الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

لا يتبع الرسول في كل ما يفعل او يقول إلا وحي القرآن : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) (٦ : ٥٠) فلا يصدّق على الرسول ما يكذبه القرآن وان صحت أسناده ، وقد يصدّق عليه ما يصدقه القرآن وان ضعفت أسناده ، فلا يسند الحديث صحيحا إلا متنه الموافق للقرآن دون سنده ، ولا نحتاج الى صحة السند في متن صحيح إلا لاتقان النسبة الى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فان المتن الصحيح لا يختص بالرسول ، ثم لا تفيدنا صحة السند في متن لا يلائم القرآن ، فان الباطل لا يصدر عن الرسول (١).

وقد تواتر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «لقد كثرت عليّ الكذّابة وستكثر فمن كذب عليّ متعمدا فليتبوء مقعده من النار فإذا أتاكم الحديث فأعرضوه على كتاب الله وسنتي فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به» (٢).

او «ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم اقله»(٣) حيث السنة ، وهي الشارحة الموافقة لكتاب الله ـ تندغم

__________________

(١) حالات الحديث اربع : ١ صحيح السند والمتن ٢ ضعيف السند والمتن ٣ صحيح السند ضعيف المتن ٤ ضعيف السند صحيح المتن ـ فالأول يسند الى الرسول والأئمة من آل الرسول ـ والثاني يضرب عرض الحائط وكذلك الثالث إذا لم يتحمل التأويل ، والرابع يصدق ولكن لا يسند الى الرسول ـ والأصل في صحة المتن موافقته لكتاب الله او سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الثابتة ، ولا دور للسند الا صحة الاسناد الى المسند اليه إذا كان المتن صحيحا ـ فصحة السند لا تصحح المتن ، وانما هي من اسباب صحة النسبة على هامش صحة المتن.

(٢ ـ ٣). رواه الطبرسي في الاحتجاج بالإسناد الى أبي جعفر الجواد (عليه السلام) عند احتجاجه على يحيى بن أكثم ـ ورواه مثله الكافي ١ : ٦٩ عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن الشاذان عن ابن أبي عمير عن هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبد الله وفي ـ

٢١

في كتاب الله ، دون ان تكون فيها محادة لكتاب الله ، وانما هي كظل وهامش يوضّح منه ما خفي على القاصرين.

ثم لا يفرق في هذا العرض حديث البرّ عن الفاجر ، كما في الصادقي (عليه السلام): «ما جاءك في رواية من برّ او فاجر يوافق القرآن فخذوا به وما جاءك في رواية من بر او فاجر يخالف القرآن فلا تأخذ به» (١).

«.. فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنا إذا حدثنا قلنا قال الله عز وجل وقال رسول الله» (٢) كما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس له قال إلا قال

__________________

ـ المحاسن (٢٢١) البرقي عن أبي أيوب المدائني عن ابن أبي عمير عن الهشامين جميعا وغيرهما عنه (عليه السلام) وفي المستدرك ٣ : ١٨٦ محمد بن مسعود العياشي في تفسيره عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله ـ الا انها بحذف سنتي ، وانما «كتاب الله

(٢ ـ ٣). رواه الطبرسي في الاحتجاج بالإسناد الى أبي جعفر الجواد (عليه السلام) عند احتجاجه على يحيى بن أكثم ـ ورواه مثله الكافي ١ : ٦٩ عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن الشاذان عن ابن أبي عمير عن هشام بن الحكم وغيره عن أبي عبد الله وفي المحاسن (٢٢١) البرقي عن أبي أيوب المدائني عن ابن أبي عمير عن الهشامين جميعا وغيرهما عنه (عليه السلام) وفي المستدرك ٣ : ١٨٦ محمد بن مسعود العياشي في تفسيره عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله ـ الا انها بحذف سنتي ، وانما «كتاب الله

(١) المستدرك ٣ : ١٨٣ عن محمد بن مسلم قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) يا محمد ومثله ما في الصادقي (عليه السلام) ايضا سئل عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا نثق به قال إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله او من قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والا فالذي جاءكم به اولى» وفي الكافي ١ : ٦٩ محمد بن يحيى عن عبد الله بن محمد عن علي بن الحكم عن ابان بن عثمان عن عبد الله بن أبي يعفور قال وحدثني الحسين بن أبي العلاء أنه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) ورواه في المحاسن (٢٢٥) مثله.

(٢) رجال الكشي (١٤٦) حدثني محمد بن قولويه والحسين بن الحسن البندار القمي قالا حدثنا سعد بن عبد الله قال حدثني محمد بن عيسى بن عبيد عن يونس بن عبد الرحمن ان بعض أصحابه سأله وانا حاضر فقال له : يا محمد! ما أشدك في

٢٢

الله ، بلفظ القرآن ام سواه ـ ف (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) وكيف يناقض او يضاد وحي الله وحيه!.

فالقرآن هو النور الذي يصوّب الصواب ويخطئ الخطأ وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نور فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه» (١).

وفي الباقري (عليه السلام) «انظروا أمرنا وما جاءكم عنا فان

__________________

ـ الحديث واكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا فما الذي يحملك على رد الأحاديث فقال حدثني هشام بن الحكم انه سمع أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : لا تقبلوا علينا حديثا الا ما وافق القرآن والسنة او تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة فان المغيرة بن شعبة لعنه الله دسّ في كتب اصحابي أحاديث لم يحدث بها أبي فاتقوا الله ...

(١) اصول الكافي ١ : ٦٩ علي بن ابراهيم عن أبيه عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)

امالي الصدوق (٢٢١) قال : حدثنا احمد بن علي عن ابراهيم بن هاشم قال : حدثنا أبي عن أبيه ابراهيم بن هاشم عن الحسين بن يزيد النوفلي عن إسماعيل بن مسلم الكوفي عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) عن أبيه عن جده قال قال علي (عليه السلام) قال (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكر مثله وفي المحاسن (٢٢٦) البرقي عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه عن علي (عليه السلام) مثله عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) الا انه قال : فخذوا به وفي الوسائل ٣ : ٣٨٢ سعيد بن هبة الله الراوندي عن محمد وعلي ابني علي بن عبد الصمد عن أبيهما عن أبي البركات علي بن الحسين عن أبي جعفر بن بابويه عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن محمد بن أبي عمير عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة وذكر مثله وفي المستدرك ٣ : ١٨٦ محمد بن مسعود العياشي في تفسيره عن إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام) انه قال في حديث وذكر مثل ما في المحاسن.

٢٣

وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به وان لم تجدوه موافقا فردوه وان اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح لكم ما شرح لنا» (١).

وفي الصادقي (عليه السلام): «ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف» (٢) وهكذا نجد مستفيضا من الأحاديث ان ما لا يوافق كتاب الله او يخالفه فهو زخرف او فاضربوه عرض الحائط ، وكفى بما أوردناه نماذج وان كان يكفينا كتاب الله : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٩ : ٥١) «وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه الى الله» وما أجمله توافقا بين الكتاب : المتن ، والسنة : الهامش ، في وجوب عرض الحديث على القرآن!.

وهنا فوائد هامة :

١ ـ آيات العرض وأحاديثه شاهدة على أن ظهور الكتاب ـ فضلا عن صريحه ـ حجة ، وإلّا فكيف يقاس الحديث على كتاب غير مفهوم ، ام لا حجة في دلالاته؟ وما قولة القائل : «القرآن قطعي السند ظني الدلالة والحديث ظني السند قطعي الدلالة» إلا خرافة جارفة ومسا من كرامة القرآن الذي بيانه افصح بيان وابلغ تبيان (٣) وما تفسير السنة للكتاب الا إيضاحا لما أجمل على القاصرين لا لقصور في دلالات الكتاب ، فانها بينات حتى في المتشابهات ، وانما الغامض هو المعاني العالية المطلّة على الافهام ، دون

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٣٨٣ الحسن بن محمد الطوسي في الامالي عن أبيه عن المفيد عن جعفر بن محمد عن محمد بن يعقوب عن علي بن ابراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام).

(٢ ، ٣). فهناك كثير من الأحاديث هي ظنية بين مشكوكة الصدور وظنيته ، ومتحملة التقية ام تغيير النص الى غيره ، ام منسوخة أماهيه ولكن القرآن لا يتطرق فيه شيء منها.

٢٤

الألفاظ التي هي في أعلى قمم الفصاحة والبلاغة ، والرواية القائلة ان القرآن لا يفسّر الا بالأثر الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) او عن الأئمة (عليهم السلام) تؤوّل الى الحظر عن تفسيره بالرأي ، ويا ترى إن تفسير القرآن بالقرآن محظور ، ثم وإذا فسرته بالحديث فلا محظور! رغم ان القرآن تبيان لكل شيء وبيان للناس بلسان عربي مبين ، فكيف يكون بيانا للناس ولا يفهم من ظاهره شيء ، ان ذلك وصف له باللغز والمعمّى! وقد مدح الله الممسكين به : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (٧ : ١٧٠) أنهم هم مصلحون ، ومدح المستنبطين : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (٤ : ٨٣) وذم غير المتدبرين في القرآن : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٤٧ : ٢٤) ثم وأحاديث العرض والثقلين تحملنا على الرجوع اليه كأصل ، وكيف نراجع مالا حجة في ظاهره ، وكيف نعرض على ما لا يفهم شيء من ظاهره ، إن هذا الا هراء جارفة تمس من كرامة هذا الكتاب المبين الذي فيه تبيان كل شيء!

٢ ـ ادلة العرض تحثّنا على التدبر في القرآن كما يصح ويجب ، قدر ما يمكن أن يعرض عليه الحديث ، فيعرف الغث عن السمين والخائن عن الأمين ، وما الأحاديث المروية إلا كهوامش مختلفة على متن الكتاب ، ما تلائم منها المتن تقبل له شارحة ، وما لا تلائم تضرب عرض الحائط ، وما يشك فيه يرد الى قائله او راويه.

فليس للمفسر ان يعتمد على حديث ما لم يعرضه على القرآن ، ولا له ان يعرضه ما لم يتدبر حقه في آيته ، تأملا في جملاتها ، ولغاتها مستفسرا للحصول على معناها من الآيات النظيرة لها ، لا ان يفسر آية بتفسير آية اخرى بضرب القرآن بعضه ببعض ونثره نثر الدقل ، وإنما بسرد الآيات

٢٥

المتماثلة المغزى ، المتشابهة المعنى ، ونضدها تدبرا : ان يجعل كلّا دبر الاخرى كما يقتضيه ترتيب المعنى .. ناظرا الى الآية نفسها ، ثم ما تحتفّ بها ، ومن ثم نظائرها في سائر القرآن ، ثم يراجع الأحاديث الواردة في تفسيرها ناظرا إليها من زاويتين : نظرة التثبت من صدورها بموافقتها للآية ، ثم نظرة الاستيضاح لما استخفى منها من اشاراتها ولطائفها وحقائقها ان لم يكن هو من أهلها ، او يستزيد منها عن أهليها الذين هم من اهل بيت القرآن ، فأهل البيت أدرى بما في البيت.

فأقل ما يجب التحري فيه هو فهم العبارة من الآية ، وهي المعنى المطابق الظاهر ، ثم يتبناه لسائر الزوايا في مربع التفسير حيث هو على العبارة والاشارة واللطائف والحقائق (١) ، كما يتبناه في عرض الحديث على القرآن إذا كان يعني تفسير العبارة ، كما يتبنى الثلاثة الاخرى فيما الحديث يعني تفسيرها.

٣ ـ مما تدل عليه آيات العرض وأحاديثه ان هذا القرآن المعروض عليه هو النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كلمات وآيات وترتيبات دون نقائص او مزيدات ، وإلا فكيف يحتل المركز الأصيل الوحيد المعروض عليه للأحاديث كل الأحاديث. إذا فكل ما ورد في تحريف القرآن بزيادة او نقصان هي مما اختلقته ايدي الزور والبهتان فانها مخالفة للقرآن ، وان كان الخلاف في نقطة او اعراب او ترتيب او تركيب تخالف القرآن المتواجد عند المسلمين ، المتواتر مر الزمن ، ومن لطيف الأمر ان الأحاديث الحاملة لكلمات او آيات يدّعى انها محرفة بزيادة او نقصان ، هي بذواتها تشهد انها أكاذيب زور اختلقتها ايادي أثيمة إسرائيلية او مسيحية وتسربت الى جهال

__________________

(١) يرويه الامام الحسين (عليه السلام) عن أبيه علي امير المؤمنين (عليه السلام) كما ياتي بكامله (سفينة البحار تحت الحرف ك).

٢٦

يحسبونهم علماء! (١).

والقرآن جملة وتفصيلا دليل على براءته من زيادة او نقصان ، فما هي هذه الزيادة التي اختلطت بآي القرآن وما تميزت حتى الآن عند الخبراء باللسان ، ونرى كلام الرسول وعلي (عليهما السلام) ـ وهما أبلغ البلغاء ـ لا يخلطان بالقرآن ، إلا وهو لائح حتى عند السوقيين العرب وغيرهم.

وكيف يجرأ أحد ان ينال من القرآن بزيادة او نقصان حتى في حرف منه او إعراب وقد ضمن الله حفظه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٥ : ٩) .. وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤١ : ٤٢).

ان مدعي التحريف انما يهرف بما لا يعرف جهلا ، او ما يعرف تجاهلا ، ولا نجد لهم حجة إلّا عليهم ، وسوف يمرّ عليكم قول فصل حول صيانة القرآن عن التحريف على ضوء آية الحفظ والعزة واضرابهما والله من وراء القصد.

٤ ـ ومما تشهد عليه ادلة العرض ان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة من آل الرسول (عليهم السلام) لا يفسرون القرآن إلا بحجة الدلالات القرآنية ، دون خلاف على معاني اللغات او سرد الجملات ادبيا ام ماذا؟ وانما القرآن والقرآن فقط هو حجتهم على ما يقولون ، وكما كانوا يأمرون أصحابهم ان يتساءلوهم فيما يفتون ، اين ذلك من كتاب الله؟ حتى يروضوا في حياتهم العلمية على دلالات القرآن ، دون أن تأخذهم الآراء والأهواء ايادي سبا!.

__________________

(١) لقد جمع الميرزا حسين النوري في فصل خطابه ستة عشر موضعا ـ بعد كدّ مديد ـ مما يحتج به على وجود التحريف بالنقيصة ، أكثرها تنحو نحو حذف اسم الامام علي (عليه السلام) وهو هو المحذوف لم يشر ابدا الى هذا الحذف! المظلوم اليتيم!.

٢٧

وإذا كان تفسير القرآن بالحديث ـ دون نظر في متنه وعرض على القرآن ـ تفسيرا بالرأي ، فتفسيره بآراء المفسرين ، متفردين او مكثرين او مجمعين ، او تفسيره بالآراء العلمية في مختلف الحقول ، ان ذلك لأحرى ان يسمى تفسيرا بالرأي ، فانه يجمعه تفسيره بغير حجة من كتاب او سنة قطعية ، تفسيرا فيه تحميل على القرآن ما لا يتحمله او لا يلائمه.

فعطف القرآن على الرأي كعطف الهدى على الهوى يعطفان بالإنسان الى الهاوية والردى وقد يروى عن الإمام علي امير المؤمنين (عليه السلام) في اصلاحات المهدي القائم (عليه السلام) انه «يعطف الهوى على الهدى إذا عطفوا الهدى على الهوى ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي» (١).

فالذي يفسر القرآن جاهلا بموازينه ، او تجاهلا عما يجب في تفسيره ، انه في ضلال مبين ، مهما أتى بعبارات براقة ، فلسفية او عرفانية اماهيه؟ فان هذا الأسلوب الجاهل او المتجاهل او المبتدع المغرض يجعل من النور ظلاما ، ومن الهدى ضلالا : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (١٧ : ٨٢).

مثل ما يهرأه الهارعون المفرطون ان العبادة انما هي لغرض اليقين والوصول الى المعبود. فإذا أتاك اليقين فلا عبادة ، مستندين الى الآية : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (١٥ : ٩٩) رغم ان اليقين درجات يتنقل العابد دوما بين هذه الدرجات ، كما وان المعرفة درجات ، ولا نهاية لهذه او تلك وحتى لرسول الله وهو اوّل العابدين فضلا عن هؤلاء المدعين ، ف «حتى» هنا لا موقف له منتهى حتى تنتهي عنده العبادة ، وقد عبد

__________________

(١) نهج البلاغة في كلام له (عليه السلام) حول الامام المهدي (عليه السلام).

٢٨

الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه وقام في عبادته حتى تورمت قدماه فنزلت : (طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) فهل إنه بعد لم يكن اوّل العابدين واصلا الى درجة من اليقين التي وصلها هؤلاء المدعون! وهو هو المخاطب في (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)؟ دون هؤلاء الأغباش الذين هم لم يصلوا بعد الى درجة من الايمان فضلا عن اليقين!.

او ما يتقوله بعض الفلاسفة ان لله عالمين : عالم الأمر وهو إحداث المجردات ، وعالم الخلق وهو إحداث الماديات مستندين الى الآية : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (١٧ : ٨٥) والآية : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (٧ : ٥٤). فالروح من عالم الأمر المجرد عن المادة دون الخلق المادة!

رغم ان الأمر في الأولى هو مجموع الخلق والتقدير ، وفي الثانية الخلق هو الخلق والأمر هو التدبير إذ ليس (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) الا بعد عرض الكون خلقا وتقديرا : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٧ : ٥٤) ف (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) تنبيه أن له أمر التدبير والتسخير في السماوات والأرض كما له خلقهما ، دون ان يكون هو الخالق ، والمدبر سواه ، او هو المدبر والخالق سواه ، بل انه (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) في الخلق والتدبير سواء ، ثم وخلق السماوات والأرض يعني خلق الكون اجمع فلا وجود لمخلوق مجرد عن المادة حتى يختص به الأمر ، بل الأمر يشمل كلّ الخلق ، ومن المستحيل قرآنيا وعقليا ان يكون كائن مجرد عن المادة او الطاقة المادية سوى الله (١).

__________________

(١) راجع كتابنا «حوار بين الإلهيين والماديين» وكذلك بطيّات آيات الخلق والأمر في الفرقان.

٢٩

او ما يحمله على القرآن بعض من يتسمى فقيها ، من رأى اتخذه تقليديا ، كحرمة حلائل الأبناء من الرضاعة التي تنفيها الآية : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) (٤ : ٢٣) متقولا ان قيد الأصلاب انما هو لإخراج الأدعياء ، رغم ان أبناء الأصلاب نص في حرمة حلائلهم فقط وفي حلية حلائل الأبناء من الرضاعة مع الأدعياء ، ولو كان المقصود ما يهرفونه لكان النص «غير ادعيائكم» ومن ذلك كثير نأتي عليه في طيات آياتها.

ومن متفرنج أدهشته العلوم العصرية لحدّ كأنها هي الأصل والقرآن من فروعها ، كالشيخ الطنطاوي في جواهره! حيث يعتبر فرضية انفصال الأرض عن الشمس لمفترضيها الأوروبيين قانونا علميا ثم يختلق لها تفسيرا لبعض الآيات كالتي في سورة الأنبياء : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ..) (٢١ : ٢٩) متقولا عليها أن السماوات هنا تعني الشمس والأرض هي هذه الأرض حيث فتقها الله عن الشمس بعد رتقهما و (أَوَلَمْ يَرَ) الماضي تعني هذا المستقبل الزاهر أن العلماء الكفار الغربيين يرون انفصال الأرض من الشمس!.

وفي ذلك تحميل على الآية مالا تتحمله من تحويل ماضيها الى مستقبلها ، وتفسير سماواتها إلى شمسها التي هي ذرة صغيرة من ادنى الجزر السماوية الاولى إلينا ، ومن ثم ففتقهما ، لا فتق الأرض من السماوات : الشمس!.

ثم الآيات في فصّلت تفصّل ان خرافة هكذا فصل باطلة حيث تقول بعد عرض خلق الأرض وكمالها : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها ... فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) وشمسنا هذه هي من مصابيح السماء الدنيا المخلوقة في

٣٠

السبع بعد دخان السماء ، إذا فالشمس متأخرة عن الأرض بمرحلتين!.

ومن ذلك كثير عند المتفرنجين من المفسرين الذين غرقوا في العلوم والنظريات الجديدة ، ونسوا ان القرآن هو علم الله فلن يتبدل ، والعلم دوما في تبدل وتحوّل من خطأ الى صواب ومن صواب الى أصوب! ..

فتفسير القرآن بفرضية العلم او رأيه ، او برأي العقل غير الضروري ، منك امّن سواك من مفسرين او علماء آخرين ، أو أحاديث غير ثابتة ولا ملائمة للآيات أو أيا كان من تفسير للقرآن بغير القرآن أومأ يصدقه ، كل ذلك تفسير له بالرأي ، دون علم او أثارة من علم او كتاب منير.

فلا تغتر بالتحقيقات الفلسفية والتلطيفات العرفانية ، والتدقيقات العلمية! التي تحول دون استنباط القرآن كقرآن ، تحميلا عليه ما لا يتحمله.

وتحلّل ـ حين ما تروم تفسير القرآن ـ عن كل شارد ووارد حتى وعن مذهبك فضلا عن رأيك او آراء الآخرين ، تحلل عن كل ذلك وعش الآية التي تعني تفسيرها ، بمفرداتها وجملها ، بموقفها مما قبلها وما بعدها ، وبنظائرها التي تعني معناها ، عشها كذلك محقّقا صافي القلب خالي الذهن إلا عما تستمد به في تفهمها بمفهومها او مصاديقها ، سنادا الى عقل رائع وعلم بارع دون تحميل على الآية ما لا تتحمله نصا أو ظاهرا ، او لا تخالفه ولا توافقه حيث لا تمتّ بصلة دلالية او معنوية بما تحمله عليها ، والله من وراء القصد.

فالذي يفسر القرآن برأيه او برأي مذهبه او تقليده أو أيا كان من آراء انما يفسر نفسه او مذهبه عبر القرآن بهواه ، دون ان يهتدي بهداه ، تفسيرا لنفسه دون تفسير القرآن نفسه ، فلذلك «كان مصيره الى النار» «وليتبوء مقعده من النار».

٣١

ولان الأهوية والآراء تختلف ، والمذاهب تتخالف ، والنظريات تتضارب ، فمعاني الآيات لمن يحمل هذه وتلك تتهافت ، ويصبح القرآن مجال القيل والقال ومعترك الآراء والأقوال.

وأما إذ صدر المفسرون عن مصدر واحد ، وساروا في مسير واحد ، مفسرين للقرآن بالقرآن ، على ضوء السنة القطعية الملائمة للقرآن ، اغتربت خلافاتهم ، واقتربت أفكارهم ، وإذا جعلوا أمرهم شورى بينهم قلّ قليلهم وصح عليلهم ، واستشرفوا الى ينبوع الوحي وإن كانوا في ذلك درجات.

صحيح أن القرآن بيان للناس ، إلّا ان بيانه درجات كما الناس درجات ، وكما يروي الامام الحسين عن أبيه علي امير المؤمنين عليهما السلام : «إن كتاب الله على اربعة أشياء ، على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق ، فالعبارة للعوام والإشارة للخواص واللطائف للأولياء والحقائق للأنبياء» وهذه الأشياء المراحل هي متلائمة رغم درجاتها.

فالعبارة ـ وهي ما يعبّر عنه اللفظ ـ هي التفسير الظاهر ، والإشارة هي التحقيق على هامش الظاهر ، واللطائف هي البطون ، والحقايق هي التأويل (١) فالذي لا يعرف التفسير الظاهر هو أدنى من العوام ـ (٢)

ويروى عن ابن عباس «إنّ للقرآن آيات متشابهات يفسرها الزمن» (٣).

__________________

(١) سوف نبحث عن التأويل والمعاني الباطنية على ضوء آية التأويل «.. وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» إنشاء الله تعالى.

(٢) بما ان الاشارة بعد المعنى الظاهر فليست العبارة هنا إلّا التعبير عن الظاهر ، وكثير كثير هؤلاء الذين يدرسون عشرات من السنين في الحوزات العلمية ولم يصلوا بعد الى درجة العوام في تقسيم الامام عليه السلام.

(٣) والمقصود تقدم العلم والعقل على مرّ الزمن ، فليس هناك آيات متشابهات لإبهام دلالي ، وانما لعلوّ مدلولي عقليا او علميا فالتقدم العقلي والعلمي يفسر هذه التشابهات على قدره.

٣٢

والمتشابه على حدّ قول الامام الرضا (عليه السلام): «ما اشتبه علمه على جاهله» فالتشابه في آياته ليس من مقولة الدلالة اللفظية ، ان تكون الآية قاصرة الدلالة ، وانما هو لعلو المدلول على وضوح الدلالة ، وكما الافهام درجات في مفاهيم الآيات ، كذلك الآيات درجات في محكمات ومتشابهات ، رب محكمة من جهة متشابهة من اخرى ، ورب محكمة عندك متشابهة عند الآخر ، فلا توجد إذا آيات معدودات هي بعينها متشابهات وأخر محكمات ، وانما هي حسب درجات الأفهام ، فالتشابه والإحكام أمران نسبيان ، وان كانت بعض الآيات محكمات لكل من يعرف اللغة (١) وبعضها متشابهات كالحروف المقطعة في أوائل بعض السور.

فليس للمفسر الخوض في آيات الله ، قائلا بغير علم او أثاره من علم فليعلم أنها نازلة بعلم الله ، قدر ما يحتاجه العقلاء طول الزمن إلى انقراض العالم ، فليأخذ كلّ نصيبه من الفهم ، متثبتا متدبرا في تفهمه ، فتقدم العقول والعلوم يكشف جديدات وجديدات من معارف القرآن ، متشابهات عقلية او علمية تصبح محكمات على ضوء تقدم العقل والعلم ، فلا يستعجلوا فيما يخفى عليهم زاعمين ان لهم تفسير كل آية ، او كل زاوية من زواياها.

وعلى المفسر العارف ان يفسر الآيات ـ كما تهديه ـ بعضها ببعض ، دون اتكالية على آراء المفسرين ، فليسبر في كل آية غورها ، دون تحويل الى كتب أو مقالات اخرى ، فلا يحوّل البحث والتنقير عن آيات الأحكام الى الفقه او الى ما الف في آيات الأحكام ، حيث الفقه كما نراه لا يعتمد كما يجب على الآيات في الأحكام ، اللهم إلّا أحيانا وهامشيا محولا الى

__________________

(١) سوف نسبر غور البحث عن المحكم والمتشابه في آية التقسيم من آل عمران.

٣٣

التفسير او الكتب المؤلفة في آيات الأحكام ، فتصبح آياتها غير مفسرة لا في التفسير ولا في الفقه ، ولذلك نرى فتاوى تخالف كتاب الله من فقهاء الإسلام شيعة وسنة (١) ولا قيمة لفتوى لا تعتمد على القرآن وان اعتمدت على أحاديث او شهرات ام وإجماعات. حيث القرآن هو المصدر الأصيل.

ولعمر الله لقد كانت تنحية القرآن عن القيادة المستقيمة ، وإخراجه عن الحوزات العلمية حدثا هائلا في تاريخ الإسلام ونكبة قاصمة في حوزات الإسلام ، لم يعرف لها التاريخ مثيلا في كل ما ألمّ المسلمين من نكبات ، فلا نجد كتابا ظلم ولا نبيا أكثر من القرآن ونبي القرآن!

لقد كان القرآن يقود المسلمين بعد ما فسدت الأرض وتعفنت الحياة والقيادات ، وذاقت البشرية الويلات من القيادات العفنة ، ولكنّما الاستعمار من ناحية ، وجهل المسلمين من أخرى ، تعاونا في تنحية القرآن عن المجتمع الإسلامي وعن الحوزات العلمية بوجه خاص ، لحد لا يعتبر مدرس التفسير ومتعلمه من طلاب الحوزات وعلمائها ، بل ويعتبر أحيانا من مخربيها وناقضي سنتها!

نرى الطالب في حوزة علمية يدرس عشرات من السنين ، ثم يتخرج وليست له معرفة بمعارف القرآن ، والمسلمون بحاجة ماسة إليها وقد «ضعف الطالب والمطلوب»!.

نرى القيل والقال في كل مجال من بحوث ادبية ـ اصولية ـ منطقية ام ماذا؟ نراها متأصّلة متعرّقة في متون الحوزات ، في حين أن القرآن لا مجال

__________________

(١) تجد هذه الخلافات في طيات آيات الأحكام ، وان ساعدني التوفيق لا كمال الفقه على ضوء القرآن تجد فيه مجموعة من الفتاوى المخالفة للقرآن او غير الموافقة للقرآن. وحرمة وحي الله أحرى بالرعاية من حرمات الفقهاء.

٣٤

له ولا هامشيا ، وهذا ما يريده الاستعمار ويغتنمه إذ يرى بغيته ـ وهي تنحيته القرآن عن أهله ـ حاصلة دونما صعوبة او محاولة مستمرة.

ذلك! ورغم أن الاحتكام الى الله ، المتمثل في كتاب الله ليس نافلة وتطوعا ، نراه نافلة ضئيلة في حياتنا وكقرائه فقط ، رغم ان هذه البشرية ـ وهي من صنع الله ـ لا تفتح مغاليق عقليتها وفطرتها إلا بمفاتيح اخرى من صنع الله وهي هي القرآن لا سواه! (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (١٧ : ٩) فلا أقوم منه ولا قيّم ولا أقيم ، ثم ولا يسامى أو يوازى بكتاب سواه ولا ما بين يديه من وحي الكتاب فضلا عن سائر الكتاب.

لقد تسلم القرآن القيادة الخالدة روحيا وزمنيا منذ بزوغه حتى يوم القيام ، ولكنما المسلمون قبل من سواهم تحللوا عن قيادته الزمنية الى الطواغيت ، وعن قيادته الروحية الى اجتهادات متخلفة مختلفة ، ولو انهم تبنّوا فيها القرآن كرأس الزاوية ، وهندسوا بنيان الإسلام على هذه الزاوية لقلّت خلافاتهم ، وذلت أعدائهم.

ومن المضحك المبكي ان المسلمين ككل او جل لا يبالون بالقرآن مبالاتهم بروايات ونظرات ، وهم مصدقون كمبدء ايماني أنه هو أصل الإسلام وأثافيّه ، وحجة رسوله في رسالته ودعوته ، فأصبح مثله عندهم كمثل الموت على حد تعبير الامام الرضا (عليه السلام) «ما خلق الله تعالى يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت».

فالقرآن ـ وهو يقين لا شك فيه ـ أصبح شكا لا يقين فيه ، لحدّ لا يقتنع طالب العلم بآيته قبل روايته ، وهو مقتنع بروايته قبل آيته! (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)!

٣٥

فحيّا الى القرآن ، علم الله النازل ، كتاب الزمن ، الوحي الأخير الذي يجمع مجامع الوحي في تاريخ الرسالات وزيادات.

ولسوف ترون لو ان القرآن دخل في الميدان في حوزاتنا العلمية كركيزة متينة أصيلة ، ومن جراءها دخل المجتمع الانساني ، لشملت علومه ومعارفه العالم ، وحلّقت على كافة العقول وفي كافة الحقول : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٩ : ٥١).

ولا يعني الحديث عن الامام المهدي (عليه السلام): ياتي بكتاب جديد ... إلا أن اهل القرآن قبله تركوه ورائهم ظهريا فنسوا او تناسوا معارفه واحكامه ، ولقد جرّبت مرارا هذه التجربة المرة في بعض الحوزات العلمية انني لما استشهد بآية قرآنية في مسألة خلافية فقهية ام سواها ، تقوم قيامتهم عليّ ، وبأي حديث تستدل ، واي قائل من العلماء يصدقك ، لا تكفي الآية بمفردها ..! في حين يستندون ـ أحيانا ـ بأحاديث أحاد لا توافق القرآن ، ام الى فتاوى لا شاهد لها من كتاب او سنة.

فهل ان حوزة كهذه اسلامية وقرآنية بعد :؟! (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ)؟!.

وهكذا ابتلي جمع من إخواننا السنة أنهم يفتون بما في مسانيدهم دون رعاية للعرض على القرآن ، وهذا الذي كان يزعج جمعا منهم في مكة المكرمة والمدينة المنورة ، إذا أنا أقول قال الله وهم يقولون : قال فلان وفلان ، وانهم يفضلون صحيح البخاري ـ عمليا ـ على كتاب الله ، وقليل هؤلاء الذين يعتمدون على القرآن ، رفضا لما لا يلائم القرآن ، من شيعة او سنة ، وكثير هؤلاء الذين يفضلون الحديث على القرآن من سنة (١)

__________________

(١) كما يفتون بحرمة المتعتين خلاف الآيتين (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ـ

٣٦

وشيعة (١) ، وان كان إخواننا السنة اكثر خلافا على القرآن ، كما تعرفه في هذا التفسير ، وانما الطريقة المثلى هو اتباع القرآن كأصل ، واتباع الحديث على ضوء القرآن ، دون افراط من يقول : حسبنا كتاب الله ويترك السنة ، او تفريط من يقول : حسبنا السنة او الحديث ولا يفهم كتاب الله إلا بدلالة الحديث ، كأنما القرآن لغز غير مفهوم! فكيف أصبح حجة على الأولين والآخرين لاثبات رسالة الرسول ، وقبل ان يصدقوه وأهليه المعصومين.

وحقيق على حوزة تريد ان تتسم بسمة اسلامية ان تؤصل القرآن في كافة حقولها ، وتفرع عليه كافة علومها وعقولها ، تعودا على مراجعة القرآن

__________________

ـ فَرِيضَةً) (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ويفرضون الشاهدين في النكاح دون الطلاق معاكسين نصوص القرآن حيث الطلاق بحاجة الى شاهدين : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) دون النكاح حيث لا دلالة عليه في القرآن ، ويجوزون الطلقات الثلاث دون رجعات خلافا للنص : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ... فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٢ : ٢٣٠) ومحللين ذبائح اهل الكتاب وان لم يذكروا عليها اسم الله ، وآيات تنص عليه (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ورادّين نصف الميراث الى غير البنت الواحدة من عم او خال او ابن لهما والنص : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) وترى انهم اولى من البنت التي هي اقرب الى المورث منهم.

(١) كما نرى الكثير من فقهاء الشيعة يفتون بحلية نكاح الزانيات وإنكاح الزناة على كراهية والنص يحصر الحلية بالمحصنات : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ويحرم مناكحة الزانيات : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ويحرمون حلائل الأبناء من الرضاعة كما من الأصلاب والنص يخص التحريم بالاصلاب : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ..)

ويفرضون الأضحية للحاج في الأضحى وان هدرت لحومها التي هي حق الفقراء والنص : «فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا البائس الفقير» وأمثالها غير قليل.

٣٧

كأصل لا ريب فيه. في كل اصل او فرع عقائدي او فقهي او فلسفي ام ماذا ، نابع من ينابيع سوى القرآن أيّا كان ومن اي كان وأيّان ، لكي تكون الحوزة صادرة عن القرآن ، واردة موارده ، وإلا فهي ماردة غادرة ، ضالة ناكبة شاردة.

ولقد ضاع القرآن بين حالة منعزلة عن الحياة ، بهالة قدسية لا تنالها الأفهام عند من يبررون موقفهم السلبي وجاه القرآن ، قدسية خيالية خاوية تعزلها عن الحياة الاسلامية ، وكأنه كتاب ورد ودعاء تكفينا قراءته في حل المشاكل ، ويكفي شفاء للمرضى وشفاعة ورحمة للموتى! رغم انه حياة مستقيمة لمن شاءها : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ. لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ)!

وبين حالة بسيطة يناله كل من يعرف من لغته شيئا ، ثم وليس وراء ما يفهمه البسطاء إشارات ولطائف وحقائق ، فلذلك لا حاجة الى دراسته ومدارسته!

والقرآن بيان للناس وفيه تبيان كل شيء : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)!.

ولسوف ترون ان القرآن برهان قاطع وبيان ساطع لا مرد له لاثبات المبدأ والمعاد وما بينهما ، ولاثبات كل ما يحويه ويبديه من احكام عقلية ام ماذا؟ فانه برهان بنفسه لمن أنزله وعلى من أنزل ولماذا أنزل؟ : كتاب تدوين يحلّق على التشريع والتكوين ببرهان يقين!

في هذا المدخل نقدم تنبيهات على امور كثرت فيها الأقاويل فخلقت القال والقيل في الوسط الاسلامي وسواه من أوساط ، كالنسخ والتحريف والتفسير بالمأثور وشأن النزول وبطون معاني القرآن.

٣٨

كلام حول النسخ :

القرآن ـ في جملة واحدة ـ ناسخ لسواه وليس منسوخا بسواه ، قبله او معه او بعده ، وان كان فيه بعض التناسخ لنفسه في احكام مؤقتة امتحانية كحكم النجوى والزنا وعدد الكفاح في قتال الكفار : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

ولان الحكم الناسخ يبطل الحكم المنسوخ ، فعزة القرآن وغلبته تجعله بحيث لا يبطل ولا ينسخ جملة او تفصيلا ، كلا او بعضا (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) من كتابات السماء حيث تؤيده ولا تبطله ، (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) حاضرا لديه كوحي السنة ، او آتيا بعده كفتاوى الخلفاء والائمة ، فلو أن حكما من الأحكام زمن الوحي أو بعده ينسخ حكما من أحكامه فقد أتاه الباطل ، الذي يبطله ويحوّله. والقرآن هو نفسه يحيل للرسول ملتحدا سواه : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) (١٨ : ٢٧) فانه الوحي الخالد الأم الذي يتبنى شريعة الإسلام طول الزمن ، ومهما كان وحي السنة ايضا وحيا ولكنه شارح له هامشي ، لا يمكن أن يختلف عنه وينسخه ، وقد أمر الرسول ان يتبعه ، فيعيش متابعة وحي القرآن طوال الرسالة : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (١٠ : ١٠٩) : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) (٤ : ١٠٥).

وقد حصر الرسول حياته الرسالية باتباع ما يوحى اليه : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي .. (٧ : ٢٠٣) إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما

٣٩

أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٤٦ : ٩).

وما مرت على الرسول ولا مرة يتيمة أن يخالف وحي القرآن ولو نسخا لحكم من أحكامه. إلّا ما اختلقته ايدي الزور والغرور أنه نسخ حكم المتعتين ، وليبرّروا بدعة فلان التي يسمونها بدعة حسنة!.

ولان القرآن هو الوحي الأصيل الخالد حجة على العالمين. لم يكن الله ليوحي الى رسوله وحيا في سنة تنسخ وحي القرآن ، فالأحاديث التي تتحدث عن نسخ الكتاب بالسنة تضرب عرض الحائط ، لأنها تخالف الكتاب جملة وتفصيلا ، كما وأن آيات العرض وأحاديثه المتواترة تضربها عرض الجدار ، مهما كثر محدثوها ومفتوها.

وإذا الرسول (لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) فما لغير الرسول يسمح لنفسه أن ينسخ القرآن (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ... هُمُ الظَّالِمُونَ ... هُمُ الْفاسِقُونَ) (٥ : ٤٤ ـ ٤٥ ـ ٤٧).

فنسخ القرآن كفر وظلم وفسق بل وأظلم منها وأنكى ، فان ثالوث الكفر والظلم والفسق هو لمن لم يحكم بما أنزل الله ، فما هي حال من حكم بخلاف ما أنزل الله؟

فالسنة إذا لا تنسخ القرآن ، كما ولا تنسخ نفسها ، حيث السنة المنسوخة إن كانت خلاف القرآن فهي باطلة منذ كونها وليست سنة حتى تنسخ ، وإن كانت وفاق القرآن فنسخها إذا نسخ للقرآن ولن يكون! ، اللهم إلا في سنة لا توافق القرآن ولا تخالفه إذ لم يأت وحيها بعد في القرآن فقد يكون تناسخ بينها قبل قرآنها.

واما نسخ القرآن للسنة فقد يكون ، حيث الرسول كان ـ قبل ان يوحى إليه القرآن ـ مستنا بسنة من قبله من رسول ، او سنته الخاصة الناسخة

٤٠