الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٦٣

فهدى الصراط المستقيم في مثلّث ولكلّ درجات ، ولأن دعاء الهداية عامة فلتشمل كافة المتطلّبين ، حتى ومن هو على صراط مستقيم ، أم هو هو صراط مستقيم حيث يهدي إليه (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤٢ : ٥٢).

إذا ف (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) تعم الهداية «إلى» و «ل» و «على» ثم وأعلى منها كالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وذويه الذين هم ـ فعلا ـ على صراط مستقيم.

والجمع في «اهدنا» كما الجمع في «نعبد ونستعين» يجمع في دعاء الهداية كل العابدين الله والمستعينين الله في مثلث الدرجات ، من هو مثلك أو دونك أم فوقك ، وحاش لله أن يستجيبك فيمن فوقك كما هي طبيعة الحال ، ثم يتركك بمن هو مثلك أو دونك على ما أنتم ، وهذه من أسس الدعاء أن نجمع إلى أنفسنا غيرنا من صالحين وطالحين ، ليستفيد الطالحون ، ويفيدنا الصالحون.

كما (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) دون إليه أو عليه لمحة إلى أن القصد دمجنا في الصراط المستقيم ، ودمجه فينا حتى نصبح نحن الصراط المستقيم ، ولكي نثبت عليه ونهدي إليه ، في أيّة درجة من مدارجه.

ونحن نطلب هداية الدلالة والتوفيق والإيصال لما لم نصله حتى الآن ، والتثبيت على أصل الهدى التي وصلناها حتى الآن ، تثبيتا حتى لا نرجع القهقرى ، ودلالة لما فوقها بمعنييها تكاملا إليها ، فنحن ـ إذا ـ في أبعاد أربعة من تطلّب الهدى.

والصراط ـ كما السراط ـ من سرط الطعام إذا ابتلعه وزرده بسهولة ودون إبقاء ، فهو السبيل المستسهلة السوية التي يبتلعها سالكها أو تبتلعه ،

١٢١

منحدرة إلى المقصود ، ضامنة لسالكها أن ينحدر ولا ينهدر.

والمذكور منه في ساير القرآن (٤٥) مرة ، موصوفا في كله بالمستقيم أو ما يعني معناه كالعزيز الحميد (١٤ : ١) والحميد (٢٢ : ٢٤) ام (سَواءِ الصِّراطِ) (٣٨ : ٢٢) ـ (صِراطاً سَوِيًّا) (١٩ : ٤٣) مما يدل على أن هناك صراطا غير مستقيم ولا سوي ، مضادا لصراط العزيز الحميد كصراط الجحيم. (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٣٧ : ٢٣) فهو ـ إذا ـ صراط المغضوب عليهم ويتلوه صراط الضالين.

فصراط المغضوب عليهم إلى الشيطان ثم إلى الجحيم يسرطهم ابتلاعا دون إبقاء ، فيوصلهم بلا هوادة إلى الجحيم.

ثم الضالين يسرطهم صراطهم ابتلاعا في ابتلاء الضلال ، فلا يدعهم ليهتدوا ، فهم من (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) فقد انقسم الصراط إلى ثلاثة ، نهتدي إلى قسم المستقيم (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).

فهنا طريق ثم سبيل ومن ثمّ صراط هو أبلجه وأنهجه ، وهو المستقيم للمنعم عليهم.

فالطريق هي التي تطرق ويمشى عليها باستواء أو ارتفاع أم انحدار ، فمنها ما هي إلى الجنة : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤٦ : ٣٠) وما هي إلى النار : (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (٤ : ١٩٦) ثم هي بين طريق باطن كما هما ، ام وظاهر: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) (٢٠ : ٧٧).

١٢٢

والسبيل هي الطريق المنحدرة المسبّلة للسالكين ، فهي أخص من الطريق وأكثر استعمالا في غير الظاهر ، وأسهل سلوكا للسالكين ، ولكنها ـ على انحدارها ـ قد توصل إلى المنزل المقصود بسهولة أو صعوبة وقد لا توصل ، فلذلك قد تجمع كما الطريق ، فليست واحدة إلّا طريق او سبيل مستقيم : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٦ : ١٥٣).

فالسبل منها سبل السلام ومنها دون ذلك ، والصراط المستقيم إلى الحق سلام وليس دون ذلك : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥ : ١١٦) فسبل السلام هي درجات لا تخلو إلّا واحدة منها من ظلمات يخرجهم الله منها فيستخلصون إلى صراط مستقيم ليس فيه أيّ ظلام ، مهما كان هو أيضا درجات حسب الدرجات.

فبين نقطة العبودية والربوبية صراط مستقيم بين سبل السلام ، كما هي بين كافة السبل ، ومن ثم هي ايضا بين كافة الطرق.

خط مستقيم لا عوج له ولا حول عنه ، بين سائر الخطوط الملتوية ، منحنية او منكسرة ، موصلة على عقباتها أم غير موصلة.

وللصراط المستقيم درجات أعلاها صراط الرب ف (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١١ : ٥٦) صراط يخصه لربوبيته ، لا شريك له فيه ولا يشرك فيه أحدا ، إذا فلسنا نطلبه من ربنا ولا أوّل العابدين ، وكما لسنا لنطلب صراط الهدى التكويني ، الرحمانية الأولى ، فإنها كائنة لزام كل خلق على أية حال! وأين صراط من صراط؟

وأدناها «الصورة الإنسانية التي هي الطريق إلى كل خير ، والجسر

١٢٣

الممدود بين الجنة والنار» (٤٨) ظرفا صالحا كأصلح ما يكون لتطلّب الصراط المستقيم ، ولكنها كائنة لكل إنسان أيا كان ، وحتى من انكدرت فطرته وغرب عقله ، فهذا يستدعى ربه أن يهديه إلى صورته الإنسانية حتى يهتدي بها إلى صراط مستقيم ، ولأن الصورة الإنسانية درجات سبع ، من الروح والفطرة والعقل والصدر والقلب واللب والفؤاد ، فالمستدعاة منها ـ إذا ـ لكلّ صورة تلو بعض ، ليستعدّ السالك براحلته في هذه الرحلة المدرسية العالية ، معرفة بربه ثم عبودية ، إذ لا عبودية إلّا بعد شيء من المعرفة تجذب إلى عبودية.

وبينهما متوسطات من الصراط ، كصراط العبودية : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣ : ٥١) وهذا الصراط لزام عشير منذ الأول حتى الأخير ، راحلة ووسيلة وغاية ، فبإقدام العبودية والمعرفة يحضر العبد محضر الربوبية الذي هو الصراط المستقيم.

وهو اعتصام بالله : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣ : ١٠١) فلا عصمة في هذه الرحلة دون اعتصام بالله إلّا انفصاما عن العروة الوثقى ، ولا اعتصام إلا بعصمة المعرفة والعبودية.

كما الاعتصام والايمان به ذريعة إلى صراط أعلى مستقيم : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٤ : ١٧٤) فلا اعتصام إلا بإيمان كما لا إيمان إلا باعتصام بعشيريهما المعرفة والعبودية.

وهذه كلها لا تحصل إلّا على ضوء هدي القرآن : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ

__________________

(١) تفسير الصافي عن الامام الصادق (عليه السلام).

١٢٤

نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥ : ١١٦) حيث القرآن أقرب السبل الواضحة المعصومة من الله إلى الله ، يعرّفنا كيف نؤمن بالله ونعتصم بالله ونعرف الله ونعبد الله ، مخطّئا كلّ خالجة خارجة عن الحق في هذه الرحلة.

وإلّا على هدي رسول القرآن : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤٢ : ٥٢) حيث الرسول كما القرآن بيان من الله يبيّن القرآن ويفسره ، وفي سنته ما لا يتوضّح من القرآن ، فهو صراط مستقيم كما القرآن ، يهديان إلى صراط مستقيم :

ثم الإسلام المطلق بالعبودية الضافية ، والتوحيد بالمعرفة الصافية هما الصراط المستقيم ، نتذرّع إليهما بالصورة الإنسانية وبالعبودية والايمان والاعتصام بالله ، على ضوء هدي القرآن ونبي القرآن : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ. وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (٦ : ١٢٦) (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٦ : ١٦١) فالهدف هنا ليس هو الرسول والقرآن ، فإنما هما بما معهما من وسائل زاد للسالك إلى الصراط المستقيم : إسلام التوحيد وتوحيد الإسلام ، كما والصورة الإنسانية هي الظرف والراحلة ، ولكلّ درجات حسب درجات السالكين.

فالرسول الهادي إلى صراط مستقيم ، وهو على صراط مستقيم ، ليس ليتطلّب لنفسه ما هو عليه ويهدي إليه ، وإنّما صراطا مستقيما أعلى لنفسه ، كما الاستمرار على صراطه المستقيم ، ثم وصراطا مستقيما يهدي إليه لمن دونه ،

١٢٥

فهو ـ إذا ـ في مثلث الدعاء لمثلث الصراط له ولآخرين ، وقد يجمعها (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٣ : ٨) في بعدي التثبيت والاستزادة ، وكما يروى انه «استرشاد لدينه واعتصام بحبله واستزادة في المعرفة لربه عز وجل وكبرياءه وعظمته» (١) و «أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك فيما مضى من أيامنا حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا .. وهو ما قصر عن العلو وارتفع عن التقصير فاستقام فلم يعدل الى شيء من الباطل» (٢) و «أرشدنا للزوم الطريق المؤدي الى محبتك والمبلغ دينك والمانع من ان نتبع أهواءنا فنعطب او نأخذ بآرائنا فنهلك» (٣).

كل ذلك يعنيها الرسول في «اهدنا» لغيره تحصيلا لما قصروا عنه وتثبيتا لما حصلوا عليه ، ولنفسه تداوما لعصمته وتكاملا لمعرفته.

ونحن أيضا مع الرسول نتطلب لأنفسنا وله ولمن دوننا من هذه السبعة من الصورة الإنسانية ـ العبودية ـ الإيمان الاعتصام بالله ـ كتاب الله ـ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإسلام لله وتوحيد الله ، سبعة في قلب السبع المثاني يجمعها (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ولكلّ درجات ، كما لكلّ أهل ، فلا يستعني عنها ككلّ أي من العالمين وحتى أول العابدين ، حيث يطلب لنفسه استدامة ما هو عليه واستكماله ، ولآخرين ما ينقصهم من درجات الصراط المستقيم.

__________________

(١) تفسير البرهان ١ : ٥١ عن ابن بابويه في الفقيه عن الامام الصادق (عليه السلام).

(٢) المصدر عن الامام امير المؤمنين (عليه السلام).

(٣) المصدر عن الامام الرضا (عليه السلام).

١٢٦

وإن كانت هذه السبع بين درجات ثلاث من أصل الصراط المستقيم ، كالعبودية الخالصة لله ، والإسلام له والتوحيد الخالص ، والمعرفة به ومن الذرايع إليه ، وهي إلى الصراط المستقيم ، كالإيمان والاعتصام بالله وعبوديته على ضوء القرآن بنبي القرآن ، ومن الظرف الصالح له كالصورة الإنسانية ، فإنها راحلة للسالك ، فكيف تطرق الطريق دون أيّة راحلة صالحة ، والعبودية وسيلة هي أحرى منها غاية ، حيث الغاية هي الزلفى والمعرفة ، ولكن العبودية هي لزامها على طول الخط ، فكلما ازدادت العبودية ازدادت المعرفة وكلما ازدادت المعرفة ازدادت العبودية.

فإسلام التوحيد وتوحيد الإسلام بمعرفة وعبودية قمة هي الغاية المقصودة ، وغيرها بين ظرف ووسيلة.

فالإسلام التام هو العبودية التامة ، والتوحيد التام هو المعرفة التامة.

ف (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) يمثّل الأولى الغاية ، و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الثانية الوسيلة ، والعبد يمثّل الظرف : الثالثة ، بالفطرة والعقلية السليمة حيث تتقبل هذه وتلك.

ولأن النص هنا (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) فقد يشمل مثلث الصراط بمسبّعه ، به وإليه وإياه ، فأكمل بها دعاء وأجمل.

ثم فاعتراف الجمع في «نعبد ونستعين» والدعاء للجمع في (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ذلك الجمع المثلث هو قاعدة الإيمان الجماعي التي تمثّل جامعية الإسلام واجتماعيته ، حتى وفي صلاته حيث تضم ضمن الصلاة لله صلات بعباد الله :

١٢٧

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (٧).

والنّعمة ـ كسرا ـ هي الحالة الحسنة حسية وروحية ، تأتي في سائر القرآن (٣٤) مرة وهي فتحا ـ حالة رديئة تقليبا لنعمة الله كفرا ونعمة : (وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) (٤٤ : ٢٧) (ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) (٧٣ : ١١)

وهل تصح «سراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين»؟ كما قرء في الشواذ (١) قطعا لا ، لمخالفتها النص المتواتر في القرآن مهما اتحد المعنى أو صح اللفظ وهو لا يصح.

فلأن الصراط قد يكون مستقيما بين نقطتي العبودية والربوبية ، أم غير مستقيم يفرّق بالسالك عن سبيل الله او يحرّجه ، أم هو بين نقطة العبودية والشيطنة وهو صراط الجحيم ، لذلك يعرّف هنا بإثبات وسلبين ، فالإثبات يتكفّل لاستقامته ، والسلب الأوّل لما يقابله من صراط الشيطان ، والثاني هو العوان بينهما قضية الضلال ، فلا إلى الحق عارفا ولا إلى الضلال عامدا ، مذبذبا بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء!

__________________

(١) في الدر المنثور : ١٥ بسند عن عمر بن الخطاب أن كان يقرأ : «سراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين» وعن عبد الله بن الزبير مثله إلّا في «سراط» وكما عن عكرمة والأسود مثله وفي نور الثقلين ١ : ٢٤ ج ١٠٦ تفسير القمي حدثني أبي عن حماد عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قرأ «صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين» قال : المغضوب عليهم النصاب والضالين اليهود والنصارى ، وعنه عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة عن أبي عبد الله (عليه السلام) «غير المغضوب عليهم وغير الضالين».

١٢٨

فإنما المستدعاة هنا هي صراط المنعم عليهم ، دون المغضوب عليهم الذين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٢٧ : ١٤) يعرفون الحق ثم يحيدون عنه كأنهم لا يعرفون ، أو يعرفونه باطلا ، ودون الذين ضلوا عن الحق قاصرين او مقصرين فلم يهتدوا إليه.

ولأن الهدى هي الروحية ، والصراط الحق المستقيم هنا هو الموصل إلى حقها وحاقّها ، وأن نعم الدنيا تعم المغضوب عليهم والضالين ، إذا ف (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) تعني النعمة القمّة الروحية ، ولأنها لم تقيّد هنا بقسم دون آخر ، فهي مطلق النعم السابغة الروحية.

من الصورة الإنسانية جسرا إلى كل نعمة ، والايمان والاعتصام بالله في صحبة العبودية الصالحة ، والإسلام لله وتوحيده على ضوء كتاب الشّرعة وسنة رسولها ، وأفضل النماذج السابقة السابغة للمنعم عليهم ـ على مختلف درجاتهم ـ هم : النبيون والصديقون والشهداء والصالحون : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ... وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً. وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً. وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً. ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) (٤ : ٧٠).

هنا نجد القمّة العليا بين المنعم عليهم وهو الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فمن يطع الله والرسول فأولئك مع هؤلاء المنعم عليهم في تلك الطاعة مهما اختلفت المرتبة وكما هم درجات ، النبيون أعلاهم والصالحون أدناهم ، والصديقون والشهداء أوسطهم ، وهم كلهم برفاقهم المطيعين لله والرسول ، عائشون تحت ظل ظليل من هذا الرسول العظيم ،

١٢٩

وهو على عظمه وصراطه القمّة المقتدى به يتطلّب في صلواته ليل نهار (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)!

وكيف لا يكون هو صراطا ومطاعا للمنعم عليهم طول الزمان وعرض المكان ، وقد كانت نبواتهم وكتاباتهم مشروطة بالإيمان به ونصرته ، فهو أوّلهم ميثاقا وخاتمهم مبعثا :

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٦ : ٧٥).

ونرى في سرد حكيم في الذكر الحكيم للأولين من مربع المنعم عليهم ، عديدا من النبيين : كزكريا ـ يحيى ـ عيسى ـ إبراهيم ـ إسحاق ـ يعقوب ـ موسى ـ إسماعيل وإدريس : (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ، وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا : أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (١٩ : ٥٨).

وعلّ ممن هدينا واجتبينا من لم يذكروا من النبيين ، وكذلك الصديقين والشهداء والصالحين.

ثم النّعمة للأولين وأضرابهم من المعصومين كالصديقين ، هي نعمة العصمة على درجاتها ، فإنهم كانوا على صراط مستقيم ، هادين إلى صراط مستقيم.

والمعيّة المعنيّة هنا لمن يطع الله والرسول هي المعية في أصل الصراط ، لا سيما وأن الصراط المستقيم إلى الله واحد ، مهما كان الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق ، والصراط المستقيم ـ على أية حال ـ هو سلالة ما تستهدفه

١٣٠

رسالات الله وكتاباته ، يحمله رسل الله ، كائنين عليه دالين إليه ، فلولا الرسول لم يكن قرآن ولا إسلام التوحيد وتوحيد الإسلام ، ولا صورة إنسانية جادّة ، ولا اعتصام تامّ بالله ، ولا عبودية صالحة.

إذا فالرسول يمثّل الصراط المستقيم ، كما أن صنوه ، ومثيله الذي صنعه على مثاله ، وبنيه المعصومين من بعده ، هم الصراط المستقيم بعده كما في متظافر الروايات.

فطالما النبيون ومن ثمّ الصديقون هم على صراط مستقيم ، إلّا أن لكلّ درجات (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) فالأمة الإسلامية تتطلّب الهدي إلى صراط الصديقين ، وهم طالبون صراط محمد خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكما سائر النبيين يطلبون صراطه ويؤمنون به قبل ابتعاثه ، فكل إلى ذاك الجمال يشير.

لذلك نرى أن الصراط المطلوب لنا في صلواتنا هو «صراط محمد وآله» (١) كما يرويه الفريقان ، أم «صراط علي» (٢) كمصداق ثان لذلك الصراط ، كما سائر مصاديقه هم أهل بيت الرسالة المحمدية (عليهم السلام) (٣) كما وأن صراطهم هو صراط محمد (صلى الله عليه وآله

__________________

(١ ، ٢ ، ٣) اخرج الثعلبي في الكشف والبيان في الآية قال مسلم بن حيان سمعت أبا بريده يقول : صراط محمد وآله ، وفي تفسير وكيع بن جراح عن سفيان الثوري عن السدى عن أسباط ومجاهد عن عبد الله بن عباس في الآية قال : قولوا معاشر العباد : أرشدنا الى حب محمد وأهل بيته ، وأخرج الحموي في فرائد السمطين باسناده عن أصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام) في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) قال : الصراط ولايتنا اهل البيت ، واخرج ابن عدي والديلمي في الصواعق ص ١١١ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم قال : أثبتكم على الصراط أشدكم حبا لأهل بيتي ، وأخرج ـ

١٣١

ـ شيخ الإسلام الحموي باسناده في فرائد السمطين في حديث عن الامام جعفر الصادق (عليه السلام) قوله : نحن خيرة بالله ونحن الطريق الواضح والصراط المستقيم الى الله واخرج ابو سعيد في شرف النبوة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : أنا وأهل بيتي شجرة في الجنة وأغصانها في الدنيا فمن تمسك بنا اتخذ إلى ربه سبيلا (ذخائر العقبى ص ١٦) وأخرجه مثله الحافظ الحسكاني في شواهد التنزيل (١ : ٥٧) بسند متصل عن أبي بريدة وبسند آخر عن ابن عباس وثالث عنه قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب : أنت الطريق الواضح وأنت الصراط المستقيم وأنت يعسوب الدين ، وبسند رابع عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن الله جعل عليا وزوجته وأبناءه حجج الله على خلقه وهم أبواب العلم في أمتي من اهتدى بهم هدي إلى صراط مستقيم.

ومن طريق أهل البيت في عيون الاخبار ص ٣٥ ـ ٣٦ باسناده عن سيد العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) قال : ليس بين الله وبين حجته حجاب ولا لله دون حجته ستر نحن أبواب الله ونحن الصراط المستقيم ونحن عيبة علمه ونحن تراجمة وحيه ونحن أركان توحيده ونحن موضع سره.

وفيه عن جعفر بن محمد (عليه السلام) في (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يعني محمدا وذريته.

وفي أمالي الصدوق (ص ١٧٣) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من سرّه أن يجوز على الصراط كالريح العاصف ويلج الجنة بغير حساب فليتولّ وليي ووصيي وصاحبي وخليفتي على أمتي علي بن أبي طالب ، ومن سرّه أن يلج النار فليترك ولايته فوعزة ربي جل جلاله إنه لباب الذي لا يؤتى إلّا منه وإنه الصراط المستقيم وإنه الذي يسأل الله عن ولايته يوم القيامة ، وأخرج ابن شهر آشوب في المناقب ج ٣ : ٧٢ عن إبراهيم الثقفي باسناده عن أبي برزة الأسلمي قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية : «أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ» سألت الله أن يجعلها لعلي ففعل ، ورواه مثله المجلسي في البحار ج ٣٥ : ٣٦٤ والسيد البحراني في غاية المرام ج ١ : ٢٤٧ عن الروضة لابن ـ

١٣٢

وسلم) والذي يستهديه محمد نفسه لنفسه هو صراط فوقه والتثبيت على ما هو عليه ، ولمن سواه ـ بطبيعة الحال ـ دونه ف (لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (٦ : ١٣٢) ف (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٢ : ١٦٣) و (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٦ : ٨٣) :

و (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)

هم كل من غضب الله عليه دون جماعة خصوص ، وتفسيرهم باليهود (١) تفسير مصداقي كأصدق مصاديقهم وأنحسهم فإنهم منهم وليسوا كلّهم ، فمن اليهود من لم يغضب عليهم مهما لم يكونوا مسلمين

__________________

ـ الفارسي ، وروى محمد بن الحسن الصفار بإسناده عن أبي حمزة الثمالي في الآية قال : هو والله علي هو والله الميزان والصراط (غاية المرام ج ١ : ٢٤٦).

وعن جابر بن عبد الله ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينما أصحابه عنده إذ قال ـ وأشار بيده إلى علي ـ هذا صراط مستقيم فاتبعوه (ج ٢ : ٤٣٥) وعن سعد عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية قال : آل محمد الصراط الذي دل عليه (تفسير العياشي (ج ١ : ٣٨٤) وإلى عشرات من هذه الأحاديث أخرجها الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن اهل بيته المعصومين (عليهم السلام).

(١) كما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في روايات عدة أخرجها عبد الرزاق وأحمد وابن مردويه في مسنده والبيهقي في الشعب وعبد بن حميد وابن جرير والبغوي في معجم الصحابة وابن المنذر وابو الشيخ عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هم اليهود.

كما وأخرجه سفيان بن عيينة في تفسيره وسعيد بن منصور عن إسماعيل بن أبي خالد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخرجه احمد وعبد بن حميد والترمذي وحسن وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه عن عدي بن حاتم عنه (صلى الله عليه ـ

١٣٣

كالمستسلمين للحق مهما كانوا من الضالين ، او المقصرين فيه غير معاندين ولا مكذبين ، كما ومن غير اليهود مغضوب عليهم وان كانوا من المسلمين إذ (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٤ : ١٢٣).

فذكر اليهود كأنهم هم المغضوب عليهم دون سواهم ليس إلّا لأنّهم كمجموعة ـ لا ككل ـ هم أنحس حماقى الطغيان طول التاريخ الرسالي والرسولي (٥٧).

فمن المغضوب عليهم (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ. لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٦ : ١٠٩).

__________________

ـ وآله وسلم) وأخرجه احمد وابو داود وابن حبان والحاكم وصححه والطبراني عن الشريد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) (الدر المنثور ١ : ١٦).

(٥٧) في نور الثقلين : ١ : ٢٤ ح ١٠٦ ـ القمي حدثني أبي عن حماد عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال ... المغضوب عليهم النصاب والضالين اليهود والنصارى وعنه عن ابن أبي عمير عن ابن أذينة عنه (عليه السلام) قال ... المغضوب عليهم النصاب والضالين الشكاك الذين لا يعرفون الامام وفي الفقيه فيما ذكره الفضل من العلل عن الرضا (عليه السلام) انه قال : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) استعاذة من ان يكون من المعاندين الكافرين المستخفين به وبأمره ونهيه «والضالين» اعتصام من ان يكون من الذين ضلوا عن سبيله من غير معرفة وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا.

وفي احتجاج الطبرسي وروينا بالإسناد المقدم ذكرها عن أبي الحسن العسكري (عليه السلام) ان أبا الحسن الرضا (عليه السلام) قال : ان من تجاوز بأمير المؤمنين (عليه السلام) العبودية فهو من المغضوب عليهم ومن الضالين.

١٣٤

ومنهم الذين يحاجون في الله بعد كمال الحجة واتضاح المهجة : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) (٤٢ : ١٦).

والمكذبون بآيات الله : (قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ..) (٧ : ١٧١). والطاغين في رزق الله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) (٢٠ : ٨١) هذا ، فباحرى الطغاة على الله!

والمولّين أدبارهم في الجهاد : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٨ : ١٦).

والقاتلين المؤمنين متعمدين : لإيمانهم : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (٤ : ١٣)

وهكذا نرى أن المغضوب عليهم ـ على مختلف دركاتهم ـ هم الذين شرحوا بالكفر صدرا ، أم طغوا في رزق الله أم على الله ، أم كذبوا بآيات الله ، أم حاجوا في الله من أية طائفة كانوا ، ملحدين او مشركين ام كتابيين ، هودا او نصارى أم مسلمين ، مهما اختلفت دركات الغضب عليهم كما المغضوب عليهم جزاء وفاقا.

ولكيلا ، يغتر غير اليهود بالأماني الكاذبة ، يأتي الأمان العام لمن آمن وعمل صالحا من الذين هادوا كسواهم ، بعد ضرب الذلة عليهم والمسكنة والغضب من الله معللا بما علّل. (.. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ

١٣٥

بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢ : ٦٢).

وكما نرى في أخرى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ).

إذ تأتى تلوها دون فصل آية والأمان لأهل الايمان : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (٣ : ١١٥).

أجل إنهم ليسوا سواء لأنهم يهود أم أهل كتاب غير مسلمين لكي يغضب عليهم أجمعين ، فانما الغضب مربوط برباط التخلف عن شرعة الله.

ولأن اليهود هم أكثر الطوائف طغيانا وتكذيبا بآيات الله ، لذلك ترى آيات الغضب تتلاحق عليهم أكثر من سواهم كأنهم هم المغضوب عليهم لا سواهم.

وأمّا «الضالين» فهم عوان بين المغضوب عليهم والمهديين ، ناكبين عن الصراط المستقيم ، فهم ـ على أية حال ـ من الضالين ، قاصرين او مقصرين ، عن الصورة الإنسانية وعن التوحيد والآخرة : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) (٢٣ : ٧٤) عن صراط العبودية التي هي الصورة الإنسانية الكاملة ، التي يجمعها صراط توحيد الإسلام وإسلام التوحيد والاعتصام بالله على ضوء قرآن محمد ومحمد القرآن.

١٣٦

وبصيغة مختصرة محتصرة كل من ضل عن الصراط المستقيم فهو من الضالين : من مستضعف قاصر لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) (٤ : ٩٩).

ومن مستضعف مقصر (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) (٤ : ٩٧).

ومن مستكبر معاند للحق وهو من رؤوس الضلالة ضالا مضلا ناكبا منكبا عن الصراط وهو من المغضوب عليهم (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) (٥٦ : ٩٤).

ومختلف دركات الضلال موزّعة بين فرق النصارى لحد لا مثيل لهم في سائر الطوائف ، ولذلك يفسّر بهم «الضالين» في الحديث كأضل الضالين.

و «الضالين» يهيمن على المغضوب عليهم حيث تشملهم وسواهم ، وقد يشمل سائر السبل الملتوية وإن كانت موصلة إلى الله.

ولكن الصراط المستقيم هو أسلم السبل إلى الله مهما كان درجات ، فكل درجة أدنى ضلال بالنسبة للأعلى حال أنها سبيل إلى الله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى).

ولكنما الضلال قصورا أو تقصيرا هو المقصود من «الضالين» حيث الضال الذي يتحرّى الصراط ، وهو في سبيله إلى الصراط ، ضلاله ضلال قدسي كما الشك المقدس وهو في سبيله إلى اليقين ، والإسلام في سبيله إلى الايمان ، فانه ليس نفاقا ولا إيمانا ، بل هو إسلام إلى إيمان : (قالَتِ الْأَعْرابُ

١٣٧

آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٤٩ : ١٤).

وأما الضال الذي يرى نفسه على هدى بقصور أو تقصير ، فهو في الحق ضالّ لا يرجى هداه.

فلأن الداعي في صلاته ـ في الأكثرية الساحقة ـ ليس على صراط مستقيم ، فهو ضال عنه ، ولكنه سالك إليه متحرّ عنه ، فلا يسمىّ ضالا قسيما للمغضوب عليهم ، مهما كان ضالا بقياسه بمن هو على صراط مستقيم.

فالسالكون إذا اربعة : ١ ـ مؤمن ليس على صراط مستقيم وهو في سبيله ، ٢ ـ من هو على صراط مستقيم. ٣ ـ المغضوب عليهم غير المؤمنين ولا المتحرين عن إيمان بل معاندين له ومتعنتين عليه. ٤ ـ الضالين الذين ضلوا الصراط والسبيل إلى الصراط ، فهم عن الصراط لناكبون.

فالأوّلان هما من المصلين المهتدين ، والآخران من الناكبين عالمين او جاهلين.

فالمؤمنون الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم ، هم في سبل السلام آمنون ، سالكون إلى الصراط المستقيم : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٧ : ٨٢) مهما اختلج لهم شرك خفي أم ظلم عملي ، ف (ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ).

عود على بدء في السبع المثاني

لقد شملت البسملة على ثلاثة من اسماء الله هي أهمها كلها ، وشملت السبع المثاني ـ ككل ـ على خمسة هي أصول أسماء الدالة على المبدء والمعاد

١٣٨

وما بين المبدء والمعاد ، فلو كان لله اسم أفضل من هذه لذكرها في ام القرآن.

ثم هي على ترتيب الأهمية : «الله ـ الرحمن ـ الرحيم ـ رب العالمين ـ مالك يوم الدين».

فقارئ الحمد قارئ للقرآن العظيم وكما يروى عن الإمام الرضا (عليه السلام).

فإن قال : فلم أمروا بالقرائة في الصلاة؟ قيل : لئلا يكون القرآن مهجورا مضيّعا مدروسا فلا يضمحل ولا يجهل ـ

فإن قال : فلم بدئ بالحمد في كل قراءة دون سائر السور؟ قيل : لأنه ليس شيء من القرآن والكلام جمع فيه من جوامع الخير والحكمة ما جمع في سورة الحمد.

وذلك ان قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إنما هو أداء لما أوجب الله تعالى على خلقه من الشكر ، وشكر لما وفق عبده للخير ـ

(رَبِّ الْعالَمِينَ) تمجيد له وتحميد وإقرار بأنه هو الخالق المالك لا غيره ـ

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) إستعطاف وذكر لآلائه ونعمائه على جميع خلقه ـ

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إقرار بالبعث والحساب والمجازات ، وإيجاب له ملك الآخرة كما أوجب الله له ملك الدنيا ـ

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) رغبة وتقرب إلى الله عز وجل وإخلاص بالعمل له دون غيره ـ

(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) استزادة من توفيقه وعبادته واستدامة لما أنعم عليه

١٣٩

ونصره ـ

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) استرشاد به واعتصام بحبله واستزادة في المعرفة بربه وبعظمته وبكبريائه ـ.

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) توكيد في القول والرغبة ، وذكر لما قد تقدم من نعمة على أولياءه ، ورغبة في مثل تلك النعم ـ.

(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) استعاذة من أن يكون من المعاندين الكافرين المستخفين به وبأمره ونهيه ـ

(وَلَا الضَّالِّينَ) اعتصام من أن يكون من الضالين الذين ضلوا عن سبيله من غير معرفة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ـ

فقد اجتمع فيه من جوامع الخير والحكمة في الآخرة والدنيا ما لا يجمعه شيء من الأشياء (١).

ثم إلى حديث سلسلة الذهب القدسي حول تفسير السبع المثاني يرويه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عن أبيه علي بن محمد (عليه السلام) عن محمد بن علي (عليه السلام) عن علي بن موسى (عليه السلام) عن موسى بن جعفر (عليه السلام) عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن محمد بن علي (عليه السلام) عن علي بن الحسين (عليه السلام) عن الحسين بن علي (عليه السلام) عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله عز وجل : قسّمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ، إذا قال العبد (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال

__________________

(١) عيون اخبار الرضا (عليه السلام) وعلل الشرايع باسناده عن الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام)

١٤٠