نخفي عليك ما خلقت ظاهره وباطنه ، وأنت قديم محيط بكل ذرة من العرش إلى الثرى ، فالعجز عن ذلك صفة من يتلاشى فيك ، كما أنا حين توفيتني عني إليك.

قيل في قوله : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) : أنّى لي لسان القول إلا بعد الإذن بقولك : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥].

وقيل في قوله : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أي : لمّا أسقطت عني ثقل الإبلاغ كنت مراقبا لهم بما أجريت عليهم من مختوم قضائك.

قال أبو بكر الفارسي في هذه الآية : الموحد ذاهب عن حاله ووصفه وعن ماله وعليه ، وإنما هو ناظر بما يرد ويصدر ليس بينه وبين الحق حجاب ، إن نطق نعته وإن سكت فيه ، حيثما نظر كان الحق منظوره ، وإن أدخله النار لم يلتمس فرجا لأن رؤية الحق وطنه ونجاته وهلاكه من عين واحدة ، لم يبق حجاب إلا طمسه برؤية التفريد ، وكان المخاطب والمخاطب واحدا ، وإنما كان يخاطب الحق نفسه بنفسه لنفسه ، قد تاهت العقول ودرست الرسوم وبطل ما كانوا يعملون.

قوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) اتفق أهل التفسير أن الله لا يغفر للمشركين الذين ماتوا على شركهم ، ذلك مذهب المسلمين جميعا ، وقد أرى هاهنا لطيفة ، وهي أن الله تعالى أجرى على لسان عيسى عليه‌السلام سرّا مكتوما مبهما على قلوب جميع الخلائق ، إلا من كان من أهل خالصة سرّه ، ومحال أن خفي على عيسى عليه‌السلام أن من مات على الشرك وهو غير مغفور في ظاهر العلم ووارد الشرع وإنما نطق بذلك من عالم السر المكتوم في الغيب ، ومفهوم أصل خطاب في ذلك كأنه أشار إلى ما أشار ابن عباس وابن مسعود ـ رضي الله عنهم ـ في قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٨] ، قالا : يأمر النار أن تأكلهم وتفنيهم ، ثم تجدد خلقهم.

قال ابن مسعود : ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد ، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا.

قال الشعبي : جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعها خرابا ، ألا ترى صورة اللفظ (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) يعني بكفرهم (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) فهو حقّ لإطلاق الملك لك ، وإن تغفر لهم ما هم فيه في الدنيا اليوم من يمنعك عن ذلك وأنت العزيز الواحد بالوحدانية في ملكك لست بجاهل في غفرانهم ، فإنك حكيم في أمرك ومرادك وإمضاء مشيئتك ، ونحن لا نقول أكثر من هذا ، فإنه موضع الأسرار.