الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

ولأن بنود الإيمان التقوى سبقت في مواصفات المتقين كإيمان مطلق للتقوى فليكن الكفر هنا وجاهة كفرا مطلقا ، في قلوب خاوية عن أية تقوى وأي إيمان ، هاوية كل دركات الطغوى دون ايمان ، ناكرة لمثلث الغيب ، عامدة ، تاركة لأعمال الايمان ، كافرة بأنعم الله ، مؤمنة بالكفر وكأنه الايمان!

وترى هؤلاء الكافرون أبإمكانهم أن يؤمنوا؟ فبإمكانهم إذا إبطال علم الله : أنهم «لا يؤمنون»! أم لا يتمكنون؟ فلا موقع للتنديد بهم أنهم لا يؤمنون! ولا يصح تكليفهم بالإيمان إذ لا يتمكنون!

الجواب أن النص «لا يؤمنون» لا «لن يؤمنوا» حيث يخبر عن واقع اللّاإيمان ، لا استحالة الإيمان ، وحتى لو استحال منهم الإيمان فانما هي استحالة بالاختيار فلاتنا في الإختيار.

وهنا الإخبار عن واقع اللّاإيمان لأنهم لا يؤمنون باختيارهم ، فلو كانوا يختارون الإيمان لكان الإخبار عن الايمان ، فليس علم الله إلّا كاشفا عن واقع المستقبل ، دون أن يسبّبه ، حيث العلم بوقوع حادث أم لا وقوعه ، لا يسبب وقوعه أم لا وقوعه ، وإنما يكشف ، إذا فالواقع هو السبب لهذا الكشف لا أن الكشف يسببه!

وقد يخطأ الكاشف إذ لا يحيط علما بما يحصل ، فيبطل العلم به إذا حصل ، وحاشا الله أن يخطأ فإنه بكل شيء محيط ، فلا يمكن إبطال علمه.

__________________

ـ السلام) قال قلت له اخبرني عن وجوه الكفر في كتاب الله عز وجل؟ قال الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه ، فمنها كفر الجحود والجحود على وجهين (عن معرفة وعن جهالة) والكفر تبرك ما امر الله وكفر البرائة وكفر النعم ....

١٨١

وعدم الإمكانية هذه ليست لاستحالة الفعل واللّافعل المخبر عنه ذاتيا ، حتى يسقط التكليف ويبطل التأنيب : «لماذا لا يؤمنون»؟ وإنما لاستحالته بالاختيار ، أنهم رغم اختيارهم في الكفر والايمان سوف لا يختارون الإيمان.

وهذه من الملاحم الغيبية القرآنية ان ينبئ الله بما في قلوبهم وعن مستقبل أحوالهم ، فرغم حرصهم بابطال القرآن وإبطال علم الله ، لم يقدموا حتى على ظاهر الايمان ، فثبت علم الله ، وصدق كتاب الله ، وخسر هنالك المبطلون (١).

وثم إذا ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فلا يتمكنون أن يؤمنوا ، هنا يسلب عنهم اختيار الايمان بما قدمت أيديهم وان الله ليس بظلام للعبيد ، وطالما لا يصح تكليفهم بالايمان ولكنهم معذبون باللّاايمان حيث الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، والتنديد هنا بالامتناع الإختيار ، كما العذاب ، ولا يمكنهم إبطال علم الله وإن حاولوا! إذا فأين ابطال علم الله أو إمكانيته ، واين استحالة الايمان التي تبطل التكليف وتبطل التنديد بترك الايمان؟!.

ثم النص (سَواءٌ عَلَيْهِمْ) لا «سواء عليك» فالرسول ليس له

__________________

الدر المنثور ١ : ٢٩ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله ابن عمر قال : قيل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، انا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ فنكاد نيأس فقال ألا أخبركم عن اهل الجنة واهل النار؟ قالوا : بلى يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ،

قال : (الم ، ذلِكَ الْكِتابُ ـ الى ـ الْمُفْلِحُونَ) هؤلاء اهل الجنة ، قالوا : انا نرجو ان نكون هؤلاء ثم قال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ـ الى ـ عَظِيمٌ) هؤلاء اهل النار قلنا لسناهم يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! قال : اجل.

١٨٢

السكون عن واجب الإنذار ، سواء أكان عليهم سواء فلا يؤمنون ، ام لا سواء فهم يؤمنون ، فلينذر على أية حال كما المرسلون : (عُذْراً أَوْ نُذْراً) ففيما هو سواء يكون الإنذار حجة وعذرا ، وفي سواه برهانا ونذرا.

فقد يكون المنذر قاصرا عن الإنذار دون المنذرين فلا حجة عليهم ، او ان المنذرين قاصرون فكذلك الأمر ، أو أنهم مقصرون رغم كمال الإنذار فلا يؤمنون فهنا الحجة البالغة عذرا ، أو أنهم يؤمنون نتيجة الإنذار فهنا الحجة نذرا ، وهكذا يكون دور الرسالات الإلهية في كمال الإنذار بين مثلث المنذرين وإن كانوا : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)!

فالإنذار هو الجناح الأعم من جناحي الرسالات حيث التبشير خاص بالمتقين : (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ... وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (٣٦ : ١١) فواجب الإنذار على النبي يعم وإن بالنسبة لمن هو سواء عليهم ، وتأثيره خاص بمن اتبع الذكر .. كأنه الإنذار لا سواه ، حيث هو المؤثر لا سواه.

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)).

هنا الغشاوة على أبصارهم والختم على قلوبهم ، فما ذا إذا على سمعهم؟ أهو ختم عطفا على قلوبهم ، أم غشاوة معطوفا لأبصارهم فالواو هناك عطف وهنا استئناف؟

بما أن غشاوة خصوص السمع غير مألوفة في سائر القرآن ، وغير معروفة كذلك في غير القرآن ، ثم نرى السمع مقرونة بالقلوب ختما ،

١٨٣

والأبصار تنفرد بالغشاوة : لمكان «على» المكررة هنا ثم وفي غيره (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) (٤٥ : ٢٣) وأن ظاهر الواو العطف إلّا بقرينة تعطفها على غيره كاستئناف ، إذا يرجح اختصاص الغشاوة بالأبصار ، مهما يجمع الطبع أحيانا بين الثلاث : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) (١٦ : ١٠٨) فطبع الأبصار لا يستتبع غشاوة السمع! ، مهما شملت الغشاوة عامة الإنسان : (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٣٦ : ٩) : كما قد تفرد القلوب بالختم أخذا بالسمع والأبصار : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) (٦ : ٤٦).

أو ان السمع هنا مغشوة كما الأبصار تلميحا من تكرار «على» فلولا غشوة السمع هنا كالأبصار لم تكن «على» كما في (طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) (١٦ : ٨).

او أنهما معا معنيان : أن ختم الله على سمعهم وعلى سمعهم غشاوة ، فلانهم غشوا سمعهم وأبصارهم ختم الله على قلوبهم مما يزيد ختم السمع والأبصار : ف (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (٢٦ : ١٢) (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) (١٨ : ١٠١) لذلك (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (٧ : ١٠٠) ، كما وان قلوبهم مختومة مرانة بما كانوا يعملون : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٣ : ١٤).

ولماذا تفرد «السمع» دوما مع جمع القلوب او الأبصار ، دون الأسماع؟ علّه لأنّ السمع في أصله مصدر لا يجمع وله معنى الجمع في جمعه والمفرد في مفرده ، أو إذا لم يكن مصدرا فهو قوة في الأذن وليس هو الأذن حتى يجمع كالآذان ، فلكل منا سمع في أذنين وليس بصر في عينين ـ حيث البصر

١٨٤

هو العين بعينها ، ام ماذا (١).

هنا الغشاوة على أبصارهم : أبصار القلوب والعقول والأفكار وأبصار العيون ايضا ـ رغم انها ـ علّها ـ أبصر من غيرها ، إذ لم ينتفعوا بالنظر ولم يعتبروا بالعبر ، فهم كالخوابط الغواشي في مشيتهم ، يخطئون الصراط المستقيم!

وإنها كلها من فعلهم أنفسهم إذ جحدوا بالحق وآياته بعد ما عرفوها ، فلم تنسب الى الله ، وبذلك استحقوا ان يختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، فحتى لو شاءوا ان يبصروا لم يتمكنوا ، فنسب الختم عليها إلى نفسه ، وفي الحق إنهم هم الذين ختموا على قلوبهم وعلى سمعهم إذ غشوا على ابصارهم ، فمنه فعل لهم ومنه جزاء : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) وعلّ الواو في (وَعَلى أَبْصارِهِمْ) حالية تعني : أن الله ختم حال الغشاوة من فعلهم على أبصارهم ، فظرف هذا الختم إنما هو غشاوة الأبصار ، سابقا على ختم السمع والقلوب.

كما علّها في (عَلى سَمْعِهِمْ) ايضا حالية تعني ما تعنيه في «أبصارهم» أن (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) حال أنهم (عَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) من فعلهم ـ وإنما الأصل هو القلب يقلبه الله كما يتقلب صاحبه ان خيرا فخير وإن شرا فشر ، فلانهم عموا عن أصل السبيل وصمّوا عن دعاء الدليل «ختم الله ..» جزاء وفاقا.

فليس الطبع والختم على قلوب او سمع ـ بداية ودون سبب ـ من الله ، (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) (٤ : ١٥٥) (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى

__________________

(١) راجع ج ٢٩ ص ٤٩ تفسير الآية (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ)

١٨٥

قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) (١٠ : ٧٤) (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (٤٠ : ٣٥).

فلانهم كفروا بنعمة القلوب والسمع الإنساني ، تناسيا عما يتوجب عليهم فيها ، وتعمدا وتعنّدا لضلالها ، جازاهم الله في الأولى بطبعها ولهم في الآخرة عذاب عظيم.

وهكذا يفعل الله بمن يبدل نعمة الله كفرا أن يذهب بها ويجعلها نقمة ، ويقلّبها عليهم دمارا وبوارا : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (١٣ : ١١).

ثم القلوب هنا وفي سائر القرآن هي قلوب الأرواح لا الأبدان كما السمع والأبصار حيثما تقرنان بالقلوب هما كذلك للأرواح ـ فكثير من هؤلاء الكفار المختوم على قلوبهم ، المغشوّة سمعهم وأبصارهم ، لهم قلوب وسمع وأبصار لأبدانهم قوية ، وأقوى من المؤمنين وإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقد نأتي على قول فصل حول القلوب والأفئدة والسمع والأبصار والصدور والأرواح والعقول والأفكار بطيّات آياتها الأنسب وهي ثمان كأبواب الجنة الثمان ، ألا فاعتبروا يا اولي الأبصار.

فأولئك الكفار ، لاستهتارهم بالمنذرين والإنذار ، لحد تساوى عليهم الإنذار واللّاإنذار ، مطبوع على قلوبهم هنا ، وموعودون في الأخرى عذاب النار ، عذابا على عذاب (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)!.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)

١٨٦

يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا

١٨٧

أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

هنا ـ بعد هذه الآيات وقبل تفسيرها ـ نقدم تفسيرا للنفاق عن الإمام امير المؤمنين علي (عليه السلام) «النفاق على اربع دعائم : على الهوى والهوينا (١) والحفيظة والطمع ، فالهوى على أربع شعب : على البغي والعدوان والشهوة والطغيان ، فمن بغى كثرت غوائله وعلّاته (٢) ، ومن اعتدى لم

__________________

(١) الهوينا تصغير الهونى مؤنث الأهوان ، اي التهاون في امر الدين.

(٢) علات جمع العلة.

١٨٨

تؤمن بوائقه ولم يسلم قلبه ، ومن لم يعزل نفسه عن الشهوات خاض في الخبيثات ، ومن طغى ضل على غير يقين ولا حجة له ـ

وشعب الهوينا : الهيبة والغرّة والمماطلة والأمل ، وذلك لأن الهيبة ترد على دين الحق ، وتفرط المماطلة في العمل حتى يقدم الأجل ، ولو لا الأمل علم الإنسان حسب ما هو فيه ، ولو علم حسب ما هو فيه مات من الهول والوجل ـ

وشعب الحفيظة : الكبر والفخر والحميّة والعصبية ، فمن استكبر أدبر ، ومن فخر فجر ، ومن حمى أصرّ ، ومن أخذته العصبية جار ، فبئس الأمر أمر بين الاستكبار والإدبار ، وفجور وجور ـ

وشعب الطمع اربع : الفرح والمرح واللجاجة والتكاثر ، فالفرح مكروه عند الله عز وجل ، والمرح خيلاء ، واللجاجة بلاء لمن اضطرته الى حبائل الآثام ، والتكاثر لهو وشغل ، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ، فذلك النفاق ودعائمه وشعبه» (١).

.. وفي الحق إن دور المنافقين هو أخطر الأدوار ضد الرسالات الإلهية ولا سيما الرسالة الإسلامية ، وأخطر من الكافرين ايضا ، ترى عرض حالهم في سورة تخصهم «المنافقون» وفي عامة القرآن نلمس خاص الاهتمام بعرض قضاياهم ورزاياهم كثيرا وكما هنا ، فبعد آيات اربع تستعرض حال المتقين ، وآيتين تخصان الكافرين ، نجد ثلاثة عشر تخص المنافقين ، وكما تتحدث عنهم ثلاثة عشر سورة في مآت الآيات مصرحة بهم

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٣٤ عن كتاب الخصال للصدوق عن الأصبغ بن نباتة عنه (عليه السلام) ...

١٨٩

أحيانا (١) وملمّحة ، أخرى تفضحهم في عرض حالهم ومآلهم ، وثالثة تدخلهم في الدرك الأسفل من النار : (٤ : ١٤٥).

تخطّينا شفافية الصورة الأولى إلى عتامة الظلامة الثانية ، فإذا الثالثة ليست كالأولى ولا كالثانية ، فإنها صورة صلتة ملتوية خادعة خائنة لا تقف لحد لكي نعرفها ، ألا وهي الصورة المنافقة ، لا ذات شجاعة وانطلاقة في الضمير لتواجه الحق بصريح الإيمان وخالصه ، ولا ذات جرأة لتواجهه بالنكران ، ثعلبة تماكر بغية البقاء على كيانها ، عميلة في عملياتها للكلاب والذئاب ، مظهرة إخلاصها للأسد في الغاب ، جاسوسة لهذه عن تلك ، لا صورة لها ثابتة تعرف اللهم إلّا مما كرات ومخادعات ، وادعاءات ـ مع ذلك ـ أنهم أذكياء دهاة ، عقلاء مصلحون ، مترفعون على البسطاء أم ماذا! ولكن الله يواصفهم بواقعهم المكر الخداع ، الخلاء الخواء عن كل حقيقة إلّا ادعاء! وهم يعيشون بنفاقهم ثالوث : ١ ـ مشاركة المؤمنين فيما يمن الله عليهم دنيا ، ٢ ـ اتقاء ما يحكم به على الكافر كذلك ٣ ـ التجسس عن أحوالهم الى شياطينهم ، إلّا ان ثالوثهم هالك مفضوح بما يفضحهم الله وينبه الرسول والمؤمنين!

وهنا استعراض لأبواب سبعة من جحيم المنافقين يغلقها الله على المؤمنين :

(١) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٨).

باب اوّل : ناس في الحق هم نسناس (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (٤٨ : ١١) (يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) : وهو حالة تصديق في القلب

__________________

(١) كما في سبعة وثلاثين آية ، راجع تفسير سورة المنافقين ج ٢٨ : ٣٥٥ ..

١٩٠

(وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) : حال أن قلوبهم خاوية عن الإيمان ، كافرة بمبادئ الإيمان ، فقد يوافق القلب اللسان في دعوى الإيمان فهو إيمان ، وقد ينافقه فهو الكفر النفاق ، وآخر لا ينافقه إذ لا يعانده ولا يوافقه إذ لم يعرفه فلمّا لم يدخل الإيمان فيه وهو يتروّيه ، فهذا إسلام بلا ايمان : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٤٩ : ١٤) فهي عائشة حالة الانتظار حتى تؤمن كما النص فيه «ولمّا» دون استهتار المنافق ولعبته حيث فيه (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) : ليسوا ممن يؤمن ولا يتروّى الايمان ، فأولاء هم المندّد بهم دون هؤلاء ، إلّا تجهيلا تخطئة في التعبير «آمنا» بل (قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا ..)

هذه حالات أربع حاضرة في مواجهات الإيمان : كفرا ونفاقا أو إسلاما مترويّا أو إيمانا ، ومهما سمي المنافق مسلما فإن إسلامه استسلام لا إسلام (١).

(٢) (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٩).

باب ثان وهي الخداع : إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه ، والمخادعة خداع بين طرفين ، ابتداء من طرف وانتهاء الى آخر ، كفاحا ضد الخداع : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (٤ : ١٤٢) واين خداع من خداع ، خداع اوّل كلّه عجز ومكر وكذب ونفاق كما المخادعين الله ، وخداع ثان لا تحمل إلّا اسمه فإنها عن قدرة وصدق

__________________

(١) ان للسان والقلب والأركان احوال :

فقد يقر اللسان بالحق وقد ينكر او يسكت ، ثم قد يوافقه القلب في الإقرار او ينافقه او يتردد مترويا الحجة للكفر او الايمان ، ثم قد يوافقها العمل او ينافقهما.

١٩١

جزاء الوفاق ، كما الله : حيث يأمر بجري أحكام الإسلام عليهم هنا ، وفي الآخرة لهم عذاب اليم ، ويكشف أسرارهم للنبي والمؤمنين حيث يخادعون ثم يوم القيامة يريهم جناته كأنهم واردوها ثم ينأون عنها مهانين كما «يفتح لهم باب جهنم فيظنون أنهم يخرجون منها فيزدحمون للخروج فإذا انتهوا إلى الباب ردتهم الملائكة حتى يرجعوا» (١) : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) (٢٢ : ٢٢).

فجزاء الخداع خداع مثله فإنه حق ، إلّا في باطله ، وفي عجزه فإنه قدرة ، وفي كذبه فإنه صدق ، وإنما التموية والإخفاء في الخداع الجزاء إيلام كما آلموا المؤمنين جزاء وفاقا (٢).

إنهم كما يزعمون (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ) آمنوا وفي الحق (ما

__________________

(١) الدر المنثور ١ : ٣٠ ـ اخرج احمد بن منيع عن رجل من الصحابة أن قائلا من المسلمين قال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)! ما النجاة غدا؟ قال : لا تخادع الله ـ قال : وكيف نخادع الله؟ قال : ان تعمل بما أمرك الله به تريد به غيره ، فاتقوا الرياء فانه الشرك بالله فان المرائي ينادي به يوم القيامة على رؤس الخلائق باربعة اسماء : يا كافر! يا فاجر! يا خاسر! يا غادر! ضل عملك وبطل أجرك فلا خلاق لك اليوم عند الله فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع وقرأ آيات من القرآن : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) الآية و (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ) الآية ، وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن أبيه مثله.

(٢) نور الثقلين ١ : ٣٥ عن العيون عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في حديث : ان الله تعالى لا يسخر ولا يستهزأ ولا يمكر ولا يخادع ولكنه يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وفي مصباح الشريعة قال الصادق (عليه السلام): واعلم انك لا تقدر على إخفاء شيء من باطنك عليه تعالى فتصير مخدوعا بنفسك ـ قال الله تعالى : يخادعون الله ...

١٩٢

يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) إذ لن تؤثر خداعهم في الله ، ولا تؤثر في المؤمنين بالله ، اللهم إلّا قليلا يرجع بضرر كثير عليهم أنفسهم ، فهم بخداعهم مفضوحون يوم الدنيا بما يفضحهم الله ، ويفضحون أنفسهم حيث يعرفون في لحن القول : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (٤٧ : ٣٠) ـ فما أضمر احد أمرا إلّا وقد يظهر في صفحات وجهه وفلتأت لسانه ـ ثم «هم يوم القيامة من المفضوحين».

«و» لكنهم (ما يَشْعُرُونَ) أن خداعهم راجعة إليهم فلو شعروا ما خادعوا.

ثم النفاق وخداعه دركات صاعدة الى الكفر النفاق ونازلة الى السمعة والرئاء ، كما جزاءه دركات حسب الدركات طبقا عن طبق.

ولماذا (وَما يَخْدَعُونَ) دون «وما يخادعون» نفيا لما حاولوا طبقا عن طبق؟

علّه لان الواقع من فعلهم لم يكن مخادعة ، حيث الله لا يخادع ، والمؤمنون لا يخدعون بما يفضح الله المخادعين ، فلا تبقى في ميدان الخداع إلّا أنفسهم (وَما يَشْعُرُونَ) والخادع لا يخادع نفسه لوحدته ، وإنما يخدعها ، ويا ويلاه إذا كانت مخادعتهم تبوء بالخدعة لأنفسهم و (ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)!.

وترى إذا (ما يَشْعُرُونَ) فكيف التنديد بهم والعذاب ، والشعور مدار التكليف فالثواب والعقاب؟

الجواب : أن النص لا ينفي عنهم الشعور ، وإنما إعماله وأعماله بسوء الإختيار ، وحتى إذا فقدوا الشعور لأنهم أبطلوه إذ لم يستعملوه ، وبقي التنديد والعذاب على مبدء اللّاشعور المختار ، فالامتناع بالاختيار لا ينافي

١٩٣

الإختيار!

فأولئك الحماقى الأغفال يظنونهم رابحين بهذا النفاق الإغفال (وَما يَشْعُرُونَ) أنهم خاسرون ، لا في العقبى فحسب ، ففي الدنيا ايضا حيث يوردون أنفسهم بالكفر المضمر موارد التهلكة بما يفضحهم الله ويفضحون أنفسهم ، إذ تظهر مظاهر من كفرهم من صفحات الوجوه وفلتات الألسن.

ومن مخادعتهم لله قولهم «آمنا بالله وما هم بمؤمنين» ومن مخادعتهم للمؤمنين : (إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ).

(٣) (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (١٠) :

باب ثالث من أبواب جحيم المنافقين : «مرض القلوب» : قلوب الأرواح لا الأجساد ، فالقلب بيده ازمة العقول والأفكار والصدور والحواسّ والأعضاء ، الزعامة العليا في مملكة الكون الإنساني ، فإذا مرض مرض الإنسان في كيانه الإنساني ككلّ ، فالمرض في القلوب حقيقة ، وفي الجسد مجاز أم حقيقة ثانوية.

ولان المرض ـ الذي لا يحاول شفاءه يزداد دوما ، إن في الجسم او في الروح سواء ، سنة دائبة في الكائنات كلها ، أن تنفرج زاويته في كل خطوة فتزداد من حيث لا يشعرون او يشعرون.

فمرض الجسم يشعر فيدرك فيتدارك مغبّة الحفاظ عليه ، ومرض الروح قد لا يدرك وكثير ما هو ، فلا يتدارك فيزداد ، ثم القلب ومكاسب السوء يتعاملان في زيادته : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ).

١٩٤

فهناك مرضان اثنان كلاهما في القلوب : ١ ـ (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ـ ٢ ـ (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً ـ) ومن ثم (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) :

وطالما المرض الأول أجمل عن فاعله ، ففاعل الثاني «الله» فهل (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بالمرض الاول ، ام وبالثاني ايضا ، او (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) هنا وهناك حصيلة المرض ، ونفاقا في دعوى الإيمان؟

المرض الأوّل هو مرض الكفر والعناد للحق بما كانوا يكسبون ، والثاني هو ازدياد الاوّل منذ بزوغ الرسالة الإسلامية تداوما فيه ونتاجا عنه كما توحيه الفاء : فزادهم .. فرغم انهم كانوا يأملون لهم زعامات في الجزيرة ، ويعملون لإزالة عقباتها وتعبيد طريقها ، إذ فاجأتهم الدعوة الإسلامية ، فأخرجت شطأها فآزرها فاستوت على سوقها يعجب الزارع ليغيظ بهم الكفار ، منذ العهد المدني بعد ما أصيبت بجوارف الإصابات في العهد المكي.

إن ذلك الازدهار والتقدم في الدعوة زاد في مرضهم ، فهذه الزيادة هي منهم إذ انفرجت زاويته لمّا انفجرت الدعوة ، حسدا من عند أنفسهم.

وهي من عند الله إذ بعث صاحب هذه الدعوة ، ولم يكن من الله إلّا كلّ خير ورحمة ، ولكنهم لمرضهم بدّلوه الى كل شر ونقمة : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) مرضا الى مرض ورجسا الى رجس : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (٩ : ١٢٥) فان دعاء الكافر المعاند لا يزيد إلّا فرارا : (إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً

١٩٥

وَنَهاراً ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) وهكذا تكون دعوات الرسالات الإلهية قد تزيد في ايمان لمن يؤمن ، وكثيرا ما تزيد طغيانا وكفرا لمن لا يؤمن : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) (٥ : ٦٤) :

ف : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أوّل عاشوه قبل الدعوة (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) عند الدعوة حيث كذّبوها (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) كما (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ـ (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) ـ (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) ـ (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (١) :

فثالوث المرض الاوّل وما زادهم الله وعذاب اليم ـ كل ذلك : (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) : بالدعوة والداعية ، وفي دعوى الإيمان.

ولماذا «مرضا» دون «المرض» طالما الثاني استمرار بزيادة في الاوّل؟ .. علّه لان الثاني مزدوج : من نوع الاوّل ، زيادة في الكفر ، ومن سواه : حسدا منهم في مواجهة الدعوة ، وطبعا على قلوبهم لمّا كذبوا الداعية ـ : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) على مرض (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ).

وعذابهم الأليم يعم يوم الدنيا ويوم الدين ، فهنا أن زادهم الله مرضا وفضحهم بنفاقهم ، ثم يوم القيامة هم من المفضوحين.

((٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (١٢) :

باب رابع من أبواب جحيم المنافقين : دعوى الإصلاح في إفسادهم!

__________________

(١) ف «بما كانوا يكذبون يعلل ثالوث المرضين والعذاب الأليم».

١٩٦

(وَإِذا قِيلَ) : قيل إلهي بلسان النبي او المؤمنين المصلحين الذين يحق لهم نهي المفسدين ـ قيل لهؤلاء المنافقين : (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) وقولة فارغة جوفاء منهم : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ثم فضيحة لهم عالمية في إذاعة قرآنية : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ)!

وهكذا يكون دوما دور المنافقين في كلّ عصر ومصر أنهم يحسبون أنفسهم من المصلحين ، وغيرهم مفسدين ، حيث الموازين مختلة عندهم ، فإنها تتأرجح مع أهوائهم الذاتية ، بعيدة عن الواقع والميزان الرباني ، او الإنساني.

إنهم يحسبون المكر والخداع شطارة ولباقة ، سياسة يتذرعونها الى ما يهوون ، فان الغاية عندهم تبرّر الوسيلة ، ولأن الأصل من الحياة عندهم حيوانيتها وشهواتها ، والوصول الى بغيتهم ومصالحهم الشخصية ، او الجماعية التي تبوء إليها ، يحسبونها إصلاحها وفلاحها ، لذلك يعدّون فسادهم صلاحا وإفسادهم إصلاحا : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) : لا شغل لنا إلّا الإصلاح ، وهم صادقون في إصلاح حيونة الحياة لهم ، وكاذبون في إنسانيتها وقيمها وقوامها.

إنهم يتبجهون بثرواتهم ونزواتهم ، طنطناتهم وعربداتهم ، زهواتهم وزهزاتهم ، وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) فقط ـ كأن لا مفسد سواهم ، إذ ينافقون دوما ولا يوافقون ، (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) أنهم هم المفسدون ، حيث رأوا الصلاح فسادا ، والفساد صلاحا : «ولكنه أخلد إلى الأرض هواه وكان امره فرطا».

إنهم لا شغل لهم إلّا الإفساد : في الحرث والنسل ، في الثقافة والعقيدة ، في الإقتصاد والسياسة ، وفي كافة الحقول الحيوية ، محتلّين ساحاتها ، طاردين أصحابها ، متدخلين في كل رطب ويابس وهم يحسبون

١٩٧

أنهم يحسنون صنعا : أنهم هم المصلحون ومن سواهم مفسدون! : وحتى النبيين : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) (٧ : ١٢٧) رغم أنهم هم : (.. الْمُسْرِفِينَ. الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (٢٦ : ١٥٢) وقد يوجهون نفاقهم العارم بمسايرة الكافرين حفاظا على المؤمنين : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ، فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) (٤ : ٦٢).

فهم يعتبرون صدّهم عن رسول الله إحسانا إليه وتوفيقا بينه وبين الكافرين ، اقتساما للبلد نصفين ، وجعلا للحكم شطرين ، رعاية للقبيلين! :

(وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) وليسوا بتلك البلادة حتى يفقدوا مطلق الشعور وإنما يشعرون من الحياة حيوانيتها فيحتالون ويمكرون بكل شطارة وشعور لبغيتها وهم أنفسهم لا يشعرون عمق الحياة وقيمها وواقعيتها ، ومهما لم يشعروا فيما يجب على الإنسان شعوره فكأنهم لا يشعرون! إذ لا يستعملون الشعور حقه الإنساني وإنما إدراكه الحيواني!

ثم الإفساد منه شخصي كالمعاصي التي لا تتجاوز العاصي ، ومنه جماعي كالتي تتعداها الى غير العاصي ، ومنها حكومي تشمل من يعيش في ظل الحكم ، ثم منها مادي تشمل الناحية الاقتصادية ، ومنها عقيدي تفسد العقائد ومنها .. وأفسدها كلها ما يشمل الإفسادين بقوة الحكم : (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٢٧ : ٣٤) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ. وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ

١٩٨

لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ. وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (٢ : ٢٠٦).

هنا نهوا عن منكر الفساد ، ومن ثم يؤمرون بمعروف الإيمان : حيث النهي عن المنكر يتقدم على الأمر بالمعروف ، إذ ما دام الناكر مكبا على المنكر لا يتأتى منه المعروف ، فإذا ترك المنكر او نهي فهنالك المجال لفعل المعروف والأمر به ، حيث التزكية تتقدم التحلية في كافة المجالات ، مادية ومعنوية! :

٥ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ ، وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣).

باب خامس من أبواب جحيم المنافقين «تسفيه المؤمنين» وأنهم هم العقلاء النابهون من دون المؤمنين!

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) لا كما استسلم النسناس ـ والقائل هو الرسول ومن معه ـ «قالوا» في جفوة وغرور واستعجاب وهزء وزور : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) فإن هذا الإيمان خاص بفقراء الناس وأراذلهم دون الأغنياء العليّة ذوي المقام ـ فجاء الجواب الحاسم : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ).

والسفه هو خفة العقل وبلادته ، حيث السفيه يفسد ويحسبه مصلحا ، ويضيع ويراه حافظا ، لجهله بموارد الإصلاح وموازينه ، وخفة عقله ، مهما كان مثقفا في مختلف العلوم الزمنية ـ ف «رب عالم قتله جهله»!

فهم يعتبرون الإيمان الصادق سفها ، والنفاق عقلا ، إذ يمكّن العشرة مع المؤمن والكافر فيربح الجوّين ، ويؤمن الخطرين ، وهذه هي الحياة العاقلة عند هؤلاء المجاهيل ، وحياة الايمان عندهم سفيهة! تخص المجاهيل.

١٩٩

وهكذا يكون دوما دور غير المؤمنين : منافقين وكافرين ، أن الايمان سفه ورجعية سوداء وتأخر عن الحياة في زعمهم ، والكفر والنفاق سياسة حيوية وشطارة ، وأن موافقة السر والعلن. تفسد الحياة ، ومنافقتهما تصلحها ، حيث اختلف لديهم موازين الحياة الصالحة ، إذا أخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهوائهم فكان أمرهم فرطا! :

ولماذا هنا «الناس» لا «المؤمنون» وهم ناس خصوص دون سائر الناس ، وقد ذكر «الناس» في القرآن اكثر بكثير من المؤمنين والمتقين ـ وحتى المسلمين : الذين هم أعم من المؤمنين ـ فانه (٢٤١) مرة وهي كلها خطابات عامة؟

علّه لأن المطلوب منهم فعلا أقل درجات الإيمان التي تخرجهم ـ لأقل تقدير ـ عن كفر النفاق ، وأن هذا الإيمان لا يكلّفهم إلّا أن يكونوا من سواد الناس ، ولهم ما لسائر الناس من عقل وإدراك ، فإذا لم يؤمنوا كما الناس فهم أولاء إذا نسناس ، فاقدين ما للناس من عقل ، (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) علم الناس ، حيث الإيمان هكذا لا يتطلب براعة في العلم والعقل ، وإنما يكفيه كونك على مشارف العقل دون أشرافه!

وترى أن الإيمان الصادق القرين بكافة البراهين سفه ، ثم الكفر والنفاق اللذان ترفضهما البراهين عقل؟ ما هذه إلّا دعاية غوغائية ضد المؤمنين ، لكي لا يرغب في الايمان من يحبون العقل المتين!

ولماذا هنا (لا يَعْلَمُونَ) وهناك وهنالك (لا يَشْعُرُونَ)؟

علّه لأن الوقوف على حق المؤمنين وعقلهم ، وباطل المنافقين وسفههم بحاجة إلى علم زيادة على شعورهم فاقدوه ، ولكن التمييز بين الصلاح

٢٠٠