دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

بالدخول في السّبب ، صار مترقبا له ، ناظرا إلى ما يؤول إليه تسببه ، وربما كان ذلك سببا إلى إعراضه عن تكميل السّبب ، استعجالا لما ينتجه ، فيصير توجهه إلى ما ليس له ، وقد ترك التّوجه إلى ما طلب بالتوجه إليه.

وهنا تساق لنا حكاية التّقي المخدوع الّذي «سمع : (أنّ من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه) ، فأخذ ـ بزعمه ـ في الإخلاص لينال الحكمة ، فتم الأمد ، ولم تأته الحكمة ، فسأل عن ذلك فقيل له : إنّما أخلصت للحكمة ، ولم تخلص لله» (١).

هذا إلى جانب أنّ الإنسان يبرهن بالإنقطاع الذّهني بين العمل ، ونتائجه على أنّه يؤمن بالله أعظم من إيمانه بنفسه ، لأنّه حين يفصل السّبب عن نتيجته فلن يرى بعد ذلك هذه النّتيجة شيئا بدهيا ، لوجود سببها ، بل سيراها صادرة عن إرادة الخالق وحدها.

ولسوف تكون محاسن هذا الموقف العاقل مضاعفة : فتبدو أوّلا ، وبشكل مباشر ، على ذواتنا ، ثمّ في طريقة أدائنا لواجبنا ، ثمّ يكون لها إنعكاسات على موقفنا في المستقبل. وحسبنا لكي نقدر الحالة النّفسية حقّ قدرها ، لدى من

__________________

(١) انظر ، الموافقات : ١ / ٢١٩ ـ ٢٢٠. والأثر أخرجه أبو نعيم في الحلية عن أبي أيوب : ٥ / ١٨٩ ، وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات ، وضعفه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء ، (فيض القدير : ٦ / ٤٤). (المعرب).

وانظر ، المصنّف لابن أبي شيبة : ٧ / ٨٠ ح ٣٤٣٤٤ ، مسند الشّهاب : ١ / ٢٨٥ ح ٤٦٥ ، الزّهد لابن المبارك : ١ / ٣٥٩ ح ١٠١٤ ، التّرغيب والتّرهيب : ١ / ٢٤ ح ١٣ ، الزّهد لهناد : ٢ / ٣٥٧ ح ٦٧٨ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٣ / ٥٦٤ ح ٥٧٦٧ ، شرح سنن ابن ماجه : ١ / ٥٨ ح ٧٩٨ ، فيض القدير : ٤ / ٢٧٣ ، كشف الخفاء : ١ / ١٢٦ ح ٣٢٠.

٦٦١

يؤدي واجبه ، لأنّه واجبه ليس غير ـ أن ننظر إلى أي حدّ يؤدى انتظار النّتائج ، إلى إقلاق الرّوح ، وخلق الكثير من الهموم.

فالمرء يسأل نفسه قبل حدوث أي شيء : ترى هل سيتم جهدي ، أو يخفق؟ .. وإلى أيّة درجة سوف يعرف النّجاح؟.

وبعد حدوث الفعل ، يسأل نفسه ، تبعا لكفاية النّتيجة : لو كنت فعلت أفضل أمّا كنت كسبت أكثر؟. أو يقول حين يحكم بأنّ تصرفاته كانت غاية في السّلامة : يا لظلم القدر!!.

فهذا الّتمزق ، والتّبعثر ، وذاك القلق ، والغم ، وذلك الّتمرد ، والسّخط على القضاء ـ كلّ ذلك نتيجة نظرة متبجحة ألقيناها على السّر المستكن في ضمير الغد .. فلنسدل إذن ستارا كثيفا بين الحاضر ، والمستقبل ، ولنقم حجازا فاصلا بين العمل ، وآثاره ، فبذلك نتخلص من هذا الموكب الحزين.

وحينئذ لا نواجه سوى همّ واحد ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هو همّ تنفيذ واجبنا الماثل ، فلنقبل على العمل إقبالا كاملا ، ولنكل أمر الباقي إلى الله ، فهو الّذي يحمله عنا ، أفضل منا قطعا. يقول الرّسول : «من جعل الهموم همّا واحدا كفاه الله ما أهمه من أمر الدّنيا والآخرة ، ومن تشاعبت به الهموم لم يبال الله في أي أودية الدّنيا هلك» (١).

وهكذا نجد أنّ بساطة الهدف ، وتركيز الجهد ، والأمن النّفسي ـ هذه كلّها هي

__________________

(١) انظر ، سنن التّرمذي : ٤ / ٦٤٢ ح ٢٤٦٥ ، المستدرك على الصّحيحين : ٢ / ٤٨١ ح ٣٦٥٨ ، سنن ابن ماجه : ١ / ٩٥ ح ٢٥٧ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ٧ / ٧٦ ح ٣٤٣١٣ ، مسند الشّاشي : ١ / ٣٣٨ ح ٣١٧ ، نوادر الاصول في أحاديث الرّسول : ٤ / ١٣٤ ، فيض القدير : ٣ / ٢٦١ ، علل الدارقطني : ٥ / ٤٢.

٦٦٢

المحاسن الّتي تجلبها النّزاهة الكاملة إلى النّفس المخلصة.

فأمّا العمل فلسوف يكسب على هذا النّحو ـ ثباتا ، واستقامة ، وكمالا ، فلقد يحدث في الواقع أن تنسينا عجلتنا في جني ثمرات جهودنا ـ أن نلتفت إلى تفصيل ضروري ، أو أن تحملنا على تعديل طرائقنا ، حتّى نطوعها للهدف المقترح. وهل كان لخداع العمال ، وللغش التّجاريّ ـ مصدر سوى هذا البحث عن النّتيجة؟

أليست النّتائج الّتي يصل إليها عالم ، والتّخاذل الّذي يصاب به بطل ، والتّراخي الّذي يقع فيه مؤمن غيور ـ أو ليست هذه كلّها أبلغ أمثلة في هذا المجال؟.

فأمّا إذا كان الأمر بالعكس ، فاقتصرنا على مراعاة قاعدة الواجب ، واتباع الّنموذج الّذي تدلنا عليه ـ فإنّ العناية الخاصة الّتي نضفيها على العمل لإكماله ، والمثابرة الّتي نؤديه بها ـ كلّ ذلك سوف يجعل هذا العمل في نظرنا نموذجا فنيا جديرا بالتقدير في ذاته ، لا باعتبار الّثمرة الّتي يحتمل أن تتنج عنه.

وأخيرا ، فإنّ هذه الطّريقة في النّظر إلى الأشياء سوف تزودنا بفضيلتين ضروريتين ، لمواجهة جميع الإحتمالات ، الّتي قد تنتج عن أعمالنا. فإذا لم تؤت جهودنا ثمرتها ، فقد كنّا من قبل هيأنا أنفسنا تقريبا لذلك ، ولن تكون المفاجأة كبيرة. بل سوف نتحمل أكثر النّتائج سوءا بمزيد من الشّجاعة ، يعدل ما توقعنا من شرّ ، وحسبنا أننا ـ على الأقل ـ لم نعلق عليهما أملا كبيرا.

أمّا إذا أسفرت جهودنا ـ على العكس ـ عن نتائج طيبة ، فهي بالنسبة إلينا ، مفاجأة جميلة ، ما كان لنا أن نطيق شكر المنعم بآثارها ، على إحسانه إلينا ـ أبدا ..

٦٦٣

فهذه بيّنات كافية لتأييد النّظرية ، الّتي ترى أنّ إخلاص النّيّة ينحصر في أن يستغرق الإنسان استغراقا مطلقا في العمل التّكليفي ، منقطعا عن أيّة نتيجة.

أمّا النّظرية المعارضة ، فليست هي الأخرى أقل استنادا إلى أسبابها الخاصة. ونبادر إلى القول بأنّها لا تزعم أنّها تضع في مكان هذا المبدأ مبدأ آخر أثمن منه ، وإنّما هي تنازع فقط في حقّ هذا المفهوم ، أن يستأثر بكلّ القيمة ، بحيث توصم كلّ إضافة ذات اعتبار آخر باللاأخلاقية. أي أنّ هذه النّظرية تريد أن ترينا عجز فكرة (العمل التّكليفي ، أو التّحريمي) عن أن تنشيء القوة اللازمة للعمل ، أو الإمتناع عنه ، والضّرورة الأخلاقية لأن يضاف إليها وجهتا النّظر الآتيتان :

أوّلا : من حيث الثّمرات الطّبيعية الّتي تحدد مضمون العمل ، وأهميته.

وثانيا : من حيث الأثر الّذي تتمثله الإرادة لنفسها ، والّذي يسوغ في نظرها ـ التّكليف الأخلاقي بالبدء في العمل.

وفي الواقع ، لنا أن نتساءل من هذه الوجهة الثّانية : كيف نمنع البطل الّذي يدافع عن وطنه ، والمصلح الّذي يبتغي إنهاض أمّته ، من أن يكون لهما أدنى تطلع إلى الهدف من نشاطهما ، ومن أن يكون لهما أي اهتمام ببلوغ الغاية من أعمالهما ..

إنّ إرادة قصر نظر هذين الرّجلين الصّالحين على العمل ، من حيث مضمونه العاجل ، والمباشر ، والرّغبة في أن نفرض عليهما هذه الغشاوة القاسية الّتي تحول بينهما وبين أن ينظرا إلى بعيد ، ألا يعني كلّ ذلك حرمانهما من منبع حماسهما ذاته؟ .. أليس معناه أننا نكلفهما ألا يباليا بأمن أمّتهما ، وتقدمها؟ ..

ومن هو ذلك الرّجل ذو النّشاط الوافر الّذي يقنع تمام القناعة ، بمجرد أن يسير

٦٦٤

نظام قيادته (واستراتيجيته)؟ ..

إنّ لنا في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قدوة حسنة في هذا المجال ، فكلنا نعلم كم كان حريصا على نجاح رسالته ، وكم كان يدعو الله أن يمنح أمّته الإيمان ، ويهديها سواء السّبيل ، هذا الحرص الّذي نجده لدى كلّ رجل ماضي العزيمة ، لا ينبغي ، في الحقيقة ، أن يتحول إلى وسوسة مريضة ، كما لا ينبغي أن يبلغ درجة البرود واللامبالاة. وقد كان دور القرآن على وجه التّحديد أن يضبط هذا الحرص الشّديد لدى النّبي ، وأن يسكب في قلبه القلق هذا العزاء ، وتلك السّكينة ، حتّى يبلغ به درجة الإعتدال ، ولذلك كان من آيات القرآن قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (١).

وقوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (٢).

وقوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (٣).

أمّا فيما يتعلق بالثمرات الطّبيعية للعمل فحسبنا أن نتأمل حالة الرّجل الّذي يهمّ بعمل خبيث ، ونتأمل الفرق في ضميره بين ثقل الشّر الموجود في موضوع نشاطه المباشر ، وبين الخطر الأخلاقي لهذا الشّر نفسه ، عند ما يكون قد تأمل امتداده ، سواء من خلال انعكاساته القريبة ، والبعيدة ، أو بفعل انتشار القدوة السّيئة ، الّتي سوف يعطيها للآخرين.

__________________

(١) الكهف : ٦.

(٢) النّحل : ١٢٧.

(٣) هود : ١٢.

٦٦٥

إنّ الذنوب الّتي قد تبدو لنا من أوّل وهلة ـ ذات أهمية ضئيلة ، لا تلبث ـ بعد أن نتناولها من هذه الزّاوية ـ أن تكشف لنا عن شناعة ، وأن تجعلنا نقيس المسئولية الّتي تصدر عنها على أوسع مدى ، بحيث يمكن أن يقال : إنّ الأخلاقية تزداد هنا عمقا ، كلّما كسب أفق العمل مجالا متسعا.

إنّ هذا المبدأ هو الّذي يسوغ قولنا : إنّ ترويج درهم زائف أشد خطرا من سرقة مئة درهم ، نظرا إلى استمرار الغش الّذي يحتمه هذا العمل في تداول النّقود ، فعلى المروّج وزرها ، بعد موته ، إلى أن يفنى ذلك الدّرهم.

وقد استطاع الغزالي استنادا إلى هذا المبدأ أن يقول : «ومن نظر إلى وجه غير المحرم فقد كفر نعمة العين ، ونعمة الشّمس ، إذ الإبصار يتم بهما ، وإنّما خلقتا ليبصر بهما ما ينفعه في دينه ، ودنياه ، ويتقي بهما ما يضره فيهما ، فقد استعملهما في غير ما أريدتا به ، وهذا لأنّ المراد من خلق الخلق ، وخلق الدّنيا ، وأسبابها ـ أن يستعين الخلق بهما على الوصول إلى الله تعالى ، ولا وصول إليه إلّا بمحبته والأنس به في الدّنيا ، والتّجافي عن غرور الدّنيا ، ولا أنس إلّا بدوام الذّكر ، ولا محبّة إلّا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر ، ولا يمكن الدّوام على الذّكر ، والفكر إلّا بدوام البدن ، ولا يبقى البدن إلّا بالغذاء ، ولا يتم الغذاء إلّا بالأرض ، والماء ، والهواء ، ولا يتم ذلك إلّا بخلق السّماء ، والأرض ، وخلق سائر الأعضاء ظاهرا ، وباطنا ، فكلّ ذلك لأجل البدن ، والبدن مطية النّفس ، والرّاجع إلى الله تعالى هي النّفس المطمئنة بطول العبادة ، والمعرفة ؛ فلذلك قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَ

٦٦٦

وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) (١) ، فكلّ من استعمل شيئا في غير طاعة الله فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب الّتي لا بدّ منها ، لإقدامه على تلك المعصية» (٢).

وقد استخلص الشّاطبي من هذا التّنازع بين الأدلة المتعارضة النّتيجة الآتية : أنّه لا ينبغي إذن أن نرفض جملة ، أو نقبل قبولا عاما كلّ ما يترتب على النّظر في المسببات ، ولكن ضابطه أنّه إن كان الإلتفات إلى المسبب من شأنه التّقوية للسبب ، والتّكملة له ، والتّحريض على المبالغة في إكماله ، فهو الّذي يجلب المصلحة ، وإن كان من شأنه أن يكر على السّبب بالإبطال ، أو بالإضعاف ، أو بالتهاون به ، فهو الّذي يجلب المفسدة (٣).

ومع اعترافنا بضرورة التّفرقة بين الإعتبارين ، فإنّ صياغتنا للفكرة سوف تكون مختلفة إختلافا يسيرا.

هنالك أوّلا حالات تصلح فيها هذه الطّريقة في تقدير الأعمال بنتائجها الموضوعية ، الّتي يمكن أن تستتبعها ، لا في رفع درجة تشددنا الأخلاقي فحسب ، أو في النّظر بعين الخطورة إلى أخطاء كنّا من قبل نعتبرها أقل خطرا ، بل إنّ هذه الطّريقة قد تصلح أحيانا في تغيير طبيعة أحكامنا ذاتها ، المتعلقة بهذا العمل ، أو ذاك.

فهل هناك ما هو أكثر منافاة للقانون من ترك الجريمة دون عقاب ، وترك

__________________

(١) الذّاريات : ٥٦ ـ ٥٧.

(٢) انظر ، إحياء علوم الدّين للغزالي : ٤ / ٨٨.

(٣) انظر ، الموافقات : ١ / ٢٣٥.

٦٦٧

الباطل يغتصب مكان الحقّ ، وترك الظّلم يتسلط؟؟.

ولكن ، إذا كان اللّوم الّذي يوجه ضد خطأ معين يثير من الأخطاء ما هو أشد خطرا ، وإذا كان التّشهير بالباطل يستتبع إظلام الحقيقة ، وإذا كان الّتمرد على الطّاغية ، مع العجز عن إقرار النّظام ، لا يؤدي إلّا إراقة دماء الأبرياء ، وجعل الإستبداد أشد تحكما ، كما لم يكن ـ إذا كان ذلك جائز الحدوث ، أو ليس هذا هو موضع تطبيق المبدأ المشهور : «تجنب أسوأ الشّرين ، وتقبل أخفهما»؟؟.

وسوف لا يقتصر الأمر على أن نقول : إنّه «من الممكن» ، بل «من الواجب» أن نعتبر مقدما جميع النّتائج الّتي يمكن التّنبؤبها ، والّتي يمكن أن يؤثر اعتبارها من قريب ، أو من بعيد ـ على تنظيم الواجب الحسي ، وتحديده بذاته.

والشّاطبي ، والحقّ يقال ، يعترف بذلك في مواضع أخرى.

ولقد نلاحظ حقا في هذه الحالات ، أنّ النّظر الّذي نوجهه إلى الأثر ، أو المسبّب لا يزودنا «بدافع العمل» ، ولكنه يزودنا على الأصح ، بشرط أو «مسوغ للتشريع» أي : أنّ فائدة هذا النّظر في دفع الإرادة أقل من فائدته في إضاءة الطّريق أمام فهم الواجب ، طالما أنّه ينبغي أن يتم ، من قبل أن يصبح أمر الواجب مفروضا على الإرادة. والواقع أنّ السّير الطّبيعي يقتضي أن يكون الضّمير واعيا أوّلا ، بالشروط الكاملة للعمل الّذي نؤديه ، وقد يؤدي هذا الوعي إلى اعتبار العمل تكليفا مطلقا ، دون اللّجوء إلى اعتبارات أخرى ، أو قد يتبلور في صورة تطمئننا مسبقا إلى أنّ الخير الّذي بدأناه لا يستتبع شرّا أكبر منه ، أو أنّ الواجب الّذي نتصوره لا يبطله واجب آخر أكثر جوهرية.

وحين يتم إقرار نظام العمل على هذا النّحو ، حينئذ فقط ، يمكن للنتائج

٦٦٨

المتوقعة من هذا العمل أن تصبح غايات تعتمد عليها الإرادة في التّنفيذ.

إنّ هذه الملاحظة حكيمة ، وليس بوسعنا سوى أن نسلم بها ، ونتفق معها.

فلنترك إذن جانبا الأمثلة الّتي ذكرنا آنفا ، ولنقتصر على بحث القيمة الأخلاقية لإعتبار النّتيجة ، لا كإسهام في تحديد الواجب ، بل كمحرك للإرادة ، الّتي وعت وعيا كافيا موضوع نشاطها. وهنا أيضا نلاحظ أنّ جميع النّتائج لا يمكن أن تعامل على قدم المساواة ، فهناك نتائج يمكن أن تستخدم «كغايات موضوعية» ، ذات قيمة أخلاقية لا جدال فيها ، وهناك نتائج أخرى ليست سوى «غايات ذاتية» ، يمكن أن تكون «مشروعيتها» مجالا للجدل ؛ ونتائج ثالثة «ذاتية أيضا» ، ولكن بالمعنى الأدنى لكلمة (الذاتية) الّذي يعني «الأنانية المذمومة» ، ويمكن أن يقال عموما : «إنّ هذه الأنواع الثّلاثة من الغايات توافق الطّبقات الثّلاث للنّيّة ، الّتي نحن بسبيل عرضها».

وأقصد بعبارة (غاية موضوعية) تلك الغاية الّتي يرى الضّمير مكانها خارج الذات أساسا ، وأنّ فائدتها الّتي تستطيع الذات أن تجنيها منها لن تكون في حساب الإرادة ، من حيث هي موضوعية ، مع أنّ بوسع هذه الفائدة : إمّا أن تتحقق في نفس الوقت بمفردها ، وإمّا أن تكون هدفا لحركة أخرى من حركات الإرادة.

والغاية الذاتية هي ـ بعكس ذلك ـ النّتيجة الّتي تنتظرها الذات من نشاطها ، «من حيث هو نافع لها».

إنّ «المبدأ الأسمى» للأخلاقية يجب أن يلتمس في «موضوع النّيّة» ، والإرادة الّتي يمكن أن توصف بأنّها «طيبة» ليست هي الإرادة الّتي تطلب ، أو

٦٦٩

تتلمس ، أجر جهدها ، ولكنها الّتي تقدم نفسها ، وتستفرغ جهدها ، وتستنفد كلّ ما في طاقتها ، دون حساب ، إنّها هي الّتي «تنسى ذاتها في سبيل مثلها الأعلى».

ولقد وجدنا أنّ هذا المثل الأعلى يتقدم إلينا في شكلين مختلفين ، كلاهما يعرضه علينا القرآن. ففي الشّكل الأوّل تقف النّيّة عند صورة الواجب المجردة ، وتحركها فكرة وحيدة ، هي أنّه يجب أن ينفذ الأمر ، من حيث هو أمر علوي : أطع الله لأنّه حقيق أن يطاع ، بهدف أن تمتثل لأمره ، وأن تنال رضاه ، دون أن تحاول أن تفهم : لما ذا أعطى هذا الأمر ، وبغض النّظر عن الأسباب الصّالحة لتسويغه. فذلكم هو الشّكل الأوّل للإخلاص.

بيد أنّ هناك شكلا آخر أقل تجريدا لهذا المثل الأعلى ، الّذي ينبغي أن تخلص له ، فبدلا من أن نتوقف عند الشّكل ، ننفذ إلى المعنى العميق للأمر ، ونحاول أن نوفق هدفنا الخاص مع هدف الشّارع. فنحن نهتم بإرساء قواعد النّظام ، والعدالة ، والحقّ ، ونستهدف في كلمة واحدة تحقيق الخير الّذي نعرف أنّه مقصود الشّرع ، أو نحدس بأنّه كذلك مسبقا.

وكما رأينا فإنّ القرآن الكريم يقدم غالبا ، في الصّورة الأولى ، هدف الإرادة الطّيبة ، ولكن على الرّغم من كونها قليلة العدد فإنّ النّصوص الّتي تجعل من الخير في ذاته مثلا أعلى للنّيّة ـ قد جاءت صريحة ، وهكذا يحض القرآن المؤمنين على جهاد أعدائهم ، لا طاعة لله فحسب ، ولكن لينقذوا المستضعفين : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) (١) ،

__________________

(١) النّساء : ٧٥.

٦٧٠

وليضعوا حدّا للمحن القاسية الّتي يتحملها هؤلاء ، وضروب الإغراء الّتي يعرضها الكفار عليهم كيما يفتنوهم عن الدّين : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (١).

ومع ذلك ، فما هو هذا الجهاد في سبيل الله ..؟ ... إنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدده لنا في هذه الكلمات : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (٢).

فأي هذين الموقفين أسمى أخلاقيا؟ ..

في رأينا أنّ الإجابة الّتي تقدم عن هذا السّؤال ينبغي أن تختلف ، تبعا للأولوية الّتي تعطى للإيمان ، أو للعقل.

والحقّ أنّه لن تكون مقبولا لدى أهل العقل أن نضع في أعلى درجات السّلّم ثقة معصوبة العينين ، ثمّ نخفض إلى المرتبة الثّانية ـ الضّمير المستنير الذكي. فالإنسان الّذي يطيع أمرا ، دون أن يحاول فهم أسبابه ، خاضع للصفة الآمرة في الحكم ـ فحسب ، على حين أنّ من يطيعه مدركا أنّه عدل ، ومعقول ، يشعر تجاه الشّرع بالمزيد من الإعجاب ، والإحترام. وكذلك النّيّة الّتي تستهدف إدراك المعنى العميق للحكم ، فإلى جانب أنّها لا تنقص من جمال الإيمان ، مهما بلغ ، تزيده بما يدعمه ، ويحصنه ، فلا يتزلزل أمام عوادي الزّمن.

أمّا أهل الإيمان ـ فيرى أنّ الإيمان الّذي يحتبس في حدود الذكاء إيمان مقيد مبتور ، إن لم نقل : إنّه غير موجود ، وهو يشهد ، في الواقع ، بأنّ ثقتنا في موضوع

__________________

(١) البقرة : ١٩٣.

(٢) انظر ، صحيح مسلم : ٣ / ١٥١٢ ح ١٩٠٣ ، صحيح البخاري : ٣ / ١٠٣٤ ح ٢٦٥٤ ، المستدرك على الصّحيحين : ٢ / ١١٩ ح ٢٥٢٠ ، سنن أبي داود : ٣ / ١٤ ح ٢٥١٦ ، السّنن الكبرى : ٣ / ١٦ ح ٤٣٤٣.

٦٧١

تصديقنا أدنى من ثقتنا في أنفسنا ، أعني : في أنوارنا الجزئية.

وإذن ، فلا إيمان بالمعنى الصّحيح ، إلّا حيث تنقطع هذه الأنوار ، وإلّا حيث لا نلجأ إلى أي دليل خاص ، ومناسب ، لكي ندعم صدق قضية معينة ، وعدالتّها ، بل نلجأ إلى سبب شديد العموم يشيع في كلّ شيء ، ولا يكمن في القضية المطروحة ، وإنّما في السّلطة الّتي تطرحها.

ويضيف أهل الإيمان إلى ذلك أنّ من يعتمد على أنواره الخاصة ، كيما يوفق بين نيّته ، وأهداف التّشريع الإلهي ، يظل دائما دون المثل الأعلى الكامل ، مهما يكن نزيها في غرضه ، ومهما سما هدفه. إذ أنّ الفكر مهما كان نزيها ، ومهما سيطر عليه الإهتمام بإقرار نظام عالمي عادل ، ونزيه ، لا يظل مقيدا بالمخلوق دون أن يحقق الإرتفاع إلى الخالق فحسب ـ بل إنّ أي جهد عقلي لا يستطيع مطلقا أن يطمئن إلى قدرته على أن يكشف حكم الله في هذا النّظام ، أو ذاك ، وأن يحيط بها علما.

وإذن فلا شيء من هذه الأهداف الّتي تتجه إليها جهودنا سوف يكون مساويا في القدر ، أو الرّفعة لما يقوم برضا العقل الإلهي ، وهو رضا لا ينال كاملا إلّا حين نريد ما يريد ذلكم العقل ، وبسبب العلل المعروفة ، والمجهولة الّتي يمكن أن يدركها.

وهنا نقطة الذروة الّتي تحكم كلّ القيم ، والّتي لا يوجد فوقها أي هدف ممكن لأكمل النّوايا.

ولا شك أنّ مقارنة هذين الهدفين لا ينبغي أن تفرض فيما بينهما خيارا يستبعد أحدهما ، ولا أن تدعهما يتعاقبان أمام الإرادة ، إذ أنّهما بالأحرى ، عنصران

٦٧٢

مكملان ، يؤدي التّنوع في القيمة الواقعية إلى جعلهما لازمين لكمال المثل الأعلى ، بل إننا نستطيع أن نؤكد أيضا أنّهما يتعايشان فعلا في الأنفس المطمئنة ، مع قدر من التّنوع يغلب أحدهما تارة ، والآخر تارة أخرى ، في الضّمير المستنير. ذلك أنّ المؤمن الّذي يطيع أكثر الأوامر غموضا ، حتّى ما يبدو منها قاسيا ، قلما يقصد أن يخضع نفسه لنزوة ، أو اعتساف. فهو حتّى حين لا يرى تلك الأوامر ومضة عقل ، لا يقلل ذلك من اعتقاده الجازم بأنّ هناك أوامر أخرى مفعمة بالحكمة ، وهو يخضع لها ضمنا ، ويسعى في تحقيقها دون أن يفقه طبيعتها ، وذلك هو ما تحدث عنه القرآن في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (١) ـ هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ، إنّ الإهتمام بتحقيق الخير الأخلاقي الّذي يدرك دون كبير عناء في أكثر الأوامر الواضحة عدلا ـ لا ينفصل مطلقا في ضمير المؤمن عن شعور يجده في نفسه ، يتفاوت في درجة غموضه ، ولكنه يحمل في طياته رضاه العام ، وغير المشروط ، بكل القواعد الأخرى ، وبدون هذا الرّضا لن يكون جديرا بلقب (المؤمن) : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٢).

وهكذا نجد أنّ وجهتي النّظر بالنسبة إلى الأخلاق الدّينية متعاضدتان ، وتتضمن إحداهما الأخرى. ومع ذلك فليس ينقص من الحقيقة أنّ أسمى

__________________

(١) النّساء : ٦٦.

(٢) النّساء : ٦٥.

٦٧٣

الوجهتين ، وأرحبهما أفقا ، هي وجهة نظر الإيمان المطمئن ، والخضوع المطلق ، فهي الّتي تستلزم بالضرورة الوجهة الأخرى ، دون أن تكون مستلزمة لها بنفس القدر من الضّرورة.

فقد يجوز في الواقع ، وهو ما يحدث غالبا بالنسبة إلى الملاحدة ، أن يكون السّعي في سبيل الخير العام من حيث هو ـ صادرا عن نوع من الإستعداد الفطري الخير ، الّذي يحبب إليهم الإحسان ، ويزين لأعينهم العدالة ، لذاتهما ، بمعزل عن أوامر الشّرع ، ووصاياه. ولقد رأينا أنّ هذا النّوع من التّلقائية ليست له قيمة أخلاقية. على حين أنّ فكرة طاعة الله لا تخلو مطلقا من إدراك أوامره على أنّها أحكم الوسائل الّتي تهدف إلى تحقيق أعظم الخير للإنسان ، وللكون أجمع. فإذا كان طول النّظر ، وعمق التّأمل ، شرطا في صيرورة هذا المفهوم واضحا غير ملتبس ، راسخا غير مهتز ، وإذا كان توفر درجة أسمى من درجات التّقدم الأخلاقي شرطا في بلوغ هذا المفهوم مركز الصّدارة من أفق الضّمير ، فإنّ ذلك لا يحول دون أن يكون متضمنا في عقيدة الإيمان ، وهو موجود فعلا ـ على الرّغم من أنّه قد يكون غامضا ، على نحو ما ـ في نفس كلّ مؤمن ، حتّى لو كان من أوساط المثقفين.

فلنمسك الآن عن القول في هذه الدّرجات المتنوعة من المثل الأعلى الأخلاقي ، كيما نلخص الحديث عن الصّيغة الأساسية الصّالحة لمختلف الدّرجات. هذه الصّيغة هي : توحيد موضوع الإرادة مع موضوع الشّرع ، سواء توقفنا عند شكله ، أم تغلغلنا في جوهره. ولو أنّ المرء ثبت نظره على هذا الموضوع فسيجد فيه (الموضوعية) الّتي تعرف بها شجاعة النّفس ، وشرفها ، سواء حين

٦٧٤

يقف بعيدا عنه ، إجلالا للمشرّع ، أو حين يقترب منه بجاذبية الحبّ ، وبدافع العرفان.

فمتى ما تركنا هذه الذروة ، هبطنا على الفور إلى مستوى الغايات الذاتية ، أعني : «المنفعة». وليس هنالك وسيلة أمام إرادة ملتزمة حقا ـ للخروج من هذه المعضلة : فإمّا أن تكون في خدمة الشّرع ، أو الخير في ذاته ، وإمّا أن تمضي للبحث عن الخير الشّخصي. فهل لنا أن نقول : إنّ هذين النّوعين من الخير يمكن أن يتطابقا تطابقا كاملا ، بل يمكن أن يصلا إلى حدّ الإمتزاج؟.

لا مانع عندي من الموافقة على أنّ الخير العام قد يكون في نفس الوقت خيرنا الخاص ؛ ولكن قد يتساءل المرء ، من وجهة نظر الذات الفاعلة : إذا ما كان بوسع الذات ، بحركة واحدة لا غير ، أن تفيض خارجها فتهتم بالشرع ، ثمّ تستدير إلى نفسها ، مدفوعة بالأنانية؟.

وحتّى لو افترضنا أنّ هذا الأمر ممكن فإنّ هذا الهدف المزدوج يرجع ـ على كلّ حال ـ إلى نوعين من (الدّوافع) ، ينبغي أن ندرسهما الآن ، كلا على حدة (١).

والمسألة الآن هي أن نعرف قيمة هذه الدّوافع الذاتية. هل يجب أن نؤثّم كلّ اهتمام بالخير الشّخصي ، حتّى لو كان من أكثر أنواع الخير مشروعية ، بإعتباره متنافرا مع شرط العباد المخلصين ، وبإعتبارنا مكلفين بأن نكرس كلّ عمل من أعمالنا لله؟.

هذا هو الرّأي الّذي أيده أكثر الأخلاقيين المسلمين حماسا ، وغيرة ، حتّى إنّ

__________________

(١) أخرنا اختلاط الدّوافع إلى الفقرة الخامسة ، والأخيرة.

٦٧٥

صرامة «كانت» ليست بشيء إلى جانب صرامتهم ، وهم يرون أنّ واجب كلّ فرد ليس تقييد رغباته فحسب ، وإخضاعها للقاعدة ، بل إنّه يجب ألا يكون له رغبة أخرى غير رغبة البذل. ذلك أنّ تخصيص بعض الجهد لإشباع الفطرة ، من حيث هي ، معناه أننا نقيم إلها آخر غير الله. وهذا هو مبدأ (الثّالث المستبعد في الأخلاق) : فليس بين الفضيلة ، والرّذيلة من حدّ وسط ، فحيثما لا يكون فكرنا موصولا بالله فإنّه ينقلب ضده.

وما هكذا يفكر المعتدلون الّذين هم الأغلبية ، ولسوف نرى أنّ اعتدالهم ينتهي في آخر المطاف إلى ما نطلق عليه : الصّرامة الكانتية.

لقد تساءلوا أوّلا عما إذا كان هذا التّجرد المطلق حيال الفطرة ممكن الوقوع عمليا ، أو حتّى إذا ما كان ممكنا إنسانيا؟ فمن منا يستطيع أن يتباهى بأنّه لا يعرف الإهتمام بشخصه ، وبأنّه يطيق أن يستغني عن كلّ نتيجة ، أخلاقية أو مادية ، قد ينتجها نشاطه؟ .. من ذا يستطيع أن يدعي أنّ الصّحة ، والحياة ، والرّفاهية ، والسّلام ، والصّداقة مع الجار ، وحتّى العلم ، والذكاء ، وكيفيات القلب ، والعقل ، ـ هي في نظره أشياء لا قيمة لها ، وليس لها قط جاذبية ، أو سلطان عليه؟ ..

لقد استطاع أبو بكر الباقلاني أن يصف أنصار هذا التّجرد المطلق وصفا قاسيا ، فقضى بتكفير من يدّعي البراءة من الحظوظ ، وقال : هذا من صفات الإلهية ، وحاول أيضا أن يرد عليهم أدلتهم الدّينية. لقد كانوا يريدون في الواقع بهذه الطّهارة المزعومة للنّيّة أن يجنبوا المؤمنين أن يقعوا في هذا النّوع من الشّرك ، الّذي هو عبادة المنفعة ، لقد أرادوا البراءة عمّا يسميه النّاس حظوظا ، ولكن

٦٧٦

الباقلاني يلاحظ أنّهم بهذه القرينة يقعون في الشّر الّذي أرادوا أن يتجنبوه ، لأنّهم لم يفعلوا سوى أن ألّهوا الإنسان ، حين خصوه بدرجة من الكمال ، هي في الحقّ صفة من صفات الله (١).

وبدون أن نذهب إلى حدّ الزّعم بأنّ الإنسان لا يتحرك إلّا لحظ ، ومنفعة ، هل يمكن أن نقرر عقلا أنّ أحدا من النّاس لا يسمح له في أيّة حالة أن يبحث عن خيره الشّخصي من حيث هو؟. وهل يمكن مثلا أن نحرم على إنسان مهدد بالجوع ، والعطش أن يعمل (أعني : أن يأكلّ ، ويشرب) ، تحت سلطان هذه الضّرورة الفطرية؟. وهل ينبغي إذن أن ينتظر بضع لحظات كيما يستحضر أوّلا أمر الواجب ، فلا يعمل إلّا بهذا الأمر ، حتّى لو كان هذا الإنتظار يجعل أيّة محاولة للإسعاف غير مفيدة؟ ..

إنّ هذا المثال وحده كاف لنعترف بقساوة ، وسخف هذا الرّفض المنهجي لحقّ الإنسان في أن يسمع لصوت فطرته ، ويستجيب لندائها البريء ، وكلّ ما يجب علينا ألا ننساه هو : أنّ المسألة ليست مطلقا أن نجعل من المنفعة المقبولة عقلا مبدأ ثانيا من مبادىء الأخلاقية ، فشتان ما بين المنفعة ، والمبدأ ، والنّاس ، كلّ النّاس ، في كلا المذهبين ، متفقون على أنّ الأخلاقية «واحدة» ، وعلى أنّه لا توجد خارج إرادة الطّاعة (بوجهيها) أيّة قيمة أخلاقية ، «موضوعية» ، في أي مكان.

أمّا المعتدلون فيحاولون ببساطة أن يزيلوا هذه اللّعنة الّتي أراد بعض الصّوفية

__________________

(١) انظر ، إحياء علوم الدّين للغزالي : ٤ / ٣٦٩ ، ذكره ، وأيده.

٦٧٧

أن يصموا بها دون تمييز كلّ سعي ذي غاية ذاتية ، مهما كان. أي أنّهم ، بعبارة أخرى ، يودون أن يجعلوا في مكان هذا التّقسيم الثّنائي تقسيما ثلاثيا ، يصح بمقتضاه أن نجعل بين «الثّواب» و«العقاب» ، مجرد «البراءة» ، وبين اكتساب القيمة ، وفقدانها ـ نضع [اللاقيمةLa non Valeur] ، وبين مستوجب الثّناء ، ومستوجب الذّم مجرد «المشروع» وبين التّكليف ، والتّحريم ـ الإباحة.

هذه التّفرقة ذات الطّابع الثّلاثي لا تمثل جميع نواحي التّشريع القرآني فحسب ، ولكنا نجدها عند الحديث عن النّيّة ، على وجه التّحديد ، معبرا عنها بصورة واضحة في حديث مشهور ، رواه مالك ، والبخاري ، ومسلم ، وجميع المحدثين ، وفي ألفاظ هذا الحديث أنّ واقع تربية الخيل ، والإعتناء بها ينظر إليه تبعا للنوايا ، فهو تارة عمل يثاب عليه ، جدير بالأجر الإلهي ، وأخرى إثمّ ، وثالثة ليس هذا ، ولا ذاك : واقع يثاب عليه ذلك الّذي يمسكها دائما بأمر الله ، وفي سبيل الله ، وواقع آثم لمن يمسكها تظاهرا ، وتفاخرا ، ولمن يتخذ منها أداة عدوان ضد المؤمنين. ولكن ، لننظر كيف يضع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الحالتين حالة أخرى ، لا يطيق أحد أن يأتي بأدق منها : حالة الرّجل الّذي يهتم بالخيل ، من أجل حاجاته الخاصة ، دون أن يغفل واجباته الدّقيقة ، فهذا الرّجل لن يستحق ثوابا ، ولا عقابا ، وإنّما يكون على وجه الدّقة ـ «ناجيا» ، وكلّ ذلك في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الخيل لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر ..» (١).

__________________

(١) انظر ، الموطأ لمالك : ٢ / ٤٤٤ ح ٩٥٨ ، صحيح البخاري : ٢ / ٨٣٥ ح ٢٢٤٢ ، صحيح مسلم : ٢ / ٦٨١ ، صحيح ابن حبّان : ١٠ / ٥٢٧ ح ٤٦٧٥ ، السّنن الكبرى : ٣ / ٣٦ ح ٤٤٠٣ ، سنن النّسائي (المجتبى) : ٦ / ٢١٦ ح ٣٥٦٣.

٦٧٨

وليس لدينا أوضح ، ولا أدق من هذا لدعم رأينا ، الّذي هو أيضا رأي الجمهور.

وهكذا تستأثر الإرادة المخلصة بكلّ القيمة الإيجابية ، أمّا الإرادة الذاتية فهي جديرة بالتقديرين الآخرين. ولسوف يوصف البحث عن هذه المنفعة الشّخصية ، أو تلك ، بوساطة هذا العمل ، أو ذاك بأنّه : إمّا «مقبول» أو «مباح» ، وإمّا «مرذول» أو «مؤثم» ، تبعا للشروط المقعدة الّتي سوف نعرضها متتابعة في الفقرتين التّاليتين :

جـ ـ براءة النّيّة.

وأقصد (ببراءة) النّيّة في عمل ما ، أيّا كان ، الصّفة الّتي تكتسبها الإرادة عند ما تتحاشى أن تسعى بهذا العمل إلى غايات دنيئة ، ثمّ هي في الوقت نفسه لا ترقى إلى مستوى شرف الإخلاص ، المنزه عن الغرض ، وإنّما تقنع بموقف وسط ، يتمثل في انقيادها «المنفعة مشروعة» ، يقرّ لها القانون بحقّها فيها. وجميع الحالات الّتي يمكن أن تندرج تحت هذا العنوان هي من النّاحية الشّرعية صحيحة ، لا غبار عليها ، ولكن قيمتها من النّاحية الأخلاقية (صفر) ، تبعا لأكثر النّظريات الإسلاميّة تسامحا. ومعنى كونها صفرا : أنّها لا تستحق مدحا ، أو ذما ، ولا تستتبع لصاحبها ثوابا ، ولا عقابا. وهو موقف يعد بلا شك (نقصا) أو عدم كمال ، فمن المؤسف أن يقنع امرؤ بأن يبرىء ذمته ، على حين كان يستطيع أن يزيد من قيمته ، ولكن هذا يتيح له أن يكون (ناجيا). ولدخول الأعمال في هذه المجموعة شرطان : أحدهما يتوخى الغاية ، والآخر الوسيلة.

فأمّا الّذي يتوخى الغاية فغني عن البيان أنّه ينبغي أوّلا أن يكون عملا جائزا

٦٧٩

في الشّرع ، ومعروفا بصفته هذه للذات ، وذلك هو تعريف هذه المجموعة الثّانية ، أو منطوقها نفسه ، (في مقابل المجموعة الثّالثة بخاصة).

ولكن يجب علاوة على هذا أن يكون الوعي بهذا الجواز شرطا «يكيف» حركة الإرادة نحو الغاية ، لا أن «يصاحبها» فحسب.

ويجب في هذا التّطابق بين الهوى والقاعدة ـ أنّ تقيد القاعدة تأثير الهوى ، وأن يكون هذا التّقييد مرضيا دون إكراه. وهنا نجد لونا يكاد يهرب أمام أعيننا ، ولكن من الضّروري بصفة مطلقة أن نحسب حسابه قبل العمل ، مخافة أن يرى المرء براءته تتحول إلى معصية.

ومن أجل هذه الضّرورة القصوى ، نجد أنّ القرآن عند ما ينظم بعض حالات الخروج على تحريم معين ، يؤكد تكليف من يريد استعمال هذا الحقّ ـ بأن يطمئن إلى أنّ استعماله لا يفرضه في الواقع ميل إلى الموضوع المحرم الّذي أبيح ، وهو قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).

كيف نميز ، في حالة كهذه ، الأصل من التّبع المقيد؟ ..

هاكم طريقة على الأقل ، يستطيع كلّ إنسان أن يتصرف فيها ، على تفاوت في فاعليتها ، وذلك بأن يغير المرء شروط تجربته ، ولو ذهنيا ، فيسأل نفسه عمّا قد يفعله لو أنّ القاعدة كانت تحرم منفعة كهذه. ولسوف يكون حظ الإجابة الّتي نحصل عليها في إعلامنا بدافعنا الحقيقي ، بقدر حظنا من التّجارب فيما مضى ،

__________________

(١) المائدة : ٣.

٦٨٠