دستور الأخلاق في القرآن

الدكتور محمّد عبدالله درّاز

دستور الأخلاق في القرآن

المؤلف:

الدكتور محمّد عبدالله درّاز


المحقق: الدكتور عبدالصبور شاهين
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة دار الكتاب الاسلامي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 964-465-053-0
الصفحات: ٩٦٢

كيما تكون بحيث تعلم الشّريعة المقررة؟. إنّ هذا بداهة هو ما يريده منطق هذا البيان القرآني. فليس يكفي إذن أن يصوغ الشّارع شرائع ، ويكلف رسله بإبلاغها ، بل يجب أن يصل هذا التّعليم إلى النّاس ، وأن يكون هؤلاء النّاس على علم به.

وهكذا تحتوي الشّرعية جزءين ثانيهما موجود ضمنا في المبدأ الّذي ينشىء الأوّل.

وقد أكملت السّنة النّبويّة لحسن الحظ هذا الإيجاز في النّص ، واستخرجت منه صراحة نتائجه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع القلم عن ثلاثة : عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن المبتلي (المجنون) ، حتّى يبرأ ، وعن الصّبي حتّى يكبر (يحتلم)» (١).

وربما لزمنا هنا أن ننبه القارىء ضد تفسير خاطىء قد يقع فيه ، إذ لا ينبغي أن نستخلص من تشبيه الصّبيان بالطائفتين الأخريين ، من حيث عدم مسئوليتهما ـ أنّهم جزء مهمل ، أو يجوز إغفاله في المجتمع الإسلامي ، فللطفل المسلم نظامه

__________________

(١) انظر ، سنن أبي داود : ٤ / ١٤١ ح ٤٤٠٣ ، وصحيح البخاري : ٨ / ٢٠٤ ، وقد ذكره البخاري على هذا النّحو : (باب لا يرجم المجنون ، والمجنونة ـ وقال عليّ لعمر : (أما علمت أنّ القلم رفع عن المجنون حتّى يفيق ، وعن الصّبي حتّى يدرك ، وعن النّائم حتّى يستيقظ؟) «المعرب». وانظر ، مسند أحمد : ١ / ١١٨ ح ٩٥٦ وص : ١٤٠ ح ١١٨٣ وص : ١٥٥ ح ١٣٢٧ وص : ١٥٨ ح ١٣٦٠ ، الخلاف : ٢ / ٤١ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٢ / ٢٧٧ ح ٣٢٨٥ ، فيض القدير : ٤ / ٣٥٧ ، كشف الخفاء : ١ / ٥٢٣ ح ١٣٩٤ ، النّاصريات : ٢٨٢ ، كتاب السّنن : ٢ / ٩٥ ح ٢٠٧٩ و ٢٠٨٠ ، المبسوط للطوسي : ١ / ٣٥٤ ، المصنف لابن أبي شيبة : ٤ / ١٩٤ ، موارد الظّمآن : ١ / ٣٥٩ ح ١٤٩٦ ، جواهر الفقه : ١٨٨ ، سنن الدّارمي : ٢ / ٢٢٥ ح ٢٢٦٩ ، مجمع الزّوائد : ٦ / ٢٥١ ، سنن البيهقي الكبرى : ٤ / ٢٦٩ ح ٨٠٩١ و : ٦ / ٨٤ ح ١١٢٣٥ ، غنية النّزوع لابن زهرة : ١١٨.

٢٨١

الكامل ، تماما كنظام الرّجل البالغ ، وحسبنا أن نفتح أي كتاب في الفقه السّلفي لنرى ما يخصه في كلّ فصل من فصوله ، بل إنّه من الوجهة الأخلاقية وحدها ، فإنّ الأستطراد الّذي يمكن أن نتطرق إليه ، لنوضح ما يجب أن يطلب من الطّفل ، وما يمكن أن يتسامح فيه ، قد يكون أطول من اللازم.

***

ولكن بالرغم من أنّ سلوك الأطفال منظم في الشّريعة الإسلامية ، حتّى في أدق تفاصيله ، فإنّ الشّرع غير متوجه إليهم ، بل إلى آبائهم ، وإلى الحكام ، والأساتذة ، والرّؤساء ، أي إلى الأمّة بأكملها ، فهي الّتي على كاهلها تقع مهمة تربيتهم ، وتقويمهم ، حتّى تظفر منهم بأقصى درجات التّوافق مع القاعدة.

وإذن ، فإذا كانت مسئوليتهم قد تخففت ، فما ذلك إلّا لترتبط مسئوليتنا تجاههم. وحسبنا هنا أن نقدم ثلاثة أمثلة لنبين أنّ الإنسان المسلم الصّغير ، يجب أن يتعوّد ـ منذ حداثته ـ على ما يقرب من سلوك الرّجل النّاضج ، في سلوكه الشّخصي ، وفي علاقته بالآخرين ، وفي علاقته بالله سبحانه.

المثال الأوّل : نحن نعرف قواعد الأدب ، والحياء الّتي فرضها القرآن على كلّ فرد ، ألّا يدخل بيوت الآخرين دون أن يستأذن ، ويسلم عليهم في أدب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) (١) ، أمّا فيما يتعلق بخدمنا ، وأطفالنا فإنّ القرآن يمنحهم نوعا من التّساهل في بعض القيود ، لا على سبيل الإعفاء منها ، فهو يقيد وجوب هذه الأوامر بأوقات الرّاحة

__________________

(١) النّور : ٢٧.

٢٨٢

حين نكون غالبا مستترين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) (١).

المثال الثّاني : إنّ الإسلام في دعوته الأطفال لأداء شعائرهم الدّينية لا ينتظر بلوغهم ، بل يجب علينا أن نشجعهم ، متى بلغوا سن السّابعة ، على أن يؤدوا الصّلاة دون إكراه ، فإذا بلغوا العاشرة ولم يطيعوا أدبناهم عليها أدبا مترفقا ، وفي هذه السّن يجب أن نفرق بينهم في فرشهم ، ومن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك : «مروا الصّبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها» (٢) ، وفي رواية : «مروا أولادكم ... وفرقوا بينهم في المضاجع» (٣).

المثال الثّالث : إننا ملزمون بالأندع أطفالنا ، منذ طفولتهم الأولى ، يأكلون ، أو

__________________

(١) النّور : ٥٨.

(٢) انظر ، تفسير القرطبي : ١٨ / ١٩٥ ، الخلاف للطوسي : ١ / ٣٠٦ ، تفسير ابن كثير : ٤ / ٣٩٢ ، جامع المقاصد للمحقق الكركي : ١٢ / ٤٤ ، سنن أبي داود : ١ / ١٣٣ ح ٤٩٤ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ١ / ٣٠٤ ح ٣٤٨١ ، المعجم الكبير : ٧ / ١١٥ ح ٦٥٤٧ و ٦٥٤٨ ، تحفة الأحوذي : ٢ / ٣٧٠ ، تحفة المحتاج : ١ / ٢٦٠ ح ١٩٤.

(٣) انظر ، سنن أبي داود : ١ / ١٣٣ ح ٤٨٥ ، كتاب الصّلاة «باب متى يؤمر الغلام بالصلاة» ، تفسير القرطبي : ١٨ / ١٩٥ ، المستدرك على الصّحيحين : ١ / ٣١١ ، الخلاف : ١ / ٣٠٦ ، مجمع الزّوائد : ١ / ٢٩٤ ، سنن البيهقي الكبرى : ٢ / ٢٢٨ ح ٣٠٥٠ و ٣٠٥١ و : ٣ / ٨٤ ح ٤٨٧١ ، نهاية الإحكام للحلي : ١ / ٣١٨ ، سنن الدّارقطني : ١ / ٢٣٠ ح ٢ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ١ / ٣٠٤ ح ٣٤٨٢ ، مسند أحمد : ٢ / ١٨٠ ح ٦٦٨٩ ، شعب الإيمان : ٦ / ٣٩٨ ح ٨٦٥٠ ، سبل السّلام : ٣ / ٢٢٨ ، المدونة الكبرى : ١ / ١٠٢ ، وسائل الشّيعة : ٣ / ١٢ ح ٥.

٢٨٣

يستعملون من الأشياء ما ليس لهم. ونحن نعرف ما كان سائدا على عهد النّبي ، من أنّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصّدقات نقدية ، أو عينية والّتي كانت مخصصة للتوزيع على الفقراء ، وأشباههم ، كانت تجمع أوّلا في المسجد ، أو في أحد البيوت المجاورة ، الخاصة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذات يوم لمح النّبي ، وهو عائد إلى بيته ، تمرة من تمر الصّدقة ، أخذها حفيده الحسن ، فجعلها في فيه ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفارسية «كخ! كخ! ، إرم بها ، أما تعرف أنّا آل محمّد لا تحل لنا الصّدقة؟» (١).

***

ولنقف عند هذا الحد من الأستطراد ، ولنعد إلى مبدأ العلم بالشرع ، وهو الشّرط الضّروري للمسئولية ، لنسأل أنفسنا عن المعنى المحدد الّذي ينبغي أن نحمله عليه ، فإنّ في ذلك مشكلة ذات أهمية قصوى ، أهو العلم الجماعي ، أم الفردي؟ ...

نحن نعرف مبدأ القانون الفرنسي القائل (بأنّ أحدا لا يعد جاهلا بالقانون) ، وفي الشّريعة الإسلامية صيغة مثل هذه تقول : «لا عذر لأحد بالجهل في دار

__________________

(١) انظر ، صحيح البخاري : ٢ / ٥٤٢ ح ١٤٢٠ ، و : ٣ / ١١١٨ ح ٢٩٠٧ ، المبسوط للطوسي : ٣ / ٣٠٢ ، المعتبر للحلي : ٢ / ٥٨٤ ، صحيح مسلم : ٢ / ٧٥١ ح ١٠٦٩ ، صحيح ابن حبان : ٨ / ٨٩ ح ٣٢٩٤ ، المسند المستخرج على صحيح مسلم : ٣ / ١٣٥ ح ٢٣٩١ ، سنن الدّارمي : ١ / ٤٧٣ ح ١٦٤٢ ، سنن البيهقي الكبرى : ٧ / ٢٩ ح ١٣٠١٠ ، السّنن الكبرى : ٥ / ١٩٤ ح ٨٦٤٥ ، المصنّف لابن أبي شيبة : ٧ / ٣٢٤ ح ٣٦٥٢٤ ، مسند أحمد : ٢ / ٤٠٩ ح ٩٢٩٧ ، مسند الطّيالسي : ١ / ٣٢٥ ح ٢٤٨٢ ، البيان والتّعريف : ٢ / ١٣٩ ، فتح الباري : ٣ / ٣٥٥ ، الدّيباج : ٣ / ١٧٠ ح ١٠٦٩ ، فيض القدير : ٤ / ٥٤٩ ، كشف الخفاء : ٢ / ١٤٠ ح ١٩١٦.

٢٨٤

الإسلام» (١) ، فهل يكفي إذن أن يكون القانون منشورا ، ومعلوما في وسط معين لكي تثبت مسئولية كلّ من يعيشون في هذا الوسط ، على الرّغم من جهل بعضهم؟ ..

والحقّ أنّ الفقهاء قد قيدوا مدى تطبيق هذا المبدأ ، لأنّه لا ينطبق ـ من ناحية ـ إلّا على المسلمين بالميلاد ، ممن يعيشون في مجتمع يمارس واجباته الدّينية (أي أنّ من يعتنق الإسلام حديثا معذور في الجهل بالقانون). وهو لا يصدق ـ من ناحية أخرى ـ إلّا على القواعد العامة ، ذات الوضوح المؤكد ، بعامة ، لا على التّفاصيل الّتي قد تفوت غير المتخصصين.

بيد أنّ هذه التّحفظات جميعها لا تقدم لنا سوى إحتمال كبير ، وقرينة قوية على علم كلّ فرد ، دون أن تفيدنا يقينا ، ويبقى دائما أن نسأل : على أي مبدأ من مبادىء العدالة تقوم مسئولية من يجهل فعلا واجبه ، في حالة معينة ، حتّى ولو عرفه كلّ النّاس في مكانه؟

لا شك أنّ من الأمور الملزمه بالنسبة لي أن أنور ضميري ، وأن أستعلم عن واجباتي كلّما جهلتها ، ولا يتحتم لهذا أن أواجه مشكلة بعينها. ولكن هناك حالات أعتقد فيها ، بكلّ صدق ، أنّ العمل الّذي ألزم نفسي به ، أو أمتنع عنه ليس سوى عمل فطري طبيعي لا ينشأ عن أي تحريم ، أو تكليف ، وذلك بإستثناء حالة الجهل الإرادي الخاطىء الّذي يقدم عليه الفاسق ، الّذي يتحدث عنه

__________________

(١) ورد النّص هكذا : (لا يعذر بالجهل في دار الإسلام) كما جاء في حاشية ردّ المختار لابن عابدين : ٢ / ٤٠٧ و : ٦ / ٥٤٤.

٢٨٥

أرسطو (١).

فكيف أكون في هذه الظّروف مسئولا دون أن أدري ، وكيف تقع المسئولية إذا لم يكن مبعثها تنبيه ضميري؟.

الحقّ أنّ هذا المبدأ لا يعبر إلّا عن نوع من العدالة القانونية ، الّتي ترى النّاس من خارج ، وتحكم عليهم موضوعيا ، وإحصائيا ، تبعا لسلوك متوسطهم. ولا شك أنّ من المفيد واللازم لحفظ النّظام في المجتمع ـ أن ننظر إلى الأمور من هذه الزّاوية. وإلّا فإنّ الباب قد يتسع كثيرا ، بالنسبة إلى جميع مخالفات القانون ، بحجّة الجهل بالقانون.

أمّا فيما يتعلق بالمسئولية الأخلاقية ، والدّينية الّتي نعالجها الآن ، فلا ينبغي أن تقوم إلّا على الحالة الواقعية لضميرنا ، مع تحفظ واحد هو ألّا يزيغ هذا الضّمير مختارا عن الهدى الّذي يقدم إليه ، بل يحاول أن يبحث عنه عند الحاجة ، والله يقول : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (٢).

فليس يكفي إذن ، في نظرنا أن يحمل القانون إلى علم النّاس بعامة ، وأن أكون

__________________

(١) يبدو لنا أنّ بسكال [Pascal] ، في هجماته على اليسوعيين ، قد غلا في كلام أرسطو ، حين ذكر أنّه قال : إنّ جميع الأشرار يجهلون ما يجب أن يفعلوه ، وما يجب أن يهجروه وحسب ما يرى بسكال فإنّ أرسطو كان يفرق أساسا جهل الواقع (أي ظروف الحدث) ، عن جهل القانون (أي الخير والشّر في العمل) فالأوّل وحده يعذر فيه الفاعل. [Provinciales ٤ e lettre] ، على أنّ هذا التّخصيص لا يبدو لنا أرسطيا ، لأنّ أرسطو ـ نفسه ـ يجعل من بين الحالات الجديرة بالمغفرة والرّحمة ـ حالة أخيل ، [Eschyle] ، في إفشائه الأسرار ، دون أن يعرف أنّ ذلك محرم [Ethique ,debut du livre III] ، هذا إلى أننا إذا أخذنا برأي بسكال فقد تلتبس نظرية أرسطو بنظرية أفلاطون ، وسقراط ، الّتي ترى أنّ نتونى بين الفضيلة وعلم الخير والشّر.

(٢) الزّخرف : ٣٦.

٢٨٦

بحيث أستقبله ، بل ينبغي أن نضيف ضرورة إبلاغه إلى علمي ، أنا نفسي ، سواء أكان ذلك بوساطة التّربية ، أو النّشر ، أو الصّدفة ، أم كان بطلبي إياه في سعيي ، وبحثي. وقد رأينا ـ في الواقع ـ كيف أنّ القرآن حرص على أن يثبت ، على سبيل الحقيقة التّأريخية ـ إن لم يكن على سبيل القانون الثّابت ـ أنّ التّعليم الإلهي الّذي خوطبت به الشّعوب القديمة كان يصل دائما إلى المعنيين به ، قبل أن يلزموا بمسئوليتهم. هذه الحقيقة نفسها يجب أن تنطبق على التّعليم القرآني ، وإنّها لكذلك ، فقد قرر القرآن : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (١).

وليس هذا هو كلّ شيء ، فلنفترض أنّ القاعدة قد تقررت بالنسبة إلى النّاس ، وأنّي تلقيتها ، ولكن ها أنا ذا ، لدى ممارستي للعمل ، يغيب عني هذا التّعليم ، يفلت مني كلّية ، لقد نسيته بكلّ بساطة. بل إنني قد أكون في حالة تسمح لي بتذكره ، عند ما أسأل عنه ، ولكني لا أتذكر ، في الحال ، بل أكاد لا أشعر بمجرّد وجوده ، وسواء كان هذا النّسيان مجرد ذهول سطحي وعارض ، أو نسيان عميق ودائم ، مرضي أو عادي ـ فإنّ موقفي هو الإستعداد دائما أن أكفّ عن عملي المخالف ، أو أوقف نشاطي الّذي بدأته ، بمجرد أن يذكرني أحد من النّاس بالقانون. فكيف أكون مسئولا عن عمل تمّ في مثل هذه الظّروف؟.

عند ما يكون النّسيان ظاهرة طبيعية ، لا تصدر عن إرادتي ، ولا ترجع إلى خطأ من ناحيتي ، فهل يكون من المقبول في منطق العدالة المطلقة ، القائمة على واقع الأشياء لا على التّخمينات ، أو إعتبارات المنفعة ـ أن أعد مسئولا عن عمل

__________________

(١) الأنعام : ١٩.

٢٨٧

كهذا ، مع ملاحظة صفته القهرية؟ .. تعالى الله عن ظلم كهذا.

ومن ثمّ نجد أنّ القرآن ، حينما أنطق المؤمنين بهذا الدّعاء : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا) (١) ـ لم يلبث النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أضاف إليه هذا التّعليق المطمئن : «قال ـ الله ـ قد فعلت» (٢).

جـ ـ العنصر الجوهري في العمل.

لقد تحدثنا حتّى الآن عن العلاقة الّتي تربط الفرد المسئول بالقانون ، وقد رأينا أنّ المسئولية لا يمكن أن تثبت ، أو تسوغ في نظر القرآن إلّا بشرط أن تذيع شريعة الواجب ، ويعرفها كلّ ذي علاقة بها ، وأن تكون حاضرة في عقله لحظة العمل.

ولكنا ، فضلا عن علاقتنا بالشريعة ، لنا علاقة أخرى بالعمل ، فالأولى «علاقة معرفة» ، وهذه «علاقة إرادة». والضّمير الكلي للفرد الأخلاقي يحتوي هذه العلاقة المزدوجة في آن ، ومثله كمثل الفنان الّذي يرسم لوحته ، وهو ينظر إلى الّنموذج ، سواء في مطابقته له ، أو في إستقلاله عن قواعده. وعليه ، فإنّ المحكمة الّتي تهتم بأن تنسب أعمالا إلى أشخاص لا تستطيع أن تصدر في هذا حكما عادلا دون أن تلاحظ الطّريقة الّتي تقع بها أعمالنا ، وعلاقتها بشخصنا.

فالعمل اللاإرادي يجب أن يستبعد ـ بادىء ذي بدء ـ من مجال المسئولية ،

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) انظر ، صحيح مسلم : ١ / ١١٦ ح ١٢٦ ، المسند المستخرج على صحيح مسلم : ١ / ١٩٥ ح ٣٢٧ ، تفسير القرطبي : ٣ / ٤٢١ ، تفسير الطّبري : ٣ / ١٤٤ ، تفسير ابن كثير : ٣ / ٤٦٨ ، صحيح ابن حبان : ١١ / ٤٥٨ ح ٥٠٦٩ ، مسند أبي عوانة : ١ / ٧٥ ح ٢١٩ ، سنن التّرمذي : ٥ / ٢٢١ ح ٢٩٩٣ ، السّنن الكبرى : ٦ / ٢٠٧ ح ١١٠٥٩ ، شعب الإيمان : ٢ / ٤٦٢ ح ٢٤٠٧ ، حلية الأولياء : ٧ / ١٠٥.

٢٨٨

من حيث كان ينقصه مطلقا هذا العنصر التّكويني للشخصية. أعني : الإرادة ، فالذي يكبو في سيره ـ مثلا ـ لا يمكن أن يعتبر مسئولا ، لا عن سقوطه ، ولا عن نتائجه المكدرة ، أو المستطابة ، بالنسبة إليه أو إلى الآخرين.

والعمل اللاإرادي من النّاحية الإنسانية هو (حادث) ، وإن كانوا يطلقون عليه إصطلاحا : (عمل) لأنّه ـ حين نستخدم التّعبير القرآني ـ لن يكون بعض ما تكتسبه أنفسنا (١).

فهل نقول إذن ـ على النّقيض ـ إنّه يكفي أن يكون العمل مرادا لنا ليحمل علينا؟ ... نعم ... و.. لا ...

نعم ... إذا كان يراد بالحمل «سببية» على نحو ما ، ولا ... إذا كان الحمل مرادف «المسئولية الأخلاقية» ، لأنّ هذه المسئولية ليست مجرد نسبة العمل إلى الإنسان بصفة عامة ، بل لا بد من وجود صفة مميزة ، وهي أنّ هذا العمل يؤدي إلى إستحقاق من الثّواب أو العقاب.

وعليه ، فمن الضّروري لكي نخلع على أي عمل هذه الصّفة ، أن يكون هذا العمل الإرادي متصورا من ناحية صاحبه بنفس الطّريقة الّتي تصوره بها المشرع. وكما أنّه في المنطق لا يوجد تماثل ، أو تعارض إلّا إذا أخذ الطّرفان المتماثلان ، أو القضيتان المتعارضتان في ظروف واحدة ، فكذلك الحال في علم الأخلاق ، لا يوجد طاعة ، أو عقوق إلّا إذا كان هناك توافق كامل بين العمل بإعتباره مأمورا به أو محرما ، وبين ذاته بإعتباره قد حدث فعلا.

ولنأخذ على ذلك مثلا ، أنّك تخرج لممارسة القنص في إحدى الغابات ، أو

__________________

(١) من قوله تعالى في البقرة : ٢٨٦ (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ.)

٢٨٩

الصّيد في إحدى البحيرات ، وتعتقد أنّك قد صوبت سلاحك نحو صيد ، على حين أنّك فعلا أطلقت النّار على إنسان ، وتريد أن تصطاد سمكة ، فيكون ما أخرجته طفلا غريقا يفجؤك. فمع أنّ التّماثل حادث في هذه الأعمال من «النّاحية المادية» ، مع الأعمال الّتي تشكل موضوع القانون ، نجد أنّها غير متماثلة من «النّاحية الكيفية» ، فقد أردت عملا مباحا ، أو محايدا ، على حين أنّ القانون قد رسم عملا ملزما ، أو محرما. لقد كان موضوع تنظيم القانون هو حياة الكائن الإنساني ، ولكنك لم تقصد إلى إنقاذ حياة كائن إنساني ، أو إنهائها ، فليس ما أزمعت تحقيقه هو العمل المستحق للثواب ، أو العقاب. وإذن فإنّ الإستحسان الأخلاقي ، أو الإستهجان كلاهما حكم يقوم على الصّفة المحددة الّتي تصورتها القاعدة. فأي إنحراف برىء للإرادة يرى الأشياء بصورة مختلفة ـ لا يقع مطلقا تحت طائلة القانون.

وعند ما يقول القرآن : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) (١) ـ نتساءل : ما ذا يقصد بهذه الأيمان؟ ..

أمّا المفسرون فقد جاؤا في هذا الصّدد بتعريفين مختلفين تماما ، يقول ابن عباس ، في جمهرة من المفسرين : (هو ما يجري على اللسان في درج الكلام والإستعمال ، لا والله ، وبلى والله ، من غير قصد لليمين) (٢) ، ولكن مالكا يرى أنّ

__________________

(١) البقرة : ٢٢٥ ، والمائدة : ٨٩.

(٢) انظر ، تفسير القرطبي : ٦ / ٢٦٦ ، تفسير ابن كثير : ١ / ٢٦٧ و : ٣ / ٢١٦ ، سنن البيهقي الكبرى : ١٠ / ٤٩ ، الفردوس بمأثور الخطاب : ٥ / ٢٩١ ح ٨٢١٨ ، التّمهيد لابن عبد البر : ٢١ / ٢٤٨ ، شرح الزّرقاني : ٣ / ٨٣ ح ٢٥ ، خلاصة البدر المنير : ٢ / ٤١ ح ٢٧٨١ ، سبل السّلام : ٤ / ١٠٨ ، الأمّ : ٧ / ٦٣.

٢٩٠

التّفسير الأفضل الّذي تمسك به دائما هو الّذي يحدد هذا النّوع من الأيمان على أنّه : (حلف الإنسان على الشّيء يستيقن أنّه كذلك ، ثمّ يوجد على غير ذلك ، فهو اللغو) (١).

ولسنا نريد أن نختار أحد هذين التّعريفين ، فنحن نعتبرهما كليهما ـ حالتين خاصتين ، في نطاق القانون العام لعدم المسئولية ، ولو أننا قابلناهما بالنصّ لوجدنا أنّ التّعريف الأوّل يتفق بصورة أفضل مع آية سورة المائدة ، حيث توضع الأيمان الحقيقة في مقابل الأيمان المؤكدة : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ) (٢) ، على حين أنّها في سورة البقرة تقابل الأيمان الّتي ينشيء الحنث فيها ضررا متعمدا : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (٣). وهكذا ينتج من مجموع النّصين أنّ العمل «الإرادي» ، الّذي «أنعقدت عليه النّيّة» وحده هو الّذي يستتبع مسئوليتنا.

بيد أنّ هذه الصّفة الثّانية تستحق أن نركز عليها ، ونحددها أكثر. ذلك أنّ هناك ضربا من الخطأ ، لا ينصب على موضوع نشاطنا ، بل على قيمته ، ومغزاه الأخلاقي ، فقد يخطىء المرء ، لا في العمل الّذي يؤديه ، بل في نظامه ، أعني في علاقته بالقانون ، فخطئي ليس ناشئا عن الجهل ، لأنّي مدرك لموقفي مدرك في الوقت نفسه للمبدأ الّذي كان من الواجب أن يخضع له هذا الموقف ، وكلّ ما في

__________________

(١) انظر الموطأ للإمام مالك : ٢ / ٤٧٧ ح ٩ ، وقد أثبت أراء أخرى لكلّ من ابن عباس ، ومالك. (المعرب). تفسير القرطبي : ٣ / ١٠٠ ، وانظر ، في المشكلة كلّها تفسير البحر المحيط : ٢ / ١٧٩.

(٢) المائدة : ٨٩.

(٣) البقرة : ٢٢٥.

٢٩١

الأمر أنّي أرى الأشياء من زاوية تجعل سلوكي لا مؤاخذة عليه في نظري ، فموقفي شبيه بموقف القاضي ، الّذي يسأل نفسه في مواجهة حالة معينة عن المادة الّتي تنطبق عليها بشكل أفضل. أو ما التّفسير الأحسن لتلك المادة؟ أو ما درجة امتدادها؟ .. وهل من الممكن أن تنطبق على الحالة المنظورة ، ولكن القاضي ـ مع هذا كلّه ـ ينتهي مع شديد الأسف إلى تبني حكم خاطىء.

ولنأخذ مثالا آخر ، يتعلق بالمقاتل ، وهو مثال نأخذه من القرآن ، فقد ألاحق عدوا شرسا ، فأضطره إلى السّقوط ، والعجز ، فيطلب السّلام ، ويضع السّلاح ، وأسأل نفسي إذا كان هذا فعلا طلبا مخلصا ، أو هو مجرد حيلة استراتيجية ، ثمّ أنّني أحكم تبعا لماضيه القريب ، وصفته الحاقدة ، وأفترض أنّه لا يمكن أن يكون قد تغير فجأة ، فأقرر قتله ، وأقتله. فالعمل الّذي تمّ على هذا النّحو هو عمل إرادي ، ومقصود ، ولكنه ليس مقصودا بالمعنى الكامل ، هو مقصود بوصفه الطّبيعي ، لا بوصفه الأخلاقي ، لقد كان لدي القصد إلى أن أقتل إنسانا ، ولكن لم يكن لدي القصد إلى مخالفة القانون ، لأنّي بدأت بأفتراض أنّه خارج على القانون.

والعمل الّذي يتم بهذا اللون من النّيّة يصفونه بعامة بأنّه (عمد بشبهة) ، أو (عمد بتأويل) ، وهو في مقابل (العمد بغير شبهة) ، من ناحية ، و(الخطأ) من ناحية أخرى. وبعد هذا التّقسيم الثّلاثي نأخذ العمل «العمد بشبهة» لنميز فيه نوعين من التّفسير المسوغ ، أحدهما «ذو التّأويل القريب» وهو الّذي يعذر ، والآخر «ذو التّأويل البعيد» ، وهو الّذي يدين.

٢٩٢

هنا أيضا ، يجب أن ننتقد هذا المسلك المغالي في الموضوعية ، والأهتمام بالصفة القانونية الّتي تملي تفرقة كهذه ، فأصحاب هذا الأتجاه يريدون : أن يحكموا على النّاس ، لا تبعا لحالة ضميرهم الفعلية ، ولكن تبعا للحالة الّتي يزعمون أننا نصادفها لدى الغالبية من الأفراد الأسوياء ، ثمّ نوع من الأستقراء النّاقص ، دون أن نفتش عما يحدث فعلا لدى شخص أو آخر.

هذه الفكرة المجردة ، الّتي تصبح فيها الذات وحدة حسابية ، والّتي تختفي فيها كلّ أصالة فردية ـ تتفق تماما مع حاجات الحياة الإجتماعية. بيد أنّ الأخلاقية ليست مطلقا أمرا استقرائيا ، كأنّ المسئولية الأخلاقية لا يمكن أن ترتبط إلّا بشخص مادي ، ولما كان واضحا بدهيا أنّ المسئول على بعد يمكن أن يصدق ، فإنّ التّأويل البعيد ليس هو الباطل. ومن هنا كلّ على علم الأخلاق أن يدع هذه التّفرقة لعالم الاجتماع ، وأن يستبدلها بأخرى تناسبه ، وبدلا من أن تخضع الشّرعية للتأويل القريب ، يجدر بنا أن نميز المخلص من غير المخلص.

ولقد يحدث ـ في الواقع ـ ألّا تكون نيتي غير العدائية سوى نيّة موجهة ، مصطنعة ، تجيء بعد فوات الأوان ، لتسويغ نية أخرى أبعد غورا ، وتأصلا في نفسي ، وهذه النّيّة الأخيرة لا يمكن تسويغها ، وهي فعلا غير سائغة في نظري ، بشرط أن أقوم فقط بتحليلها لنفسي بنفسي ، وأن تكون لدي الشّجاعة لمواجهة الدّوافع الحقيقية لعملي. في هذه الحالة ، لا شك أنّ نيتي الثّانية لا قيمة لها ، وهي عاجزة من كلّ وجه عن أن تخلصني من المسئولية الأخلاقية ، مع أنّها قادرة على أن تبرئني قانونا.

٢٩٣

ولقد نجد مثالا على هذا القصد المشتبه في الحالة السّابق ذكرها ، وهي الخاصة بملاحقة العدو الجانح للسلم ، الّذي تحدث عنه القرآن ، والحديث : القرآن في قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) (١) ، والحديث في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للصحابي : «أقتلته بعد أن قال : لا إله إلّا الله» (٢).

ولكن حين تكون نيتي خاضعة تماما لوجهة نظري ، وأكون مقتنعا بأنّي لا أنتهك الشّرع ـ (ما خلا الحالة الّتي أرتاب فيها في جهلي ، ثمّ لا أبحث عن مخرج عنه) ـ فإنّ أحدا لا يستطيع أن يلومني على مثل هذا الموقف المتسم بالإخلاص ، حتّى لو كان منحرفا ؛ ذلك أنّ كلّ أمرىء منا يحكم عليه تبعا لما في نفسه مهما يكن الأمر ، والله يقول : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) (٣).

__________________

(١) النّساء : ٩٤.

(٢) انظر ، صحيح البخاري : ٤ / ١٥٥٥ ح ٤٠٢١ و : ٦ / ٢٥١٩ ح ٦٤٧٨ ، والحديث كما رواه البخاري عن اسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما يحدث قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الحرقة من جهينة قال : فصبحنا القوم فهزمناهم ، قال : ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم. قال : فلما غشيناه قال : لا إله إلّا الله ، قال : فكف عنه الأنصاري فطعنته برمحي حتّى قتلته ، قال : فلما قدمنا بلغ ذلك النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : فقال لي : يا اسامة ، أقتلته بعد ما قال : لا إله إلّا الله؟ قال : قلت : يا رسول الله ، إنّما كان متعوذا ، قال : أقتلته بعد أن قال : لا إله إلّا الله ، فما زال يكررها عليّ حتّى تمنيت أنّي لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم». «المعرب». انظر ، تفسير القرطبي : ٥ / ٢٢٤ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٣١٠ ، صحيح مسلم : ١ / ٩٧ ح ٩٦ ، مسند أحمد : ٥ / ٢٠٠ ح ٢١٧٩٣ ، زوائد الهيثمي : ١ / ١٤٩ ح ٣ ، الإيمان لابن منده : ١ / ٢٠٨ ، شرح النّووي على صحيح مسلم : ٢ / ١٠٠ و ١٠٧ ، تهذيب الكمال : ٨ / ١٠٦ ، المحلى : ١١ / ٩٤.

(٣) الإسراء : ٢٥.

٢٩٤

أمّا فيما يتعلق بالتعارض المنهجي الّذي جعلوه بين العمل الّذي يتم «بحسن نيّة» ، والآخر الّذي يتم «بغير قصد» ، فهذا التّعارض صحيح إذا كان يراد بكلمة غير المقصود ما لا تتجه إليه الإرادة مطلقا ، كليّا ، أو جزئيا. ولكن التّعارض لن يكون ذا موضوع إذا كان المراد القول ـ على العكس ـ بأنّ (الخطأ) هو ما ليس مقصودا أخلاقيا على وجه الكمال ، ذلك أنّ العمل الّذي يتم بحسن نيّة حينئذ لن يكون سوى حالة خاصة من العمل غير المقصود (الخطأ) بعامة. وهذه الخاصة الّتي لا تنشىء سوى فرق في الدّرجة بينه وبين العمل اللاإرادي ، المحض ـ ما كان لها أن تعدل شيئا من صفته البريئة ، ومن ثمّ ـ غير المسئولة.

وإذن ، فإذا أردنا أن نصوغ الشّرط الثّالث للمسئولية الأخلاقية قلنا : إنّ العمل المنوط بالمسئولية هو العمل الّذي يكون القصد إليه كاملا ، أعني : أنّه العمل الّذي تهدف فيه الإرادة ، لا إلى الصّفات الطّبيعية لموضوعه فحسب ، وإنّما كذلك إلى صفاته الأخلاقية على نحو ما أدركها المشرع. ويجب أن يكون العمل متصورا لدى فاعله على النّحو الّذي أجيز به ، أو حرّم ، أو أمر به ، ومن حيث هو كذلك. وأي اختلاف في الرّأي ، أو إنحراف في القصد ، في صفة أو أخرى ، يخرج العمل من دائرة الملاحقة بنصّ الشّرع ، لأنّه إذا كان العمل الّذي تقرر حكمه في الشّرع غير العمل الّذي وقع ـ لم يكن لهذا الّذي وقع أن يكون له إذن نفس الحكم ، فهو في إفتراضنا حدث حتمه خطأ لا إداري.

وعليه ، فحين نؤكد أنّ خطأ من هذا القبيل لا يمكن أن يكون محسوبا فلسنا نفعل سوى تفسير القول العام الّذي جاء به القرآن نفسه ، حين يعلن : (وَلَيْسَ

٢٩٥

عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) (١) ، وكذا قوله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) (٢) ، بتفسيره الّذي ذكرناه آنفا.

وقد يقال : إذا كانت هذه هي الأهمية الّتي تخص بها النّيّة ، أو القصد ، وإذا كانت المسئولية الأخلاقية دائما ذات أرتباط بهذه النّيّة ، أو القصدية ، أفلا يستتبع ذلك أن تصبح «النّيّة» في رأيك هي كلّ «الأخلاقية» ، أو كما يعبر «كانت» : (إنّ الشّيء الوحيد في العالم الّذي هو خير في ذاته هو الإرادة الطّيبة)؟.

هيهات أن يكون ذاك ، لا لأنّ من التّناقض أن نضع الخير المطلق في حالة شخصية تناسب ضمير كلّ فرد (٣) ، لأنّ النّسبية الوجودية لهذه الحالة لا تحول دون أن تكون لها قيمة أخلاقية مطلقة. ولكن ما يدفعنا إلى رفض هذه النّظرية هو أنّها أوّلا تجرد السّلوك من كلّ قيمة خاصة ، ثمّ هي بعد ذلك ـ حين تغالي في تقدير النّيّة في العمل ـ تقع في ذلك التّناقض الّذي يجعل كلّ شيء حسنا ما دمت تصطحب في فعله نيّة أن يكون حسنا ، حتّى ما كان من الأعمال غريبا ، أو مستحيلا.

وأخيرا ، فإنّ هذه النّظرية ، حين تكون منطقية مع نفسها بكلّ دقة ، تؤدي إلى إلغاء كلّ تقدم ، وإزالة كلّ تفاوت في القيمة الأخلاقية. فإذا كانت النّيّة الحسنة هي كلّ الأخلاقية فيجب أن نعامل على قدم المساواة ـ ضمائر ، وأعمالا جدّ متباعدة على سلم القيم. ومن ذلك أنّ أكثر النّاس جهلا ، وأكثرهم تعصبا ، حين

__________________

(١) الأحزاب : ٥.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) انظر : ١ ـ Paul Janet ,la Morale ,L.I ,p.٢٤ :

٢٩٦

يقع فريسة وهم عضال ، فيعتقد أنّه يماثل إرادته بالشرع ، هذا الرّجل يحق له ـ إستنادا إلى هذا المنطق ـ أن يحظى بنفس التّقدير الّذي يستحقه في نظرنا أكثر النّاس حكمة ، وأعظمهم إستنارة.

بيد أنّ «كانت» لم يدخل في إعتباره كلّ هذه الصّعوبات ، لأنّه ـ على وجه التّحديد ـ يلتزم بسلم مجرد ، تصبح فيه الفكرة العامة للواجب وحدة دون تنوع ، وهو لا يريد أن يكلف نفسه عنت تصور الضّمير في واقعة المتعدد ، والمحسوس. أي : أنّ «كانت» لا يأخذ من العنصر الثّلاثي للضمير الأخلاقي ، وهو : «المعرفة» ، و«الإرادة» ، و«العمل» ـ سوى جانب واحد هو : الإرادة.

ونحن متفقون تماما مع «كانت» فيما يقرره من أنّ أكثر الأعمال نفعا ، وكذلك أكثرها نزاهة ، ليست له قيمة أخلاقية إذا لم تصحبه ، بل إذا لم تحدده إرادة الخضوع للقانون ، وأنّ أسوأ الأعمال لا يستتبع مسئولية إذا لم يكن قد خالف القانون عن عمد. ولكن شتان بين هذا وبين أن نقول في حالة العكس : إنّ أكثر الأعمال ضلالا مع النّيّة الحسنة يسترد كلّ قيمته ، ويصبح قدوة للسلوك الأخلاقي. فإذا كانت النّيّة الطّيبة تعذر صاحبها ، فإنّ ذلك لا يستتبع أن تنزل منزلة مبدأ مطلق للقيمة الأخلاقية وعلى سبيل الإيجاز ، ولكي نعطي لتفكيرنا شكلا أكثر وضوحا وتحديدا ، نقول : أنّ النّيّة شرط ضروري للأخلاقية ، وهي على ذلك شرط للمسئولية ، ولكنها ليست بأي حال شرطا كافيا لهذه أو تلك.

وهذه هي رؤيتنا لدور النّيّة في الأخلاق الإسلامية ، والنّص المشهور الّذي يجعل منها محكا للأخلاقية لا يتيح لها أن تستوعب ، وتمتص قيمة العمل كلّها ، بل يجعلها شرطا لصحة هذا العمل.

٢٩٧

د ـ الحرية

عند ما يكون المرء قد عرف الشّريعة ، وعمل بإرادة ، وعلى بصيرة من الأمر فليس معنى ذلك أنّه يكون قد جمع كلّ شروط المسئولية. فأنا أعرف جيدا أنّ هذا العمل محرم عليّ ، ولست أخطيء طبيعته المادية ، أو طبيعته الأخلاقية ، وحين يتحتم على إرادتي أن تتدخل فإنّها تتناوله من نفس الجانب الّذي صار به محرما. فهو إذن عمل شعوري منبعث عن نبة مزدوجة. بيد أنّه إذا لم تكن إرادتي وحدها هي الّتي تحدثه ، وإذا لم يكن مجال إختياري الحرّ خاليا. كصفحة بيضاء ، وكان مشغولا بقوى أخرى هي الّتي حددت إختياري في اتجاه معين دون أي اتجاه آخر ، وإذا لم يكن لإرادتي ـ وهي تواجه هذا التّداخل ـ غير أن تتبع تيارا سبق أن خطّ لها ـ فكيف أنسب إلى نفسي عملا كهذا ، لم تسهم فيه شخصيتي إلّا في جانب معين؟.

ألا يجب علينا ـ بالإضافة إلى ما قررناه من أهمية ملكات «المعرفة» و«الإرادة» ، أن نبحث أهمية «قدرتنا» وأن نقرر «أنّ فاعلية جهدنا» أي «حريتنا» ، شرط «رابع» في المسئولية؟ ...

إنّ مبدأ التّناسب بين المسئولية والحرية تمتد جذوره بعمق في الضّمير الإنساني ، بحيث لا يمكن تجاهله دون أن يبدو في موقفنا شيء من الإجحاف فإلى أي حد إذن ـ إذا أخذنا الإنسان كما هو ـ ، يمكن أن نتحدث عن مسئولية مشروعة؟ ..

إنّا لنعلم أنّ مشكلة الحرية قد أثارت منذ الأزل نظريتين متعارضتين إلى أقصى حدّ ، على الصّعيد المجرد على الأقل : الحتمية ، واللاحتمية.

٢٩٨

فإذا أصغينا إلى ما يقوله بعض المفكرين فلن يكون مجال مطلقا لإرادة إنسانية حرّة ، بالمعنى الصّحيح ، ولقد كتب شوبن هور [Schopenhouer] ، يقول : «هناك أناس طيبون ، وآخرون خبثاء ، وذلك مثلما يوجد حملان ، ونمور. فالأولون يولدون بمشاعر إنسانية ، والآخرون يولدون بمشاعر أنانية ، وعلم الأخلاق يصف أخلاق النّاس ، مثلما يصف التّأريخ الطّبيعي خصائص الحيوانات».

ويذهب سبينوزا [Spinoza] ، إلى حدّ القول بأنّ الأعمال الإنسانية ، شأن جميع ظواهر الكون ، تنتج ، وتستنبط بنفس الضّرورة المنطقية الّتي يستنتج بها من جوهر المثلث أنّ زواياه الثّلاث تساوي قائمتين.

وهذا «كانت» ، بطل الحرية ، الّذي جعل منها المسلمة الأساسية للحاسة الأخلاقية ، يعلمنا نوعا من الحتمية الإنسانية ، الّتي لا يحول طابعها المطلق والميتافيزيقي ، من أن تتعلق بالصرامة العلمية ، إذ يؤكد أننا لو كنّا نعرف جميع الظّروف ، والسّوابق ، فإنّ أعمال الإنسان يمكن التّنبؤ بها بنفس الدّقة الّتي يحدد بها كسوف الشّمس. وقد كان عليه ، لكي ينقذ الحرية ، ومعها المسئولية ـ أن يخرجهما كلّية من مجال التّجربة ، ومن عالم الظّواهر ، ليحبسهما في عالم مجهول ، يراه غير قابل للمعرفة ، وهو ما يتساوى عمليا مع إنكار واقعهما الرّاهن ، حتّى لا يبقى منه سوى تذكار دارس ، وأمل ملتبس.

ولم يتردد هوم [Hume] في أن يقول هذا بألفاظ مباشرة «إنّ شعورنا بالحرية ليس إلّا وهما».

بيد أنّ مسئوليتنا عن كلّ عمل مقصود ـ على ما يعتقد أنصار الإختيار الحرّ ـ

٢٩٩

هي أمر قطعي ، وفي رأيهم : أنّ الإرادة ، والحرية مترادفان (١). وعلى أية حال ، فإنّ هاتين الفكرتين تغطيان على وجه التّحديد نفس المجال. ولا يتعلق الأمر ، بطبيعة الحال ، أن ننسب إلى الإنسان القدرة الكلية على تنفيذ قراراته بحرية ، برغم جميع العقبات المادية ، وضد قوانين الطّبيعة الصّارمة. إذ يجب أن نكون قد فقدنا كلّ تفكير متزن حين نؤكد أننا نستطيع دائما أن نفعل ما نريد. وذلك بالرغم من حقيقة ما يقال ـ في الظّروف العادية للحياة العملية ، ومع تنحية الأعمال الّتي تحظرها قوة قاهرة ـ : إنّ (الإرادة هي القدرة) ، بيد أنّ المعنى الحقيقي للفظ ، وهو الّذي يريد المدافعون عن الإختيار الحرّ أن يثبتوه شرطا متحققا للمسئولية ـ ليس هو «حرية التّنفيذ» (الّتي يدركون نسبيتها وأرتباطها بألف ظرف خارجي) ، بقدر ما هو «حرية التّقرير» ، الّتي يعلنون أنّها لا تنفصم عن كلّ ضمير إنساني.

ولا أحد يضارع مطلقا «ديكارت» ، الّذي مدّ حدود نشاطنا الحرّ إلى أبعد مدى ، لا في مجال العمل فحسب ، بل في مجال المعرفة أيضا. فإرادتنا هي الّتي تحكم ، أو تمتنع ، هي الّتي تثبت ، أو تنكر. وتتجلى هذه الحرية أوّلا في الشّك المنهجي ، أي في القدرة الّتي نملكها على الرّفض الإرادي لجميع أحكامنا المسبقة ، وجميع معارفنا السّابقة ، النّاتجة من حواسنا ، أو من إستخلاص قياسنا ، سواء أكان هذا الشّك لكي نصدر على إثره ـ حكما بصدقها ، أو كذبها النّهائي ، أم لكي نعلق حكمنا عليها تعليقا محضا مجردا (٢). لكن هذا النّشاط يبدو بشكل موضوعي في أحكامنا العادية ، وهذه الأحكام لا يفرضها إدراكنا ، بل

__________________

(١) قال ديكارت في (الإجابات على الإعتراضات الثّالثة) : «إنّ الإرادة ، والحرية ليستا سوى شيء واحد».

(٢) انظر ، ١ ـ Descartes.Premiere meditation

٣٠٠