الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

عن غرور الشيطان ، واكلأ معا منها ، فهما في هذا المسرح على سواء ولماذا يختص آدم بالحظر عن عقبات هذا العصيان ، وهما معا منهيان : (وَلا تَقْرَبا) ، كذلك وظالمان عند العصيان (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) فهل يا ترى إن الظلم العصيان منهما يخص بخلفياته ـ فقط ـ آدم دون زوجه و (لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى).

أقول : هما متشاركان في الظلم والعصيان والخروج مما كانا فيه والهبوط عن الجنة : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا ..) ولكنما العبّء في الحياة الأرضية وشقاءها وجوعها وعراها وظمأها وضحاها ، انها كلها تتوارد على الذكران قبل الأناث وأكثر ، حيث هن يعشن على هامش أتعابهم ، فعليهم مطاردة هذه الشقاء وحمل هذه الأعباء لا لأنفسهم فحسب ، وإنما لأزواجهم وأمهاتهم وبناتهم ايضا كما يتحملون لأنفسهم ، بل وقد يفضلونهن عليهم حيث (جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (٣٠ : ٢١) و (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ).

ففي الحياة الأرضية للرجال ضعف وأضعاف ما للنساء من أعباء وشقاء.

٧ ـ ولماذا (فَتَلَقَّى آدَمُ ... فَتابَ عَلَيْهِ) دون «تلقيا .. فتاب عليهما» وهما معا عاصيان تائبان (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا)؟

ذلك لأن آدم هو الأصل وهي الفرع ، طوي عن ذكرها هنا حيث التلقّي وحي وهي محرومة عنه ، وإنما تتلقى منه بعد ما تلقى ، ثم هي التائبة على هامشه ، وكما أن عبء الحياة الدنيا عليه دونها «فتشقى».!

٨ ـ كيف التلاؤم في (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) بين «إن» الشرطية الدالة على الشك والترديد ، وبين «نّ» التأكيد التي تؤكد مدخولها؟

في الحق ان «إن» لا تعني بنفسها ترديدا ، وانما شرطا يلائمه كما

٣٤١

يلائم التحقيق ، وهنا التحقيق مستفاد من نون التأكيد والشرط يفيد مفاده ، ف «إن» يأت مني هدى وهو «ما يأتينكم» ـ (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ ..).

٩ ـ وترى كيف (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) وشقاء الحياة الدنيا شاملة لعائشيها ، بل هي للمؤمن أشقى وأنكى ، كما أن خوفه وحزنه فيها واقعان على ما يرى من ظلامات وتخلفات عن شريعة الله؟ فمهما «لا يضل» ولكنه يخاف ويحزن ويشقى.

ولكنما الشقاء في الحياة الدنيا ، منها مشتركة بين المؤمن والكافر ، لأنها لزام الحياة الدنيا ، ولكنها للمؤمن مجبورة بما تستقبله من راحة الحياة الأخرى ، ثم وشقاء فيها تخص المتخلفين عن شرعة الله : التي تخفف كثيرا من أتعابها ، ولو طبقّت تماما لأصبحت الحياة الدنيا الشقاء رحمة كلها كما الجنة سواء ، فالمؤمن في هاتين الشقائين برحمة وراحة نسبية في الأولى وحقيقية في الثانية : (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) وأما الكافر : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً. وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) فضنك المعيشة في الحياة الدنيا هو لزام الكافر قدر كفره ، وراحتها ـ رغم انها دنيا ـ هي لزام المؤمن قدر ايمانه ، فليس الايمان بالذي يعمّر ـ فقط ـ الحياة الأخرى ، بل انه يجمع تعمير الحياة الدنيا إلى الأخرى ، كما الكفر هو ضنك فيهما.

وأما (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فهو مما يستقبلهم في الاخرى فإنهم آمنون فيها ، واما ما يخوفهم أهل الدنيا في نفس او مال ام ماذا ، فانها ليست بالتي تخوفهم ما داموا في مسيرهم إلى الجنة المأوى.

ثم (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما مضى ، مما قدموه في سبيل الله او فات

٣٤٢

عنهم من زخرفات الحياة وزهراتها ، فما قدموه يقدمهم الى الحسنى فلما ذا يحزنون؟ وما فات عنهم يخفف عنهم ثقلهم فلما ذا يحزنون : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ..)

واما الكافر فهو يعيش دوما بين حزن لما فاته وخوف عما يستقبله (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً)!.

(بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢ : ١١٢) (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٧ : ٣٥) (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١٠ : ٦٢) (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٤٦ : ١٣).

فأتباع هدى الله ، بإسلام الوجه لله ، وبالإصلاح وتقوى الله ، ممن قالوا ربنا الله ثم استقاموا من أولياء الله ، هؤلاء الأكارم : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)!

على هامش القصة :

هنا آيات توراتية مختلقة ، وروايات أمثالها تسربت وترسبت في روايات إسلامية تشوّه وجه القصة الى خلاف العقل والعدل ، نضربها عرض الحائط حفاظا على كرامة الوحي وذودا عن ساحة الربوبية والرسالة ، ومن التورات :

(تكوين ٢ : ١٦ ـ ١٨) و (٣ : ١ ـ ٢٦) : واوصى الرب الإله آدم قائلا : من جميع شجر الجنة تأكل واما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها شيئا لأنك يوم تأكل منها تموت موتا ـ

فقالت الحية (يعني إبليس) للمرأة (حواء) أحقا قال الله : لا تأكل

٣٤٣

من كل شجر الجنة؟ فقال المرأة : نأكل منها إلّا التي في وسط الجنة فقال الله : لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية : لن تموتا بل الله عالم انه حينذاك تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر. فأكلها آدم مع زوجه فانفتحت أعينهما وعلما انهما عريانان. فخاطا أوراق طين وصنعا لأنفسهما مآزر وسمعا صوت الرب الإله ما شيا في الجنة فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط الجنة فنادى الإله اين أنت؟ فقال آدم : سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت ، فقال : كيف علمت أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة؟ فقال : المرأة ابتلتني ، فقال : وأنت لماذا؟ فقالت : الحية غرتني ... فقال للحية ... وقال للمرأة : أكثر أتعاب حبلك ، بالوجع تلدين أولادا ... وقال الرب الإله له : هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر والآن يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة ويأكل ويحيى الى الأبد فأخرجه من جنة عدن ...!

وا فضيحتاه من هذه الآيات المقحمات في التورات فأكثرها خرافات هراءات ، خارجة عن حدّ التصليح إلى مطلق التزييف ، حيث تجهّل الرب وتعجّزه وتعدّده وتمثّله بعبيده وتغلّب عليه كيدهم ، وكل من له أدنى معرفة بالإلهيات يزيّف هذه العبارات المجنونة المتناقضة ، دون حاجة الى إجابات!

ثم انظر الى الذكر الحكيم والقرآن العظيم كيف يهيمن على ما بين يديه من كتاب ، فيزيف زيف ما أقحم فيها ، ويصدّق صدق ما تبقّى والله من وراء القصد.

٣٤٤

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨))

٣٤٥

(بَنِي إِسْرائِيلَ) في القرآن هم «بني يسرائل ـ او يسرائيل» في التورات العبراني ، ف : «يسرا» ـ هو «عبد» و «ئل» أو «ئيل» هو «الله» : عبد الله ، وهو يعقوب بن إسحاق رأس السلسلة الإسرائيلية ، واين إسرائيل القرآن من إسرائيل التوراة ، إذ تفسره بمن صارع الله فصرعه فأخذ بركة النبوة منه حتى خلّصه! (١).

تذكر إسرائيل (٤٣) مرة في سائر القرآن في ١٨ سورة : ١١ مكيا (٢٣) آية وفي ٧ مدنيات (٢٠) آية.

فبنوا إسرائيل هم أكثر الأقوام ذكرا وقصصا في العهدين : المكي والمدني ـ رغم أن القرآن المكي لم يعش وسطا يهوديا في مكة وإنما هو المدني.

لذلك لا نجد خطابا لهم بين المكية ال : ٢٣ ـ إلّا مرة واحدة : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ..) (٢٠ : ٨٠) ولكنها ايضا لا تخاطب الموجودين إذ لم يكونوا في مكة ، وإنما هي حكاية حال ماضية : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى ... (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ .. (٧٨) يا بَنِي إِسْرائِيلَ ..).

ومما يلاحظ أن طريقة عرضهم في العهد المكي يختلف عن المدني ، فلا يعني العرض المتواصل إلّا تثبيت القلة المؤمنة في مكة بعرض تجارب من الدعوة وموكب الايمان الواصل منذ أول الخليقة ، وتوجيه الكتلة المسلّمة بما يناسب ظروفها في مكة ، اعتبارا من وسط الأمة الإسرائيلية التي هي أولى الأمتين العظيمتين الحاملتين الشرعة الأصيلة الإلهية المترامية الأطراف: هما

__________________

(١) راجع كتابنا «المقارنات العلمية والعقائدية بين الكتب السماوية».

٣٤٦

شريعة التوراة والقرآن ، ولتعتبر الأمة المسلمة عما مضت من حوادث وكوارث وعراقيل في سبيل الدعوة والداعية.

لا نجد في العهد المكي تنديدا ببني إسرائيل إلّا قضاء تحكي عن ماضيهم : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ...) (١٧ : ٤) ايقاظا للمسلمين ليأخذوا عنهم حذرهم في العهد المدني وعلى طول الخط ، ثم وفي (٢٢) آية اخرى ليس إلّا عرض ل : كيف أرسل موسى بالبينات ، وواجه فرعون وملأه ، ونجى بني إسرائيل الأذلّين وجعلهم أعزة ، وأورثهم كتاب الدعوة ، وليثبت المسلمون ويصمدوا وهم قلة أذلة! وجاه المشركين الكثرة الأعزة! ويعلموا أن الله هو ناصرهم و : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)!.

ثم في العهد المدني تأخذ الآيات في تأنيبهم وتأديبهم ، مذكرة الجماعة المسلمة بكيدهم وميدهم ، وأنهم أضل الأقوام وحتى من الذين أشركوا : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) (٢ : ٩٦).

فلا نجد أمة قبل الإسلام أكثر نعمة منهم ، وأخطر على المسلمين نقمة ، فرغم أن الله فضلهم على العالمين ، ونجاهم من عدوهم فرعون ، وابتعث فيهم نبيين ، نراهم ألدّ أعداء الإسلام والمسلمين ، وأشدهم ضغائن على رسول الإسلام ، رغم ذكراه (صلى الله عليه وآله وسلم) المتكررة في التوراة!.

هنا في نيف ومائة آية ـ وفي سائر القرآن أمثالها ـ تذكر النعم التي حباهم الله إياها ، والكفران والنكران الذي واجهوه وجاهها.

فهنا ـ وبعد عرض خلافة الإنسان وقصة الشيطان ومصيرهما ـ يبتدء من هذا المقطع بمواجهة بني إسرائيل ، الذين واجهوا الدعوة الإسلامية

٣٤٧

بشراسة نكراء ، حيث قاوموها وكادوا لها بألوانها منذ بزوغها وحتى الآن ، معركة شعواء تشنّها اليهود القوميون العنصريون على الرسالة الاسلامية منذ ذلك التاريخ البعيد ، ضاربة الى أعماق التاريخ في كل الأجواء والأرجاء وحتى اللحظة الحاضرة.

معركة لا تتغير جذورها عبر الأجيال مهما تغيرت شكليا ، رغم أنهم في تشردهم عبر القرون ما وجدوا من المسلمين إلّا صدورا حنونة ، او قلة أذى مهما هم آذوهم كثيرا ، فكان من المترقب أن يسبقوا غيرهم في الايمان بهذه الرسالة الجديدة ، ولكن كانوا أوّل كافر به وشروا بآيات الله ثمنا قليلا.

هنا ـ وبعد استنفاد كافة وسائل الدعوة معهم ـ يذكرهم بما منّ عليهم ، ويهددهم بمخلّفات تمرّدهم دنيا وعقبى ، ويصارح بمدى جهلهم وتجاهلهم القيم ، وتصلّبهم على الفوقية العنصرية.

يبدأ بنداء حنون تذكرهم فيها بما أنعم عليهم ، وتأمرهم بالوفاء بعهد الله والرهبة من الله ، والايمان بما أنزل الله ، وتنهاهم عما حرم الله علّهم يهتدون.

فليست قصة بني إسرائيل وأضرابهم في قصصهم أحاديث تتكرر طيّات القرآن لغرض قصّ التاريخ ، وانما تذكيرا لأصحابها وأضرابها ، وتحذيرا أو تبشيرا للوسط الإسلامي في كافة الأجواء والأرجاء.

وما أحوج الأمة المسلمة الى درس قصص الأمم الغابرة فانها الامة الأخيرة التي تضرب إلى نهاية الكون ، فعليها ـ إذن ـ أن تتملّى من هذه التوجيهات دراسات متنوعة بعيون متفتحة لتخوض معتركات الحياة مع اعدائها التقليديين ، وكيف ترد على المكائد اللئيمة التي توجّه إليها بأخفى الوسائل وأمكر الطرائق.

٣٤٨

فهذه جولة جوّالة مع بني إسرائيل ـ وهم أعرق الأمم طوال التاريخ الرسالي ـ نعيشها في تاريخنا المجيد ، ولكي نحيد من تخلفاتها ، ونستفيد من : كيف ابتدأت الرسالة الموسوية وواجهت عدوها الفرعوني اللدود ، فكل حال ابن ماضيه وفي الإسلام المزيد!.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٤٠)

«بني» جمع «ابن» : الولد الذكر ، إلّا إذا أضيف فيعمه والأنثى كما هنا ، وفي إضافتهم الى إسرائيل إيحاء بعبودية معمّقة في يعقوب جدّهم ، فإسرائيل هو عبد الله ، وإيحان ثان ، لشرف هذه النسبة وكرامتها فليرجعوا إليها ـ وهم أحرى ـ فالحسنة من بيت النبوة أحسن وأجدى ، كما السيئة منها أنكى وأردى ، فليحذروا السوء وهم بنوا أنبياء!.

وهذا الخطاب الحنون يضم ذكرى النعمة الإلهية الخاصة لهم ، ومن ثم الأمر بالوفاء بعهد الله حتى يوفي بعهدهم ، ثم (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).

وترى ما هي هذه النعمة القمة الذكرى ، وما هما العهدان ، والرهبة التي تخلّف النعمة والعهد؟.

توحي «نعمتي» بوحدة النعمة ، أو أنها على كثرتها من نوع واحد ، وأنها نعمة خاصة ربانية تفوق النعم المادية التي تعم المنعمين أيّا كانوا وأيّان ، فهل هي تفضيلهم على العالمين ، وهي قرينة معطوفة عليها؟ : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢ : ٤٧) و ١٢٢).

أم هي النجاة من آل فرعون : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ

٣٤٩

أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (١٤ : ٦).

وما النجاة من فرعون إلّا نعمة سلبية تعبّد الطريق لظهور الرسالة الإلهية التي هي النعمة القمة!

أم هي هي الرسالة المتوطّدة فيهم منذ إسرائيل إلى عيسى (عليهما السلام) وهو آخر أنبياء بني إسرائيل ، طيّات قرون رسالية مشرقة تترى ، تتوسطها شريعة التورات ، مبتدءة بجذورها من إسرائيل ، ومتكملة بموسى (عليه السلام) ومهيمنة بكتابات هامشية للتورات من الرسل الإسرائيليين إلى المسيح (عليه السلام) حيث الإنجيل دعوة توراتية في شريعة الناموس ، مهما تضمت توجيهات أخلاقية تربو على التوراة؟ : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (٥ : ٢٢)؟.

لا نجد نعمة لهم أنعم من هذه النعمة القمة : الجمع بين النبوة والملك ، نعمة واحدة في اتجاهها ، متعددة في بنودها وحدودها ، حيث تنحو منحى تحقيق الرسالة وتطبيقها.

وترى إنها تختلف عن تفضيلهم على العالمين إذ قرنت بها وعطفت هي عليها؟ ولا تفضيل فضيلا إلّا على ضوء فضيلة الرسالة الإلهية!

أقول : إن تفضيلهم على العالمين نعمة تعم الرسالة والملوكية ، وانهم أوتوا ما لم يؤت أحد من العالمين ، وما سواها من نعم في سلبية النقم وايجابية الرحمات التي عبّدت الطريق للرسالة الإسرائيلية.

فهذه نعم لتعددها ، وهي نعمة لوحدة جذورها واتجاهاتها ، ولا نجد امة منذ آدم حتى المسيح جمعت لها ما جمعت لبني إسرائيل من نعمة ، وهم

٣٥٠

المعنيون من «العالمين» : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) : عالمي تاريخهم حاضرا وغابرا ، دون الأمة الاسلامية السامية المفضّلة على العالمين في مثلث الزمان ، في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، وهذه الأمة المجيدة التي حباها الله الخلافة والرسالية الخالدة ، إذ سلبها عن بني إسرائيل.

أترى إذ أنعم الله على السابقين من بني إسرائيل ، فكيف يمتنّ بها على الحاضرين وقد أخذت عنهم نعمة الرسالة وحوّلت الى نبيّ إسماعيلي؟

أقول : لأن نعمة الرسالة المحمدية أكثر وأوفر من الرسالة الإسرائيلية ، فهي لهم نعمة بعد نعمة ، فليقبلوا إلى هذه الرسالة شكرا لما أنعم عليهم من الرسالات السابقة ، المبشّرة بها ، فذكر هذه النعمة السابقة السابغة يدفعهم للتنعّم باللّاحقة ، لأنها نعمة تحمل البشارة بهذه النعمة!

ثم ترى ما هو عهد الله عليهم حيث يناط بعهدهم عليه؟ عهد وجاه عهد ، ووفاء وجاه وفاء؟

أهو العهد الاوّل المعقود بين فطرة الإنسان وبين الله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ... ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (٣٠ : ٣٠) أن يوحّده ويعبده وحده لا شريك له؟ عهد مشدود إلى الفطرة ، لا يحجبه او يفصله إلّا حجابات الانحراف والغواية العامدة؟

أم هو العهد المعقود على آدم وذريته إذ أهبطه وزوجه إلى الأرض : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢ : ٣٨) وهما عهدان يعمان نوع الإنسان دون اختصاص ببني إسرائيل ، وهما أمّ العهود التي تؤخذ على مختلف الأمم مهما اختلفت صيغها ، حيث تنحو منحى أصلي الفطرة والشريعة : عهد ذاتي وآخر خارجي يتجاوبان في تحقيق أوامر الله ..

٣٥١

أو هو العهد المأخوذ على النبيين؟ والمخاطبون هنا ليسوا النبيين ، وإنما بنو إسرائيل!

أو هو العهد المأخوذ على أهل الكتاب وبنو إسرائيل هم القمة بينهم : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) (٣ : ١٨٧) (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ..) (٥ : ١٢) (لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ) (٥ : ٧٠) (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢ : ٩٣) .. مواثيق عليهم تلو بعض ، تنحو منحى تصديق النبيين ، ولا سيما النبي الإسماعيلي الذي نقموا منه وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (٢ : ١٤٧) (...الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦ : ٢٠).

هذا هو العهد البارز المعروف عندهم ، المأخوذ عليهم وعلى النبيين أجمعين : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٣ : ٨١) (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً. لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ

٣٥٢

صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) (٣٣ : ٨) (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ... فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٧ : ١٥٧).

ف (أَوْفُوا بِعَهْدِي) إيمانا بهذا الرسول النبي الأمي (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) : لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات .. الرحمة المكتوبة للذين آمنوا :. الفلاح .. : فلاحا في الرحمة ورحمة في الفلاح بعد تكفير السيئات.

وقد يعني هذا العهد مجموعة العهود العامة والخاصة المأخوذة عليهم كمكلفين ـ موحدين ـ اهل الكتاب ـ بني إسرائيل ، والقدر المسلم عهد الرسالة الإسلامية كما يبرز هو فقط بعد هذه الآية دون فصل : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ ...)! ولا تنافيه وحدة العهد «عهدي» حيث الكل واحدة في الاتجاه مهما اختلفت في صيغها وشكلياتها ، على أن عهد الرسالة الإسلامية هو العهود كلها ، حيث يجمعها ـ كأكملها ـ كلها ، وسوف تمر عليك البشارات الكتابية بحق الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) بطيّات آياتها.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) الذي عاهدته عليكم ، فإن وفيتم (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) الذي عاهدته لكم : (.. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ... فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ...) وذلك بعد قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ...)!

وطالما الخطاب الظاهر هنا لبني إسرائيل وفي إطارات خاصة ولكنه كضابطة عامة تعم كافة العهود المأخوذة على الأمم والأفراد ، المقابلة لما

٣٥٣

اخذه الله على نفسه جزاء لهم ، فلا وفاء من الله لعهودهم إلّا بعد أن يوفوا له عهوده.

فليست عهود الله ووعوده فوضى تلعب بها الأهواء والآمال ، وإنما الأعمال هي التي تحدّد حدود تحقيق الوعود في كافة المجالات ، فلئن سئلنا عن قول الله (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أنّا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قيل : لأنكم لا تفون بعهده ، وأن الله يقول (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) «والله لو وفيتم لله لوفى الله لكم» (١).

وعهده هنا هو الالتزام بطاعته ، دون الشيطان : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) فعلى غرار وفاء نا يكون وفاءه جزاء وفاقا ، دون فوضى يأملها البطالون (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى)!

فالله وفيّ يحب الأوفياء ويكون عند طلباتهم إن كانت صالحة تصلحهم او لا تضرهم ، ولا يحب الناقضين اللّعناء مهما كانت ادعائاتهم الهاوية الخواء.

وكل وفاء تتطلب وفاء مثلها وفي إطارها ، إن في توحيد الله ، أو تصديق أنبياءه أو أوصيائهم (٢) أو في تطبيق احكام الله ام ماذا.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٧٣. عن تفسير القمي بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال له رجل جعلت فداك ان الله يقول : ..

(٢) نور الثقلين ١ : ٧٣ عن اصول الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) قال : بولاية امير المؤمنين (عليه السلام) (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) «أوف لكم بالجنة» أقول : وهذا من باب الجري والتطبيق لا التفسير ، حيث الآية تعني أولا بني إسرائيل ، ومن ثم عامة المكلفين في عامة التكاليف ، والولاية هي على هامش النبوة فعهدها هي عهدها. وفيه ايضا عنه (عليه السلام) يا خيثمة! نحن عهد الله فمن وفي بعهدنا فقد وفى بعهد الله ومن خفرها فقد خفر ذمة الله وعهده.

٣٥٤

فكما (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) مهما كان عهد الإمامة في النبيين حيث موقعها في ابتلاء ابراهيم ، ولكنها في وجهة أخرى تعم كافة العهود وكل الظالمين ، فالذين يظلمون وينتقصون عهود الله ، لم يكن لينالهم عهودهم من الله ، قاعدة عامة تعيش حياة التكليف ككل ، وكذلك و (أَوْفُوا بِعَهْدِي

__________________

ـ وفيه عن معاني الاخبار باسناده الى ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): انزل الله عز وجل (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) والله لقد خرج آدم من الدنيا وقد عاهد قومه على الوفاء لولده شيت فما وفي له ، ولقد خرج نوح من الدنيا وعاهد قومه على الوفاء لوصيه سام فما وفت أمته ، ولقد خرج ابراهيم من الدنيا وعاهد قومه على الوفاء لوصيه إسماعيل فما وفت أمته ، ولقد خرج موسى من الدنيا وعاهد قومه على الوفاء لوصيه يوشع بن نون فما وفت أمته ، ولقد رفع عيسى بن مريم الى السماء وقد عاهد قومه على الوفاء لوصيه شمعون بن حمون الصفا فما وفت أمته ، واني مفارقكم عن قريب وخارج من بين أظهركم ولقد عهدت الى امتي في علي بن أبي طالب ، وانها (الامة) لراكبة سنن من قبلها من الأمم في مخالفة وصيي وعصيانه ، ألّا وإني مجدد عليكم عهدي في علي (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيما ..) ـ ايها الناس! ان عليا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم وهو وصيي ووزيري واخي وناصري وزوج ابنتي وابو ولدي وصاحب شفاعتي وحوضي ، من عصى عليا فقد عصاني ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع عليا فقد اطاعني ومن اطاعني فقد أطاع الله عز وجل ، ايها الناس! من ردّ على علي في قول او فعل فقد رد عليّ ، فمن ردّ عليّ فقد رد على الله فوق عرشه ، ايها الناس! من اختار منكم على عليّ إماما فقد اختار عليّ نبيا ، ومن اختار علي نبيا فقد اختار على الله عز وجل ربا ، ايها الناس! ان عليا سيد الوصيين وقائد الغر المحجلين ومولى المؤمنين ، وليه وليي ووليي ولي الله وعدوه عدوي وعدوي عدو الله عز وجل ، ايها الناس! أوفوا بعهد الله في علي يوف لكم بالجنة يوم القيامة.

٣٥٥

أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) تعم في تأويله وعموم لفظة كافة العهود ، مهما خص خطابه بني إسرائيل ، فإنما العبرة في الخطابات القرآنية عموم الألفاظ دون خصوص الموارد.

(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) : ـ (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (١٦ : ٥١) فوفاءه تعالى بعهده لهم منوط بعد ما مضى بأن يرهبوه لا سواه ، كما وان التوراة (فِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (٧ : ١٥٤) وأن دعوته رغبا ورهبا مستجابة شريطة المصالح الواقعية : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ، وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) (٢١ : ٩٠).

والرهبة مخافة مع تحرّز واضطراب ، وهكذا يجب أن يخاف الله من عدله وظلمنا ، وفضله وجهلنا ، لا من ظلمه فان الله ليس بظلام للعبيد! (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) حصر الرهبة في الله ، أن يخاف الله ـ فقط ـ دون سواه ـ ف «من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء» (١).

وترى ما هو موقف الفاء والنون في : «فارهبون»؟ .. علّ الفاء عاطفة لمدخولها على محذوف من شكله ـ إذ لا شاهد لغيره ـ ك «إياي ارهبون فارهبون» إيحاء إلى استمرارية الرهبة ، تعقيبا زمنيا ، وتكاملها رتيبا : أن يعيش الإنسان رهبة من الله لا سواه ، ويتخطاها إلى أقوى فأرقى .. وهكذا يجوز اجتماع عاطفين في جملة واحدة ، حيث الواو لعطف المحذوف على المذكور ، والفاء هنا لعطف المذكور على محذوف من جنسها ، وما أحسنه جمعا في عطف وعطفا في جمع!.

__________________

(١) عيون اخبار الرضا عن الامام الرضا (عليه السلام).

٣٥٦

والنون ليس نون الجمع لمكان كسرها والأمر ، فليحذف نون الجمع جزما ، بل هي نون الوحدة ، الدالة بكسرها على ياءها : «فارهبوني».

إذا فهنا حصر بتقديم المفعول : «إياي» وتأكيد ان له بتكرار المفعول «ني» والفعل : «ارهبون فارهبون» فهي أكثر من (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

وفيه إيماء إلى ما كان البعض من الأحبار يرهبون من بعض رهبة النكسة الروحية الإسرائيلية ، ومن الفراعنة رهبة الفرعنة ، ومن الأثرياء رهبة الفقر ، فهم كانوا في ثالوث الرهبة من غير الله ، فليتركوه إلى مثلث الرهبة من الله!

فذكر نعمة الله والوفاء بعهد الله وحصر الرهبة من الله ، إنها تتبنّى الإنسان ـ أيّا كان ـ وفيّا نقيا زاهدا تقيا يعيش مرضاة الله ، فيؤمن بالله ولا يكفر ، ولا يلبس الحق بالباطل ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويركع مع الراكعين ... :

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (٤١).

أمران يتوسطهما نهيان ، أمر بالايمان بما أنزل الله أولا وبتقواه أخيرا ، ونهي عن أن يكونوا أوّل كافر بما أنزل ، وأن يشتروا بآياتنا ثمنا قليلا : سياج رباعي لا قبل له ، ولا سيما لمن ذكر نعمة الله ، ووفى بعهد الله ، ورهب الله! فالنهيان سياجان لتحكيم الأمر الأوّل ، والأمر الأخير سياج للثلاثة : تقوى الله في الايمان به وترك ما نهاه.

وهل إن «ما أنزلت» يخص القرآن ، فانه النازل من سماء الوحي ، أم هو الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فانه ايضا نازل برسالته :

٣٥٧

قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (٦٥ : ١١) حيث النزول هنا وهناك ليس من السماء ، فان الله ليس ساكن السماء وماكنها ، وإنما من مقام عل ، فكما القرآن نازل إلى أراضي القلوب من سموّ الربوبية وسماتها ، كذلك الرسول نازل برسالته ووحيه ، سواء ، حيث هما من عل إلى دان.

وقد تتحمل الآية كلا النازلين ، قرآن محمد ومحمد القرآن ، مهما كان القرآن الوحي أصلا ، ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حامله فرعا ، حيث الدليل الأصل على رسالته هو القرآن ، كما هو وحيه الأصيل.

فالقرآن يصدق ما معهم من كتب الوحي وأنبياءه ، ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يصدق ما معهم من أنبياءه وكتب الوحي ، فمحمد هو القرآن كما القرآن هو محمد مهما اختلفا في مظهرين! (١).

هنا «ما أنزلت» وفي أخرى (بِما أَنْزَلَ اللهُ) (٢ : ٩١) يعمان الرسول والقرآن ، وأما (آمِنُوا بِما نَزَّلْنا ..) (٤ : ٤٧) فإنها خاصة بالقرآن لمكان التنزيل : التدريج ، ولا تدرّج لأصل الرسالة ، ولكنما القرآن منزل : لنزوله جملة واحدة ليلة القدر ، ومنزّل أيضا لنزوله متدرجا نجوما طوال الرسالة.

وترى ماذا يعني (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ)؟ ومعهم خليط من وحي الأرض والسماء! فهل القرآن يصدقه كلّه : (لِما مَعَكُمْ)؟ ام بعضه : الذي لم يحرّف بعد ف «لبعض ما معكم» والنص «ما» لا «بعض ما»؟!

__________________

(١) «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» هذه الآية من يس كما تأتي تجعل الرسول ذكرا وقرآنا مبينا إذ لا مرجع ل (هو) الا هو ولم يسبق ذكر من القرآن

٣٥٨

هناك آيات تصرح أن اليهود والنصارى حرفوا قسما وأقساما من آيات الوحي : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ ... فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (٢ : ٧٩) فكيف يصدق القرآن ما يكذبه من آيات توراتية أو إنجيلية دخيلة؟.

إذا فليس القصد كلّ ما معهم ، فهل هو ـ إذا ـ ما معهم من آيات الوحي لا سواها : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (٥ : ٤٨) فالمصدّق هو كتاب الله ، لا كل كتاب ولا كل ما معهم؟ وإنما بعض ما معهم؟.

وليس في تصديق البعض لما معهم تحريض على الإيمان به ، فان كلّ لاحق ـ لا محالة ـ يصدق البعض من سابقه ، إذ لا يمكن تكذيبه ككلّ وإن كان كلّه من وحي الأرض!. بل ولا يستطيع أي كاذب محتال أن يجمع أكاذيب لا صدق فيها ، فإنما يخلط كذبا بصدق ، ويظهر كلّا بمظهر الآخر بغية الإضلال : «فلو أن الحق خلص لم يكن للباطل حجة ولو أن الباطل خلص لم يكن اختلاف ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا فهناك استحوذ الشيطان على أولياءه ونجى الذين سبقت لهم من الله الحسنى» بل وحتى إذا حاولوا أن يجمعوا كذبا خالصا لا يستطيعون!.

فترى إذا لا يقصد من «ما معهم» لا كله لمكان التحريف ، ولا بعضه إذ لا يفيد ، فما هو المصدّق إذا؟.

أقول : انه البشارات الموجودة في التوراة كما في آيات : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢ : ٨٩) فقد كانوا من قبل أن يأتي محمد بالقرآن يستفتحون على المشركين انه يأتي

٣٥٩

بأقوى شريعة إلهية تقضي عليكم (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ...).

ف «ما معكم» هنا وفي (يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) (٢ : ٩١) وفي (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) (٤ : ٤٧). إنها ـ فقط ـ البشارات المودوعة في كتب السماء ، ثم وفيما يعني الأعم منها وسائر آيات الوحي لا نجد «ما معهم» او «معكم» بل (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) (٢ : ٩٧) و ٣ : ٣) و (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ) (٥ : ٤٨) ولا يعني بين يدي الرسول كرسول إلا ما أنزل قبله على من سبقه من الرسل ، وقد يشير إلى ما معهم : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٢ : ١٤٦ و ٦ : ٢٠) (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ..) (٧ : ١٥٧).

وقد جمعنا في مؤلف خاص ما معهم من بشارات بحق الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (١) نستعرضها في مجالاتها حيث تشير إليها الآيات ، وهنا مجال لاستعراض مواصفات القرآن في كتب السماء ،.

ف (بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) له وجهتان : عامة تشمل عموم القرآن ، وخاصة تخص ببشارات للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فالقرآن ونبيه مبشّر بهما على سواء في كتب السماء.

فمن العامة : (ذلِكَ ـ الْكِتابُ ـ لا رَيْبَ فِيهِ) : ذلك القرآن هو الكتاب الذي بشر به من قبل : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ، وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ

__________________

(١) رسول الإسلام في الكتب السماواة وفيه ٥٩ من بشارات الوحي فراجع.

٣٦٠