من الأهالي أهل الذمّة الذين قهرهم الفتح نهائيا. هنا لن تنتهي ولن تخمد الحركات البربرية ـ الخارجية وتطفو على السطح على الدوام. ذلك أنّ قبائل البربر ليسوا كالأعلاج من فلّاحي الأرض ، فهم أحرار ومحاربون ودائما في الترحال والحركة. وهم مسلمون قاطبة وليسوا بأهل ذمّة. وهم أخيرا خوارج أي منخرطون في مذهب يجعلهم على قدم مساواة مع العرب بل من رأيهم وبإمكانهم أن يكفّروا العرب باسم مذهبهم جملة. كلّ هذا الأمر يدخل في دينامية تاريخية عجيبة لكن لها نصيب عظيم من الجدّة.

١٨٥

وعيّن الخليفة للولاية أوّل المهلّبيين ، الذين سيتتابعون على إفريقية إلى حدّ تكوين شبه أسرة حاكمة مزكّاة من طرف الخليفة ، واسمه عمرو بن حفص بن قبيصة ، لكنّ الحركة الخارجية لم تخمد وأخذت عنفوانا جديدا. وحوصر الوالي" بطبنة" بالزّاب من طرف عدد كبير من البربر ولم يستطع النّجاة إلّا بدفع رشوة لأخ القائد الخارجي أبي قرّة الإفريني. لكنّ الخوارج حاصروه بالقيروان وتمّ قتله في إحدى محاولات الانفلات (١٥٤ ه‍). ودخل أبو حاتم الإباضي بالقوّة العاصمة واستباحها لجنوده ، وهكذا سقطت القيروان عنوة للمرّة الثالثة. وعمّت الفوضى من جديد البلاد.

عندئذ قرّرت السلطة ببغداد بذل مجهود كبير وأرسلت رجلا عرف عنه النشاط والقيمة الشخصية وهو أيضا من أحفاد المهلّب بن أبي صفرة. إنه يزيد بن حاتم الذي اصطحب جيشا يعدّ ٠٠٠ ، ٦٠ رجل حسب الإخباريين وهو رقم مضخّم كما سبق لي أن قلت ، لكن على كلّ أعظم قوّة عسكرية دخلت إفريقية العربية (١٥٥ ه‍ / ٧٧١ م).

أوج عهد الولاة : الفترة المهلّبية (١٥٥ ـ ١٧٧ ه‍ / ٧٧١ ـ ٧٩٣ م)

لقد دامت هذه الفترة قرابة الرّبع قرن ، صادفت خمس عشرة سنة منها ولاية يزيد بن حاتم الذي طبع هذه الفترة بقوّة شخصيته. فكان عهده عهدا ذهبيا مجيدا على مستوى الحضارة الماديّة كما على مستوى الثقافة ، وأرسى أسس مستقبل إفريقية لاحقا في العصر الإسلامي. وقد أخذت السلطة السياسية مظهر السلطة الأسروية لفائدة هذا الفرع المهلّبي المنحدر من قبيصة ، لكن ليس بصفة آلية ولا بتوريث مباشر من الأب إلى الابن كما سيجري عليه الأمر في العهد الأغلبي. فالسلطة الخليفية اتّخذت حلا وسطا بين التوريث الفعلي غير المباشر وبين تدخّل الخليفة في التعيين ، واستثاقت بهذا الفرع المهلّبي الذي عرف كيف يبعث شبكة من الموالي والصّنائع للإمساك بالبلاد. لذلك فإنّ داود بن يزيد بن حاتم لم يحظ

١٨٦

سوى بفترة حكم قصيرة دامت تسعة أشهر بعد موت أبيه ثم تمّ تعويضه من طرف الخليفة بروح بن حاتم (١٧١ ه‍). وكذلك بعد موت روح ، عيّن الخليفة نصر بن حبيب رغم أنّ اختيار عرب إفريقية كان لفائدة ابنه قبيصة وأخذ نصر بزمام السلطة فورا بمعونة قائد الشرطة وأحد قوّاد الجيش وأزاح قبيصة دون لباقة. إنّما كانت هذه هي التراتيب المعمول بها من قديم أي أنّ عهد الخليفة هو الأساس ومتى ما وصل إلى شخص صار الحكم المطلق بيده وأضحى الوالي القديم عدما إن لم يتعرض للتنكيل.

لقد حكم المهلّبيون إفريقية إلى نهاية فترة الفضل بن روح (١٧٧ ه‍) مستندين إلى ثقة الخليفة ، إلى مكانتهم الاجتماعية ومجدهم ، إلى تأثير عائلتهم وامتداد ثروتهم. واعتمد يزيد بن حاتم ، وهو الشخصية الكبيرة من بينهم ، فوق ذلك على الجيش الذي جلبه معه والذي كان مخلصا له ومطيعا فأسكت احتجاجات ومطالب الجند الأموي القديم كما العناصر التي قدمت مع ابن الأشعث.

وهكذا كانت بنية الاستيطان بإفريقية : فهي جملة ترسّبات جيولوجية مرتبطة بتدفقات الجيوش من المشرق التي يستقرّ عدد منهم وبالتالي بالعامل الزمني. هناك توازن مختل على الدوام لكن لم تحصل أيّة ثورة عسكرية طوال مدّة يزيد. بقيت الحركة الخارجية التي لا تفتر ولا تني أبدا من تلقاء نفسها. هنا أسعف الحظ يزيدا. فمنذ ١٥٥ ـ ١٥٦ ه‍ أخمد بنفسه حركة أبي حاتم ورجاله ، وبعث بأحد قوّاده إلى الزّاب لقمع الحركة الخارجية ، وأخيرا أطفأ ثورة طرابلسية قامت بها هوّارة. وبعد موته كان من نصيب داود أن يطفئ شعلة أخرى التهبت ، وأثبت داود جدارته في القضاء على تحرّكات الخوارج بالمغرب بصفتها انتفاضات مستديمة تمسّ بالأمن العامّ وكان هذا العمل شاقا وطويل النفس.

وحقيقة الأمر أيضا أنّ الخوارج كان يصعب عليهم مقاومة أفواج ضخمة من الرجال في مثل أهميّة الجيش الذي صاحب يزيدا كما أنهكهم طول الصراع وعدم جدواه. ومن جهة أخرى ، لقد امتصّ حدّة البربر

١٨٧

الخوارج قيام إمارات منشقّة إمّا خارجية وإمّا أسّسها آل البيت. وهذا أمر إيجابي جدا في تاريخ المغرب الإسلامي وذو أهمية كبرى على الرّغم من تفتيته لوحدة دار الإسلام. وهنا لا بدّ من وقفة.

لقد تحدّثنا آنفا عن تكوين إمارة سجلماسة الصّفرية وهي أوّل إمارة خارجية مستقلّة فوق أرض المغرب. وزيادة على كونها قلعة خارجية منتظمة ، ستلعب سجلماسة دورا كبيرا في المستقبل كمحطّة تجارية نحو إفريقيا السّوداء وأيضا كملجأ لعبيد الله المهدي الفاطمي. لكنّ تأسيس إمارة تاهرت الإباضية كان أعظم أثرا ، لامتداد دورها وفعالياتها على جزء شاسع من جنوب بلاد المغرب قاطبة. وقد كانت الفرقة الإباضية التي قامت بإيجادها متسيّسة ومتوغّلة في الفقه الخارجي الإباضي كما رأينا ، يعني أكثر عقلانية من سواها. لقد يئس الخوارج من تكوين مملكة في المغرب كلّه بسبب المقاومة العربية ولأنّ همّهم كانت الثورة والصّراع الحربي وأخيرا لأنّ القبائل لم تكن لتتّفق بسهولة على إمرة وعلى خطة.

والآن ، بعد زمن الحرب جاء زمن التأسيس الحضاري والرّضوخ للواقع أي تخفيف حدّة الطموح المنبني على الحماس.

لقد كان عبد الرحمان بن رستم الذي بويع بالإمامة في تاهرت سنة ١٦٢ ه‍ العضد الأيمن لأبي الخطاب ذاك القائد الإباضي الكبير عسكريا وسياسيا ودينيا. وقد خلفه على إمرة القيروان وساس البلاد بذكاء ، ولم يكن الخوارج يعيرون اهتماما للأصل الإثني لقادتهم : فأبو الخطاب كان على الأرجح مولى لمعافر ومتعرّبا وعبد الرحمان كان من أصل فارسي وهو متعرّب ومتضلّع في الدّين على المذهب الإباضي ؛ وهذا يؤهّله أكثر من غيره للإمامة بسبب وضعه المتحرّر من أيّة عصبية قبلية بربرية ، ودون شك بسبب قدراته.

وقد اختطّت تاهرت في سنة ١٦١ ه‍ في الشّق الغربي للمغرب الأوسط على نمط الأمصار الإسلامية ، ولعلّ البصرة كانت هي المثال.

وكانت تنزل حول تاهرت قبائل من هوّارة ولواتة ومكناسة ومزاتة ولمّاية

١٨٨

وهي داخلة في المذهب الإباضي ، فهي مادّة بشرية مهمّة لتأهيل المدنية التي ستصبح القصبة الكبرى للإباضية وللخوارج عامّة بل ستكوّن دولة هي دولة بني رستم ستلعب دورا كبيرا في المصير التاريخي للمغرب ولتركيز الإسلام في الجماهير المغربية المشتّتة.

وأخيرا لا بدّ من ذكر مجيء إدريس الحسني العلوي إلى المغرب الأقصى في سنة ١٧٠ ه‍ ومبايعته من طرف البربر وهو حدث مهمّ جدا لأنه سيهيكل هذه الرقعة حول الأسرة الإدريسية وسيمنحها هويّة وشخصية وسيمدّ في حركة الأسلمة والتحضّر في أعماق البلد. ولم تكن دولة الأدارسة دولة شيعية بالمعنى المذهبي وإنّما دولة مبنية على كاريزما آل البيت وسيغدو هذا تقليدا في المغرب.

وهكذا نرى أنّ هذه الفترة التي صادفت عهد العبّاسيين الأوائل شهدت هيكلة تاريخية لبلاد المغرب ومحطات مهمّة : ترسيخ الحضور العربي في إفريقية ؛ تكوين إمارات خارجية بالمغرب الأوسط ؛ تكوين الإمارة الإدريسية بالمغرب الأقصى. ويمكن أن نضيف تأسيس الولاية الأموية بالأندلس حيث كانت من قبل الأندلس تابعة لنظر والي القيروان من الوجهة القانونية.

ولا بدّ من أن نشير إلى أنّ هذا الانبناء التاريخي السياسي ليس فقط بناء حضاريا وتنظيما لعالم لم يجد محوره ، حيث أنّ العامل السياسي يؤطّر ويعجن الوجود الإنساني الجماعي ، بل هو هيكل أيضا الفضاء المغربي وقسّمه إلى أجزائه الثلاثة : الأدنى والأوسط والأقصى. ولم يكن هذا الفضاء إلّا عبارة جغرافية بالرّغم من وحدته الإثنية. وكان من الضروري أن تصطدم هذه الوحدة بوحدة إثنية أخرى غازية ومسيطرة كي يستفيق شعور بالذات عبر المذهبية الدينية لدى الخوارج أو القوّة الكاريزمية النّبوية عند آل البيت. وحينما فشل العرب في التوحيد السياسي ـ ولم يكن هذا ممكنا ـ نجح الإسلام الصّافي في توحيد القلوب وتشتيتها في آن. وهكذا يمكن الحديث عن مغرب إسلامي في هذه الفترة

١٨٩

وفيما بعد وليس عن مغرب متعرّب وهذا على كلّ حال يستلزم وقتا طويلا كما في المشرق بالرّغم من كثافة الاستيطان.

لقد كانت إفريقية وحدها في سبيل التعرّب في المدن والثغور وليس في الأرياف. ولن يتمّ هذا الأمر إلّا بمجيء جحافل البدو في القرن الخامس ه / ١١ م سواء بصفة مكتملة بإفريقية أو بصفة منقوصة ـ لكن مهمّة ـ في بقيّة المغرب.

اضطرابات أواخر القرن الثاني وانتصار الإمارة الأغلبية (١٧٧ ـ ١٨٤ ه‍ / ٧٩٣ ـ ٨٠٠ م)

الآن وقد أطرد الخوارج من إفريقية بالتّحديد وامتصّت طاقاتهم بتكوينهم لإمارات لهم ، تفاقمت الثورات العسكرية للجند العرب والخراسانيين الذين دخلوا البلد في العهد العبّاسي. وهذا سواء في ولاية آخر المهلّبيين الفضل بن روح كما في ولاية خلفائه هرثمة بن أعين ، أحد كبار القواد العبّاسيين ، ومحمد بن مقاتل العكّي.

من البديهي أنّه لا يمكن لمثل ذلك العدد الهائل من الجيش أن يبقى عاطلا على النشاط دون أن يشكل خطرا على السلطة ، خاصّة وأنه تمركز في الحاميات دون اختلاط بالسكّان المدنيين أي في حالة عزلة مشجعة على الهيجان. لقد كانت أغلبية الجيش أو قسم كبير منه مستقرّا بمدينة تونس بعيدا عن مراقبة السلطة. وأخيرا هذا الجيش لم يعدّ كالبعوث القديمة المكوّنة من أبناء القبائل العربية القادمة للاستيطان من مصر والشام ولتكوين أمصار وضمّ هذه الأرض إلى دار الإسلام ، بل صار جيشا محترفا نظاميا لا يطمح إلى الاستقرار. وتبعا لبنية الجيش وتطوّر الأمور ، فقد تشخصنت القيادة وفتحت أبواب الطّموحات لدى القادة العسكريين المهنيين تقريبا ، فتضاعفت أخطار روح الاحتجاج ، كما أن إفريقية لم تكن قادرة على تحمّل مصاريف هذا العدد الكبير من الجند.

ففي ١٧٨ ه‍ ، ثار جند تونس على الوالي الفضل بن روح ونصّب

١٩٠

على رأسه ابن الجارود الذي دخل القيروان وسحق الوالي وجيشه. لقد حاول هذا عبثا اللجوء إلى المدينة بعد الهزيمة ، لكنّ قادته بالذات فتحوا الأبواب لابن الجارود تضامنا مع زميلهم. هذا يمكن تسميته بالتعصّب المهني لجسم القادة العسكريين وبضعف هالة السلطة الخليفية تبعا للبعد الفضائي. وبعد أن قتل الفضل وهو هارب في طريقه إلى طرابلس ، تولّى ابن الجارود السلطة مؤقتا ثم تراجع عن ذلك ليثبت أنه ثار في سبيل حقوق الجند وليس طمعا في الحكم ، فبعث به الوالي الجديد إلى بغداد (١٧٩ ه‍).

الواقع أنّ جند تونس كان أقوى من جيش الوالي المخلص له. وهذا ما برهنت عليه ثورة ثانية في ١٨٣ ه‍ ضدّ الوالي العكّي الذي أساء السيرة وخفّض في الأعطيات ، لأن المشكلة هي كما قلنا مشكلة مالية. وتمّت الغلبة مرة أخرى للثوار ودخلوا مرّة أخرى القيروان تحت قيادة تمّام بن تميم. هنا يتدخّل إبراهيم بن الأغلب قائد جيش الزّاب ، ذلك القطب الآخر الحدودي العسكري ، وهو عسكري مهني اختار أن يلعب لعبة الشرعية في سبيل إيجاد حلّ وسط بين استقلالية الولاية والارتباط بالخلافة. ومن الواضح أنه لا يمكن له أن يدخل في لعبة الانتفاضة والمنافسة بين القوّاد لأنها لا تنتهي. فتدخل إبراهيم لصالح الوالي العكّي المقهور وانتصر على الثورة فخلّص بذلك إفريقية من صراعات القوّاد واستعاد لفائدته هالة وظيفة الوالي / الأمير اعتمادا على القوّة وعلى الشرعية الخليفية معا. وكان من الواضح للمعاصرين أنّ اتجاه ابن الأغلب إلى دعم النظام القائم ـ هنا الوالي ومن وراءه ـ يعني في الحقيقة العكس أي تكوين إمارة شبه مستقلّة.

وهكذا نصّبه هارون الرّشيد على رأس البلد وفوّض له في الأمر وهذا ما سيجري في مصر مع ابن طولون وفي خراسان مع طاهر بن الحسين ، لكنّ إفريقية كانت سبّاقة في هذا الشأن بسبب بعدها واضطراباتها المزمنة منذ ستين سنة ، وبسبب تكوين إمارة علوية في

١٩١

المغرب الأقصى وهو أخشى ما يخشاه العباسيون. وبذلك تكوّنت إمارة إفريقية الأغلبية (١٨٤ ه‍ / ٨٠٠ م) فدامت قرنا ، وهي إمارة تفويض سلالية تتمتّع باستقلال حقيقي داخلي وخارجي مع الاعتراف بالسلطة العليا للخليفة. وكان البلد إذاك شاسعا يضمّ الزّاب وتونس الحالية وجهة طرابلس ، وكان أرض مدن وزراعة منتظمة ويحوي سكانا مستقرّين لهم انغراس في التاريخ وتجربة بالحضارة.

الخاتمة

إنّ مرحلة الفتح وتنظيمها في المغرب (منتصف القرن الأوّل ـ أواخر القرن الثاني ه / ٦٥٠ ـ ٨٠٠ م) فترة أساسية في التاريخ المغربي من طرابلس إلى الأطلسي ، فهي من الحقبات التي تحسب في حياة الشعوب. وإليها يدين المغرب بهويته الجديدة لمدّة ١٤ قرنا وما هو عليه الآن في كينونته كأرض عربية ومسلمة. وليست المسألة فقط مسألة لغة أو دين على ما لهذين العاملين من الأهمية ، بل أيضا مسألة انخراط في حضارة شاسعة كبيرة وإسهام فيها ، أقصد الحضارة الإسلامية والثقافة الإسلامية. كلّ هذا يعني الكثير : نمط حياة ، دينامية تاريخية ، نظم سياسية واجتماعية ، ثقافات شعبية ونخبوية. ولكن أيضا الاهتزازات وفترات الفوضى والانهيارات على مدّ أكثر من ألف سنة.

لقد وضعت لحظة الفتح والتنظيم أسس هذا التطوّر بعنت كبير في إبقاء الوجود الإسلامي ، فهي لحظة انتقال حسّاسة في مصير المغرب. وبهذا المعنى ليس من المفيد كثيرا الحديث عن آثار التواصل مع الماضي : الحضارة البونيقية ، والثقافة الرّومانية ، والدّيانة المسيحية. هذا التواصل كان يسري في الأعماق لمدّة ، لكنّ الإسلام كدين وتاريخ دحره ودفنه نهائيا. لقد كانت إفريقية وما يتبعها جزءا من الإمبراطورية الخليفية وأكثر من ذلك جزءا من دار الإسلام وهو رباط لا يفكّ. وقد تغلغل الحضور العربي / الإسلامي لكن أيضا البربري / الإسلامي في أعماق

١٩٢

المغرب ، في دواخله الصّحراوية ، وهذا لم تقم به الهيمنات القديمة وأهمّها الحضور الروماني الذي بقي أسير السّواحل.

ويجب أن نؤكّد أنّ العرب دخلوا البلد بعملية فتح أي بغزو عسكري ضد الرّوم ثم ضد الأهالي البربر ، وقد كان الغزو قاسيا كما كانت السيطرة العربية في أولى خطاها ولمدّة طالت بسبب مطامع الخلفاء ، قاسية ومدمّرة للبشر. ولم يكن من الممكن أن يحصل انصهار عرقي ولا حتى ديني ، فكان الاحتجاج قائما على الدّوام من طرف البربر سواء بسبب المظالم أو بسبب العقيدة الخارجية أو بسبب اتجاهاتهم القبلية الحربية أو لكلّ هذه الأسباب مجتمعة.

الحقيقة أنّ مغرب الأعماق الذي زلزله واخترقه الغزاة العرب من لدن عقبة ، قام بردّة فعل عنيفة ومتعنّتة سواء زمن الفتح أو فيما بعد زمن الولاة الأمويين فالعباسيين ، لأنه دخل في دوّامة التاريخ ـ ولم يكن ذلك إلّا قليلا في عهد الرومان ، ولأنّ الأسلمة السريعة الفريدة في هذه الفترة الإسلامية أجّجت مشاعر المساواة وإرادة الاحتجاج ضد الظلم. ولئن كانت الدولة القادمة ، دولة الفاتحين الغزاة ، مهدّدة على الدّوام طوال قرن من طرف القوى الاجتماعية ، الخوارج بالأساس ثم ثورات الجند ، فإنّها لم تنحلّ أبدا وبقيت صامدة إلى أن وجدت توازنا جديدا مع إبراهيم بن الأغلب.

وقد رأينا أنّ البربر الخوارج عاودوا مقاومة الفتح بعناد مذهل ومثير. لكن هذه المرّة تحت غطاء مذهب مأخوذ عن العرب ، عرب المتروبول الشرقية ـ العراق ـ وهو مذهب احتجاج واندماج في آن وبالتالي فالسيطرة العربية كانت منخورة بمبدأ إسلامي ، بمبدأ عاجز على فرض إجماع في المشرق كما في المغرب ، إنّما برهن على أنه قادر على تأسيس بؤر من الطهارة ـ المتخيّلة ـ في عالم مدنّس دخلت مع هذا في لعبة الدنيا.

وفي نسق آخر من التفكير ، كانت انتفاضات الجند تنبع من

١٩٣

تناقضات أخرى في الإسلام الفاتح ، فعرفت إفريقية انهيار التنظيم العربي للفتح الذي تجاوزته الظروف الجديدة بصفة عامّة ، ولكونه بصفة خاصة عاجزا بالضرورة عن الحفاظ على الدولة ضد الخوارج دون جيش مكثّف وفي نفس الوقت عن تلبية حاجيات هذا الجيش. ولقد ظهر مليّا في عهد الرّشيد ومن بعده من الخلفاء أنّ الإمبراطورية كانت شديدة الامتداد ولا زالت مع هذا مركزية كما في العهد الأموي خصوصا بعد بروز وعي بالذات في عالم المغلوبين من خراسان إلى الأطلسي. فكانت دار الإسلام مشدودة بين قوى الانقسام وإرادة التوحيد المستمرّة وهي جدلية ستشقّ تاريخ الإسلام إلى حدود الغزو المغولي.

إنّ كلّ فترة تاريخية لها إيجابياتها وسلبياتها سواء من منظور المؤرّخ أو من منظور من عايشوها. لكنّ هذه الفترة بالذات كما تبيّن حملت معها انقلابا جذريا بالنسبة للمغرب أكبر بكثير ممّا حصل بدخول الرّومان بعد قتلهم لقرطاج قبل ٨٠٠ عام. فالفتوحات الإسلامية أتت معها بدين مؤكّد يخترق الضمير الإنساني وكذلك بنموذج الأمّة والدولة. وهكذا انفتحت الآفاق لكي يؤسّس أبناء هذه الأرض دولهم الكبرى في المستقبل حوالى منعطف الألفية الأولى المسيحية حسب النموذج الإسلامي. ولم يكن الرّومان أقلّ مقدرة من المسلمين ، إنّما عامل الزّمان يزن بوزن ثقيل على تاريخ البشر.

١٩٤

V

فتح الأندلس والتطوّر الأوّلي

١٩٥
١٩٦

منذ فتحت الأندلس في ٩٢ ثمّ في ٩٣ للهجرة إلى حدود افتكاك السّلطة من طرف عبد الرحمان بن معاوية الأموي سنة ١٣٨ ه‍ أي لمدّة تقترب من نصف القرن ، كانت الأندلس بالأساس تابعة لولاية إفريقية والمغرب أي لوالي القيروان. فهو يسمّي العمّال عليها وهؤلاء في أغلب الأوقات من عرب إفريقية ، لكن قد يسمّي الخليفة بنفسه واليا على الأندلس مثلما تذكر ذلك المصادر بخصوص عمر بن عبد العزيز وهشام بن عبد الملك. وابتداء من أزمة انحلال الدولة الأموية في ١٢٩ ه‍ حدث أن رشّح عرب الأندلس واحدا منهم على الولاية أو تغلّب أحد القوّاد مثل يوسف الفهري على البلاد. وهذا ما حصل أيضا بإفريقية في فترة الاضطراب هذه التي دامت من ١٢٧ إلى ١٤٤ ه‍.

في الحقيقة ، هي أزمة طالت كلّ الإمبراطورية الإسلامية في القلب والأجنحة ، وفي صلب الحكم ذاته ، في أسلوبه ، في تركيبة القوّة العسكرية ، في موازين الإثنيات. فقد وجد أبو جعفر المنصور صعوبات كثيرة في توطيد حكمه وحكم بني العبّاس كما في الحفاظ على وحدة دار الخلافة. فنشب قوّاد وزعماء ، من الحركة العبّاسية ذاتها أوّلا ، لخلع الخليفة الجديد (ابتداء من ١٣٦ ه‍) أو للاستقلال بمقاطعة ما ، مثل أبي مسلم الخراساني وقبله عبد الله بن علي بالشّام ، أو فيما بعد الفرع الحسني سواء محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن أو أخوه إبراهيم. ولم تحلّ هذه الأزمة إلّا بالصّراع والحيلة والقتل.

ذلك أنّ أبا جعفر لا يمتلك مبدئيا الشّرعية الكافية لا في بيته العبّاسي ولا باسم آل البيت جملة ولا بالنسبة للقوى الخراسانية التي اعتمدتها الحركة. وأكثر من ذلك ، فإنّ الدولة الأموية عرفت بذاتها أزمة كبيرة قبل أن تسقط في ١٣٢ ه‍. وسقطت بالفعل بعد محاولة جدّية

١٩٧

لتوحيد الصّفّ مع مروان بن محمد إذ انحلّت قاعدتها الشامية في الأعماق ، كما أنّ الحركة الخراسانية أبدت جدّيتها وشدتها ضدّ القوى الشامية وحتّى الجيوش العراقية الضّخمة. فالفتنة ابتدأت من سنة ١٢٧ ه‍ واستعرت من ١٢٩ ه‍. وكانت قاعدة الشرعية العباسية ـ المبنية على الغموض ـ رهيفة في سنة ١٣٢ ه‍. فتفجّرت المطامع والانشقاقات المكبوتة عند تولية أبي جعفر بعد أربع سنوات أي في ١٣٦ ه‍ ، لكنّها وجدت أمامها رجلا حازما ، قويا ، شديدا ، لا يني ولا يرحم ، من طراز مؤسّسي الدول وهو الباني الحقيقي للدولة العبّاسية.

وبالطبع فإنّ مثل هذه الأزمة في قلب الإسلام كان لها أقوى صدى في الجهات النائية مثل بلاد المغرب والأندلس. هي نائية جغرافيا ومتأخّرة في الفتح زمنيا ، مثلها في هذا كمثل ما وراء النهر (آسيا الوسطى) أو كمثل السّند مع فروق واضحة وشخصية خاصّة. فقد رأينا استقلال إفريقية الفعلي وحتّى القانوني تحت سلطة الفهريين وهم من أحفاد عقبة ومن رؤساء عرب إفريقية بدءا من ١٢٩ ه‍ إلى حدود ١٤٤ ه‍ ، ورأينا أيضا تكوين إمارة سجلماسة الخارجية البربرية ثم سيتلو تكوين إمارة الأندلس الأمويّة بدءا من ١٣٨ ه‍. إلّا أنّ الاستقرار لن يتم قبل زمن طويل وأخيرا ستبرز مملكة الأدارسة في المغرب الأقصى حوالى ١٧٠ ه‍ (١) وإمارة تلمسان الرستمية ، وأخيرا الإمارة الأغلبية التي لم تقطع الصّلة مع الخلافة لكنّها كانت إمارة وراثية وشبه مستقلة. ماذا يعني هذا سوى أنّ بلاد المغرب والأندلس الشاسعة والبعيدة انفلتت كلّها من قبضة الخلافة المركزية بعد قرن من إلحاقها مع موسى بن نصير (٨٤ ه‍) أو أقلّ من قرن بخصوص الأندلس.

ومع هذا ، لم تخرج هذه الرقعة التي تمثّل عالما في حدّ ذاته ، عن دائرة الإسلام وحتى عن دائرة العروبة الحضارية والثقافية. بل إنّ إفريقية

__________________

(١) ابن العذاري ، البيان المغرب ، ج ١ ، ص ٢١٠ : «استوطن وليلي ثمّ نزل على إسحاق بن عبد الحميد سنة ١٧٢ ، فقدّمه قبائل البربر ، وأطاعوه».

١٩٨

والأندلس كوّنتا قطبا حضاريا ممتازا ، والأندلس أكثر من إفريقية ستغدو مركز إشعاع قوي للحضارة الإسلامية مثل العراق أو خراسان ، المركز الآخر للإسلام. أمّا المغرب الأقصى فإنّه سيحمل إمبراطوريات قوية ، بربرية الجنس ، إسلامية الأسلوب. وفي آخر المطاف ، إنّ التّهرّب من حكم مركزي بعيد والإبقاء على إمكانات بلد ما يهيكل هذا البلد ويفجّر قواته الكامنة ، فيما أنّ فترة الوحدة الأولى بعد الفتح كانت فترة جهادية وغامضة ومضطربة جدا ، بالأخصّ بعد أسلمة البربر في المغرب وبعد تكثيف الحضور العربي بالأندلس بدءا من ١٢٣ ه‍ مع نزوح عرب الشام إليها كما سنرى.

كلّ هذه المشاكل ستتّضح عند عرضنا الآن للأحداث.

فمن المعروف أن طارق هو الذي بدأ بفتح الأندلس. من هو طارق؟ هو مولى بربري (١) من قبيلة" نفزة" ، وهذه القبيلة ليست بنفزاوة الطرابلسية ، بل هي على الأرجح مستقرّة حول طنجة ، في" الريف" الحالي. وقد لعبت دورا في مقاومة فتح المغرب الأقصى من طرف موسى بن نصير وبعده ، أي أنها قبيلة جبلية محاربة. ومنها أخذ العرب سبيا كثيرا من جملتهم أمّ عبد الرحمان بن معاوية الدّاخل ، ومنها أخذوا رهائن كما من غيرها. وكان طارق مولى وعاملا لموسى «على المغرب الأقصى» وهو بذاته من سبي البربر ومكلّف برهائن البربر. وكان من استراتيجية موسى بن نصير لتهدئة وترويض المغرب الأقصى أن يتّخذ من القبائل المقهورة صنائع وموالي يكون مجده مجدهم وقد مثّلوا عددا كبيرا ، وكذلك رهائن من «أبناء رؤساء القبائل ضمانا لسلمهم». من الأقرب أنّ طارقا كان عاملا على طنجة ، قاعدة الحكم العربي آنذاك ومن بعد ، أو على الأرجح أن يكون ممثلا لموسى على قبائل الجهة أي السّوس الأدنى. وتقول المصادر إنّه جاز إلى

__________________

(١) ابن العذاري ، البيان المغرب ، ج ٢ ، ص ٥ ـ ٦ ، «مولى موسى بن نصير». ما ورد في : ابن الأثير ، الكامل ، ج ٤ ، ص ٥٥٦ وما بعدها غير مقنع وخرافي.

١٩٩

الأندلس برهائن البربر ، ممّا يعني أنّهم كانوا يمثّلون عددا كبيرا وأنّه منحهم هدفا للقتال والغنيمة.

وتتردد المصادر بخصوص الفتح الأوّلي للأندلس أو قسم منها أكان عن أمر من موسى بن نصير أو عن مبادرة شخصية من طارق. الذي لا شكّ فيه أنّه تمّ بعد مفاوضة مع" ملك الجزيرة الخضراء وجهتها يوليان" وبطلب منه وإعانة هامّة أيضا. يوليان هذا على الأرجح من الرّوم لأنّ البيزنطيين أعادوا غزو إسبانيا وتمكّنوا من البقاء في الجنوب ، على أنّ هذه الرّقعة حدث الاستيلاء عليها شيئا فشيئا من طرف الجرمان" الفيزيغوط" وملكهم" روذريق" وعاصمتهم طليطلة ، وكان حكمهم يضمّ غالب إسبانيا والوسط بالخصوص. ماذا حدث بين روذريق ويوليان حتّى يساند العرب على ولوج إسبانيا مساندة قويّة إلى درجة أنّ جيش طارق عبر" فوجا بعد فوج (١) في مراكب يوليان"؟ على كلّ عبر طارق مع جيشه المتركّب كليّا أو بأغلبية ساحقة من البربر ، وحصلت معركة حاسمة مع روذريق سنة ٩٢ ه‍ / ٧١١ م على وادي" لكّه" (٢) من كورة شذونة. أمّا خرافة المراكب المحروقة ، فلا ترويها أبدا المصادر الجدّية.

فالذي قام به طارق مهمّ جدا : العزم على غزو الأندلس ، تكوين قوّة ضاربة من البربر ، الفوز في معركة حاسمة على الجيش الفيزيغوطي. فهو صاحب المبادرة والعمل الأوّلي الأساسي. وأتى موسى بن نصير مسرعا ومعه جيش من العرب والبربر ، وهنا يمكن أن يقال إنّ العرب دخلوا لأوّل مرّة إلى الأندلس. ومجيء موسى مرتبط أساسا بالغنيمة وجمع الأموال والسّبي وكان هذا همّ الحكم الإسلامي سواء بإفريقية أو بالمركز ـ هنا دمشق ـ ومن هنا أتى حنقه على طارق زيادة على كونه أخذ المبادرة بدون أمر من موسى ونجح في عملية الغزو الأوّلي. لكن مع هذا واصل موسى عمليات الفتح في الجنوب الغربي فأخذ قرمونة وماردة

__________________

(١) البيان المغرب ، ج ٢ ، ص ٦.

(٢) نفس المصدر ، ص ٨.

٢٠٠