بسم الله الرّحمن الرّحيم

التقديم

الحمد لله المنعم المحسن الدّيان ، الملك القدوس العزيز الرحمن ، المحمود بكل لسان ، في كل حال وسائر الزمان ، الذي خلق الإنسان وعلمه البيان ، ورزقه قلبا مدركا للأشياء بالحجة والبرهان ، ثم كرمه بمواهب فضله من الخلافة والعرفان ، وفضله بعرائس العقائد الحقة من محجة الإسلام والإيمان ، التي لم يطمثهن قبل أصناف الملائكة ولا طوائف الجان ، وأوضح الحق بكتابه المجيد ، وخطابه الحميد الفرقان كلاما يحق الباطل بين يديه ويزهق منه الشيطان ، وله في كشف الحقائق والتبيان شأن لا تكتنهه الأفكار والأذهان حيث لا توازيه الزبر ، ولا تساويه الكتب في الفصاحة والبيان.

ومهّد للطائعين من عباده المتقين بالجنان الجنان ، وبشرهم بأكبر من ذلك وأجل الأكوان الرضوان ، وهدد المعاندين الطاغين بالقهر والنيران ، لجهة الكفر والكفران ، وهيّأ لهم أنواع النكبة من المذلة وسوء الخسران ، وحين حدثت في الشوارع والطرائق صعاب المزالق والمضايق ، وخلطت الشرائع بأوهام مموهة وكلام زاهق ، بعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أهل المغارب والمشارق بالآيات البينة ، والخوارق النيرة التي تضيء الآن كالبدر ، ولم تكسف مع تراكم ليالي العوائق من الحوائج والطوارق.

فبيّن لهم جهارا أسرار الحقائق ، وصدع بكشف القناع عن وجوه الدقائق ، من دون أن يفرق بين المخالف والموافق ، ويخصص المؤمن الصادق من الكافر والمنافق ، صلى الله البارئ الخالق عليه ، وعلى آله وصحبه المنتسبين إليه بخير العلائق ، ما أظلم الظلام ، وأشرقت المشارق ، ويميز الجيد من الزائف ، والردى من الرائق ، وما ابتسمت الأزهار بالرياح في الحدائق ، وتنسمت الرياحين والشقائق على عوالي الأعلام والشواهق.

وبعد .. فلما كان علم التفسير أحسن العلوم الإلهية كلها ، وأعز من سائر الفنون وأجلها إذ هو للعقائد الدينية أقدم الأصول وأهمها ، ولإدراك المسائل الفقيهة رأس المباني وأمها ، ولاستنباط الأحكام الظاهرة الشرعية بناء وأساس ، ولاكتساب المعارف الباطنة من الطريقة والحقيقة ، والمعرفة مصباح ونبراس ، وإلى الأول منهما قد التفت أكثر الناس قديما وحديثا ، وتوجهوا نحو التفسير على وجه الشريعة تصنيفا وتأليفا ، ولم يتعرضوا للثاني إلا قليلا ، فإنه مسلك أدق وخطب جليل ، إذ هو بحر لا يدرك ساحله ، وصراط قلّ من أن يسلم سالكه ، ولا يعبّره إلا من أتى الله بقلب سليم أو وفق من الله العظيم ، لهذا الأمر الجسيم.

كان كتاب «عرائس البيان في حقائق القرآن» أجلّ ما صنف في هذا الباب ، من مؤلفات نخبة أولي الألباب ، المستغرق في بحار الأنوار ، المشاهد للستر وسر الأسرار ، الباقي بربه والفاني عن نفسه ، العارف بالرمز الخفي والجلي ، الشيخ «أبو نصر بن روزبهان البقلي الشيرازي» ـ قدس الله سره ـ من فاز بالجاه المتكاثر والمناقب والمفاخر ، وأوتي مناصب الدنيا بحسن الأخلاق ، وخير المآثر ، المستجمع لأصناف الفرح والسرور ، المستغني عن التعرض بالاسم والرسم لغاية الظهور ، أدام الله فيضه على مر الدهور والشهور.

فإليك أيها المحب الصوفي المتعطش لنهر الحقائق المتدفق بمعاني الوجد الرائق ، فتنتهل من درر الأسرار والأنوار الفوائق.

قد قمت بتحقيقه وتخريجه والتعليق عليه ، من معين المحقيقين المتحقيقين بأسرار الذكر الحكيم ، وتلك خصوصية الغارقين الذي في بحر الشهود غارقين ، هائمين.

كتبه

العبد الفقير الحقير إلى الله السميع البصير

الرّاجي عفو الله العلي الكبير

بجاه سيدنا البشير النذير صلى‌الله‌عليه‌وسلم

تراب أقدام أصحاب الوراثة النبوية

أحمد فريد المزيدي

ترجمة الشيخ المصنف

هو الشيخ الإمام العلامة المتكلم المفسر الفقيه الصوفي المحقق ، شطّاح فارس :

أبو محمد روزبهان بن أبى نصر البقلي ، الفسوي ، الشيرازي المصري ، المتوفى سنة ٦٠٦ هجرية.

أصله من «شيراز» زار مصر ، فقضى في القاهرة والإسكندرية زمنا ، حتى عرف باسم «روزبهان المصري» ثم عاد إلى شيراز ، واستمر بالوعظ والتذكير خمسين سنة في الجامع العتيق بمدينة شيراز ، واشتهر في هذه السنوات الخمسين الأخيرة بلقب شطاح فارس.

ويعد روزبهان من أعظم صوفية الإسلام ، واعتبره الفرس من مفاخر إقليم فارس ، ومن مقدسات شيراز!

وقد ترك الشيخ روزبهان العديد من المؤلفات ، منها :

ـ تفسير القرءان بعنوان «عرائس البيان في حقائق القرآن» ، (كتابنا هذا).

ـ منطق الأسرار في بيان الأنوار وهو «شرح الشطحيات» بالعربية والفارسية.

ـ شرح كتاب «الطواسين» للحلاج ، بالعربية والفارسية.

ـ الأنوار في كشف الأسرار.

ـ سير الأرواح ـ المصباح لمكاشفة الأرواح ـ مشرب الأرواح.

ـ كتاب القدسية.

ـ مكنون الحديث.

ـ حقائق الأخبار.

ـ تقسيم الخواطر (بتحقيقنا).

ـ الموشح في المذاهب الأربعة وترجيح قول الشافعي بالدليل.

ـ كتاب العقائد.

ـ عبر العاشقين.

ـ رباعيات من الشعر الفارسي.

ويقول الشيخ في الفصل الحادي والثلاثين من «عبر العاشقين» : بعنوان كمال

المعشوق ما نصه : إن الله سبحانه وتعالى ذاته القديمة موصوفة أزلا وأبدا بصفاته القديمة ، ومن جملة صفات الحق : (الأول ، العشق) وقد عشق ذاته بذاته ، فهو العشق والعاشق والمعشوق ، فصار العشق واحد ، صفة له قائمة به لا تغير فيها ؛ بل هو عاشق بنفسه لا يجوز له التغير الحدثاني وأعرف محبة الحق في أن يكون علمه لم يزل محبا بنفسه لنفسه ؛ كمال المحبة ، فالمحبة صفة الحق ، فلا تخطئ في الاسم ، فإن العشق والمحبة أمر! إنه لم يزل علما بنفسه وناظرا إلى نفسه بنفسه ، لا يوجد انقسام في أحديته ، ولما أراد ـ تعالى ـ أن يفتح كنز الذات بمفتاح الصفات ، تجلى على أرواح العارفين بجمال العشق ، وظهر لهم بصفات خاصة ، وأنهم حصلوا في كل صفة لباسا ، فمن العلم علما ، ومن القدرة قدرة ، ومن السمع سمعا ، ومن البصر بصرا ، ومن الكلام كلاما ، ومن الإرادة إرادة ، ومن الحياة حياة ، ومن الجمال جمالا ، ومن العظمة عظمة ، ومن البقاء بقاء ، ومن المحبة محبة ومن العشق عشقا ؛ كانت كل هذه (هو) فيهم ، وأثرت الصفات فيهم ، والصفة قائمة بالذات ، فأصبحت صفتهم قائمة من أثر ذلك ؛ لا يوجد من (الحلول) شيء في العالم : العبد عبد والربّ ربّ.

فأصل العشق قديم ، وعشاق الحق قدماء! عشقهم بالروح ، والعشق لألباب الأرض القديمة الذي التف حول شجرة روح العاشق ، والعشق سيف يقطع رأس الحدوث من العاشق ، وهو ذروة قاعدة الصفات ، فما وصلتها روح العاشق إلا واستسلمت للعشق ، وكل من صار معشوقا للحق ، وعاشقا للحق ، لا يستطيع النزول من تلك الذروة ، ويصير في العشق متحدا بالعشق ؛ ولما اتحد العاشق والمعشوق صار العاشق والمعشوق بلون واحد ، وعندئذ يصبح العاشق حاكما في إقليم الحق ، فعندما غلب عليه الحق ، أصبح قالب صورته جنانيّا ، ونفسه روحانية ، وروحه ربانية.

العشق كمال من كمال الحق ، فإذا اتصل بالعاشق ، تحول من الحدوث المحض إلى الجلال الإلهي ، ويصبح باطنه ربانيا ويطلب معدن الأصل ، ولا يتغير من حوادث الدهور وصروف الزمان وتأثير المكان ؛ فإذا بلغ عين الكمال ، تزول ستائر الربوبية! والعاشق الرباني يذهب بالمعدن الأصلي ، وليس في العشق مقصود ، فالعشق مع المقصود ليس بموجود :

العشق والمقصود كفر

والعاشق برئ من روحه

وليس للصورة مكان في العالم العشق ؛ لأن العقل والنفس ليسا معا في طريق

العشق ، فالعشق هو الطائر الطاهر للروح ـ والعشق والروح ، كالحمام والصقر :

العشق لا يقبل النفس الحية

والصقر لا يصطاد الفأرة الميتة

الأمر والنهي منسوخان في طريق العشق!

والكفر والدين حجبا عن سراي العشق!

والآفاق محترقة بإشراق العشق!

والكون مضمحل تحت حافر فرس العشق!

عند من كان العشق مرشده

يكون الكفر والدين ستار بابه

وجوهرة العشق عجنت من الأزل ، ولم يكن في ذلك العالم للروح والعقل من طريق ؛ كل من ظهر له طريق العشق ، يخطف جوهر أوصافه من هذه التربة :

أم كان في الكائنات من جزء وكل

هي أطواق قناطر العشق

العشق أرقى من العقل والروح

«لي مع الله» هو وقت الرجال

وليس في العشق مجوسية ولا كفر ، ولا شراسة ولا بلاهة ، وصفة العشاق كمال الحيرة .. والخضوع صفة المتيمن.

يجعل حمل العشق الطفل شيخا

ويجعل العشق الباشق صيّاد البعوضة

والجنة مأوى الزاهدين ، والحضرة مأوى العاشقين! ليس في العشق فجاجة ، وليس في طريقه عجز ولا ضعف.

وكل ما قلناه ليس من صفة العشق العاشق .. ونهاية العشق بداية المعرفة .. والعشق في المعرفة مبني على الكمال ؛ وإذا اتحد العاشق بالمعشوق ، بلغ مقام التوحيد. وإذا تحير في المعرفة ، فقد أحرز مقام المعرفة .. ونهاية العشق إلى هذين المقامين ؛ فإذا صار عارفا ، تبدو صفات الحق من صفاته.

ذاك الذي تكلم بالشطحيات ، إنما أراد أن يقول الحديث السبحاني (ما في الجبة) وسر (أنا الحق) وإذا لم تعرف ذلك ، فاستمع إلى قول أسد مرج التوحيد وفارس ميدان التجريد أبي بكر الشبلي ـ رحمه‌الله ـ فإنه وجد رمز ذلك الحديث ذات يوم في مجلس الموحدين ، وحيث إنهم بلغوا ذلك العالم ؛ صار قلبهم ربانيّا ، وقولهم أزليّا وأبديا .. كما قال أبو سعيد الخراز ـ رحمه‌الله تعالى ـ : للعارفين خزائن أودعوها علوما غريبة ، وأنباء عجيبة ، يتكلمون فيها بلسان الأبدية ، ويختبرون عنها بعبارات الأزلية.

من مصادر الترجمة :

ـ شذ الإزار المعروف بهزار مزار للشيرازي (٢٤٣ ، ٢٤٧).

ـ تاريخ التصوف لقاسم غانم (ص ٥٦٧).

ـ مقدمة فوائح الجمال ، يوسف زيدان (ص ٤٩).

ـ معجم المؤلفين لكحالة (٤ / ١٧٥).

* * *

مقدمة المصنف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذي كان في أزل الآزال ، موجودا بوجوده ، وذاته كنوز صفاته ، وصفاته معادن جوده ، تقدّست ذاته بذاته عن الأضداد ، وتنزّهت صفاته بصفاته عن الأنداد ، قدمه متعال عن الكون والفساد ، وأزله مسرمد إلى أبد الآباد ، تفرّد بوحدانيته عن الأماكن والأكوان ، وتوحد بجلاله عن المشابهة بالحدثان ، علم في القدم ما يبيّن بإرادته من العدم ، وأجرى بمقاديره القلم ، ورقّم على اللوح المحفوظ ما قضى وقسم ، لم يزل متكلّما بكلامه القديم ، وعالما بعلمه الأزلي الكريم ، فأوجد جوهر البسيط بقوته القدمية ، وكلماته الأزلية في فضاء القدرة ، وأبدع منه فطرة الخليقة ، وأخرج من أديان القدر المقدورات بصنع الألوهية ، ولباس العبودية ، واصطفى من تلك الجوهرة ، وطبيعة الأولية فطرة آدم عليه‌السلام على جميع العالم ، وعلّمه الأسماء كلّها ، وجعله من جميع البريّة أصلها ، وأخرج من عنصر الأرواح والأشباح ، واختار منها صفوة الأنبياء والرسل والأولياء بالرسالة والولاية ، وخاطبهم بخطابه الأزلي ، وكلامه الأبدي ، ليدعو به عباده إلى خدمته ، وشوّقهم إلى مشاهدته ، واجتبى من بينهم في الأزل روح المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأفضل الدرجات ، وأكرم المداناة ، واصطفاه المقام المحمود ، وكمال الكرم والجود ، وخاطبه بأشرف كلامه ، وأكرم فرقانه وقرآنه ، الذي فيه بيان مكنون أسرار ذاته ، وألوان صفاته ، وعجائب علومه الغيبية ، وغرائب آياته الأزلية ، وأرسله إلى كافة البريّة ؛ ليهديهم به إلى الحق والحقيقة.

ثم أعطى أزمته الظاهرة إلى يد أهل الظاهر من العلماء والحكماء ؛ حتى شرعوا في أحكامها وحدودها ورسومها وشرائعها ، وجعل خالصة أهل صفوته غيبة أسرار خطابه ، ولطائف مكنون آياته ، وتجلّى من كلامه ، بنعت الكشف والعيان والبيان لقلوبهم وأرواحهم وعقولهم وأسرارهم ، وأعلمهم علوم حقائقه ، ونوادر دقائقه ، وصفّى دروج عقولهم بكشوف أنوار جماله ، وقدّس فهومهم لسناء جلاله ، وجعلها مواضع ودائع خفي رموز خطابه ، وما أودع كتابه من غوامض أسراره ، ولطيف إشاراته من علوم المتشابهات ومشكلات الآيات ، وعرّفهم معاني ما أخفاه في القرآن بنفسه حتى عرفوا بتعريفه إياهم ، وكحّلهم بنور قربه ووصاله ، وأطلعهم على غيبيات عرائس الحكم والمعارف والكواشف ، ومعاني فهم الفهم ، وسر السر الذي ظاهره في القرآن حكم ، وفي باطنه إشارة وكشف ، الذي استأثره الحقّ

لأصفيائه ، وأكابر أوليائه ، وغرباء أحبائه من الصدّيقين والمقرّبين ، وستر هذه الأسرار والعجائب على غيرهم من علماء الظاهر ، وأهل الرسوم الذين هم في حظّ وافر من الناسخ والمنسوخ والفقه والعلم ، ومعرفة الحلال والحرام ، والحدود والأحكام.

وتلك الصفوة الصادقة الذين فتح الله على قلوبهم من لطائف دقائق كتابه ، وما كتم على أسرار غيرهم من سنيّ فضائل مكاشفاته ، نطقوا على حسب مقاماتهم بين يدي جبروته ، وقدّر سيرانهم في ميادين ملكوته بإشارات شافية ، وعبارات كافية من قلوب صافية ، وعقول راسخة ، وأرواح عاشقة ، وأسرار مقدسة ، وهم في إدراك إشارات القرآن بالتفاوت ، كتفاوتهم في درجات المعاينات ، والمكاشفات ، والحالات ، والمداناة ، ورؤية المغيّبات ، وما لاح لأسرارهم من أنوار الأزليات والأبديات ، وما بلغوا فيما نطقوا ، وأخبروا قعر بحار القرآن ؛ لأنه صفات الرحمن ، ولا يدرك جميع حقائقه أهل الحدثان.

وصلى الله على سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم السفير الأعلى ، وسيد أهل الآخرة والأولى ، وشفيع الورى الذي سافر بيداء الآزال والآباد ، ودنا من القدم حتى لم يبق بينه وبين الحق ؛ إلا قاب قوسين أو أدنى ، عليه التحية الأسنى والبركات الأنمى ، وعلى آله نجوم الهدى ، وأصحابه مصابيح الدّجى.

أما بعد ...

فإن أطيار أسراري لمّا فرغت من الطيران في المقامات والحالات ، وارتفعت من ميادين المجاهدات والمراقبات ، ووصلت إلى بساتين المكاشفات والمشاهدات ، وجلست على أغصان ورد المداناة ، وشربت شراب الوصال ، وسكرت برؤية الجمال ، وولهت في أنوار الجلال ، وصحت من مقام القدس بذوق الأنس ، وتلقفت من فلق الغيب شقائق دقائق القرآن ، ولطائف حقائق العرفان ، فطارت بأجنحة العرفان ، وترنّمت بألحان الجنان في أحسن البيان بهذا اللسان في رموز الحق التي أخفاها على فهوم أهل الرسوم.

وما تصدّيت لهذا الأمر إلا بعد خاطري بالمعرفة والحكمة الربانية ، واقتديت بالصدر الأول من المشايخ الكرام في تفسير حقائق الكلام ، ولمّا وجدت أن كلامه الأزلي لا نهاية له في الظاهر والباطن ، ولم يبلغ أحد من خلق الله إلى كماله ، وغاية معانيه ؛ لأن تحت كل حرف من حروفه بحرا من بحار الأسرار ؛ ونهرا من أنهار الأنوار ؛ لأنه وصف القدم.

وكما لا نهاية لذاته ، لا نهاية لصفاته ، قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧] ، وقال : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) [الكهف :

١٩].

وعن أبي جحيفة ، قال : سألت عليّا رضي الله عنه وكرّم الله وجهه : هل عندكم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء من الوحي سوى القرآن! قال : لا فالذي فلق الحبّة ، وبرأ النسمة إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه (١).

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن القرآن سبعة أحرف لكلّ آية منها ظهر وبطن ، ولكلّ حرف حدّ ومطلع» (٢).

وقال جعفر بن محمد : كتاب الله على أربعة أشياء : العبارة ، والإشارة ، واللطائف ، والحقائق ؛ فالعبارة للعوام ، والإشارة للخواص ، واللطائف للأولياء ، والحقائق للأنبياء.

وقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه : ما من آية إلا ولها أربعة معان : ظاهر ، وباطن ، وحد ، ومطلع ؛ فالظاهر : التلاوة ، والباطن : الفهم ، والحدّ : هو أحكام الحلال والحرام ، والمطلع هو : مراد الله من العبد بها.

قيل : القرآن عبارة ، وإشارة ، ولطائف ، وحقائق ، فالعبارة للسمع ، والإشارة للعقل ، واللطائف للمشاهدة ، والحقائق للاستسلام.

وقال الجنيد : كلام الله على أربعة معان : ظاهر ، وباطن ، وحق ، وحقيقة.

وقال جعفر الصادق : يقرأ القرآن على تسعة أوجه : الحق ، والحقيقة ، والتحقّق ، والحقائق ، والعقود ، والعهود ، والحدود ، وقطع العلائق ، وإجلال المعبود.

وقال الجريري : كلام الله متصل بعبده ، والعبد متوقع المزيد من ربه في كل حال.

وقال جعفر الصادق : أنزل القرآن على سبعة أنواع : على التعريف ، والتكليف ، والتعطيف ، والتشريف ، والتأليف ، والتخويف ، والتكفيف ، ثم نزّل أمرا ونهيا ، ووعدا ووعيدا ، ورخصا وتأسيسا ، وتمحيصا ، ثم نزّل داعيّا ، وراعيّا ، وشاهدا ، وحافظا ، وشافيّا ، ودافعا ، ونافعا ، فتعرّضت أن أغرف من هذه البحور الأزلية غرفات من حكم الأزليات ، والإشارات الأبديات التي تقصر عنها أفهام العلماء ، وعقول الحكماء ، اقتداء بالأولياء ، وأسوة بالخلفاء ، وسنة للأصفياء ، وصنّفت في حقائق القرآن كتابا موجزا مخففا لا إطالة فيه ولا إملال ، وذكرت ما سنح لي من حقيقة القرآن ، ولطائف البيان ، وإشارة الرحمن في القرآن بألفاظ لطيفة ، وعبارة شريفة ، وربّما ذكرت تفسير آية لم يفسرها المشايخ ، ثم أردفت بعد قولي

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٧١) ، والنسائي (١٤ / ٣٧٣) ، والطبراني في «الأوسط» (٦ / ١١٠).

(٢) رواه ابن حبان في صحيحه (١ / ٢٧٦) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (٣ / ٣٥٨) ، والطبراني في «الأوسط» (١ / ٢٣٦).

أقوال مشايخي مما عبارتها ألطف ، وإشارتها أظرف ببركاتهم ، وتركت كثيرا منها ؛ ليكون كتابي أخفّ محملا ، وأحسن تفصيلا ، واستخرت الله تعالى في ذلك ، واستعنت به ؛ ليكون موافقا لمراده ، ومواظبا لسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وأولياء أمته ، وهو حسبي وحسب كل ضعيف ، وسمّيتها : ب «عرائس البيان في حقائق القرآن».

وما أصبت ذلك ؛ فهو بتأييد الله ونصرته ، وما أخطأت فيه ؛ فهو لازم لي ، وأنا أستغفر الله تعالى من ذلك ، إنه غفور حليم ، جوّاد كريم ، رءوف رحيم.

سورة فاتحة الكتاب

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١))

سمّيت الفاتحة فاتحة ؛ لأنها مفتاح أبواب خزائن أسرار الكتاب ؛ ولأنها مفتاح كنوز لطائف الخطاب ، بانجلائها ينكشف جميع القرآن لأهل البيان ؛ لأن من عرف معانيها يفتح بها أقفال المتشابهات ، ويقتبس بسنائها أنوار الآيات.

(بِسْمِ) : «الباء» : كشف البقاء لأهل الفناء ، و «السين» : كشف سناء القدس لأهل الأنس ، و «الميم» : كشف الملكوت لأهل النعوت ، و «الباء» : برّه للعموم ، و «السين» : سرّه للخصوص ، و «الميم» : محبته لخصوص الخصوص ، و «الباء» : بدء العبودية ، و «السين» : سرّ الربوبية ، و «الميم» : منة في أزلية على أهل الصفوة.

و «الباء» من بسم أي : ببهائي بقاء أرواح العارفين في بحار العظمة.

و «السين» من بسم أي : بسنائي سمت أسرار السابقين في هواء الهوية.

و «الميم» من بسم أي : بمجدي وردت المواجيد قلوب الواجدين من أنوار المشاهدة.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الباء بهاؤه ، والسين سناؤه ، والميم مجده» (١).

وقيل في (بِسْمِ اللهِ) : بالله ظهرت الأشياء ، وبه فنيت ، وبتجلّيه حسنت المحاسن ، وباستناره فتحت المفاتح.

وحكي عن الجنيد أنه قال : إن أهل المعرفة نفوا عن قلوبهم كلّ شيء سوى الله ، فقال : لهم قولوا : (بِسْمِ اللهِ) أي : بي فتسمّوا ، ودعوا انتسابكم إلى آدم عليه‌السلام.

وقيل : إن «بسم» يبقى به كل الخلق ، فلو افتتح كتابه باسمه ؛ لذابت تحته حقيقة الخلائق ، إلا من كان محفوظا من نبيّ ، أو وليّ.

وروى علي بن موسى الرضا ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد قال : «بسم» : «الباء» بقاؤه ، و «السين» أسماؤه ، و «الميم» ملكه ، فإيمان المؤمن ذكره ببقائه ، وخدمة المريد ذكره بأسمائه ، والعارف فناؤه عن المملكة بالمالك لها.

وأما «الله» : فإنه اسم الجمع لا ينكشف إلا لأهل الجمع ، وكل اسم يتعلق بصفة من صفاته إلا الله ؛ فإنه يتعلق بذاته وجميع صفاته لأجل ذلك ، وهو اسم الجمع أخبر الحق عن

__________________

(١) رواه الطبري في التفسير (١ / ٨٨).

نفسه باسمه الله ، فما يعرفه إلا هو ، ولا يسمعه إلا هو ، ولا يتكلم به إلا هو ؛ لأن الألف إشارة إلى الأنانية والوحدانية ، ولا سبيل للخلق إلى معرفتها إلا الحق تعالى.

وفي اسمه «الله» لامان : الأولى : إشارة إلى الجمال ، والثانية : إشارة إلى الجلال ، والصفتان لا يعرفها إلا صاحب الصفات ، و «الهاء» : إشارة إلى هويته ، وهويته لا يعرفها إلا هو ، والخلق معزولون عن حقائقه ، فيحتجبون بحروفه عن معرفته «بالألف» : تجلّي الحق من أنانيته لقلوب الموحدين ، فتوحدوا به ، و «باللام الأولى» : تجلّي الحق من أزليته لأرواح العارفين ، فانفردوا بانفراده ، و «باللام الثانية» : تجلّى الحق من جمال مشاهدته لأسرار المحبين ، فغابوا في بحار حبّه ، و «بالهاء» : تجلّى الحق من هويته لفؤاد المقرّبين ، فتاهوا في بيداء التحيّر من سطوات عظمته.

قال الشبليّ : ما قال الله أحد سوى الله ، فإن كان من قاله بحظّ ، وأنّى يدرك الحقائق بالحظوظ.

وقال الشبليّ : الله ، فقيل له : لم لا تقول : لا إله إلا الله؟ فقال : لا أبقي به ضدّا.

وقيل في قوله : «الله» : هو المانع الذي يمنع الوصول إليه ، كما امتنع هذا الاسم عن الوصول إليه حقيقة ، كأن الذات أشد امتناعا ، عجزهم في إظهار اسمه لهم ؛ ليعلموا بذلك عجزهم عن درك ذاته.

وقيل في قوله : (اللهِ) : «الألف» : إشارة إلى الوحدانية ، و «اللام الأولى» : إشارة إلى محو الإشارات ، و «اللام الثاني» : إشارة إلى محو المحو في كشف الهاء.

وقيل : الإشارة في «الألف» هي قيام الحق بنفسه ، وانفصاله عن جميع خلقه ، فلا اتصال له بشيء من خلقه ؛ كامتناع «الألف» أن تتصل بشيء من الحروف ابتداء ، بل تتصل الحروف بها على حدّ الاحتياج إليها ، واستغنائها عنهم.

وقيل : ليس من أسماء الله اسم يبقى على إسقاط كل حرف منه إلا الله ، فإنه الله ، فإذا أسقطت منه «الألف» يكون «لله» ، فإذا أسقطت أحد لاميه يكون «له» ، فإذا أسقطت اللامين بقيت الهاء ، وهو غاية الإشارة.

وقال بعضهم : «الباء» : باب خزانة الله ، و «السين» : سين الرسالة ، و «الميم» : ملك الولاية.

وقال بعضهم : بالله سلمت قلوب أولياء الله من عذاب الله ، وبشفقته تطرّقت أسرار أصفياء الله إلى حضرته ، وبرحمته تفرّدت أفئدة خواص عباده معه.

وقال بعضهم : بالله تحيّرت قلوب العارفين في علم ذات الله ، وبشفقته توصلت علوم

العالمين في صفات الله ، وبرحمته أدركت عقول المؤمنين شواهد ما أشهدهم الله من بيان الله.

وقيل بإلهيته تفرّدت قلوب عباد الله ، وبتعطّفه صفت أرواح محبيه ، وبرحمته ذكرت نفوس عابديه.

وقيل : (بِسْمِ اللهِ) : ترياق أعطى للمؤمنين ، يدفع الله به عنهم سمّ الدنيا وضررها.

وقال جعفر الصادق : «بسم» : للعامة ، و «الله» : لخاص الخاص.

وقال سهل : «الله» : هو اسم الله الأعظم الذي حوى الأسماء والأسامي كلها ، وبين الألف واللام منه حرف مكنّي غيب من غيب إلى غيبه ، وسرّ من سرّ إلى سرّه ، وحقيقة من حقيقة إلى حقيقته ، لا ينال فهمه إلا الطاهر من الأدناس ، الآخذ من الحلال قواما لضرورة الإيمان.

وقيل : من قال بالحروف ، فإنه لم يقل الله ؛ لأنه خارج عن الحروف والحسوس ، والأوهام ، والأفهام ، ولكن رضي منّا بذلك ؛ لأنه لا سبيل إلى توحيده من حيث لا حال ولا قال.

وحكي أن أبا الحسن النوري بقي في منزله سبعة أيام لم يأكل ، ولم يشرب ، ولم ينم ، ويقول في ولهة ودهشة : الله الله ، وهو قائم يدور ؛ فأخبر الجنيد ، قال : انظروا محفوظا عليه أوقاته ، فقيل : إنه يصلي الفرائض ، فقال : الحمد لله الذي لم يجعل للشيطان له سبيلا ، ثم قال : قوموا حتى نزوره إما أن نستفيد منه ، أو نفيده ، فدخل عليه وهو في ولهه ، فقال : يا أبا الحسن ، ما الذي ولهك؟ قال : أقول : الله ، الله ، زيدوا عليّ ؛ فقال له الجنيد : انظر هل قولك الله الله ، أم قولك : إن كان كنت القائل الله الله ، فلست القائل له ، وإن كنت تقوله بنفسك ، وأنت مع نفسك ، فما معنى الوله؟ قال : نعم المؤدب كنت ، وسكن من ولهه.

أما قوله : (الرَّحْمنِ) رحم على أوليائه باسمه الرحمن ، بتعريف نفسه لهم ؛ حتى عرفوا به أسماءه ، وصفاته ، وجلاله ، وجماله ، وبه خرجت جميع الكرامات للأبدال والصدّيقين ، وبه تهيأت أسرار المقامات للأصفياء والمقرّبين ، وبه تجلّت أنوار المعارف للأتقياء والعارفين ؛ لأن اسم (الرَّحْمنِ) مخبر عن خلق الخلق ، وكرمه على جميع الخلق ، وفي اسمه (الرَّحْمنِ) ترويح أرواح الموحدين ، ومزيد أفراح العارفين ، وتربية أشباح العالمين ، وفيه نزهة المحبين ، وبهجة الشائقين ، وفرحة العاشقين ، وأمان المذنبين ، ورجاء الخائفين.

وقال بعضهم : اسمه (الرَّحْمنِ) حلاوة المنّة ، ومشاهدة القربة ، ومحافظة الحرمة.

وقال ابن عطاء : في اسمه (الرَّحْمنِ) عونه ونصرته.

وقوله (الرَّحِيمِ) : موهبة الخاص لأهل الخاص ، وهو مستند لذوي العثرات ،

ومسرة لأهل القربات.

و (الرَّحْمنِ) : مطيّة السالكين ، تسير بهم إلى معدن العناية ، و (الرَّحِيمِ) : حبل الحق للمجذوبين تجذبهم به إلى حجال الوصلة.

باسمه (الرَّحْمنِ) أمنهم من العقاب ، وباسمه (الرَّحِيمِ) أتاهم من نفائس الثواب ؛ الأول : مفتاح المكاشفة ، والآخر : مرقاة المشاهدة.

باسمه (الرَّحْمنِ) : فتح لهم الغيوب ، وباسمه (الرَّحِيمِ) : غفر لهم الذنوب.

وقال ابن عطاء : في اسمه (الرَّحِيمِ) مودة ومحبة.

وعن جعفر بن محمد في قوله : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) إنه قال : هو واقع على المريدين والمرادين ؛ فاسم (الرَّحْمنِ) : للمرادين ؛ لاستغراقهم في أنوار الحقائق ، و (الرَّحِيمِ) : للمريدين ؛ لبقائهم مع أنفسهم ، واشتغالهم بالظاهر.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤))

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١) شكر نفسه للعباد ؛ لأنه علم عجزهم عن شكره ، وأيضا : أدّب الخلق بتقدم حمده امتنانه عليهم على حمدهم نفسه.

ولسان الحمد ثلاثة : لسان الإنسانيّ ، ولسان الروحانيّ ، ولسان الربانيّ ، أما «اللسان الإنسانيّ» : فهو للعوام ، وشكره بالتحدث بإنعام الله وإكرامه ، مع تصديق القلب بأداء الشكر.

__________________

(١) لم يقل تعالى : الحمد لرب العالمين الله ؛ لكون الربوبية تلو الألوهية دون العكس ؛ فإن الألوهية كالسلطنة ، والربوبية كالوزارة ، فالسلطان مظهر الاسم الله ؛ لكمال جمعيته ، والوزير مظهر الاسم الرب ؛ لكونه في مقام التربية للعالمين ؛ كالروح والعقل ، فإن القوى والأعضاء إنما تقومان بهما ، وبهما كمال ترتبيهما ، فكما أن تعيّن الروح قبل تعيّن ما دونه ؛ فكذا تعيّن الألوهية ، ونظير ذلك الشمس مع القمر ، فإن الشمس أقدم في الوجود ؛ كتقدّم الأب على الابن.

والحاصل : إن الألوهية باطن الربوبية ، فالأولى مظهر الاسم الباطن ، والثانية مظهر الاسم الظاهر ، وكذا الحق باطن الخلق ، والشمس باطن القمر ، والأب باطن الابن ، والروح باطن الجسم ، فالظاهر مرآة الباطن في كل ذلك ؛ وإنما جعلوا الرب الاسم الأعظم أيضا ، وفي مرتبة الجلال من حيث جمعيته ؛ لأن الألوهية والربوبية لا تختصان بألوهية بعض دون بعض ، وبربوبية بعض دون بعض ، وباسم دون اسم ، وبلطف دون قهر وبالعكس ، فللسلطان الجمال والجلال ، وللوزير التربية بكل من اللطف والقهر ، فجمعية السلطان إنما تظهر في المراتب التي دون السلطنة فاعرف ذلك.

وأما «اللسان الروحانيّ» : فهو للخواص ، وهو ذكر القلب لطائف اصطناع الحق في تربية الأحوال ، وتزكية الأفعال.

وأما «اللسان الربانيّ» : فهو للعارفين ، وهو حركة السرّ ، يصدق شكر الحق جلّ جلاله بعد إدراك لطائف المعارف ، وغرائب الكواشف بنعت المشاهدة والغيبة في قربه ، واجتناء ثمرة الأنس ، وخوض الروح في بحر القدس ، وذوق الأسرار مع مباينة الأنوار.

والحامدون في حمدهم لله ، بتفاوت لسانهم في مقاماتهم ومقاصدهم ، وأهل الإرادة حمدوه بما نالوا من صفاء المعاملات ، مقرونا بنور القرب ، وأهل المحبة حمدوه بما نالوا من أنوار المكاشفات ، مقرونة بنور صرف الصفات ، وأهل المعرفة حمدوه بما نالوا من جمال المشاهدات ، ممزوجا بعلم الربوبية ، وأهل التوحيد حمدوه بما نالوا من سناء خصائص الصفات ، وجلال قدم الذات ، مشوبا بنعت البقاء ، وأهل شهود الأزل بنعت الأنس حمدوه بما لاح في قلوبهم من نور القدس ، وقدس القدس ، وبما أودع الله أرواحهم من أسرار علوم القدم ، وما أفرد مواطن أسرارهم من غصن الأبصار في تعرض الحدثان عند حقائقها ، وما خصها بكشف الكشاف ، فحمدهم بالبسط والرجاء والانبساط شطح ، وحمده في الاصطلام والمحو خرس.

كما قال عليه‌السلام : «لا أحصي ثناء عليك» (١) في قبضه عن تحصيل شكر رؤية القدم ، فلسان التحميد لأهل التفرقة ، ولسان الحمد في رؤية المحمود صفات أهل الجمع.

وقيل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : ما قضى وقدّر بإدراك ، على ما هدى وحفظ ، وعلى ما أرشدوا ، وعلى ما اختاروا.

وقال أبو الوزير الركبي في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : عن الله ، قال : لو عرّفت ذلك عبدي ، لما شكرت غيري.

وقال أبو بكر بن أبي طاهر : ما خلق الله شيئا من خلقه ؛ إلا وألهمه الحمد ، ثم جعل فاتحة كتابه ، وفرضها عليهم في صلاته.

وقال ابن عطاء : «الحمد لله» معناها الشكر لله إذا كان منه الامتنان على تعليمنا إيّاه حتى حمدنا.

وقيل : معنى «الحمد لله» أي : أنت المحمود جميع صفاتك وأفعالك.

وقيل : «الحمد لله» أي : لا جامد لله إلا الله.

وذكر عن جعفر الصادق في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، قال : من حمده ، فقال : من حمد

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ٣٥٢).

بصفاته كما وصف نفسه فقد حمده ؛ لأن الحمد حاء ، وميم ، ودال ؛ «فالحاء» من الوحدانية ، و «الميم» من الملك ، و «الدال» من الديمومية ، فمن عرفه بالوحدانية والديمومية والملك ؛ فقد عرفه.

وقال رجل بين يدي الجنيد : «الحمد لله» ، فقال له : أتممها كما قال الله ، قل : (رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فقال له الرجل : ومن العالمون حتى يذكروا مع الحق؟! فقال : قله يا أخي ، فإن الحادث إذا قارن بالقديم لا يبقى له أثر.

قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) ؛ لأنه أظهر نفسه عليهم حتى نالوا من بركاتهم ما هداهم إلى معرفته ، فربّاهم بها على قدر مذاقهم ، فربّى المريدين بشعشعة أنواره ، ولوائح أسراره ، وربّى المحبين بحلاوة مناجاته ، ولذة خطابه ، وربّى المشتاقين بحسن وصاله ، وربّى العاشقين بكشف جماله ، وربّى العارفين بمشاهدة بقائه ، ودوام أنسه ، وحقائق انبساطه ، وربّى الموحدين برؤية الوحدانية والأنانية في عين الجمع ، وجمع الجمع.

وقيل : (رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : منطقهم بحمده.

وذكر عن ابن عطاء : (رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : مربي أنفس العارفين بنور التوفيق ، وقلوب المؤمنين بالصبر والإخلاص ، وقلوب المريدين بالصدق والوفاء ، وقلوب العارفين بالفكرة والعبرة.

وقال محمد بن عليّ الترمذي : علم الله تواتر نعمه على عباده ، وغفلتهم عن القيام بشكره ، فأوجب عليهم في العبادة التي تكرر عليهم في اليوم والليلة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فيكون ذلك قياما لشكره ، وألا يغفلوا عنه ، فأبوا ذلك.

وقال بعضهم : ذكر (بِسْمِ اللهِ) ، ثم قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : أعلم أن منه المبتدأ ، وإليه المنتهى.

وقال الحارث المحاسبي : إنّ الله بدأ بحمد نفسه ، فأوجب للمؤمنين تقديم (الْحَمْدُ لِلَّهِ) في أول كل كتاب ، وكل خطبة ، وكل قول حسن ، وهو أحسن ما ابتدأ به المبتدئ ، وافتتح مقالته.

وقال بعضهم : من قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ؛ فقد قام بحق العبودية ، وشكر النعمة.

وقال بعضهم : ظهر فضل آدم على الكلّ ، بقوله حين عطس : (الْحَمْدُ لِلَّهِ).

وقال الأستاذ : مربّي الأشباح بوجود النعم ، ومربّي الأرواح بشهود الكرم.

وقوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : «بالرحمن» : سبقت رحمته غضبه ، و «بالرحيم» : حجب كرمه سخطه ، و (الرَّحْمنِ) : اسم القدم ، و «الرحيم» : اسم البقاء ، و (الرَّحْمنِ الرَّحْمنِ) : اسم الحقيقة ، و (الرَّحِيمِ) : اسم الصفة.

وقيل : (الرَّحْمنِ) بالإشراف على أسرار أوليائه ، والتجلّي لأرواح أنبيائه.

وقيل : (الرَّحْمنِ) : خاص الاسم خاص الفعل ، و (الرَّحِيمِ) : عام الاسم عام الفعل.

وقيل : (الرَّحْمنِ) بالنعمة ، و (الرَّحِيمِ) بالعصمة.

وقيل : (الرَّحْمنِ) بالتجلّي ، و (الرَّحِيمِ) بالتدلّي.

وقيل : (الرَّحْمنِ) بكشف الأنوار ، و (الرَّحِيمِ) بحفظ ودائع الأسرار.

وقيل : (الرَّحْمنِ) بذاته (١) ، و (الرَّحِيمِ) بنعوته وصفاته.

وقال سهل : بنسيم روح الله اخترع من ملكه ما شاء رحمة ؛ لأنه رحمن رحيم.

وقال الواسطي : الرحمانية تشوق الروح شوقا ، والإلهية تذوق الحق ذوقا.

وقال إبراهيم الخواص : من عرفه بأنه الرحمن الرحيم ، لزمه معرفته له بالرحمة ، الثقة به في حياته ومماته ، والعطف بالرحمة على الخلائق أجمع في الدنيا بالعوافي والأرزاق ، وفي الآخرة بالمغفرة والرحمة والغفران.

قال جعفر الصادق : (الرَّحْمنِ) : العاطف على خلقه لسابق المقدور عليهم المراقب لهم ، و (الرَّحِيمِ) : المتعطّف لهم في أمر المعاش والعوافي.

وقال الجنيد في قوله : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : الرحمة على وجهين : رحمة لطفه ، ورحمة عطفه ، فإشارة باسمه الرحمن إلى لطفه ، وإشارة باسمه الرحيم إلى عطفه.

وقال الأستاذ : (الرَّحْمنِ) : خاص الاسم ، عام المعنى ، و (الرَّحِيمِ) : عام الاسم ، خاص المعنى (٢).

__________________

(١) (الرَّحْمنِ) في الظاهر ، فيعمّ رحمته الكافر ، والأعضاء والآفاق ، فإن كل ذلك داخل تحت حيطة الاسم الظاهر.

(٢) (الرَّحِيمِ) في الباطن ، فيعمّ رحمته المؤمن والقوى والأنفس ، كما يعمّهم الرحمة الرحمانية ، فللكافر ظاهر دون باطن ؛ لأن لا آخرة له ، فإن العاقبة للمتقين ، وللمؤمن ظاهر وباطن جميعا فالظاهر مع الباطن أقوى من الظاهر بلا باطن ؛ لأن الظاهر بلا باطن محصور كالدنيا ؛ لانتهائها دون الظاهر مع الباطن ؛ كالآخرة لعدم نهايتها ، وإنما أدخلنا الآخرة في الباطن ؛ لأنها قلب الدنيا ؛ والقلب باطن بالنسبة إلى

فالرحمن : بما روّح ، و (الرَّحِيمِ) بما لوّح ، فالترويح للمباد ، والتلويح بالأنوار.

و (الرَّحْمنِ) بكشف تجلّيه ، و (الرَّحِيمِ) بلطف تولّيه.

و (الرَّحْمنِ) بما أولى من الإيمان ، و (الرَّحِيمِ) بما أسرى من العرفان.

و (الرَّحْمنِ) بما أعطى من العرفان ، و (الرَّحِيمِ) بما تولّى من الغفران.

و (الرَّحِيمِ) بما منّ به من الرضوان ، و (الرَّحْمنِ) بما يكرم به من الرضوان.

و (الرَّحِيمِ) بما يكرّم به من الرؤية والعيان ، فالرحمن بما يوفّق ، و (الرَّحِيمِ) بما يحقّق ، فالتوفيق للمعاملات ، والتحقيق للمواصلات ، فالمعاملات للقاصدين والمواصلات للواجدين.

و (الرَّحْمنِ) بما يصنع لهم ، والرحيم بما يدفع عنهم ، والصنع يجمع العناية ، والدّفع بحسن الرعاية ، إلى هاهنا كلام الأستاذ.

أمّا من اختراعي أن : اسم (الرَّحْمنِ) : محل طلوع أنوار العناية ، و (الرَّحِيمِ) : محل إشراق شمس الكفاية ، فبالعناية يهدى أهل العرفان إلى مشاهدة القدم ، وبالكفاية تحفظ حقائق إيمانهم أبدا لوجه بقاء الديموميّة ، فبالرحمن تأيّدهم ، وبالرحيم ترقيهم وتحفظهم ، فالأول : للعناية ، والآخر : للكفاية ، تغمّدهم بنور الأزلية بين الصفتين ؛ حتى يصيروا بالرحمن مشتاقين ، وبالرحيم والهين.

وقال حميد : هل يكون من الرحمن لأهل الإيمان ، إلا الأمن والأمان ، والروّية والعيان.

وقال سهل : (الرَّحْمنِ) : على عباده بالمغفرة والرضوان ، و (الرَّحِيمِ) : عليهم بالعوافي والأرزاق.

قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) : في اسم المالك رجاء المقبلين ، وتخويف المهلكين ، يجازي مقاساة ألم فراق العاشقين بمشاهدته ، ونفائس كرامته ، ويجازي عموم المحبّين بكشف جماله وجلاله ، ويجازي المعاملة الصادقين ، بإدخالهم في جنانه ، وإسكانهم في جواره.

وقال ابن عطاء : يجازى يوم الحساب كل صنف بمقصودهم وهمّتهم ، ويجازي العارفين

__________________

القلب ، فكما ينتهي حكم الدنيا ، ويظهر الآخرة على صورتها ؛ فيكون الدنيا باطنة ، والآخرة ظاهر ؛ فكذا يظهر القلب في الآخرة على صورة القالب ، فيكون القالب باطنا ، والقلب ظاهرا ، وبه يصحّ رؤية الله تعالى كما يصحّ ذلك في الدنيا بالبصيرة ، فانظر إلى هذا ، وكن على بصيرة من الأمر ، فإن الأمر ليس كما يزعمه المنكرون من المعتزلة وغيرهم ، والله رقيب شهيد.

بالقرب منه ، والنظر إلى وجهه الكريم ، ويجازي أرباب المعاملات بالحسنات.

وقيل : مالك يوم الكشف والأشهاد ؛ ليجازي كل نفس بما تسعى.

وقال الأستاذ : مالك نفوس العابدين ، فصرّفها في خدمته ، ومالك قلوب العارفين ، فشرّفها ، ومالك نفوس القاصدين ، فيتّمها ، ومالك قلوب الواجدين ، فهيّمها ، ومالك أشباح من عبده ، فلاطفها بنواله وأفضاله ، ومالك أرواح من أحبّه ، فكاشفها بنعت جلاله ووصف جماله ، ومالك زمام أرباب التوحيد ، فصرّفهم حيث شاء كما شاء ، ووفّقهم حيث شاء كما شاء على ما يشاء كما شاء لم تكلهم إليهم لحظة ، ولا ملكهم من أمرهم سيئة ، ولا خطرة أفناهم له عنهم (١).

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦))

قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أي : بمعونتك نعبدك ، لا بحولنا وقوّتنا ، وإيّاك نستعين بتمام عبوديتك ، ودوام سترك علينا حتى نرى فضلك ، ولا ننظر إلى أعمالنا.

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) أي : إيّاك نعبد لا برؤية المعاملات ، وطلب المكافآت ، و (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أي : نستعينك بمزيد العنايات ، بنعت العصمة عن القطيعة.

وأيضا : إيّاك نعبد بالمراقبة ، وإيّاك نستعين بكشف المشاهدة.

وأيضا : إيّاك نعبد بعلم اليقين ، وإيّاك نستعين بحق اليقين.

وأيضا : وإيّاك نعبد بالغيبة ، وإيّاك نستعين بالرؤية.

وقيل : إيّاك نعبد بقطع العلائق والأغراض ، وإيّاك نستعين على ثبات هذا الحال بك ولا بنا.

وقيل : إيّاك نعبد بالعلم ، وإيّاك نستعين بالمعرفة.

وقيل : إيّاك نعبد بأمرك ، وإيّاك نستعين علينا بفضلك.

قال سهل : إيّاك نعبد بهدايتك ، وإيّاك نستعين بكلاءتك على عبادك.

قال الأنطاكي : إنما يعبد الله على أربع : على الرغبة ، والرهبة ، والحياء ، والمحبّة فأفضلها

__________________

(١) وفيه إشارة إلى أن الدنيا والآخرة ملك لله تعالى ليس لغيره في ذلك الملك يد إلا بطريق الخلافة والعارية ، فإن الدين المجازاة ، وهو جارية في الدّارين ، فهو تعالى مالك يوم الدنيا ، ويوم الآخرة ، ومالك المجازاة فيهما ، فظهر إن قيامة العارفين دائمة ؛ لكونهم مع الله تعالى في كل نفس من الأنفاس ، ومحاسبون أنفسهم في كل لحظة من لحظات ، فهم مملوكون لله تعالى ؛ لأنهم أحرار عمّا سواه تعالى ، وقائمون لربهم بالخدمة في كل حين.

المحبة التي تليها الحياء ، ثم الرهبة ، ثم الرغبة.

وقال الأستاذ : العبادة بستان القاصدين ، ومستروح المريدين ، ومرتع الأنس للمحبّين ، ومرتع البهجة للعارفين ، بها قوة أعينهم ، وفيها مسرّة قلوبهم ، ومنها راحة أبدانهم (١).

قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي : اهدنا مرادك منا ؛ لأن الطريق المستقيم ما أراد الحق من الخلق ، من الصدق والإخلاص في عبوديته.

وأيضا أرشدنا إلى ما أنت عليه.

وأيضا اهدنا إنابتك حتى نتّصف بصفاتك.

وأيضا اهدنا إلى معرفتك ، حتى نستريح من معاملتنا بنسيم أنسك ، وحقائق حسنك.

وقيل : معنى اهدنا أي : مل بقلوبنا إليك ، وأقم بهمّنا بين يديك ، وكن دليلنا منك إليك حتى لا تقطع عمّا لك بك.

وقيل أي : أرشدنا طريق المعرفة ؛ حتى نستقيم معك بخدمتك.

وقيل أي : أرنا طريق الشكر فنفرح ، ونطرب بقربك.

وقيل : اهدنا بفناء أوصاف الطريق إلى أوصافك التي لم تزل ولا تزال.

وقيل : اهدنا هدى العيان بعد البيان ؛ لنستقيم لك على حسب إرادتك.

وقيل : اهدنا هدى من يكون منك مبدأه ؛ حتى يكون إليك منتهاه.

وقيل : اهدنا الصراط المستقيم على الصراط بالغيوبة ؛ لئلا يكون مربوطا بالصراط.

قال الجنيد : إن القوم لّما سألوا الهداية عن الحيرة التي وردت عليهم عن إشهاد صفاته الأزلية ، فسألوا الهداية إلى أوصاف العبودية ؛ كيلا يستغرقوا في رؤية صفات الأزلية.

قال بعضهم : إليك قصدنا ، فقوّمنا.

وقيل : اهدنا بالقوة والتمكين.

وقال الحسين أي : اهدنا طريق المحبّة لك ، والسعي إليك.

قال الشبلي : اهدنا صراط الأولياء والأصفياء.

وقال بعضهم : أرشدنا الذي لا اعوجاج فيه ، وهو الإسلام.

وقيل : أرشدنا في الدنيا إلى الطاعات ، وبلّغنا في الآخرة الدرجات.

__________________

(١) أراد بالعبادة المبنية على التوحيد ، فإن العبادة بلا توحيد عبادة المشركين ، فلا تعود إلى الله ، وإنما تعود إلى الآلهة الذين اتّخذوها معبودين من دون الله ، دلّ على هذا تقديم المعمول الدال على القصر ، فإذا كانت العبادة مخصوصة به تعالى ؛ كانت الاستعانة أيضا كذلك ، إذ لا يستعين المرء إلا بمعبوده.

وقال الأستاذ (١) : أي أزل عنا ظلمات أحوالنا ؛ لنستضئ بأنوار قدسك عن التفيؤ لظلال طلبنا ، وارفع عنا ظل جهدنا ؛ لنستبصر بنجوم جودك ، فنجدك بك.

قال الحسين : اهدنا إلى طاعتك ، كما أرشدتنا إلى علم توحيدك.

قال علي بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ اهدنا أي : ثبّتنا على الطريق المستقيم ، والمنهج القويم.

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

قوله تعالى : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي : منازل الذين أنعمت عليهم بالمعرفة ، وحسن الأدب في الخدمة.

وأيضا «أنعمت عليهم» : باليقين التام ، والصدق على الدوام ، وإطلاعهم على مكائد النفس والشيطان ، وكشف غرائب الصفات وعجائب أنوار الذات ، والاستقامة في جميع الأحوال ، وبسعادة الهداية إلى القربة بعناية الأزلية ، وهم الأنبياء والأولياء والصدّيقين ، والمقرّبون والعارفون ، والأمناء والنجباء.

قال أبو عثمان : «أنعمت عليهم» : بأن عرّفتهم مهالك الصراط ، ومكائد الشيطان ، وجناية النفس.

وقال بعضهم : أنعمت عليهم في سابق الأزل بالسعادة.

وقال جعفر بن محمد : أنعمت عليهم بالعلم بك ، والفهم منك.

وقيل : أنعمت عليهم بمشاهدة المنعم دون النعمة.

وقال بعضهم : أنعمت عليهم بالرضا بقضائك ، وقدرك.

وقيل : أنعمت عليهم بمخالفة النفس والهوى ، والإقبال عليك بدوام الوفاء.

وقال حميد : فيما قضيته من المضار والمسار.

وقال بعضهم : أنعمت عليهم بالإقبال عليك ، والفهم عنك.

ويقال : طريق من أفنيتهم عنهم طاقتهم بك ؛ حتى لم يقفوا في الطريق ، ولم [...] عنك خفايا المكر.

وقيل : صراط من أنعمت عليهم ؛ حتى يحرسوا من مكائد الشيطان ، ومغاليط النفوس ، ومخاييل الظنون.

ويقال : من طهّرتهم من آثارهم ؛ حتى وصلوا إليك بك.

__________________

(١) في تفسيره (١ / ٧).

ويقال : صراط من أنعمت عليهم بالنظر إليك ، والاستعانة بك ، والتبرّي من الحول والقوة ، وشهود ما سبق لهم من السعادة في سابق الاختيار والعلم ، بتوحدك فيما قضيته من المسار والمضار.

ويقال : أنعمت عليهم بحفظ الأدب في أوقات الخدمة ، واستشعار نعت الهيبة.

وقيل : صراط من أنعمت عليهم ، من تأدّبوا بالخلوة عند غليات بوادي الحقائق ؛ حتى لم يخرجوا عن حد العلم ، ولم يخلوا بشيء من أمر الهيبة ، ولم يصنعوا من أحكام العبودية عند ظهور سلطان الحقيقة.

وقيل : صراط من أنعمت عليهم ؛ بل حفظت عليهم آداب الشريعة وأحكامها الشرع.

وقيل : صراط من أنعمت عليهم ؛ حتى لم تطفيء شموس معارفهم ، أنوار ورعهم ، ولم يضيفوا من أحكام العبودية عند ظهور سلطان الحقيقة.

قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) يعني : المطرودين عن باب العبودية.

وقال أبو عثمان : الذين غضبت عليهم وخذلتهم ، ولم تحفظ قلوبهم ؛ حتى تهوّدوا وتنصّروا.

وقال الأستاذ : الذين صدمتهم هوازم الخذلان ، وأدركتهم مصائب الحرمان.

قال أبو العباس الدينوري : وكّلتهم إلى حولهم وقوتهم ، وعرّيتهم من حولك وقوتك.

وقيل : هم الذين لحقهم ذل الهوان ، وأصابهم سوء الخسران ، وشغلوا في الحلال ، باجتلاب الحظوظ ، وهو في التحقيق مكر ، ويحسبون أنهم على شيء ، وللحق في شقاوتهم سرّ ، ولا الضّالين عن شهود سابق الاختيار ، وجريان تصاريف الأقدار.

(وَلَا الضَّالِّينَ) يعني : المفلسين عن نفائس المعرفة.

وأيضا غير المغضوب عليهم بالمكر والاستدراج ، ولا الضّالين عن أنوار السبل والمنهاج.

وأيضا غير المغضوب عليهم بالحجاب ، ولا الضّالين عن رؤية المآب.

وأيضا غير المغضوب عليهم بالانفصال ، ولا الضّالين عن الوصال.

وقال ابن عطاء : غير المخذولين والمطرودين والمهانين ، الذين ضلّوا عن الطريق الحق.

وقيل : غير المغضوب عليهم في طريق الهلكى ، ولا الضالين عن طريق الهدى لاتباع الهوى (١).

__________________

(١) هم الذين استعانوا بغير الله ، ولمّا كان أثر الغضب أشدّ من أثر الضلال ؛ قدّمه عليه ، وفيه إشارة إلى أن غاية الأمر بالنسبة إلى المستعين بغير الله هو الحيرة ؛ إذ لا يتم ولو قاسى كل الشدائد ، وإنما يتم منه إذا لم

وأما في قوله : آمين أي : استدعاء العارفين مزيد القربة مع استقامة المعرفة من رب العالمين ، والافتقار إلى الله بنعت الأنظار ؛ لاقتباس الأنوار.

وأيضا قاصدين إلى الله بمراتب النوعية والرهبة.

وقال ابن عطاء أي : كذلك فافعل ، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.

وقال جعفر : «آمين» : قاصدين نحوك ، وأنت أعزّ من أن تخيّب قاصدا.

سورة البقرة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩))

(الم) (١) معناه : أن «الألف» : إشارة إلى وحدانية الذات ، و «اللام» : إشارة إلى أزلية الصفات ، و «الميم» : إشارة إلى ملكه في إظهار الآيات.

«بالألف» : أخبر عن فردانية الذات ، و «باللام» : أخبر عن سرمدية الصفات ،

__________________

يكن ذلك الغير غير الحسب لشهوده الحق في كل مظهر من المظاهر.

(١) أشار بالألف إلى المبدأ الذي هو الإنسان ؛ فإنه خرج من مخرج الشأن الذاتي الغيبي الذي كان تعيّن الذات الأحدية في تلك المرتبة بالنسبة إلى سائر التعينات ؛ كتعيّن الحروف بالنسبة إلى التركيبات اللفظية ، ثم لمّا خرج بالحركة المعنوية ، والنفس الرحماني من تلك المرتبة ؛ مرّ بمرتبة الأرواح التي هي مرتبة اللام التي تعيّن مخرجها من الوسط ، فإن الأرواح متوسطة بين عالم العلم وعالم العين ، ثم مرّ بمرتبة الأجسام التي هي مرتبة الميم التي تعيّن مخرجها من الفم الذي هو آخر المخارج ، ولم يتعرّض لمرتبة المثال ، وإن كانت من الحضرات الخمس ؛ لكونها ممتزجة بالطرفين ؛ فلها وجه إلى مرتبة الأرواح ، ووجه إلى مرتبة الأجسام ، فإذا المخارج الكلية ثلاثة : المبدأ الألفي ، والوسط اللامي ، والآخر الميمي ، وما عداها فمخارج جزئية.

و «بالميم» : أخبر عن سلطانيته في إظهار الآيات.

و «الألف» : سرّ الذات ، و «اللام» : سرّ الصفات ، و «الميم» : سرّ القدم في ظهور الآيات. أما «سرّ الذات» : فلا ينكشف إلا بوحدانيّة الذات ، و «سر الصفات» : لا ينكشف إلا لمن اتخذ صفاته بالصفات ، و «سرّ القدم» : لا ينكشف إلا لمن خرج من الآيات.

تجلّى بالألف لأرواح الأنبياء من سرّ ذاته ، فأفتاها عن البشريات ، وكساها من أنوار الذات ، فخصائصهم في ذلك إظهار المعجزات ، وتجلّي باللّام لقلوب العارفين عن سرّ صفاته ، فأفناها عن الكدورات ، وألبسها من سناء الصفات ، فكرامتهم في ذلك ، إظهار الشطحيات ، وتجلّي بالميم لعقول الأولياء من سرّ قدمه ، فأفناها عن الشهوات ، وأنوارها صفاء القدرة بوسائط الآيات ، فشرفهم في ذلك ، إظهار الكرامات.

وقال جعفر الصادق : (الم) : رمز وإشارة بينه ، وبين حبيبه عليه‌السلام أراد ألا يطّلع عليه أحد سواهما ، أخرجه بحروف بعيدة عن درك الأغيار ، وفهم السرّ بينهما لا غير.

وقال بعضهم : إن الله خصّ حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الأحرف ، والمتّقي الذي وصفه الله تعالى : هو الذي عزل عن الأكوان والحدثان ؛ تورّعا عن إغواء الشيطان ، وتخلّقا بخلق الرحمن.

وقال أبو يزيد : المتّقي من إذا قال ، قال : الله ، وإذا عمل ، عمل الله.

وقال الداراني : الذين نزع من قلوبهم حب الشهوات.

وقيل : المتّقي من اتّقى رؤية تقواه ، ولم يستند إلى تقواه ، ولم يرنجاته ؛ إلا بفضل مولاه.

وقال سهل : إذا كان هو الهادي ، فمن يضلّ في ذلك الطريق ؛ إلا من سلكه على التجارب لا على العارف ، فيصدّه عن مقصده بشؤم تدبيره ، ويهلكه ولو في آخر القدم.

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) : ما غاب عن الأبصار ، منكشفا بنعت الأنوار لعيون الأسرار.

و «الإيمان بالغيب» : هو تفرّس الروح بنور اليقين مشاهدة الحق سبحانه وتعالى ، و «الإيمان بالغيب» : شوق القلب إلى لقاء الرب.

وأيضا «الإيمان» : تصديق السر ما أبصرت الروح من مكنون حقائق الغيب بنعت مباشرة حلاوة انكشاف نور الحق في صميم سرّ السرّ ، واتصاله بروقة بطنان القلب ، وتعريفه أوصاف صفات الحق عقل الكلّ.

وأيضا «الإيمان» : تصديق القلب بوجدان الروح رؤية الرب جل وعلا ، و «المؤمنون» : هم الذين صدقوا مواعيد الغيوب بعد إدراكهم مواجيد قلوبهم من رؤيتها ، ومواجيد قلوبهم

لا تكون إلا من رؤية أبصار بصائرهم أنوار غيب الغيب ، وترائي الغيب لا يكون للروح الناطقة ؛ إلا بعد أن يؤيدها الحق بتبيين البراهين ، واستكشافه حقائق الاستدلال ، بشهود الحال رؤية المدلول ، واستحكام أنوار البصيرة ، فإذا كملت هذه الأوصاف للروح ، أبصرت صفاء صحارى الغيب ، وتمكّنت تحت ركوم أنوار اليقين ، وسناء قدس الحق ، بنعت بروزه في لباس حقّ اليقين ، وحقيقة حق اليقين لا تحصل بالتحقيق ؛ إلا بعد انسلاخ السرّ عن الاستشهاد والاستدلال.

فإذا فرغ منها أوصله التأييد إلى مراتب الكشوف ، وإيضاح الفرقان ، وأورده لصدق تحقيق رؤية الغيب ، ساحات استبصار عيون النفوس ، واستغنائه بما أنس من عجائب جلال المشهود من سيرانه في عالم الشواهد.

وإذا عاين مكشوفات الغيب ببصر العرفان ، دخل في جوف إيواء عزّ الحق ، وإغناء الحق بلوائح البيان عن طلب المشاهدة ، بالفكر في الحدثان.

وتطلع له شموس أسرار أنوار القدم ، وتخلّصه بجمالها عن اقتباس مصابيح البراهين.

وإذا برق السرّ بهذه المعاني ، أشرق له حق الغيب بأوصافه ، فصار السرّ والغيب متّحدين ، ويكون السرّ غيبا بعينه ، والغيب سرّا بعينه ، فيغيّب السرّ في الغيب ، والغيب في السرّ.

وتحصيل هذا العلم أن : الغيب يصير أهلا للسرّ ، لا يحوي فوءه عنه أبدا ، وصاحبه في كل حال شاهد المشاهدة يرى في جميع الأنفاس عالم الملكوت ، وعالم الجبروت ، وهذه صفة قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الشبليّ : لمّا صفت أرواحهم ، وأشرفت همومهم ، أشرفوا على أسرار الغيب بعظم أمانيهم.

وقال بعضهم : الذين تصدّق نفوسهم أرواحهم ؛ بما أدّت إليهم من خير ما شاهدته قلوبهم ، بما غيّب عن نفوسهم.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ

تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧))

وقال أبو بكر بن طاهر : أشار الحقّ إلى إخلاص عباده المخلصين ؛ بأنهم بذلوا لمحبوبهم قلوبهم بالإيمان بالغيب ، وبذلوا له نفوسهم بالخدمة والعبودية ، بقوله سبحانه وتعالى : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) ، وبذلوا له ما ملّكهم ، فلم يبخلوا عليه بشيء من ذلك ، علما بأنها عوار في أيديهم ، وهو تعالى المالك لها ولهم على الحقيقة ، بقوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

بأنها أسباب الوصول الحق كلا (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : رعونة تشغّلها قبول الحق ، وتلهّيها بقبول الخلق.

وأيضا أي : غفلة عن ذكر العقبي ، وهمّة مشغولة بحب الدنيا (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) بتبعيدهم من قربه ، وتشغيلهم عن ذكره.

وقيل : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : بخلوّها من العصمة والتوفيق والرعاية.

وقال بعضهم : بميلهم إلى نفوسهم ، وتعظيم طاعتهم عندهم ، ومن مال إلى شيء عمي عن غيبه ، فزادهم الله مرضا ؛ بأن حسّن عندهم قبائحهم ، فافتخروا بها.

وقال سهل : «المرض» : الرياء والعجب وقلة الإخلاص ، وذلك مرض لا يداوى إلا بالجوع والتقطّع.

وقال أيضا : «مرض» : بقلة المعرفة بنعم الله تعالى ، والقعود عن القيام بشكرها ، والغفلة عنها ، وهذا مرض القلب الذي ربما يتعدّى.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أي : لا تنكروا أولياء الله ، ولا تشوّشوا قلوب المريدين ، بغيبة شيوخهم عندهم ، ولا تلقوهم إلى تهلكة الفراق ، وقنطرة النفاق.

وأيضا لا تخرّبوا مزارع الإيمان في قلوبكم ، بالركون إلى الدنيا ولذّاتها.

أما قولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) : فأوقعهم الله في شرّ الاستدراج ، وحجبهم عن إصلاح المنهاج ، فرأوا مساوءهم المحاسن ، فاحتجبوا عن المعنى ، وخرجوا بالدعوى ، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا في ترك نصيحة العلماء ، ومصادفة الأولياء ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ).

وقيل : (هُمُ الْمُفْسِدُونَ) : بعصيان الناصحين لهم ، (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) ؛ لأنهم محجوبون عن طرق الإنابة والهداية.

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي : يتركهم على ما هم عليه ، ولا يهديهم إليه.

وأيضا يريهم الأعمال ، ويحرّم عليهم الأحوال.

وقيل : يحسّن في أعينهم قبائح أفعالهم.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) : لما احتجبوا عن رؤية حقيقة مشاهدة الأحوال ، ولم ينالوا عزة معاني القربة ، آثروا حظوظهم على ما أوتوا من الكرامات الظاهرة حين باعوها بلذائذ الشهوة ، وهذه صفة إبليس وبلعام وبرصيصا ، وأمثالهم من أهل الخداع.

وقال ابن عطاء : القناعة بالحرص ، والإقبال على الله تعالى بالميل إلى الدنيا.

(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) : ما ربح من يبدّل بي سواي.

(وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) : في سابق علمي فلأجل ذلك مالوا عني.

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) : هذا مثل من دخل طريق الأولياء بالتقليد لا بالتحقيق ، يعمل عمل الظاهر ، وما وجد حلاوة الباطن ، فترك الأعمال بعد فقدان الأحوال.

وأيضا مثل من استوقد نيران الدعوى ، وليس معه حقيقة الغنى ، فأضاءت ظواهره بالصيت والقبول ، فأفشى الله نفاقه بين الخلق ؛ حتى يبدوه في أخسّ السخرية ، ولا يجد مناصا من فضاحة الدنيا والآخرة.

وقال أبو الحسن الورّاق : هذا مثل ضربه الله لمن لم تصحّ له أحوال الإرادة ، فارتقى من تلك الأحوال بالدعاء إلى أحوال الأكابر ، فكان يضيء عليه الأحوال الإرادية لو صحّحها بملازمة آدابها ، فلمّا مزجها بالدعاوى ، أذهب الله عنه تلك الأنوار ، وبقي في ظلمات دعاويه ، لا يبصر طريق الخروج منها.

وقال الواسطي : آمنوا بالغيب ، ولما عاينوا الحق في القيامة ، علموا حقيقة أن ما آمنوا به بعيد مما شاهدوا.

وقال بعضهم : الله غيب ، وهو مغيّب الغيب ، والقلب غيب ، فإذا آمن الغيب بالغيب ، رفع الحجاب عن الغيب ، فوجد في غيب الغيب صاحب الغيب ، وذلك قوله سبحانه : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ).

قال بعضهم : الذين يؤمنون بالغيب في الغيب للغيب.

وقال الأستاذ : حقيقة الإيمان التصديق ، ثم التحقيق ، وموجب الأمرين التوفيق ، فالتصديق بالعقد ، والتحقيق ببذل الجهد في حفظ العهد.

وفرسان أهل الغيب خمس طوائف : النفوس ، والأرواح ، والعقول ، والقلوب ، والأسرار ، ومشاربهم متفاوتة : فمشرب صرف بلا مزاج ، ومشرب عذب بلا أجاج ، ومشرب ملح ، ومشرب ريّق ، ومشرب سائق ، ومشرب زنجبيل المحبّة ، ومشرب سلسبيل المعرفة ،

ومشرب تسنيم المشاهدة ، ومشرب عين المكاشفة ، وقائد التوفيق يقود طائفة السعادة إلى مناهل القربة ، وسائق الخذلان يسوق طائفة الشقاوة إلى موارد الشهود ، وموارد النفوس التي تردّها هي أسنّ المنى ، وأحسن الهوى ، ومناهل الشهوات ، سواحل نهر الغفلات ، ومشارب الأرواح التي تردّها هي سواقي المشاهدات والمكاشفات ، وعيون القلوب التي تردّها هي صفاء المعاملات ، وأنوار المناجاة ، والأنهار التي تردّها العقول هي مشاهدة الربوبية ، وإدراك نور القربة من مرآة الآيات ، والينابيع التي تردّها الأسرار هي عجائب كشوف جمال القدم ، وشهودها مشهد التوحيد ، وحقائق حق الربوبية ، ومطالع شموس الصفات ، ومشارق أقمار أنوار الذات ، فالزهاد أصحاب العقول ، ومشربهم الطاعات والعبادات ، والمحبوبون هم أصحاب القلوب ، ومشربهم الوجود والحالات ، والعارفون هم أصحاب الأرواح ، ومشربهم المراقبات والأنس والخلوات ، والموحدون هم أصحاب الأسرار ، ومشربهم التفرّد عن الأكوان ، والتجرّد عن الحدثان ، والبطّالون هم أصحاب النفوس ، ومشربهم الدعاوى والأباطيل ، والترهات والمزخرفات.

وقيل : «الغيب» : هو الله تعالى.

وقال بعض العارفين : «الغيب» : هو مشاهدة الكلّ بعين الحق.

وقال أبو يزيد : لا يؤمن بالغيب ، من لم يكن معه سراج من الغيب.

(وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) : يراقبون أوقات الصلاة ؛ لاستنشاق نفحات الصفات ، وإقامة الصلاة حفظ آداب العبودية في جناب الربوبيّة ، بنعت الافتقار إلى مشاهدة الملك الجبّار ؛ لأن في الصلاة قرّة عيون العارفين ، ومناجاة المحبّين ، ومشاهدة الحق للشائقين.

وقال ابن عطاء : إقامة الصلاة حفظ حدودها ، مع حفظ السرّ مع الله ألا يختلج بسرّه سواه.

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي : يطلبون قرب الرزّاق بخروجهم عن الأرزاق.

وأيضا يتقرّبون إليه بما نالوا منه.

وأيضا يتخلّقون بخلقه في الإكرام والإعطاء.

وأيضا يتحدّثون بما وجدوا من أنوار الكواشف ، وكرائم المعارف عند السالكين الصادقين.

وقيل : في الإمساك لذّة ، وفي الإنفاق لذّة ، وكلّ ما يلتذّ به فهو بعيد من عين الحق.

وقيل : ينفقون مما خصصناهم به من أنوار المعرفة ، يفيضون بركاتها ونورها على من تبعهم.

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)) أي : أولئك على حقيقة يقين ، متّصلة بأنوار المعرفة ، أن الله تعالى بلا معارضة النفس ، وريب الشيطان ، مفلحون من مكائدهما ووساوسهما.

وأيضا مفلحون من الله بالله.

وقيل : أولئك الذين لزموا طريق المفاصلة بالانفصال عما سوى الحق ما فلحوا فانقطع الحجب عن قلوبهم فشاهدوا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦)) أي : إن الذين احتجبوا عنا بحظوظ البشريات سواء عندهم إنذارك بقطيعتنا عنهم ، وتخويفك بعقوبتنا عليهم ؛ لأنهم في مهمة الغفلة عن مباشرة المعرفة ، لا يقرون باللقاء والمشاهدة ؛ لاستغراقهم في بحار الشهوة.

وقيل : إن الذين ضلّوا عن رؤية منني عليهم في الشبق سواء عندهم من شاهد الأعواض في خدمتي ، ومن شاهد المعوّض لا تخلص سرائرهم ، ولا يثبت لهم الإيمان الغيبيّ ، وإنما إيمانهم على العبادة.

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : ما نظر إليها منذ خلقها ، فحرّم عليها أنوار ذكره ، ومواصلة إلهامه.

(وَعَلى سَمْعِهِمْ) أي : على سمعهم وقر الضلال ، فلم يسمعوا حقائق الخطاب ، (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) أي : على أبصارهم غطاء القصر ، فلم يبصروا بها طراوة صفة الصانع في الصنع ، ولم يتفرّسوا بالبصائر ما كشف الله لأهل الإيمان من ملكوت السماوات والأرض.

(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) : عذابهم بعدهم عن قرب مولاهم حتى لم يدركوا بركات كراماته.

وقيل : أهل البصر نظروا من الله إلى الأشياء ، فشاهدوها في أسرار القدرة ، وأهل النظر استدلوا بالأشياء على الله ، فحجبهم عقولهم ، واستدلالاتهم عن بلوغ كنه المعرفة بالله.

قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : «طبع الله على قلوبهم برؤية أفعالهم بمعاونة النفوس ، حتى كفروا سرّا ، وآمنوا علانية».

قال جعفر الصادق : الختم على وجوه : منهم من ختم على قلبه برؤية فعله ، ومنهم من ختم على قلبه برؤية الأعواض ، ومنهم من ختم قلبه بالإسلام ، ومنهم من ختم قلبه بالإيمان ، ومنهم من ختم قلبه بالمعرفة ، ومنهم من ختم قلبه بالتوحيد ، فكلّ واقف مع ذلك الختم.

وقال سهل : أسبل عليهم ستر شقاوة ، فصمّوا عن سماع الحق ، وعموا عن ذكره (١).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)) : هؤلاء أهل الدعاوى الذين يزيّنون ظواهرهم بشعار المخلصين ، ويخرّبون بواطنهم بسوء أخلاق المنافقين ، كلامهم كلام الصدّيقين ، وأفعالهم أفعال المكذّبين.

وقيل : إن الناس اسم جنس ، واسم الجنس لا تخاطب به الأولياء.

وقال بعضهم : ليس الإيمان ما يتزيّن العبيد قولا وفعلا ، لكن الإيمان جري السعادة في سابق الأزل ، وأمّا ظهورها على الهياكل ، فربما يكون عوارض ، وربما يكون حقائق.

(يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي : يخادعون أولياء الله من حيث إقرار الإيمان بالقلوب ، وإخفاء التداهن في النفوس ، (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) حين لا يعلمون تفرّس أهل الولاية ، فيفتضحون عندهم ، وأما خدعهم مع أهل الإيمان ، من حيث الظواهر قولا وفعلا ، ودسائسهم في البواطن حقدا وبعدا.

وأيضا يخادعون الله بالفرار ، والذين آمنوا بالإقرار.

وقال بعض العراقيين : الخداع والمكر تنبيه من جهة شهود السعايات ، والالتفات إلى الطاعات ؛ كي لا يعتقد فيها بأنها أسباب الوصول الحقّ كلّ.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : رعونة تشغلها بقبول الحق ، وتلهيها بقبول الخلق.

وأيضا أي : غفلة عن ذكر العقبى ، وهمّة مشغولة بحب الدنيا ، (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) بتبعيدهم من قربه ، وتشغيلهم عن ذكره.

وقيل : في قلوبهم مرض ، بخلّوها من العصمة والتوفيق والرعاية.

وقال بعضهم : بميلهم إلى نفوسهم ، وتعظيم طاعتهم عندهم ، ومن مال إلى شيء ، عمى عن غيبه ، فزادهم الله مرضا ؛ بأن حسّن عندهم قبائحهم ، فافتخروا بها.

وقال سهل : «المرض» : الرياء والعجب وقلة الإخلاص ، وذلك مرض لا يداوى إلا

__________________

(١) وفسر ابن عطية الختم بثلاثة أوجه : الأول : أنه حسي حقيقة ، فإن القلب على هيئة الكف ينقبض مع زيادة الضلال كما ينقبض الكف إصبعا ، إصبعا.

الثاني : أنّه مجاز عبارة عن خلق الضّلال في قلوبهم وأنّ ما خلق الله في قلوبهم من الكفر والضلال والإعراض عن الإيمان سمّاه ختما.

الثالث : إنّه مجاز في الإسناد كما يقال : أهلك المال فلانا وإنّما أهلكه سوء تصرفه فيه.

قال ابن عرفة : وسكت ابن عطية عن هذا الثالث وهو إنما يناسب مذهب المعتزلة ولما جاءت الآية مصادمة لمذهبهم تأولها الزمخشري وأطال وقال : إنه مجاز واستعارة.

بالجوع والتقطّع.

وقال أيضا «مرض» : بقلة المعرفة بنعم الله تعالى ، والقعود عن القيام بشكرها ، والغفلة عنها وهذا مرض القلب الذي ربما يتعدّى.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أي : لا تنكروا أولياء الله ، ولا تشوّشوا قلوب المريدين بغيبة شيوخهم عندهم ، ولا تلقوهم إلى تهلكة الفراق ، وقنطرة النفاق.

وأيضا لا تخرّبوا مزارع الإيمان في قلوبكم ، بالركون إلى الدنيا ولذّاتها.

أمّا قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) : فأوقعهم الله في شرّ الاستدراج ، وحجبهم عن إصلاح المنهاج ، فرأوا مساوئهم المحاسن ، فاحتجبوا عن المعنى ، وخرجوا بالدعوى ، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا في ترك نصيحة العلماء ، ومصادفة الأولياء ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ).

وقيل : هم المفسدون بعصيان الناصحين لهم ، ولكن لا يشعرون ؛ لأنهم محجوبون عن طريق الإنابة والهداية.

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي : يتركهم على ما هم عليه ، ولا يهديهم إليه ، وأيضا يريهم الأعمال ، ويحرّم عليهم الأحوال ، وقيل : يحسّن في أعينهم قبائح أفعالهم.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) : لما احتجبوا عن رؤية حقيقة مشاهدة الأحوال ، ولم ينالوا عزّة معاني القربة ، أثروا حظوظهم على ما أوتوا من الكرامات الظاهرة ، حين باعوها بلذائذ الشهوة ، وهذه صفة إبليس ، وبلعام ، وبرصيصا وأمثالهم من أهل الخداع.

وقال ابن عطاء : القناعة بالحرص ، والإقبال على الله تعالى بالميل إلى الدنيا.

(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) : ما ربح من يبدّل بي سواي.

(وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) : في سابق علمي ، فلأجل ذلك مالوا عني.

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) : هذا مثل من دخل طريق الأولياء بالتقليد لا بالتحقيق ، يعمل عمل الظاهر ، وما وجد حلاوة الباطن ، فترك الأعمال بعد فقدان الأحوال.

وأيضا مثل من استوقد نيران الدعوى ، وليس معه حقيقة الغنى ، فأضاءت ظواهره بالصيت والقبول ، فأفشى الله نفاقه بين الخلق حتى يبدوه في أخسّ السخرية ، ولا يجد مناصّا من فضاحة الدنيا والآخرة.

وقال أبو الحسن الورّاق : هذا مثل ضربة الله لمن لم تصح له أحوال الإرادة ، فارتقى من تلك الأحوال بالدعاوى إلى أحوال الأكابر ، فكان يضيء عليه الأحوال الإرادية ، لو صحّحها

بملازمة آدابها ، فلما مزجها بالدعاوى ، أذهب الله عنه تلك الأنوار ، وبقي في ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها.

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))

قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي : صمّت أسماع أرواحهم عن أصوات الوصلة ، وحقائق إلهام القربة التي يعرّف بها الحق عن صفاته لأوليائه ، بكم عن تعريف علل بواطنهم عند أطبّاء القلوب عجبا ونفاقا ، عمّى عن رؤية خاتمتهم التي ختم لهم الحرمان والشقاء ، وأيضا عمّي عن رؤية أنوار جمال الحق في سماء أوليائه ، وحسن أفعاله في آياته.

وقال بعضهم : «صمّ» : لا يسمعون القرآن ، «بكمّ» : لا يتكلمون بالإيمان ، عمي لا يرون دلائل الرحمن.

وقيل : صمّت آذان قلوبهم ، وخرست ألسنتهم عن الذكر ، وعميت أعين صدورهم عن الاعتبار.

وقال الجنيد : صمّوا عن فهم ما سمعوا ، وبكموا عن عبادة ما عرفوا ، وعموا عن البصيرة فيما إليه دعواهم.

(كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) أي : إذا وجدوا من طاعتهم

حلاوة وعوضا عاجلا ، فشرعوا فيها ، وإذا احتبس عليهم طريق الكرامات ، فتركوا جميع الطاعات.

قال الحسين : إذا أضاءهم مرادهم من الدنيا والدين ألفوه ، وإذا أظلم عليهم من خلاف بعقولهم قاموا مجهولين.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) أي : شرّفوا أنفسكم بعبادة ربكم.

وأيضا اشكروا نعمة معرفتي بعبادتي ، وقيل : وحّدوا ربكم.

وقال جعفر الصادق : بيّنوا ربوبيته ، ثم اعبدوه على حد الهيبة والإجلال ، وعاينوا أوّل تربيّتكم ؛ لتعلموا خصوصيته إيّاكم من بين سائر خلقه.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً) : أشار بهذا إلى ترك المرتع والمنظر ، ما دامت الأرض لغرماء الحق ، ولعمّار السماء غطاء.

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) : بيّن للعباد أمر رزقهم ، أنه ليس من عند غير الله ، حتى يشتغلوا عن عبادة ربّه باهتمام الرزق.

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) أي : فلا تجعلوا لله شريكا في طلب رزقكم منه بعبادة ربكم ، ولا تبيعوا عبادة الله بمال الدنيا.

(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) : إن الله تعالى رازقكم وخالقكم ، أي : لا تكونوا مرائين ، وللطاعة بائعين ، وللدنيا وقبولها مشترين.

قال سهل أي : لا تجعلوا لله أضدادا ، وأكبر الأضداد النفس الأمّارة بالسوء.

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : إن لأهل المعرفة جنان جنّة العبودية ، وجنة الربوبية ، وجنة المعرفة ، وجنة المحبّة ، وجنة القربة ، وجنة المشاهدة ، وجنة المداناة ، وجنة الوصلة ، وجنة التوحيد ، وجنة البقاء ، وجنة البسط ، وجنة الرجاء ، وجنة الانبساط ، وجنة السكر ، وجنة الصحو ، وجنة الملكوت ، وجنة المكاشفة ، وجنة الحقيقة ، وجنة العلم ، ولكل جنة منها نهر تجري من تحتها ، فجنة العبودية الكرامات ، ونهرها حقائق الحكمة ، وجنة الربوبية مشاهدة صرف القدرة ، ونهرها رؤية تجلّي الحق في مرآة الآيات ، وجنة المعرفة إدراك نوادر الألوهية ، ونهرها صفاء الإخلاص ، وجنة المحبّة مشاهدة الآلاء ، ونهرها الرضا بمراد المحبوب ، وجنة القربة مباشرة أنوار الصفة ، ونهرها خاصية المحبّة ، وجنة المشاهدة الدهشة في جمال الحق ، ونهرها لطائف الإشارة ، وجنّة المداناة ، والاستئناس برؤية الوصال ، والتبرّي من الحدثان ، ونهرها كشف

غرائب تجلّي الصفات ، وجنة الوصلة اللّذة في العشق ، ونهرها المحبّة ، وجنة التوحيد التلبّس باللباس الربّانيّ ، ونهرها الانسلاخ عن اللباس الإنسانيّ ، وجنة البقاء التمكين ، ونهرها السكينة ، وجنة البسط الفرج بالمشاهدة ، ونهرها الطمأنينة ، وجنة الرجاء الشوق ونهرها الأنس ، وجنة الانبساط الاتّحاد ، ونهرها الفريدة والحكم في الحضرة ، وجنة السكر حلاوة الفناء ، ونهرها صفاء عيش الروح في المشاهدة ، وجنة الصحو المعجزات وتقلّب الأعيان ، ونهرها العلم اللّدني ، وجنة الملكوت رؤية تصاوير أشخاص الأرواح ، ونهرها مزيد اليقين ، وجنة المكاشفة المراقبة بنعت وجدان صفاء المعرفة ، ونهرها أسرار الفراسات ، وجنة الحقيقة وجدان الروح في مقام الجمع والتفرقة ، ونهرها التلوين والتمكين ، وجنة علم المجهول الراحة في الشطحيات ، ونهرها غوص الروح في بحر الحقيقة (١).

(وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) : أهل جنان الوصلة إذا كشفت لهم أسرار الغيب ، رأوا مشاهدات أنوار الصفات في مقامات الأرواح ، جميعها يدلّ بعضهم بعضا ، ويحصل لهم من نور الكبرياء ، ما يحصل لهم من نور العظمة ، ومن نور القدم ما يحصل من نور البقاء ، هكذا جميع الصفات.

وأيضا إذا تمكّن أهل المشاهدة في الجنة غذاء ، ورأوا ربهم تعالى ، وجدوه على الصفة التي أظهر نفسه جلّ وعزّ لأهل المكاشفة في دار الدنيا يقولون : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) أي : ما نحن كنّا فيه من مشاهدته في العاجل ، يجدها بتلك الصفات في الآجل ؛ لأن وجوده يتغيّر بتغيّر الزمان في المكان ، أوّله في الربوبية آخره في الألوهية ، وآخره في الصمدية أوّله في الأزلية.

وقال السري في قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : أخلص سرّه ، وعبادته لي.

(أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي) أي : نور في أسرارهم وقلوبهم ، في الدنيا يستريحون إليه للتوكل والاكتفاء ، ونور في الآخرة ، بدخولهم الجنان ، ومجاورتهم الرحمن.

__________________

(١) وقال سيدي إسماعيل حقي : أي يحصل لهم جنات القربة معجلة من بذر الإيمان الحقيقي وأعمالهم القلبية الصالحة والروحية والسرية بالتوحيد والتجريد والتفريد من أشجار التوكل واليقين والزهد والورع والتقوى والصدق والإخلاص والهدى والقناعة والعفة والمروءة والفتوة والمجاهدة والمكابدة والشوق والذوق والرغبة والرهبة والخوف والخشية والرجاء والصفاء والوفاء والطلب والإرادة والمحبة والحياء والكرم والسخاوة والشجاعة والعلم والمعرفة والعزة والرفعة والقدرة والحلم والعفو والرحمة والهمة العالية وغيرها من المقامات والأخلاق تجرى من تحتها مياه العناية والتوفيق والرأفة والعطفة والفضل.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أما الذين شاهدوا بنعت الاصطفاء في مشاهد الأزل ، ورأوا جمال مشاهدة الحق ، وسمعوا كلامه ، فيعلمون أن القرآن حقّ من ربهم ؛ لأنهم صادقوا حقيقة مقام التصديق بنعت الأرواح قبل كون صورتهم ، وبعد كونها قابلوا الآخر بالأول ، والأول بالآخر ، وجدّوا صرفا صدقا ، فاستقاموا في الصدق والإخلاص حين سمعوا خطاب الحق.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) : الذين لم يبلغوا مقام المشاهدة ، وقفوا في بحر الأشكال ، ولم يهتدوا بضرب الأمثال.

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨))

قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) : القرآن بحر عجائب الربوبية ، وأخبار غرائب أسرار صفة القدسية ، فمن كحّله الله بكحل نور الحقيقة ، يرى بعين السرّ عرائس مشاهدات الصفات ويعشق بها ، ويبقى في طلب مزيد حقيقة علومها ، ويندرج بمهجته تحت أحكامها برسم العبودية ، ومتابعة المخاطبة ، ومن أعمى الله قلبه عن مشاهدة تجلّي كتابه ، يضل في طريق النكرة ، ويغرق في بحر الضلالة.

وقيل : بين العبد وبين الله بحران : بحر الهلاك وبحر النجاة ، وقد يهلك في بحر النجاة خلق كثير ، كما قال : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً).

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) : الإشارة فيه إلى حال أهل الفترة الذين سلكوا طريق أهل القصد ، ثم رجعوا إلى ما عليه عادة العوام من الرّخص والتأويل ، فمن هذا شأنه ، فقد زاغ عن محجّة المشاهدة ، وتحيّر في أودية الغفلة ، وتهيّم في سراب الفقدان محجوبا عن مشاهدة الرحمن.

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) أي : كنتم أمواتا في قبور العدم ، فأحياكم بأنوار القدم.

وأيضا كنتم أمواتا في غطاء الغفلة ، فأحياكم بروح المعرفة.

وقال الشبلي : وكنتم أمواتا عنه ، فأحياكم به.

وقال ابن عطاء : كنتم أمواتا بالظاهر ، فأحياكم بمكاشفة الأسرار ، ثم يميتكم عن أوصاف العبودية ، ثم يحييكم بأوصاف الربوبية ، ثم إليه ترجعون عند تحيّركم عن إدراكه صرف الذّات والصفات عن شواهد المعرفة في طلب الحقيقة.

قال فارس : كنتم أمواتا بشواهدكم ، فأحياكم بشواهده ، ثم يميتكم عن مشاهدكم ، ثم يحييكم بقيام الحق عنه ، ثم إليه ترجعون عن جميع ما لكم وكنتم له.

وقال الواسطيّ : وبّخهم بهذا غاية التوبيخ ؛ لأن الموات والجماد لا ينازع صانعه في شيء ، فإنما النزاع من الهياكل الروحانية.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) : لاعتباركم وامتحانكم ، حتى يميّز بين الصادق بتركها لوصوله إلى خالقها ، وبين المدّعي بسكونه إليها عن مدبّرها.

وأيضا خلق لكم ما في الأرض جميعا ؛ لتطلبوا في الأشياء خالق الأشياء ؛ لأنه أظهر نفسه في مرآة الكون للعارفين والمحبّين.

قال ابن عطاء : ليكون الكون كلّه لك ، وتكون لله ، فلا تشتغل بما لك عمن أنت له.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠))

وقال بعض البغداديين في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ) : أنعم عليكم بها ، فإن الخلق عبدة النعم ؛ لاستيلاء النعمة عليهم ، فمن ظهر للحضرة أسقط عنه بالمنعم رؤية النعم.

وقال أبو الحسين النوريّ : أعلى مقامات أهل الحقائق ، الانقطاع عن العلائق.

وقال ابن عطاء : أحكم التدبير فيهن (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي : كما زيّن ملكوت الأرض بأنوار القدرة للمؤمنين ، قصد إلى تزيين ملكوت السماء بماء العزّة للعارفين.

(إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (١) : لما لم يعرفوا الله تعالى بحقّ المعرفة ، وعجزوا عن

__________________

(١) جعل آدم خليفة ، وأعطاه حكم الخلافة ، والخليفة لفظة مؤنثة ؛ لأنها محل التكوين ، وبها ظهر الكون ، وهي زبدة مخضة الطبيعة التي ظهرت بتحريك الأفلاك وهي روح اللبن ، فإذا خرج من العالم ، فالعالم يكون كالنفل لا عبرة به ، فافهم.

إدراك الحقيقة ، وانصرفوا عن باب الربوبيّة من هجوم إجلال سطوات العزّة عليهم ، فأحالهم الحق جلّ وعزّ إلى آدم باقتباس العلم والأدب في الخدمة ؛ حتى يوصّلهم بعلم الصفات إلى ما لم ينالوا بالعبادات ؛ لأنهم عبدوا الله بالجهل ، ولم يعرفوه حق معرفته ، وهو عرف الله بحقيقة العلم الذي علّمه من العلوم اللدنية ، لا جرم أنه أستاذهم في علم المعرفة ، وإن سبقوا منه بالعبادة.

وأيضا لم يرى في الكون محبّا صافيا كما يريد ، فجعل آدم ؛ لأجل المحبّة ؛ لأنه خلق الملائكة ؛ لأجل العبادة ، فعرفهم عند المشورة مع الملائكة خلّوهم من المحبّة ؛ بشغلهم عنه بالعبادة.

وأيضا أراد الملائكة أن يروا الله تعالى ، فعلم الحق ضعفهم عن النظر إليه ، فجعل آدم لهم حتى يرونه ؛ لأن الله تعالى خلقه بيده ، وصوّره بصورته ، ووضع فيه مرآة روحه ، إذا نظروا فيها تجلّى لهم الحق تعالى.

وأيضا ليس في العالم شاهد جميل يحبّه الحق ، فخلق بيده ، وألبسه صفة من صفاته ، وأحبّه بصفاته ؛ لأجل صفاته.

وأيضا أراد الحق أن يظهر لهم نفسه في حقائق الصنع ، فانصرفوا من الحق إلى الخلق.

وقيل : عصوا الله تعالى باعتراض الحق في مذمّة آدم ، ومدح أنفسهم لمّا قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ؛ لأن الله تعالى سمّى آدم خليفة في بدأ الخطاب ، والخليفة لا يحيف ولا يجور ، فجهلوا من وصفه الله تعالى بخلافته ، وعلّمه بخصائص محبته ، ومدحه بالخلافة ، وهم عيّروه بالفسق والجهالة من سوء الظن ، وقلّة الأدب ، فكشف الله تعالى نقاب القدس عن وجه آدم ، وأنورّ بجماله العالم ، فخجلوا من دعواهم ، واعترفوا بجهلهم ، فقالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا).

وقولهم : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) : تحرّكوا من حيث الأعمال ، وشأن آدم من حيث الأحوال برؤية الفعل عن مشاهدة الاصطفائية التي سبقت بنعت الحسن لآدم.

وأيضا تعرّضوا بنعت المعبودية عند سرادق العظمة منه على الربوبية ، فأسقطهم الله عن مقام حقيقة المعرفة ، وأحوجهم باقتباس علم أحوالهم عن آدم.

قال بعضهم : لما شاهدوا أفعالهم وافتخروا بها ، ردّ الله تعالى وجوههم عنه إلى آدم ، وأمرهم بالسجود له ؛ إعلاما أن العبادة لا تزن عنده شيئا.

وقال بعضهم : من استكبر بعلمه ، واستكبر بطاعته كان الجهل وطنه ؛ ألا تراهم لما قالوا : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ألجأهم إلى أن قالوا : (لا عِلْمَ لَنا).

قال الواسطي : من قال أنا ، فقد نازع القدرة.

قالت الملائكة : (نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ، وذلك لبعدهم من المعارف ، وهم أرباب الافتخار والاعتراض على الربوبيّة ، بقوله تعالى : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها).

وقال ابن عطاء : أن الملائكة جعلوا دعاويهم وسيلة إلى الله ، فأمر الله النار ، فأحرق منهم في ساعة واحدة ألوفا ، فأقرّوا بالعجز وقالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا).

وقال جعفر : لما باهوا بأعمالهم ، وتسبيحهم وتقديسهم ، ضربهم كلهم بالجهل حتى قالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا).

وقال بعض العراقيين : شروط الخلافة رؤية بداية الأشياء فصلا ووصلا ، إذ لا فصل ، ولا وصل لم ينفصل منه شيء ، وأي وصل للحدث والقدم.

وقال بعضهم : عيّروا آدم واستصغروه ، ولم يعرفوا خصائص الصنع به ، وأظهر عليه صفات القدم ، فصار الخضوع له قربة إلى الحق ، والاستكبار عليه بعدا من الحق.

وقال أبو عثمان المغربي : ما بلاء الخلق إلا بالدعاوى.

ألا ترى الملائكة لما قالوا : (نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) كيف ردوا إلى الجهل حتى قالوا : (لا عِلْمَ لَنا).

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) : علّمه أسماء الصفات الخاصة التي عرف بها حقائق جميع الصفات ، واهتدى بأنوارها طرائق معارف الذات.

وأيضا علّمه أسماء المقامات التي هي مدارج الحالات.

وقال الجريري : علّمه اسما من أسمائه المخزونة ، فعلّم به جميع والأسامي.

وقال ابن عطاء : لو لم يكشف لآدم علم تلك والأسامي ؛ لكان أعجز من الملائكة في الإخبار عنها.

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ

(٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

وقيل : غلب علمه على علم الملائكة ؛ لقوة مشاهدة الخطاب من غير واسطة في قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (١).

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) : ألبس الملائكة لباس العبودية ، فأعجبوا بعبادتهم ، وألبس آدم لباس الرؤية ، ورقم عليه طراز صفاته ، وعرضه على الملائكة ، فرأوه ملتبسا بلباس الحق ، فخجلوا عن تعجّبهم بعبادتهم ، فأمرهم الله بسجود آدم تغييرا لهم ، وتعليما أن عبادتهم لا تزيد بالربوبية ، ولا تنقص عن الألوهية.

وأيضا لما خلّقه بخلقه ، وصوّره بصورته ، وألبسه أنواره ، ونفخ فيه من روحه ، وأسكنه جنته ، وأجلسه على سرير مملكته ، فأسجد له ملائكته ؛ حتى أكمل له في العبودية صفات الربوبية ، فلما سجد الملائكة لآدم ، فأبى إبليس عن السجود ؛ لأن الملائكة رأوا فيه سرّ الله تعالى ، وعليه لباس الله مصبوغا بصبغ الله ، ولم ير إبليس ما كشف لهم ، فأبى واستكبر من غضب الله عليه ، وكان من الكافرين ، أي : في سابق علمه من المطرودين.

وقال ابن عطاء : لما استعظموا تسبيحهم وتقديسهم ، أمرهم بالسجود لغيرهم ، يريهم به استغناؤه عنهم وعن عبادتهم.

قال الحسن بن منصور : لمّا قيل لإبليس اسجد لآدم خاطب الحق فقال : ارفع شرف السجود عن سرّي إلا لك في السجود ، حتى أسجد له إن كنت أمرتني فقد نهيتني ، فقال له :

__________________

(١) قوله تعالى : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعني : الصور التي تجلّى فيها الحق إن كنتم صادقين في قولكم : (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) ، كأنه قال لهم : وهل سبّحتموني بهذه الأسماء التي تقتضيها هذه التجلّيات التي أتجلّاها لعبادي؟ وإن كنتم صادقين في قولكم : ونقدّس ذواتنا عن الجهل بك ، فهل قدّستم ذواتكم لنا من جهلكم بهذه التجلّيات وما لها من الأسماء التي ينبغي أن تسبّحوني بها؟ فقامت عليهم الحجة في ادّعائهم الإلهيّة ، فقالت بعد العلم : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) ، واعترفت بالكمال الذي غاب عنها هذا ، وقد قال تعالى لها : إنه خليفة ، فكيف بها لو لم يقل لها ذلك ، فلم يكن ذلك إلا لبطونه على الملائكة.

فإني أعذبك عذاب الأبد ، فقال : أولست تراني في عذابك لي ، قال : بلى ، فقال : فرؤيتك لي تحملني على رؤية العذاب ، افعل بي ما شئت ، فقال : أجعلك رجيما ، قال إبليس : أوليس لم يحامد سوى غيرك ، افعل بي ما شئت.

(يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) أي : اسكن في جواري من قطيعتي ، وإن تصيبك خطيئة ، فإن في عصيانك في دار العصمة عذر عصاة أولادك من أهل التوحيد في دار المحنة ، واشتياقك إلى نعيمي بعد هجرانك من جواري ، وبلوغك بعد فنائك في القدم إلى لقائي.

وأيضا أوصاه بالتمكين عند خداع إبليس ومكره ؛ حتى لا يزول قدمه عن مقام التمكين بمقالة العين.

وأيضا أراد الله أن يعصيا فوكّلهما إلى أنفسهما ، وعزلهما عن القربة بإدخالهما في الجنة ؛ لأن آدم وحوّاء طفلا الزمان ، لا يستقران في جبروت الرحمن ، فألجأهما إلى أكل ثمار أشجار الجنان لإفراد القديم عن الحدثان ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما).

وقال القاسم : السكون في الجنة وحشة من الحق ، وأنه ردّ المخلوق إلى المخلوق ، وهو ردّ النقص إلى النقص ؛ لامتناع الأزل عن الحوادث.

وقال بعضهم : ردّهما في السكون إلى أنفسهما ووكّلهما إليها ، فقال : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ، وفي دعاء المخلوق إلى المخلوق ، إظهار العلل بمعونات الطبع.

(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) : أخفى الله تعالى في الشجر أسرار الربوبية لآدم وحواء ، ومنعهما عن قربها ؛ حتى لا يشوّش عليهما عيش الإنسانية ، ولكن هيّجهما بمنعهما عن قرب الشجرة إلى طلب تناولها ، فلمّا قربا الشجرة ، كسا الشجرة أنوار القدس ، وتجلّى الحق سبحانه لهما من الشجرة ، كما تجلّى من شجرة موسى لموسى ، فعشقا الشجرة ووقعا فيها ، ونسيا ذكر النهي عن قربها.

قال ابن عطاء : نهى عن جنس الشجرة ، فظنّ آدم أن النهي عن المشار إليه ، فتناول على حد النسيان ، وترك المحافظة لا على التعمّد والمخالفة (١).

__________________

(١) قال الشيخ نجم الدين ـ قدس‌سره ـ : إن آدم خاطبه مولاه خطاب الابتلاء والامتحان والنهى نهى تعزز ودلال كأنه قال يا آدم أبحت لك الجنة وما فيها إلا هذه الشجرة فإن الإنسان حريص على ما منع فسكنت نفس آدم على حواء وإلى الجنة وما فيها إلا إلى الشجرة المنهي عنها لأنها كانت مشتهى القلب ، وكان للنفس فيها حظ ولا يزال يزداد توقانه إليها فيقصدها حتى تناول منها فطر سر الخلافة والمحبة والمحنة والتحقق بمظاهر الجمال والجلال كالتواب والغفور والعفو والقهار والستار. والحاصل أنه لما

قال الله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥)).

(فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) أي : من المجاورين عن حد العقل إلى حد العشق.

وقال بعضهم : معناه أنه نهاهما عن قرب الشجرة ، وقضى عليهما ما قضى ؛ لنريهما عجزهما ، وإنّ العصمة هي التي تقومهما ، لا جهدهما وطاقتهما.

(وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) : الإشارة فيه أن المريد لا يجوز أن يعتدي بكل أحد ، وربما يقع بكلام أهل الخداع في هاوية الهلاك ، والمريد قد غلب عليه الإرادة ، وحلاوة المعاملة ، وكلّ من يدعوه إلى شيء من المعاملة يسمع كلامه ، وإن كان مدّعيا ؛ لأنه لا يعرف كيفية الأحوال ، فيسقط عن درجة الإرادة بشؤم صحبة الأضداد.

وأيضا من سلك طريق الشهوة ، احتجب عن مشاهدة القربة ؛ لأن سوء الأدب يوجب سقوط المريد عن درجة الحرمة.

(وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي : مشهد إسباحكم في ملكوت الأرض ، ومستقرّ أرواحكم في ملكوت الحضرة.

(وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) : «متاعهم» : أنوار تجلّي الحق يترادف على قلوبهم ؛ ليعيشوا به تسليا عن فقدان المشاهدة.

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) : «الكلمات» : ما اعتذر الله آدم من إنفاذ قضائه وقدره عليه ، فتلقّى آدم من ربه تلك الكلمات ، فاعتذر بها من الله لخطيئته.

وقيل : هي ربنا ظلمنا أنفسنا.

وقال جعفر بن محمد : قال آدم يا ربّ ما خدعت إلا بك.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) أي : اذكروا معونتي في طاعتكم وهدايتي قبل مجاهدتكم ، وما كشف لكم من أسرار معرفتي ؛ حتى لا تغترّوا بمعاملتكم.

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢)).

وقال بعضهم : ربط بني إسرائيل بذكر النعمة ، وأسقط عن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك ، فدعاهم

__________________

علم الله تعالى أنه يأكل من الشجرة نهاه ليكون أكله عصاينا يوجب توبة ومحبة وطهارة من تلوث الذنب كما قال تعالى : (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) فأورثه ذلك النهي عن أكل الشجرة عصيانا بسبب النسيان ثم توبة بسبب العصيان ثم محبة بسبب التوبة ثم طهارة بسبب المحبة. تفسير حقي (١ / ١٢٨).

إلى ذكره ، فقال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) ؛ ليكون نظر الأمة من النعمة إلى المنعم ، ونظرت أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المنعم إلى النعمة.

وقال سهل بن عبد الله : أراد الله أن يخصّ أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزيادة على الأمم ، كما خصّ نبيّهم عليه‌السلام بزيادة على الأنبياء.

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٧٥) فقال للخليل : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وقطع سرّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورؤيته عما سواه.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣))

ألم تر إلى ربك قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أي : أوفوا بما نقشت في قلوبكم من حقائق إلهامي وخطابي في جميع الأحوال بامتثال أمري ، أوف بكشف جمالي لكم حين احتجبتم عن وصالي وقربي.

وأيضا أوفوا بما أعطيكم من استعداد معرفتي وعمارة موقع نظري ، أوف بأن أطلعكم على خزائن ستري ، وحقائق علمي في سواتر غيبي.

وقال بعض البغداديين : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) ، الذي عهدتم يعني : في الميثاق الأوّل

بلفظ بلى ، فلا ترجعوا في طلب الشيء إلى غيري.

وقيل : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) : أحفظوا ودائعي عندكم لا تظهروها إلا عند أهلها ، أوف بعهدكم ، وأبيح لكم مفاتيح خزائن برّي ، وأنزلكم منازل الأصفياء.

وقال أبو عثمان : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) : في التوكّل ، أوف بعهدكم بكفاية مهمّاتكم.

وقال أبو سعيد القرشي : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) في حفظ آداب الظاهر ، أوف بعهدكم بتزيين سرائركم.

وقال بعض العراقيين : أوفوا بعهدي في العبادات ، أوف بعهدكم ، وأوصلكم إلى منازل الرعايات.

وسئل أبو عمرو البيكنديّ عن قوله : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) ، فقال وفاء العهد الأمانة ، وهو : ألّا يخالف سريرتك علانيتك ؛ لأنّ القلب أمانة ، والوفاء بالأمانة الإخلاص في العمل ، فمن لم يخلص لا نقيم له يوم القيامة وزنا.

(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) : هذا خطاب الخاص من الخاص إلى الخاص ، أمرهم بإجلال نفسه بخصائص التعظيم مع لبّ اليقين ، خوفا منه به لا عنه ، فإنه جلّ وعزّ خوّفهم بنفسه لا عن نفسه. وقال سهل بن عبد الله : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) : موضع اليقين ومعرفته ، (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) موضع العلم السابق ، وموضع المكر والاستدراج.

قوله : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) أي : بي اتّقوا منّي ، وبداية التّقوى التبرّي من الناسوت للّاهوت ، ومن الكون للمكوّن ؛ حتى بلغ حقيقة التقوى ، فاتّقى منه به له فرجا الله ، وخاف منه.

وقال بعضهم : التقوى على أربعة أوجه : «العامة» : تقوى الشرك ، و «للخاص» : ترك المعاصي ، و «للعارفين» : تقوى التوسّل ، و «لأهل الصفوة» : تقواهم منه وإليه.

وقال أبو عبد الرحمن السلميّ : التقوى النظر إلى الكون بعين النقص.

(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) أي : تخلطوا الكشف بالخيال ، والفهم بالوهم ، والفراسة بالحسّ ، والإلهام بالوسواس ، واليقين بالشك ، والعبودية بالربوبية ، والحقيقة بالرسم ، والإخلاص بالرياء ، والكرامات بالمكر.

وقال سهل : لا تخلطوا أمر الدنيا ، بأمر الآخرة.

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) أي : استعينوا بالصبر في طلب المقامات ، والصلاة في طلب المشاهدات ، أيضا استعينوا بالصبر في تزكية الأشباح ، وبالصلاة في تربية الأرواح.

وقال ابن عطاء : استعينوا على البلوغ إلى درك الحقائق.

وقال أبو عثمان : استعينوا بهم على رعاية أوقاتكم.

وقال بعض العراقيين : استعينوا بالصبر عن دون الله ، والصلاة بالوقوف بحسن الأدب مع الله.

(وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) : لأنّ في صوم الرجال إمساك عمّا سوى الله ، وفي صلاة أهل الكمال عذوبة القلب من طلب مناجاة الربّ ، ولا يستعملها إلا من خشع نفسه في العبودية ، وعشق قلبه بالربوبية.

وأيضا أمرهم بالعبودية ، وأرشدهم إلى جميع العبادة ، وهي الصوم والصلاة ، وأضاف تساهلها إلى أهل الخشوع ؛ لأنها الكبيرة على العاشقين.

وقال أبو عثمان : لمن خشع قلبه وروحه ، وستره بوارد الهيبة ، وطوالع الإجلال.

وقال بعضهم : لمن أيّد في الأزلي تخصيص الاجتباء.

وقال ابن عطاء : إنها لكبيرة إلا على من تحقّق إيمانه ، وخشع سرّه لعظمتي ، واحترقت أحشاؤه خوفا من قطيعتي.

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) : وصفهم بالظنّ ؛ لأنهم ليسوا من أهل المكاشفة الذين رأوا ربّهم بقلوبهم في غيبه ، فتوافقت بدايتهم نهايتهم.

وقيل : من وحّد الله بأفعاله وطاعته ، كان توحيده على الظنّ ؛ ألا تراه يقول : (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).

وقال أبو عبد الرحمن السلميّ : لو حقّقوا التوحيد ، كانت صلواتهم وخشوعهم عليهم زينا ، فلما ركنوا إلى أفعالهم ، كان توحيدهم ظنّا ، وطاعتهم عليهم شيئا.

قال بعضهم : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) : يتيقنون ، وإنّما أقام الظنّ مقام اليقين ؛ لأن في الظن طرفا من اليقين ، وإنما ذكر الظن إبقاء على المذنبين ، وسترا على العاصين الذين ليس لهم صفاء اليقين ، ولو ذكر اليقين صرفا ، لخرجوا من الجملة.

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) : أراد الله تعالى أن يقدّس موسى من العادة والطبيعة ورسم البشرية ، بصفاء الخلوة ، ونيران الجوع ؛ ليتهيّأ له استعداد تحمل أنوار المشاهدة والخطاب ، فصار سنّة لأوليائه من طلّاب المعرفة والمشاهدة ، تلك الأربعين.

وأيضا أراد أن يربّيه في كنف قربه ؛ حتى يقدر أن يسمع كلامه القديم ؛ لأن تحمّل الحقائق لا يكون لأحد ، حتى يستقيم في الواردات والصادرات من التجلّي والتدلّي.

(إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) (١) أي : آثرتم تمثال الشيطان على مشاهدة الرحمن.

وأيضا جهلتم صنع الخالق من صنع المخلوق.

وقيل : فيه عجل كل إنسان نفسه ، فمن أسقطه وخالف مراده هواه ، فقد بري من ظلمه.

(فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي : فارجعوا عن رؤية مواهبه إلى معرفة نفسه ، واقتلوا أنفسكم بسيوف همومكم ؛ حتى لا يزاحمكم في قربه بربكم.

وأيضا توبوا من رؤية توبتكم عليكم ، واقتلوا أنفسكم بمعرفتكم برؤية توبة ربكم عليها ، حتى توصّلكم معرفتها ومخالفتها إلى معرفة ربكم.

«التوبة» هاهنا : محو أصول الخيال عند مبادئ المكاشفات ، وقتل النفس عند وجدان المشاهدات ، قربانا من البريّات لصفات الأزليّات.

وأيضا فاقتلوا أنفسكم بالمجاهدات بعد معرفة النفوس بعين النكرة على حقيقة المعرفة ، حتى توصّلكم إلى عين الجمع ، وصرف الاتّحاد بلا رسومات البشرية.

وقيل : فاقتلوا أنفسكم في طاعته ، ثم توبوا إليه من أفعالكم وأقوالكم وطاعتكم.

قال ابن منصور : «التوبة» : محو البشرية بإثبات الإلهية ، وقتل النفس عمّا دون الله تعالى ، وعن الله حتى ترجع إلى أصل القديم ، ويبقى الحق كما لم يزل.

وقيل : إذا كان أول قدم في العبودية التوبة ، وهو إتلاف النفس وقتلها ، بترك الشهوات وقطعها عن الملاذ ، فكيف الوصول إلى شيء من منازل الصدّيقين ، وفي أول قدم منها ، تلف المهج.

وقيل : توبوا إلى بارئكم أي : ارجعوا إليه بأسراركم وقلوبكم ، واقتلوا أنفسكم بالتبري منها ؛ فإنها لا تصلح لبساط الأنس.

وقال ابن منصور : ما شرع الحقّ إليه طريقا ؛ إلا وأوائله التلف.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا

__________________

(١) إشارة إلى القوى النفسانية والطبيعية العاصية ، كما دلّ عليه قول الله تعالى : (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) [طه : ٩٠] : أي بعبادة عجل الطبيعة الذي اتخذه سامري الهوى ، مع أنه لا بدّ من ذبحه كما قال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨] ؛ وهي أمانات الأمر والنهي ، وأهلها القلب والقوى الروحانية ، وبوصولها إليها والحركة بالعمل بمقتضياتها ؛ ينكسر سورة النفس والطبيعة ، وتموت القوى الفاسدة الحاملة لموت القلب ، وحياة النفس.

إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠))

قال الله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : فما دام يصحبك تميّز وعقل ، فأنت في عين الجهل ؛ حتى يضل عقلك ، ويذهب خاطرك ، وتفقد نسبتك إذ ذاك عسى ولعلّ.

وقال الواسطي : كانت توبة بني إسرائيل إفناء أنفسهم ، ولهذه الأمة أشدّ ، وهو إفناء نفوسهم عن مرادها مع بقاء رسوم الهياكل.

وقال الفارسي : «التوبة» : محو البشرية ؛ لإثبات الإلهية.

قال الله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).

وقيل : ألقوا عن أنفسكم كل شيء ، لا يقرّبكم إلى الله تعالى.

أي : طلبتم رؤيتي ومطالعتي ؛ بتقليد موسى ، وليس لكم مقام المشاهدة ، فلمّا برز لكم ذرة من أنوار ذاتي ، فنيتم فيها واحترقتم ؛ لأنّكم في البداية ، وموسى في النهاية.

وأيضا أفنيتكم في سطوات عظمتي ، وأبقيتكم بأنوار جمالي وجلالي ، بقوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ).

وقال بعض البغداديين : من طالع الذات بغير الحرمة انمحق ، ومن طالعها بالحرمة أولى عليه صفات الجبروت والعظمة ؛ ليستغيث من ذلك بلسان العجز ، سبحانك تبت إليك.

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) : ظلّلهم بغيم القدرة ،

وأنزل منها على قلوبهم وابل المعرفة ، وأطعمة الحكمة.

وأيضا لما فرّقهم في تيه الغربة ، حلّلهم بأودية الكرامة ، وأنزل عليهم مائدة الحضرة بلا كلفة الاكتساب ، وكدّ المعاملات.

وقال الأستاذ : لما طوّحهم في شابه الغربة ، لم يرض إلا بأن ظلّلهم ، وبلبسة الكفايات جلّلهم ، وعن تكلّف التكسّب أغناهم ، وبجميل صنعه فيما احتاجوا إليه تولّاهم (١).

قوله : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) : لأرواح الخاص مشارب المعارف في بحار الذات والصفات ، يعرف كل واحد منها موردها من الحقّ سبحانه تعالى ، ومشربها بالتفاوت ، فبعضها في مقام الحيرة ، وبعضها في مقام المنّة ، وبعضها في مقام الوصلة ، وبعضها في مقام الفناء ، وبعضها في مقام البقاء ، وبعضها في مقام الجلال والجمال ، وبعضها في صرف الجبروت ، وبعضها في عالم الملكوت ، وبعضها في مشاهدة القدس ، وبعضها في رياض الأنس على حد مقاماتها ، وتفاوت سيرها.

(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) [الإنسان : ٢١].

وقيل فيه : شرب كلّ أحد حيث أنزله رائده ، فمن كان رائده نفسه ، فمشربه الدنيا ، ومن كان رائده قلبه ، فمشربه الآخرة ، ومن كان رائده سرّه ، فمشربه في الحضرة على المشاهدة ، حيث يقول عزوجل : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) طهّرهم به عن كلّ ما سواه.

وأيضا أبلاهم الله بالنعمة ، كما أبلاهم بالنقمة.

وأيضا لما عصوا الله تعالى ، أخذ عنهم لذّة ذلك الطعام ، ولم يصبروا على فقد اللذّة.

وأيضا من لم يشكر الله في نعمائه غيرها عليه ؛ حتى لم يصبر على بلائه.

وقيل : الناس فيه رجلان : رجل أزيل عنه تدبيره ، فهو مستريح في ميادين الرضا راض بأحكام القضاء فيه ساء أو سرّ ، فهو في الزيادة أبدا ، وآخر ردّ إلى تدبيره واختياره ، فلا يزال يتخبّط في تدبيره واختياره إلى أن يهلك.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ

__________________

(١) وقال أيضا : وأنزلنا عليهم المنّ والسّلوى مما نفى عنهم تعب الجوع والجهد والسعي والكد ، وفجّرنا لهم العيون عند النزول حتى كانوا يشاهدونهم عيانا ، وألقينا بقلوبهم من البراهين ما أوجب لهم قوة اليقين ؛ ولكن ليست العبرة بأفعال الخلق ولا بأعمالهم إنما المدار على مشيئة الحق ، سبحانه وتعالى فيما يمضي عليهم من فنون أحوالهم.

الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ

بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤))

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) : لم يصبروا على كل طعام الروحانيين ؛ لأنهم أهل الطباع.

قوله : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) أي : أتستبدلون طعام أهل القربة ؛ بطعام أهل الشهوة.

وقيل معناه : أتعارضون حسن اختياري لكم في الأزل ، بمخالفة السؤال والدعاء ، وما يبدّل القول لديّ.

وقال الواسطي : في هذه الآية ما يتولّاه من المن والسلوى من غير كلفة لهم ، فتبع القوم شهوة نفوسهم ، وما يليق بطباعهم ، لمّا رجع إلى الغناء والضرّ عند ذكرهم.

(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) : ضرب الله عليهم ذلّة الطغيان قبل وجود الأكوان ، وقهرهم بلطمة المسكنة في تعبّد الشيطان.

وأيضا ألبس الله قلوبهم حبّ الدنيا فقرا وسخطا ، وألبس سرائرهم بغض الآخرة خوفا ومقتا. وقيل : الذلّة والشحّ والمسكنة والحرص.

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) : «البقرة» هي : النفس الطاغية الأمّارة بالسوء المهيّجة السجيّة المذمومة التي تثبّت الطباع في مزارع الهوى ، أمرهم بقتلها عن الحياة الفانية ؛ حتى وصلوا إلى الحياة الباقية ، وأدركوا بمخالفتها درجة إحياء الموتى ، ومطالعة الغيوب ، وتفرّس القلوب.

(لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي : نفس ليست بذات صبوة في الفتور ،

ولا بذات عزّة في النفور ، ولكنها ذات شوكة وصولة في شباب الغفلة والشهوة.

(صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أي : تخرج بزيّ المعبودية رياء وسمعة ، وهو لباس واحد ظاهره سلامة ، وباطنه خيانة ، خدعت به الناظرين من الجاهلين ، وبلسان الواجدين ألبست كسوة القهر بنعت الجمع ، فإذا ظهرت من عين الجمع ، تجلّى الحقّ منها ، وجوّده بصفة الخاص التي لا يدخل فيها رسم الربوبية من القهريات واللطفيات ، فأبصرت عيون الناظرين من أهل الجمع تلك الصفة ، فسرّت أسرارهم ، وتهيّجت أنوارهم ، فبين الأسرار والأنوار فنوا من النظر إلى الأغيار.

(لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) أي : ليست بمذلّلة في عبوديتي ، ولا عامرة أرض القلب التي هي مزرعة محبّتي ، ولا ساقية بذر المحبّة في شريعة العقل ، وهي محلّ قرار قربتي (مُسَلَّمَةٌ) أي : فارغة عن العبادات ، وهي عنها بمعزل أبدية عن الحكومات ، لا رغبة لها في مناجدتي ، ولا رهبة لها عن معاقبتي ؛ لأنها خلقت من الضلالة وهي آيسة من الهداية.

(لا شِيَةَ فِيها) أي : لا سمة عليها لأحد ؛ لأنّها لا تألف الحقّ أبدا.

وقال بعضهم : لا يصلح لكرامتي ، وإظهار ولايتي عليه ؛ إلا من يذلل نفسه بالسكون إلى شيء من الأكوان ، ولم يسع في طلب الحوادث بحال مسلمة من فنون عوارض الخلاف لا شية فيها ، لا أثر عليه لأحد بالسكون إليه والاعتماد عليه ، فهو القائم بي والناظر إليّ ، والمعتمد عليّ أظهرت عليه آيات قدرتي ، وجعلته أحد شواهد عزّتي ، فمن شاهد استغرق في مشاهدته ؛ لأنه قد ألبس رداء العزّ وأنشد على إثره :

هذه إذا فانظري الدنيا بعيني واسمعي

بإذني فيها وانطقي بلساني

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) : فهم من الآية أن الله تعالى أعلمهم أنّ في قتل النفس إحياء القلب ، وفي حياة القلب حياة الروح ، وإذا صفت الروح بصفاء حياة القلب عن كدورات النفس ، تحيي جميع الأموات بأنفاسها وآثارها ، كما أحيى عيسى عليه‌السلام الموتى ؛ لأنه صاف بصفاتها من صفات النفس ، فظهرت منه الآيات والمعجزات.

وقيل فيه : إن الله أمر بقتل حيّ ليحيي ميّتهم ، أعلّمك بذلك إنه لا يحيي قلبك لأنوار المعرفة ؛ ولا لفهم الخطاب ، إلا بعد أن تقتل نفسك بالاجتهاد والرياضات ، فيبقى جسمك هيكلا لا صفة له من صفاته ، ولا يؤثر عليك بقاء صورتك فيحيي قلبك ، وتكون نفسك رسما لا حقيقة لها ، وقلبك حقيقة ليس عليه شيء من المرسومات.

قوله تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) أي : من عبدني لأجل الجزاء والعوض ، وسكن بالعطاء عن المعطي ، وأحاطت به رؤية أفعاله وأعواضه ، أولئك أصحاب البعد ، لم ينالوا قرب وصالي ، وحقيقة جمالي.

وقيل : بلى من كسب سيئة برؤية أفعاله ، وأحاطت به خطيئته بظنّه أن أفعاله وأعماله تنجّيه وتقرّبه ، فهم المبعدون عني بما تقرّبوا به إليّ.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي : الذين شاهدوا الله برسم الأرواح في فضاء الأزليات ، وخرجوا من الكائنات تهذيبا للأشباح ؛ حتى دخلوا حجال الأبديات ، أولئك أصحاب القربات ، ومشاهدات الصفات ، وسبحات جمال الذات.

(ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥))

وقيل : (آمَنُوا) أي : أيقنوا أن النجاة في سعادة الأزل ، وأنه ليس في الطاعات إلا إتباع الأمر ، وأنفوا من صالح أعمالهم لعلمهم بقصورها عن حقيقة تعبّده ، أولئك هم الواصلون إلى الرضوان الأكبر.

(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ) أي : أن يأتوكم أسارى الشوق ، وسكارى العشق ترحّمتموهم بأصوات شجيّة ، وأقوال مرفقة ، تفادوهم برؤية الصفات ، وتشغلونهم عن رؤية الآيات.

وأيضا إن يأتوكم أسارى تنكره «تفادوهم» بشواهد المعرفة.

وأيضا إن يأتوكم من غيبوبات القلوب ، تفادوهم برؤية أنوار الغيوب.

وقال أبو عثمان : وإن يأتوكم غرقى في بحر الذنوب ، تدلّوهم على طريق التوبة.

وقال الواسطيّ : إن غرّتهم رؤية أفعالهم ، تنقذوهم من ذلك برؤية المنن.

وقال الجنيد : وإن يأتوكم أساري في أسباب الدنيا ، تنقذوهم إلى قطع العلائق والأسباب ، فإنّ الحقّ أبى أن يتجلّى بقلب متعلق بسبب.

وقال بعض البغداديين : وإن يأتوكم أسارى في صفاتهم ونعوتهم تفادوهم أي : تحلّوا عنهم وثاق صفاتهم بصفات الحق ونعوته ، قوله تعالى حاكيا عنهم ، قالوا : قلوبنا غلف أي :

مسدودة بعوارض البشريات ، محجوبة عن فهم الآيات والمعجزات.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦))

وأيضا قلوبنا في فرج أصابع القهريات ، محجوبة عن لطائف الأزليات.

وقيل : حرم قسم السعادة بها في الأزل.

(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) ؛ لأنهم محجوبون عن مشاهدة الآخرة ، ومكاشفة الحضرة لغطاء الغفلة والشهوة.

وقال محمد بن الفضل : لعلمهم بما قدّموا من الآثام والخلاف ، وهذا حال الكفّار ، فوجب على المؤمن أن يكون حاله ضد هذا مشتاقا إلى الموت ؛ بمكاشفة الغيوب ، ورفع حجاب الوحشة ، والوصول إلى محلّ الأنس ؛ ألا ترى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أحبّ لقاء الله

أحب الله لقاءه» (١). وإن بلالا لمّا حضر قالت امرأته : واحزناه ، فقال : بل واطرباه بلقاء الأحبّة.

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥) ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦))

وقال الواسطيّ : جعل الموت يقظة للعالم ، فمن حجبها به حجب عن المميت ، ومتى يكون في قلبك هيبة المميت ، إذا هبّت طوارق الموت.

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) أي : ما نسخت من صفاتك شيئا عن ديوان معناي ، وهو قليل إلا رقمت فيه من صفاتي ، وما رأيتك شيئا من عجائب علمي ، إلا أراك ما هو أشرف منه.

قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [لقمان : ٢٧].

__________________

(١) رواه البخاري (٥ / ٢٣٨٧) ، ومسلم (٤ / ٢٠٦٥).

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) [النجم : ٨]. (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠].

وقيل : ما نقلّبك من حالة إلّا نوصلك إلى مقام أشرف منها وأعلي ، إلى أن تنتهي بك الأحوال إلى محلّ التداني والخطاب من غير واسطة ، بقوله : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) ، (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى).

(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢))

(بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي : من بذل مهجته لله إلا لما من الله ، وهو محسن بلا رؤية المعاملة ، ولا بجريان العارضة ، بل رؤية الحقّ بنعت فناء الحقّ ، فله مجالسة البقاء عند ربّه ، بزوال خوف الفراق ، وحزن الحجاب.

وقيل : (وَهُوَ مُحْسِنٌ) ، أي : خلصت وجوه أعماله من الرياء ، والشرك الخفيّ.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥) وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧))

وقيل في قوله : (مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) [النساء : ١٢٥] أي : أعتق وجهه عن عبودية غيره ، وهو محسن آداب العبودية ، فله أجره عند ربّه ، دوام المعونة إليه من رضاه ، ولا خوف عليهم من فوت حظّهم من الحق ولا هم يحزنون ؛ بأن يشغلهم عنه بالجنّة.

قال ابن عطاء : من جعل طريقه ووجهه ومراده وقصده وتدبيره لله ، فلا يبقي له وجه إلّا إليه ، ولا يكون إلا عليه ، وهو محسن.

قال : يري الحقّ بسرّه ، ويشاهده بحقائق معرفته ، ويطالعه بمعاني إخلاصه.

قال عبد العزيز المكيّ : في هذه الآية حال مخلص في عمله ، هائب عن ربّه.

وقال أيضا : من أخلص قلبه لله محبّة ، (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي : كامل في محبّته ، وبالغ في مودّته.

(فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أي : فأينما تولّوا بعيون الأسرار ، فثمّ مكاشفة الأنوار.

وأيضا أشار بهذه الآية إلى مشاهدة المشهود في الشواهد ، كما كشف خليله حيث قال : هذا ربّي ، إذا نظر في دائرة الكون ، وفهم هذه الآية ، أنه من نظر بعين العقل فقبلته الآيات ، ومن نظر بعين الروح فقبلته الصفات.

وقال ابن منصور : وجهه حيث توجّهت ، وفقده أين فقدت.

فقال بعضهم : القصد إليه توجّهك ، والطريقة إليه استقامتك منك بفهمك ، وعنك بعلمك ، ارتبط كلّ شيء بضده ، وانفرد بنفسه.

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : خلق السماوات والأرض ، وألبسهما من لباس سنا عزّه ؛ حتى تسكن قلوب أحبائه ، بالنظر إلى مشاهدة الصانع في المصنوعات.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨))

وقال بعضهم : علّة لكلّ صنع صنعه ، ولا علّة لكلّ صنع صنعه ، ولا علة لصنعه ، وليس لكأنه كان ؛ لأنه قبل الكون والكان ، وأوجد الأكوان ، بقوله : (كُنْ).

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) : لم يسمعوا كلام الله من داخل قلوبهم ، فثقلت أسماعهم من وقر الضلال.

وأيضا ظنّوا أنهم من أهل المخاطبة ، وجهلوا مقام المشاهدة ، وقد أخطئوا فيما ظنّوا ؛ لأنهم لا يطيقون رؤية الوسائط ، أعنى معجزات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا فهم خطابه ، فإذا كان الأمر كذلك كيف يسمعون صرف الخطاب من حضرة الكمال.

قال الواسطي : كلّمتهم حيث أنزلت عليهم خطابي فلم يفهموا ، وأي آية أشرف من محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أظهر لهم ذلك قوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) : «الكلمات» : ما خاطبه الله تعالى مع روحه في سرادق الأزل بنعت السرور ، فتهيّج بها سرّه حتى التهب بنار محبّته ، فيطلب حبيبه بعد بلوغه إلى الكون بصرف الصفات ، فابتلاه الله تعالى بمقام الالتباس ، حيث قال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥].

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤))

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٧٩].

(فَأَتَمَّهُنَ) بتجرّده عن اللباس برؤية الصرف ، كما قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) ، وأيضا ابتلاه بشغل النبوّة ، بعد ما أسكره برحيق الخلّة.

وقال بعضهم : أشدّ ما ابتلى الله به إبراهيم ، أن حمّله أثقال الخلّة ، ثم طالبه بتصحيح شرائطها ، وتصحيح شرائط خلّة التجلّي مما سرّاه ظاهرا أو باطنا ، (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً). وأيضا إنّي جاعلك في الخلق إماما في مقام التمكين ؛ لأنه صار بالنبوّة متمكّنا ، بعد أن كان في الخلّة متلوّنا. وأيضا (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) في المقامات ؛ لأني صاحبهم في الحالات بيني.

وقيل : إنّي جاعلك سفيرا بيني وبين الخلق ؛ لتهذيبهم ؛ لاستصلاح الحضرة ، وهذه هي الإمامة.

وقال أبو عثمان : «الإمام» : هو الذي يباشر على الظاهر ، ولا يؤثّر ذلك فيما بينه وبين

ربّه لسبب ، كالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما مع الخلق على حدّ الإبلاغ ، وقائما مع الله على حدّ المشاهدة (١).

قوله : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) : قطع الأنساب والأسباب عن مواهبه للأنبياء والأولياء ؛ لأنه اصطفاهم بالآيات والمعجزات قبل وقوع العلامات ، وأيضا من اشتغل بنفسه عن نفسه ، اعتزل بنفسه عن نفسه.

وقيل : قطع لن يصل إليه أحد بسبب أو نسب ؛ إلا برضا الأزل ، وسبق العناية.

وقال الصادق : لا ينال محبّتي ، ومشاهدة رؤيتي من سكن إلى أحد سواي.

وقال بعضهم : لا ينال قربي من بعد يسره عنّي.

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١))

وقال بعضهم : من رسمته بسمة المعرضين عنّي ، لا يقدر الرجوع إليّ.

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) أي : مستأنسا للراجين ، وآمنا للخائفين ؛ لأن فيه أثر الله تعالى ، وهو يتجلّى منه للخائفين بلطائف الكرم ، فأسكنهم من هيجان الخوف ، وتجلّى منه للراجين لطوائف حسن العدم ، فأسكنهم من غليان الشوق.

وقيل أي : مفزعا للمذنبين وآمنا أي : من دخله من المؤمنين حافظا لحدود الله فيه ، أمن من نار جهنم.

وروي عن الشيخ أبي عبد الرحمن السلميّ ـ رحمه‌الله ـ أنه قال : سمعت منصور بن عبد الله

__________________

(١) أي : قدوة بك في بك في التوحيد ، أو في الأصول والفروع ، إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته ، ومأمور باتباعه. البحر المديد (١ / ١٠٠).

يقول : سمعت أبا القاسم الإسكندرانيّ يقول : سمعت أبا جعفر المالطيّ ، يذكر عن علي بن موسى الرضا ، عن أبيه عن جعفر الصادق رضي الله عنه قال : البيت هاهنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من آمن به وصدّق برسالته ، دخل في ميادين الأمن والأمانة.

(وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ) أي : أن طهّرا قلبكما ؛ لأنه موضع نظري ، ومحل زيارتي.

(لِلطَّائِفِينَ) أي : للسفرة الأنوار. (الْعاكِفِينَ) أي : للسكّان الأسرار.

(وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) أي : لعرائس الغيب ؛ لأن القلب قبلة الله يزور به أهل الغيب. (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي : أفتنا لبقائك في جمال صفاتك.

وقال الجنيد : ظاهر علم الاستسلام ، سقوط المسافات ، والمدة من البعد ، ولا يجدون في إشارتهم كلفة ، ولا في ذكرهم الذي به يتقرّبون مؤنة ؛ لأنه استولى عليهم من قربه واكتنافه لهم ، والتحنّن عليهم ، والبرّ بهم ؛ لأنه قد أزاح عنهم أسباب الطالب.

وقال فارس في قوله : (وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) : أرجنا عن أسباب الطلب بالحيل ، ومطالعة الخير بالعرض. (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) أي : تواضع لجبروتي ، وأخلص قلبك عن ملكوتي. (قالَ أَسْلَمْتُ) أي : تعرّضت لك لما تريد مني في جميع الأحوال.

وقيل أي : أخلص سرّك ، فإنه موضع الاطّلاع منك ، «قال أسلمت» أي : أسلمت إليك سرّي ، فأخلصه لي ، فإنّك أولى بي مني. وقيل : استأثر ، فإنّ قتلك لا يمهل الطوارق بحر الحوادث ، بل يجذب إلى الاستغراق في بلاد القدم ، فيقول : أسلمت استأثرت ، ومازلت كنت في أسر جبروتك ، وقهر عزّك.

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣))

قال الشيخ أبو عبد الرحمن : سمعت النصر آبادي يقول : سمعت الروذباري يقول : سلامة النفس في التسليم ، وبلاؤها في التدبير.

(وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) أوصاهم بقطع العلائق والعوائق ، والتعرّض لنفحات الصفات ، والعذوبة في المناجاة ، والانقياد لمراد الحقّ ، والشفقة على الخلق ، ومقاومة النفس ، ومراعاة النفس ، والمصادقة لله مع الإخوان فيه ، والإنصاف معهم ، وترك معارضتهما

أحدا ، وأخذ الإنصاف منهم.

وقيل : أوصاهم بالمحاربة إلى الاستسلام الذي أمر به ، فصحّ من إبراهيم التسليم ، فلمّا ابتلي بذبح ابنه لم ينظر إليه ؛ لأنه كان أسلم ، وصحّ له التسليم ، فمضى فيه من غير نظر إلى الولد ، حتى فدى ، ولمّا لم يصح ليعقوب من التسليم ما صحّ للخليل ، رجع إلى حد الجزع حين فقد ابنه فقال : يا أسفى على يوسف ، لكني أعتذر ليعقوب عليه‌السلام في هذه المسألة ، وهو أنه يرى في حسن يوسف جمال الحقّ ، وقد عشقه ، ومع ذلك في أوّل العشق ، وقد بقي في محلّ الالتباس ، والخليل ـ صلوات الله عليه ـ قد انفرد بحب الحقّ للحقّ ، وهذا نهاية مقام العشق ؛ لأنه في محلّ التمكين ، وابنه يعقوب في محلّ التلوين ، فلأجل ذلك قال : يا أسفى على يوسف.

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧) صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨))

قوله : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) : صبغة الخاصية التي خلق آدم على تلك الصفة.

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) [ص : ٧٥] ، وذلك قوله تعالى : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ).

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) [الإسراء : ٧٠].

وقال صدر الصوفية ، ورئيس البريّة صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خلق الله آدم عليه‌السلام على صورته ، وهذا صبغ الظاهر الذي ألبسه صورة آدم ، وأمّا صبغ الباطن ، هو الذي كسا الله تعالى قلب آدم ، ولهذا سجدت الملائكة بين يديه ، وأورث الله تلك الصفتين اللتين خصّ بها آدم أرواح ذرّيته من الأنبياء والأولياء ، وذلك إذ خلق الله تعالى الأرواح ، فحشرها في سرادق حضرته ، وكشف لها عن وجهه حجاب العزّ ، وأراها جماله وكماله ، وألهمها خصائص علوم الربوبية ، ونوّرها بأنوار الوصلة ، وكساها لباس الفردانية ، وجلّلها برداء الكبرياء ، وسقاها من شراب الزلفة

بكأس المنّة ، وطابت بوجهه ، وطارت في ملكوته ، وعشقت بجمال جبروته ، فاكتسبت سناء المحبّة ، واستنارت بنور المعرفة ، وخاضت في بحر الربوبية ، وخرجت منها على أسرار الوحدانية ، وتلوّنت بصبغ الصفات ، وانصبغت بصبغ نور الذّات ، فهذه حقيقة صبغ الله تعالى الذي ذكر في كتابه ؛ ولذلك قال : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) (١).

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١) سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤))

قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ) : صرفهم بمكر القدم في رؤية حيل الفعل ؛ مقرونة بالإرادة عن مشاهدة الأمر في الأمر ، وانقيادهم بحظّ التسليم عند كون الامتحان ؛ حتى تظهر أسباب علم القدم ، وما سبق من علمه في تماديهم بنعت الكفر في ميادين الضلال.

وقيل : بيّن الخطاب على مقادير العقول ، ألا ترى كيف بيّن علّته في آخر الآية (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) ، إحكاما منه في صنعه ، وما جرى من ضبطه.

(قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) أي : قد نرى تقلّب عين سرّك في سماء الهويّة ؛

__________________

(١) آكد المكرمين منهم بكرامات أكبر منها درجة وأرفع منها منزلة وذلك لأنهم لما خلقوا محتاجين إلى ما لا تحتاج إليه الملائكة أكرموا بالكرامتين اللتين لم تكرم بهما الملائكة ، فأحدهما الرجوع إلى الله مضطرين فيما يحتاجون إليه ، فأكرموا بكرامة الدعاء ووعدهم عليه الاستجابة. تفسير حقي (٨ / ٢٥٧).

لطلب عيان المشاهدة ، وقبلة القربة ، وتزول الصفة في الصفة ، ووقوع خطاب الخالص في سمع الخاص ؛ حتى تصير لك عين الجمع من جميع الوجوه.

وقيل : فيه أعلّمه أولا أنه بمرأى من الحق ؛ ليكون متأدّبا بآداب الحقّ ، ومن حسن أدبه ، أنه نظر إلى نحو السماء ، ولم يسأل ، وأجيب على نظره إلى مراده.

(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) أي : نطيّبك ، ونكشف لك قبلة عين وجودي ، ترضى بها وتؤنسها ، ولا يكون لك بعد ذلك طريقا منها إلى نفسك ، ولا جهة منها إلى الكون ؛ لأن مرادك مرادي ، ومرادي مرادك.

وأيضا إنّي قبلتك حيث توجهت ، حتى تكون بلا جهة في الكون في طلب وجودي ، وقد أدّبه الله بهذا عليه ؛ حتى لا يكون له سواه في جميع مناه.

وقيل : أخبره بعد أن جاء إلى مراده ، إن مرادك لم يخالف من مرادنا ؛ لأن إرادتنا فيك تقلّبك إلى الكعبة ، وإثباتك عليها ، وجعلنا قبلة لك ، ولأمتك قبلة ؛ لتعلم أن رضاك لا يخالف رضانا أبدا. (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي : فولّ وجهك نحو المراقبة إلى صدرك ؛ لأنه مسجد أنوار الحقائق ، وهو ممتنع عن الوسواس ، وغبار العلائق ، وفيه القلب ، وهو كعبة الأنس ، وفي تلك الكعبة آيات بيّنات مقامي ، وفي الآيات آثاري ، وفي الآثار آثار صفاتي.

وأيضا فوّل وجهك الظاهر نحو الكعبة ؛ حتى تراني ملبسا بلباس الآيات ، فعينك الظاهر للآيات ، وعينك الباطن للصفات.

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ

وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤))

وقال بعض العراقيين : ترسم معهم برسم الظاهر نحو الكعبة في استقبال الكعبة ببدنك ، ولا تقطع قلبك عن مشاهدتنا ؛ فإنّا جعلنا الكعبة قبلة بدنك ، ونحن قبلة قلبك.

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) أي : لا تقولوا ، ولا تظنّوا لمن يقتل في سبيل العشق بسيف الشوق أموات ؛ بل أحياء بعد فنائه عن حياة الإنسانية بحياة الربّانيّة ، (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) ؛ لأنكم محبوسون بين الوجود والعدم ، وهم مخلّدون في بقاء القدم.

ومن ذبح نفسه من أربعة مواضع قطع رأس حرصها من الدنيا في مذبح التفرّد ، وقطع رأس أملها من إرادة حياتها ووجودها في مصرع التجريد ، وقطع رأس رياستها من الخلق في منجز التوحيد ، وقطع رأس ميلها إلى الآخرة في مقتل التحقيق ، ألبس الله تعالى روحه أربعة لباس في أربعة مقام : ألبسها لباس سناء المعرفة في مقام المكاشفة ، وألبسها لباس صفاء المحبّة في مقام المشاهدة ، وألبسها ضياء الوصلة في مقام القربة ، وألبسها لباس أنوار الأنانية بنعت البسط والسلطنة في مقام المخاطبة ، وإذا كان بهذه الصفة ، فقد فاز من سكرات الممات ، وصار حيّا ببقاء الصفات.

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

وقيل : لأنهم مقتولون في الحق ، ومن كان مقتولا فيه كان حيّا به ، ولكن لا تشعرون أي : لا يعلمه من نظر إلى الجهاد بعين التدبير ، ولم ينظر إليه بعين الرضا.

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) أي : ولكلّ روح منهاج وقبلة ومعراج في وجود الذّات ، وحقيقة الصفات ، فعين العيان قبلة الأرواح القدسية ، وصرف الصفات هو قبلة الأرواح الجلالية ، وعين القدم هو قبلة الأرواح العزّة ، وعين الأبد هو قبلة الأرواح البقائية ، وأنوار المشاهدة هي قبلة الأرواح الشائقة ، وحسن الصفات هو قبلة أرواح المؤانسة ، ونفحات بساتين الغيب هي قبلة الأرواح الروحاني ، هو موليها أي : تلك الروح الرحمانية هي قاصدة إيّاها بجناح الشوق ، مجذوبة

بحبال العشق إلى معدن الألوهية والصمدية ، ولكلّ واحدة منها مطلع ومنبع ، فبعضها والهات ، وبعضها عاشقات ، وبعضها مؤنسات ، وبعضها فانيات ، وبعضها باقيات ، وبعضها صاحيات ، وبعضها ساكرات من هول المقامات ، وكشف المشاهدات ، وبروز المعاينات ، وإدراك المغيّبات ، فاستبقوا الخيرات ، خاطب بهذا أهل الاستقامة أي : سارعوا صرف الأنانية ، فإنه أعلى الدرجات ؛ لأنهن أعني أرواح أهل الوسائط في جلّي الإرادات ، وأنتم أهل النهايات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا أي : أرواح خواص أهل المعرفة ، والأرواح السائرة في ميادين الأزلية ، يأتي بهنّ الله جميعا ؛ بعد محو الإرادات ، واضمحلال الرسومات في سرادق البقاء ، ويسقي كل روح من الأرواح بكأس الصفاء شراب الوصال ، ويكشف لها جمال الحقّ ؛ حتى يكونوا هنالك جميعا في عموم العطاء.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : قادر على أن ينشق أرواح السابقين والمتصدين روائح عبهر الأنانية ، ونسيم ورد الوحدانية في مقام الاستقامة ، (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) أي : فاذكروني بلسان الأسرار أذكركم بكشف الأنوار ، واشكروا بخالص العبودية ، ولا تكفروني بإدراك المعرفة ، وأيضا فاذكروني بالإعراض عن الكون أذكركم بارتفاع البون ، واشكر لي ببذل الأشباح ، ولا تكفروني بتعذيب الأرواح ، وأيضا فاذكروني في زمان الغفلة أذكركم بإنزال الرحمة ، واشكروا لي بقصد القربة ، ولا تكفروني بمساوئ البشرية ، وأيضا فاذكروني برؤية ذكري لكم في الأزل قبل ذكركم لي ، أذكر نفسي لكم كما ينبغي لي ؛ لأنكم لا تطيقون أن تذكروني بحقيقة الذات والصفات ، وكيف يذكر الحدث صفات القدم ، والألسنة عن وصف ثنائه خرسة ، والعيون عن إدراك جماله منطمسة ، والأسرار عن البلوغ إلى كنه عظمته فانية ، واشكر لي بتعريف العجز عن أداء الشكر ، ولا تكفروني برؤية ذكركم لي ؛ لأن ذكركم لي واجب خفي كفركم.

وقال الواسطي : حقيقة الذكر الإعراض عن الذكر ونسيانه والقيام بالمذكور.

وقال بعض العراقيين في قوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) قال : سريع الحق يحتمل به الموارد ، وهو ذكره إياك ، ولو لا ذكره إياك ما ذكرته.

وقيل : (فَاذْكُرُونِي) بجهدكم وطاقتكم لأقرن ذكركم بذكري ، فيتحقق لكم الذكر ، يسمّون حقيقة الذكر أن ينسى كل شيء سوى مذكوره ، لاستغراقه فيه فتكون أوقاته كلها ذكرا. وأنشد :

لا لأني أنساك أكثر ذكرا

ك ولكن بذاك يجري لساني

وقال بعض البغداديين : الذكر عقوبة ؛ لأنّه طرد الغفلة ، وما لم تكن غفلة فما معنى

الذكر.

وقال بعض المتأخرين من أهل خراسان : كيف يذكر الحق بعقول مصنوعة أوهام مطبوعة؟ وكيف يذكر بالزمان من كان قبل الزمان على ما هو به؟ إذ الحق سبق كل مذكور.

وقيل : (فَاذْكُرُونِي) على الدوام ليطمئن قلوبكم بي ؛ لأنه يقول : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨].

وقال بعضهم : أتم الذكر أن تشهد ذكر المذكور لك بدوام ذكرك ، قال الله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).

قال ابن عطاء : (فَاذْكُرُونِي) من حيث أنا ، (أَذْكُرْكُمْ) من حيث أنا ، ولا تذكروني من حيث أنتم فينقطع دوني ذكركم. وقال بعضهم : (أَذْكُرْكُمْ) بتوحيدي ، (أَذْكُرْكُمْ) بلقائي ، و (أَذْكُرْكُمْ) بطاعتي (أَذْكُرْكُمْ) بالدرجات ، و (أَذْكُرْكُمْ) بالتوبة (أَذْكُرْكُمْ) بالمحبة ، و (أَذْكُرْكُمْ) بالنعمة (أَذْكُرْكُمْ) بالمزيد عندكم ، (فَاذْكُرُونِي) في أفراحكم ، (أَذْكُرْكُمْ) في همومكم.

وقال بعضهم : إن الذاكرين على مراتب ، قوم ذكروا الله بألسنة ناطقة ، وقلوب عارفة حتى وجدوا حلاوة الذكر ، وقوم ذكروا الله بأفعال مخلصة ، وطاعات مرضية حتى نسوا أنفسهم لوصولهم إلى ما طارت إليه قلوبهم ، وقوم ذكروا الله بحالاتهم حتى وقفوا في بحار الحياء ؛ لأنهم نظروا إلى ذكر المولى إياهم في الأزل ، وبقاء ذكره عليهم إلى الأبد ، فوجدوا ذكرهم بين ذكرين عظيمين ، فذابوا حياء ، فصار الذكر عندهم هباء (١).

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧))

والخوف هاهنا على سبعة أقسام : خوف من النفس ، وخوف من الشيطان ، وخوف من الكفار ، وخوف من النار ، وخوف من الفراق والقطيعة ، وخوف الحجاب ، وخوف التعظيم والإجلال لي ، فهي ثمرات أشجار المقامات ، والحالات السنية ، والكرامات العالية ، وهذه

__________________

(١) قال الشيخ حقي : (أذكركم) بالثواب واللطف والإحسان وإفاضة الخير وفتح أبواب السعادات وأطلق على هذا المعنى الذكر الذي هو إدراك مسبوق بالنسيان والله تعالى منزه عن النسيان بطريق المجاز والمشاكلة لوقوعه في صحبة ذكر العبد ، (اشْكُرْ لِي) على ما أنعمت عليكم من النعم والذكر بالطاعة هو الشكر.

كلها بليات أولياء الله في سير أسرارهم في ميادين الوحدانية ، وبيداء الأزلية ، امتحنهم بهذه الصفات ليظهر صدق إرادتهم في طلب مشاهدة الحق عزوجل ، وينفخ بهذه نيران أشواقهم ، وبرياح الجذبة ، ونسيم الوصلة حتى يحترقوا بها في طب مبتغاهم بنعت الفناء ؛ لأن من شرط حقيقة القربة احتراق أرواح السابقين والمقتصدين في أنوار جلال المشاهدة.

(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) بحصول مقصودهم من بعد خروجهم عن امتحاني ، (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) من هذه المصيبات فروا من قهري إلى حجر لطفي ، وسلموا أنفسهم إليّ حتى أفعل بهم ما أشاء ، وهذا قوله تعالى حاكيا عن خواص عباده : (قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

قال الشافعي رضي الله عنه : الخوف خوف العدو ، والجوع شهر رمضان ، ونقص الأموال الزكاة ، والأنفس الأمراض ، والثمرات الصدقات ، وبشر الصابرين على أدائها.

(أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) عليهم بركات أنوار مشاهدة الحق تعالى ، و (رَحْمَةٌ) يعني رفع الامتحان عنهم ، (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) إلى مقام الأمن بعد غيبوبتهم في صرف نور القدس ، وصفاء حجال الأنس.

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)) الصفا والمروة مخصوصان بأنوار التجلي لقوله عليه‌السلام : «جاء الله من سيناء ، واستعلى من ساعير ، وأشرف من جبال فاران» (١) ، وهما ملتبسان بصفاء إشراق شمس العزّة ، ومن صعد إليهما فينبغي أن يري فيهما ضياء لباس القدرة مستغرقا في نور المشاهدة ، وتقدس بنظره إليهما عن كدورات البشرية ، ويظهر فيه الأخلاق المحمودة بنعت صفاء المعرفة ، وأيضا ذكر الصفا والمروة إشارة إلى سرادق الملكوت والجبروت ؛ لأن الصفا والمروة حجابان لمكة ، ومكة حجاب الحرم ، والحرم حجاب البيت ،

__________________

(١) ذكره القرطبي في تفسيره (١٣ / ١٥٩).

هكذا سرادق الحضرة ، وأيضا جبل الصفا مصعد العارفين لأجل تصفية الأرواح بنور المعرفة طلبا المشاهدة ، وجبل المروة مدرج الزاهدين لتزكية الأشباح بمدامع الندم ، سعيا في طلب معاملة الآخرة ، وطمعا للجزاء والمثوبة ، وأيضا الصفا إشارة إلى الأزل ، والمروة إشارة إلى الأبد ؛ لأنهما من شعائر الله تعالى ، وأيضا الصفا هو الروح ، والمروة هي القلب.

وقيل : إن من صعد الصفا ، ولم يصف سره لله لم يتبيّن عليه من شعائر الحج شيء ، ومن صعد المروة ، ولم يتراءى له حقائق المغيبات لم يظهر له من شعائر الحق شيء.

وقيل : إن الصفا موضع المصافاة مع الحق ، من لم يجرد لمصافاة الحق معه ؛ فليعلم تضييع أيامه ، وسعيه في حجه.

وروى الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي ـ رحمه‌الله ـ أنه قال : سمعت منصور بن عبد الله يقول : سمعت أبا القاسم يقول : سمعت أبا جعفر يقول : عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر قال : الصفا الروح لصفائها عن درن المخالفات ، والمروة النفس لاستعمالها المروة في القيام بخدمة سيدها ، وقال : الصفا صفا المعرفة ، والمروة مروة العارف.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤))

أي : إن في إبداع السماوات والأرض كشوف نور الصفات في نور الأفعال ، فظهور نور الأفعال في مسرح الآيات ، وأيضا السماء إشارة إلى الرأس ، والأرض إشارة إلى الصورة ، وأيضا السماء إشارة إلى الروح ، والأرض إشارة إلى القلب ، وقوله : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : في نقصانها وزيادتهما وذهابهما ومجيئهما اعتبار بطلوع شمس المعرفة من مشرق القربة ، وغروبها في مغرب النكرة في وقت الغيبة عن المشاهدة ، وظهور ظلم ليالي الهجر في ذهاب نور الوصل ، وزوالها بإشراق أنوار تجلّي الحق في قلوب أهل المحبة ، وأيضا أي : اعتبروا بهما في مواجيد الأحوال ، واستقرارها فيكم ، وفقدانها في وقت انقباضكم عن رؤية البسط والانبساط.

(وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) أي : العارفين في جريان القلب في بحار القدم والأبد ، وموج بحر الصفات لطلب دار المعرفة من قعر بحر الذات بمنافع المريدين رؤية الصفات الجبروتية في الآيات الملكوتية.

(وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ، ولهم أيضا في تفكر إنزال الله تعالى من سماء القربة مزن رشاش المشاهدة ، وإحيائه القلب الميت من فقد نيل القربة ، ورؤية خصائص المنة.

(وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) وأيضا لهم في إدراك التفرق وشتات سيارات عالم الملكوت في قلوبهم لطائف الخطاب.

(وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : لهم في رؤية تصريف الرياح ، وتسخير السحاب بين السماء والأرض وجدان تصريف رياح المنّة ، وتسخير سحاب الشفقة بين نور الروح ونار القلب ، إذا كان الرياح تحرك السحاب وتعصرها حتى تمطر قطرات مياه الخطاب على نيران القلب ليسكن بها ساعة عن الإحراق بالتهاب نار الوجد ، (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي : لأولي النهي علامات صفات القدرة بإدراك بصائرهم الحكمة.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧))

الأنداد تقع على كل شيء بمنع العبد عن خدمة سيده ، من جملتها النفس والهوى ، كما قال الله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الفرقان : ٤٣] ، ومنها الخلق لأجل الرئاسة ، ومنها الدنيا والشيطان.

(يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) ؛ لأنهم لا يذوقون طعم معرفة الله ، ولذة محبته ، ولا يرون نور مشاهدته وحقائق وصله وقربه ، ومع ذلك محبتهم للخلق محبة معلولة ، لأنهم لو لم يجدوا منهم أموالهم يفرون منهم فرار الزحف.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) لأن أهل الإيمان والتوحيد سمعوا خطاب قوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] ، بالسمع الخاص في سابق الدهر ، ورأوا مشاهدة جلاله قبل وقوع البلايا ، فيبقى في قلوبهم لذة المشاهدة والخطاب ، فيجدون مرارة بلائه ، وغصص امتحانه ، يقبلون منه ببذل نفوسهم ، وترك حظوظهم ، والوفاء بصدق عقودهم في أمر محبوبهم.

وقال القاسم : وممن أخرجناهم من جملة الخطاب الخاص مخاطبة الإيمان أقوام يتخذون أهواءهم آلهة يعبدونها ويحبونها ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) منهم لأهوائهم ؛ لأنهم يرون البلاء من الله نعمة ، ولا يحجزهم عن محبتهم لربهم ترادف المحن عليهم ، بل يزيدهم بذلك محبة له ؛ فلذلك قال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ).

وقال الشبلي : من ادّعى محبة الله تعالى ، ونسي ذكره طرفة عين ، فهو المستهزئ والمفتري على الله ، ويصنع به ما يصنع بالمفتري.

وقال جعفر الصادق في قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) قال : يباهي الله على خلقه بمحبته للمؤمنين له ، ويشير أن المحبة أخصّ ما يتعبد له المتعبدون.

وقال ابن عطاء : أحبوا الله بحب الله ، وحب الله حب باق ، فصار حبهم باقيا ببقاء حب الله تعالى.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧) يا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩))

الطيبات ما قسم لأهل الإيمان في سابق علم الأزل بنعت الرضا من معاشهم الذي لا يذم تناولها نفس العلم بحال ، وهو ما يتفرسه المؤمن بنور الإيمان قبل وقوعه في أوان الحاجة ، وأيضا الطيبات التي تهيج المؤمن إلى ما يرضاه الله من المعاملات السنية ، والأخلاق المحمودة ، وترك مألوفات النفس ، ومتابعة الشهوة ، وأيضا الطيبات ما يحصل من الغيب بلا تصنيع الآدميين ؛ لأن ما فيه تصنيع البشر لا يخلوا من المعاملات ، وأيضا الطيبات ما لم تؤكل بالشهوة وثورته الحكمة والعبادة ، والطيبات أيضا ما يؤكل بالسنة ، ولا يؤكل بالبدعة ، وأيضا الطيبات إشارة إلى ذكر الحق إذا لم يشب بذكر الخلق ، وهو رؤية المذكور بنعت طيران الأرواح بقوة المواجيد في بساتين الصفات.

وقال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي : طيبات الرزق هو التناول في أوقات الاضطرار مقدار استبقاء المهجة لأداء الفرائض ، وهو الذي لا تبعة في أكله بحال.

(وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي : اشكروا الله بمعرفتكم على المشكور إن كنتم تعبدونه بشرط المعرفة ؛ لأن العبودية لا تصح إلا بالمعرفة ، وهو إغراء من الله تعالى ، وتنبيه للمعاندين ليعرفوا أن الشكر لا ينبغي إلا لمن خلق ورزق وأمات وأحيا ، وقرن هاهنا العبادة بشكر النعمة لتعريف المنعم عليه أن يشكر نعمته أداء عبادته على شرط معرفته.

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أي : من سار في بيداء الحقيقة بنعت سباحة الروح الناطقة في بحار الأزلية عند بدو إرادة المعرفة ، واحترق جسم نفسه الأمّارة في نيران المحبة ، ويخاف أن يتلاشى في سطوات بسط العظمة ، فيجوز له بعد اضطراره ، وهذه الصفة في مهمة الوحدانية أن يتناول من حطام الدنيوية لبقاء الصورة ، لا جرم على العارف ما دام في مقام العبودية ، وعجز البشرية أن يستأنس بمستحسنات المحدثات ملتفتا بنعت اقتباس أنوار الألوهية من عالم الشواهد.

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) ساتر تهمة الحدثية بنور الأزلية لأهل المعرفة ، (رَحِيمٌ) بهم بأن يخرجهم من ظلمات الإنسانية إلى نور الصمدية.

(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) أي : الموفون بعهد الأزل بترك المعارضة في

العبودية ، والإعراض عما سوى الحق في مقام المعرفة.

وقال بعضهم : الوفاء بالعهد لزوم الحدود ، والرضا بالموجود ، والصبر عن المفقود.

(وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) أي : الصابرين في دفع صولة صدمات النفوس عند معارضتها كشوف الحقائق ، وخرّها عند إلقاء الخطرات في ديوان المكاشفات بنعت ترغيبها وترهيبها ، وعند تطرق طوارقات القهر أبواب خزائن القلب لتشددها بحثالة عوارض البشرية ، والسكون في دفع الخطرات صبرا ، خصّ به الصادقون في طلب مرضاة الحق عند نزول حجار البليات من منجنيق الامتحان.

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (١) أي : لكم في قتل النفوس بعد خروجهما على القلوب اقتصاصا حياة أرواح المقدسة ، فإذا شرعتم في أخذ ديات جنايات النفوس تفوزون من مهلكات القهر.

قال الجنيد : للصابرين ثلاث علامات تعرف في نفسه ، الأول : ضبط نفسه عند وجود النفس حظها ، والثاني : الدخول في الطاعات عند مطالبة النفس بالتخلف والكسل ، والثالث : سكون القلب عند نزول الحكم.

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ

__________________

(١) أي في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة لأنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة كما قتل مهلهل بن ربيعة بأخيه كليب حتى كاد يفنى بكر بن وائل وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع فيما بينهم التشاجر والهرج والمرج وارتفاع الأمن فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه أي حياة لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل إذا قتل لا يقدم على القتل وإذا قتل فقتل ارتدع غيره فكان القصاص سبب حياة نفسين أو أكثر وهو كلام في غاية الفصاحة والبلاغة من حيث جعل الشيء محل ضده فإن ضدية شيء لآخر تستلزم أن يكون تحقق أحدهما رافعا للآخر والقصاص لاستلزامه ارتفاع الحياة ضد لها وقد جعل ظرفا لها تشبيها له بالظرف الحقيقي من حيث إن المظروف إذا حواه الظرف لا يصيبه ما يخل به ويفسده ولا هو يتفرق ويتلاشى بنفسه كذلك القصاص يحمى الحياة من الآفات فكان من هذا الوجه بمنزلة الظرف لها ولا شك فيه إذ جعل الضد حاميا لضده اعتبار لطيف في غاية الحسن والغرابة التي هي من نكات البلاغة وطرقها (يا أولى الألباب) أي ذي العقول الخالصة من شوب الأوهام ناداهم للتأمل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس.

عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤))

هذا نداء لأصحاب القلوب ، وخطاب مع طلاب هلال المشاهدة في أقطار سماوات الغيوب ، أي : يا أهل اليقين فرض عليكم الإمساك عن الكون أصلا ؛ لأنكم في طلب المشاهدة ، فواجب أن تصوموا عن مألوفات الطبيعة في مقام العبودية ، كما كتب على المرسلين والنبيين والعارفين والمحبين من قبلكم لكي تتخلصوا من رجس البشرية ، وتصلوا مقام الأمن والقربة.

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) وهي أيام زمان الدنيا ، يغري بهذا الخطاب أولياءه بترك المطايبة والمناكحة والمباشرة والمؤانسة والملاعبة ، ولذائذ العيش في أكل ألوان الشهوات ، وشرب مياه الباردات ، ولبس الناعمات ، أي : اصبروا يا أوليائي عن شهوات الدنيا ، فإنها أيام ستنقرض عن قريب حتى تفطروا بلقائي القديم ، وتعيشوا في جواري الكريم.

(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي : من يكون من المنقطعين مريضا من فرقتي أو في سفر الوحشة عن وصلتي ، فعليه تدارك أيام القدرة بعد إدراكه مقام القبة والمشاهدة.

(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) أي : وعلى الذين يطيقونه الإمساك عن الكون بنعت الزهد عن الدنيا أيام حياته ، ولم يعمل عمل أهل الطاعة لقلّة توفيقه وهدايته فدية ، وهو خدمة أولياء الله ببذل النفس والمال من الذين تركوا الدنيا لأهلها ، وذلك قوله تعالى : (طَعامُ مِسْكِينٍ) والمساكين الذين صادقوا التلوين ، ولم يبلغوا مقام التمكين.

(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي : فمن تعدى لعجزه عن حقيقة المعاملة زيادة على الواجب الذي عليه من الموجود بعد مقاساته في المفقود ؛ فهو خير له من طلب الرخص.

(وَأَنْ تَصُومُوا) أي : أن تمسكوا عما يشتغل به أهل الدنيا ، (خَيْرٌ لَكُمْ) في ثبات حالكم ، وقوة إرادتكم.

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي : إن كنتم تعرفون ما للصائمين من الفرح فرحة في الدنيا بالمكاشفة ، وفرحة في الآخرة بصرف المشاهدة.

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ

عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨))

شهر فيه احتراق أكباد أهل العيان من شوق مشاهدة الرحمن ، لذلك أنزل فيه القرآن لرقة قلوب المخاطبين من نيران المجاهدات ، وكشف أنوار المشاهدة.

قيل : أنزل لفضله وتخصيصه من بين الشهور ، وافتراض الصوم فيه ، واستنان القيام في لياليه بالقرآن.

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) أي : من حضر فيه مقام الطلب ؛ فليفطم نفسه عن رضاع الطبيعة لمقام الطرب ، وأيضا (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) عن الشراب والطعام ، ومن شهدني ؛ فليصمه عن المخالفات والآثام.

قال الواسطي : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ومن شهدني وشاهد أمري ؛ فليصم أوقاته كلها عن المخالفات ، ومن شهد الشهر على رؤية التعظيم ؛ فليمسك فيه عن اللغو واللهو ، ومن شهد على رؤية فعله وصومه ؛ فليس لله حاجة في ترك طعامه وشرابه ، وهو كما أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رب صائم حظه من الصيام الجوع» (١).

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) أي : إذا سألك أهل محبتي وتوحيدي عن دنوي منهم ؛ فإني قريب منهم إليهم ، وأنا مباشر أسرار حبهم فؤادهم بصفة الخاص ، فانجلي بنفسي من نفوسهم لنفوسهم ؛ لأن ظهوري للعموم ، وإن لم يروني إلا أهل الخصوص ، وفي ضمن الآية إشارة إلى تنزيه الحق عن البينية والأبنية ؛ لأنهم أشاروا إلى قرب البين ، وبعد الأين ؛ فقال تعالى : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) من عبادي بلا أين ، وبلا بين.

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٣٧٣) ، وابن ماجه (١ / ٥٣٩) ، والنسائي في «السنن الكبرى» (٢ / ٢٣٩).

(أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) أي : إني أجيب دعوة المخلصين إذا دعوني من قعر قلوبهم بلسان أسرارهم ، وإن لم يعلموا إجابتي لهم.

(فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) إذا أدعوهم بأصوات الوصلة عند خطرات كلماتي في قلوبهم إلى مائدة مشاهدتي في زوايا صدورهم بنعت إعراضهم عن غيري.

(وَلْيُؤْمِنُوا بِي) أي : ليوقنوا فيما كشف لهم من أسرار ملكوتي ، وأنوار جبروتي ، ولا يسمعوا حديث العدد.

(لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) إلى مقام طمأنينة وحقائق التمكين بشرط المعرفة.

قال الشبلي : إذا وجد الحق للعبد لذاذة قربه ارتضاه لنفسه ، وتولى سياسة لنفسه ، وأدّبه بأخلاقه ، وأعطاه ثلاثة من أوصاف ذاته : حياة لا موت فيها ، وقدرة لا يزول بعجز ، وملكا في جوار الملك ، فذلك قوله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ).

وقال ابن عطاء في هذه الآية : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) قال : أضاف عباده إليه إضافة خصوصية لا إضافة ملك ، كأنه يريد إذا سألك الخواص من عبادي عني فأخبرهم بأني قريب.

وقال بعضهم : إذا سألك المشتاقون من عبادي عني ، فأخبرهم إني أقرب إليهم من كل قريب ، وأنا عند ظنونهم بي.

وقال رويم : القرب إزالة كل معترض.

وقال الجنيد ، وسئل عن قرب الله من العبد ؛ فقال : هو قريب لا بالاجتماع ، بعيد لا بالافتراق ، وقال : القرب يورث الحياء.

(عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) بترك مجاهدتها ، وتعليمها أسرار الأدب ، والوقوف على مرادها ، واستماع كلامها على شرط التقبل منها ، والصبر على انطلاقها عن رق العبودية ، واقتحامها في نيران الشهوة.

وقال ابن عطاء : خيانة النفس الوقوف معها حيث ما وقعت.

(وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) أي : إذا عكفتم في مساجد القربة لطلب المشاهدة ، فلا تميلوا إلى حظوظ البشرية ، وهذا من أحسن الأدب ، ورد من الله تعالى أدب به أولياءه في مجالستهم حضرته ، وأيضا الاعتكاف وقوف الأرواح على بساط الفردانية لاشتغالها عن الحدوثية بنعت فنائها في أنوار الأزلية.

وقال الواسطي : الاعتكاف حبس النفس ، وذم الجوارح ، ومراعاة الوقت ، ثم أينما كنت ، وأنت معتكف.

وقال بعضهم : أهل الصفوة معتكفون بأسرارهم عند الحي لا يؤثر عليهم من جريان الحوادث شيء لاستغراقهم في المشاهدة.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها) أي : فلا تقربوا حدود الحقائق إلا بشرط آدابها بنعت المعرفة ، وحسن حقيقة الأدب ، وأيضا رشح الحق أحكام الربوبية حدود في مقام العبودية ، ليحجز العباد بها عن هتك أستار القربة ؛ لأن في بداية الحدود أسرار العبودية ، وفي نهايتها أسرار الربوبية ، منع الخلق بها عن الاطلاع على أسرار الأزلية لبقاء الأحكام والشرعية (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أظهر سر القدم بوصف الجبروت في النعوت والآيات ، لعل عباده يبصرون بسط سطوات عظمته ، ويخافون من عقوبته ، ويتركون أوصاف البشرية في ديوان الحقيقة.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩))

أي : يسألونك طور أطيار بساتين الغيب عن نقصان هلال المشاهدة عند الفترة ، وزيادتها عند الكشوف بنعت تجلّي الأسرار ؛ لأنهم إذا غابوا في أوصاف أحكام العبودية احتجبوا بها عن رؤية مشهود الغيب ، وإذا خرجوا من وطنات أزمة الابتلاء ، رأوا في سماء اليقين نواد أنوار أقمار الصفات ، فتاهوا عند ذهاب عقولهم في مجلس الخاص تحت حضيض سوانح الكبراء ، وطاشوا في لهوب البليات من تراكم سحاب الوجد عند تدريها مزن الشوق ، فتحيروا بين المنزلين ، واستفتوا من أشرف خلق الله حسام حكم الله رئيس البرية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مرسوم هذه الأوصاف كي يخلصوا عن أركان الشواهد بعد جمع الجمع في قلوبهم ، فأمر الله تعالى نبيه عليه‌السلام وقال : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) أي : لهذه الأحوال المتشتتة في كشوف عز السرمدية وذات الأبدية عيانا وغيبا لمواقيت الأرواح في طيرانها إلى أعلى المقامات على ترتيبها ، وظهور أوقات المواجيد ، وقصورها إلى عالم الصفات ، لشق الله تعالى كشف القربة على قدر شوق الشائقين حتى علموا أحكام العبودية في الربوبية ، والربوبية في العبودية على قدر بدء الأحوال ، وكشف الصفات ؛ لأن العارف محتاج إلى حقيقة علم الأحوال والآداب فيها ليستعملها بقدر وجدان أنوار القربة ، وصفات المشاهدة.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ

أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥))

أمر الله تعالى أهل عرفان الحقيقة بقتال النفس على السرمدية ، وقطع بنية دواعي البشرية لسلامة صدورهم عند اجتماع همومهم بين يديه ، وترك تجاوز الحد بإهمالها ، والوقوف على حظوظها.

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (١) أي : حاربوا أنفسكم على دوام الرعاية لأوقاتكم بنعت تصفية أحوالكم عن دنس الطبيعة ، وخبث الجبلة ، وإزالة أوصاف البشرية حتى لا يكون وقوع خطرات العدو في ديوان الأسرار يعني صدور الصافية ، وقلوب النقية المنورة بنور الأحدية ، ويكون بعد جمع الهم أسراركم وطنات مكاشفات القربة ، وحقائق الإيمان تستولي على بواطن حقيقة النفوس بنعت انفراد الأسرار بين يدي العزيز الغفار.

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) الإنفاق على ثلاثة أحوال : نفقة الزاهدين ، ونفقة المحبين ، ونفقة العارفين ، أما نفقة الزاهدين بترك جميع الدنيا مع لذاتها لأهلها حتى استمتع بها الأنام ، وبذل نفوسهم لله في أيام الله ، وأما نفقة المحبين فإعطاء ما نالوا من الحق لأهل الحق ، وأما نفقه العارفين فبذل الأرواح في مقام الفناء من وجدان غيرة الحق في أسرارهم ، أمرهم الله تعالى بالإعراض عن الكون مع استطابة أحوالهم بلذائذ المحبة ، والدخول في مقام الإحسان ؛ لأن الإحسان أعلى المراتب من رتبة أهل المشاهدة ؛ أعلمهم الله تعالى ألا ينالوا حقيقة المشاهدة إلا ببذل حياتهم لأهل خالصة الحق ، وأخبر أن مقام الإحسان مقرون بالمحبة ، لأجل ذلك قال تعالى : (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ، ومن فاته الإحسان احتجب عن المشاهدة ، وهلك في قبضة بطش النفس متحيرا في هاوية هواها مصروعا في ورطة هوساتها.

__________________

(١) أي : حتى لا يوجد منهم شرك ، فهو كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل حتّى يقولوا : لا إله إلّا الله». (ويكون الدين كلّه لله) بحيث تضمحل الأديان الباطلة ويظهر الدين الحق.

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠))

أوجب الحق سبحانه على قدر أهل الحقيقة إتمام مقاصدهم إلى بساط القربة بأن يتجردوا عن الكائنات في توجههم إلى مزار القدم ، وأن يخرجوا من الحوادث بنعت التفريد والتجريد طلبا بفنائهم بقاءه في تحقيق التوحيد ، وأن يغتسلوا من شوائب البشرية ، وأوساخ الطبيعة في أنهار المعرفة ، وأن يلبسوا إحرام العبودية لقصدهم عرفان الربوبية ، ويتموا إجابة الحق بأدائهم ما افترض عليهم من بذل النفوس في العبودية والأرواح في سلطة الربوبية ، لتقترن إجابة الظاهر بإجابة الباطن ؛ لأنهم أجابوا الحق في بدء أمرهم ؛ إذ قالوا : بلى ، فيستدعي الله عنهم إتمام ميثاق الأول ، ويذكرهم عهد الأول من تعريف نفسه إليهم ليتأهبوا في أمر الظاهر إتمام حقيقة الإجابة ، بأن يقولوا : لبيك ، فالحج لأهل التمكين ، والعمرة لأهل التلوين ، وإتمام الحج البلوغ إلى رؤية الربوبية ، وإتمام العمرة الوصول إلى حقيقة العبودية. قوله : (اللهِ) أي : اصبروا في إتمامها لله حتى تجدوا مأمولكم في الله.

(فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) أي : إن منعتم أوصاف البشرية عن الطيران في هواء الحقيقة ، وحبستكم حجب الابتلاء في أشجار الطبيعة ، فلا تميلوا عن حقيقة الطريقة ، والشروع في طلب المشاهدة ، وابذلوا أنفسكم هديا لله ليرشدكم لشفقته عليكم إلى أوطان المشاهدات ، ويبلغكم حقيقة القربات ، وأيضا فإن حبستكم غيرة الحق عن الوصول إليه لسبب ما ، فتحللوا من قتل

نفوسكم حيث أوقفكم ، واشتغلوا بالعبودية عن الربوبية ؛ لأن في غيرة الحق إشارات تمنع أولياء الله عن السير في قربة الحق ، وذلك بأن القلوب إذا مرضت وسقمت عن الجهد في طلب الحقيقة ، وسكنت بحظوظ البشرية ، فأثابها الله بالإحصار في وطنات الطبيعة.

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) (١) بيّن الله تعالى مواقيت العبادة لئلا يسأموا عباده عن خدمته ، ويقعوا بفتورهم في مقته ، وأيضا حتى يسكن أهل المعرفة عن أثقال العبودية في بسطهم برؤية الربوبية ، وانتقالهم بمشاهدة الرحمن عن زحمة الامتحان ، ووقت الحق لأهل خالصة في سلوكهم ، وإتيانهم لبساط القربة أحانين الصفاء والوفاء والطمأنينة واليقين ، وجمع لهم ليعرفوا أن القصد لا يتهيأ إلى بساطه إلا في هذه الأوقات المعلومة.

قال النصر آبادي : وقّت الله العبادات بأوقات ليتأهب للعبد لها قبل أوانها بأدائه الطهارة ، ولم يوقت المعرفة لئلا يتخلى العبد عن مراقبة المشاهدة بحال.

(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) أي : اجتنبوا على الالتفات إلى غيري في استقبالكم إليّ فإني زادكم في جميع الأحوال ، ولا تحتاجون أحدا سواي ، وأيضا إذا أردتم أن تقطعوا أقفار الديمومية وفلوات الأزلية ، فتزودوا على مراكب القلوب نور الأنانية لأرواح العاشقة في سير النيوب ، وخافوا عن فقدي ، فإن خير الزاد في طلب وصلي الافتقار إليّ مخافة فقدان قربى ، (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) ؛ لأنّكم أهل الخصوص بأنوار العقول فمن يعقلني بنعت العظمة لا تسكن روعته في دار امتحاني.

وقيل : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) هو خطاب للخاص ؛ لأنه لا زاد للعارف سوى معروفة ، ولا للمحب سوى محبوبه.

وأنشدوا :

إذا نحن أدلجنا فأنت أمامنا

كفي بمطايانا بلقياك هاديا

(وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) قال الواسطي : عاقبهم لأنه أحبهم.

وقيل : أقبلوا عليّ يا أصحاب الفهوم السليمة ، وأعقلوا عني.

وقال أيضا : هم من الخصوص ، ولم تجعل للعموم فيهم طريقا.

__________________

(١) كما أن الحج بالنفوس أشهر معلومات لا ينعقد الإحرام به إلا فيها ، ولا يجوز فعل الحج في جميع السّنة إلا في وقت مخصوص ، من فاته ذلك الوقت فاته الحج ـ فكذلك حج القلوب له أوقات معلومة لا يصح إلا فيها ، وهي أيام الشباب ؛ فمن لم تكن له إرادة في حال شبابه فليست له وصلة في حال مشيبه ، وكذلك من فاته وقت قصده وحال إرادته فلا يصلح إلا للعبادة التي آخرها الجنة ، فأما الإرادة التي آخرها الوصلة. تفسير القشيري (١ / ١٨٩).

(وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) أي : اذكروه بلسان عرفان نعمة تعريف نفسه لكم ، كما هداكم إلى معرفته وخصائص قربته ، (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أي : إذا بلغتم مقام مشاهدة المذكور بعد احتراقكم بأنوار ذكره ، اشتغلوا بما يشتغل العوام من رسم العبادات ؛ لكي لا تفنوا في بحار الوجد (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من فترتكم عن الأحوال واشتغالكم بالأعمال (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) تقصيركم فيما وجب عليكم حق معرفته (رَحِيمٌ) عليكم بأن يردكم إلى حالاتكم ومقاماتكم.

قال ابن عطاء : إذا عمرتم بواطنكم بذكري ، واستفرغتم الوسع فيه ؛ فارجعوا إلى ما رجع إليه العوام من القيام برسوم العبودية ، واستغفروا عن اشتغالكم بغيره ، (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للمطيعين تقصيرهم في طاعاتهم (رَحِيمٌ) بالعاصين أن يردهم برحمته إلى بابه.

وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري : الإشارة فيه أن لا تعلم نفسك بما تمتاز عن أشكالك في الظاهر لا بلبسه ولا بخرقة وصبغة ؛ بل يكون كواحد من الناس ، وإذا خطر ببالك أنّك فعلت شيئا أو بك أو لك أو منك شيء فاستغفر الله عزوجل ، وجدد إيمانك فإنّه شرك خفي خامر قلبك.

(فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) أي : فاذكروني ذكر من يعلم في جميع الأحيان أنه ولده أحد ؛ لأنه ذكر لا يسقط عن الإنسان أبدا في حياته ، فهكذا ينبغي ذكر خالق الآباء والأمهات ، وأيضا فاذكروني كذكر الطفل أباه في جميع ما أراد ؛ لأنه يأوي إليه في جميع مراده ، وأنه يعلم أن ليس له ملجأ إلا أبيه ، فأدب الله بهذه الآية شرائط المعبودية بنعت الذكر ، وأيضا وبخ الله عباده بذكرهم غير ربهم ، وهذا المعنى مبهم على أكثر المفهوم.

وقيل : معناه أنك تذكر إحسان أبيك إليك ، فتذكره بذلك أبدء وإحساني إليك أقدم وأكثر ، فاذكرني كما تذكر أباك.

وقال بعضهم : اذكروني بالنعماء يرد عليك زوائد الآلاء.

وقال الواسطي : ذكر عارضي ، ودعاء عادني ، كيف يرجي بركاته أو نماؤه أو زيادته.

سئل أبو يعقوب المكي كيف نذكر الحق كذكر الأب فقال : أعلم أنه إذا ضربك ، فإنه أدبك لحبه لك ، وإذا سلبك فأعلم أنه أعطاك بقربه منك ، وليس يسعك سوء الظن به لشفقته عليك.

وقال ابن عطاء : يوما لأصحابه اذكروا الله بألسنتكم حتى لا تتحرك لغيره ، واذكروه بقلوبكم حتى لا تتفكروا لغيره ، واذكروه بأسراركم حتى تحيى به ، واذكروه بأرواحكم حتى

تتعلق روحكم بأنواره.

قال الشبلي : بذكر الله طلع الأكياس عن بساتين الأنس ، وبذكر الله فاز الأولياء بجوائز الرحمن ، وبذكره هامت قلوب العارفين شوقا إليه.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣))

حسنة الدنيا معرفة الله وطلب مرضاته بترك الاشتغال في الدنيا ، (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) وحسنة الآخرة مشاهدة الله تعالى والاشتغال به عن نعيم الآخرة ، (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي : وقنا عذاب الحجاب باحتراقنا في نيران شهوات نعيم الآخرة ، وأيضا حسنة الدنيا اليقين ، وحسنة الآخرة الكشف ، وأيضا بحسنة الدنيا المواجيد السرمدية ، وحسنة الآخرة الشكر بمشاهدة الحق جل جلاله ، وأيضا حسنة الدنيا الذكر الصافي في خاطر صاف على دوام المراقبة بلا غبار الكدورة ، وحسنة الآخرة الغيبة عن الذكر بمشاهدة المذكور.

وقيل : حسنة الدنيا الإغراض عنها ، وحسنة الآخرة ترك الاشتغال بها ، وقنا نيران شهواتها فإن ما شغل عندك فهو مشئوم.

وقال الواسطي : في الدنيا حسنة الغيبة عن كل متظلم من الحق ، وفي الآخرة حسنة الغيبة عن رفع الأفعال والرجوع إلى الفضل والرحمة.

وقال ابن عطاء : القناعة بالرزق والرضا بالقضاء.

وقيل : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) محبة ، (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) قربة ، (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) نيران القطيعة والفرقة ، ولا ينالون من نار جهنم.

وقيل : (فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) ذكرك ، (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) قربك ، (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) أن تحرمنا ذكرك.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧))

أي : ومن المدّعين من يعجبك طاماته ومزخرفاته ، وما كان بخلاف خاطره ، وأخبر تعالى نبيه عليه‌السلام أن قوما يأتونك ويتكلفون في دقائق الكلام ، ويظهرون خصائص الأحوال والكرامات التي كانوا يسمعونها من أهل المعرفة ، ويتوقون في الإشارات والغوامض من العلوم ، وهم بمعزل عن حقائقها ، هؤلاء فراعنة الضلالة ، لسانهم لسان الأنبياء ، وقلوبهم قلوب الذباب ؛ لأن الله تعالى سلب نور الإيمان عن قلوبهم ، وألبس بسط الكلام ألسنتهم ، ليس لهم في مقامات الأصفياء نصيب ، ولا لهم في أغصان أشجار معارفهم وكواشفهم نصيب ، ولا على قولهم اعتماد ، ولا على عهدهم اتكال ، صرف الله وجوههم عن قبلة الحقيقة ، ومنعهم عن ملاحظة حق الشريعة ، وأقفل أبواب قلوبهم بختم الضلالة ، وحجبهم عن إدراك أنوار البصيرة حتى ليس في جرابهم من معنى الحقيقة معنى ، ولهم في كل محفل من الأباطيل دعوى ، فالواجب على السالكين الإعراض عن مجالستهم ؛ لأنهم أعداء الله ، وأعداء أوليائه حتى سلموا من شؤم مذهبهم ، وقبح مقالتهم ، وهؤلاء أهل البدع والأهواء ، يفتنون هذه الأمة ، ويحجزهم عن طريق الحق ، وينكرون أهل الإصابة ، ويغرون أهل الإرادة ، ويصدونهم عن الطريقة ، والله يشهد أنهم لكاذبون في دعواهم ، يتلذذون في محاوراتهم مع الصديقين بأسوأ المخاطبات ، يغري الخلق رونق لباسهم ، وزينة هيئتهم ، ويجذبون قلوب الناس بحلو كلامهم ، واصفرار وجوههم ، واقصرار أكمامهم ، وانتفاخ أقدامهم ، ليضعوا أقدامهم على أعناق الأنام ، (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ).

وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري : الإشارة إلى أهل الظاهر الذين لم يساعدهم أنوار البصيرة ، فهم مربوطون بأحكام الظاهر ، لا لعبرة بهذا الحديث إيمان ، ولا لهذه الجملة استبصاره ، فالواجب صون الأسرار عنهم.

(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) فأخبر سبحانه أن هؤلاء القوم إذا خرجوا بزينة الأبرار والأتقياء ، لصرف وجوه الناس إليهم ، شدوا أوساطهم في جذب الأموال ، وجر المنافع حتى فاقوا على الناس كلهم ، فإذا خلوا إلى أهل العزة والفتنة ، ألقوا بذر الكفر والنفاق والأهواء المختلفة في قلوبهم ، وحصدوا زرع الإيمان عن صدور ضعفاء المريدين ، وقطعوا وسيلة الألف من بين السالكين في الله ، (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) الإشارة فيه أي إذا كان لا يحب الفساد لا ينصر أهله ويخذلهم في كل مواطن حتى لا يطيقوا أن يطفئوا نور الله بأفواه الضلالة عن سرج قلوب المؤمنين.

(وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) أي : إذا قيل لهؤلاء المفسدين المدعين اتقوا الله ولا تظهر خلاف ما تضمرون عن أمر ربهم ، واستكبروا وتجبروا وأكثروا فسادهم ؛

لأنهم عموا عن رؤية قبائحهم وسواء أفعالهم وهم يظنون أنهم أشرف خلق الله ، لذلك لا يقبلون النصيحة ، ولا يلتفتون إلى أهل الحقيقة ، وإذا أمرهم بمعروف فلا ينتهون لجهلهم على أنفسهم ويحسبون أنهم مهتدون ، استولت عليهم حميّة الجاهلية ، واغترتهم شقوق الضلالة ، ودمرهم كبرهم في مهالك الشقاوة ، أعاذنا الله من صحبتهم ورؤيتهم.

(فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) أي : حسبهم نيران الغفلات ، وظلمة الجهليات ؛ لأن من احتجب بسوء عمله من الله ومن صحبة أوليائه فهو في عذاب الأكبر ، حيث لا يرى طرق الرشاد وهو في أقبح المهاد يعني سهاد الكفر التي ترضعه فيها نفس الأمّارة ألبان الشهوة من ثدي الضلالة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨))

أي : أدخلوا في قباب اعتصام الحق بنعت الاستعاذة حتى تصيروا ساكنين تحت مجاري الأقدار ، راضين في حقيقة الاختيار ، معرضين عن الكائنات ، مصرين غيوبات الملكوت ، شاهدين بأنوار الجبروت ، منقادين لأحكامه ، متأهبين لذبح النفوس طالبا لمرضاته وشوقا إلى لقائه.

وقيل : السلم هو الرضا بالقضاء.

قال الجنيد ـ رحمه‌الله تعالى ـ قال ابن عطاء : اتباع الأوامر والنواهي.

وقال أبو عثمان : السلم هو الخمود تحت مجاري القدرة لك وعليك.

(فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا

مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤) يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥))

قوله تعالى : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) الإشارة فيه أن من عرف الحق بنعت الألوهية ، ورجع من قربه إلى وطنات نفسه ، فقد أشرك وعقوبته أن عجبه الحق عن وصله ومشاهدته ، ولم يؤمنه غيرة الحق على أسراره ما عاش وإن كان في العبودية طاش.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) (١) أي : هل ينظرون أهل الغيرة في المحبة إلا إقبال جمال الحق إليهم في لباس المجهول ، فإدخالهم في قباب العصمة ، وغيبتهم في جلال العصمة ، حين أسبل الحق عليهم نقاب الكبرياء حتى يتجلّى بمشاهدة الخاص ؛ لأنهم أهل الغيرة ، فسترهم بغيم النكرة ، وشوّق لهم بنور الصمدية وجلال الأبدية ، (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي : قضي ما سبق لهم من العناية الخاصة ، والمنن الأزلية.

وقال جعفر : هل ينظرون إلا إقبال الله عليهم بالعصمة والتوفيق ، فيكشف عنهم أستار الغفلة ، فيشهدون برّه ولطفه ؛ بل يشاهدون البار اللطيف ، (وَقُضِيَ الْأَمْرُ).

قيل : وصلوا إلى ما سبق لهم في الأزل من إحدى المنزلتين.

وقال جعفر : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) وكشف عن حقيقة الأمر ومغيبه.

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) وبخ الله تعالى قوما من المستدرجين الذين لم يشكروا الله تعالى فيما نالوا منه من خصائص المقامات والكرامات ورؤية حقائق الآيات بأداء الصدق والإنصاف مع أهل القصة من الأنبياء والأولياء من استشارهم رئاسة الخلق على مرافقة الحق ، وإنكارهم على أوليائه ، وتغيرهم أمانة الله تعالى التي خصّ الله بها خواص عباده ، باعوا اليقين بالوهم ، والعزيمة بالوهن ، فمسخ الله قلوبهم طمسا بذهاب نورها حتى بقوا في ظلمة الحجاب وهو أشد العذاب ، كما قال الله تعالى : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) وخوّف بهذا التوبيخ أهل معرفته ومحبته لئلا يلتقوا إلى الدنيا وأهلها ، ويشكروا نعمة عرفان قربه ببذل الأرواح في وجدان نور الربوبية ، وتحول الأشباح بشرط الخشوع في حق العبودية.

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) أي : زيّن للذين اغتروا بعاجل الكرامات ،

__________________

(١) قيل : هو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم. البحر المديد (٤ / ٢٨٨).

وقبولهم بين الخلق بإظهارهم الفراسات ، وحجبهم بها عن درجات المشاهدات ، ورؤية ما سبق للأولياء من الرعايات والعنايات ، (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : يتهاونون أهل المواجيد الذين سبقوا بنور العصمة ، وغابوا في مشاهدة مولاهم عن المكر والخديعة.

وقال جعفر : زيّن للذين جحدوا التوكل زينة الحياة الدنيا حتى جمعوها ، وافتخروا بها ، (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) من الذين توكلوا على الله في جميع أمورهم ، ونبذوا تدابيرهم وراء ظهورهم ، فأعرضوا عنها وهم الفقراء الصبر الراضون.

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) يعني في ميثاق الأول حين خاطبهم الحق سبحانه وتعالى جل سلطانه بتعريف نفسه لهم ، حيث قال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] ، كانوا أمة واحدة في إقرارهم برؤية خالقهم ، وإلزام عبوديته على أنفسهم لمّا رأوا من عظم برهانه ، وشواهد سلطانه ، وما سمعوا من عجائب كلامه ، وما أدركوا من أنوار قربه وصفاته وذلك الجمعية قبل أن يبتليهم الله بالعبودية ، فلمّا اختبرهم ببلايا العبودية إلى الدنيا ، فتفرقوا جميعا ، فأهل الصفوة ساعدهم التوفيق ، فبقوا على المشاهدة والقربة ، وإدراك أنوار الصفوة ، ثابتين في دفع حطام الدنيا عن مجالس أسرارهم مع سيدهم ، مستقيمين في خدمته بلا طلب الأعواض من الكرامات ، مقتصدين في سلوك المعرفة والمحبة ، فأنزل الله سكينته في قلوبهم ، ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ، فلا جرم ما زاغوا عن طريق الاستقامة ، وما زاغوا عن مشاهدة الحبيب إلى حضرة الدنيا وشهوتها ، وما باعوا كرامة الحق بالدنيا الدنية ، (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٢٣] ، وأما أهل الخذلان فأوبقهم الحق في ظلمه هواء نفوسهم حتى استأثروا الدنيا على الآخرة ، ونسوا عهد الله ، ونزلوا على مراد الهوى ، وتركوا نعيم الرضا ، ومالوا عن طريق الهدى إلى مضلة الضلال ودول الجهال ، وأيضا كانوا بعد كونهم من العدم جملة في غيبة من الحق قبل خطاب الحق معهم ، وكشف قربه لهم فإذا كشف الله عنهم حجب الإنسانية ، وأراهم مشاهدة القربة ، فتفرقوا جميعا في شعب المعارف والكواشف ، فبعضهم صادقوا حقائق المقامات فوقفوا بها على شرط العبودية ، وبعضهم صادقوا لطائف الحالات فبقوا فيها متنعمين بمشاهدة الربوبية ، وبعضهم نالوا خصائص الكرامات والمعجزات فشاهدوها بشرط أداء الأمانة ، وبعضهم أدركوا صرف المشاهدة من الحق جل كبرياؤه فتاهوا في وادي العظمة ، وطاروا في هواء الهوية ، وساروا في فقار الديمومية ، وأما أهل الحرمان فصادقوا في أول نهوضهم من زمرة الوحدة مهالك القهريات ، فغابوا في شعاب الضلالات ، فبعضهم تهودوا ، وبعضهم تنصروا ، وبعضهم تزندقوا ، وبهذا جف القلم إلى يوم ليس لهم في الإيمان

والخذلان اكتساب ؛ لأنه اختيار الله الذي قد سبق لهم في العدم ، وختم به القضاء المبرم ، ومن هاهنا تفرقت القلوب وانشقاقها عن الموبقات ؛ لأن الأرواح جنود مجندة.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أي : حسبتم أن تدخلوا جنان المشاهدة ، ومجالس الأنس بنور المكاشفة قبل ممارستكم مقاساة المراقبة والمحاسبة والمجاهدة ، وأيضا أحسبتم يا أوليائي أن تدخلوا جنة الوصلة والقربة كأنبيائه الذين سبق لهم منا مقام النبوة بلا مؤن المجاهدة وليس هذه المنزلة لغير الأنبياء ولهم خاصة كرامة لهم تشريفا وتوقيرا وتفضيلا على جميع الخلق.

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨))

قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) أخبر سبحانه أن مقاومة النفس ومخالفتها صعب على صاحبها ؛ لكن في درب كل خلق دنا في نيران المجاهدة انفتاح كنز من كنوز الحقائق من الفراسات والكرامات والمناجاة والمكاشفات والمشاهدات ؛ لأن النفس الحجاب الكلي يحجب القلب عن مشاهدة الملكوت ، ورؤية أنوار الجبروت ، وسنة الله قد مضت بأن من خالف نفسه وهواه فقد استنّ محجة المثلى وأدرك ممالك العليا ، ورقي مدارج المكاشفات ، وبلغ معارج المشاهدات ؛ لأن مخالفة النفس هي موافقة للقلب ، ومن وافق قلبه أنس سعادة الكبرى ، ونال منزلة الأعلى ؛ لأن من باشر أنوار القلب فقد باشر أمر الحق ، ومن أدرك الحق بوصف الإلهام باشر سره نور الحكمة ، ومن أدرك نور الحكمة فقد أبصر نور معرفته ، ومن أبصر نور معرفته عاين حقيقة الكل بالكل ، وقد استمسك بالعروة الوثقى ، وهي مشاهدة مولاه ، فأين هذه المنزلة والمرتبة في هوا حسن حظوظ البشرية ، وحصول النفس عند توقانها نفائس الشهوة ؛ بل الأمر المعظم في قتال النفس ، وقمع شهواتها ، وقلع صفاتها عنها حتى تصير مطمئنة ساكنة تحت قضاء الحق ، وبقي القلب فارغا عن وساوسها ، وسرّ عالم الملكوت بنور البصيرة ، كما قال عليه‌السلام : «لو لا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا

إلى ملكوت السماء» (١).

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) أي : أقل أحانين إقبال الحق على العبادة بنعت بسط آلاء مشاهدة القربة ، وازدياد المعرفة على أهل الصفوة ، مقرونة بظهور أنوار جماله ، مسابقة لهم بشرط الإرادة القديمة في أكناف طلاب المشاهدة في إزالة مرسومها ، متفاوتة بتفاوت بروز سناء تجلّي الجلال والجمال في تقليب دهور الحوادث ، فأشجار بساتين الأسحار الأطيار أرواح الأخيار ، وأنوار النهار المبرز بنور القدس لأشباح الأبرار ، ولكل وقت من أوقات انكشاف نور الحضرة حرمة بقدر وقوع وقائع أهل القصة والخطرات فيها من النفوس الأمّارة أعظم وهواجسها أكبر ؛ لأن الأجرام في مواطن قربه أسخن حجابا ، والحروب في بواطن الأنس أسرع عقابا.

(وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) الحساد لا يزالون يمكرون بأولياء الله لكي يوبقهم بأعين الحسادة ، وأنفس الأمّارة ؛ لأنهم لا يطيقون أن يروا نعم الله على أحبائه وأوليائه ، (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) وأحسد الخلق بأصفيائه هو الشيطان الذي كل وقت يترصد فأتهم ، فالإشارة فيه من الله تعالى لأوليائه أنه يحذرهم من غرة العدو ؛ لأنه يحسد بهم نفاسة عليهم بوجدان مشاهدة حضرته ، ونوال قربته ؛ لأن من نكص على عقب النفس بعد إدراك معرفة الحق فقد هلك مع الهالكين ، وسقط عن درجة السالكين العارفين ، وبقي في حجاب الغفلة ، وظلمات الجهل مع الجاهلين ، نعوذ بالله من الخذلان بعد وجدان الإيمان والعرفان.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي

__________________

(١) رواه أحمد (٢ / ٣٥٣) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (٧ / ٣٣٥).

الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣) وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨))

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) الخمر حب ما سوى الله ؛ لأن زيغ بصر السر عن مشاهدة الحضرة إلى الكون بنعت استحسانه حجاب العقل الكل إذا خامر النفس سر القلب باشره الغفلة ، وسكرت بإدراك هواها وحظوظها ، وسقطت عن مباشرة العبودية ، وبتأثيرها احتجبت الروح عن معاينة الآخرة ، وبقيت في حجاب النفس عن الوصال ، والمقام والمشاهدة ، (وَالْمَيْسِرِ) حبل الشيطان والنفس مع القلب ، فإذا مال القلب إلى شهوة النفس فقد قامرها وصار مقمورا مسلوب الإيمان والعرفان ، (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) أن ظلمة الخمر تطفي نور العقل ، ويقوي طرب النفس الأمّارة فإذا خمد نور العقل ، وارتفعت ظلمة الجهل تفسد النفس مقام الإيمان ، وتخربه وهو القلب ، وإذا كان القلب خرابا ومنبع الإيمان مضمحلا ، فهو قريب من الكفر ، والكفر آخر الإثم واللعب بالنرد ، وأمثال ذلك ، كأنه يعبد الأوثان ؛ لأن في الأشغال به اشتباه نور الإيمان تمثال النرد والشطرنج ، وتخيل الفهم صور الخيال ، وهذا أول أسباب الشرك لأنهما أما جميع الخبائث ، (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي : معرفة أفاتهما وسوء عاقبة من يشغل بهما ، وأيضا في زوالهما منافع للناس.

وقيل : فيهما في تناولهما منافع للناس في تركهما ، (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) العفو عند العارفين ما سوى الحق من الكونين ، يعني اتركوا إلى ما شغلكم عني وإن كان لكم فيها خصاصة حتى يكون لكم ذخرا في جميع أنفاسكم عوضا لما تركتم ، فالخواص ينفقون ما يحبون طالبا لمرضاته وتركا لمرادهم ؛ لأن الحق سبحانه لا يزيد أوليائه شهوة

الكونين والعالمين غيرة على أحوالهم وصونا لأسرارهم ، والعوام ينفقوا زوائد أموالهم حصنا لها وحرصا بها.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) أي : لعلكم تقطعون بواديهما بأجنحة الأفكار ليخلص قلوبكم عن وجودهما أنوار أفعال الحق وحسن صنعته القديم ، وبه تبصرون فيهما نور صفاته لتبلغوا به مشاهدة حسن جلال ذاته ، وأيضا لعلكم تبصرون بعين التفكر على صورة الدنيا لباس قهره ، خدع أعدائه ليحتجبوا بزهرة الدنيا عن معرفته ، وعلى صورة الآخرة لباس لطفه ابتلاء به أوليائه ، وليختبرهم بلذة الآخرة حتى يظهر صدق دعواهم في محبته عن رعونات بشريتهم.

وقيل : (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) في الدنيا والآخرة أي أنهما ، والاشتغال بهما مما يقطعان عن الحق.

وقيل : أنهما على مكر وخديعة.

ألا ترى أن طاوسا لما قرأ : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) [يس : ٥٥] ، فقال لو علموا عمّا نهاهم ما اشتغلوا به.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) أي : يحب التوابين عن وقوفهم في المقامات ، ويحب المتطهرين بنور المعرفة عن غبار الكائنات ، وأيضا التوابين عن طلبهم إدراك بطنان القدم بالعقول الناقصة والعلوم المحدثة ، والمطهرين عن رؤية مقدارهم عن صدمة قهر الكبرياء وسلطان العظمة.

وقال بعضهم : راجعين إليه في كل خطرة من قلبه ، وكل حركة من جوارحه.

وقيل : يحب التوابين من الزلّة ، ويحب المتطهرين من التوهم.

وقيل : يحب التوابين من الذنوب ، والمتطهرين من العيوب.

وقال ابن عطاء : يحب التوابين من أفعالهم ، والمتطهرين من أحوالهم ، وهم قائمون مع الله بلا علاقة ولا سبب.

قال جعفر : يجب التوابين من [خواطرهم] والمتطهرين من إرادتهم.

وقال محمد بن علي : التوابين من توبتهم ، والمتطهرين من إرادتهم ، وقال أيضا : التوابين من توبتهم ، والمتطهرين من طهارتهم.

وقال أبو يزيد : التوبة من الذنب واحد ، ومن الطاعة ألف.

وقال النصر آبادي : أن الله أثنى عليك ، وجعل لك قيمة حين قال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ).

وقال الجنيد : دخلت على السري وعليه هم فقال : دخل على فتى من البغداديين ، فسألني عن شرح التوبة ، فأجبته ، فقال لي : وما حقيقتها ، فقلت : أن لا تنسى ما من أجله تبت ، فقال الغلام : ليس هو هكذا ، قال الجنيد فقلت : صدق الفتى ، فقال : وكيف هذا؟ قال الجنيد : إذا كنت في حال الجفاء ، فينقلني إلى حال الصفاء ، فذكرى الجفاء عند الصفا وحشه.

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ...) الآية (١) علم الله عباده أدب المباشرة بشرط التقوى ، وصدق بالنية في شروعه في مطالبة النفس حتى لا ينسوه في جميع أحوالهم ، ويكون صحبتهم لله إلا بإجراء الشهوة.

وقال الواسطي : قدموا نيّة صادقة في جماعكم ، وعفة فيما حرم عليكم ، فإن ركوب الشهوة من غير نيّة صادقة غفلة عظيمة.

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ

__________________

(١) أي : مواضع حرثكم ، شبه ما يلقى في أرحامهن من النطف ، بالبذر ، والأرحام أرض لها. البحر المديد (١ / ١٨٢).

عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧))

قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) (١) أحدهما طلاق النفس وشهواتها والدنيا وما فيها ، والثاني طلاق الآخرة وما فيها ، فينبغي للعارف أن يطلقهما ؛ لأن عروس مشاهدة الحق غاز على قلوب المحبين والعاشقين والمشتاقين أن يكون لهم شيء دون الله.

وقيل : ندب إلى تفريق الطلاق لئلا يتسارع إلى إتمام الفراق.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) وصف الله تعالى أهل العناية الذين صدقوا فيها عاينوا في علم الأزل من مشاهدة القدم ، وفيها سمعوا من خطاب الحسن بنعت تعريفه لهم جلاله وجماله وعظمته وصمديته وكبريائه وقدرته وحكمته ، (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) من الحدثان إلى مشاهدة الرحمن ، (وَجاهَدُوا) في العبودية للزوم حق الربوبية عليهم ، (فِي سَبِيلِ اللهِ) ما بين مقاديره بنعت الرضا في مراده ، (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) وصاله وقربه ، (وَاللهُ غَفُورٌ) تقصيره في تزكية الأشباح ، (رَحِيمٌ) بهم في تربية الأرواح.

__________________

(١) فإمساك لها بمعروف بأن يواسي بها من يحتاج إليها ، أو تسريح لها من يده بإحسان من الله إليه ، حتى يدخله في مقام الإحسان ، فإن طلقها مرة ثالثة فلا تحل له أبدا حتى يأخذها من يد الله بالله ، بعد أن كان بنفسه ، فكأنه أخذها بعصمة جديدة ، فإن تمكن من الفناء والبقاء ، فلا جناح عليه أن يرجع إليها غنيّا بالله عنها ، والله تعالى أعلم. البحر المديد ـ (١ / ١٨٨).

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠))

قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) المحافظة شهود السر مقام الغيب ، وخمود النفس عن دواعي الرب ، ومراقبة القلب أنوار الكشف ، ورعاية الروح مشاهدة الوصل ، ومراعاة الأدب ظاهرا وباطنا ، فأما الظاهر بإقامة الحدود في أركانها ، وأما الباطن فبدفع الخواطر المذمومة الشاغلة عن رؤية الآخرة ، ثم الغيبة عن الأركان والرسوم برؤية الحق جل جلاله في صلاته ، ثم الفناء في حقائق المشاهدة عن ملاحظة وجوده لغلبة سكر الوجد ، ومن هذا حاله فهو غائب في سرّ الاصطلام ، ولا يعلم كيفية صلاته لغلبة الوقت ولا غيب عليه ؛ لأنه قد بلغ مقام المشاهدة ، وهذا مقصود الصلاة ، وهو إشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله : «اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك» (١) ، لكن صورة الأحكام تجري على العارف ، ويحفظها عليه ، وإن لم يعلم شأنه فيها ، فهؤلاء القوم يغيبون عن الظاهر لشغل الباطن ، والعامة يغيبون عن الباطن شغلا بالظاهر ، فشتان ما بين الطائفتين ، فالعوام طاحوا في أودية الغفلات ، فيزينون أحكام الظاهر ، وأهل المعرفة طاروا في عالم المشاهدات في غيبة عن رسوم الأحكام استغراقا في بحر أنوار مشاهدات ذو الجلال والإكرام ، وأبهم صلاة الوسطى لمراعاة جميع الأوقات ، ومراقبة أحانين المكاشفات.

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا

__________________

(١) رواه البخاري (٤٨) ، ومسلم (٩).

قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨))

قوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) جعل لهن المتاع تسلية لقلوبهن لأنهن كابدن مقاساة الفراق لئلا يتضاعف لهن البلايا بلاء الهجران وبلاء الحرمان.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) القرض الحسن بذل الوجود مع الحياء ، والخجل معرفة على تقصيره ، وفناء أطماع الأعواض ، والفرح بمخاطبة الحق معه ، وأيضا استقرض من عباده ما أعطاهم لتربية لهم ، ويزيد فضله على فضله.

وقيل : مال القرض لتربة الفقراء.

وقيل : القرض الحسن ما لا يطالع عليه الجزاء ، ولا يطلب بسببه العوض.

وقال بعضهم : ملكك ثم اشترى منك ليثبت لك معه نسبة ، ثم استقرض منك مما اشتراه ، ثم وعدك عليه العوض أضعفا ، بيّن فيه أن عطاياه ونعمه بعيدتان أن تكون مشوبا بالعلل.

(وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) يقبض أرواح الموحدين بقبضة الجبروتية في نور الأزلية ، ويبسط أسرار العارفين من قبضة الكبرياء ، وينشرها في مشاهدة سناء الأبدية ، وأيضا يقبض المشتاقين في رفاق التوحيد ، فيتجلّى لهم مشاهدة العظمة ، ويبسط العاشقين في حجال الأنس ، فيتجلّى لهم مشاهدة الجمال ، وصرف القربة.

ويقال : القبض سره ، والبسط كشفه.

ويقال : القبض للمريدين ، والبسط للمرادين.

ويقال : القبض للمشتاقين ، والبسط للعارفين.

ويقال : القبض لمن تولى عن الحق ، والبسط لمن تجلى له الحق.

ويقال : يقبضك إياه ، ويبسطك إياه.

قال الواسطي : يقبضك عما لك ، ويبسطك فيما عليه.

وقال البغداديون : يقبض أي يوحش أهل صفوته من رؤية الكرامات ليصغرهم ، يبسطهم بالنظر إلى الكرم.

(وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : بعد ما مكننا بنور المعرفة ، وذوق المحبة ، ومصاحبة المرسلين ، وآيات النبوة ، وإدراك مقام الشهادة ، وأيضا أي بعد معرفتنا أن الله تعالى مع أوليائه براية النصر والظفر ، وأن من أوصاف أهل المحبة المحاربة مع أعدائه.

وقال فارس : لا يتجرد للحق من هو قائم مع الحق بسبب أو علاقة أو سكون أو مسكن.

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ...) الآية امتحنهم بمجاهدة نفوسهم قبل محاربة عدوهم ، لينظر كيف يكون خلوصهم من جهاد الأكبر قبل شروعهم في جهاد الأصغر ؛ لأن من يعجز عن مجاهدة نفسه لا يصلح لمحاربة غيره ، وتصديق ذلك قوله تعالى في حق المبتلين الذين تجاوزوا عن الحد الذي سنن لهم وشربوا من النهر أكثر ما أمرهم (قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) والذين أخرجوا عن محاربة نفوسهم ، وصرعوها في ميادين الذل والإهانة ، فيصلحون لجهاد الكفار ، كما قال الله تعالى : (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) وهذا مثل ضربه الله للدنيا ومن يطلبها ؛ لأن الدنيا نهر الشهوات ، أجرى الله تعالى بين الخلائق لامتحان العباد ليضل بها قوما ويهدي بها قوما ، من شرب منها بقدر الضرورة لقوة العبادة يعبرها بشرط الانفراد ، فإنه من أهل الإيقان والعرفان ، ويهدي إلى مشاهدة

الرحمن ، ومن شرب منها بفرط الحرص لإبغاء الغفلة قوة للمعصية ، يضل عن سبيل الرشاد ، ولا يملأ جوفه منه أبدا حتى يدخل إلى النيران ، وضرب الله تعالى أيضا هذا المثل في قصتهم لينظر الناظر فيه بعين الاعتبار ولاقتباس الأنوار (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) الطالوت هنا الروح ، وهي ملك الباطن ، ومثل داوود نبي الله عليه‌السلام العقل وجنوده القلب وملك الهام والعلم والفهم والإدراك والخواض ، ومثل جالوت عدو الله الشيطان وجنده خيل الخيال وأعوان الشهوات ، فأمر الله تعالى الروح بالمحاربة معه اختبارا للنفس الأمّارة ، فلمّا فصلت الروح بجنودها ، (قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) يعني نهر الشهوة الذي تشرب منه النفس بكأس الغفلة ، وأضافت إليهم الشرب ؛ لأن الروح مقدسة عن رجس البشرية ، (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) أي : ليس من عالم الروحانيات ، وليس من أهل المكاشفة الصفات ، (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) أي : من نور القدس وعالم الأنس ، (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) (١) أي : القلب والحواس والنفس يغترفون بقدر الترفة حتى لم يحترفوا في جوار الروح بنيران المحبة والمواجيد التي يحصل منه نور المعرفة ، (فَشَرِبُوا مِنْهُ) يعني النفس وأعوانها ؛ لأنهم من ملكوت الأرض ، لأجل ذلك مالوا إلى طعمة الطبيعية ، (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) أي : العقل والملك ؛ لأنهما من ملكوت السماء وليس لها إلا لذة التربية ، أما شرب القلب قدر الكفاية ؛ لأنه ممزوج بخلاصة الجسم ، (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي : الروح والعقل والملك والقلب والحواس ، (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) أي : بقول أعيان الروح الذين يوقنون كشف العيان بعد مجاهدة الشيطان ، (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) كم من فئة قليلة بالعدد معها نور اليقين ، (غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً) التي ليس معها النصر من عند الله ، (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) الذين وقفوا على مراد الحق بنعت الرضا والتسليم ورؤية كرمه القديم وتسليمهم من مباشرتهم حظ مشاهدة الحق.

(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) أي : برز الروح وجندها للشيطان وجنده ، (قالُوا) أي : الذي عاينوا بنور الإيمان جمال المشاهدة ، (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) أي :

__________________

(١) الإشارة من هذه الآية أن الله سبحانه ابتلى الخلق بصحبة الخلق وبالدنيا وبالنّفس ، ومن كانت صحبته مع هذه الأشياء على حدّ الاضطرار بمقدار القوام ، وما لابد منه نجا وسلم ، ومن جاوز حد الاضطرار وانبسط في صحبته مع شيء من ذلك من الدنيا والنفس والخلق بموجب الشهادة والاختيار ـ فليس من الله في شيء إن كان ارتكاب محظور ، وليس من هذه الطريق في شيء إن كان على جهة الفضيلة وماله منه بدّ.

احبسنا بلذة المحبة حتى يقف في بساط الحرمة ، ويشرب مرارة المحنة بجمال المشاهدة ، (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) في صدمة القهر ، (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) على الشيطان وجنده ، (فَهَزَمُوهُمْ) يعني جند الله ، (بِإِذْنِ اللهِ) بالله الشيطان وجنده ، (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) يعني العقل الشيطان ، (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) يعني سلطنته وولاية القلب على جميع الجنود النفس وأعوانها ، (وَالْحِكْمَةَ) يعني المعرفة على أحكام المحبة والقربة والمشاهدة والمكاشفة.

قال عبد العزيز : يقال أن داود عليه‌السلام رمى بثلاثة أحجار ، وفي الإشارة إنه رمى بالنفس ، وطلق الدنيا ، وخلف الهوى ، فهزم الله جالوت الشيطان وقتل.

(وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) أي : من علوم الغيب حتى صارت منفردة بالرؤية مشاهدة الغيب وعجائبه ، (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) أي : دفعه بجنود الملكوتية جنود الإنسانية ، (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) يعني منظر نور الإيمان والمعرفة في صدر طلاب المشاهدة والقربة ، (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) يعني يتجلّى العالم الأرواح فيغلبن على النفوس الأمّارة والشياطين المردة ، وأيضا يتجلّى بمشاهدة القهر لعالم النفوس والشياطين حتى يسرفوا بمطامعهم بعض حقائق القلوب من عالم الأرواح ، وتجربوا ديوان الناقل في ديوان الغيب.

قال أبو عثمان : أن هذا مثل ضربه الله للدنيا وأهلها ، يعني النهر أن من أطمأن إليها وأكثر منها فليس من الله في شيء ، ومن أعرض عنها ومقتها فهو الذي هيأه الله لقربة ، إلا من تناول منها مقدار ما يقيم صلبه للطاعة.

وقيل في قوله تعالى : (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً) يعني أي : فاطمأن إليها إلا قليلا منهم ، وهم الذين حفظهم الله من وساوس الشيطان ؛ لأن (عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢].

وقال النصر آبادي : من مد يده إلى الحلال بحرص وشره أداه ذلك إلى الشبه ، ومن لم يبال من الشبه جره ذلك إلى الحرام النص.

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ

شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤))

قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) فضل أنبياء بعضهم على بعض تطيب لقلوب أوليائه ؛ لأنهم أهل غيرة الحق ، وأيضا حتى لا يسكنوا عن طلب زيادة المقامات والدرجات ، وأيضا حتى لا يركن بعضهم إلى بعض في حقائق المعرفة والمحبة.

وقال أبو بكر الفارسي الصوفي : ما خلق الله شيئا إلا متفاضلا متفاوتا أقدارهم حتى الرسل.

قال الله عزوجل : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ) ليعلم بذلك نقص الخلق ، وكماله تعالى عزوجل.

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥))

قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) قطع بما أبدء من وصف ألوهيته عن قلوب عباده أسباب العبودية ؛ لأن العبودية تكون عرفان الربوبية ، لأجل ذلك ذكر نفسه في أول إظهار وجوده ، وأيضا كشف عن نفسه بوصفه لعباده حتى أثبتهم ببروز سلطنته في قلوبهم عند خطرات الهجران عند قوله ، وأيضا دعا الخلق بنفسه إلى نفسه قبل ذكر الأسباب حتى حيرهم به فيه ، وأيضا رسخ أشجار المحبة في سواقي أسرار أهل المعرفة بذكره ألوهيته قبل كل شيء ، ثم ذكر ليحيرهم في سراب العدم ، ثم كشف لهم عن جمال القدم ، وأيضا أفرد قدمه عن العدم ، وأيضا ضرب سرادق التنزيه على سواحل بحر التوحيد قوله : (إِلَّا هُوَ) أزال العلل عن قدس الأزل ، وكشف بالأزل عن الأزل.

سئل ابن منصور رحمة الله عليه عن هذه الآية ؛ فقال : لا إله إلا الله يقتضي شيئين : إزالة العلة عن الربوبية ، وتنزيه الحق عن الدرك.

وقال ابن عطاء : صدق قبول لا إله إلا الله الصبر ، وبه ثبت على إيمانه والصدق ، وبه اجتهد في الطاعات لربه في سره وإعلانه وإنفاق من ماله مبتغيا به رضاه حتى لا يبقى لنفسه مدخرا غير خالقه ، والخلوة بربه في الأسحار وإظهار الافتقار بلسان الاستغفار نادما على عصيانه خائفا من هجرانه.

وقال أيضا : يحتاج مع قائل لا إله إلا الله ثلاثة أنوار نور الهداية ، ونور الكفاية ، ونور العناية ، فمتى منّ الله عليه بنور الهداية فهو من خواصه ، ومتى منّ عليه بأنوار الكفاية فهو معصوم من الكبائر والفواحش ، ومتى منّ عليه بأنوار العناية فهو محفوظ من الخطرات الفاسدة.

وقال بعضهم : يحتاج قائل لا إله إلا الله إلى أربع خصال : تصديق ، وتعظيم ، وحلاوة ، وحرمة ، فمن لم يكن له تصديق فهو منافق ، ومن لم يكن له تعظيم فهو مبتدع ، ومن لم يكن له حلاوة فهو مرائي ، ومن لم يكن له حرمة فهو فاسق.

قيل لأبي الحسن النووي : لما لا تقول لا إله إلا الله ، قال : بل أقول الله ، ولا أبقى به ضدا.

وقال بعضهم : من قالها وفي قلبه رغبة أو رهبة أو طمع أو سؤال فهو مشرك.

(الْحَيُّ الْقَيُّومُ) الحي الذي قامت به الأحياء ، و (الْقَيُّومُ) الذي يحيي بقيوميته الأموات ، وأيضا (الْحَيُ) الذي تتهمهم به الأنفاس ، و (الْقَيُّومُ) الذي تقوم بكفاية الأشخاص ، والحياة من صفاته الخاصة في العدم وعامة فيما أوجد الخلق من العدم ، والقيومية صفته التي لم يزل كان موصوفا بها ، ويحصلها أنه استقبل بنفسه في أزليته وأبديته ، و (الْحَيُ) الذي ليس حياته أسرار الموحدين فتوحدوا به له ، و (الْقَيُّومُ) الذي يربي بتجلّي الصفات وكشف الذات أرواح العارفين ، ففنوا في ذاته ، واحترقوا بنور كبريائه.

وقيل في قوله : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) أجعله مراقبا في قيوميته عليك وعلى جميع العالم.

قيل : أنه قيوم بحفظ أذكاره على أسرار أهل صفوته.

وقال سهل : (الْقَيُّومُ) قائم على خلقه بكل شيء ، وآجالهم ، وأعمالهم ، وأرزاقهم.

وقال الخواص : من عرفه بأنه (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ألزمه معرفته له طلب كل شيء منه ، وترك القيام بشيء من أموره لقيام بها.

(لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) يخوّف بهذه الإشارة خواص المراقبين حتى لا يشتغلوا بغيره طرفة عين ، وأيضا أخبر عن تنزيه إزالة التشبيه عن قلوب المريدين ، وأيضا بنفي السنة عن نفسه ، نزه نفسه عن الغفلة ، وبنفي النوم نفسه عن الغيرة ، وأيضا هذه إعلام منه جلّ وعلا أنه ينتقم عن الظالمين للمظلومين ، وأيضا علم الخلق تنزيه قدم صفاته وقدس عظيم ذاته ، أي أنا مبدع العلّات ، وأنا منزه عن صفات المحدثات.

وقال بغداديون : أنّى تأخذه السنة من كان ، ولا سنة ولوجد السنة قهر العبادة ونقصا

ارتبط الأشياء بأضدادها ، وانفرد هو عن الأحوال لأنه محولها.

(ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أذل حلاوة زهرة الكونين والعالمين عن قلوب أهل الصفوة بقوله : (ما فِي السَّماواتِ) أي : الحوادث التي استأصلها عن مزار وحدانيتي ، ألا وهي الأسرار الموحدين رغبهم بفنائهم عن الأسباب والعلامات ، ووبخ من التفت سره عنه إلى ماله ؛ لأن الالتفات من المنعم إلى النعماء شرك بالمنعم ، (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أغرق الشافع والمستشفع في بحار مننه إذ لا يفرض كلاءة عباده إلا إلى نفسه ، وأيضا قطع أسباب حيل الوسيلة عن عناية الأزلية ، وأيضا أدب الخلق بهذه الآية حتى لا ينبسط إليه إلا من غلبه السكر والانبساط ، والأذن مقام الهيبة عند سرادق العظمة ، والحكم حال الانبساط في بساط الألفة ، والخائفون مراقبون الإذن ، والعاشقون يريدون ويقتحمون في الحكم ؛ لأن صاحب الحكم في هيجانه ملتبس بسناء التوحيد ، معتزل عن الأشباح بنعت التفريد ، أسكرته مشاهدة الحسن ، واضطرته مكاشفة القدس إلى البسط والانبساط ، وهذين الوصفين يكونان في العارف من الأنبياء والأولياء ، فالأول نعت تبت ، والآخر نعت أزلي.

وقيل : جذب به قلوب عباده إليه في العاجل والآجل.

قال الواسطي : لو جعل إلى نفسه وسيلة غير نفسه كان معلولا ، ومن تزيّن بإخلاصه ومحبته ورضاه توسل بصفاته إلى من لا وسيلة له إلا به قال الله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ).

قال منصور : فأي الشفيع إلى من لا يسعه غيره ، ولا يحجبه سواه.

وقال الواسطي : من ذا الذي يدعوني حتى أذن له في الدعاء ، ومن ذا الذي يؤمن به حتى أهديه ، ومن ذا الذي يطيعني حتى أوقفه ، ومن ذا الذي ينتهي عن المعاصي حتى أعصمه (١).

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي : يعلم ما بين أيديهم من الخطرات ، وما خلفهم من العثرات ، وأيضا يعلم ما بين أيديهم من المقامات ، وما خلفهم من الحالات ، وأيضا يعلم منهم قبل إيجادهم ما ابتلاهم به من أسرار الأفعال المقرونة بالإرادة ، ويعلم منهم بعد كونهم من درك المعاينات في مقام العبودية من أسرار علم الأزليات.

وقال أبو القاسم : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) لأنه لا يخرج عن علمه

__________________

(١) وقال ابن عجيبة : هذا بيان لكبرياء شأنه ، وأنه لا يدانيه أحد ليقدر على تغيير ما يريده بشفاعة واستكانة ، فضلا عن أن يعاوقه عنادا أو مناصبة. البحر المديد (١ / ٢١٢).

معلوم ، ولا يلتبس عليه وجود ولا معدوم.

(وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) حجب علم القدم عن إدراك من أوجد من العدم ، إلا ما كاشف لأهل القلوب من معانات الغيوب ، وأيضا أي ولا يحيطون بشيء مما علمه الله من نفسه من علم الأزل إلا بما شاء ، أي إلا به لأنه لا وسيلة إلى علمه سواه.

وقيل : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) يعني من معلوماته وإذا تقاصرت العلوم من الإحاطة بمعلوماته إلا بإذنه فأي طمع لها في الإحاطة بذاته قالها أبو القاسم القشيري.

(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) كرسيه قلب العارف ، وهو واسع من السموات والأرض ؛ لأنه معدن علوم الألوهية وعلم اللدني ، الذي لا نهاية له ولا حد له ، وأيضا (كُرْسِيُّهُ) عالم الملكوت وهو مطاف أرواح العارفين لجلال الجبروت ، وأيضا (كُرْسِيُّهُ) وعرشه قبلتان لأهل الحدثان ولا جهة للرحمن ، ولا يعرفه بنعت التنزيه عن التباس الكون والتصاقه إلا أهل كشف العيان.

وقيل : العرش والكرسي إظهار للقدرة لا محلا للذات.

وقال أبو القاسم : خاطبهم على قدر فهم ، وإلا فإن خطر الأكوان عند صفاته وحلال قدرته عن التعزز بعرش أو كرسي ، أو التجمل بجنبي أو أنسى قبل علمه.

وقيل : (كُرْسِيُّهُ) في السموات والأرض هي منه كدرة.

(وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) أي : لا يعجزه حفظه ذلك على سعته وكبره ، وأيضا لا يوازيان في عظمته خردلة ؛ لأنهما في ملكه وسلطانه أقل من ذرة ، وأيضا قامت السموات والأرض به ولا علّة في صنعه ولا آلة في فعله منه ظهرت وبه قامت.

وقيل : وصف نفسه بالامتناع عن اعتراض القواطع والعلل.

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها

مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨))

قوله تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) تبيّن ما استتر عن الكون في الكون في علم الأزل من السعادة والشقاء ، فظهرت سمة السعادة والشقاوة من المقبولين والمطرودين ؛ لأن في جباه السعداء مصابيح أنوار المعرفة تلوح ، وفي جباه الأشقياء كدورات ظلمات الغي تبوح.

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) الطاغوت رؤية الطاعات ، والطمع في المكافآت ، فمن يكفر بها فهو من أهل المشاهدات ، والطاغوت يقع على كل شيء سوى الله تعالى من الدنيا والنفس والشيطان. وقيل : طاغوت كل امرئ نفسه.

قال الشيخ أبو عبد الرحمن رحمه‌الله : من لم يتبرأ من الكلي لا يصح له الإيمان بالله.

(وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي : من أقبل من نفسه وحوله وقوته إلى خالقه فقد وجده بنعت الحفظ والكلاية ، (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) هي ذات الحق سبحانه وجل عن التشبيه ، وأيضا هي المحبة والمشاهدة ، وأيضا هي العصمة القديمة التي سبقت بنعت العناية الأزلية لأهل المعرفة.

وقيل : (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) التوفيق في السبق والسعادة في الختم.

وقيل : (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : لا إله إلا الله. وقيل : هي السنة.

(لَا انْفِصامَ لَها) (١) ترجيه من الله لأهل المعرفة ، أي من تمسك بحبلي فاز في الدارين ، وسعد في المنزلين ، ولا يدخل في حجال عصمته خلل الحوادث ؛ لأنه في كنف العناية محروسا بالكفاية ، (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) لوجدهم من ظلمات العدم إلى كشف أنوار القدم ، وأيضا يخرجهم من ظلمات الامتحان إلى مشاهدة البيان ، وأيضا يخرجهم من ظلمات العبودية إلى جمال الربوبية ، وأيضا يخرجهم من الفرح بما وجدوا من المقامات والدرجات إلى نور مشاهدة الذات والصفات ، وأيضا يقدسهم ويخرجهم من ظلمات البشرية بمياه الشفقة لنور الأبدية ، وأيضا يزيلهم عن أوصافهم المحدثة ويقربهم إلى بساط الجزية ، ويلبسهم صفات الأزلية وسناء الصمدية.

وقال ابن عطاء : يغنيهم عن صفاتهم بصفته ، فيندرج صفاتهم تحت صفاته ، كما

__________________

(١) أي : لا انقطاع وهو استئناف لبيان قوة دلائل الحق بحيث لا يعتريها شيء من الشبه والشكوك ، فإن العروة الوثقى استعارة المحسوس للمعقول لأن من أراد إمساك هذا الدين تعلق بالدلائل الدالة عليه ، ولما كانت دلائل الإسلام أقوى الدلائل وأوضحها وصفها الله بأنها العروة الوثقى. تفسير حقي (٢ / ٥٩).

اندرجت أكوانهم تحت كونه ، وحقوقه عند ذكر حقه فيصير قائما بالحق مع الحق للحق.

وقال أيضا : بذل النفس لله على حكم الإيمان من علامة الهدى والقيام بأداء ما استدعى منهما من علامة التوفيق والانتهاء عما زجر عنه من علامة العصمة ، فذاك لنفي الظلمات عنه بها ، نوّره الله تعالى أنوار من الإيمان ، وذلك الذي يوجب له الولاية ، قال الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية.

وقال الواسطي : يخرجهم من ظلمات نفوسهم ، صدقها ورضاها وتقواها إلى نور صفاته وما سبق لهم من منابعه.

وقال أيضا : يخرجهم من ظلمات نفوسهم إلى أنوار ما جرى لهم في السبق عن الرضا ، والصدق والمحبة وغيرها.

وقال النوري : يخرجهم من ظلمات العلم إلى نور المشاهدة ؛ لأنه ليس المعاين كالمخبر.

قال الجنيد : يخرجهم من الظلمات أوصافهم إلى أنوار صفاته.

قال أبو عثمان : يخرجهم من رؤية الأفعال إلى رؤية المنن والأفضال.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) أي : الذين ستروا ما قد عاينوا من نفوسهم أنوار فعله وقدرته وما بدت في قلوبهم من لوائح العقول بالشروع في لذائذ الشهوة وغطاء الغفلة ، أولياءهم الطاغوت ومتوليهم في اعتزاء التماثيل الباطلة المتخيلة ، الشيطان يخرجونهم من أنوار العقول إلى ظلمات الجهل والعنادة.

(أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) أي : أصحاب الهجران عن مشاهدة الرحمن ، (هُمْ فِيها) في القطيعة والابتلاء ، (خالِدُونَ) ليس لهم مساغ في الوصول أبد الآبدين.

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠) مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ

سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١))

قوله تعالى : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) وقع عليه‌السلام في طلب مشاهدة القدرة صرفا ليرى بنورها مشاهدة القادر في المقدور ، وأيضا تعجبه في القدرة ليس بشك ؛ ولكنه تلون الخاطر ونقله من مقام الإيمان إلى مقام مشاهدة الحال في ظهور البرهان ، وأيضا خاض في بحر التفكر لطلب درّ المعرفة ، والفرق بين سؤال إبراهيم وعزير ـ عليهما الصلاة والسلام ـ أن إبراهيم عليه‌السلام كان في محل التمكين فأراه الله تعالى مشاهدة القدرة في غيره ، وكان عزير عليه‌السلام في محل التلوين فأراه الله مشاهدة القدرة في نفسه حتى يباشر قلبه نور الصفات ، فيشاهد حقيقة فعل القديم ، ويصير محكما في محل التمكين ، وأيضا مقام الخليل عليه‌السلام مقام الانبساط ، ومقام عزير عليه‌السلام مقام التحير ، فانبسط الخليل عليه‌السلام وسأل مشاهدة الصفات في لباس الآيات ، فأراه ما سأله في غيره ؛ لأنه مملوء من أنوار القدرة ، فيطلب مزيدا على حاله ، وتعجب عزير عليه‌السلام نبي الله من غاية تحيره في أسرار الربوبية ، فأراه الله الآيات في نفسه تأديبا له ؛ لأن أهل الانبساط ليس بمؤاخذين كخليل الله عليه‌السلام ، وأيضا سؤال الخليل عليه‌السلام في طلب المشاهدة وتعجب عزير عليه‌السلام تحير في كمال القدرة بطلب الآيات تثبيتا للوحدانية ، وأيضا مقام الخليل عليه‌السلام مقام اتحاد تجلّي الصفات ، ومقام عزير عليه‌السلام مقام اتحاد تجلّي الأفعال فتجلّي الصفات باشر قلب الخليل عليه‌السلام لقوله : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) وتجلّي الأفعال باشر صورة عزير عليه‌السلام ليكون له تحصيل العلم بقدرة القادر لقوله : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وأيضا خصّ الخليل عليه‌السلام بتجلّي الصرف بلا آيات في نفسه ، فلا يحتاج إلى أن يميته ثم يحييه ؛ لأن الحق يتجلى له في نفسه بلا واسطة الآيات ، ولكن يحتاج أن يرى الحق في غيره فيختص بالمنزلتين الصرف والالتباس ، ولم يكن لعزير عليه‌السلام مشاهدة الخاص ، فيحتاج أن يراه في نفسه بواسطة موته وحياته ، وفي غيره يعني في الحمار واللبن والثمار ، ليكون له مقامات وإن لم يكن صرفا كمشاهدة إبراهيم عليه‌السلام وهو بعد ما رأى من نفسه ما رأي فقيل له : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ) وهو مشاهدة الله في غيره ، وأيضا بلغ الخليل عليه‌السلام مقام كشف المعاينات في الحياة ، وكشف له ملكوت الأشياء لأجل اقتباسه نور مشاهدة الحق في الآيات ، ولم يضطر إلى أن يغيب روحه من الحواس حتى يرى صرف العين ؛ لأنه في حال الصحو ، ولم يبلغ عزير في ذلك الزمان مقام العيان ، فأنجاه الله إلى غيبته عن الصورة بنعت الغشيان ليرى في حال غيبته مشاهدة الحق ؛ لأنه في حال السكر ، فلما انتبه رأى في صحوه ما رأى في سكره ، لكن ما رأى في السكر وحال الغيبة مشاهدة الروح ، وما رأى في الصحو مشاهدة العيان.

وقيل : أري إبراهيم عليه‌السلام إحياء الموتى في غيره ، وأري عزير عليه‌السلام في نفسه ؛ لأن الخليل عليه‌السلام

تلطف في السؤال فقال : (أَرِنِي) فأري في الغير وتعجب عزير عليه‌السلام في القدرة ؛ ألا ترى أنه ختم قصته بالإيمان (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وختم قصة الخليل عليه‌السلام بالعزة والحكمة فقال : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ؛ لأن الخليل عليه‌السلام سأل إظهار الحكمة ومشاهدة العزة ، وعزير عليه‌السلام تعجب من القدرة ، فأجيب كل من حيث سأل.

وقوله تعالى : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) يجوز أن الله تعالى امتحن الخليل عليه‌السلام بأنواع البلايا في ظاهره وباطنه ، أما ما في ظاهره ؛ فهو الذي أخبر الله تعالى في كتابه أنه ألقى في النار وعذبه بأيدي الكفار ، وأيضا ابتلاه بذبح الولد وما أشبهه.

وأما الذي في باطنه فهو ما أخبر الله من اضطراب قلبه في تحصيل إدراك محض الربوبية ، وكان يقول : هذا ربى مرة ، ويقول : (أَرِنِي) مرة ؛ لأنه كان يطلب من خاطره إثبات محض اليقين ، فأخبر الله تعالى عن جميع امتحانه مع خليله عليه‌السلام في آية من كتابه قال : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) ، ومقصود الحق سبحانه وتعالى في ذلك أن بديع بواطن أنبيائه وأوليائه بخطرات نفوسهم حتى يحترقوا بفقدان الحبيب وتتقدس عن شوائب البشرية وإلقاء الشيطانية ، وأكثر ابتلاء الخواص هكذا كإبراهيم عليه‌السلام وموسى عليه‌السلام وعزير عليه‌السلام ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وذكر الله تعالى أحوالهم جميعا في كتابه ، أما لموسى عليه‌السلام ما روي عنه أنه كان يقول في مناجاته : «أي ربّ ، من متى أنت!».

وقال تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) ، وقال عليه‌السلام : «إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في كلّ يوم سبعين مرة» (١).

هكذا ابتلاء خواص الأنبياء والأولياء لا بأس ؛ لأن الرب رب والعبد عبد ، وأيضا اسأل الخليل عليه‌السلام مشاهدة الحق في لباس الخلق ، وأيضا أراد في سؤاله زيادة المعرفة في وسائط الآية لا من الاضطراب في الشك والتهمة.

وأيضا قال : (أَرِنِي) حقيقة بطنان الألوهية والربوبية ، وهذا من الخليل عليه‌السلام غاية استغراقه في الاشتياق وغوصه في سر حبيبه وأوصاف قدرته ؛ لأن المحب أراد أن يحيط بحقيقة ذات المحبوب من جميع الوجوه وذلك من شرط الاتحاد.

__________________

(١) رواه مسلم (٢٧٠٢) ، وأحمد في مسنده (٤ / ٢٦٠) ، وأبو داود (٢ / ٨٤).

وتحصيل ذلك زوائد اليقين وحقائق مقام التمكين ، وأن الله تعالى منزه عن أن يدركه أحد من خلقه ؛ لأن ذاته تقدس وتعالى امتنع بعزة هويته عن مطالعة المخلوقات ، فأجاب الله تبارك وتعالى خليله وقال : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) إنك لم تدركني بشرائط سر القدم ، وأنت مخلوق أسير بنعوت الحدث ، قال : (قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) بعد رؤية جنابي في عز عظمتك وبقاء ربوبيتك ؛ لأن قلبي لا يسكن عن طلب مشاهدة جمال ربوبيتك ، وأراد عليه‌السلام في سؤاله حيلة كي يخرج من عجز العبودية ويلتبس بصفاء الربوبية ، ولهذا السؤال أعظم من سؤال موسى عليه‌السلام بأن موسى عليه‌السلام سأل كشف المشاهدة ، والخليل عليه‌السلام سأل حقيقة علم صاحب المشاهدة وصرف ربوبيته ، فإذا علم الحق سبحانه من الخليل عليه‌السلام أنه أراد علوم الربوبية وحقائق صفات القدمية وكنه ذات السرمدية.

(قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) أشار إلى طيور الباطن ، التي في نقص الجسم ، وهي أربعة من أطيار الغيب ، الأول : هو العقل ، والثاني : القلب ، والثالث : النفس ، والرابع : الروح ، أي : اذبح طير العقل بسكين المحبة على باب الملكوت ، واذبح طير القلب بسكين الشوق على جناب الجبروت ، واذبح طير النفس بسكين العشق في ميادين الفردانية ، واذبح طير الروح بسكين العجز في تيه عزة أسرار الوحدانية.

(ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) أي : اجعل العقل على جبل العظمة حتى يتراكم عليه أنوار سلطنة الربوبية فيصير موصوفا بها ليدركني بي بعد فنائه فيّ ، واجعل القلب على جبل الكبرياء حتى ألبسه سناء قدسي فيتيه في بيداء التفكر منعوتا بصرف نور المحبة ، واجعل النفس على جبل العزة حتى ألبسها نور العظمة لتصير مطمئنة عند جريان ربوبيتي عليها ، لا تنازعني في العبودية ولا تطلب أوصاف الربوبية ، واجعل الروح على جبل جمال الأزل حتى ألبسها نور النور وعز العز وقدس القدس ، لتكون منبسطة في السكر مطمئنة في الصحو عاشقة في الانبساط راسخة في الإيجاد ، فإذا كانوا ملتبسين بصفاتي يطيرون بأجنحة الربوبية في هواء الهوية ، ويرونني بلباس الديمومية والأزلية ، (ثُمَّ ادْعُهُنَ) بصوت سر العشق ، وزمزمة الشوق ، وجرس المحبة من بساتين القربة إلى عالم المعرفة ، (يَأْتِينَكَ سَعْياً) بسرعة جناح سلطان الربوبية إلى معدن العبودية بجمال الأحدية ، وتراني بعد جمعهن في مربع صدرك بعيون اللاهوتية ونور الملكوتية ، (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) بعزك عرفان هذه المعاني واطلاعك على صفاته القديمة حكيم في ظهوره بغرائب التجلي لأسرار باطنك.

وقال بعضهم : أراد أن يصير له علم اليقين ، وعين اليقين فعل الدوام يؤمن ، والإيمان

غيبي في علم اليقين وعين اليقين ، فقال : (بَلى) ولكن أسأل مشاهدة الغيب.

وقال بعضهم : هذا السؤال على شرط الأدب ، كأنه يقول : أقدرني على إحياء الموتى ، يدل عليه قوله : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) والطمأنينة لا تكون ضد الشك ، قوله : (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) على هذه الشهوة والمنية.

وقيل : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) القلوب الميتة عنك بإحيائها بك.

قيل : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) أي : لست كنت لتستدل علينا بالشمس والقمر وأفعالنا ، فأسقطنا عنك علة الاستدلال ، وكنا دليلك علينا.

وقال بعضهم : اعلم أن الخليل مع خليله مختال في أموره حتى يجد قربا إلى خليله ، أو سماعا لكلامه حتى أن بعضهم قال :

وإنّي لأستنعس وما بي نعسة

لعلّ خيالا منك يلقى خياليا

وقال جعفر الصادق : شكّ في الكيفية ، وما شكّ في غيره ، قال النبي عليه‌السلام :

«أنا أولى بالشك من إبراهيم» (١). وعن جعفر في قوله : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال : قلب أصحابي.

وقال ابن عطاء : أي إني إذا سألتك أجبني ، وإذا ذكرتك ذكرتني ، فإن بذكرك تطمئن القلوب.

وقال سهل بن عبد الله : سأل كشف غطاء العيان ليزداد بنور اليقين يقينا وتمكنا في حاله ، ألا تراه كيف أجاب عن لفظ الشك ببلى.

وقال بعضهم : إذا سكن العبد إلى ربه واطمأن إليه أظهر الله عليه من الكرامات ما أقلها إحياء الموتى ، قال الله تعالى لإبراهيم : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ).

وقيل : إنه طلب رؤية الحق سبحانه لكن بالرمز والإشارة فمنع منها بالإشارة بقوله تعالى : (وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، وأن موسى إنما سأل الرؤية جهرا ، فقال : (أَرِنِي) فرد بالجهر صريحا فقال : (لَنْ تَرانِي).

وقيل : إنما طلب حياة قلبه ، فأشير عليه بأن ذلك بذبح هذه الطيور الأربع ، ومنها الإشارة في الطيور الأربع الطاوس ، فالإشارة إلى ذبحه هي زينة الدنيا وزهرتها ، والغراب بحرصه ، والديك بشقه ، والبط لطلب رزقه.

__________________

(١) رواه البخاري (٣١٩٢) ، ومسلم (١٥١).

وقيل : لما قال إبراهيم عليه‌السلام : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) قيل له : أرنا كيف تذبح الأحياء يعني إسماعيل عليه‌السلام يطالبه بما طالبه ، فلما رأى ما طلب منه وافى الحق سبحانه بحكم ما طلب.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩))

قوله تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) المن : تعزز البشرية على الخيرية واستكبار الحدث على الكبرياء القديم ، (وَالْأَذى) ازدراء السر عند العطاء المسئول.

وأيضا (بِالْمَنِ) : تذكر الحدث ونسيان العدم ؛ لأن المنان إذا منّ على أحد فقد نسي الله عند تذكر نفسه وهذا نوع من الشرك ، (وَالْأَذى) : بالبذل بنعت البخل ، والرمي بالعين إلى الفقراء على جهة تعظيم نفسه ورؤية شرفه عليهم.

وأيضا (بِالْمَنِ) : شهود الأفعال ، (وَالْأَذى) التماس الأعواض.

قال السري : من تزيّن بعمله كانت حسناته سيئات ، فكيف من رأى لها قيمة ، أو طلب لها عوضا؟

ويقال : ينفقون ما ينفقون ، ثم لا يشهدون أفعالهم ولا أعمالهم.

وقيل : كيف تمنون بشيء تستقدرونه وتستحقرونه؟

وقال الجنيد : أعلمنا أن الذي يخلص له ثواب صدقته ، وينجز له ما وعده فيستحق الثواب على عمله ، من لا يمن بصدقة ، ولا يؤذي من تصدق عليه.

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ) القول المعروف : الإنصاف لأخيك عند رؤية مكروه منه ، الذي يهيجك بالغضب ، والمغفرة عفوك له عند قدرتك عليه خير من أن تعطيه شيئا وتؤذيه ، وأيضا : ردك السائل بقول جميل وسترك عليه ، مما ترى منه من قبيح خير من إعطائك بالمن أو وعدك مع المطل.

ويقال : إقرار منك مع الله لعجزك وجرمك ، وغفران الله تعالى على تلك المقالة خير من صدقة بالمن مشوبة ، بالأذى مصحوبة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) أي : أنفقوا لأرواحكم ما كسبتم بأشباحكم من المعاملات المقدسة عن شوائب الرياء والسمعة (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) أي : مما أخرجنا بمزن المعرفة عن سحاب المكاشفة ، ومزارع قلوبكم من الحكمة والعلم اللدني ، والصدق والإخلاص والرضا واليقين على المريدين لتخلصوا بذلك من مكائد الشيطان ، أي : أنفقوها لنجاة صوركم بهذه المعاني التي تخرج من بساتين صفاء أسراركم ، (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) أي : يعدكم إلى قطع الرجاء عن الله تعالى في إتيان نواله منه.

وأيضا : يعدكم إلى قلة الطمأنينة ، وكثرة الشك فيما وعد الله تعالى لعباده من نفائس الألطاف وجميع الأقسام التي هي سبب حياة العباد في الدنيا والآخرة.

وأيضا : يعدكم إلى ظنون شتى في الله تعالى ، وهذا من قلة عرفان الحق والجهل بسلطانه ؛ لأن لقاء العدو يهيج سر العبد إلى الشك في الله ، وفيما وعد لعباده ، ويلجئه إلى التحير حتى يظن أن الحق سبحانه وتعالى عاجز فقير ، كما قال اليهود : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) وهذا من وسوسة العدو ، وليس لهم بإحراز العلوم والخوف من المعدوم والجمع والمنع وكثرة التهمة ، ودفع الصدقة والفرار من القناعة ومن الغنى بالكفاية ، وغرهم بالشروع

في طلب الزيادة (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) (١) أي : البخل وسوء الظن في الله وحب الدنيا وبغض الموت ، وعمارة الضياع والعقار ، وطلب الزيادة وبغض الفقر والفقراء ومنع الزكاة ، وما أوجب الله تعالى عليهم من الحج والجهاد.

وزيّن لهم حب الرئاسة ، وطلب نسوان المسلمين لأجل الزنا ، وشرب الخمور وسماع المعازف ، والتكبر والتجبر على الضعفاء والمساكين والجور والظلم والعناد ، وقلة الإنصاف واتخاذ الأرباب لحفظ الأموال وأشباه ذلك من الأمور الرديئة الفاحشة.

(وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) معرفته تطهر قلوب الأشحاء من أوساخ الشح والفاحشة ، وتحفظها عن الميل إلى حب الدنيا وما فيها وفضله مشاهدته وقربته ومعرفته وتوحيده وكشف أسراره لهؤلاء العباد الذين اصطفاهم لمحبته وخصائص مناجاته وخطابه وخدمته.

وأيضا المغفرة : طمأنينة النفس بكشف اليقين ، والفضل : الرضا بحكم الأزل.

وأيضا المغفرة : عن الكون ، والفضل : الوصول بلا وحشة البون.

وقيل : (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) بنسيان ما تعود به من فضله.

وقيل : إنه يعدكم الفقر في طلب فوق الكفاية فيكون عبده ، ومشتغلا به فيردك عن غنى الكفاية إلى طلب الزيادة ، وهو الفقر الحاضر.

وقيل : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) أي : الحرص ، والله يأمركم بالقناعة.

وقال أبو عثمان : الشيطان يعدكم الفقر على ترك الدنيا والإعراض عنها ، والله يعدكم على ذلك مغفرة منه وفضلا.

قال محمد بن علي : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) لفقره ، (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) وهو عمارة داره ، (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) وهو جزاء عمارة المآب ، وفضله وهو استغناؤه عن كل ما سواه.

قال بعضهم : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) تحذيرا للموحدين لا تفريقا للكافرين ؛ لأن الشيطان لا يدعو أحدا إلى معصيته ولا يزينها له حتى يعده الفقر فإذا خاف العبد الفقر دعاه إلى المعصية ، فإذا استحل المعصية دعاه إلى النفاق ، فإذا استحل النفاق دعاه إلى الكفر ، ولا يخاف الفقر إلا من نسي القسمة ولا ينسى القسمة من عرف الله الذي قسم لعباده ما أراد بمشيئته ، وأصل المعاصي إيقاد الشهوات وأصل النفاق التزيين للخلق ، وأصل الكفر منازعة

__________________

(١) قال التستري (١ / ٥٩) : قال : هو أن يأخذوا الشيء من غير حله ، ويضعوه في غير محله.

القدرة.

وقال سهل : الفقر أن تأخذ شيئا من غير وجهه ، وتضعه في غير حقه : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) الحكمة : إدراك أنوار بواطن القلوب أسرار عجائب بواطن الغيوب ، والحكمة ما حفظته الأرواح من ألواح الملكوت ، تلقف العقول إلهام الأحكام من علم الجبروت ، والحكمة أدب الرباني لتهذيب خلق الإنساني ، وأيضا الحكمة معرفة الأخلاق ، وإطلاع لغيوب النفس ودقائق الشيطان والعلم بفرق حديث النفس والعدو ولمسة الملك وإرشاد العقل ، وبصيرة القلب دفعه إلهام الحق ونطق الروح ، ورمز السر وأنواع خطاب الحق ومعرفة أقدار الخلق ، ومداواة معرض الباطن ، ودفع الوسوسة والمعرفة بأحوال الخلق والمقامات ، ووقائع المكاشفات وأنوار المشاهدات وإدراك منازل المعرفة ودرجات التوحيد وما يليق بهذه الحقائق مثل معرفة دقائق الرياء ، وشك النفس ، والخطرات المذمومة ، والبلوغ إلى علم اللدني والكرامات والفراسات الخاصة ، ورؤية الغيب ، والمحادثة والمخاطبة والمكالمة مع الحق جل اسمه في أسرار الخلوات وأنوار المناجاة. ومن يؤت هذه الدرجات فقد أوتي خلافة الأنبياء والرسل ودرجة الملائكة الكرام ، وهذه منزلة الأعلى من منازل الأولياء ومرتبة العليا من مقامات الأصفياء ، وهو خير الدنيا والآخرة ، وأيضا : صرف الحكمة إدراك مراد الحق من رموز خطابه ، وامتثال ما أدركه ، والحكمة زم الجوارح ودفع الخواطر والسكون في الطوارق وفي الجملة الحكمة ما تلتفت الروح الناطقة من الحق سبحانه من خصائص الكلام والإشارات الإلهية.

والحكمة : المعرفة بأفعاله في المصنوعات والآيات ، وأيضا : شهود السر على أسرار شواهد الملكوت ورؤية غرائبها.

وأيضا : الحكمة عند العارفين ولوح السر قباب الغيب واطلاعه على خزائن الملكوت برؤية العيان إلا بالدلائل والبرهان وتحصيله علوم الربوبية بلا واسطة الشواهد ، وانشراحه باقتباس أنوار القرب وانفساخه بإدراك خطاب الخاص ، واندراجه في طرقات الصفات ، وبسطه في مشاهدة الذات ، وإذا بلغ السر مدارج الربوبية عرف مراد الحق عزوجل في مجاري أحكامه ، ورأى في الشواهد صرف الألوهية بنعت جريان القدرة ؛ لأن الحكمة في هذه المواطن من بلوغ الروح سر عين الجمع ، وهو صفة الاتحاد وأفهم الحكمة من صفة الحق سبحانه الخاصة الذاتية القدمية ، ولا تدركها إلا بشرط الاتحاد ، وإذا أراد الله تعالى أن يهدي عبدا من عباده إلى مقام الحكمة ألبس روحه تلك الصفة حتى تصير ربانية صمدية مطلعة على جميع الأشياء ظاهرا وباطنا ، وتفرست المغيبات وتدرك حقائق الأشياء بتلك الصفة الخاصة ، وهذه

كلها مستفادة من قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً).

وقال تعالى في بعض أخباره التي أخبر نبيه عليه‌السلام : «لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى كنت سمعه الذي يسمع بي ، وبصره الذي يبصر بي ، ولسانه الذي ينطق بي ، وقلبه الذي يعقل بي» (١).

فإذا كان جميع وجوده مستغرقا في رؤية خالقه فكيف لا يطلع على مكنونات الغيب ومطلعه بنعت صفة الخاص هو الله تعالى.

وقيل : الحكمة إشارة لا علة فيها ، وقيل : الحكمة إشهاد الحق على جميع الأحوال ، وقيل : الحكمة تجريد السر بورود الإلهام.

وقال أبو عثمان : الحكمة هي النور المفرق بين الإلهام والوسواس.

وقال الشيخ أبو عبد الرحمن : سمعت منصور بن عبد الله يقول : سمعت الكتاني يقول : إن الله بعث الرسل بالنصح لأنفس خلقه ، وأنزل الكتاب لتنبيه قلوبهم وإنزال الحكمة لتسكن أرواحهم بها ، والرسول داع إلى أمره ، والكتاب داع إلى أحكامه والحكمة مشيرة إلى فضله.

وقال القاسم : الحكمة أن يحكم عليك خاطر الحق ، ولا يحكم عليك شهوتك.

وقال الجنيد : أحيا الله قوما بالحكمة ومدحهم عليها فقال : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (٢).

وقال عبد الله بن المبارك : الحكمة الخشية.

وقيل : الحكمة إصابة القول مع صحة الفعل بالإخلاص.

وقال بعضهم : متى أثر فيك الحكمة؟ قال : منذ بدأت أحقر نفسي.

قال بعضهم : الحكمة كنز الله ، والحكماء فيها ذمة الله ، أمرهم ربهم أن ينفقوا كنز الله على عباد الله.

وقال بعضهم : الحكمة نور الفطنة.

وقال معروف الكرخي : من حسن علمه نزلت الحكمة في قلبه.

وقال سهل : الحكمة هي مجمع العلوم وأصلها السنة.

قال الله تعالى (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) [الأحزاب : ٣٤] والآيات الفرض والحكمة السنة.

__________________

(١) رواه البخاري (٦١٣٧) ، وابن حبان (٢ / ٥٨) بنحوه.

(٢) فثبت أن الحكمة من المواهب لا من المكاسب ؛ لأنها الأقوال لا من المقامات والمعقولات التى سمتها الحكماء حكمة ليست بحكمة فإنها من نتائج الفكر السليم. تفسير حقي (١٠ / ٤٠٤).

وروى سهل عن شيوخه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القرآن حكمة الله بين عباده» (١) ، فمن تعلم القرآن ، وعمل به فكأنما استدرجت النبوة بين كتفيه لا الوحي ، يحاسب حساب الأنبياء إلا بتبليغ الرسالة.

وروى أيضا عن شيوخه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القرآن حكمة من تعلم القرآن في شيبته خلط القرآن بلحمه ودمه ، ألا وإن النار لا تمس قلبا داعي القرآن ولا جسدا اجتنب محارمه ، وأحل حلاله ، وحرم حرامه ، وآمن بمحكمه ، ووقف عند متشابهه ، ولم يبتدع فيه» (٢).

وقال بعضهم : الحكمة أربعة أشياء العلم والحلم والعقل والمعرفة.

قال أبو بكر الوراق : الإفاقة مع الحكمة ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً).

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢))

قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) يبشر أولياءه بعظيم المجازاة وجزيل المكافأة ، ويهيجهم إلى بذل الموجود والمجهود ، وأدبهم ليستعملوا خواطر الإلهام من عقد القلب وتلفظ باللسان ، ويحذر أولياءه باطلاعه على ضمائرهم وسرائرهم ، وأنه لا يقبل إلا من وجه الإخلاص ، وأعلم أنه يجازي كلا الفريقين المحسن بإحسانه والمسيء بسيئاته.

وقال الواسطي : أشار به إلى قوم لا يضرهم ولا ينفعهم مال ولا بنون ، أي : إن الله بعلمه يعلم من يختم له بخير.

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) إن كان الإعطاء من مقام اليقين بنعت التمكين ، وإن كان محقّا عن مطالعة النفس بنعت خصائص الإخلاص ، وأيضا أن أعلنت الإنفاق لتسبي بها قلوب المريدين وتهيج أسرارهم إلى بذل الأرواح في شرائط محبتنا (فَنِعِمَّا هِيَ) ،

__________________

(١) ذكره التستري في تفسيره (١ / ٦٠).

(٢) رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (٢ / ٥٥٣) ، و «السنن الصغرى» (١ / ٥٤٣).

لأن المعاملة من الممكن تصير قدوة لطلاب المعرفة ، وإن أخفيت ما عملت من نفسك والتفات المخلوقات وارتفاع الطبع في الأعواض (فَنِعِمَّا هِيَ) لأن قدس الباطن عن رؤية الأفعال وطمع الأعواض يكون واقعا لخطرات المشوبة بالرياء ، ويتولد منه صرف النفس في جميع الأحوال (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) قطع أسباب البداية من المعاملات والشفاعات عن قلوب أهل الولايات ، وأضاف كلاءتهم إلى نفسه بأنه هاديهم (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) أي : لأنفسكم جزاء ما علمتم من مقامات المجاهدات بصوركم ، ومن أعمال قلوبكم من ألم الفراق واحتراقها بنيران الأشواق ، كما قال عليه‌السلام حاكيا عن الله عزوجل : «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم ؛ فإنه لي وأنا مجاز به» (١).

وأيضا : أي لأنفسكم جزاء معاملتكم ، وإلى التفضل كله بالفضل به عليكم لا بأعمالكم وأفعالكم ؛ لأن خاصية الفضل لي ، لا يدخل فيه على العبودية.

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤) الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩))

قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الذين حبسوا أنفسهم عن

__________________

(١) رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (٣ / ٢٩٥) ، والطبراني في «الأوسط» (٥ / ١٣١).

الميل إلى غير الله في مجلس مراقبة الله ، ناظرين من الله إلى الله وراضين بقضاء الله في مراد الله ، صابرين في بلاء الله محتسبين لله في مجاهدة أنفسهم ، لا ينقضون عهود ميثاق الأزل إلى الأجل ، أي : الذين وصفهم الله تعالى بإحضار نفوسهم عن التعرض إلى غير ذلك بالرمز والإشارة ، وسؤال غيره على أحوالهم وصونا لأسرارهم ومراعاة لحقيقة فقرهم ، وعفة في مجاهدتهم خدمة أهل الدنيا ببذل المال والأنفس ليلا ونهارا (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) أي : لا يتفرقون عن مجالستهم ومراقبتهم من قوة الحال ، وغلبة الذكر عليهم واشتغالهم بمشاهدة سيدهم وشدة محبتهم وكثرة عشقهم وحقيقة يقينهم بربهم لطلب معاشهم وحوائجهم ؛ لأنه قد غلب عليهم صحة التوكل وحسن الرضا وحقيقة التسليم وهم كانوا يفوضون جميع أمورهم إلى الله ، ويسكنون بوعده ؛ لأنه منّان بأوليائه ، وأهل طاعته أهل الثناء والمغفرة بحفظ أوقاتهم عن الخطرات والزلات (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) لأنهم لا يتملقون عند أبناء الدنيا بكلام اللين وإظهار التقشف ، ولا يظهرون أحوالهم لأجل الرياء والسمعة شفقة بأحوالهم مع شدة افتقارهم إلى الله.

وصف الجاهل بقلة المعرفة بأحوالهم ؛ لأن العالم يعرفهم بنور العلم والإيمان (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) بشارة مشاهدة الحق في وجوههم ، وبهجة نور المعرفة في قلوبهم ؛ لأن الله تعالى أسبل على وجوههم نقاب سناء الصفات ، وألبس جباههم نور جمال الذات أي : تعرفهم بهذه الصفات ؛ لأنهم الأتقياء الأخفياء الذين لا يركنون إلى الخلق بسبب الدنيا وزينتها ولذتها ، وأنهم من أهل المحبة الذين يبتلون بأنواع البلايا هم صابرون محتسبون لله وفي الله ، (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) لا ينبسطون إلى أهل الدنيا ولا يبتغون حظوظ أنفسهم من الخلق ، ولكن ينبسطون إلى الإخوان في الله تلطفا بهم وتعطفا عن الميل إلى مألوفات الطبع والهوى.

وأيضا : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) وصف الله تبارك وتعالى أهل حقائق المعرفة ، ونعتهم بالفقر أي أنهم حبسوا في صحاري التوحيد ، وتيه التقديس بأصفار التحير ، وألزموهم تراكم لطمات بحار الوحدانية ، وأغرقوهم في سر العظمة مفتقرين من عين التلوين إلى عين التمكين ، لا يستطيعون من ثقل أحمالهم مسيرا من الحيرة إلى رؤية المنة وكشف القربة في أرض الديمومية ، والطيران عن أشكال الحدوثية في أسرار الهوية القدمية.

وأن الله تعالى كشف لهم عن بساط العظمة ، وأراهم نقوش صور غيب الغيب التي التبس الحق بها بنعت الرضا عن العشاق فيتحيرون بين الرسم والصرف تحيرا استأصل لباس الحدوثية عن نفس أرواحهم ، فإذا برزوا بهذه السمات من بطنان عجائب الغيب يحسبهم

صبيان الملكوت أنهم في جمال بسط الديمومية ، ولا يعرفون شأن قبضهم ؛ لأنهم في طيب مزمار الإحسان يحتجبون به عن إدراك أحوال المحترقين بنيران الكبرياء ، لكن يعرف من غيب وراء الوراء وقطع حجب رسوم العبودية والربوبية أنهم مفتقرون إلى مشاهدة حسن الحسن ، ومكاشفة قدم القدم والجمع بنعت الاتحاد ، لا يظهرون مع عجزهم أحوال تحيرهم واحتياجهم لأهل التمكين غيرة على أهل الانبساط لكن يحترقون في الباطن ويستبشرون في الظاهر ، هؤلاء مرضى المحبة وأسرار المعرفة ينعتهم الله مقام التفرقة بنعت الجمع ، وقيل : (أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الذين وقفوا مع الله بهممهم فلم يرجعوا منه إلى غيره ، وقيل : (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) (١) أي : لا يتحركون لطلب الأرزاق.

وقال محمد بن الفضل في هذه الآية : يمنعهم علو همتهم عن رفع حوائجهم إلى مولاهم.

وقال ابن عطاء : يحسبهم الجاهل بحالهم أغنياء في الظاهر ، وهم أشد الناس افتقارا إلى الله تعالى في الظاهر ، فاستغناؤه في الباطن.

وقيل في (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) : أي في تطييب قلوبهم وحسن حالهم وبشاشة وجوههم ونور أسرارهم وجولان أرواحهم في ملكوت ربهم.

وقال سهل : إن الله عزوجل وصف الفقراء بصفة القدم من حال سؤال الافتقار واللجوء إليه ووصفهم بالرضا والقنوع لا استطاعة لهم إلا به ومنه ، ولا قوة لهم من حولهم وقوتهم.

قد نزع الله منهم ركون قلوبهم إلى غيره ، والمساكين راجعون إلى الأسباب كما وصفهم الله مساكين يعملون في البحر فردّهم إلى حال السكون إلى الأسباب.

لذلك قال بعضهم : الفقر عز والمسكنة ذل.

وقال عمرو المكي : من أحب شيئا كان به ضنينا ، من حب شيئا كان به أنيسا ، ومن أحب شيئا كان له أسيرا.

وقال النصر آبادي : الفقير ينبغي أن يكون له قناعة وعفة ، ويعتبر بالقناعة ويرتدي بالعفة ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلم قال : «القناعة مال لا ينفد» (٢) ، فإذا كان الفقر بهذه الصفة دخل في

__________________

(١) أي : ذهابا في الأرض للتجارة أو للأسباب ، بل شغلهم الجهاد والتبتل للعبادة عن الأسباب ، وهم أهل الصّفّة ، كانوا نحوا من أربعمائة من فقراء المهاجرين ، يسكنون صفة المسجد ، يستغرقون أوقاتهم في العلم والذكر والعبادة ، وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. البحر المديد (١ / ٢٣٢).

(٢) رواه الطبراني في «الأوسط» (٧ / ٨٤) ، والديلمي في «الفردوس بمأثور الخطاب» (٣ / ٢٣٦).

جملة حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام» (١).

وقال الثوري : تعرفهم بسيماهم يفرحون بفقرهم ، واستقامة أحوالهم عند موارد البلاء عليهم.

وقال أبو عثمان : تعرفهم بسيماهم بإيثار ما يملكون مع الحاجة إليه.

وقال الجنيد : كلّت ألسنتهم عن سؤال من يملك الملك ، فكيف من لا يملكها.

قال الجنيد : سئل عن الفقير الصادق متى يكون مستوجبا لدخول الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام؟ قال : إذا كان هذا الفقير معاملا لله بقلبه ، موافقا له في جميع أحواله منعا وعطاء بعد الفقر من الله نعمة عليه يخاف على زوالها ، كما يخاف الغني على زوال غناه ، وكان صابرا محتسبا مسرورا باختيار الله له الفقر صائنا لدينه كاتما لفقره يظهره الإياس من اليأس ، مستغنيا بربه في فقره ، كما قال الله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) ، فإذا كان الفقير بهذه الصفة دخل الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ، ويكفى يوم القيامة مؤنة الموقف.

وقال الأستاذ في قوله : (الَّذِينَ أُحْصِرُوا) : أي أخذ عليهم سلطان الحقيقة كل طريق لهم فلا لهم في الشرق مذهب ، ولا لهم في الغرب مشرب ، كيفما نظروا رأوا سرّ ذوقات التوحيد محدقة بهم :

كأنّ فجاج الأرض ضاقت برحبها

عليّ فما تزداد طولا وعرضا

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) من بلغ رؤية جمال مشاهدة الحق عشقه ، ومن شرط العشق أن يبذل العاشق وجوده وماله في جميع الأوقات دفعا للخطرات وخوفا أن يسقط عن درجات المشاهدات.

قال ابن عطاء : الوقت وقتان ، والحال حالان ، فالوقت ليل ونهار ، والحال سر وعلانية فإذا أنفق في الليل والنهار والسر والعلانية فقد قضى ما عليه إذ المحب لا يدخر عن حبيبه شيئا ، لا يفتر عن رضاه بحال.

قال عبد العزيز المكي في هذه الآية : أي : في ظلمة الليل حذرا من خجلة الأخذ والنهار بواسطة تجعل بينه وبين الأخذ وحذرا عن حياته منه سر صفائه ، وإخلاصا وعلانية أسوة واقتداء.

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ

__________________

(١) رواه الترمذي (٤ / ٥٧٨) ، والدارمي (٢ / ٤٣٧) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٨٠).

تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢))

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) أدّب قوما بتأديبه في كرمه ورحمته على المعسرين من الطاعة والمكثرين من المعصية ، وهذا إخبار عن غاية شفقته على عباده إذ أمر بعضهم أن يمهل بعضا في واجب حقوقهم ، أشار بهذا إلى حقيقة الحقوق له يهب بفضله ما قصروا في واجب أمره تقدس وتعالى ، وأيضا : رمز لأصحاب المعاني في هذه الآية أي : إذا كان أهل المعرفة في عسر من المشاهدة وكشف القربة ، فلا تطالبوهم بأثقال المعاملات والتماس الكرامات إلى ميسرة الكشوف ، وبروز أنوار الحضرة في قلوبهم لأن للعارف مقامين : الأول : هو القبض ، والثاني : هو البسط ، فإذا كان في القبض فهو في هبوط الهجران وهو عسر ظاهر لا يؤدي في ذلك المقام حق الحقيقة ، وإذا كان في مقام حق الحقيقة في مقام البسط وهو في رخاء التوحيد ويطيق أن يؤدي ما وجب عليه من حق الطريقة ؛ لأنه في ذلك الحال ملتبس بأنوار الربوبية ويتهيأ له ما يريد كما وصف الله تعالى أنبياءه وأولياءه في حال انبساطهم وبسطهم مثل عيسى عليه‌السلام حيث قال : (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ).

(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) أي : خافوا يوم الفصل من الوقوف مقام الحياء والخجلة بين يدي ملك يمنع المندرجين عن مشاهدته ، ويعاقب أولياءه بالخطرات والإشارات.

قال الواسطي : هذا ترهيب للعام وأما للخواص بقوله : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ).

قال بعضهم : من لم يتعظ بمواعظ القرآن فليس له سواه سقط ، وأي موعظة أعظم مما أخبر الله به عباده من الرجوع إليه ، فمن لم يحزن ؛ لذلك الموقف ولم يبك لذلك المشهد فبأي موعظة يتعظ؟ والذي يمضي فيه غير موثوق والذي يبقى غير مأمون.

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))

قوله تعالى : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) أي : لا تكتموا ما أشهدكم الله من مقام أهل الولاية بأن تخملوا ذكرهم حسدا عليهم (وَمَنْ يَكْتُمْها) يعني : ما خصهم الله به (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) أي : جزاء كتمانه قسوة قلبه ، وإثم قلبه الحسد بأهل الولاية ، وجزاء الحسد الطبع والختم ، نعوذ بالله من ذلك.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي : لله خزائن ملكوت الكونين وأسرار غيب العالمين ، لا يكشفها إلا لخواص أحبته.

قال ابن عطاء : الكونان هو مبديهما من غير شيء فمن اشتغل بهما قطعاه عن الله ، ومن أقبل على الله وتركهما ملكهما الله تعالى إياه (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) أي : إن تظهروا ما في قلوبكم من حقائق المكاشفات والمخاطبات ليقتدي به أهل الإرادة ، وتخفوه عجائب الغيب التي ترى عيون الأرواح القدسية تورعا لئلا تفتتن بها أقوام من شفعاء المؤمنين لقلة فهمهم يرينكم الله تمكين المظاهر بما أظهرتم ، حتى لا تفتتنوا بدقائق الرياء والسمعة ، وبيقين الباطن بما أخفيتم من الخلق إخلاصا وصدقا لتذوقوا حلاوة صفاء الإخلاص في كتمان الأسرار ، وأيضا : أن تبدوا في الظاهر من شره الإحساس متابعة الوسواس (أَوْ تُخْفُوهُ) ما تحدث به أنفسكم في باطنكم من أطباء القلوب وحراس الغيوب يجازيكم بفتنة النفس والشيطان والغفلة والشهوة (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) لمن يدفع خطرات الباطن ترغيبا ، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) لمن يتبع هواه بدخوله في الزلات تهذيبا.

وقال جعفر : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الإسلام ، (أَوْ تُخْفُوهُ) قال : الإيمان.

وقال الواسطي : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) من إرادة الكونين والمكنون ، (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) أي : بإرادتكم فيغفر لمن يشاء لمن أراد الجنة ونعيمها ، ويعذب من يشاء من أثر الدنيا على الآخرة.

وقال علي بن سهل : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الأعمال ، (أَوْ تُخْفُوهُ) من الأحوال ، (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) العارف على أحواله والزاهد على أفعاله.

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) بأن الله تعالى قدس باطن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شوائب النفسانية وخطرات الشيطانية ، وكحّل عين سره بنور الملكوت ، حتى قيل : بالصدق والإخلاص ما كشف له من عجائب الجبروت ، ورأى بمصابيح القرآن أسرار الأزل والأبد ما جرى في بطنان الغيب وغيب الغيب رؤية عيان ، وآمن بها إيمان المشاهدة والعرفان ، كما قال الله : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [النجم : ١١] (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) المؤمنون على قسمين منهم العارفون والصادقون والمشاهدون والمقربون ، والمكاشفون والمخلصون والمحسنون والراضون والمتوكلون والمحبون والمريدون والمرادون ، كل شاهدوا بعضا مما شاهد الرسول عليه‌السلام ولو لا ذلك لم يشرعوا في بذل الأرواح ومجاهدة الأشباح ؛ لكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشاهدة الصرف خاصة له بلا زحمة الخطرات ، ولهم مشاهدة اليقين بوسائط الالتباس ممتحنين بالوسواس.

والقسم الثاني من المؤمنين هم الذين آمنوا إيمان الفطرة بإرشاد العلم والعقل والبيان والبرهان ، وأصل لهذا الإشكال إلهام وفروعها أسباب.

وأيضا استقام النبي الأمي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند صدمة سلطان الألوهية ، وتمكن فيها عاين من جلال ذات القديم ـ جل جلاله ـ بنعت صرف المشاهدة واليقين ، والمؤمنون يريهم الله بعض أنوار غيبه فآمنوا بما أدركوا به.

قال الأستاذ : آمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث البرهان.

ويقال : آمن الخلق بالوسائط ، وآمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير واسطة.

ويقال : هذا خطاب الحق سبحانه وتعالى معه ليلة المعراج على جهة تعظيم القدر ، فقال : (آمَنَ الرَّسُولُ) ولم يقل آمنت كما يقول العظيم الشأن من الناس.

قال الشيخ : وأنت تريد قلته.

وقال ابن عطاء : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معدن سر الحق أظهره للعام أوقفه على شريطة قوله : (آمَنَ الرَّسُولُ) ، وإذ أخفاه أخبر عنه بقوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] ، وهو مستغرق أوقاته في انتظار ما يظهر عليه الحق من الزيادات على روحه وسره وفؤاده وقلبه وشخصه ؛ ألا تراه كيف نعته عن صفاته ، وقوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ) عن صفاتك لحياتك بنا وبإظهار صفاتنا عليك ، (وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] عاجزون عن بلوغ درك صفاتك ، وإيمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيمان مكاشفة ومشاهدة ، وإيمان المؤمنين إيمان بالوسائط والعلائق.

وقيل في قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) : حكما وتسمية ، ولا المؤمن موجود ولا الإيمان ظاهر.

وقال فارس : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) قال : إيمان حقيقة ومشاهدة (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) إيمان حكم ومتابعة (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي : لو أظهر من جمال عز الأزل صفة من صفاتي لا يطيق الخلق أن يستقيموا عند كشف ذرة منها ، لكن أواسيهم بلوائح التجلي بنعت الالتباس ؛ لكي لا يفنوا مثل تجلي موسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأيضا : تسربلت الأرواح بأنوار الكبرياء ، فاستقلوا بأنفسهم عند نهوضهم بأثقال المعرفة ، وما أدركت من عجائب الربوبية ، وهذا معنى قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) [الأحزاب : ٧٢] ، وأيضا : لا يكلف الله حق عبوديته نفوس أوليائه إلا قدر ما يطيقون من جهة التقصير والضعف عند تحمل حقيقة العبودية ؛ لأن من حق الربوبية أن تذوب الأرواح والأشباح في أول تكبيره كبروا تعظيما وإجلالا ، وأن الله تعالى ما أظهر للخلق من معرفته إلا مقدار ما يعيشون به من جهلهم بربوبية ربهم ، ولو أيقنوا أنهم في معزل من حقيقة العبودية وإدراك صرف الربوبية ماتوا حسرة على ما فاتوا ، (لَها ما كَسَبَتْ) أي : ما كسبت أرواحهم من مقاساة الهجران في دار الامتحان ، (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) ما اكتسبت النفوس من جرائم الخطرات عند مكاشفة الغيب للأسرار فيجازي الله النفوس في الدنيا بالذوب في المجاهدات ، ويجازي الأرواح في الآخرة بصرف المشاهدات ، (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا) أي : لا

تحجبنا بنا عليك إن نسيناك ، (أَوْ أَخْطَأْنا) بالتفاتنا إلى غيرك ، (وَاعْفُ عَنَّا) أي : اعف عنا قلة المعرفة بك ، (وَاغْفِرْ لَنا) التقصير في عبادتك ، (وَارْحَمْنا) بمواصلتك ومشاهدتك.

وقال ابن عطاء : (لا تُؤاخِذْنا) عند المصيبة واستر علينا في القيامة ولا تفضحنا بها على رءوس الأشهاد (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) هذا نجوى أهل الامتحان من المكاشفين والمشاهدين أي : نحن أسراء معرفتك وضعفاء محبتك ، فارحمنا بتجلي العظمة حتى نقوى منك بك في محل العبودية وكشف الربوبية (فَانْصُرْنا) بمعونة المعرفة وجند حقائق الإلهام عن مشاعر الألوهية ، (عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي : على أوباش الطبيعة حتى يهزموا عن ميادين معارفك بتأييد معرفتك وتشريح من تشويشهم في صرف عبوديتك وطلب مشاهدة حضرتك.

سورة آل عمران

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧))

(الم) الألف إشارة إلى قدس فردانيته وامتناعه عن التصاق الحدث بقدمه ، واللام إشارة إلى لطائف غيبه ، والميم إشارة إلى غرائب ملكوته مما أخفى عن أعين الخلائق من قوة عيون أوليائه وأنبيائه ، وأيضا الألف إشارة إلى أوليته ، واللام إشارة إلى جلاله وجماله ، والميم إشارة إلى محبته لأوليائه في القدم ، وقد جرت العادة بين الأحباب التخاطب بالحروف المفردات سترا على الأحوال ، وكتما للأسرار لئلا يطلع عليها أجنبي من هذه المعاني لغير هذه المباني.

كما قال : قلت لها قفي ، قالت لي : قاف لكي لا يقف العاذلون على الأسرار ، ونطقوا بهذه الإشارة حذرا من استشراف المترقين ، هكذا سنة الإلهية خاطب خواص محبيه بالرموز والإشارات مثل الحروف المقطعة هي رموز من الحق لسادة أنبيائه وأوليائه تشريفا لهم وتعظيما على سائر الخلق ، ومن قرب من الله تعالى فالإشارة معه أدق والرمز معه أرق.

ألا ترى أنه تعالى أسمع كليمه كلامه أحسن العبارات ، وأسمع حبيبه خطابه بأجمل الإشارات ، قال عليه‌السلام : «أوتيت جوامع الكلم ، واختصر الكلام اختصارا» (١).

وقيل : العبارات للعموم والإشارات للخصوص.

وقيل : الإشارة في قوله : «ألف» أراد قيامه بكفايتك على عموم أحوالك ، والإشارة من اللام إلى لطفه بك في خفي السر ، والإشارة من الميم موافقة جريان التقدير لمتعلقات الطلب من الأولياء ، ولا يتحرك في العالم شيء ، ولا يظهر ذرة إلا وهو محل الرضا منهم.

وإذا قرعت هذه الألفاظ أسماع المحبين تفهم حقائقها أسرارهم ، وتقرأ معانيها من ألواح الإلهام أرواحهم القدسية ، وكل حرف منها إشارة إلى اسم ، والاسم إشارة إلى فعل والفعل إشارة إلى الصفة والصفة إشارة إلى الذات ، فإذا لقيت هذه الرموز في قلوب العارفين رقوا مدارج الأسماء والأفعال والصفات حتى يبلغوا سرادق الكبرياء ، فيكشف لهم معلومات السرمدية من الحق للحق فيفطنون علوم المجهولة التي ليست في ديوان الملكوت.

وقيل : الألف من الأحدية ، واللام من اللطف ، والميم من الملك.

وقال ابن عطاء : إن الله جعل الأحرف سببا متصلا بالحلق ، وجعل المشكل لها سببا متصلا منه لها وهو سر الله ، يعني المشكل لا يعلمه إلا هو.

وقوله تعالى : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) الحي الذي لا تقاس حياته ببعد الأوهام ، ولا تدرك سرمدية ذاته بغوص فطن الأنام ، وأيضا (الْحَيُ) الذي حياته قام به العالم واستنارت بنورها روح آدم عليه‌السلام ، و (الْقَيُّومُ) الذي يبقى ببقائه أهل الفناء ويفنى بقهر قيوميته أهل البقاء ، وأيضا (الْقَيُّومُ) هو المقدس عن العلائق وقيامه لخلقه بنعت حفظهم ورحمته عليهم روح الخلائق.

وقال الأستاذ : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) الذي لا يلهو فيشغل عنك ، ولا يسهو فيبقى عنه فهو على عموم أحوالك رقيب سرك إن خلوت فهو رقيبك ، وإن توسطت الخلق فهو قريبك.

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده (٢ / ٢٥٠) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (٩ / ٣١٨) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٢ / ١٦٠).

وقيل : (الْحَيُ) الذي لا أول لحياته ، و (الْقَيُّومُ) الذي لا أمد لبقائه.

وقال الكتاني في حقيقة (الْحَيُ) : الذي به حياة كل حي ، ومن لم يحي به فهو ميت.

وقيل : (الْقَيُّومُ) من هو مزيل العلل عن ذاته بالزوال ، أو بالعبارة عنه وبالإشارة فلا يبلغ أحد شيئا من كنه معرفته ؛ لأنه لا يعلم أحد ما هو إلا هو.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي : إن الذين حجبوا عن مشاهدة الحق بنعت اليقين في رؤية شواهد الربوبية ، (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) لهم حرمان وجدان وصول مقامات أهل الهدايات.

وقال أبو سعيد الخرّاز : كفروا بإظهار كرامات الله على أوليائه ، (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) نفي الحق عن ذلك ، (وَاللهُ عَزِيزٌ) يعز أولياءه بولايته وإظهار الكرامات على من يشاء من عباده ، (ذُو انْتِقامٍ) من يجحد ذلك ، (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) يعز أولياءه بعز التوحيد ، وينتقم من أعدائه إنكارهم على أمنائه بألا يهديهم إلى ما آتاهم من أنواع فضله وكرمه.

قال الواسطي : (عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) عن أن يخالف إرادته أحد ، بل ينتقم بما يجري عليه أن يكون عقوبته مقابلة (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) لا يخفي عليه شيء ما في صدور أوليائه في الأرض من لهب الاشتياق ، ولا مما في قلوب أصفياء ملائكته تحت العرش من أزيز نيران الخوف ، وهذا التسلية من الله تعالى لأوليائه أنه يعلم أحوالهم في شوقه ، وإنه يجازيهم بمقاساتهم وممارستهم ابتلاءه ، وأيضا : كيف يخفى عليه شيء مما فطره من محدثات الكونين ، لكن هذا تخويف من الله لأعدائه أنذرهم بأنه علم ما في ضمائرهم من دنس الكفر ، وإنه يجازيهم بسوء أعمالهم.

وقال جعفر : لا يطلعن عليك ، فيرى في قلبك سواه فيمقتك.

وقيل فيه : لا يخفي عليه شيء ، فطالعوا همومكم أن تكون خالية عن الأهواء والشبهات ، فإنه لا يخفى عليه شيء.

(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) (١) أي : الذي يلبسكم في الأرحام نور جمال القدرة ، ويزينكم بحسن مكث المشاهدة ليسر الناظر إذا نظر إلى وجوهكم بإدراك حسن إبداعه وإظهار جلال ربوبيته في وجوهكم ، كما قال تعالى لكليمه : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ

__________________

(١) هذا فيما لا يزال من حيث الخلقة ، وهو الذي قدّر أحوالكم في الأزل كيف شاء ، وهذا فيما لم يزل من حيث القضاء والقسمة ، تفسير القشيري (١ / ٢٧٨).

مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩] ، وأيضا (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) على استعداد الولاية والهداية ، وأيضا يصوركم ربانيين في علوم المعارف ، أو مطمئنين في كشف نور الحقائق أو المخبتين تحت أثقال المعاملات أو المحسنين في شرف المقامات ، كما كان في علم أزليته.

وقيل : يصوركم عالما به وعالما بصفاته وعالما بأوامره وجاهدا له ، فمن لم يصحبه حزن ما قدر عليه في وقت تصويره من السعادة والشقاوة فهو الجاهل به والآمن من مكره.

وقال محمد بن علي : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) من الأنوار والظلمات.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق الخلق في ظلمة ، وألقى عليهم من نوره ؛ فمن أصابه ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضلّ» (١).

وقال الحسين : خصوصية تصويره إياك أنه قوّمك فسواك وعدلك ، وأنزلك منزلة المخاطبين (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) المحكمات : التي لا تتبدل مما كانت في الأزل ، وهي آيات لا بدّ للمؤمنين من استعمال أوامرها ؛ لأنها في إصلاح الخلق وتثبيت إيمانهم بمنزلة الدواء للمرضى.

قال أبو عثمان : هي فاتحة الكتاب التي لا تجزي الصلاة إلا بها.

وقال محمد بن الفضل : هو سورة الإخلاص ؛ لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط ، (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي : مدار أوامر الكتاب ، وموئل أصول المعاملات ، ومنبت أشجار الإيمان في قلوب أهل المداناة بنعت المزيد ، ويهيج الأرواح في اقتباس المخاطبات ، (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) هي أوصاف التباس الصفات وظهور الذات في مزار الشواهد والآيات (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أهل التقليد يخوضون في المتشابهات طلبا للتوحيد ، وهم بمعزل عن شهوده ؛ لأنهم أصحاب الوهم ، وصاحب الوهم لا يعرف حقيقة الأشياء المحدثة ، فكيف يعرف وجود الحق برسم الوهم ، وإذا كان يطلب العلوم المتشابهة لم يبلغ حقيقتها ويقع في الفتنة ، ولهذا قال عليه‌السلام : «تفكروا في آلاء الله ، ولا تتفكروا في ذات الله» (٢).

ومن لا يعبر بحار حقائق اليقين ولم ينظر في مرآة التحقيق ، ورسم في المتشابهات يسقط عن رسوم إيمانه ، ولا يبلغ معاني المتشابهات ؛ لأنه مقام أهل العشق الذي يرون الحق في كل

__________________

(١) رواه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (٤ / ١٩٨).

(٢) رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (١ / ١٣٦).

شيء.

كما قال بعض أهل المعاني : ما نظرت إلى شيء إلا ورأيت الله فيه.

هذا وصف ظهور التجلي في قراءة الكون لا أن الحق تعالى حل في الأشياء ؛ لأنه منزه عن أشكال الحلول ، (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) خصّ نفسه بحقيقة علم تشابه أسرار التباس هيئات الجبروت في الملكوت بنعت ظهور تجليه لأهل حقيقة التوحيد والتفرد ، وأضاف إلى أوليائه من أهل العشق خاصة طرفا من علم المشاهدة بنعت الالتباس في حقيقة المكاشفة ، (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) إيمان مشاهدة وحقيقة علم وعرفان مكاشفة ، والراسخون هم الذين كشف لهم أسرار العلوم اللدنية ، وعجائب معلومات الآخرة الخارجة من أنصار الطاهرة ، وأيضا الراسخ الرباني الذي تخلق بخلق الحق جلت عظمته أن يكون له كفوا.

وقال الواسطي : هم الذين رسخوا بأرواحهم في غيب الغيب في سر السر فعرفهم وخاضوا في بحر العلم بالفهم لطلب الزيادات ما كشف لهم من مدخور الخزائن تحت كل حرف منه من الفهم وعجائب الخطاب فنطقوا بالحكم.

وقال سهل : الرسوخ في العلم زيادة بيان ونور من الله ، كما قال : (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤].

وقال : الراسخ في العلم من علوم المكاشفة رباني نوراني وذاتي ، وأحكام العلوم أربعة : الوحي والتجلي والعندي واللدني.

وقال بعضهم : الراسخ في العلم من طولع على محل المراد من الخطاب.

وصف الأستاذ ـ رحمه‌الله ـ أهل اليقين وأهل الزيغ ، قال : أما الذين أيدوا بأنوار البصائر ، فمستضيئون شعاع شموس الفهم ، وأما الذين أسبلوا غطاء الريب ، وحرموا لطائف التحقيق فتنقسم بهم الأحوال ، وترتجم لهم الظنون ، ويطيحون في أودية التلبيس فلا يزدادون إلا جحدا على جحد ، ونفورا على شك.

قال : ومن وجد علم التأويل من الله عزوجل فيكون إيمانهم بلا احتمال لجولان خواطر التجريد ، بل عن صريحات الظهور وصافيات اليقين.

قال : وأصحاب العقول هم في صحة التذكير لوجود البراهين وستر أحكام التحصيل ، وأيضا الراسخون في العلم المشاهدون بنعت الأرواح قبل الأشباح في ديوان الأزل ، قد عاينوا مكنونات أسرار خصائص العلوم القدمية ، وفهموا منها عواقب شأنهم في مدارج البقاء فرسخوا في بحر عين اليقين ، ولم يتزلزلوا في ظهور الحكومات بنعت التصاريف والتحويل ،

والمكر والخديعة فلم ينهزموا عن صولات القهر وتخويفه ، وثبتوا صدمات الله ، وفي الله فيما ظهر من الله من رسم المحو والطمس ، وعلموا أن جميعها ابتلاء ، وامتحان فسكنوا في العبودية رسما ، ورسخوا في مشاهدة الربوبية حقيقة وصرفا.

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦))

قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) أي : لا تزغ قلوبنا بفقدان الطمأنينة بذكرك ، وأيضا : لا تزغ قلوبنا عن قربك ومحبتك بعد إذ هديتنا إلى معرفتك ومحبتك ، (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) علما خاصا ومعرفة تامة ، (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) وهب ما لا يحصى شكره.

وقال سهل : رجع قوم للتضرع إليه والمسكنة بين يديه ، (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) أي : لا تمل بقلوبنا وأسرارنا عن الإيمان بك إذ مننت علينا به.

وقال جعفر : لا تزغ قلوبنا عنك بعد إذ هديتنا إليك من لدنك رحمة لزوما لخدمتك ، على شرط السنة (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) المعطي بفضله عباده ما لا يستحقونه من نعمة.

وقال الأستاذ : ما ازدادوا قربا إلا ازدادوا أدبا ، واللياذ إلى التباعد أقوى أسباب رعاية الأدب.

وقيل : حين صدقوا في حسن الاستعانة أيدوا بأنوار الكفاية ، (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) إنك جامع أهل الحقيقة على بساط القربة على بساط الكرامة ، والموقنون على بساط المشاهدة والمحبون على بساط الوصل ، والعارفون على محل الأنس ، وكل طائفة تبلغ عندك بطي منتهى مقاصدهم التي كانوا في الدنيا من رسم المقامات والحالات والمكاشفات والمشاهدات.

وقال الأستاذ : اليوم جمع الأحباب على بساط الاقتراب وغدا جمع الكافة لمحل الثواب والعقاب اليوم جمع الأسرار لكشف الجلال والجمال ، وغدا جمع الأستار لشهود الأهوال ومقاساة ما أخبر عنه من تلك الأحوال ، (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) لا يخلف ما وعد لأنبيائه وأوليائه من وصولهم إلى مشاهدته بعد ما خاطبهم حين أبدع أرواحهم قبل وجود الكونين تعريف نفسه لهم بلا كلفة العذاب ومشقة الحساب ، وأيضا لا سبيل لتغير الحدثان إلى قدم علم الرحماني ؛ لأنه تعالى منزه عن أن يفعل شيئا بعلم يحدث في نفسه.

وقال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي : الميعاد الذي وعد من السعادة والشقاوة في أزلي علمه لا يخلف ميعادا لزهد زاهد ، ولا لفسق فاسق.

قال الواسطي في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) قال : في إنزال كل واحد ما كان من الأعواض إيصال الخواص إلى محل الخاص من اللقاء والقرب ، (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) يؤيد حتى يجاهد نفسه على شرائط السنة (مَنْ يَشاءُ) من خواص عباده ، وأيضا ألبس أولياءه أنوار هيبته ليفرق الشيطان بها عن أسرار مراقباتهم.

وقيل : يوفق من يشاء من عباده للزوم السنة ، وترك البدعة.

(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) ابتلاهم حتى يظهروا الصادق بترك هذه الشهوات من الكاذب بالشروع في طلبها.

قيل : من اشتغل بهذه الأشياء قطعه عن طريق الحق ، ومن استصغرها ، وأعرض عنها عوض عنها السلامة منها ، وفتح له الطريق إلى الحقائق.

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ) أي : لمن اتقى الله عما سوى الله جنات المقامات في المداناة فإن تبقى المتقي من الدنيا وشهواتها فله جنه اليقين ، وإن تبقي المتقي من الآخرة فله جنة المكاشفة ، وإن تبقى من النفس فله جنة المشاهدة بنعت الرضا كما قال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨)) [الفجر : ٢٧ ، ٢٨].

وقيل : من عمل رجاء الجنة فإن غاية بلوغه إلى غاية رجائه من دخول الجنة ، ومن كانت معاملته على رؤية الرضا فإن له الرضوان ، قال الله تعالى : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢].

وقوله تعالى : (اللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) (١) بصير بالعباد في تقلب أرواحهم في عالم الملكوت محترقات من سطوات أنوار الجبروت حبّا لجواره وشوقا إلى لقائه ، يجازيهم بقدر همومها في صرف طلب وجه الأزلي وجمال الأبدي.

وقيل : عالم بهمم العاملين وإرادتهم.

(الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

قوله تعالى : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) الصابرين عن جميع حظوظهم لله ، والصادقين في معاملة الله ، والقانتين بنعت الرضا عن الله ، والمنفقين نفوسهم لله وبالله ، والمستغفرين عن التفاتهم إلى غير الله بالأسحار حين أشرقت أنوار المشاهدة لأهل المكاشفة.

وأيضا : الصابرين عن الله بالله ، وبالله لله ، ولله في الله ، ولله مع الله ، والصادقين في دعوى محبة الله بنعت كشف مشاهدة الله ، والقانتين بشرط الإخلاص في عبودية الله ، والمنفقين حياتهم في رضا الله ، والمستغفرين عن الخطرات في أوقات المناجاة.

وقيل : الصابرين على صدق المقصود ، والصادقين في العهود ، والقانتين لحفظ الحدود ، والمستغفرين عن أعمالهم وأحوالهم عند استيلاء سلطان التوحيد.

وقيل : الصابرين الذين صبروا على الطلب ، ولم يتعللوا بالهرب ، ولم يحتشموا من التعب ، وهجروا كل راحة وطرب يصبرون على البلوى ، ورفضوا الشكوى حتى وصلوا إلى الموتى ، ولم يقطعهم شيء من الدنيا والعقبى.

والصادقين : الذين صدقوا في الطلب فقصدوا ، ثم وردوا ثم صدقوا حين شهدوا ، ثم صدقوا حتى وجدوا ، ثم صدقوا حتى فقدوا تزينهم قصودا ، ثم ورودا ، ثم شهودتهم وجودا ، ثم خمودا.

__________________

(١) أي : بنياتهم ومقادير ما يستحقونه بها على حسب إخلاصها ، وبغير ذلك من أعمالهم وأقوالهم وسائر أحوالهم. نظم الدرر (٢ / ٥).

والقانتين : الذين لازموا الباب ، وداوموا على تجرع الاكتساب ، وترك المحاب ، وبغض الأصحاب إلى أن تحققوا بالاقتراب.

والمنفقين : الذين جادوا بنفوسهم من حيث الأعمال ، ثم جادوا بميسورهم من الأموال ، ثم جادوا بقلوبهم بصدق الأحوال ، ثم جادوا بترك كل حظ لهم في العاجل والآجل استهلاكا عن القرب في الوصال بما لقوا به من الاصطلاح والاستيصال.

والمستغفرين : عن جميع ذلك إذا رجعوا إلى الصحو عند الأسحار يعني : ظهور الأسفار ، وهو فجر القلوب لا فجر يظهر في الأقطار.

وقال أبو عمرو المكي : ليس الصبر ترك الاختيار على الله ، ولكن الصبر هو الثبات فيه ، وتلقي بلاءه بالرحب والرغبة.

وقال عمرو : من صبر على رؤية المنة يكون تلذذه بالبلاء كتلذذه بالمنن إذ هما من عين واحدة.

وقال جعفر : الصبر ما كتب فيه محفوظا ، والتصبر فيه ما رددت فيه إلى حالك وعجزك.

وقال ابن عطاء : الصابرون هم الذين صبروا بالله في طاعة الله مع الله ، والصادقون هم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه عن صدق قويم ، واعتماد صحيح وسر لا يشوبه شيء ، والقانتون هم الذين أطاعوا في سرهم وعلانيتهم ، والمستغفرون بالأسحار الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع.

وقال بعضهم : الصابرون مع الله على موارد قضائه ، والصادقون في توحيدهم ومحبتهم والقانتون الراجعون إليه في السراء والضراء ، والمنفقون ما سواه ، والمستغفرون بالأسحار من أفعالهم وأقوالهم.

وقال ابن عطاء : الصابرون الذين صبروا على ما أمروا به ، والصادقون الذين صدقوا ما أقروا به من الميثاق الأول والقانتون القائمون لفنون العبادات ، والمنفقون الذين ينفقون أنفسهم وأرواحهم في رضا مولاهم ، والمستغفرون بالأسحار الذين لا يفترون عن خدمته بحال.

وقال أيضا : الصابرون الذين حبسوا أنفسهم على مطالعة المكاشفات ، والصادقون الذين صدقوا في محبته ، والقانتون الذين ربطوا أنفسهم بخدمته ، والمستغفرون بالأسحار لزموا الباب إلى أن يؤذن لهم.

وقال أيضا : الصبر مقام المحبين ، والصدق مقام العارفين ، والقنوت مقام العابدين ، والإنفاق مقام المريدين ، والاستغفار مقام المذنبين.

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) إن الله تبارك وتعالى وتقدس كان بداية وصفاته عالما وعارفا كما ينبغي منه لنفسه فشهد بنفسه لنفسه قبل القبل ، وكون البعد وكون الكون ؛ فليس مقابل علمه بنفسه جهل ، وليس مقابل معرفته بنفسه نكرة ، وليس مقابل شهادته بنفسه عجز ووحشة ، بل وصف نفسه بنفسه ، وشكر نفسه بنفسه ، إذ ليس للخلق إلى معرفته ، والعلم بنفسه سبيل فأثنى بنفسه على نفسه لعلمه بعجز خلقه عن معرفة وجوده ، فمراده من شهادته بنفسه قبل وجود العالم تعليما لعباده تلطفا منه عليهم ، وإلا هو منزه عن وجود الخلق ، (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [العنكبوت : ٦] ، فشهادته لنفسه حقيقة ، وشهادة الخلق له رسم ، والحقيقة بدت من الحقيقة ، وتعود إلى الحقيقة ، والرسم بدء من الرسم ، ويعود إلى الرسم ؛ لأن القدم مفرد عن الحدث من جميع الوجوه علما ورسما وحقيقة.

ثم خلق الملائكة وكشف لهم ذرة من نور قدرته فاقتبسوا من نوره نورا فأبصروا به آثار أفعاله القديمة فشهدوا به وبوحدانيته وأزليته وسرمديته ، رامتهم في العبودية لا حقيقة منهم في الربوبية ، فرضي الله تعالى به عنهم أمرا ورسما لا حقيقة ووصفا ، ثم خلق الأنبياء والأولياء ، وأبرز لهم أنوار جماله ذاته في مصابيح أرواحهم قبل الأجساد بألفي ألف عام ، فنظروا بنوره إلى جمال جلاله وتحيروا في كنه عظمته وكبرياء جبروته ، وعجزوا عن ثنائه ووصفه وشكره لنفسه.

خاطبهم الحق جل سلطانه بنعت تعريف نفسه لهم فقال : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) [الأعراف : ١٧٢] ؛ فشهدوا بعد إقرارهم في محل الخطاب ، فشهادتهم رسم التعليم لا من حقيقة رسم القديم ، والفرق بين شهادة الملائكة ، وبني آدم من أهل العلم أن الملائكة شهدوا من حيث اليقين ، وأولوا العلم من حيث المشاهدة وأيضا شهادة الملائكة من رؤية الأفعال ، وشهادة العلماء من رؤية الصفات.

وأيضا شهادة الملائكة من رؤية العظمة وشهادة العلماء من رؤية الجمال ، لأجل ذلك يتولد من رؤيتهم الخوف ، ومن رؤية العلماء الرجاء.

وشهادة العلماء بالتفاوت فشهادة بعضهم من المقامات ، وشهادة بعضهم من الحالات ، وشهادة بعضهم من المكاشفات ، وشهادة بعضهم من المشاهدات ، وخواص أهل العلم يشهدون به له بنعت إدراك القدم ، وبروز نور التوحيد من جمال الوحدانية ، فشهادتهم مستغرقة في شهادة الحق ؛ لأنهم في محل المحو من رؤية القدم ، وسئل سهل بن عبد الله عن هذه الآية فقال : شهد بنفسه ومشاهدة ذاته ، واستشهد من استشهد من خلقه قبل خلقه لهم

فكان في ذلك تنبيها أنه عالم بما يكون قبل كونه لا يتجاوز أحد من حكمه.

وقال ابن عطاء في قوله : (شَهِدَ اللهُ) (١) : دلنا من نفسه على نفسه بأسماء ، وفيه بيان ربوبيته وصفاته فجعل لنا في كلامه وأسمائه شاهدا ودليلا ، وإنما فعل ذلك لأن الله وحد نفسه ولم يكن معه غيره ، وكان الشاهد عليه توحيده ولا يستحق أن يشهد عليه من حيث الحقيقة سواه ، إذ هو الشاهد فلا شاهد معه ، ثم دعا الخلق إلى شهادته فمن وافق شهادته شهادته فقد أصاب حظه من حقيقة التوحيد ، ومن حرم ضلّ.

وقال ابن عطاء : إن الله شهد لنفسه بالفردانية والصمدية والأبدية ، ثم خلق الخلق فشغلهم بعبادة هذه الكلمة فلا يطيقون حقيقة عبادتها ؛ لأن شهادته لنفسه حق وشهادتهم بذلك رسم وأنى يستوي الحق مع الرسم.

وقال أبو عبد الله القرشي في قوله : (شَهِدَ اللهُ) فقال : هو تعليم منه ولطف وإرشاد لعباده إلى أن شهدوا له بذلك ، ولو لم يعلمهم ذلك لم يرشدهم لهلكوا كما هلك إبليس عند المعارضة.

وقال بعضهم : شهادة الله لنفسه بما شهد به شهادة صدق ، ولا يقبل الشهادة إلا من الصادقين فظهر بهذا أنه لا يصلح التوحيد إلا للصادقين دون غيرهم من الخلق.

وقال أبو يزيد ـ رحمة الله عليه ـ يوما لأصحابه : بقيت البارحة إلى الصباح أجهد أن أقول : لا إله إلا الله ، فما قدرت عليه.

قيل : ولم؟ قال : ذكرت كلمة قلتها في صباي جاءتني وحشة تلك الكلمة فمنعتني عن ذلك ، وأعجب ممن يذكر الله وهو متصف بشيء من صفاته.

وقال الشبلي : ما قلت قط الله إلا واستغفرت من ذلك ؛ لأن الله يقول : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) فمن يشهد بذلك له من الأكوان إلا عن أمر أو غفلة.

وقال ابن عطاء : أول ما خلقوا في حقائق البقاء مع الله فنوا عن كل شيء دون الله حتى

__________________

(١) قال الحرالي : فأعاد بالإضمار ليكون الشاهد والمشهود له (لا إله إلا هو) فأعاد بالهوية لمعنى الوحدانية في الشهادة ولم يقل : إلا الله ، لما يشعر به تكرار الاسم في محل الإضمار من التنزل العلي انتهى. والمعنى أنه سبحانه وتعالى فعل فعل الشاهد في إخباره عما يعلم حقيقته بلفظ الشهادة جريا على عادة الكبراء إذا رأوا تقاعس أتباعهم عما يأمرون به من المهمات في تعاغطيهم له بأنفسهم تنبيها على أن الخطب قد فدح والأمر قد تفاقم ، فيتساقط حينئذ إليه الأتباع ، ولو أن فيه الهلاك تساقط الذباب في أحلى الشراب. نظم الدرر للبقاعي (٢ / ٩).

ثبتوا مع الله.

وقال الشبلي : شهادة أن لا إله إلا الله عشرة أحرف ستة في الظاهر ، وأربعة في الباطن ، فأما التي في الظاهر فذكر الله بلا رياء ، والثاني : أداء الأمر بلا عيب ولا تقصير ، والثالث : كف النفس عن المحارم ، والرابع : النصيحة للمؤمنين ، والخامس : الفرار من الآثام ، والسادس : معاداة النفس ، وأما اللواتي في البواطن فإيمان ومعرفة بالقلب ونية وخشوع وفكرة واستقامة مع رؤية التوفيق فمن فعل هذا كله فقد شهد الله بالحقيقة.

وقيل للشبلي : لم تقول : الله ، ولا تقول : لا إله إلا الله؟

قال : القول شمس تغالب فقدها بثبوتها ، فإذا استحال الفقد ماذا يغلب ، ثم قال : وهل ينفى إلا ما يستحيل كونه؟ وهل يثبت إلا ما يجوز فقده؟

وقال المزني ـ رحمه‌الله : دخل ابن منصور مكة ، فسئل عن شهادة الزور للحق بالوحدانية ، وعن التوحيد فتكلم فيه حتى نسينا التوحيد ، فقلنا : هذا يليق بالحق به من حيث رضي به نعتا وأمرا ، ولا يليق به وصفا ولا حقيقة ، كما رضي بشكرنا لنعمه ، وأنى يليق شكرنا بنعمه.

وقال : ما دمت تشير فلست بموحد حتى يستولي الحق على إشارتك بإفنائها عنك فلا يبقى مشير ولا إشارة.

وقال أبو سليمان الداراني : تطلب رضا ربك ، وتبخل بمالك وتعجز عن طاعتك كلا فالشاهد لله بالحقيقة من لا يخل بروحه ونفسه وقلبه في رضا مولاه.

وقال بعضهم : (شَهِدَ اللهُ) علم الله لأنه معلوم نفسه بكمال العلم والشهادة إخبار عن العلم والإسلام أصول وفروع وكلها تتشعب من أصل واحد وهو الوحدانية.

وقيل في قوله : (وَأُولُوا الْعِلْمِ) : أن العلماء ثلاثة : عالم بأمر الله وأحكامه فهم علماء الشريعة ، وعالم بصفاته ونعوته فهم علماء السنة ، وعالم به وبأسمائه فهم العلماء الربانيين.

وقوله تعالى : (هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) العزيز أن يمتنع كنه قدمه من مطالعة المخلوقين ، وأيضا العزيز الذي لا يصفه أحد إلا برسم وصفه نفسه الحكيم ، هو الذي حكم حقيقة الشهادة لنفسه ورسمها بعباده.

والحكيم أيضا الذي حجب الخلق عن نفسه أن يروه بما حصل لهم من رسم توحيده في قلوبهم ، أن ما حصل من رسوم التوحيد للعباد مشوب بطيف الخيال ، وما يبرز من حقيقة التوحيد من جلال عظمته يخالف ما خطر في قلوبهم.

وقيل : العزيز الممتنع عن أن يلحقه توحيد موحد أو وصفة واصف إلا على الأمر

به ، الحكيم فيما يشهد به لنفسه.

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))

قوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (١) وقّف الإسلام الرضا بمراد الحق وإمضاء قضائه وقدره بنعت استقامة السر في الباطن ، وقلة الاضطراب في الظاهر ، ووجدان لذة المحبة وقت نزول البلاء في المحنة.

قال أبو عثمان : (إِنَّ الدِّينَ) ما سلم لك من البدع والضلالة والأهواء ، وسلمت فيه من الرياء ، والشهوة الخفية ، ورؤية الخلق ، وتعظيم الطاعة.

وقيل : إنّ المتدين بالإسلام من سلم من رؤية الخلق ، وسلم قلبه من شهوات نفسه ، وسلم روحه من خطرات قلبه ، وسلم سره من طيران روحه ، فهو في حال الاستقامة مع الله.

وقال بعضهم : أركان الإسلام أربعة : التواضع ، والألفة ، وكظم الغيظ ، والصبر ، إذا تمّ لهذه الأربعة وجد منه أربعة أخرى : من التواضع التوكل ، ومن الألفة التسليم ، ومن كظم الغيظ التفويض ، ومن الصبر الرضا.

__________________

(١) الدّين الذي يرتضيه ، والذي حكم لصاحبه بأنه يجازيه ويعليه ، وبالفضل يلقّيه ـ هو الإسلام ، والإسلام هو الإخلاص والاستسلام ، وما سواه فمردود ، وطريق النجاة على صاحبه مسدود. تفسير القشيري (١ / ٢٩١).

قال جعفر الصادق : إذا لم يكن إسلام العبد على معرفة النعم من الله ، والتوكل عليه ، والتسليم لأمره ؛ فهو على اسم الإسلام ، لا على حقيقته.

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦))

قوله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) خصّ الله تعالى نفسه ، ومدحه بملك الربوبية ، وأنّه ذو الملك والملكوت والجبروت وملكه قديم ، وهو موصوف به في الأزل ، ويبقى له إلى أبد الأبد ، وهو مفرد به ؛ ثم خصّ بملكه الذي هو صفاته من يشاء من أنبيائه وأوليائه ، فالملك الذي خصّ الأنبياء هو الاصطفاء ، والاجتباء ، والخلافة ، والخلة ، والمحبة ، والتكليم ، والآيات ، والمعجزات ، والمعراج ، والمنهاج ، والرسالة ، والنبوة.

وخصّ بما ذكرت من بين الأنبياء صلوات الله عليهم آدم ، وشيث ، وإدريس ، ونوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، ويونس ولوط ، وشعيب ، وحزقيل ، وخضر ، وموسى ، وهارون ، ويوشع ، وكالب ، وأيوب ، وداود ، وسليمان ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، ومحمد سيد الرسل خاتم الأنبياء ـ صلوات الله عليهم أجمعين.

فكسا الله تعالى سفرة الأنبياء والرسل عليهم‌السلام كسوة الربوبية والسلطنة ؛ فظهرت منهم الآيات والمعجزات وقهروا بعز ملك النبوة والرسالة جبابرة الأرض ، وهذا موهبة خالصة أزلية سبقت لهم بعناية الله تعالى في أزل علمه ، وحرّمها على أهل الخذلان في سابق علمه وهو معنى قوله : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) ، وما قال تعالى لخليله : (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤].

وأمّا الملك الذي خصّ به أولياءه فعلى أربعة أقسام : قسم منها الكرامات والآيات مثل : تقلب الأعيان ، وطي الأرض ، واستجاب الدعوة ؛ وهو لأهل المعاملات ، وقسم منها وهو أشرف من الأول وهو المقامات مثل : الزهد ، والورع ، والتقوى ، والصبر ، والشكر ، والتوكل ، والرضا ، والتسليم ، والتفويض ، والتقويم ، والصدق ، والإخلاص ، والإحسان ، والاستقامة ، والطمأنينة ؛ وهو لأهل الدرجات ، وقسم منها وهو أشرف من الثاني هو الوجد ، والنجوى ، والمراقبة ، والحياء ، والخوف ، والرجاء ، والمحبة ، والشّوق ، والعشق ، والسكر ، والصحو ؛ وهو لأهل الحالات ، وقسم منها وهو أشرف من الثالث هو الكشف والمشاهدة والمعرفة والتوحيد والتفريد والفناء والبقاء وهو لأهل المعاينات ، فهذه الأحوال التي ذكرناها أصل ملك الولاية ، فمن خصّ بها فقد بلغ ذروة ملك الأزل والأبد ، ومن حرم منها فقد

سقط عن حظ الدنيا والآخرة ، يغرّ بها سادة أوليائه فهلكوا جميع القلوب بفراسة نور الغيب ، ويذل بإنزاعها عن أعدائه حتى لا ينالوا عهد كرامته في الدنيا والآخرة ، وأيضا (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) يعني : صرف المحبة بحلية الكرامة ، ونعت الطّهارة عن الأكوان ، (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) ملك العبودية وعرفان الربوبية (مِمَّنْ تَشاءُ) ، أي : من ليس له استعداد المعرفة ، (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بالأنس ، والشوق ، والعشق ، (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بالخذلان ، والحرمان ، وفقد حقائق القرآن.

قال أبو عثمان : (الْمُلْكِ) الإيمان وهذا دليل على أنّ الإيمان لا يتحقق على شخص إلا بعد الكشف والسلامة له في الانقلاب إلى ربّه ، وربّما يكون عارية ، وربّما يكون عطاء ، قال الله تعالى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) فهو مترسّم برسم الملوك ، وقد نزع منه ملكه.

وقال بعضهم : ملك الدين ، والشريعة ، وفرضها ، وسنتها ، (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) الهداية والتوفيق ، (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بولايتك (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بإهانتك ، (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) إنّك القادر على من تشاء ، كيف تشاء.

وقال محمد بن على : الملك المعرفة ، تعطي معرفتك من تشاء من عبادك ، وتنزعها عمّن تشاء ، (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) باصطفائك واجتبائك ، (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بالإعراض عنه ، (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) أي : منك الاصطفاء والاجتباء ، قبل إظهار عبادة العابدين.

وقال الحسين : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) فتشغله به ، (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) أي : ممن اصطفيته لك فلا يؤثر فيه أسباب الملك لأنّه في أسرار الملك ، (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بإظهار عزّتك عليه ، (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) (١) بإنصافه برسوم الهياكل.

وقال الواسطي : طوبى لمن ملكه قلبه وجوارحه ، كي يسلم من شرورهما.

وقال الشبلي : (الْمُلْكِ) الاستغناء بالمكون عن الكونين.

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ

__________________

(١) بخذلانك ، وتعز من تشاء بأن تهديه ليشهدك ويوحدك ، وتذل من تشاء بأن يجحدك ويفقدك وتعزّ من تشاء بيمن إقبالك ، وتذل من تشاء بوحشة إعراضك ، وتعزّ من تشاء بأن تؤنسه بك ، وتذل من تشاء بأن توحشه عنك ، وتعز من تشاء بأن تشغله بك ، وتذل من تشاء بأن تشغله عنك ، وتعز من تشاء بسقوط أحكام نفسه ، وتذل من تشاء بغلبة غاغة نفسه ، وتعز من تشاء بطوالع أنسه وتذل من تشاء بطوارق نفسه ، وتعز من تشاء ببسطه بك ، وتذل من تشاء بقبضه عنك.

الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠))

قوله تعالى : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) تولج دخان البشرية في سلطان صفاء التوحيد ، وأيضا تلاشي ظلمة النفوس في أنوار الأرواح ، وأيضا أفنى ظلمة الطبائع في صفاء القلوب ، وأيضا تحرق سجوف ليالي الهجران بطلوع شموس العرفان ، وأيضا تخرق حجب الحدوئية عند ظهور سناء قدس الصمدية ، وأيضا ترفع قوام الملكوت حين تبرز أنوار جمال الجبروت.

(وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي : تفني أنوار الأسرار في أطباق ظلمات الطباع ، وأيضا أي : تسبل حجاب الفناء على وجوه أهل البقاء ، وأيضا : (وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) حين كسفت شمس المعرفة في منازل النكرة ، وغلبت ظلمة الفترة على نور المعاملة.

(وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي : تخرج أشجار أنوار المعرفة بكشف جمال المشاهدة من القلوب الميتة بتواتر الفترة.

وأيضا : تخرج أرواح القدسية بأصوات جرس الوصلة عند غلبات الوجود من الأشباح المضمحلة ، تحت أثقال سلطان كشف توحيد الوحدانية إلى فضاء السرمدية لتجول في سرادق الكبرياء ، وخيام الملكوت ، طلبا لمشاهدة جمال الجبروت.

وأيضا : يخرج العارف العاشق من العامي الغافل ، وأيضا أي : مياه دموع العارفين بنيران الوجد من قلوبهم الخالية عن آثار المشاهدة (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) أي : العامي من الولي الحي بالمعرفة ورؤية مشاهدة خالق الخلق جل وعز.

وأيضا : إذا يبست عيون المعرفة في قلوب العارفين من حرارة امتحان القهر يخرج منها حنظل الشرك مكان سكر التوحيد ، وعصاه الشك مكان نرجس اليقين ، وأورقت فيها أشجار الغفلة بأوراق هموم المذمومة ، ويبست رياحينها بانقطاع عنها مياه صفاء المعاملة (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : من هذه المقامات المختلفة بغير رؤية ولا تدبير الإنسانية.

وأيضا : ترزق العارفين مقام المشاهدات وترزق المشتاقين مقام المكاشفات ، وترزق المحبين مقام المداناة وترزق الموحدين مقام البقاء ، والفناء ، والصحو ، والسكر ، والاتحاد ،

وترزق العاشقين مقام الجمع والتفرقة ، وترزق الأحرار مقام التلوين والتمكين بغير حساب أكثر من أن يحصى عدد أسرارها ويعد حقائق أنوارها (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) أي : لا يصحب العارف الجاهل ولا المخلص المرائي ، ولا الصادق الكذاب ، ولا المؤمن المبتدع المنكر ، ولا المريد الصادق الفاتر المدعي ، ولا يحب أهل الحق أهل الباطل حتى ينالوا ببعضهم مقام حقيقة العبودية.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) أي : لا ينال من الله تعالى درجة أهل محبته وقربته ومعرفته ، (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) حذر أصفياءه بالفراق عن وصله بسبب محبة أعدائه ، وبهذا التخويف يربي خواص أحبته في قباب الشفقة وأسبل بهذا عليهم نقاب الغيرة حتى لا يراهم أحد سواه (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) مشفق بأوليائه وأهل طاعته بأن يسترهم عن أبصار الغفلة والجهلة وأكرمهم بصحبة أهل التوحيد والمعرفة ، وبسط لهم بساط الشريعة والحقيقة حتى يردوا موارد الأنبياء والرسل ، وشربوا من مناهل المقربين شراب الصفاء ، ولبسوا من نسج الكروبيين أثواب الوفاء.

وسئل أبو عثمان عن قوله : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) فقال : لا ينبسط شيء إلى مبتدع ؛ لفضل عشيرة ، ولا لقرابة نسب ، ولا نلقاه إلا ووجهه له كاره ، فإن فعل شيئا من ذلك فقد أحب من أبغضه الله ، وليس بولي الله من لا يوالي أولياء الله ، ولا يعادي أعداءه.

وقال ابن عطاء في قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) : إنّما يحذر نفسه من يعرفه ، فأمّا من لا يعرفه ؛ فإن هذا الخطاب زائل عنه.

وقال الواسطي : يحذركم الله نفسه في دعوى إتيان شيء من الطاعات ؛ إذ فيه جذب الربوبية.

وقال أيضا : ذلك ألا يأمن أحد أن يفعل به ما فعل بإبليس زينة بأنوار عصمته ، وهو عنده في حقائق لعنته ، وسبق عليه ما سبق منه إليه حين غاضبه فجأة بإظهار علته.

وقال أيضا : إنه لا يحذر نفسه من لا يعرفه ، وهذا خطاب الأكابر ، وأما الأصاغر فخطابهم : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) ، (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦].

وقال جعفر : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) هذا الخطاب للأكابر (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) خطاب للأصاغر.

وقال ابن عطاء : احذر سطوته ونقمته ؛ فإنّه عزيز قهار ، وابذل روحك له ، واعلم أنك

مقصر مع هذا كله ، وأنشد :

لا تعرض بنا فهذا بنان

قد خضبناه بدم العشاق

وقال الواسطي : يحذركم أن تثبتوا نفسه بنفوسكم وصفة القديمة عليكم بأحوالكم الخديعة ، وأن تنسوا الأزلية بالآخرية ، والربوبية بالعبودية ، فإنّ الأصل أتم من الفرج ، وإنّ العبودية إنما ظهرت بالربوبية.

وقال إبراهيم الخوّاص : علامة الحذر في القلب دوام المراقبة ، وعلامة المراقبة التفقد للأحوال النازلة.

وقال جعفر : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أن تشهد لنفسك بالصلاح ؛ لأنّ من كانت له سابقة ظهرت سابقته في خاتمته.

قال الأستاذ : الإشارة من قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) للعارفين ، ومن قوله : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) للمشتاقين ، فهؤلاء أصحاب العنف والفتوة ، وهؤلاء أصحاب التخفيف والسهولة.

وقيل : إغناؤهم بقوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ثم أحياهم فأبقاهم بقوله : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ).

وقال ابن عطاء ـ رحمه‌الله : العبادة أجمع مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم ، وخصّ رحمة الرسول عليه‌السلام موقوفة على المؤمنين دون من سواهم ، وهذا كقول إبراهيم عليه‌السلام حين قال : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ) [البقرة : ١٢٦] فإنّه لا رازق في السماوات والأرضين غيره ، وسن في ربوبيته تعالى أن يحذر أولياءه وأعداءه ، فحذر أعداءه بما صدر من أفعاله القديمة من نكال الجحيم والحطمة ؛ لأنّها قهر بالواسطة بين الأفعال والصفات ، وحذّر أولياءه والمؤمنين خاصة صفاته وذاته ، فتحذير المؤمنين بالصفات كالحرمات والهجران عن نواله وكرامته ، وتحذير أوليائه بعزة نفسه ، وهم على طبقات شتى ، وجمعهم في وصول التوحيد ، وفرّقهم في منازل المقامات ، فحذّر التائبين بالسلطنة ، وحذّر الخائفين الوجلين بسطوات العظمة.

وحذّر المحبين والمشتاقين والعاشقين بالعزة والجبرية ، وحذّر العارفين والموحدين بصدمة الكبرياء والظلمات بحر الديمومية ، وبهذه الصفات يحذر أهل انبساط والبسط والرجاء لسقوط سوء الأدب عنهم في مدارج التوحيد والكرامة.

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ

رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢) إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤))

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) أي : قل إن ادّعيتم محبة الله وأنتم صادقون فيما ادعيتم فاتبعوني فإنّي سيد المحبين ، ورئيس الصدّيقين ، ومقدم المرسلين ، وقدوة المريدين حتى أريكم مغيبات المهلكات ، وغوامض طريق المنجيات ، ودقائق أحكام المشاهدات ، وأسرار لمعات المداناة ، وأرشدكم إلى أحسن المعاملات ، وأفضل الطاعات ، وأعملكم حسن الآداب ، ونفائس الأخلاق ، زاد إلى المآب ؛ لأنّ قد كوشفت بأسرار المحبة ، وأنوار القربة ، وإن متابعتي حقيقة شكر محبة المحبوب ، وإذا شكرتم الله بمتابعتي زادكم الله محبته ومعرفته ، قال تعالى : (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ، وقال : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم : ٧].

وحقيقة المحبة عند العارفين والمحبين احتراق القلب بنيران الشوق ، وروح الروح بلذة العشق ، واستغراق الحواس في بحر الأنس ، وطهارة النفس بمياه القدس ، ورؤية الحبيب بعين الكل ، وغمض عين الكل عن الكونين ، وطيران السر في غيب ، وتخلّق المحب بخلق المحبوب ، وهذا أصل المحبة.

أما فرع المحبة فهو موافقة المحبوب في جميع ما يرضاه ، وتقبل بلائه بنعت الرضا ، والتسليم في قضائه وقدره بشرط الوفاء ومتابعة سنة المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وأما آداب أهل المحبة الانقطاع عن الشهوات واللذات ، والمسارعة في الخيرات ، والسكون في الخلوات والمراقبات ، واستنشاق نفخات الصفات ، والتواضع في المناجات ، والشروع في النوافل والعبادات ، حتى صاروا متصفين بصفات الحق ، ومنقادين بنوره بين الخلق.

قال الله تعالى : «لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى كنت له سمعا ، وبصرا ، ولسانا ، ويدا» (١).

وصرف المحبة لا يكون إلا بعد أن يرى الروح الناطقة بعين السر مشاهدة الحق بنعت الجمال وحسن القدم لا بنعت الآلاء والنعمة ؛ لأنّ المحبة إذا كانت من تولد رؤية النعماء تكون محبة معلولة ، وحقيقة المحبة ما لا علة فيها من المحب ، والحبيب شيء دون المحبوب.

وقال أبو عمرو بن عثمان : محبة الله هي معرفته ، ودوام خشيته ، ودوام اشتغال القلب

__________________

(١) سبق تخريجه.

به ، ودوام انتصاب القلب بذكره ، ودوام الأنس به.

وقال محمد بن حنيف رحمه‌الله : المحبة : الموافقة لله في التماس مرضاته.

وقال بعضهم : المحبة هي موافقة القلوب عند بروز لطائف الجمال.

وقال أبو يزيد : أحببت الله حتى أبغضت نفسي ، وأبغضت الدنيا حتى أحببت طاعة الله ، وتركت ما دون الله حتى وصلت إلى الله ، واخترت الخالق فاشتغل بخدمتي كل مخلوق.

وقيل : المحبة هي اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله وآدابه إلا ما خصّ به ؛ لأنّ الله قرن محبتاه باتباعه.

وسئل الأنطاكي : ما علامة المحبة؟ قال : أن يكون قليل العبادة ، دائم التفكر ، كثير الخلوة ، ظاهر الصمت ، لا يبصر إذا نظر ، ولا يسمع إذا نودي ، ولا يحزن إذا أصيب ، ولا يفرح إذا أصاب ، ولا يخشى أحدا ، ولا يرجوه.

وسئل يحيى بن معاذ عن حقيقة المحبة ، قال : الذي لا يزيد بالبر ، ولا ينقص بالجفوة.

وقال جعفر في قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) قيد أسرار الصدّيقين بمتابعة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكي تعلموا أنهم وإن علمت أحوالهم وارتفعت مراتبهم لا يقدرون مجاوزته ولا اللحاق به.

وقال ابن عطاء : في هذه الآية أمر بطلب نور الأدنى من عمي عن نور الأعلى ، وأقول : لا وصول النور الأعلى من لم يستدل عليه بالنور الأدنى ، ومن لم يجعل السبيل إلى النور الأعلى والتمسك بآداب صاحب نور الأدنى ومتابعته فقد عمي عن نورين جميعا ، وألبس ثواب الاعتزاز.

قال أبو يعقوب السوسي : حقيقة المحبة أن ينسى العبد حظه من ربه ، وينسى حوائجه إليه.

قال الواسطي : لا تصح المحبة والإعراض على سره أثر والشواهد في قلبه خطر بل صحة المحبة نسيان الكل في استغراق مشاهدة المحبوب وفناؤه به عنه.

وقال ابن منصور : حقيقة المحبة قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك ، والاتصاف باتصافه.

قال الشيخ أبو عبد الرحمن : سمعت النصر آبادي يقول : محبة توجب حقن الدم ، ومحبة توجب سفكه بأسياف الحب ، وهو الأجل.

وروى أبو الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ

فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) : «على البر والتقوى والتواضع ، وذلة النفس» (١).

وسئل عمرو بن عثمان المكي عن المحبة! قال : المحبة في نفسها أصلها التواضع في القلوب من لطف المعاني التي يعاينها من المحبوب على شرط ما تعلقت به.

وسئل سهل بن عبد الله : ما علامة المحبوب؟ فقال : ألا يزال لسانه ذاكرا لحبيبه مشغوفا به ، مستأنسا مسرورا به ، حامدا شاكرا له ، وجوارحه مشغولة بمرضاة حبيبه ، فهو المحب له ، والمرضي عنه.

وقال الأستاذ : المحبة تشير إلى صفاء الأحوال ، والمحبة توجب الاعتكاف بحضرة المحبوب بالسر ، ويقال : أحب البعير إذا استناخ ، فلا يبرح بالضرب ، وللحب حرفان حاء وباء ، والإشارة بالحاء إلى الروح ، والإشارة من الباء إلى البدن ، والمحب لا يدخر عن محبوبه لا قلبه ولا بدنه.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) الآية اصطفى آدم بعلم الصفات ، وكشف جمال الذات قبل خلق الخلق في أزل الأزل ، فإذا أراد خلق روحه نظر بجماله إلى جلاله ، ونظر بجلاله إلى جماله فظهر بين النظريين روح آدم فخلقها بصفة الخاص ، ونفخ في روحه روحا ، وهو علم الصفات بفعل الخاص الذي يتعلق بالذات ، وخلق أيضا صورته بصفة الخاص ، ونفخ فيها روح الأول وروح الثاني ، فوصف روحه فقال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] ووصف صورته فقال : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] فسبق بهذه الصفات من الملائكة الكرام البررة ، وألبسه خلعة خلافته ، وأسجد له ملائكته لأجل هذا التخصيص كرامة له وتشريفا وتفضيلا على مشايخ الملكوت ، وقال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ، وقال : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) [البقرة : ٣٤] لا تؤثر في نعوت الأزل طوارقات الحدوث ما دام الاصطفاء بهذه الصفة سابق له ، وأيضا اصطفاهم لنفسه عن خلقه لموقع الخطاب ، وكشف النقاب لاستعدادهم تحمل أثقال أمانته ، والتعمق في بحار أزليته ، والسيران في ميادين وحدانيته ، والطيران في هواء فوقانيته لطلب كشف أحديته ، وجمال سرمديته ، والإشارة في نوح عليه‌السلام وآل إبراهيم عليه‌السلام أنّ الاصطفاء من سبب المحبة الأزلية لا من جهة الأنساب الحديثة ، كما قال الأستاذ رحمة الله عليه : اتفق آدم وذريته في الطبقة وإنما الخصوصية بالاصطفاء الذي هو من قبله لا بالنسب والسبب.

وقال الفارس : اصطفاهم على الناس لثبوته ، واستخلصهم لرسالته ، فهم المبعوثون إلى

__________________

(١) رواه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (٤ / ٣٦).

خلقه رحمة على أوليائه ، وحجة على أعدائه ، فهم الدعاة إلى الله بالحكمة والموعظة ، مبشرين عباده جزيل الثواب ، ومنذرين أليم العقاب ، (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥] إذ لو شاء لهداهم أجمعين.

قال الواسطي : اصطفاهم للولاية ، وقال أيضا : واصطفاهم في أزليته ، وصفاهم لقربه ، وصافاهم لمودته.

وقال أيضا : اصطفاء في الأزل قبل كونه ، أعلم بهذا خلقه أن عصيان آدم لا يؤثر في اصطفائيته له ؛ لأنه سبق العصيان مع علم الحق بما يكون منه.

وقال أيضا : اصطفى الأنبياء للمشاهدة والتقريب ، واصطفى المؤمنين للمطالعة والتهذيب ، واصطفى العالم للمخاطبة والترتيب.

وقال النصر آبادي : إذا نظرت إلى آدم عليه‌السلام بصفته لقيته ، بقوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) وإذا لقيته بصفة الحق لقيته ، بقوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ) وماذا يؤثر العصيان في الاصطفاء.

وقال الواسطي : الاصطفائية قائم بالحق ، والمعصية إظهار البشرية وتوبة أعجب لأنه من نفسه إلى نفسه رجع.

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨))

قوله تعالى : (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) أي : حرا عن رق النفس ، مقدسا عن مس الشيطان ، صافيا لك عما سواك ، مخلصا في مودتك ، صادقا في طاعتك ، موافقا لخدمة أوليائك ، وأيضا حرا في مقام مشاهدتك عن الاشتغال بخدمتك ليكون لك خالصا في حظ الربوبية ، وأيضا حرّا في مقام عبوديتك بنعت محبتك ، منفردا عن الاشتغال بالجنة والنار حتى يكون في عبادتك لك مفردا عن الالتفات إلى شيء غيرك ، وأيضا أيقنت أسرار باطنها وقوع الأنثى ، وإن لم يعلمها بنص العقل ، فقالت : أحررت لك ؛ لأنها موقع كلمتك يعني عيسى عليه‌السلام

ولا ينبغي لمن حمل حرّا إلا أن يكون هو أيضا حرا.

قال الأستاذ : المحرر الذي ليس في رق شيء من المخلوقات ، حرره الحق في سابق حكمه عن رق الاشتغال بجميع الوجود والأحوال.

قال جعفر : (مُحَرَّراً) أي : عتيقا من رق الدنيا وأهلها.

وقال محمد بن علي في قوله : (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) أي : يكون لك عبدا مخلصا ، ومن كان خالصا لك كان حرّا مما سواك.

وسئل سهل بن عبد الله عن المحرر فقال : هو المعتق من إرادة نفسه ، ومتابعة هواه.

وقال النوري : أي : خادما لأهل صفوتك.

قال أبو عثمان : (مُحَرَّراً) عن شغلي به ، وتدبيري له فيكون مسلم إلى تدبيرك فيه حسن اختيارك له.

وقال محمد بن الفضل : (مُحَرَّراً) عن الاشتغال بالمكاسب.

قوله تعالى : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) قبول الحق لها أنه أخلصها لعبادته ، وجعلها محل آيته وكرامته ، ورباها في حجر صفوة أنبيائه وأوليائه ، وكشف لها من عظيم آياته ما لا يقوم بإزائها أكثر أهل زمانها الأنبياء ، وأرسل إليها في الظاهر روح القدس حتى يعلمها حسن الأدب ، ونفخ فيها روح الخاص الذي هو طير الأنس ، حتى يكون لها ذخيرة المآب. وقال جعفر : يقبلها حتى يعجب الأنبياء مع علو أقدارهم في عظم شأنها عند الله.

ألا يرى أن زكريا قال لها : (أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : من عند من تقبلني.

وقال الواسطي : (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) محفوظ قوله تعالى : (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) أنبتها شجرة الربوبية وسقاها من مياه القدرة حتى أثمرها ثمرة النبوة ؛ لتكون الثمرة حياة الخلق ؛ لأنها هي روح الحق يعني عيسى ، وقيل : أضاف الإحسان إليها في الشريعة وفي الحقيقة حفظها وأنبتها.

وقال ابن عطاء : أحسن النبات ما كان ثمرته مثل عيسى عليه‌السلام روح الله.

وقال الأستاذ : (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) حيث بلغها فوق ما تمنت أمها ، وقيل : القبول الحسن إن رباها على نعت العصمة ، حتى كانت بقول : (أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) [مريم : ١٨].

وقال أيضا : من إشارات القبول الحسن أنها لم تكن توجد إلا في المحراب (وَكَفَّلَها

زَكَرِيَّا) ؛ لأن خدمة الأولياء لا تحصل إلا من الأولياء ، وأيضا أنه يوافقها في جميع أحوالها من الخلوة والمراقبة والسر والنجوى والمشاهدة والمكاشفة (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) يرزقها الله تعالى زرق الجنة في الخلوة مكافأة للخدمة والعفة كرامة لها حتى لا يشغلها تولاه المخلوق ، ويكون في حقيقة التوكل ما فيه من الالتفات إلى غير الحق ، وإن كان نبيّا مرسلا.

وقال الأستاذ : إذا دخل عليها زكريا بطعام وجد عندها رزقا ليعلم العالمون أن الله سبحانه لا يلقي شغل أوليائه إلى غيره.

وقال : من خدم وليّا من أوليائه كان هو في رفق الولي لا أنه يكون عليه مشقة لأجل أوليائه.

وقال : في هذه إشارة لمن يخدم الفقراء لا أن الفقراء تحت خلقه (أَنَّى لَكِ هذا) أي : بأي عمل أوجدت هذا (قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : خالصا وجدته لا يكلفه العمل ، وعلة الكسب.

وأيضا خاف عليها أن تلك المنزلة من حيل الشيطان ففتش أحوالها حتى يعلم حقيقة صدقها ، فقال : (أَنَّى لَكِ هذا) (١) قالت : ليس كما خطر ببالك إنه من خصائص كرامات الله التي وهبها لي ليس فيها شيء من مخيلات الشيطان.

وقال الأستاذ : لم يكن يعتقد فيها زكريا استحقاق تلك المنزلة ، وكان يخاف أن غيره لعلة انتهز فرصة تعهدها وسعة بكفاية شغلها (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) إذا دخل زكريا على مريم وجد عندها من فواكه الألوان علم أنها من نفائس كرامات الله تعالى فتحرك فيه غيرة النبوة ، وسكن هناك في الخلوة ، وطلب من الله تعالى ولدا فأعطاه الله ما سأله.

وأيضا نظر بنور النبوة في مريم فأبصر فيها نور عيسى صلوات الله عليهم أجمعين يتشعشع في مريم ، ورأى كرامته عند الله فتمنى عليه ولدا مثل عيسى فناجى ربه بلسان الاضطرار ، وسأل عنه يحيى عليه‌السلام مشكاة الأنوار ؛ فاستجاب الله تعالى دعوة شيخ الأنبياء شفقة

__________________

(١) من إمارات القبول الحسن أنها لم تكن توجد إلا في المحراب ، ومن كان مسكنه وموضعه الذي يتعبّد فيه وهناك يوجد المحراب ـ فذلك عبد عزيز ، ويقال من القبول الحسن أنه لم يطرح أمرها كلّه وشغلها على زكريا عليه‌السلام : فكان إذا دخل عليها زكريا ليتعهدها بطعام وجد عندها رزقا ليعلم العاملون أن الله ـ سبحانه ـ لا يلقي شغل أوليائه على غير ، ومن خدم وليا من أوليائه كان هو في رفق الولي لا إنه تكون عليه مشقة لأجل الأولياء ، وفي هذا إشارة لمن يخدم الفقراء أن يعلم أنه في رفق الفقراء. تفسير القشيري (١ / ٣٠٧).

على غيرته ، وإظهارا لكرامته ، وهذا حسن الأدب للأولياء ، وأهل المعرفة إذا كانوا يحتاجون إلى الله تعالى بشيء من مرادهم خلوا عن الخلق ، ودخلوا في زوايا الصدق حتى يناولوا بالاعتزال عن الخلق والاشتغال بالدنيا والإخلاص في النجوى حقيقة مقام استجابة الدعوة ، لأن من لزم سيده في الخلوات والمراقبات يكشف له المقامات السنية والأحوال الشريفة من أسرار الآخرة وأنوار المعرفة (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) سأل من الله من يعينه في طاعة الله ، ويكون له خليفة في أداء الرسالة والنصيحة للأمة ، وأيضا يكون له مشاورات السير في عالم الربوبية والعبودية ، ومؤنسا من الله في الكشف والحقيقة والعشق والمحبة ، (طَيِّبَةً) يعني مطهرا من أشغال الكونين منفردا عن إرادته مقدسا من شهواته ، فإذا علم الحق سبحانه صدق نيته أعطاه مأموله على الفور ليكون له معجزة وكرامة ، والإشارة فيه أن من طلب من الله شيئا بعينه في طاعته وسببا لمرضاته فيحصل له استجابة الدعوة في الساعة.

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١))

قوله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) محل مناجات الحق الصلاة لأنها فيه عصمة الحق فيها نزول الوحي من دخل فيها بشرط التفريد ، وخلوص النية ألهمه الحق خصائص الخطاب ، وأخبره بما يكون قبل أن يكون ، و (الْمِحْرابَ) محل لزوم المراقبين فيه لأجل تعرض السر نفحات أسرار الحق ، وبروز نور التوحيد ، وكشف جمال مشاهدة الحضرة ، و (الْمِحْرابَ) محل الأنس ، وتصفية السر ، وذم الجوارح ، وإشراق اليقين ، وسبب الزلفة ، ووجدان حلاوة العبادة ، واسترواح الروح من أداء صحبة الخلق بوجدان صحبة الحق ، و (الْمِحْرابَ) فقر العباد ، وملجأ الزهاد ، ومعصم المتوكلين ، ومجلس المشتاقين ، ومسند الراضين ، وبستان المحبين ، وسرور المريدين ، ورياض العاشقين ، وكعبة المستأنسين ، وحرم المؤمنين ، وفوز التائبين ، وقيد الموحدين ، وستر الشطّاحين إذا أراد الله أن يستر أحدا من خاصة معرفته ألحاه إليه ليكون له مقويّا في مقاصده من الله.

وقال ابن عطاء : ما فتح الله على عبد من عبيده حالة سنية إلا بأتباع الأوامر وإخلاص

الطاعات ، ولزوم المحاريب.

وقال الواسطي : هو قائم بربه يصلي سره بمحاربة نفسه وهواه.

وقال أبو عثمان : (الْمِحْرابَ) باب كل بر ، وموضع الإجابة ، واستفتاح الطريق الانبساط ، والمناجاة والإعراض عن المحراب سبب إغلاق الباب دونك.

قال الله تعالى : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) وقيل : ملازمة الخدمة يورثك آداب الخدمة ، وآداب الخدمة يورثك منازل القربة ، ومنازل القربة تورثكم حلاوة الأنس (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) يسمى يحيى ؛ لأنّ من نظر إليه يرى مشاهدة الحق في جمال نبوته ، فيحيي قلبه من موت الفترة.

وقيل : إنه حيا به عقر أمه.

وقيل : إنه سبب حياة من آمن بقلبه (وَسَيِّداً وَحَصُوراً) السيد الذي قد غلب عليه نور هيبة عزة الحق جل وعلا ، والحصور الذي عصم عن جميع الشهوات بعصمة الأزلية ، وأيضا السيد الذي خلعه نور الأنانية ، وكساه لباس الفردانية ، وتوجه بتيجان البهاء حتى يستحق أن يستحيي منه جميع الخلق ، ويضعوا تحت أمره ونهيه أعناق الجبرية ، والحصور المقدس عن شوائب التقليد ، وعن الالتفات إلى الكونين ، وقيل : (وَسَيِّداً) ؛ لأنه لم يطلب لنفسه مقاما ولا شاهدا لنفسه قدرا.

وقال جعفر بن محمد : السيد الذي عرف ربه وأنكر ما دونه ، والحصور الذي يملك ولا يملك ، والسيد الذي يألف ولا يؤلف ، والحصور الذي لا يعرف سوى الله.

وقال : السيد الذي ساد أهل زمانه بأخلاقه ، والحصور الذي حصر ماءه عن النساء وسمي يحيى حصورا ؛ لأنه قرع في قلبه تلك العظمة ، فخذ فيه ماء الشهوات ، وصار حصورا ومحصورا.

وقال ابن عطاء : السيد المتحقق بحقيقة الحق ، والحصور المنزه عن الأكوان وما فيها.

وقال جعفر : السيد المبائن عن الخلق وصفا وحالا وخلقا.

وقال النصر آبادي : السيد من صحح نسبته مع الحق ، فاستوجب به ميراث نسبته.

وقال الجنيد : السيد الذي جاد بالكونين عوضا عن ربه.

وقال محمد بن على : السيد من استوت أحواله عند المنع والعطاء.

وقال ابن منصور : السيد من خلى من أوصاف البشرية ، وأظهر بنعوت الربوبية.

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) لما وعد الله تعالى نبيه عليه‌السلام يحيى طلب من الله تعالى علامة وقت ظهوره ، ولا يشك في وعد الله لكن غرضه طمأنينة قلبه ليتهيأ أسباب

الأدب لزمان ظهور موهبة الله استقبالا إلى الله بشكر نعمته ليدوم عليه مواهب الإلهية (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) حصر لسان نبيه عليه‌السلام عن المكالمة والمحادثة مع غير الله ليتجرد سره وحاله عن ازدحام الخلق وذكرهم ، والأدب فيه أن من يطلب من الله تعالى شيئا من معاني الغيب ورؤية معجزته وكرامته لا يتحرك لسانه بالفضولات ، وقلبه لا يخطر به من طوارقات الوسواس حتى يكون ظاهره وباطنه مشغولا بالحق لأن التفرق إذا وقع في الظاهر يتشوش به الباطن ، وأجاز له الرمز ليدفع به ضيق قلبه ، ومن دخل عليه من أهله ، والرمز من الأنبياء للأولياء ، والرمز من الأولياء الخاصة المريدين ، وحقيقة الرمز من تمريض السر إلى السر وإظهار التفرس إلى التفرس وإعلام الخاطر إلى الخاطر بنعت تحريك سلسلة المواصلة بين المخاطب والمخاطب (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) الذكر الكثير هاهنا تخليص النية عن الخطرات وجمع الهموم بنعت تصفية السر في المناجاة ، وتحير الروح في المشاهدات ، أدّب الله أهل محبته وإرادته بما أخبر عن معجزة زكريا واستجابة دعوته حتى إذا أرادوا كشف الغيب واستجابة الدعوة اعتزلوا عن الخلق ، وعن محادثتهم وتركوا ما لا يعينهم وقطعوا لسانهم بمقاريض الصمت ، وجعلوه رطبا بذكر الله في أيام مناجاتهم التي أرادوا فيها كشف المقصودة.

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي

حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤))

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) بإلقاء كلمته فيك ، وأيضا أصطفيك برؤية الملائكة والخطاب معهم.

وأيضا أصطفيك بالكرامات والآيات حتى يأتي الملائكة يرزقك من الجنة (وَطَهَّرَكِ) أي : من لمس البشر وأيضا من دنس الخليقة.

وأيضا أي : طهر سرك عن الالتفات من الله إلى كفالة زكريا عليه‌السلام (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) اصطفاء الأول : رفع المنزلة ، واصطفاء الثاني : حقيقة العصمة بإشارته على نساء العالمين.

قال الأستاذ : فائدة تكرار الاصطفاء ، الأول : أصطفيك بالكرامة والمنزلة وعلو الحالة ، والثاني : أصطفيك ؛ لأنّك حملت بعيسى عليه‌السلام من غير أب (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أي : استقيمي في طاعة مولاك (وَاسْجُدِي) أي : كوني في السجود خالصة عن غيري (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي : تقربي إليّ بتواضعك مع المتواضعين من أوليائي وأنبيائي وخواص أهل محبتي لتنال بركات الجمع ؛ لأن صحبة الأولياء استحكام في العبودية ، وتخليص عن رق البشرية (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) بشرها حتى رسخت في تحمل إيذاء اللائمين ، وعرفت منزلتها حتى لا يسقط عن درجة اليقين بحديث العالمين (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) في الدنيا ملتبسا بأنوار الربوبية ، وفي الآخرة ملتبسا بجمال المشاهدة ألبسه الله خلعة الهيبة ، ليكون عظيما في أعين الناظرين من الفريقين المؤمنين والكافرين (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) تكلم الناس في المهد ليكون شاهدا على نبوته ورسالته وطهارة أمه ، وكهلا عن انبساطه ، وحالة اتحاده ، فالأولى من النبوة ، والآخر من الأنانية ، وفعله شاهد قوله بأحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، في بدايته كان ملتبسا بلسان العبودية ، في نهايته كان ملتبسا بصفات الربوبية.

وقيل : يكلم الناس في المهد معجزة له ، وكهلا داعيا ربه.

وقيل : يكلم الناس في المهد صبيا ، وعند نزوله من السماء كهلا ؛ ليكون على طرفي كلامه معجزة.

قال الواسطي : يكلم الناس في المهد ردا لقول المخالفين إنه نطق في حال يعجز من كان مثله عن ذلك ، وإذا كان كهلا ليس فيه بطش الشباب لا ضعف الشيوخ (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) انسلخ من أوصاف الحدوثية ، واتصف بصفات الربوبية فأظهر منه الحق جل عن الأهل والولد والحلول والمكان والجمعية والاختلاط مع الخليقة حقائق القدرة ليس لي في هذه الآية كلام أجل من ذلك مع أن أهل المعرفة قد سبقوني في هذا المعنى ، ولا بدّ لي من أن أتكلم فيه بشيء من عبارتي ما دام شرعت في تفسير القرآن.

وقيل : من اشتد عليه الصفات الربوبية ، وغاب عن أوصاف الحدث حتى بنفسه وأحيى به كل شيء ، وأبطل بهذه الآية دعاوي من ادعى إظهار معجزة عليه به دون ربه ، والله قادر على الإعجاز في جميع الأوقات يظهرها على من يشاء ، فالإعجاز الله والسبب مظهر عليهم ذلك في الهياكل والصور (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) عاينوا بأبصار القلوب حقائق الغيوب ، فقالوا : (رَبَّنا آمَنَّا).

قال ابن عطاء : (آمَنَّا) بما نورت به قلوب أصفياك من علوم غيبك ، (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) فيما أظهر من سنن أوامرك ، ونواهيك رجاء أن يوصلنا اتباعه إلى محبتك (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) مع من يشهدك ولا يشهد معك سواك (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) سقطوا عن مشاهدة سابق الحق فاحتالوا مع أهل الولاية بتدبير النفس فكان مكرهم مكر الحق عليهم ، وهم لا يعلمون أنهم مخدعون.

قال محمد بن علي : مكروا أنفسهم فحسن مكر الله عندهم ، وكان في الحقيقة الماكر بهم لتزيينه ذلك عندهم ألا تراه يقول : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر : ٨].

سئل بعض أهل الحقيقة : كيف تنسب المكر إلى الله؟ فصاح وقال : لا علة لصنعه وأنشد :

ويقبح من سواك الفعل عندي

وتفعله فيحسن منك ذاك

فديتك قد جبلت على هواكا

فنفسي لا تنازعي سواك

أحبك لا ينغصني بل بكل

وإن لم يبق حبك لي حراكا

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا

وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣))

قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ) إن الله تعالى نفخ في صورة عيسى روحا قدسيا ورباها فيها بأنوار النبوة والعبودية ، وتجلي المشاهدة ، فإذا كمل في مقامات المصطفى من صفوة أنبيائه وأوليائه ، قال : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) على عن رسم الحدوثية (وَرافِعُكَ) إليّ بنعت الربوبية ، (وَمُطَهِّرُكَ) عن شوائب البشرية.

قال الواسطي : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) عنك ، (وَرافِعُكَ إِلَيَ) ، (وَمُطَهِّرُكَ) من إرادتك وهواك ، وذلك لإظهار نعوت الأزلية عليه (١).

__________________

(١) قال التستري (١ / ٤٥٥) : فإنه إذا مات فينزع عنه لطيف نفس الروح النوري من لطيف نفس الطبع الكثيف الذي به يعقل الأشياء ويرى الرؤيا في الملكوت ، وإذا نام نزع عنه لطيف نفس الطبع الكثيف لا لطيف نفس الروح النوري ، فيستفيق النائم نفسا لطيفا ، وهو من لطيف نفس الروح الذي إذا زايله لم تكن له حركة ، وكان ميتا. ولنفس طبع الكثيف لطيفة ، ولنفس الروح لطيفة ، فحياة لطيف نفس الطبع بنور لطيف نفس الروح ، وحياة روح لطيف نفس الروح بالذكر ، كما قال : (أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [آل عمران : ١٦٩] أي يرزقون الذكر بما نالوا من لطيف نفس النوري ، وحياة الطبع الكثيف بالأكل والشرب والتمتع ، فمن لم يحسن الإصلاح بين هذين الضدين ، أعني نفس الطبع ونفس الروح حتى يكون عيشهما جميعا بالذكر والسعي بالذكر ، فليس بعارف في الحقيقة. وقال عمر بن واصل : وكان المبرد النحوي يقول : الروح والنفس شيئان متصلان لا يقوم أحدهما بدون الآخر. قال : فذكرت ذلك لسهل ، فقال : أخطأ ، إن الروح يقوم بلطفه في ذاته بغير نفس الطبع الكثيف ، ألا ترى أن الله تعالى خاطب الكل من الذر بنفس روح وفهم عقل وفطنة قلب وعلم لطيف بلا حضور طبع كثيف.

قال بعضهم : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) عن حظوظك ، ورافع شخصك إليّ ، ومطهر سرك من مطالعة الأغيار والأعواض بالكلية ، ومما سمح لي في هذه بالبديهة بعد ذكر المشايخ رضوان الله عليهم ، (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) غيرة حتى لا ينظر إليك بنعت المحبة غيري ، (وَرافِعُكَ إِلَيَ) بنعت العشق ، (وَمُطَهِّرُكَ) من التفاتك إلى الملكوت ؛ لأن من شرط اتحاد الحبيب بالمحبوب ألا يدخل بينهما من الحدثان ، فإذا كان العارف بلغ مقام صرف التوحيد يتشعشع نور جمال الحق من وجوده فسجد له الكون ، ومن فيه بالظاهر طوعا وكرها ؛ لأن من رأى حسن جلال الحق بالواسطة ، ولم يبلغ حقيقة تحقيق المعرفة يصير مشبهيّا بوقوعه في الوسائط لأجل ذلك رفع روحه إليه حتى يستقيم نظام الشريعة ولم ينسخ أحكام السنة (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) خلق الله الأرواح القدسية من معادن الربوبية ، وجللها بنور المشاهدة فصارت تلك الجواهر من أصل واحد ، وإن كان تتفاوت في المقامات وصورة البشريات فروح آدم من الملكوت خلق ، وجميع ذريته من الأنبياء والصديقين معها ، فذكر الله تعالى ما صنع بروح آدم من تخصيصها بالقربة والكرامة والمشاهدة والعلم والمكاشفة والتفريد والتوحيد فذكر أن روح عيسى في منازل القربات مثل روح آدم بما ذكر من تخصيصها ، فقال لآدم عليه‌السلام : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص : ٧٣] ومثل هذا قال لعيسى عليه‌السلام لكن شرف آدم عليه‌السلام بإضافة خلق صورته إلى نفسه فقال : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] وأنه أسجد له ملائكته تخصيصا أو تشريفا من جميع الخلق لهذه المنزلة ، وقوله : (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) دفعا لتهمة الجهلة حتى لا يظنون قدحا في الربوبية.

قال الأستاذ : حضهما بتطهر الروح عن التناسخ في الأصلاب ، وأفرد آدم بصنعة اليد وعيسى بتخصيص نفخ الروح فيه على وجه الإعزاز ، وهما وإن كانا كبيري الشأن فنقض الحدثان والمخلوقية لازم لهما ، قال الله تعالى : (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) قوله : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) طيب الله تعالى هذا قلب نبيه عليه‌السلام أي : كما كنت قادرا بخلق آدم وعيسى بكلمتي وقوة سلطاني فأعطيتك بما وعدتك من كمال دينك وشريعتك وتمام نعمة المعرفة عليك وعلى متبعيك فلا تكن ملهوفا من خطرات نفسك.

قال بعضهم : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ألا يظهر شيئا من المكونات إلا من تحت ذل (كُنْ) فلا تشكنّ فإنه منفرد بأسمائه وصفاته لا ينازعه في صفاته أحد من عبيده وخلقه.

وقال الأستاذ : الحق من ربك يا محمد فلا تشكنّ في أنه لا يماثله في الإيجاد واحد ، ولا على إثبات سببه لمخلوق قدرة فالموجودات التي حقت بوجودها عن كتم العدم من الله عز

وجل بدؤها وإليه عودها.

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) أي : من آذاك بالحجة الباطلة من المدعين الكاذبين فادع عليهم دعوة الحلم والانبساط ليهلكوا جميعا بدعوتك لأني خصصتك من بين الأنبياء بمقام المحمود واستجابة الدعوة في السجود.

قال جعفر الصادق : هذه إشارة في إظهار المدعين لأهل الحقائق لتفتضحوا في دعواهم عند أنوار التحقيق وبطلان ظلمات الدعاوي الكاذبة.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢))

قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) هو إفراد القدم من الحدوث وإظهار الحق بنعت العبودية ، والخروج من رسم دعاوي البشرية ، ودفع النفس عن الالتفات إلى الأكوان والتجلي بمحبة الرحمن.

(أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) أي : لا نتبع الهوى والدنيا وشهوتها ، ولا نلتفت بنعت الرياء والسمعة إلى غير الحق.

(وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) لا يفرح بالمدح والتزكية والعطاء والخدمة والرئاسة التي يتوقع بعضنا من بعض ، والإشارة فيه أنه أعلم الحق عباده بتجرد قلوبهم عما سواه.

وقال الواسطي في قوله : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) قال : هو إظهار العبودية عند ملاحظة الصمدية.

وقال ابن عطاء : هو تحقيق التوحيد.

وقال أبو عثمان : في قوله (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) قال : أعلمك طريق التعبد في هذه الآية ، وهو ألا تطالع بسرك عند اشتغالك بالعبادة سوى معبودك ، ولا تفرغ في أمر من أمورك إلى غيره فتتخذ بذلك ربّا.

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) ما كان الخليل عليه‌السلام متعلقا بالتشبيه مثل اليهود ، ولا بالثنوية مثل النصارى ، ولكن كان حنيفا مائلا عن الكون برؤية المكون ، مسلما منقادا عند جريان قضائه وقدره لإرادته.

وقال الأستاذ : الحنيف : المستقيم على الحق.

قوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) أن أولى الناس بالخليل عليه‌السلام للذين اتبعوه بشرط التجرد عن الكونين والعالمين ومنع النفوس عن حظوظ أشكال الملكوت ؛ لأن الخليل إذا بلغ مبلغ رجال القدس زاغ بصره عن عرائس الملكوت ، فقال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٨ ، ٧٩] وهذا النبي يعني محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى بمتابعة أبيه خليل الله ؛ لأنه زبدة مخاض محبته ، وخلاصة حقيقة فطرته ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي : أيقنوا وشاهدوا معاينات الآخرة ، ومنازل الأبرار السفرة ، والله ولي المؤمنين حافظهم عن آفات القهريات ، وأدخلهم في قباب العصمة والكرامات.

قال جعفر الصادق : الذين اتبعوه في شرائعهم ومناسكهم ، وهذا النبي لقرب حال إبراهيم من حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشريعته من شريعته ، دون سائر الأنبياء وسائر الشرائع ، والذين آمنوا لقرب حالهم من حال إبراهيم (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) في تشريفهم إلى بلوغ مقام الخليل عليه‌السلام إذ القرب منه في درجة المحبة بقوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤].

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ

عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥))

قوله تعالى : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) أي : لا تصبحوا إلا أهاليكم من العارفين والربانيين الذين لا يظهرون أحوالهم عند أهل الدنيا بالرياء والسمعة ولا يغالطون الناس في معاني أهل الحقيقة فيقعون فيهم بالوقيعة والإنكار ويقصدون سفك دمائهم.

وقال بعضهم : لا تعاشروا إلا من يوافقكم على أحوالكم وطريقتكم.

وقال المرتعش : لا تفشوا أسرار الحق إلا إلى أهله.

وقال أبو بكر بن طاهر : لا تصدقوا ظهور كرامات الله على ما لم تتبينوا ولايته ورياضته ومحافظته على ظاهر الشريعة.

(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) الرحمة هاهنا : النبوة والولاية يختص بها من يشاء من صفوة خلقه ؛ لأن سبق عنايته قبل وجود المجاهد والمجاهدة والشواهد والبراهين والكون والعلل فمن أشرقه نور المشاهدة وملأ سمع سره من خصائص الخطاب ، وسكرت روحه من شراب الوصلة ، فأنى له النظر إلى نفسه ومعاملته ومجاهدته ؛ لأن من النقص صار مرادا وإن ذل ، ومحبوبا وإن اعتد ، والاختصاص الأصلي يقع على ثلاثة أحوال : الأول : هو مكاشفة غيب الملكوت ، والثاني : يقع على مشاهدة الجبروت ، والثالث : يقع على مدارج المعرفة والتوحيد ، وهو أعلى وأجل ؛ لأن فيهما السكر والبسط والصحو والانبساط والإيجاب والأنانية والفردانية والحرية والاتصاف بالربوبية ، ولهذه أصل حقائق التمكين وتحقيق التوحيد.

وقال أبو عثمان : أمهل القول ليبقى معه رجاء الراجي وخوف الخائف.

وقال بعضهم : أزال العلل في العطايا والنفوس عن ملاحظات المجاهدات فاقطعهم عن الشواهد والموارد.

وقال سهل : من نال الهداية والقربة نالهما بربه لا بنفسه.

وقال الواسطي : ارتفعت العلل في العطايا وفيما أظهر من النعوت والخفايا ، وفتر النفوس عن مطالعات المجاهدات ، وكيف يتوسل المتوحد بالوسائل من أعمال البر بعد قوله : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) (١) وأيقن بأن ليس إليه طريق بالشواهد والموارد والعوائق.

__________________

(١) يقال خصه بالشيء واختصه به إذا أفرده به دون غيره ومفعول من يشاء محذوف ، والرحمة النبوة والوحي والحكمة والنصرة. والمعنى يفرد برحمته من يشاء إفراده بها ويجعلها مقصورة عليه لاستحقاقه الذاتي

وقال ابن عطاء : أنبأ ألا طريق إليه بالعوائد والفوائد.

وقال الواسطي : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) أن يكون بحيث كنت بلا أنت ، ويكون القائم هو لك بذاته ونعته.

وقال أيضا : من تجلى له بأحوال ليس كمن تجلى له بحالة واحدة كذلك (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ).

وقال أيضا : لما أن شاهدوا البرهان وعاينوا الفرقان ، فزعوا من صفاتهم إلى صفاته ومن فعلهم إلى فعله ، فسكنوا إلى ما سبق حسناه ؛ حيث يقول : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) [الأنبياء : ١١].

وقال أبو سعيد الخرّاز : إن الرحمة هاهنا فهم معاني السماع بالسمع الحقيقي ، وهو الذي خص به الحق خواص السادة من عباده.

وقال الفارس : هو الهداية والخدمة والمشاهدة والولاية والنبوة والرسالة ، ولو لا أنه خصهم بما خصهم به ما ظهر عليهم من آثار الموافقة شيء.

قال أبو سعيد الخرّاز : اختص الله من عباده خواصا جعلهم أهل ولايته ، فقال : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) فطوبى لهذا العبد الضعيف ، ما حباه به سيده من هذه الدرجة العظيمة.

وسئل ابن عطاء : ما الذي فتر العابدين عن عبادتهم؟ قال قوله : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ).

وقال بعضهم : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) بمعرفة نعمه عليه ، والقيام بشكرها.

وقال الأستاذ : أي : بنعمته من يشاء ، فقوم اختصهم بنعمة الأرزاق ، وقوم اختصهم بنعمة الأخلاق ، وقوم اختصهم بنعمة العبادة ، وآخرين بنعمة الإرادة ، وآخرين بتوفيق الظاهر ، وآخرين بتحقيق السرائر ، وآخرين بعطاء الإيثار ، وآخرين بلقاء الأسرار.

وقال الله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [إبراهيم : ٣٤].

__________________

الفائض عليه بحسب إرادته عزوجل لا تتعداه إلى غيره لا يجب عليه شيء وليس لأحد عليه حق وما وقع في عبارة مشايخنا في حق بعض الأشياء أنه واجب في الحكمة يعنون به أنه ثابت متحقق لا محالة في الوجود لا يتصور ألا يكون لا أنه يجب ذلك بإيجاب موجب.

وقيل : لما سمعوا قوله سبحانه : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) علموا أن الوسائل ليس بها شيء ، وأن الأمر بالابتداء والمشيئة.

وقيل : يختص برحمته من يشاء بالفهم عنه فيما يكاشفه به من الأسرار ، ويلقيه من فنون التعريفات.

(بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠))

قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى) العهد ثلاثة : عهد الأزل بنعت الكشف للأرواح في أحانين بقلب القلب في سره في أوصاف الربوبية مع الأسرار ، وهو إلقاء مخاطبة الحق بما وافق توفيق المعارف في خصائص العبودية ، وعهد الله بعد تمكين العارف وكونه عارفا بالله مع عقله بوسائط الكتاب والسنة لكون الأدب منه في جميع عمره فمن وافى روحه عهد الأزل فاز من دركات الشرك ، وبلغ سر التوحيد ، ومن وافى قلبه إلهام الخاص بإلقاء سمع الخاص وسكونه في جريان الحكم فقد بلغ عين حقيقة الرضا وخلص من درك الفناء ، ومن وافى عقله أوامر الحق بالوسائل في ظاهره وباطنه فقد بلغ حسن الأدب في مقام العبودية ويكون مرشد للمريدين ، وقائد للعارفين قوله : (وَاتَّقى) أي : من اتقى خطرات النفوس وطوارق الشهوات فإن الله يبلغه مقام حقيقة المحبة.

قال الأستاذ : صاحب الوفاء للوصلة مستوجب ، وللتكريم أهل ، وللرحمة مستحق ، وصاحب الخطأ ممقوت وللهوان أهل ، وللخجلة معترض ، والوفاء بالعهد الكون معه بقطع ما سواه.

قال جعفر : من أوفى بالعهد الجاري عليه في الميثاق الأول ، وأبقى وطهر ذلك العهد وذلك الميثاق من تدنسه بباطل ، لذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصدق كلمة تكلمت بها العرب كلمة

لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل» (١).

ومن وافى بالعهد سمي محبّا ، (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ).

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) من مال إلى حضرة الدنيا وأثرها على رؤية مشاهدة حضرة الحق ، وزين ظاهره بعبادة المقربين ، ويبيعها بحظ الرياسة ، فقد سقط عن رؤية اللقاء مخاطبة الحق في الدنيا والآخرة.

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) أي : ليس من يختص بقربة الحق وكشف مشاهدته أن يلتفت سره إلى رياسة الخلق وحرمتهم له ، وأن يرى لنفسه قيمة عند إجلال عظمة الحق ؛ لأن من بلغ تحقيق التوحيد لا يرى لنفسه وزنا عندما يبدو من تجلي عظمة الحق ، ويكون خجلا على الدوام بين يدي الرحمن من وجوده عند وجود الحق ، ويريد فناء وجوده استحياء من ربه تعالى ، ولكن ما رأى نعم الله تعالى من كشف جماله وقرب وصاله ، وتعرفه بالجلال والعز والكبرياء والعظمة والقهر واللطف أشفق على الخلق ، ويدعوهم إلى عبادته وطالب مرضاته ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) ، ومعنى كونوا ربانيين أمر من الحق تعالى لأنبيائه وأوليائه أي : كونوا موصوفين بصفته كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تخلقوا بأخلاق الرحمن» (٢) ، وهذا وصف من كساه الله سنا قدس جمال الأزلي ، وجلال الأبدي قبل كون طينة البشر ، فكان منورا بنور صبح القدم ، إذ الأشباح والأجسام في العدم ، فإذا سكن الأرواح في ظلم الهياكل خاطبهم الانبساط ، فقال : لا تنسبوا إلى الماء والطين ، ولكن انتسبوا إلى الحق بنعت المحبة والمكاشفة والمشاهدة والاتصاف بصفقاته ، والتربية في حجر وصاله ، وكونهم بأفعاله الخاصة بالذاتية القدمية ، وليس هؤلاء كمن كان كونه بالأمر ؛ لأن الأمر للعوام ، والفعل للخواص ، مع أن الحق جلّ من الأشكال والأشباه ، والخيال والأوهام والأفهام ، والجزء والكل ، والتبعيض والصور ، والأزمان والمكان ، تعالى كبرياؤه وجلّت صفاته ، قوله : (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أي : لكم خاصة علم اللدني ، وعلم الكتاب والسنة والشريعة ، بها يلزم عليكم الخروج عن رسم الإنسانية ، وأوصاف البشرية.

وقال جعفر الصادق : في قوله تعالى : (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) قال : مستمعين بسمع القلوب ، وناظرين بأعين الغيوب.

__________________

(١) رواه البخاري (٣٦٢٨) ، ومسلم (٢٢٥٦).

(٢) ذكره المناوي في «التعاريف» (١ / ٥٦٤).

وقيل : (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) علما والله حلما عن عباده.

وقال ابن عطاء : عاينوا أول تربيتكم ليتخلصوا من هذه الآفات كلها ، وقال أيضا : أخرجهم بهذا الخطاب عمّا خاطبهم به من العبودية.

قال الواسطي : عاينوا أوقات تربيتكم وتقديركم قبل آدم عليه‌السلام ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالانتساب إلى آدم عليه‌السلام ، والافتخار بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بالافتخار ممن قدّسك في الأزل.

وقال أيضا : قال : كونوا كأبي بكر إذا أورد عليه قوادح الأمور لا يؤثر على سره حين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر : «دع بعض مناشدتك ربك ؛ فإنه ينجز لك ما وعدك» (١).

وقال أيضا : في هذه الآية أمر إبراهيم عليه‌السلام بالاستسلام ، وأمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعلم ، فقال : فاعلم والاستسلام إظهار العبودية ، والعلم به التوسل إلى الأزلية والأبدية ، لذلك خاطبهم فقال : (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) ، وأيضا قال : (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) جذبهم بهذا من الافتخار بالطين إلى الافتخار بالحق.

قال الجنيد : أخرجهم من الكون جملة ، وجذبهم إلى الحق إشارة ، فإذا أردت أن تعرف مقامات الخلق ، وبواطنهم في الحقيقة ، فانظر إلى تصرف أخلاقهم تجد كل واحد قائما في أشخاصه ، استقطعه ما وافق سريرته ، فانظر بما ربطت القلوب ، فيشهد سرائرهم ؛ لأنهم أخذوا من المصادر الأول ، فمن لم يستقطعه إلا إسبال أنواره والحياء فيما ورد عليه ، أيقن كيفية باطنه على الحقيقة تنازعه في ربوبيته ، وتمر عليه في عبودية وأنت لا تشعر ، وقال بعض العرافين : أخرجهم من آدم عليه‌السلام وتراهم منه كي ينسوا العبودية والافتخار بالماء والطين.

وقال الشبلي : أخرجهم عما خاطبهم به من العبودية ، فمن استحق العلم به استحق علم الربانية ، والرباني الذي لا يأخذ العلوم إلا من الرب ، ولا يرجع في بيانه إلا إلى الرب جلّ وعلا.

وقال الواسطي في هذه الآية : (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) ؛ لأن تكون ابن الأزل والأبد خير لك وأحسن بك من أن تكون ابن الماء والطين والأفعال والإحصاء والعدد.

وقال سهل : الرباني هو العالم بالله والعالم بأمر الله ، والمكاشف له من العلوم اللدني ما غاب عن غيره ، وقال أيضا : الرباني الذي لا يختار على ربه حالا.

وقال الجريري : (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) أي : سامعين من الله ناطقين بالله.

وقال فضل بن العباس الشكلي : قال كونوا كأبي بكر الصديق ؛ فإنه لما مات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) رواه مسلم (٣ / ١٣٨٤) ، وأحمد في مسنده (١ / ٣٠) ، والترمذي (٥ / ٢٦٩).

اضطربت الأسرار كلها لموته ، ولم يؤثر ذلك في سر أبي بكر ، فقال : «من كان منكم يعبد محمدا ؛ فإنّ محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله ؛ فإنّ الله حي لا يموت» (١).

وقال القاسم : كونوا ربانيين متخلقين بأخلاق الحق علماء وحلماء.

وقال بعضهم : الرباني بحقه من نسي نفسه في نسيانه ، فنسي أوقاته بأوقاته ، ونسي أجاله وأرزاقه بصفاته ، فصفاته جذبته إلى ذاته ، وذاته ملكه عن صفاته.

وقيل : الرباني من ارتفع عنه ظل نفسه ، وعاش في كون ظله.

وقيل : الرباني الذي هو محق في وجوده ، ومحو عن شهوده ، فالقائم عنه غيره ، والمحوي لما عليه سواه.

وقيل : الرباني الذي لا يؤثر فيه تصاريف الأقدام على اختلافها.

وقيل : الرباني الذي لا تستقره محنة ولا يهزه نعمة فهو على حالة واحدة في اختلاف الطوارق.

وقيل : الرباني الذي لا يتأثر بورود وارد عليه ، فمن استعطفه رقة قلب أو استمالة هجوم أمرا ، وتفاوت عنده أخطار حادث فليس برباني.

وقيل : الرباني الذي لا يبالي بشيء من الحوادث بقوله وسره ، وإن كان لا يقصر في شيء من الشرع بفعله.

وقيل : (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) من توالي إحساني إليكم ، وتضاعف نعمتي لديكم.

وقيل : بما كنتم تعلمون الكتب وبما كنتم تدرسون من آلائي ونعمائي ، وما توليتم من أموركم.

(وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) ولا يمنّون عليكم بتعليمهم إياكم أن تزكّوهم وتطردوهم ، ولا تلتفتون بأسرارهم إلى تمكينهم ودرجاتهم ، ويعلمون أنهم في ديوان الألوهية والربوبية كل شيء في كل شيء ، ولا ترون الكون مع ما فيه ومن فيه في جنب عظمة الله تعالى ، إلا كذّرة في السموات والأرض ، ولا تتعرضون بأمور أنفسهم في أمر الله تعالى ، ويعلمون أن أمر الحق غالب على جميع الأمور ، فإنهم مأمورون كجميع الخلائق : (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي : لا يأتون على الخلق إلا لتهذيب أسرارهم عن الأكوان والحدثان في خالص عبودية الرحمن ، ويخيرونهم عن أسرار الحقيقة ، وأنوار الشريعة ، وعن وحدانية الله وقدس طبقاته وعز بقاء وجهه وجماله ، ويأمركم التمسك بحبل

__________________

(١) رواه البخاري (١١٨٥) ، وابن حبان في صحيحه (١٤ / ٥٨٩).

الله المتين ، وصرف الإيمان بنعت اليقين.

وقال ابن عطاء موضعا للملاحظات : وليس بأيديهم من النفع والضر شيء فكيف لمن دونهم.

وقال الواسطي : في هذه الآية لا تخطرون بأسراركم تغطيهم ولا الكفر في معانيهم واعلموا إنما هي ربوبية تولدت عبودية.

وقال ابن عطاء : إياك أن تلاحظ مخلوقا وأنت تجد إلى ملاحظة الحق سبيلا ، قال الله تعالى ولا يأمركم الآية.

وقال الواسطي : في هذه الآية محلا للمخاطبات ، وموضعا للمعاملات ، أيأمركم بالكفر بعد إذ انتم مسلمون أيأمركم بالاحتجاب عن الحق بعد معاينة الحق ، أو بالانقطاع عن الحق بمواصلة غيره.

وقيل : يأمركم بالتوسل إلى من لا وسيلة له إلا بالحق.

وقيل : أيأمركم بمطالعة الأشكال ونسبة الحدثان إلى الأمثال ، بعد أن لاح في أسراركم أنوار التوحيد ، وطلعت في قلوبكم شموس التفريد.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢))

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) أخذ الله ميثاق خصائص خطاب علم المجهول الذي بنا عن حقائق أسرار الربوبية مع النبيين والصديقين بواسطة إلهام الملك ، وغير واسطة منفردا عن نطق المخلوقات ، بل الحق منفرد بإنزاله ، وإظهار أنواره في عيون أرواحهم ، ليصدقوا به ويعرفون أنه من عند الله وينصرونه باليقين والمعاملة ، وهذا من رموز الكتاب ، وأما ظاهر الكتاب ، فإنّ الله تعالى أراد أن يري الأنبياء والأصفياء من الأولين والآخرين شرائف مقامات حبيبه ، تخصيص على جمهورهم ليؤمنوا به ويعرفونه ؛ لأنّ من عرفه فقد عرف الحق ، ومن أمن به ودخل في دائرة المحبة وحقيقة القربة.

قال الله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من

عرفني ؛ فقد عرف الحق» (١) ؛ لأن عليه كسوة الربوبية ، ويبرز من جمال وجهه نور جمال مشاهدة الحق ، والإشارة في ميثاق الحق مع الأنبياء الحبيبة ، لئلا يغيروه ؛ لأن العشاق يغير بعضهم بعضا ، والغيرة من لوازم العشق ، وأنها من صفة الحق سبحانه من تهمة البشر ، وانظر شأن موسي عليه‌السلام وغيرته على سيد الأنبياء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومقصود الحق من الميثاق صون أسرار أنبيائه عن صفات البشرية (فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) يحذرهم من اطلاعه عليهم في نصرة حبيبه والإيمان به ، وهذا غاية تشريف نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين سائر الأنبياء ـ عليهم‌السلام.

ثم بيّن أن من حمد سره عن محبته ، وزاغ قلبه عن نور سنته ، ومال ظاهره عن طريقته وشريعته بعد ظهور معجزته وظهور كراماته سقط عن مقامات المرسلين والنبيين ، وتشمر عن شوق التهديد لهم بهذا ، فقال : (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

وقال فارس : أخذ عهد حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من كان قبله من الأنبياء بقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) فأي شرف أشرف من أخذ الله عهده على من كان قبله ، ثم أمرهم بالشهادة له بالعهد ، وضمن أن يكون هو مع الشاهدين معهم ، والشاهدين عليهم ، وإنّما فعل ذلك لئلا يبقي أحدا ممن تقدم وتأخر إلا ، وعليه حجة من الله في إرساله رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيمان به ، ولا يبقي لأحد بعد ذلك حجة في مخالفته.

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤))

قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) أي : أن أصل جميع المراد في طاعتي ، فمن أين يطلبون صفاء العيش ، وفي أكناف قربي لذائذ أنس العارفين ، وفي ألطاف وصلي حلاوة مشاهدة القدس للموحدين ، وفي أطراف سبل عنايتي نجاح الكرامات للصدّيقين ، ومن تمسك بحبال أمال نفسه فهو عن عين عبوديتي منحرف ، ومن زاغ عن عبادتي فهو عن مشاهدة وحدانيتي وفردانيتي منعزل ، ومن عزل عن مشاهدة العبودية ورؤية الربوبية فهو من جملة المبطلين المستدعين الذين تصرفون في غيابات جب الهوى ، ويهيمون في أودية العنا والجفا

__________________

(١) ذكره ابن عجيبة في «البحر المديد» (٥ / ١٠٠).

ومن طالع غير حقائق الإلوهية والأزلية ، فقد وقع في سراب الضلال ، ويتردد في أغلوطات الشياطين ، فإذا نزل ، نزل في فقر العناء ، وإذا سار ، سار في مغاليط النفس وغباء غبار البلاء.

وقال الواسطي : من تمسّك بغير الوحدانية بل بغير الواحد ، فهو بعيد من عين الحقيقة.

(وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إذا أظهر نفسه عن كبريائه في مرآة الكون بنعت الجبروت انقاد له جميع الأنام قهرا وجبرا ؛ لأنه يقتضي ظهور سلطان الوحدانية ، ووقوع الهيبة والإجلال في وجوه الخلائق بالأفعال (طَوْعاً وَكَرْهاً) أسلم له العارفون ببذل الأرواح (طَوْعاً) لما عاينوه بحسن جمال القدم وأسلم الجاهلون له ببذل النفوس (وَكَرْهاً) لما رأوا من عظم قهره في إظهار سلطنته وقهاريته ، وأيضا سخّر بعضهم بكشف جماله ، فأسلموا من مشقهم على مشاهدته طوعا ، وأعجز بعضهم برؤيتهم عظمته في لباس فعله وصنعه ، فأسلموا من هيبته عند انكشاف نور كبريائه عن الأفاق كرها ، فأكرم قوما بإسبال أنوار التجلي على أسرارهم ، حتى يكونوا في جريان قضائه وقدره بالطوع منقادين وأذّل قوما بإرسال هيبة القهر على ظاهرهم فيكونون عند بروز سطوة جباريته بالكره مذللين.

وقال الحسين : أحدهم عن شهود مثواهم بخصائص الاطلاع عليهم ، فمن طالع الذات أسلم طوعا ، ومن طالع الهيبة أسلم كرها.

قوله : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ) أي : صدّقنا بعد أن رأيناه بعيون الأسرار وحقائق الأنوار ، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «لم أعبد ربّا لم أراه» (١) ، وأيضا (آمَنَّا بِاللهِ) أي : بتوفيقه آمنا بالله لا يجهدنا وسعينا.

(وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا ...) الآية إن من شرط المحبة قبول ما جاء به رسل الحبيب من عند الحبيب ، ولا فرق عنده بين المبشرين والمنذرين ، إذا كان المحب صادقا في حبه.

وافهم إن من غلب عليه محبة الله تعالى عاين بأبصار سره عالم الملكوت ، ويري غيب الحق من الجنة والنار والملائكة والأنبياء والأولياء والعرش والكرسي واللوح والقلم وأنوار الحضرة ، فإذا انكشف هذه المغيبات له ؛ فكيف لا يؤمن بها بعد رؤيتها ، إذا أخبر الله أسرارها بلسان أنبيائه وأوليائه عليه ، والدليل على ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحارثة ، قال : «يا حارثة ، لكلّ حق حقيقة ؛ فما حقيقة إيمانك؟» فقال : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتزاورون ، وأهل النار في

__________________

(١) حديث ذكره بعض الصوفية في كتبهم.

النار يتعاوذون ، فقال عليه‌السلام : «عرفت فالزم» (١).

وقال ابن عطاء في قوله : (قُلْ آمَنَّا بِاللهِ) : صدقنا وأقمنا على طريق الصدق معه ؛ لأنه الذي كتب علينا الإيمان ، وخصّنا في علمه قبل أن أوجدنا ، فنحن مؤمنون به بسابق فضله علينا.

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥) كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١))

قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) أي : من يروم مشاهدة الربوبية بغير العبودية لم يكشف له مقامات الصّديقين والمقربين ، وأيضا أصل جميع الحقائق ينوط بالإسلام والانقياد عند مراد الحق ، والإشارة فيه أنّ من لا يصبر في بلاء الحق ، ويجزع عند نزول المصائب إلى غير الله لم يقبل منه شيء من المعاملات والمجاهدات.

وقيل : من توسل إليه من شيء دون الاعتصام ، فخسرانه أكثر من ربحه.

وقال القاسم : من يأخذ غير الانقياد طريقا في القيد لم يصل إلى شيء من حقيقة العبودية.

وقال مجاهد : من لم يقيد أفعاله بالسنة لا يقبل منه عمل.

وقال سهل : في قوله ومن يبتغ غير الإسلام دينا أنه التفويض ، ومن لم يفوض إلى مولاه جميع أموره لم يقبل منه شيء من أعماله (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا) الآية أي : من فطراه الله على غير استعداد المعرفة وحكم عليه بالكفر في سابق الأزل لم يهده إلى مشاهدة الإيمان واليقين ؛ لأنّ الاستعداد من لوازم المعرفة ، ومن لم يكن له استعداد الطريقة لم يقع في قلبه أنوار التجلي ، ومن خاض في بحر القهر ، ولزم في قهر بعد البعد لم يكن له سبيل إلى حال

__________________

(١) ذكره ابن عجيبة في «البحر المديد» (٥ / ١٠٠).

قرب القرب.

قال الأستاذ : من عبده عن استحقاق الوصلة في سابق حكمه متى يقربه من بساط الخدمة بفضله في وقته.

وقيل : من أقصاه حكم الأزل ، متى أدناه صدق العمل ، والله غالب على أمره (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ) ابتدأهم في حجاب المكر ، وختم أحوالهم بالاستدراج ، وهذا غاية الطرد والإبعاد عن بساط الوصال سوي أولهم وأخرهم ، وردّهم بعد كونهم في المعاملات إلى ما حكم عليهم في سابق علوم الأزليات ، خالدين فيها لا سبيل لهم إلى معرفة وجود جلاله وكمال قدرته ، فيزداد غيهم على غيهم ، ولا يخرجون من طبقات الهجران والحرمان إلى مشاهدة الرحمن (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) هم الذين سبق لهم حسن الإيمان بمشيئة الأزل ، ووقفوا بامتحانه في بحار الفتنة والشهوة ، فأدركتهم أنوار عناية الأزلية ، وأخلصتهم من أسجان النفوس ، وأصفاد الشياطين ، ونور عيون أسرارهم بكحل سناء العناية ، حتى يروا خبائث أعمالهم ، فتابوا منها وتركوها استحياء من ربهم ؛ حيث يروا مننه السابقة التي سبقت لهم بنعت العناية والرعاية والكفاية والهداية.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) أي : من كوشف له من مقامات الأول شيء وصدّق به ، وآمن بأحوالهم وكراماتهم ، ثم كذّبهم عن إيمانه بهم بسبب أو علة أو فراد من مجاهداتهم واجتهادهم وضيق رسومهم ، ثم ازدادوا كفرا بإقامتهم على إنكارهم ، وشروعهم في إيذاء الأولياء والمريدين وأهل الرغائب ، والإشارة فيه أنّ هؤلاء الذين وقعوا في عاهة الإنكار وبلية الجحود بعد شهودهم آثار الغيب في مشاهدة البيان ، وأنسوا به وألفوه ثمّ عميت أبصار قلوبهم عن مشاهدة الآخرة ، وصمت أذان أسرارهم عن خطاب الحق في بواطن الغيب ، وصدّت عقولهم بدين الجهالة ، وعصيت نفوسهم خالق الخلق بهجومها في غلطات الكبر والرعونة ، وخبثت أخلاقهم من شوائب الشهوات ، وكدرت أرواحهم من اقتحامهم في العجب والرياء والكبر ، وأبغضت الأولياء ، وساءت آدابهم بين يدي الله ، لم يقبل الله تعالى توبتهم ؛ لأنهم ذاقوا حلاوة الرياء والسمعة ، وأثروا حظوظ الدنيا على صحبة أهل المعرفة ، وركنوا إلى صحبة الأضداد ، ومالوا عن بساط الحرمة إلى عرصة المخالفة ، ومن هذه أحواله فتوبته لا تستقيم ، وأوبته لا تدوم لغلبة الشهوة على قلبه ، وكثرة الفترة على بدنه ، لا يلصق به نصيحة ، ولا آثرت فيه شفقة ، ولا ينتظم شمله ، بطرت نفوس هؤلاء بالشهوات ، واسودت قلوبهم من الشبهات ، جازاهم الله تعالى بإبعادهم عن حضرة الوصال ومشهد الجمال ، وهو قوله تعالى : (لَنْ تُقْبَلَ

تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) ضالون عن طريق الحقائق والمعارف والكواشف ، وأسبل الله على قلوبهم غطاء القهر حتى لا يرون أنوار عجائب كرامات أوليائه ، ولا يقومون عند الله يوم القيامة وزنا ، وإن كثرت صلواتهم وصيامهم وصدقاتهم ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) (١).

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢))

قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) أهل هذه الصفة في إنفاقهم على أربع طبقات : طبقة منهم أهل المعاملات ، وهم على عشرة أقسام : قسم منهم التائبون وإنفاقهم ثلثه ترك الدنيا ، وترك الرياسة ، وترك النفس لله ، وفي الله ، وقسم منهم المتورعون ، وإنفاقهم ثلثه الاجتناب من المعاصي ، وترك ما سوي البلغة من الحلال ، وفطام النفس عن الشهوات ، وقسم منهم الزاهدون ، وإنفاقهم ثلثه مجاهدة النفس ، وتزكية الأعمال ، وذم الجوارح ، وقسم منه الفقراء وإنفاقهم ثلثه حفظ الأوقات ، وصيانة الفقر ، والتعفف في جميع الأمور ، وقسم منهم الأغنياء من هذه الطائفة ، وإنفاقهم ثلثه بذل الأموال بغير المنّة ، والإبداء والتواضع عند الفقراء ، وطلب الإخلاص في أنفسهم عند خطرات الرياء قسم منهم الصابرون ، وإنفاقهم ثلثه الخروج من الجزع عند الفاقة ، ونشاط القلب عند نزول البلاء ، وإيثار البلاء على الراحة ، وقسم منهم الشاكرون ، وإنفاقهم ثلثه قصر ألسنتهم عن الثناء مع عرفانهم نعم ربهم استحياء منه ، وحيرة في قلوبهم عن معرفة حقيقة المنعم والخروج من رسم الأعواض في بذل الأرواح ، وقسم منهم المتوكلون ، وإنفاقهم ثلثه استرسال النفوس لله عند نزول بلائه ، وبذل المهجة له طلبا لرضاه ، وضبط الخاطر من الخطرات عند جريان قضائه ، وقسم منهم الراضون ، وإنفاقهم ثلثه ترك اختيارهم في اختياره ، وترك تدبيرهم في مراده ، وصون أسرارهم عما دونه ، وقسم منهم الصادقون ، وإنفاقهم ثلثه إخلاص العبودية عن رؤية الخلق ، وإخلاص السر عن رعونة النفس ، وإخلاص التوحيد عن رسم الحدوثية ، وطبقة

__________________

(١) أي : بملء الأرض ذهبا ، فإن قيل نفى قبول الافتداء يوهم أن الكافر يملك يوم القيامة من الذهب ما يفتدى به وهو لا يملك فيه نقيرا ولا قطميرا فضلا عن أن يملك ملء الأرض ذهبا ، قلنا الكلام وارد على سبيل الفرض والتقدير فالذهب كناية من أعز الأشياء وكونه ملء الأرض كناية عن كونه في غاية الكثرة والتقدير لو أن الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء بالغا إلى غاية الكثرة وقدر على بذله لنيل أعز المطالب لا يقدر على أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب الله تعالى المقصود بيان أنهم آيسون من تخليص أنفسهم من العقاب. تفسير حقي (٢ / ٢٣٤).

منهم أهل الحالات ، وهم على عشرة أقسام ، قسم منهم المراقبون وإنفاقهم ثلثه دفع الخطرات ، وإخفاء المناجاة ، وحفظ الحرمة في الخلوات ، وقسم منهم الخائفون ، وإنفاقهم ثلثه قلة النوم وقلة الأكل وقلة الكلام ، وقسم منهم الراجعون وإنفاقهم ثلثه ترك الطبع في الدارين ، والارتقاء من هذين المنزلين وتخلية السر عن ذكر العالمين ، وقسم منهم المجنون ، وإنفاقهم ثلثه الاتقاء عن معرض الكرامات ، وترك الالتفات إلى الطاعات ، وتصفية القلب من الدرجات ، لوصولهم إلى مقام المشاهدات ، وقسم منهم المشتاقون ، وإنفاقهم ثلثه احتراق القلوب بنيران الحزن ، واحتراق النفوس بنيران الجوع ، واحتراق الأرواح بنيران الخوف والإجلال ، وقسم منهم العاشقون ، وإنفاقهم ثلثه ترك طلب الولاية ، وترك حظ المحبة ، والتزام السر في منزل الرعاية ، وقسم منهم الموقنون ، وإنفاقهم ثلثه ترك الشفقة على النفوس ، ودوام رعاية القلوب ، والشروع في تزكية الأرواح عن ذكر الحدثان ، وقسم منهم المستأنسون ، وإنفاقهم ثلثه الأعراض عن الخلق ، وإلقاء الخاطر إلى مشهد طلوع صبح أنوار المشاهدة ، وطهارة السر عن معارضة العد ، وقسم منهم المطمئنون ، وإنفاقهم ثلثه التمكن في البلاء والصبر في العناء ، والشكر في النعماء ، وقسم منهم المحسنون ، وإنفاقهم ثلثه صحة العبودية ، بنعت رؤية المشاهدة ، وبذل الروح لله بلا رغبة في ثواب الجنة ، ومطالعة أنوار الكناية ، وطبقة منهم أهل المعرفة ، وهم على عشرة أقسام ، قسم منهم الذاكرون ، وإنفاقهم ثلثه دفع الوسواس ، وطرد الغفلة من القلب بين الناس ، والخروج من رسوم الأشخاص ، ومنهم المتفكرون ، وإنفاقهم ثلثه إرسال الأرواح إلى مشاهدة الغيوب لترائي هلال جلال القدم ، وإمهال العقول إلى ميادين الملكوت لمشاهدة الجبروت ، وإدلاء القلوب إلى بساط القربة لطلب الوصلة بنعت الهيبة ، وركاب السر في جولانه في أنوار البقاء والأزل ، وقسم منهم الحكماء ، وإنفاقهم ثلثه التكلم للمريدين ، ونشر العلم للطالبين ، وإرشاد الصواب للعالمين ، قسم منهم أهل الحياء ، وإنفاقهم ثلثه الفرق بالسر من مقام المكر ، وتقديس شهوة الخفية عن مشهد الذكر ، ودفع دقائق الرياء في مجاري الخطرات ، وقسم منهم أهل التلوين ، وإنفاقهم ثلثه التفكر في الربوبية بالعقل لتحصيل المعرفة ، والنظر إلى قديم إنعامه بالقلب لتحصيل المحبة ، والسر بالروح في عالم الملكوت لتحصيل أنوار المشاهدة ، وهذه صفة من يباشر قلبه نور الأحادية على الأوقات السرمدية ، فهؤلاء متنورون بكنوز أنوار التوحيد ، معرفون من بحار الامتنان ، حقائق أسرار الهوية بنعت التجريد ، ناطقون عما في الضمائر ، وكاشفون مكنون السرائر ، وقسم منهم أهل التمكين ، وإنفاقهم ثلثه حفظ جناح العبودية على وصيد الربوبية ، ودفع تهمة البشرية عن مصدر كشف المشاهدة ، ورسوخ السر في طوالع سلطان الهيبة ، فأهل التمكين متربون عن إدراك حقيقة جمال القدم ، مقدمون عن اتحاد البقاء بإعدام مشاهد صرف سلطان الوحدانية ،

فيحرسون أسرارهم عن شوائب الحوادث ، ويحفظون أنوارهم عن إطلاع الخلائق ، ويصونون ما أوحى الله إليهم من أسرار الإلهام عن تحريفات الشياطين وأباطيلهم ، وقسم منهم أهل الحقيقة ، وإنفاقهم ثلثه الدعاء على العصاة ، وتحلم إيذاءهم على طيب النفس ، وترك الطمع في مجازاتهم ، فهؤلاء رحمة الله على عباده ، فالخلق مصرمون عن المصارف ، وهم مكثرون بالكواشف ، فيّضهم الله لبقاء العباد والبلاد ، ليلتجئ إليهم مرتابون الأحوال ، وأهل رغائب الآلاء ، وقسم منهم أهل السر وإنفاقهم ثلثه كتمان الأسرار من خوف غيره الحق عليهم وخروجهم مرادهم لمراد الحق وتفقد جمال غيب غيبه في صدورهم غيبه عن الخلق وقسم منهم العارفون وإنفاقهم ثلثه يتركون الدنيا لأهلها ويتركون الآخرة ولذتها ، ويجلسون على باب مولاهم منصرمين عما سواه ، مفلحين إليه بنعت رغائب المحبة ، مفتقرين إلى مشاهدته بصفاء العبودية ، يحسموا عن المكونات ، وانقطعوا إليه عن المخلوقات ، وطبقة منهم أهل التوحيد ، وهم على عشرة أقسام ، قسم منهم أهل القبض ، وإنفاقهم ثلثه عد أنفاس المراقبات في مقام الحزن وصب الدماء في حين العشق والتأوه من صميم القلب في مقام الشوق ، وقسم منهم أهل البسط ، وإنفاقهم ثلثه الفرح بوجنتي الحبيب ، والزفرة من مخاطبة الرقيب ، والتقرب بكثرة النوافل إلى القريب ، وقسم منهم أهل السكر ، وإنفاقهم ثلثه الشروع في السماع وطلب الوصل بالنغمات ، واستنشاق نفحات القرب بالمراقبات ، وقسم منهم أهل الصحو ، وإنفاقهم ثلثه السكون في مرارة الهجران والحنين ، من شوق الرحمن والتحنن على خلقه شفقة على أحوالهم ، والتمكين في محاربة الشيطان ، وقسم منهم أهل الفناء ، وإنفاقهم ثلثه تزكية الأسرار بالذكر ، وتربية الأحوال بالفكر ، وذم الأشباح بزمان المجاهدة ، وقسم منهم أهل البقاء ، وإنفاقهم ثلثه ذكر المشاهدات ، ونشر الكرامات والتخلص من المجاهدات بتحصيل المكاشفات ، وقسم منهم أهل الانبساط ، وإنفاقهم ثلثه الاستغفار بعد الشطح ، وحفظ الآداب في حال السكر والأخبار عن المقامات لأهل الإرادات ، وقسم منهم أهل حقائق التوحيد ، وإنفاقهم ثلثه الاستقامة في الامتحان بنعت إخلاص الإيمان ، وترك حظوظهم في مقام المحبة لوجدان جمال القدم ؛ لأن المحبة حظ العارف ، ورؤية القدم نصيب الحق جلّ وعزّ ، ورعاية الأسرار بترك رسوم المقامات ، وقسم منهم أهل الوله ، وإنفاقهم ثلثه الرمزة في العبرات والفوز في الأزليات ، وبذل المهجة للأبديات ، وقسم منهم أهل الاتحاد ، وإنفاقهم ثلثه قمع شهوات العشق عن مغارس أشجار التوحيد ، وسير السير في قدم القدم بنعت التجريد ، وطيران الروح في بقاء البقاء بأجنحة التفريد ، هذا وصف إنفاق رجال الصدق ، وهم بالتفاوت فيما نالوا من ثواب الإنفاق في هذه المقامات من جزيل الكرامات ،

وهو ما ذكر الله تعالى في كتابه (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا) ؛ فالبر جزاؤهم منه ، ولكل طائفة منه بر من هؤلاء الذين ذكرنا أحوالهم في إنفاقهم على قصد إرادتهم ، وصدق نياتهم ، فبر التائبين هو محبة الله لهم بعد إيابهم منهم إليه ، وهذا إشارة الله تعالى قال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) [البقرة : ٢٢٢].

وأما برّ المتورعين ؛ فهو استجابة الدعوة مقرونة بالتقوى ، وأما برّ الزاهدين ؛ فهو الحكمة من الله تعالى ، وهو إشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من زهد في الدنيا أربعين صباحا ، ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» (١).

فأمّا برّ الفقراء فهو السكينة من الله تعالى ظهرت في قلوبهم ، وأمّا برّ الأغنياء فهو درجة الكرامات ، وأمّا بر الصابرين فهو درجة الولايات ، وأمّا بر الشاكرين فهو زيادة القربة.

قال الله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) ، وأمّا بر المتوكلين وهو الكفاية في جميع المراد ، ووجدان لطائف محبة الله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق : ٣] ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ، وأمّا بر الراضين ؛ فهو رضوان الله تعالى ، قال الله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المجادلة : ٢٢].

وقال عليه‌السلام : «الرضوان الأكبر هو تجلي الخاص ، ومن بلغ مقام الرضا ؛ فقد وجد رضوان الأكبر» (٢).

وأما برّ الصادقين ؛ فهو المحمدة في الدنيا والآخرة ، وحقيقة الطمأنينة والكرامة على رءوس الخلائق يوم القيامة ، قال الله تعالى : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ) [الأحزاب : ٢٤] هذا درجة أهل المعاملات في مجازات الله إياهم ببره وكرامته.

وأمّا برّ المراقبين ؛ فهو وجدان نور الفراسة وحلاوة الذكر ، وأمّا برّ الخائفين ؛ فهو ذوق المحبة ومعرفة إجلال الحق تعالى ، وأمّا برّ الراجين ؛ فهو صفاء اليقين ، ونور البسط والانبساط ، وأمّا برّ المحبين ؛ فهو المكاشفة وأنوار القربة والمشاهدة ، وأمّا برّ المشتاقين ؛ فهو الأنس بالله في جميع المعاني ، وأمّا برّ العاشقين ؛ فهو بهجة سناء الجمال في عين الأرواح ، وأمّا برّ الموقنين ؛ فهو مشاهدة الآلاء والنعماء والطمأنينة في رسوم الربوبية ، وأمّا برّ المستأنسين ؛ فهو حلاوة حسن القدم في قلوبهم ، وتفرد خواطرهم عن وجل خطرات الشياطين في أسواق

__________________

(١) رواه البيهقي في «شعب الإيمان» (٢ / ٢٧١) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (٧ / ٨٠) ، وابن المبارك في «الزهد» (١ / ٣٥٩).

(٢) رواه الحاكم في «المستدرك» (١٠ / ٢٥٥) بنحوه.

الشهوات ، وأمّا برّ المطمئنين فهو حصول الكرامات من تقليب الأعيان ، وأنواع عجائب الآيات ، وأن يذوق العارف طعم حلاوة الذكر ، قال الله تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد : ٢٨].

وأمّا برّ المحسنين ؛ فهو مشاهدة الحق في لباس الملكوت ، هذا وصف بر أهل الأحوال ، وأمّا بر الذاكرين ؛ فهو رؤية المذكور في حقائق نفس الإيمان ، وأمّا بر المتفكرين ؛ فهو رؤية آثار تجلي الصفات في لباس الآيات ، وأمّا بر الحكماء ؛ فهو خصائص الخطاب بنعت الإلهام.

وأمّا بر أهل الحياء فهو رؤية مشاهدة العظمة والكبرياء ، وأمّا بر أهل التلوين فهو رؤية عين جميع الأفعال بنعت جمال الصفات ، وأمّا بر أهل التمكين فهو رؤية عين جميع الصفات بلا رسم الأفعال ، وأمّا بر أهل الحقيقة فهو رؤية عين القدم بنعت الفناء ومحق البشرية ومحو رسوم الخيال ، وأمّا بر أهل السر فهو رؤية كنز علم الأزلي بعين الروح في مدارج المعرفة ، وأمّا بر العارفين فهو تجلي صرف الوحدانية والسرمدية ، ورؤية قرب القرب وهذا صفة بر العارفين ، وأمّا بر أهل القبض فهو رؤية العزة ، وأمّا بر أهل البسط فهو رؤية جلال الصفات بنعت الحلاوة ببروز نور القربة ، وأمّا بر أهل السكر فهو ظهور الحق لهم في لباس حالاتهم بالبغتة.

وأمّا بر أهل الصحو فهو رؤية الحق بنعت الحسن والجمال ، وأمّا بر أهل الفناء فهو رؤية القيومية بنعت الفردانية ، وأمّا بر أهل البقاء فهو رؤية ديمومية الحق جل وعز ، وأمّا بر أهل الانبساط فهو رؤية بسط الحق لهم في وجدان مرادهم منه ، وأمّا بر أهل حقائق التوحيد فهو رؤية أنوار الذات والصفات ، وأمّا بر أهل الوله فهو رؤية انبساط الحق في أنفسهم لذلك هاموا ، وأمّا بر أهل الاتحاد فهو رؤية كسوة جمال القدم بوصف الصفات على أسرار أرواحهم وتسخير الكون لهم بالحكم لا بالتضرع والدعاء.

وهذا وصف بر أهل حقائق التوحيد ذكرت في هذا الفصل ما أتحف الحق إلى أوليائه من أنواع المقامات والكرامات بر أمنه لهم ، وجزاء عظيم الله أجرهم ، إذ كافأهم بمشاهدته وقربه وعطف عليهم بما هو أجدر منه من مننه القديمة وعنايته الأزلية.

وقال الأستاذ : منهم من ينفق على ملاحظة الجزاء والعوض ، ومنهم من ينفق على مراقبة دفع البلاء والمحن ومنهم من ينفق اكتفاء بعلمه.

قال قائلهم :

ويهتز للمعروف في طلب العلا

ليذكر يوما عند سلمى شمائله

وقيل : إذا كنت لا تصل إلى البر إلا بإنفاق محبوبك فمتى تصل إلى البار وكنت تؤثر

عليه حظوظك.

وقال جعفر الصادق : لن تنالوا خدمتي إلا بمعرفتي ، ولن تبالوا معرفتي إلا برضائي ولن تنالوا رضائي إلا بمشاهدتي ، ولن تنالوا مشاهدتي إلا بعصمتي ، ولن تناولوا عصمتي إلا بتعظيم ربوبيتي ، ولن تنالوا تعظيم ربوبيتي إلا بالانقطاع عما سواي.

وقال بعضهم : أول البر الهداية ثم المجاهدة ثم المشاهدة ، معناه : لن تنالوا هذه الخصال إلا بأن تنفقوا مما تحبون.

قال ابن عطاء : لن تصلوا إلى القربة وأنتم متعلقون بحظوظ أنفسكم.

وقال جعفر الصادق : بإنفاق المهج يصل العبيد إلى بر حبيبه وقرب مولاه ، قال الله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ)

وقال أبو عثمان : لن يصل إلى مقامات الخواص من بقي عليه شيء من آداب النفوس ورياضتها.

وقال الواسطي : الوصول إلى البر بإنفاق بعض المحابّ والوصول إلى البار بالتجلي من الكونين وما فيهما.

وقال النصر آبادي : أفردك له باشتقاقه المحابّ منك ليكون خالصا في محبته لا تلتفت منه إلى شيء سواه.

قال ابن عطاء : لن تنالوا وصلتي وفي أسراركم موافقة أو محبة بسواي.

وقال النصر آبادي : قال بعض المفسرين : البر أنه الجنة ، وعندي أن البر صفة البار فكأنه قال : لن تنالوا قربتي إلا بقطع العلائق.

وقال جعفر الصادق : لن تناولوا الحق حتى تنفصلوا عما دونه.

قال ابن عطاء : لن تنالوا معرفتي وقربتي ، حتى تخرجوا من أنفسكم وهمومكم بالكلية.

وقال العلوي : أحب الأشياء إليك روحك ، فاجعل حياتك نفقة عليك ؛ لكي تنال بري بك.

وقال أبو بكر الوراق : دلهم بهذه الآية على الفتوة ، وقال : لن تنالوا بري بكم إلا ببركم إخوانكم والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم ، وما تحبونه من أملاككم ، فإذا فعلتم ذلك نالكم بري وعطفي ، وأنه أعلم بنياتكم في اتفاقكم وبركم ، ما كان منه لي خالصا قابلته ببري وهو أعلى وما كان من ذلك للرياء والسمعة ، فأنا أغني الشركاء عن الشرك ، كما روي عن المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الجنيد : قال : لن تنالوا محبة الله حتى نسخوا بأنفسكم في الله (١).

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦))

قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) الإشارة فيه أن أهل هذه القصة يجوز لهم أن يتركوا شيئا من المأكولات من جهة المجاهدة لا من جهة التحريم ، ثم حثّهم الله تعالى بأعلامهم شأن أنبيائه صلوات الله عليهم في المجاهدات ؛ ليقتدوا بهم.

وأيضا فيه إشارة إلى ترك اللحوم على الدوام لما فيها ضراوة كضراوة الخمر من جهة المجاهدة لا من جهة التحريم.

وأيضا : حرم على نفسه نبي الله يعقوب عليه‌السلام أشهى طعام فالإخبار عنه تعليم الله تعالى أهل محبته ؛ ليتركوا ما أحب إليهم من الأطعمة الشهية ، وما تشتهي أنفسهم من زهرة الدنيا ولذتها.

وأيضا : فيه إشارة إلى أهل الدعوى الباطلة من السالوسين والناموسين ألا يحرموا ما أحل الله لهم من الطيبات ، ولا يحلوا ما حرم الله عليهم من المنكرات والخبيثات ، وهؤلاء أهل الإباحة الذين ظهروا في هذا الزمان استأصلهم الله في الدنيا والآخرة.

(قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) ملة إبراهيم الشوق والعشق والمحبة والخلة والفتوة والمروءة والشجاعة والسخاوة والحلم والأمانة والديانة والكرامة وإكرام الضيف والصبر في البلاء والشكر في النعماء والهجرة ، والخروج عما سوى الله بالكلية والعبرة والتأوه والصدق والإخلاص والتوحيد والتجريد والتفريد والسماع والوجد والاتصاف بصفات الحق من حيث رسوم البشرية بهذه الخصال صار إماما للعارفين والعالمين

أمر الله تعالى أحب عباده متابعته وموافقته في جميع أحواله ، ومن زاغ عن طريقه ولو ذرة فتكون النفس له صنما قال الله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ

__________________

(١) رواه مسلم (٤ / ٢٢٨٩).

نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠].

(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لا يميل من الحق إلى جبريل حيث عرض عليه اللياذة عليه قال : ألك لي حاجة؟ فقال : أما إليك فلا ، ولا يداهن في دينه المحبة أبويه قال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [الأنعام : ٧٨].

وقال : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات : ٩٩] وكسر أصنام الكفرة بفأس الحمية ، وطهّر موضع نظر الحق عن الخيال والتمثال ، فشكر الله عنه ، وقال : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) [الأنبياء : ٥٨] وبذل في محبته الأموال والأولاد ، ولا يخاف في الله لومه لائم لأجل ذلك قال : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) وأيضا نفى عنه خاطر الشك حيث قال : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠] بقوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) العرش قبلة الملائكة ، والكرسي قبلة سكارى الحضرة ، والبيت المعمور قبلة السفرة ، والكعبة قبلة الناس عامّا وخاصّا ، أحال الطائفيين إلى الوسائط وحجبهم بها عن مشاهدة جماله غيره على نفسه عن أن يرى أحد إليه سبيلا ؛ لأنه وضع بيته قبل آدم وذريته ابتلاء وامتحانا لتحجبوا بالبيت عن صاحب البيت.

ومن أعرض سره عن الجهة في توجهه إلى الله صار الحق قبلة له ، فيكون هو قبلة الجميع كآدم كان قبلة الملائكة ؛ لأنه وسيلة الحق بينه وبين ملائكته لما عليه كسوة جلاله وجماله كما قال عليه‌السلام : «خلق الله آدم على صورته» (١) يعني ألقي عليه حسن صفاته ونور مشاهدته ، كما قال تعالى في حق موسى عليه‌السلام : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩] ، والمحبة خاصة صفاته الأزلية ، ومن أعرض من أهل العبودية عن آدم فمثله كمثل إبليس من الملائكة ؛ لأن من شرط المعرفة العبور بالوسائط في عالم العبودية.

فإذا كان محققا في المشاهدة فإلى أي جهة توجه فثمّ وجه الله ، كما قال تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) لأنّه في محل عين الجمع ، وكما قال بعض العارفين : ما نظرت إلى شيء إلا ورأيت الله فيه.

وأيضا : وضع بيته وكساه بكسوة آياته الكبرى ، وهي نور القدرة ليجذب قلوب عباده إليه بوسيلته ؛ لأجل ذلك قال بيتي لتخصيص الإضافة ، ولأنه منور بنور آياته الخاصة.

(لَلَّذِي بِبَكَّةَ) سميت البكة لالتصاق أرواح العشاق به شوقا إلى لقاء حبيبهم ولهيام

__________________

(١) رواه البخاري (٥٨٧٣) ، وابن حبان في صحيحه (١٤ / ٣٤).

العارفين إليه بالمبادرة والمسارعة ببذل المهج.

ويقال : لا تعلق قلبك بأول بيت وضع لك ، ولكن أفرد سرك لأول حبيب أنزله.

وقيل : شتان بين عبد اعتكف عند أول بيت وضع له وبين عبد لازم حضرته عزيز كان له.

(مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) أي : مقدسا من أن يلتصق به ريب الشاكين أو تهمة المرائين أو أن يرى وجه عروس الآيات إلى غير المخلصين ، وأيضا تعظما بما كسا الله عليه من أنوار قربة وحضرة وبركاته أن يسكن به قلوب المريدين ويكون مروحة لقواد المشتاقين ، وروضة لأرواح الصادقين ، وريحانة لمشام العاشقين ، وهدي هاديا بانكشاف نوره للعالمين من المؤمنين ، وأيضا : هدي للمريدين إلى رؤية الآيات ، وهدي للعارفين إلى رؤية صاحب الآيات ، وهدي للخائفين إلى مقامات الأمن ، وهدي للمنقطعين إلى شهود الأنس ، وراشد للمحسنين إلى مشاهدة الرب تبارك وتعالى.

وقال الأستاذ : بركاته اتصال المطاف والكشوفات هناك لمن قصده بهممه ، ونزل عليه بقصد هداه إلى طريق رشده.

وقال الحسين : إن الحق تعالى أورد تكليفه على ضربين تكليفا عن وسائط وتكليفه بالحقائق فتكليف الحقائق بدت معارفه منه وعادت إليه وتكليف الوسائط بدت معارفه عمن دونه ولم يتصل به إلا بعد الترقي منها إلى الفناء عنها ، فمن تكليف الوسائط إظهار البيت والكعبة ، فقال : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ) فما دمت مشتغلا به كنت منفصلا عنه فإذا انفصلت عنه حقيقة وصلت إلى مظهره وواصفه وكنت مترسما بالبيت متحققا بواضعه (١).

قوله : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) البيت مرآة العارفين يتجلى الحق لهم بوسائط الآيات أبهم الحق سر ظهوره فيه ؛ لئلا يطلع عليه كل أجنبي من هذه القصة ، وشأن البيت وشجرة موسى سواه تجلى منها لموسى وتجلى منه لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأشار بالآيات البينات إلى نفسه تعالى وتقدس عن الحلول والنزول وبنعت الانتقال.

__________________

(١) يقال : إذا كان البيت المنسوب إليه لا تصل إليه من ناحية من نواحيه إلا بقطع المفاوز والمتاهات فكيف تطمع أن تصل إلى ربّ البيت بالهوينى دون تحمّل المشقات ومفارقة الراحات؟!

ويقال : لا تعلّق قلبك بأول بيت وضع لك ولكن أفرد سرّك لأول حبيب آثرك ، ويقال : شتّان بين عبد اعتكف عند أول بيت وضع له وبين عبد لازم حضرة أول عزيز كان له ، ويقال : ازدحام الفقراء بهممهم حول البيت ليس بأقل من ازدحام الطائفين بقدمهم ، فالأغنياء يزورون البيت ، ويطوفون بقدمهم ، والفقراء يبقون عنه فيطوفون حوله بهممهم. انظر : تفسير القشيري (١ / ٣٥٧).

قال الأستاذ : فيه آيات ولكن لا يدرك تلك الآيات بأبصار الرؤوس ؛ ولكن ببصائر القلوب.

وقال محمد بن الفضل : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) علامات ظاهرة يستدل بها العارفون على معروفهم.

قوله : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) الرضا والتسليم والانبساط واليقين رضاه حين ألقي في النار وتسليمه في ذبح ولده وانبساطه قوله : (رَبِّ أَرِنِي) [البقرة : ٢٦٠] ويقينه قوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) وزيادته مقام المكاشفة ، فالمشاهدة والخلة والفتوة فمن وافق سره سر هذه المقامات ، فقد أدى حق مقام إبراهيم عليه‌السلام وأيضا للخليل مقام المعرفة والتوحيد والفناء والبقاء والسكر والصحو فمن ذاق طعم السكر ، وتمكن في الصحو وفني عن أوصاف نفسه ، وبقي على أوصاف الحق بنعت الخلق عليه والتنور بأنوار المعرفة ، والتلبس بلباس التوحيد ، وطار روحه في سنا القدم ، وطاش قلبه في جلال الأبدية وسار سره في الملك الأعلى ، وهام عقله في وادي العظمة والكبرياء ، واطمأنت نفسه في أحكام الربوبية بلا جزع وفزع ، فقد فار برؤية مقام إبراهيم عليه‌السلام ؛ لأنه محل التمكين.

قال الأستاذ : مقام إبراهيم عليه‌السلام في الظاهر ما باشر بقدمه وهو في الإشارة بما وافق عليه‌السلام الخليل بهممه.

وقيل : إنّ شرف مقام إبراهيم ، لأنّه آثر الخليل عليه‌السلام وآثار الخليل عند الخليل أثر ، وخطر عظيم.

وقال الشبلي : مقام إبراهيم عليه‌السلام هو الخلة فمن شاهد فيه مقام إبراهيم الخليل عليه‌السلام فهو شريف ومن شاهد في مقام الحق فهو أشرف.

قال محمد بن علي الترمذي : مقام إبراهيم عليه‌السلام هو بذل النفس والولد والمال في رضا خليله فمن نظر إلى المقام ولم يتجل مما تجلى منه إبراهيم من النفس والمال والولد ولم يسلم فقد بطل سفره وخابت رحلته.

(فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))

قوله تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) من دخل مقام الإنابة اعتصم بنور الكفاية عن تواتر المعصية ومن دخل مقام الزهد ، فقد استراح من هواجس الوسوسة ، ومن دخل مقام

التوكل قلت من ضيق الاشتغال بالمكاسب ، ومن دخل مقام الرضا فقد فاز من الفناء ومن دخل مقام الوفاء فقد ذاق طعم الصفاء.

ومن دخل مقام الاستقامة فإنه من تلوين الخاطر ، ومن دخل مقام الإخلاص أمن من آفات الرياء والسمعة.

ومن دخل مقام الصدق أمن من رعونات النفس ، ومن دخل مقام التسليم مثل الخليل فقد خرج من تنازع النفس وتدبيرها وإرادتها ، ولم يبق له اختيار وسكن في اختيار الحق ومراده منه ، وأمن من خوف فوت المراد ؛ لأن جميع الخوف من جهة فوت المراد فإذا لم يبق له مراد زال الخوف بأسره منه ولم يبق للخوف مساغ في وصفه ، ولا محالة أن دخول البيت لا يكون مستحسنا إلا بتسليم الأمور إلى رب البيت ، فإن من لم يكن بالتسليم موقوفا في ترك مراده فهو معارض للتقدير في جميع الأمور ، وحسن الأدب في دخول البيت التسليم بنعت الرضا دون المعارضة ونزاع البشرية.

ومن دخل مقام المراقبة من بعد الاستقامة من الخطرات الرديئة ، ومن دخل مقام الأنس فاءت عنه الوحشة ، وغربت عنه شره الفترة ، ومن دخل مقام الخوف أمات الله عنه خوف زوال المحبة ووقر بنور الهيبة عند جميع الخلق ، ومن دخل مقام الرجاء شعشعت عنه دارات الامتحان وترح عن افتنانها بحلاوة الدنيا وزهرتها لأن من دخل قلبه سلطان حقائق الرجاء أمن من نوازع البشرية وهواجس الطبيعة وقوارع النفسانية ، لأنّ نور الرجاء من بحر الأنس ونور الأنس من بحر القدس والقدس من صفاته علا كبرياوه وجلّت عظمته ، ومن التجأ إلى ظل سلطان الوحدانية أمن من غارات الشيطان ؛ لأنه دخل في قباب عصمته ، ومن كان في مقام كنف ستر جبروته فأنى يلحقه أيدي الشياطين.

قال الله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢] وأخبر عن عدوهم : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص : ٨٢ ، ٨٣] ومن دخل مقام المحبة أمن من الإبعاد والطرد والغضب ، ومن دخل مقام الشوق أمنت روحه من ارتباطها في عالم الحدثان ، ومن دخل مقام العشق صار متصفا بصفات الحق وخرج من أوصفات النفس ، ومن دخل مقام المعرفة أمن من عين النكرة ، ومن دخل مقام اليقين أمن من غبار الشك والريب ، ومن دخل سرادقات التوحيد جنحت عنه خواطر الشرك ؛ لأن حقيقة التوحيد الخروج عن عرضة النفس وسجن الوسواس وعلائق المعاهدات البشرية وقطع عوائق الإنسانية عن أوطان الذكر ، ومن دخل مقام الذكر اطمأن برؤية المذكور ، وخلص من ذكر ما سوى الحق ، وإذا خرج العبد عن نفسه وشهواته بلغ مقام صفاء العبودية وإذا بلغ

صفاء العبودية بلغ صفاء الحرية ومن بلغ صفاء الحرية بلغ صفاء الذكر ومن بلغ صفاء الذكر دخل في مشاهدة المذكور وأمن من عذاب القبور.

ومن دخل مقام التفكر غاصت روحه في بحار أنوار الملكوت ، وترى في أصداف الغيوب جواهر الجبروت ، وسلمت من ربق النفس وطوارق الشيطان ومن دخل مقام الحياء تصدعت عن مزاد قلبه أزجل الشياطين ، وتقدّس سره من نفخ الوسواس ومن دخل جمال عين الجمع سكن في وجد الحق تعالى بلذة الانبساط ونور البسط ، وألبسه الله خلعة الأنانية ، وأمن من صفات الإنسانية وسكر من تكاليف حياة الدنيوية ، ومن دخل قلبه أنوار القربة سكنت روحه بالمشاهدة وعقله بالمكاشفة ، وسره بالمعاينة ونفسه في العبادة ومن دخلت روحه في أنوار العظمة تاه قلبه في وادي الهيبة وعقله سكن بنور المعرفة وسره بنور الوصلة ونفسه بلذة الطمأنينة في أمور الربوبية ومن دخل سره في جنان الأنس مسكن قلبه في ظهور أنوار القدس وروحه في بروز نور القدم وعقله في كشوف نور القدرة.

ومن دخل عقله في نور الشواهد سكن سره ببقاء المشهود وروحه في رؤية عين الحقيقة ، وقلبه في محبة الأزلية ونفسه في رسوم المخاطبة ، ومن دخلت نفسه في مراد الحق وخرجت عن مرائيات الخلق سكن قلبه بنور الإخلاص وروحه بنور الصدق وعقله في صفاء العبودية ، وأيضا من دخل نور اليقين قلبه أمن سره من اضطراب الشك ، وعقله من رحمة النفس ، وروحه من هموم التدبير ، ونفسه من نفاد الشهود الخفية ، ومن دخل نور الإيمان عقله رأى قلبه حقائق البراهين ، وروحه عالم الملكوت ، وسره نور الجبروت ، ونفسه أحست أصوات خطاب الخاص من حضرة الحق جلّت عظمته ، ومن دخل نور التوحيد روحه فتق عين سره بنور الوحدانية ، وعين قلبه بكحل الفردانية ، ورسخت نفسه في إخلاص العبودية ، ومن دخل نور الإسلام نفسه أمن روحه من خطراتها ، وأمن سره من لخطاتها ، وأمن قلبه من وسواسها ، وأمن عقله من نزاعائها ، ومن دخل بهذه الصفات التي ذكرنا بيت ربه تعالى أمن من عذاب هجرانه في الدنيا والآخرة.

وقال الأستاذ : جعلنا الإشارة من البيت إلى القلب ، ومن دخل قلبه سلطان الحقيقة أمن من نوازع البشرية ، وهواجس عاهدت النفس.

وقيل : أن الكناية بقوله سبحانه : (وَمَنْ دَخَلَهُ) راجعة إلى البيت ، ومن دخله يشبه على الحقيقة كان آمنا.

وقيل : لا يكون دخول البيت على الحقيقة إلا بخروجك عنك ، إذا خرجت عنك صح دخولك في البيت ، وإذا خرجت عنك أمنت.

قال جعفر بن محمد في قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) أي : من عرف الله لم يأنس بشيء سواه.

وقال النوري : من دخل قلبه سلطان الاطلاع كان آمنا من هواجس نفسه ، ووسواس الشيطان.

قال الواسطي : من دخله على شرائط الحقيقة كان آمنا من رعونات نفسه.

قال ابن عطاء : من دخله كان آمنا من عقابه ، ولله في الدنيا ثواب وعقاب ، فثوابه العافية ، وعقابه البلاء ، فالعافية أن يتولى عليك أمرك ، والبلاء أن يكلك إلى نفسك.

وقال جعفر : من دخل الإيمان قلبه كان آمنا من الكفر.

وقال الواسطي في موضع آخر : من جاوز قلبه الإيمان كان آمنا في رعونات نفسه.

وقال جعفر الصادق : من دخله على الصفة التي دخلها الأنبياء والأولياء والأصفياء صار آمنا من عذابه ، كما آمنوا (١).

وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) ، وأضاف الحد إلى نفسه لما فيه آثار الربوبية وحقائق العبودية ، وأيضا ألزم حق العبودية على عباده لإيتاء شكر الربوبية ، وأيضا أرشدهم إلى رؤية المقصود في الآيات والعلامات بوسيلة القصد إلى بيته ، وأيضا فرض حج البيت على الجمهور لحضور الخواص زائرين رب البيت ، وأيضا أراد أن يرى عباده عظمته وكبرياءه في رؤيتهم ذل العبودية ، والتواضع ، والتضرع على أعناقهم.

وأيضا أي : واجب الوجوب على عبادي القصد إلى مشاهدتي ببذل الأموال والنفوس والأرواح ، وترك الراحات ، والشهوات ، والأولاد ، والأرواح بنعت التجريد عن المكونات في قصدهم إلى بيته ، ويختص البيت لقصدهم رسما وحكما عن المشاهدة ؛ لأنه تعالى وتقدس ، منزّه عن الحلول والتشبيه ، يتجلى منه القاصدين إليه في لباس الملك ، والآيات لأنه تعالى قال : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) أخبر عن الآيات في نفس البيت ، وأشار إلى تجلي الصفات في نفس الآيات ، كما قال عليه‌السلام : «جاء الله من سيناء ، واستعلن بساعير ، وأشرف من جبال فاران» (٢) ، يعني جبال مكة ، وعنى بالجبال ـ والله أعلم ـ ببيت الله الحرام ؛ لأنه أحجار اصطفاها الله تعالى في الأزل

__________________

(١) فكان في الجاهلية كل من فعل جريمة ، ثم لجأ إليه لا يهاج ولا يعاقب ما دام به ، وأما في الإسلام فإن الحرم لا يمنع من الحدود ولا من القصاص ، وقال أبو حنيفة : الحكم باق ، وإن من وجب عليه حد أو قصاص فدخل الحرم لا يهاج ، ولكن يضيّق عليه ، فلا يطعم ولا يباع له حتى يخرج. انظر : البحر المديد (١ / ٣١٠).

(٢) سبق تخريجه.

قبلة لعباده ، ومرآة الكشوف لخواصه ، والاستطاعة في سبيله معرفته ، وقربه ورؤية ألطافه في سائر الأوقات ، واليقين في وعده ، والتوكل عليه في جميع الأمور والمراقبة ، ودوام الرعاية ، ومعرفة حفظه ، وكلايته جميع عباده ، ومحبته الصافية عن رعونة النفس ، وصدق القصد إليه بصفاء النية وطهارة القلب عما سواه ، زادهم دوام الذكر والفكر في الآية ، ونعمائه وقدرته الكاملة ورحمته الكافية ضدا ، وأمثال هذه المقامات استطاعة القاصدين إلى بيته انقطاع عن سبيل الرشاد ، وهلك في مهلكه العناد.

قال الله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) أضاف الحج في أول الآية إلى نفسه ، ونزه نفسه في آخرها ، ليعلم أهل خبرة العبودية له شفقته على عباده ؛ لأن العبادة ترجع إليه بالثواب ، وهو منزه عن الأسباب.

والقاصدون إلى بيت الله تعالى على ثلاثة أقسام :

قسم منهم قاصدون إلى البيت بأموالهم ، وأنفسهم لطلب الثواب ، وقسم منهم القاصدون إلى البيت بقلوبهم الصافية عن الدنيا وما فيها ، لامتثال الأمر ولطلب مرضاة الرب.

ومنهم القاصدون إلى مشاهدة رب البيت بأرواحهم العاشقة لطلب حقائق المعرفة ، والقربة ، وصفاء الوصلة وزيادة مشهد التجلي والتدلي.

فأهل الظاهر يحرمون عن المحظورات ، ويحلون عن إحرامهم عند قضاء نسكهم وأداء فرضه ، وأهل الباطن يحرمون عن الكائنات والنظر إلى البريات ، ولا يحلون ما داموا في الدنيا إلى مشاهدة الذات ، وكشف الصفات ، فشتان بين من يحرم من المعهودات ، وبين من يحرم من المسكنات ، وشهود المكونات ، لكن بلاياه لا يحملها إلا مطاياه ، ألا ذهبوا وذهبت معهم البركات ، وغربت بغروبهم في مغارب الأبد شموس الكرامات ، وأقمار الآيات ، ذاع خبرهم في الآفاق ، وخفي أثرهم عن الآماق ، رحمة الله عليهم حياة ومماتا ، من الإشارة في قصور حجاج كعبة الحقيقة ، إذا أرادوا استقبال قلوبهم إلى نحو المقصود أعني بيت الله الحرام ، عقدوا بالحقيقة مع الله بنعت المحبة عقد المعرفة ، وفسخوا جميع العقود التي عقدوا في غير طريق الحق ، من إيثار سواه عليه ، وعهود النفس التي أخذت للرياء والسمعة ، وطلب العلو والشرف ، أعدوا السبل مواطن المشاهدة ، زاد الصدق في التوكل والإخلاص واليقين والزهد في تجارة الله ، وراحلة الصبر قوائمها الحمد ، ورأسها الحلم ، وبطنها الورع ، وسرجها التمكين ، وحزامها الاستقامة ، وزمامها التسليم ، وسوطها الأدب ، وأرضها الرضا ، وسماؤها اليقين ، وماؤها الفكر ، وعلفها الذكر ، ورياضها المكاشفة ، ومرعاها المشاهدة ، وتوجهها على شهود

القدم.

وإذا خرجوا من أوطانهم بهذه الراحلة هجروا من الدنيا وما فيها ، واستعدوا أهبة الموت من جميع الخلائق من المعاشرين المتقاربين ، وأسرعوا في طريق الرياضة ، وألزموا أنفسهم كدح الجادين المجدين ، وتوجهوا بنعت الإخلاص إلى الله ، ولم يلتفتوا إلى غيره في طريقه من أهل الدثر والدبر والبتر ، وعزموا أن لا يجوزوا عن قصد السبيل إلى سبل دواعي الهوى والشياطين.

وإذا ركبوا مراكبهم يكون قائدهم الهدى ، وسائقهم التقوى ، ومنهجهم الصفا ، ورفيقهم المولى ، وعديلهم العلم ، وصحبهم الحلم ، الشوق يسوقهم في وادي العشق ، مؤنسهم الحنين ، ومطربهم الأنين ، بدر وقتهم الحبيب ، وإذا قربوا من وادي المحرم ساروا مسرعين من الشوق ، وقطعوها نادمين من الذنب ، وخرقوها سادمين إلى مشاهدة الرب ، متحسرين من فوت الأوقات ، هائمين في طلب الدرجات ، باكين دماء الحزن بالزفرات ، نائحين على أنفسهم بنعت العبرات.

وإذا أبلغوا رأس الوادي خلعوا ثوب الراحات ، وتجرّدوا عن جميع الشهوات ، ولبسوا إحرامهم التفريد ، واغتسلوا في بحر التجريد ، وتطهروا عن جمع شوائب العلل ، وإذا لبّوا سمعوا أصوات الرضا بنعت الوصلة والقربة ، ونداء الحق قبل كونهم في الأزل ، وإذا بلغوا عرفات صاروا متبطئين في قيود السكر ، لا فكاك لهم عنها إلا بستر الصحو ، فبين السكر والصحو هائمون ، وبين الهيبة والبسط حائرون ، يعرف لهم الحق جلّت عظمته حقائق المشاهدة ، وصفات المكاشفة ، وأظهر لهم مكنونات الغيوب ، ومضمرات القلوب ، وإذا وقفوا ، وقفوا راجين إلى لقاء الرحمن ، خائفين من القطيعة والهجران ، شاهدين مقام الحياء ، حاضرين مقام الفناء في رؤية البقاء ، وإذا وصلوا إلى مشعر الحرام ذكروا الله بنعمة رؤيته ، وذكرهم هناك غي اللسان وخجلة الجنان في قدم الرحمن ، مقشورين بين يديه ، مطرقين من التقصير ، منحنين من التفريط ، وإذا بلغوا المنى ذبحوا أنفسهم عن اللذات ، والشهوات ، وإذا رموا الجمرات رموا مجاهدتهم ورياضتهم وعبادتهم إلى كتم العدم ، لوصولهم مشاهدة القدم ، وإذا كسروا الحجارة كسروا معها شهوات بواطنهم ، وإرادات أنفسهم عن ممكنات أسرارهم ، وإذا حلقوا حلقوا عن باطنهم فضولات الوسواس ، وحب محمدة الناس ، وإذا دخلوا أرض الحرم علموا أنهم عند سرادق العظمة وأبواب الحضرة ، خاضعين من الإجلال ، ذائبين في نيران الكبرياء ، محرمين عما دون الله ، متأهبين للقائه ، لا يحل عليهم شيء من الأكوان قبل وصولهم إليه ؛ لأنهم في معادن الصمدية ، وصولة الصمدية تمنعهم عن علات الحدوثية ، وإذا دخلوا مكة أيقنوا أنهم في جواره ؛ لأن مكة بمنزلة الجنة ، ومن دخلها أمن من عقابه في جواره

لوعده تعالى ، وإذا دخلوا المسجد دخلوا هائمين من رؤية عظمته ، وذكروا هيبته وإجلاله ، وإذا رأوا البيت رأوا قبل رؤية البيت رب البيت ، ومشاهدته ، وعلموا أنهم في حضرته القديمة ، ومشاهدته الكريمة ، وإذا طافوا حول البيت رأوا ملائكته مطيفين حول العرش والكرسي ، وأيقنوا أنهم عند الله تعالى بمنزلتهم ، وإذا استلموا علموا أنهم بايعوا الله ببيعة الأزل بنعت الخروج عن المخالفة بعد تلك المبايعة ، ولا يمدون أيديهم إلى المألوفات والشهوات ، وإذا صلوا خلف المقام علموا أنهم في مقام الوصلة والقربة والمناجاة ، ومحل الوافين بعهد الله ، وإذا تعلّقوا بأستار الكعبة أيقنوا أنهم معتصمون بحبل الاعتصام ، لائذون بحقيقة عصمته ، ملتجئون إلى كنف قربته ، منفردون عن اللياذة ، واجدون الحق بعد ذلك ، وإذا دخلوا بيت تعالى ، أيقنوا أنهم في حفظ عنايته وكنف كلايته ، مستغرقين في وجود قدمه وبقائه ، وإذا صعدوا الصفا والمروة خرجوا من كدورات النفسانية ، ورأوا أنهم في مقام الاصطفاء والاجتباء ، ومن له بصيرة المعرفة علم وتحقق أنّ الله تعالى رسم هذه المناسك والمشاعر مثالا لحضرة جلاله ، وبنى الكعبة مثالا للعرش والمسجد الحرام مثالا لحظيرة القدس ، وجعل البلد مثالا للجنة ، والصفا والمروة وجبال مكة مثالا لحجاب الملكوت ، والحرم كله سواتر الجبروت ، والمنى مقام الأمن ، والمشعر مقام الخوف والتعظيم ، والمعرفة أرض المحشر ، والمحرم مقام القيامة ، والبادية الدنيا ، والخروج من الوطن الموت ، والقصد إلى زيارة البيت التأهب للقاء الرب تبارك وتعالى ، فإذا أبصر حقائق هذه الأمثال صار حجه قربة ومشاهدة سعيه مبرورا ، وعمله مشكورا.

ذكرت حج العارفين من الموقنين والمشاهدين ، وأيضا هذه أمثلة مشاعر الباطن : فالكعبة هي القلب ، والحجر الصدر ، والبلد الصورة ، والصفا العقل ، والمروة العلم ، والمنى الحلم ، والمشعر الذكر ، والعرفات صفاء العبودية والمعرفة ، والمحرم المقامات والخالات ، والبادية النفس والهوى ، والحاج الروح المقدس.

وأما أسرار العاشقين أيضا : إذا حجت فكعبتها ذات القدمية جلّت عظمته ، وعزّ كبرياؤه ، ومناسكها مراتب السر في الصفات ، فإذا تجرّدت الأسرار في بيداء الأزل عن الأماكن والأزمان والحدثان ، استقبلت إلى عروس البقاء والسرمدية ، تحولها مطاف حظائر القربة على بساط الحشمة والانبساط ، فكل نفس منها لمّا نظره وشاهده وكاشفه فحجها منه إليه ، وعنه به ، وبه عنه ، ومنه له ، فشأنها عجيب ، ووجدها غريب.

وقيل : لم يخاطب عباده في شيء من العبادات بأن الله عليهم إلا الحج ، وفيه فوائد : أحدها أنه ليس من العبادات عبادة يشترك فيها المال والنفس إلا الحج ، فأخرجه بهذا الاسم.

وقيل : ما كانت فيه إشارات القيامة من تجريد ووقوف.

قال الله : عليك ذلك لتهيئ باطنك للموقف الأكبر كما هيأت ظاهرك لهذا الموقف.

وقيل : إن رجلا جاء إلى الشبلي ، فقال له : إلى أين؟ قال : إلى الحج ، قال : هات جرارتين ، فأملأهما رحمة ، واكتسبهما وجيء بهما ؛ ليكون حظنا من الحج بعرضها على من حضر ، ونحيى بها من يراه ، قال : فخرجت من عنده ، فلما رجعت قال لي : أحججت؟ قلت : نعم ، قال لي : إيش عملت؟ قلت : اغتسلت وأحرمت وصليت ركعتين ولبّيت ، فقال لي : عقدت به الحج ، قلت : نعم ، قال : فنسخت بعقدك كل عقد عقدت منه ، خلفت مما يضاد هذا العقد ، قلت : لا ، قال : فما عقدت ، قال : ثم نزعت ثيابك ، قلت : نعم ، قال : تجردت من كل فعل فعلت؟

قلت : لا ، قال : ما نزعت ، قال : ثم تطهرت ، قلت : نعم ، قال : أزلت عنك كل علة يطهرك؟ قلت : لا ، قال : فما طهرك ، قال : ثم لبيت ، قلت : نعم ، قال : وجدت جواب التلبية مثلا بمثل ، قلت : لا ، قال : ما لبيت ، قال : ثم دخلت الحرم ، قلت : نعم ، قال : اعتقدت بدخولك ترك كل محرم ، قلت : لا ، قال : ما دخلت الحرم ، قال : ثم أشرفت على مكة ، قلت : نعم ، قال : أشرف عليك من الله حال بإشرافك على مكة؟

قلت : لا ، قال : ما أشرفت على مكة ، قال : دخلت المسجد الحرام؟ قلت : نعم ، قال : دخلت في قربه من حيث علمته ، قلت : لا ، قال : ما دخلت المسجد ، قال : رأيت الكعبة؟ قلت : نعم ، قال رأيت ما قصدت له ، قلت : لا ، قال : ما رأيت الكعبة ، قال : رملت ثلاثا مشيت أربعا ، قلت : نعم ، قال : هربت من الدنيا هربا علمت أنك به قد فاصلتها وانقطعت عنها ، ووجدت بمشيتك الأربع أمنا مما هربت منه ، فازددت الله شكرا لذلك ، قلت : لا ، قال : فما طفت ، قال : صافحت الحجر؟

قلت : نعم ، قال : ويلك ، قيل : من صافح الحجر فقد صافح الحق ، ومن صافحه فهو في محل الأمن ، أظهر عليك أثر الأمن؟ قلت : لا ، قال ما صافحت الحجر ، قال : أصليت ركعتين بعدها؟ قلت : نعم ، قال : وقفت الوقفة بين يدي الله ووقفت على مكانك من ذلك ، وأريته قصدك؟

قلت : لا ، قال : ما صليت ، قال : خرجت إلى الصفا ، ووقفت بها؟ قلت : نعم ، قال إيش عملت؟ قلت كبرت عليها ، قال : هل صفا سرك بصعودك إلى الصفا ، وصغر في عينك الأكوان بتكبيرك ربك؟ قلت : لا ، قال : ما صعدت ولا كبّرت ، قال : هرولت في سعيك؟ قلت : نعم ، قال : هربت منه إليه؟ قلت : لا ، قال : ما هرولت وما سعيت ، قال : وقفت على المروة ، قلت : نعم ، قال : رأيت نزول السكينة عليك وأنت على المروة؟

قلت : لا ، قال : لم تقف على المروة ، قال : خرجت إلى منى؟ قلت : نعم ، قال : أعطيت ما تمنيت ، قلت : لا ، قال : ما خرجت إلى منى ، قال : دخلت مسجد الخيف؟ قلت : نعم ، قال : هل

تجدد عليك خوف بدخولك مسجد الخيف؟ قلت : لا ، قال : ما دخلته ، قال : مضيت إلى عرفات ، قال : نفرت إلى المشعر الحرام ، قلت : نعم ، قال : ذكرت الله فيه ذكرا أنساك فيه ذكر ما سواه ، قلت : لا ، قال : ما نفرت ، قال : هل شعرت بماذا أجبت أو بماذا خوطبت؟ قلت : لا ، قال : ما نفرت إلى المشعر قال : ذبحت؟

قلت : نعم ، قال : أفنيت شهواتك وإرادتك في رضا الحق؟ قلت : لا ، قال : ما ذبحت ، قال : رميت قلت : نعم ، قال : رميت جهلك منك بزيادة علم ظهر عليك ، قلت : لا ، قال : ما رميت قال : زرت؟ ، قلت : نعم ، قال : كوشفت عن شيء من الحقائق أو رأيت زيادة الكرامات عليك للزيارة ؛ فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الحاج والعمار زوار الله ، وحق المزور أن يكرم زائره» (١) ، قلت : لا ، قال : ما زرت ، قال : أحللت؟ قلت : نعم ، قال : عزمت على أكل الحلال؟ قلت : لا ، قال : ما أحللت ، قال : ودعت ، قلت : نعم ، قال : خرجت من نفسك وروحك بالكلية؟ قلت : لا ، قال : ما ودعت ولا حججت وعليك العود إذا أحببت ، وإذا أحججت فاجتهد أن يكون كما وصفته لك.

وقال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي : لما دخلت على الشيخ الحصري ـ قدّس الله روحه ـ ببغداد ، قال لي : أحاج أنت؟ قلت : أنا مع القوم ، فقال لي : أليس فرائض الحج أربع ، الإحرام والدخول فيه بلفظ التلبية؟ قلت : بلى ، قال : والتلبية إجابة؟ قلت : بلى ، قال : والإجابة من غير دعوة سوء أدب؟ قلت : بلى ، قال : فتحققت للدعوة حتى تخيب ، ثم الإحرام التجريد من الكل ، ولا يكون التجريد إلا بالتفريد ، قلت : بلى ، ثم الوقوف ، قلت : نعم ، قال : فاجتهد فيه فإنه محل المباهات ، انظر كيف يكون في الطواف وهو محل القربة من الحق ، فيكون قربك منه بحسن الأدب ، ثم السعي ، وهو محل الفرار إليه بالتبري مما سواه ، فإياك أن تتعلق بعد سعيك بعلاقة من الدارين وما فيهما.

وقال الشيخ : سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول : سمعت محمد بن أحمد بن سهل يقول : سمعت سعد بن عثمان يقول : سمعت عبد الباري يقول : سئل ذو النون لم صير الموقف بالمشعر الحرام ولم يصير بالحرم؟ قال ذو النون : لأن الكعبة بيت الله ، والحرم حجابه ، والمشعر بابه ، فلما أن قصده الوافدون أوقفهم بالباب الأول يتضرعون إليه حتى أذن لهم بالدخول ، أوقفهم بالحجاب الثاني ، وهو المزدلفة ، فلمّا أن نظر إلى تضرعهم أمرهم بتقريب قرابينهم ، فلما قرّبوا قربانهم ، وقضوا تفثهم طهروا من الذنوب التي كانت لهم حجابا من دونه ، فأذن لهم بالزيارة على الطهارة.

__________________

(١) رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٢ / ٣٨٩) بنحوه.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١))

وبخهم بالكفر بعد شهودهم مشاهد الآيات بأمر الظاهر ، واستدرجهم بما أورثهم من الشهوات بقضاء الباطن ، وحذّرهم لشهوده على أسرارهم ليطردهم عن قربه ووصاله (١).

وقال الأستاذ : الخطاب بهذه الآية تأكيد الحجة عليهم ، فمن حيث الشرع تؤكد الحجة عليهم ، ومن حيث الحقيقة والقهر سد الحجة عليهم ، فهم مذعورون شرعا وأمرا ، مطرودون حكما وقهرا.

قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

نهاهم الله عن الصد والصد لا يكون إلا من الحسد ، والحسد مذهب المبغضين الذين لا يطيقون أن يروا على المريد أثر كرامة الله ، وهم في الحقيقة مصدودون ، والمصدود مطرود يضل ويضل.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ومن اعتصم به منه اهتدى به إليه ؛ لأنه في محل المعرفة ، ومن عرفه يستعيذ برضاه من سخطه ، وبمعافاته من عقوبته ، وبه منه ، وهذا حال سيد الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ حيث قال في سجوده : «أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» (٢).

وكان عليه‌السلام في ذلك الوقت في مشاهدة الجلال والجمال والكمال ، والقدم والبقاء والجبروت والكبرياء بنعت المعرفة على وجود الحق ، مستغرقا في بحار علوم القضاء والقدر ، ورأى ما رأى من عجائب قدرته ، واطّلع على بعض أسرارهم إرادته فخاف به منه إليه ، وأيضا من اعتصم بالله هداه الله إلى معرفة عيوب النفس ، ودقائق الشيطان ، وأخلاق القلب ، وشمائل الروح ، وأوصاف العقل ، وأمور المعاملات ، وحقيقة الحالات ، وطلب المكاشفات ، والاطلاع على المشاهدات ، ولمة الملائكة ، وعلوم الإلهام ، والفراسات ، ويكون بهذه الخصال

__________________

(١) ومن حيث الحقيقة والقهر يسدّ الحجة عليهم ، فهم مدعوون ـ شرعا وأمرا ، مطرودون ـ حكما وقهرا. انظر : تفسير القشيري (١ / ٣٦٠).

(٢) رواه مسلم (٤٨٦) ، وأحمد في مسنده (١ / ٩٦) ، والترمذي (٥ / ٥٢٤) ، وابن ماجه (١ / ٣٧٣).

في مقام التمكين ، وهو أمثل طرق المستقيم (١).

وأيضا : الاعتصام انجزام القلب عن الأسباب والأرباب ، والتبري إلى الله تعالى من الحول والقوة ، ومن قطع حبل الطلب عن الخلق ارتفع قتام البين بينه وبين الحق ، والاعتصام قبل المعرفة محال ، والمعرفة قبل المشاهدة محال ، ومن شاهد الله تعالى بنعت المعرفة يعتصم به في جميع مراده.

وقال ابن عطاء : من افتقر إلى الله من جميع ما سوى الله فقد فتح له الطريق إلى الحج ، وهو قوام الطرق إلى الحج ، وهو قوام الطرق.

وقال جعفر في هذه الآية : من عرفه استغنى به عن جميع الأنام.

قال الواسطي : من يعتصم بالله للأئمة وللعامة اعتصموا بحبل الله ، وقال أيضا : الاعتصام به منه ، ومن زعم أنه يعتصم به من غيره فهو وهن في الربوبية.

وقال أيضا في قوله : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) : هل شاهدت مشاهدتك شيئا تفرغ منك إليه ، وهل فرغت إلا إلى نفسك ، الاعتصام ترى نفسك في ظله وكنفه وحسن قيام نظره لك في يده ، فإنّ الحقيق قسم الاعتصام والتصديق يوجب الاعتصام ، وقبل الاعتصام واللجاء بطرح الحول والقوة والسكون للأمر والهدوء ، وتحت مراد الله (٢).

وقيل : الاعتصام للمحجوبين ولأهل الحقائق رفع الاعتصام ؛ لأنهم في القبضة.

قال أبو بكر الورّاق : علامة الاعتصام ثلاث : قطع القلب عن معونة المخلوقين ، وصرفه بالكلية إلى رب العالمين ، وانتظار الفرج من الله.

وقال جعفر : من افتقر إلى الله عن جميع ما سواه وليس في سره سوى الله ، فقد هدى إلى صراط مستقيم.

قال أبو سعيد الخرّاز : من أمن به لا يهان ، ومن اعتصم به لا يهزم.

وقال : لا يمكن رد النفس إلى الصلاح إلا بالحكمة والعلم ، والجهد والتضرع ، وأصله الاعتصام بالله.

وقال الأستاذ : بما اعتصم بالله من وجد العصمة من الله تعالى ، فأمّا من لم يهده الله

__________________

(١) فلا ينبغي لمن أشرقت في قلبه شموس العرفان أن يوقع الكفر عليه ظلّه ، فإنه إذا أقبل النهار من هاهنا أدبر الليل من هاهنا. انظر : تفسير القشيري (١ / ٣٦٣).

(٢) ولمن رجع عند سوانحه إلى اختياره واحتياله ، أو فكرته واستدلاله ، أو معارفه وأشكاله ، والتجأ إلى ظل تدبيره ، واستضاء بنور عقله وتفكيره ـ فمرفوع عنه ظل العناية ، وموكول إلى سوء حاله. انظر : تفسير القشيري (١ / ٣٦٥).

فمتى يعتصم بالله عزوجل؟ والهداية منه في البداية توجب الاعتصام به في النهاية ، لا الاعتصام منك يوجب الهداية.

وأهل الاعتصام أربعة : المحب والعاشق والعارف والموحد ، أما اعتصام المحب فطرح نفسه على باب الحبيب ، عجزا وتضرعا لطلب الوصول إليه ، وهذا نعت العاجز في متعب الفراق المحترق في نيران الأشواق ، فإذا اعتصم بالحق على وصف غليان الحب ، والهيمان في الشوق ، فهداه الله إلى مشاهدة جماله ، وحسن عطفه وأفضاله ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحب لقاء الله ، أحب الله لقاءه» (١).

وأما اعتصام العاشق ، فهو قطع العلائق من قلبه ، وإيثار المشاهدة على ما سواه ، فإذا تحقق في استغراقه في بحار العشق أرشده الله إلى مقام الأنس حتى سكن في أكناف ألطافه ، فهو بالحقيقة مكفوف من الاستدراج بعظمة الأزلية.

وأما اعتصام العارف ، فهو بمعرفته بمعروفه فإذا عرفه تحير فيه ، واعتصم بمعرفته عن النكرة تارة ، وبالنكرة عن المعرفة تارة ، والنكرة هاهنا العجز عن درك الإدراك إدراك ، وإذا تحير العارف في مهمة العظمة فأصفده الحق عطاء من علوم المجهول من لدنه ، فيرى بها مشاهدة الأسرار من حقائق غيب الغيب.

وأما اعتصام الموحد ، فاللياذة من الجهل على مشاهدة القدم بالعرفان على مشاهدة البقاء ، ومن الجهل على مشاهدة البقاء بالعرفان على مشاهدة القدم ، وإذا وجده الحق مضمحلا في ضباب عظمته وأنوار كبريائه هداه إلى طرف من حقائق الوحدانية ، ليسكن به جهلا لا علما ، وعلما لا جهلا ، وأمرا لا حكما ، وحكما لا أمرا.

هذا صفة المعتصمين من أهل الحق الذي نبذوا بطلق الوجوه جميع رسوم الحدثان من الدنيا والآخرة ، راجين إليه خائفين منه ، حيارى سكارى ، لا تلتفتون منه إلى غيره من غلبة اليقين على قلوبهم ، ولا يرضون بشيء سوى محبوبهم ، فهم معصومون عن الخطرات في البواطن ، محصونون على العثرات في الظواهر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ

__________________

(١) رواه البخاري (٦١٤٢) ، ومسلم (٢٦٨٣).

وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) حق التقوى الفناء تحت سلطان الهيبة والتحير بنعت الحياء في مقام المعرفة ، وذوبان القلب في رؤية العظمة من سطوة جلال المشاهدة.

وأيضا حق التقوى : صون المعهود وحفظ الحدود والخمود تحت جريان القضاء بنعت الرضا.

وأيضا حق التقوى : ترك الأكوان والحدثان لمشاهدة الرحمن ، وأيضا نية الأصفياء بركضة تعريفه حقيقة عين القدم بهم ؛ ليعرفوا حق الربوبية بأداء حقيقة المعبودية ، وألزمهم الاستقامة عليها ، أي : اعرفوني بحق المعرفة ، ولا تأتوني إلا بشرط الاستقامة ، أي : لا يصادقكم الوفاة إلا وأنت بشرط الوفاء وهو معنى قوله : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

وقال سهل : أمروا أن يعبدوه بالتوكل عليه ، والتفويض إليه ، أي : لا يعرجون في الدارين على من سواه.

قال الشيخ أبو عبد الرحمن : (حَقَّ تُقاتِهِ) تلف النفس في مواجبه.

وقال القاسم : بذل المجهود ، واستعمال الطاعة ، وترك الرجوع إلى الراحة ، ولا سبيل إليه ؛ لأنّ أوابل طرف الوصول التلف.

وقال الواسطي : هو إتلاف النفس في مواجبه.

وقال ابن عطاء : (حَقَّ تُقاتِهِ) هو صدق قول لا إله إلا الله ، وليس في قلبك شيء سواه.

وقال بعضهم : إرادته أن يعرفنا مواضع فضله فيما رغمنا فيه من استعمال مواجبه ؛ لأن واجب الحق لا يتناهى ، والعمل لا يتناهى.

وأيضا قال ابن عطاء : حقيقة التقوى في الظاهر محافظة الحدود ، وباطنه النية والإخلاص (١).

__________________

(١) وقيل : وحق التقوى رفض العصيان ونفي النسيان ، وصون العهود ، وحفظ الحدود ، وشهود الإلهية ، والانسلاخ عن أحكام البشرية ، والخمود تحت جريان الحكم بعد اجتناب كل جرم وظلم ، واستشعار الأنفة عن التوسل إليه بشيء من طاعتك دون صرف كرمه ، والتحقق بأنه لا يقبل أحدا بعلّة ولا يردّ أحدا بعلة. انظر : تفسير القشيري (١ / ٣٦٤).

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سئل عن هذه الآية ؛ فقال : «أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر» (١).

قال أبو يزيد : التقوى كل التقوى من إذا قال قال لله ، وإذا عمل عمل لله ، وإذا نوى نوى لله ، ويكون بالله ولله.

وقيل أيضا : من تورع عن جميع الشبهات.

وقال النصر آبادي : حق تقاته أن يتقي كل ما سواه.

وقال جعفر : التقوى ألا يرى في قلبك شيئا سواه.

وقال الواسطي : الأكوان كلها أقدار في ميدان الحق ، وميدان الحق لا يطؤه إلا من اتقى سواه ، قال الله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ).

قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) من حبل الله : الهداية والكفاية ، والرعاية والعبودية ، والمعرفة ، والمحبة ، والخدمة والأدب ، والحرمة والحشمة ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكتاب والسنة أوجب على الجهود والاعتصام بهذه الوثائق حتى وصلوا إليه ولا تفرّقوا عنه ؛ لأن من رجع عنه إلى رأيه وتدبيره ، وعقله ومعاملته ومجاهدته ، وحيلته وفكرته واستدلاله فهو بمعزل عن ظل العناية ، وكنف الكفاية ، والاعتصام بالله ، وبحبل الله من باب المعرفة.

أرشد طائفة إلى نفسه بلا وسائط ، وأغرقهم في بحار وجوده حتى يلتجئوا من قعر بحر الذات إلى سفن الصفات لينقذهم من ظلمات النكرة بأنوار المعرفة ، وهذا حال خاص الخاص ، وأشهد طائفة على مراتب المقامات والحالات حتى وصلوا إليه بأنوار كراماته ، وألطاف نواله ، وهذا حال أهل الخاص ، والأمر بالاعتصام شفقة على عجز العارفين في معرفته ، وإدراك حقيقة عظمته ، وفي مشهد التوحيد الاعتصام للمحبين جهل بعلم القدم ، وللعارفين مكر وحجاب برسوم المعرفة عن حقائق الأسرار ، وللموحدين كفر ؛ لأن حق التوحيد حالان ، حمود السر عن الإرادة عند إرادات الحق ، وفناء الموحد عن الموحد في رؤية الموحد ؛ لأن من التفت عنه بعد شهوده من القدم إلى رسم الربوبية والعبودية ، فهو مشرك في حقيقة ، لهذا من غرائب شطحياتي.

وأيضا : عرّفهم مفر الأرواح ، وهو محل الكواشف والمعارف لكي ينطقوا عن المخاصمة في الأخوة ؛ لأنّ من بلغ محل مشاهدة الحق بنعت رؤية الوحدانية أسقط الواسطات

__________________

(١) رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٧ / ١٠٦) ، وابن المبارك في «الزهد» (١ / ٨) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٢ / ٢٣٨).

وسلم من العداوات ، هناك حبال الاعتصام التي انعقدت بها رهن المؤاخاة ، وتعارفت أرواح العاشقات ؛ لأن وحشة التفرقة يكون في الغيبة ، وحقيقة الجمعية يكون في مشهد المشاهدة.

قال سهل : تمسّكوا بعهده ، وعهده التوحيد.

وقال أبو يزيد : ما لم تفقد نفسك ولا تعتصم بخالقك لا يستجاب لك ، ومتى كنت وسط الأمور فالمخلوق لا يهتدي إلى الخالق ، فإذا طرحت عنك كنت معتصما به.

وقيل : الاعتصام إليه هو ميل القلب بالوفاء ، وأداء الفرائض بغير تقصير.

قال ابن عطاء : حبل الله متّصل بعبده يتوقع منه المزيد والفوائد في كل وقت ، وحبله عهده وكناية فمن اعتصم به وصل.

سئل الجنيد عن قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) قال : قالت المتصوفة : هو خصوص وعموم ، أمّا قوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) معناه : اعتصموا بالله عن الاعتصام بحبل الله ، وقيل : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) اجتمعوا على موافقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه الحبل الأوثق ولا تفرقوا عنه ظاهرا وباطنا ، سرا وعلانية.

وقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ، بأن هداكم إلى نفسه بنعت المعرفة والمحبة (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) أي : إذ كنتم من مشاهدة التوحيد في حجاب النكرة تحت غمام البشرية عن رؤية القرب والمشاهدة ، وحين كنت تحت ذل الكفر ، بتضييعكم حق الله وحق الأخوة ، وطلبكم حظوظ أنفسكم بترك حظوظ الإخوان ، وسبب كون العداوة بينهم عزلهم عن لباس المعرفة ، فإذا كسى الله أسرارهم خلع أنوار قربه ، وباشرت قلوبهم حقائق الوصلة ، رأى بعضهم على بعض أثر جمال الحق عشقت أرواحهم بعضها على بعض ، كما قال تعالى : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ٧] وما شرحت فهو معنى قوله تعالى : (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً).

وأيضا فألّف بين قلوبكم بنور عصمته ، وكشف جمال حضرته ، حتى وصلوا بأجمعهم حقائق مكاشفات الوصال ، فذاقوا من كأس المنّة شراب الألفة ، وطابوا بجمال الحبيب ، وارتفعت عن بواطن قلوبهم غشاوة الوحشة ، فصار عيشهم عيشا واحدا ، ومذهبهم مذهبا واحدا ، وحظهم حظا واحدا.

وجمعهم الله على عيون الإخلاص حتى يطهروا فيها من دنس الأخلاق ، وأوساخ الطبائع ، ولبسوا منها أثواب التالف ، وإخلاصهم تخلصهم عن أسرار المكونات ، ورفع عن أسرارهم أخطار التفرقة ، فجمعهم في عين الجمع كنفس واحدة ، فأحوالهم أورثهم الوفاء ،

وإخلاصهم ألبس أسرارهم الصفاء ، فبين الوفاء والصفاء صاروا في الأخوة صادقين ، وفي المحبة مخلصين ، وفي الصحبة منصفين ، وفي المصادقة موقنين ، وفي الجملة الألفة بين قلوب الأصفياء بالتفاوت على مرسوم المقامات ، ومراتب الحالات (١).

وافهم أن الله تعالى إذا جمع الأرواح في مشاهدة قربة بعد إنشائها ، فأكرمها بعضا بإدراك مقام التوحيد ، وبعضا بمقام المعرفة ، وبعضا بمقام المحبة ، وبعضا بمقام المكاشفة ، وبعضا بمقام المشاهدة ، وبعضا بمقام الأنس والوجد والحالات ، والألفة بينهم على قدر قران مقاماتهم بعضها بعضا ، وجعل الجميع بعضهم على بعض رحمة وهداية وعصمة ، كما قال عليه‌السلام : «المرء كبير بأخيه» (٢).

وقال عليه‌السلام : «المؤمنون كالبنيان تشد بعضهم بعضا» (٣).

فمن وافق في مشهد الأزل على مدارج جميع المقامات صار بين الأقران محبوبا ومعشوقا وإماما بما وجد أصول حقائق القوم وإدراك حقيقة مقاماتهم ، ومن لم يبلغ جميع المقامات صار حاله بخلاف ذلك ، فالتآلف أوصاف الأولين ، والتناكر نعوت الآخرين ؛ لأنّ أرواحهم احتجبت بعضهم بعضا ، كما قال صفير الصفات ، وسفير مشاهد أسرار الذات ، سيد البريات ، وقائم قوائم مهاد الأزليات ، صلوات الرحمن عليه : «الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف» (٤).

قيل : كنتم أعداء بملازمة حظوظ أنفسكم ، فألّف بين قلوبكم ، وأزال عنكم حظوظ النفس وردكم منها إلى حظ الحق فيكم.

وقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) أي : كنتم في قعر بحار غضب الأزل امتحانا لا حقيقة ، فأنقذكم منها عصمة رضا القدم المنعوت بعناية شرفكم ، واصطفاء نيتكم بالمعارف والكواشف ، وذاك قوله : «سبقت رحمتي غضبي» (٥).

وأيضا أي : كنتم محجوبين بعوارض بشريتكم ، محترقين بنيران شهواتكم ، فأنقذكم منها أنوار المعرفة ، وسنا الأزلية ، وضياء القربة ، وأذاقكم طعم شراب وصلته ، حتى صرتم في طلب مزيد الوصال إخوان كل عاشق محب صادق في طلب رضاه.

__________________

(١) بالخلاص من أسر المكونات ، ودفع الأخطار عن أسرارهم ، فصار مقصودهم جميعا واحدا ؛ فلو ألّف ألف شخص في لب واحد ـ فهم في الحقيقة واحد. انظر : تفسير القشيري (١ / ٣٦٥).

(٢) ذكره ابن حجر في «لسان الميزان» (٧ / ١١٥).

(٣) رواه البخاري (٤٦٧) ، ومسلم (٢٥٨٥).

(٤) رواه البخاري (٣١٥٨) ، ومسلم (٢٦٣٨).

(٥) رواه البخاري (٧١١٤) ، وأحمد في مسنده (٢ / ٢٤٢).

وقيل : في قوله : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) أي : برؤية النجاة بأعمالكم ، فأنقذكم منها برؤية الفضل.

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩))

قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) أي : تبيض وجوه الصادقين في دعوى المحبة بنور المشاهدة ، حيث طلعت شمس مشرق الأزل من مطالع القدم ، فأنورت بتجلي الجمال وجوها ، مغفرة بتراب جناب الحضرة عشقا وشوقا ، وألبستها نورا من نورها حتى رأت بنور القدم جمال القدم ، وهي مشرفة بجلال ربها ، مسفرة بيضاء قربه ، مستبشرة في رؤية وصاله ، ناضرة بتبسم أفواه الرضوان الأكبر فيها ، ناظرة من ربها إلى ربها.

قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] ، واليوم تلك الأنوار ظاهرة في وجوه من تكون هذه النعوت والأوصاف لهم غدا ، قال الله تعالى : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح : ٢٩] ، وقال : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) [البقرة : ٢٧٣] ، تلك سمات وجوه الأولياء الذين إذا رأيتهم رأيت نعيما وملكا كبيرا ؛ لأنهم مرآة الحق يتجلى منهم بجلاله للخلق.

وقوله تعالى : (وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) أي : وجوه المدّعين مقامات الأولياء بإظهار التقشف بين الخلق وخروجهم بزي الصادقين ، وطلبهم به استحسان الخلق ، وصرف وجوههم إليهم وعداوتهم ، أمناء الله في الأرض حين تخرج رجال الله من حضرة الله ركبانا على بجانب النور ، وعلى رءوسهم تيجان الوقار في ميادين السرور ، وغاراتهم عصاة أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أسواق القيامة ، ويدخلون بهم الجنان بلا إذن الرضوان ، تسود وجوه السالوسين المدّعين عند تلك الوجوه على رءوس الأشهاد باحتجابهم عن مشاهدة الله ، وصحبة أهل الحضرة ، قال تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥].

قال محمد بن علي : تبيض وجوه بنظرهم إلى مولاهم ، وتسود وجوه باحتجابهم منه.

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا

يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢))

قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) مدحهم بالخيرية ، ثم شرح الخيرية بأمر المعروف ، ونهي المنكر ، وذلك رتبة ؛ لأنهم آخر درجات القوم ، وهو محل التمكين ، وتقديس النفس عن الخطرات ، ولم يكن ذلك إلا بعد التباسه بلباس العظمة والكبرياء ، مثل الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وخيريتهم بخيرية نبيهم عليه‌السلام واستعدادهم صحبته وموافقته ، وخيريتهم مقرونة بخيريته ، وهو خير الأنبياء ، وقومه خير الأمم ، وأمر المعروف دعاء المريدين بلسان المحبة مع مدح المشاهدة ، والنهي عن المنكر نهيهم وردهم منهم إليه.

قال يحيي بن معاذ : هذه مدحة لهم ، ولم يكن ليمدح قوما ثم يعذبهم.

قال جعفر الصادق : المعروف موافقة الكتاب والسنة (١).

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) أي : من كان ذلته عند كشوف أنوار الكبرياء والعظمة يصير عظيما في عيون الخلق ، منصورا بتأييد الأزلية على كل منكر ؛ لأن عليه كسوة جلال الله ، نفرق منه من تعزر بنفسه.

وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه موصوفا به لقوله عليه‌السلام : «إن الشيطان يفر من ظل عمر» (٢).

وقال الشيخ أبو عبد الرحمن في قوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ) : لضعفكم ، وصحة توكلكم على ربكم ، وانقطاعكم عن حولكم وقوتكم ، وردكم الأمر بالكلية إليه.

قوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أراد السيد عليه‌السلام تقديس حضرة الجلال عن أنفاس المجرمين في قولهم بما لا يليق بجلال الله من الشرك والكفر ، لئلا يبقى في ساحة الكبرياء من في قلبه غير الله غيرة على جمال وجهه تعالى ، ومن سوغه حبه وشدة إرادته ، لم يطالع أمر القدم الذي جرى بالعناية في حق المستورين من بينهم بأستار عوارض الامتحان ، فغايته الحق أين أنت من مشاهدة سبق عنايتي لهم ، أنعم نظرك في ديوان الأزل ، وليس لك في هذه الغيرة من أمر القدم ومشيئة الأزل في وقتك حين احتجبت بغيرتك على أمرهم شيء ، وإن صرفت منك إلى رأيت أمر المشيئة ، وتستغني من الدعاء عليهم ، وتصديق ذلك قوله

__________________

(١) وشرط الآمر بالمعروف أن يكون متصفا بالمعروف ، وحقّ النّاهي عن المنكر أن يكون منصرفا عن المنكر. انظر : تفسير القشيري (١ / ٣٧٠).

(٢) ذكره حقي في تفسيره (٤ / ٤٤١).

تعالى : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ).

ثم إنّ الله سبحانه أدب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هاهنا بأحسن الأدب بشيئين : أحدهما ، أنه أهل الكرم والرحمة من العرش إلى الثرى ؛ حيث وصفه الله بكمال الرحمة بقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٧] أي : أرحم من حيث أنت على أمتك ، ولا تدع عليهم.

والثاني : ألبسه خلقه تعالى ؛ لأن من صفته وخلقه الرحمة على الجمهور ، وأعلمه الأسوة بالأنبياء والمرسلين خصّ منهم إبراهيم عليه‌السلام وعيسى عليه‌السلام بقوله : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم : ٣٦] ، وقال عيسى عليه‌السلام : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة : ١١٨].

وقال النوري في قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) : ولكن الأمر كله إليك ، فإن لك الأمر فالأمر كله إليك ، وليس لك منه شيء ، جلّ قدرتك أن تلاحظ غير الحق فيما بعدي وتعيد.

(وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥))

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) في الآية إشارة عجيبة لطيفة ، وأنها وضوح عيان الحق سبحانه ، حقائق الآية أنّ النار لم تعد للمؤمنين ، ولم تخلق لهم ، لقوله : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) فإذا كانت للكافرين لم تخلق للمؤمنين ، لكن خوف المؤمنين بها زجرا وعظة ، كالأب البار المشفق على ولده الذي خوف ولده بالأسد أو بالسيف وإن لم يضربه بالسيف ، ولا يلقيه عند الأسد ، فبقي الأمران لهذه الآية تلطف وشفقة على عبادة المؤمنين الصادقين ، وأعجب من ذلك أنّه تعالى خوفهم بالنار ، والنار للغير ، ومقصوده تجلي القهر من عظمته للنار ، وعظم النار من تجلي عظمته ، أي : اتقوني في النار ؛ لأني أحرق النار وأعذبها بي ، وهذا سر عين الجمع.

وقال ابن عطاء : أمر العام بإلقاء النار لخوفهم منها ، وتركهم المعاصي من أجلها ، وأمر

الخاص بأن يتقوه وينظروا إليه دون غيره (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [البقرة : ١٩٧] أي : يا أهل الخصوص.

قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) علم الحق سبحانه على الخلق ، وميلهم عن النفوس ، فدعاهم بطاعته إلى العلتين ، المغفرة والجنة ، ودعا الخواص إلى نفسه ، قال : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) [الذاريات : ٥٠].

ثم أعلم بالكل في درك امتحان الجرم ، وأثبت بالآية ذنب الكل ؛ لأنهم وإن كانوا معصومين من الزلل فذنبهم قلة معرفتهم على أقدار الحق ، كما قال عليه‌السلام : «لو أن الله عذب الملائكة لحق منه» (١).

فقيل : إنهم معصومون ، فقال : من قلة معرفتهم بربهم ، ولذلك دعاهم إلى مغفرته ، وأيضا خاطب العارفين بلسان الالتباس ، ودعاهم إلى الجمع ليتجلى لهم بالوسائط ، لبقائهم في المعرفة وفي الحقيقة مغفرته قربته ، وجنته مشاهدته.

قيل : طلب المغفرة هو طلب حظ النفس ، وفي آخر الآية إشارة إلى تضييق صدر الزهاد في استعظامهم ما تركوا ، فقال لهم : جنتي أجر ما تركتم ، وذكر عرض الجنة وسعتها لبخلهم ، وخسة طبعهم ، وهم الذين اتقوا الدنيا لأجل الجنة ، وفيها يصلي العارفين من صداع سوء جوار المنكرين ، فقال : جنتي واسعة اسكنوا حيث شئتم في جوار الكريم المقدس من سوء جوار المنكرين.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) هذه الآية إشارة إلى قوم أخطئوا في السماع ، ومجالستهم مع حظوظ أنفسهم وبقايا صفات البشرية ، فهم حيث جلسوا بغير حضور ولا شهود ، ولا مراقبة ولا تقديس الأسرار في طلب الأنوار الفاحشة منهم ، سماع القول وإظهار الوجد مع حظوظ النفس وحظ البشرية ، والظلم منهم دعوى المعاملات والولايات ، وهم يعلمون أنهم ليسوا على التحقيق في السماع وإظهار الوجد ، فأدركهم الله بفيض رحمته ؛ حيث عرفهم فضائح نفسهم عنده ، ويلقيهم في رؤية التعبير والعتاب.

ويضيق صدورهم بتلك الفاحشة والظلم ، فيذكرون الله بشرط الندم ، ورؤية التقصير والخجل بين يديه ، وسقوطهم عن عيون المشايخ ، فيستغفرون الله من كذب دعواهم بنية الصدق في التبرئ عن دعوى ما ليس لهم ، وإذا كان الأمر كذلك ، ولم يصروا على ما فعلوه ،

__________________

(١) ذكره ابن عجيبة في «البحر المديد» (١ / ٣٣٦).

يغفر الله ما سبق منهم بإيوائهم إلى قربه ، فإنه مولاهم وصاحبهم لا غير (١).

وذلك قوله : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) وأيضا فيها إشارة إلى عشاق الله الذين استغرقوا في بحار العشق والشوق ، واحترقوا بلوائح نيران الكبرياء ، وبغتة سطوات العظمة ، فيطلبون روح الأنس بالاستراحة في مشاهدة المستحسنات ، ويرتادون مشاهدة عروس القدم في مقام الالتباس ، وعين الجمع الذي فيه رؤية الحق في مرآة الخلق ، وذلك الالتباس فاحشة منهم ؛ لأنه في طلب القدم مع رؤية الحدث ، وليس لهذا الشرط تجريد حقيقة العشق ، وإذا كانوا محترقين بنيران التوحيد والتفريد في رؤية الأزل والأبد والقدم والبقاء يطلبون النزول من مقام التوحيد إلى مقام العشق ، وهذا ظلم منهم علي أنفسهم ؛ لأنهم نقصوا حظ التوحيد بفرارهم من الفناء في التوحيد إلى بقائهم في العشق ، وقوله : (ذَكَرُوا اللهَ) أي : إذا كانوا مدركين أنفسهم في مقام المكر والاستدراج ، وفقدانهم أسرار مقام الفناء ودرجاته ، يفزعون بالكلية إلى كلية الحق ، جلّ عن الخواطر والضمائر ؛ لأنّ قوله تعالى : (ذَكَرُوا اللهَ) لم يقل ذكروا اسمه أو نعته أو صفته منه أو فعلا منه بل (ذَكَرُوا اللهَ) أي : فنوا في الفرار منه إليه في صرف الألوهية برؤية الذات والصفات ، يدركهم الحق بانكشاف ما استأثر من نفسه لنفسه ، أو لأهل دنو دنوه الذين بقوا في الفناء وفنوا في البقاء ، لهم خاصية واصطفائية ، وأيضا فيها إشارة إلى أصحاب المواجيد والوقائع والمكاشفات الذين عادتهم السلوك في المعاملات من الطاعات والرياضات ، فإذا ورد عليهم وارد وتضييق وقت وظائفهم ، يرجعون إلى أداء الورد ، وهذا سوء أدب.

كما سئل الجريري في ذلك قال : هذا سوء أدب ، وهذا فاحشة منهم النزول من الربوبية إلى المعبودية ، والظلم تركهم مقام الوصال ، واختيارهم وسائط الأحوال ، ذكروا الله بعد تغير

__________________

(١) قيل : أهل مقام الإحسان عملهم قلبي ، كالسخاء والعفو وكظم الغيظ ، وأهل اليمين عملهم بدني ، بين طاعة ومعصية وغفلة ويقظة ، إذا فعلوا فاحشة تابوا واستغفروا ، وإذا فعلوا طاعة فرحوا واستبشروا ، أهل مقام الإحسان غائبون عن رؤية أعمالهم ووجودهم ، وأهل اليمين معتمدون على أعمالهم ، إذا فعلوا طاعة قوى رجاؤهم ، وإذا زلّوا نقص رجاؤهم ، أهل مقام الإحسان فانون عن أنفسهم باقون بربهم ، وأهل اليمين أنفسهم موجودة وأعمالهم لديهم مشهودة ، أهل مقام الإحسان محبوبون ، وأهل اليمين محبّون ، أهل مقام الإحسان فنيت عندهم الرسول والأشكال ، وبقي في نظرهم وجود الكبير المتعال ، وأهل اليمين : الأكوان عندهم موجودة ، وشموس المعارف عن قلوبهم مفقودة ، أهل مقام الإحسان يعبدون الله على نعت الشهود والعيان ، وأهل اليمين يعبدون الله من وراء حجاب الدليل والبرهان ، أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان. انظر : البحر المديد (١ / ٣٣٧).

الله إياهم بخلوهم عن الوسيلة ، ورجوعهم إلى المشاهدة والقربة.

قال الواسطي : الطاعات فواحش ، وما ذكره الواسطي تفسير بلسان الشطح.

وسئل أبو عبد الله بن جلا عن الظلم فقال : متابعة النفس على ما تشتهيها.

وسئل محمد بن على عن قوله : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) قال : النظر إلى الأفعال ، (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) برؤية النجاة بأعمالهم ذكروا الله لحقهم التوفيق من الله ، وأدركهم العصمة منه ، فاستغفروا لذنوبهم من أفعالهم وأقوالهم ، (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) علموا ألا وصول إلى الله إلا به.

وقال الأستاذ : يقال فاحشة كل أحد على حسب حاله ومقامه ، وكذلك ظلمهم ، وإنّ خطورة المخالفات ببال الأكابر كفعلها عن الأغيار.

قال قائلهم :

أنت عيني وليس من حقّ عيني

غمض أجفانها عن الأقذاء

وليس الجرم على البساط كالذّنب على الباب

وقال الباب : قال إنّ رؤية الأحوال والأقوال كظلمات عند ظهور الحقائق.

(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣))

قوله تعالى : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) من خرج من درك الامتحان بشرط الوفاء والتقديس عن أخلاق النفس والهوى ودخل بشرط رؤية التقصير بنعت الحياء والخجل في ميادين الصدق والإخلاص في المحبة والمعرفة وبذل المهجة غرامة للمخالفة والاستغفار بعد الندم ، يجزيه الله برده إلى فوق مقام الأول بوصوله إلى مشاهدة قدسية جلالته ، ويفتح له كنوز

مدخرات الغيب ويستأنس بجنات المشاهدة والمداناة ، التي هي عيون صفات الذات ، تجري منها أنهار الأوصاف الأزلية ، تسقيه من مروقات سواقي الجلال والجمال ، خالدين فيها بلا مكث ، ولا قطع ، ولا خطر الزمان ، ولا حجت المكان ، ولا تغير بعد ذلك نعم هذه النعمة من المنعم الكريم الوهّاب للعالمين ، أي : الواقفين بشرط الوفاء في العشق على الحضرة القديمة بلا نقض في العهود ، ولا سهو في الشهود.

قال الأستاذ في قوله : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي : بردّهم إلى شهود الربوبية وما سبق بهم عين الحسنى في سابق القسمة ، وجنات تجري من تحتها الأنهار مؤجلا في الفراديس ، ومعجلا في روح المناجاة وتمام الأنس.

قوله تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) وإنّ كلام الحق سبحانه صفته الأزلية ، مبين حقائق أمور الكونين ، لمن له أهليته وأهل القرآن من كان روحه جلالية ، وقلبه جماليّا ، ونفسه مطمئنة ، وسره قابل كل إشارة من الحق ، ولهذه الجنود اصطفائية بالمعارف والكواشف ، وإذا كان الأمر كذلك ، يتجلى الحق في كلامه لأهل القرآن بنوريين له مراد الله من خطابه يهديه إلى كل صواب ؛ لأنّه مفتاح كنز القدم ، من وافقه يخرج له عروس الصفة القديمة من حجاب الحروف بكل مراد وصول به (١).

قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ : إنّ الله تعالى يتجلى لعباده في القرآن ومن له أهلية الصفة بإدراك بيانها ، وله أهلية الذات بكشف جلاله تعالى.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أهل القرآن أهل الله وخاصته» (٢).

بقدر ترقي المقامات عنهم سر الخطاب من كتاب الله ، قوم يسمعون بأسماع العقول أمرا واعتبارا ، وقوم يسمعون بأسماع القلوب شوقا وحلاوة ، وقوم يسمعون بأسماع الأرواح محبة ومعرفة وعشاقا وأنسا ، وقوم يسمعون بأسماع الأسرار بملاحظة الأنوار كشفا وبيانا ، ولم ينكشف هذه الأسرار والوقائع إلا للناس ، ومن لم يكن إنسانا متخلقا بخلق آدم عليه‌السلام وما بقي من ميراثه من علم الأسماء والصفات يكون من النسناس لمن يلاحظ مشاهدة القرآن وأسراره ، فإنّ الله تبارك وتعالى أعلمنا أنه بيان للناس لا للنسناس ، والناس من له وصف ما ذكرنا ، ويبقى بالله مما دون الله بما صرح الله في بيانه قال : (بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ

__________________

(١) وقيل : بيان لقوم من حيث أدلة العقول ، والآخرين من حيث مكاشفات القلوب ، والآخرين من حيث تجلّي الحق في الأسرار. انظر : تفسير القشيري (١ / ٣٩١).

(٢) رواه أحمد في المسند (٣ / ٢٤٢) ، وابن ماجه (١ / ٧٨) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٩ / ٤٠).

لِلْمُتَّقِينَ).

قال جعفر : أظهر البيان للناس ، ولكن لا يتنبه إلا من أيّد منه بنور اليقين وطهارة السر ، ألا يراه يقول : (وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) إلا أن هذا الاهتداء بهذا البيان والاتعاظ للمتقين الذين اتقوا كل شيء سواه.

وقال الأستاذ : بيان لقوم من حيث أدلة العقول ، والآخرين من حيث مكاشفة القلوب ، والآخرين من حيث تجلي الحق في الإسرار.

أعلمهم الله حقائق الإيمان ، وهو اليقين ، واليقين سكون القلب بوعد الرب تعالى ، وبيّن إذا كنتم في معارج الإيمان والتصديق يجزى في نصركم وعلوكم على عدوكم ، فما معنى الحزن والضعف ، فإنّ من عاين حقيقة الأمر قوى يقينه ، وذهب عنه جميع الأحزان ، وينبغي أن حزن العارف ضيق صدره من ركوب القبض عند غيبته عن المشاهدة ، وفرحه ببسطه وروحه من كشف ملكوت ربه.

قال محمد بن موسى : ما بال الإنسان يحزن مرة ويفرح أخرى؟ قال : لأنّ غذاء الأرواح وتهذيبها في الاستتار والتجلي يطرب عند التجلي ، ويحزن عند الاستتار ، فمتى حجب حزن ، ومتى طالعه بعين البر واللطف فرح ، وإن طالعه عين السخط خاف وقلق.

(وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩))

قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) إنّ الله تعالى عانت الكل بهذه الآية ، أي : لمّا أخبرتكم ربوبيتي بلسان نبيي ، وأوجبت العبودية عليكم برسالته ، وعرفتكم بصفات الألوهية بغير واسطة ، فلم تتزلزل بذهابه عن البين ، واضطربتم عن حقائق الإيمان وإخلاص العبودية عند الفترة والامتحان ، فلو كنتم مشاهدين جلالي ما اضطربتم

بموته أو برفع الوسائط بيني وبينكم ؛ لأنّ من شاهد الحق وعاينه تكون محبته وعبوديته بغير واسطة الربوبية ، قائمة بذاته ، أبدا ليس للأولياء والأنبياء إلا الإخبار والأنباء عند أمر الله ، وكشفه مراده لهم ، وخصّ من بينهم الصدّيق وأقرانه ـ رضي الله عنهم أجمعين.

ألا ترى حين قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كان يعبد محمدا ؛ فإن محمد قد مات ، ومن كان يعبد الله ؛ فالله حي لا يموت» (١) ، وهذا الوصف ظاهر في آخر الآية (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) في الصديق ونظرائه رضوان الرحمن عليهم بقوله : (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) يعنى : أبا بكر ، ومن كان قلبه مثل قلبه في الإيمان والإيقان شكرهم استقامتهم في الرب والولاية ، وجزاء شكرهم نصر الله وظفره لهم بانهزام المروة عن ساحة الشريعة.

قال الواسطي : غضت البصائر عند وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا لرجل واحد ، وهو فضل عليهم ، وهو الداعي إلى الله على بصيرة ، وهو أبو بكر ، فكأن هذه الآية خصّ هو بها ، وعجزت الأمة عن ذلك لضعف نحائرها ، ووهن بصائرها ، وبأن فضيلة أبي بكر بذلك ، وهو قول : «من كان يعبد محمدا ؛ فإن محمد قد مات».

وقال الحسين : ليس للرسول إلا ما أمر به أو كشف له ، ألا تراه لما سئل : «فيم يختصم الملا الأعلى» (٢) ، يعني : لم يسمع حسّا ولا نطقا ، فلما غيب عنه شاهده فوقع الصفة عليه شاهدهم بشهود الحق ، وذهب عنه صفة آدميته فتكلم بالعلوم كلها.

قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) بيّن الله سبحانه أن من قدرته إماتة حي أعظم من إيجاد حي وأعجب من إبقائه ؛ لأنّ في الموجود قدرة وليس في المعدوم قدرة ، وأيضا إشارة إلى أهل الرياضة ، أي أن النفس الأمّارة لا تزول بالرياضة والمجاهدة أنها تطمئن بإذن الله وبحلاوة ذكره ومناجاته.

قال الواسطي : ليس نفس تملك الفناء والبقاء ، بل كان ذلك الآجال مضروبة ، كما قال تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ).

وقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) ثواب الدنيا المعرفة ، وثواب الآخرة المشاهدة ، وأيضا ثواب الدنيا محبته ، وثواب الآخرة قربته ، وأيضا أي : من وقع في محل الإرادة وأرادني فقد أتجلى له بالآيات ومن الآيات

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) رواه أحمد في مسنده (٤ / ٦٦).

وفي الآيات ، التباسا ومن وقع في المعرفة وأرادني صرفا أتجلى له بلا علة ؛ لأن الإرادة محل الغيبة ، والمعرفة محل الحضور ، وأيضا ثواب الدنيا صحبة الأولياء ، وثواب الآخرة صحبة الحق.

قيل : ثواب الدنيا العافية.

وقيل : إلهام شكر النعمة ، وثواب الآخرة : الجنة ونعيمها

(بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣))

قوله تعالى : (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) أي : محبكم بمحبة الأزلية ، وحافظكم عن شر أنفسكم ، وكل خاطر يشير إلى غيره ، وناصركم عند تحملكم مشاق العبودية عن إباء نفوسكم عن تحملها.

قال ابن عطاء : معينكم على ما حملكم من أوامره ونواهيه.

قال جعفر : متولي أموركم بدار عاقبته.

وقال ابن عطاء في قوله : (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) : خير الناصرين لكم على أنفسكم وهواكم (١).

قوله تعالى : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي : منكم من وقع في بحر غنى القدم واتصف به ، ويخرج منه بنعت التمكين ، ورؤية النعم في شكر المنعم كسليمان عليه‌السلام ، ومنكم من وقع في بحر التنزيه وتقديس الأزلية ، فغلب عليه القدس والطهارة ، فيخرج بنعت الفقر بتجريد التوحيد ، وإفراد قدمه من الحدوث ، كمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال :

__________________

(١) ويقال : كل من استنصرت به احتجت إلى أن تعطيه شيئا من كرائمك ثم قد ينصرك وقد لا ينصرك ، فإذا استنصرته ـ سبحانه ـ يعطيك كلّ لطيفة ، ولا يرضى بألا ينصرك. انظر : تفسير القشيري (١ / ٤٠٢).

«الفقر فخري» (١).

وأيضا : منكم من يريد الدنيا للفناء ، ومنكم من يريد الآخرة للبقاء ، وأيضا منكم من يريد مشاهدة الله في الدنيا كموسى عليه‌السلام ، ومنكم من يريد مشاهدة الله على نعت السرمد ، ولا يكون إلا في الآخرة وعده.

قوله تعالى : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) أي : ربّ الدنيا كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي : أهل القرية.

قال أبو سعيد الخرّاز : ما دمتم بكم ، وأوصافكم كانت همتكم الحوادث والدارين ، وإذا توليتكم وأخليتكم من صفاتكم وأكوانكم ، وعلوت بهممكم إلىّ فأفنيتكم من النظر إلى الأكوان وإرادتها ، وأفنيتكم بالحق مع الحق ، وقال : متى ما طالعهم بأسرارهم بحقهم عن آثارهم ودهشتهم في مبادئهم.

قال النوري : العامة في قميص العبودية ، والخاصة في قميص الربوبية ، فلا يلاحظون العبودية ، وأهل الصفوة جذبهم الحق ومحاهم عن نفوسهم.

قال الشبلي : منكم من يريد الدنيا للقناعة ، ومنكم من يريد الآخرة للجنة ، وأين مريد الله؟ ومريد الله من إذا قال ، قال : الله ، وإذا سكت فليس سوى الله.

وقال سهل بن عبد الله : دنياك نفسك ، فإذا أفنيتها فلا دنيا لك.

قيل : قرئت هذه الآية بين يدي الشبلي ، فقال : أوه ، من قطع طريق الخلق إليه وردّ الأشباح إلى قيمتها.

قال محمد بن علي : منكم من يريد الدنيا للآخرة ، ومنكم من يريد الآخرة لله.

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ

__________________

(١) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ١١٣).

كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩))

قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) أي : من رسم طريق المعرفة تجلى القهر واللطف ، القهر من العظمة والغيرة ، واللطف من الحسن والجمال ، وفي عين الحقيقة هما واحد الأول : تربية ، والثاني : رفاهية ، وسنّة الله جرت على مباشرتهما على التسرمد ، فما باشر للقهر وجود العارف إلا ويأتي بعده نور تجلى اللطف والبسط والروح والكشف والأنس ، قال الله تعالى : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) [البقرة : ٢٤٥] ، وقال : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٦] ، فلمّا ذاقوا ألم الامتحان أنسوا برؤية الرحمن ، الأول خوف ؛ لأنهم في العبودية ، والآخر أمن لأنهم في رؤية الربوبية ، وذلك يقتضي الأمن والنعاس محل الكشف ، كاشفهم الله هموم المجاهدة بنور المشاهدة.

قال ابن عطاء : من صدق إرادته واجتهاده ورياضته ردّ إلى محل الأنس.

صدق ابن عطاء ، هذا وصف من وصفهم الله بالتمكين والاستقامة من الصحابة المباركة رضي الله عنهم بالصبر في البلاء كأنصار الأنبياء ، وصفهم الله بقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) والربيون الربانيون الذين هم مربون في قرب الرب ومشاهدته.

قال الجريري : منقطعون إلى الرب فانية منهم أوصافهم وإرادتهم ، متطلعون لإرادة الله فيهم.

قال بعضهم : (رِبِّيُّونَ) وزراء الأنبياء.

وقوله تعالى : (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) لأنّ عليهم روع أنوار عظمة الله ، (وَما ضَعُفُوا) لأنهم مقوون بقوة الله ، (وَمَا اسْتَكانُوا) ؛ لأنهم مؤيدون بتأييد الله ومع جلالتهم وضعوا أقدامهم على أعناق نفوسهم الخيانة الأمّارة هواها فخرجوا من داعية هواهم إلى مراد الله ، لا جرم ألبسهم الله لباس وصفه الذي وصف نفسه بالصبر ، ثم أحبهم لوصفه عليهم بقوله : (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ).

قال الواسطي : أي كونوا كأبي بكر لما كانت لنسبته إلى الحق أتم لم يؤثر عليه فقدان السبب ولما ضعف نسبتهم أثّر عليهم ، فعمر بن الخطاب قال : «من قال مات محمد ضربت عنقه» ، وأبو بكر نظر إلى ما دلّ عليه المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، فقرأ : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ).

قوله تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) إنّ الله سبحانه خلق قلوب هذه الأمة وقت إيجادها في رؤية جمال القدم ، ونورها بالحسن والرجاء ، وأخرج أرواحها من العدم إلى عالم البسط والسرور ، وسنا المشاهدة والسماع والحور ، وألبسها خلق اللطف ، فصارت مستعدة لرؤية الألطاف قابلة نور الأنس ، ومن كمال حكمة الله ولطفه علينا خلق نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خلق البسط وروح الإنس ، فوافقت المرافقة ، وحصلت في البين أهلية ، ودانت الأرواح وقربت الأشباح ، فبقيت الحشمة وفنيت الغلظة ، وصار رحمة تامة لهذه الأمة المرحومة ، وتصديق ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) تبيّن من الخطاب لطف الجانبين نسب الفعل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان غير متكلف في التليين ؛ لأنّه كان مخلوقا باللطف والكرم من الله ، وفيها الإشارة إلى تأديب الصحابة ، أي لو كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدقق عليهم أحكام الحقائق لضاقت صدورهم ، ولم يتحملوا أثقال حقيقة الآداب في الطريق ، ولكن سامحهم بالشريعة والرخص بحقائق ما أوجبه الله عليهم ، وتصديق ذلك قوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فالعفو والاستغفار من مسامحة الله لهم ، فاعف عنهم تقصيرهم قلّة عرفانهم أقدارك ، واستغفر لهم ما يجري في صدورهم من الخطرات التي لا تليق بالمعرفة ، وما يجري على صورهم من الحركات التي لا تليق بصحبتك ومجالستك ؛ لأنك مستغرق في الربوبية ، وهم يطلبونك في مقام العبودية ، وهم في وصف المحبة والإرادة ، فأنت في محل التوحيد مشاهد مطالع شموس الآزال وأقمار الآباد (١).

قال الواسطي في قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) : جميع أوصافك وما يخرج من أنفاسك رحمة مني عليك وعلى من اتبعك.

وقال ابن عطاء : لما علا خلقه جميع الأخلاق عظمت المؤنة عليه ، فأمر بالغض والعفو والاستغفار.

__________________

(١) جرّده عن أوصاف البشرية ، وأفرده بما ألبسه من نعت الربوبية ، وأخبر أن ما يلوح إليه فمن أنوار التولي ، لا من آثار الوفاق والتبري ، ولو لا أنه استخلقه بما ألبسه وإلا متى كان بتلك الصفة؟! انظر : تفسير القشيري (١ / ٤٠٩).

قال الحارث المحاسبي في قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) : نسب ما كان منه في ذلك من اللين والمداراة إلى نفسه بقوله : برحمتي لنت لهم ، وما كان الله يقول لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك لنت لولا إنه لينه بمعرفته ووفّقه للمداراة.

قال الفارسي : انظر كيف وصف الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم باللين والشفقة ، ثم عرّاه عن أوصافه فقوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) وذاك حق قيامك بنا وهجرانك الخلق أجمع.

قال الأستاذ : يقال : إن من خصائص رحمته سبحانه عليه أن قواه حتى صحبهم ، وصبر على تبليغ الرسالة مع الذي كان يقاسيه من أخلاقهم مع سلطان ما كان مستغرقا له ، ولجميع أوقاته من استيلاء الحق عليه ، فلولا قوة الإلهية استأثره الحق بها ، وإلا متى أطاق صحبتهم ، ألا ترى إلى موسى عليه‌السلام لما كان قريب العهد بسماع كلامه ، كيف له يصير على مخاطبة أخيه (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) [الأعراف : ١٥٠].

وقال الأستاذ في قوله : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ) لو سقيتهم صرف شراب التوحيد غير ممزوج بما فيه لهم حظ ، لتفرقوا هائمين على وجوههم غير مطيقين الوقوف معك لحظة.

وقوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) إذا كان في محل العبودية وأمور الشريعة وعالم العقل أمر لله بحسن معاشرته معهم واستبشارهم في وقائع مستقبلات القدر ، كيف يقبلونها بالعقول والقلوب بنعت التفكر والصبر في أحكامه ؛ لأنهم كانوا يشربون من سواقي بحاره ، ولأنهم في مقام الولاية ، وهو في مقام الرسالة والنبوة وهما واحد في عين الجمع ، يرون الغيب بنور الفراسة ، وهو يراه بأنوار النبوة والرسالة ، وكان عليه‌السلام يحتاج في محل العبودية إلى نصرة الصحابة له في الدين.

وإذا كان في مشاهدة الربوبية ، وخرج من التفرقة إلى الجميع ، أمره الله سبحانه بإفراد القدم عن الحدث ؛ حيث تجرد في سيره عما لله إلى الله بقوله : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فإنه حسبك فيما يريد منه.

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣))

قوله تعالى : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) نصر الله سكينته وقعت من نور تجلي الحق سبحانه في قلوب العارفين ؛ حيث توجهت من الحدثان إلى جلاله بنعت التضرع في عظمته وكبريائه ، فلما تلبّست أنوار الغيب مع نور البسط والرجاء ، فقويت بها الأشباح فأيدت لهم بحلول الأزل وقوته ، فحينئذ انحسرت جنود القهر بسطوة الهيبة عن معارك عساكر اللطف.

وذلك قوله : «سبقت رحمتي غضبي» (١) ، وحقائقه مشروحة في ترقي مقامات دنو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك إشارته في سجوده بقوله : «أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك» (٢).

نصر الله في المريدين توفيقهم في قمع الشهوات ، ونصره في المحبين نور اليقين من تبسم فلق صبح الأزل بنعت المداناة ، ونصره في العارفين انفتاح كنوز أسرار علوم المجهولة بمفاتيح كشف المشاهدات.

قال بعضهم : إنّما يدرك نصر الله من تبرأ من حوله وقوته واعتصم بربه في جميع أسبابه ؛ لأن من اعتمد على حوله وقوته ورأى الأشياء منه ، فإنه مردود إلى حول الله وقوته وعلمه.

قال الأستاذ : نصرته بالتوفيق بلا أشباح ، ثم بالتحقيق للأرواح.

ويقال : ينصركم بتأييد الظاهر ، وتسديد السرائر.

ويقال : النصرة إنما يكون على العدو ، وأعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك ، النصر على تهزم دواعي فتنتها بعواصم رحمته حتى تنقص جنود الشهوات بهجوم وقود المنازلات ، فتبقى الولاية خالصة عن شبهات الدواعي التي هي أوصاف البشرية ، وشهوات النفوس وأمانيها التي هي آثار الحجبة وموانع القربة.

قوله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) مقدّس أسراره عن دنس الخطرات ، ووصفه بالأمانة عند إخباره عن أنباء الغيب لم يجر على قلبه عند بيان الشريعة والطريقة ، مداهنة لرؤية شريف ووضيع ، ولم يخف حق الله عزوجل عن عباده وأعطى علم الحق لأهل الحق ، وبيّن المحجوبين آية الحق ببرهان الحق ، ولم يخط في طريق الحق خطوة بحظ نفسه.

قال بعض المشايخ : (وَما كانَ لِنَبِيٍ) أن تستأثر بالوحي والشريعة بعض متبعيه على بعض.

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) سبق تخريجه.

قال يحيي العلوي : (وَما كانَ لِنَبِيٍ) أن تضيع أسراره إلا عند الأمناء من أمته.

(لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠))

قوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرآة الحق يتجلى بجلاله وجماله للأمناء والصدّيقين منه ، يرون الله برؤيته لقوله عليه‌السلام : «من رآني فقد رأى الحق» (١) ، منّ على عباده بوجوده ، ولو يتجلى لهم صرفا لاحترقوا بأول سطوات عظمته ، جعله برحمته واسطة تجليه وذلك بمحل الالتباس من ظهور نفسه لذوي الأبصار ، وإشارة قوله : (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي : حال أمته من حيث حاله ، وشربهم من حيث شربه ، وأي منّة أعظم على المؤمنين من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو منظر جمال الحق للخلق ، ومعرفهم أسماءه وصفاته ونعوته ، ومهالك المهلكات ، ومنازل السجيات.

قال بعض المشايخ : أكثر منّة على الخلق وسائط الأنبياء إليهم ليصلوا بهم إليه ؛ لأنه لو أظهر عليهم من صفاته ذرة لأحرقهم جميعا ، ولضلّوا فيه عن الطريق إلا المعصومون.

قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) نبّه الخلق أن من قتل في سبيل العشق بسيوف العشق انسلخ من الحدث إلى القدم ، والتبس بنور الأزل من الأزل ، فلما بلغ نعت الأولية واتصف بصفة الأزلية ، يصير منعوتا بنعت الأخروية موصوفا بوصف الأبدية ؛ لأن صفات الحق جلّ سلطانه واحدة في الوحدانية خارجة عن الجمع والتفرقة ، فيضها في الأفعال تفرقة مع الأسماء ، ونورها في العينية جمع لأهل الوحدة ، ومحل أن وصل

__________________

(١) سبق تخريجه.

نور الصفة فيكون خارجا عن الصفة الأولية صفة ، والأخروية صفة ، والآخر أول في النعت ، فمن كان نعته أولية فيكون نعته أخروية ، وإذا خرج من الحدثان إلى جمال الرحمن لم يجر عليه صفات الحدث بعده عن صفة الموت والفناء ، بل يصير حيا باتصافه بحياة الحق ، وحياة الحق أبدي ، لم يجر عليه علل حياة الإنساني وموت الإنساني ، وهذا من فيض نور مشاهدته وعنديته ؛ لأن مقتول السيف التجلي يحيا بقبض القربة والعندية ، ومن يكون في العندية كيف يفنى ويموت وهو مشاهد في شهود الحق إياه ورزقه فيض مزيد مشاهدة الحق ، وزيادة اتصافه ببقاء الحق ، وفرحه بنيل بقائه من بقاء الحق (١).

ومن قتل بسيف الإرادة فهو باق بنور القربة ، ومن قتل بسيف المحبة فهو باق في سنا المشاهدة ، ومن قتل بسيف المعرفة فهو باق في أنس الوصلة ، ومن قتل بسيف التوحيد فهو باق بالوحدة في الوحدة ، وحياة هؤلاء من تجلي الأزلية وشهادة هؤلاء بغيرة العزة ، غار عليهم فأفناهم ، وأحبهم فأبقاهم.

قال ابن عطاء : المقتول على المشاهدة باق برؤية شاهده ، والميت من عاش على رؤية نفسه ومتابعة هواه.

قال أبو سعيد القرشي في هذه الآية : لا تظنن الهالكين في طريق الإرادة طلبا لوصله مردودين إلى مقاماتهم ، بل قد بلغ بهم غاية ما قصدوا من القرب والوصلة إحياء بقرب الحق عند ربهم في مجلس المشاهدة ، يرزقون زيادة الفوائد من أنوار الاطلاع فرحين بالغين أقصى رضاه.

(يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥))

قوله تعالى : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) نعمة الله معرفة الله ومحبته وفضله مشاهدته ، فاستبشار القوم برؤية الله وجلاله وقدمه وبقائه لا بشيء من الحدثان ، كانوا إذا نظروا إلى قدمه استبشروا بنعمة بقائه ، وإذا نظروا إلى بقائه فرحوا بمشاهدة قدمه.

__________________

(١) ويقال : إن الذي وارثه الحي الذي لم يزل فليس بميت. انظر : تفسير القشيري (١ / ٤١٧).

قال ابن عطاء : لو نظروا إلى المنعم لتنقص عليهم الاستبشار بنعمه وفضله ، وكان استبشارهم بالمنعم المتفضل.

قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) استجابوا لله بحب شاهدته ، والاشتياق إلى جماله ولطائف قربه ، ولذائذ صحبته ، وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عليه من آثار أنوار صفاته ، وفيه إشارة إلى مقام الاتحاد حيث الأمر واحد ، وإنّ الله سبحانه وتعالى وصفهم بحسن الإرادة في محبته ، وطلب جماله ببذل أرواحهم بعد احتمال آلام الامتحان على أبدانهم بقوله : (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ).

قال الواسطي : استجابوا لله بالوحدانية ، وأجابوا الرسول باتباع أوامره ، واجتناب نواهيه ، وقبول الشريعة منه على الرأس والعين.

وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي : للذين بلغوا مقام الإحسان وهو رؤية الله في مقام الامتحان ، (وَاتَّقَوْا) جميع الحجاب بينهم وبينه إحسانهم إلقاء نفوسهم وهواجسها عند قبولهم مراد الحق بعد خروجهم عن مرادهم ، و (أَجْرٌ عَظِيمٌ) الذي وصفه الله بإعداده لهم ، هو إيصالهم إليه بغير الهجران والعتاب ، والحساب والحجاب (١).

وقيل : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) في إجابة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَاتَّقَوْا) مخالفته سرّا وعلنا ، (أَجْرٌ عَظِيمٌ) هو البلوغ إلى المحل العظيم من مجاورة الحق ومشاهدته.

قال الأستاذ : في هذه الآية استجابة الحق بالتحقيق بوجوده ، واستجابة الرسول بالتخلق بما شرع من حدوده ، واستجابة الحق بالصفاء في حق الربوبية ، واستجابة الرسول بالوفاء في إقامة العبودية ، (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) في ابتداء مقاماتهم قبل ظهور أنوار التجلي على قلوبهم ، وابتسام الحقائق في أسرارهم ، (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، وهو المشاهدة ، (وَاتَّقَوْا) «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (٢) ، وهو المراقبة في حال المجاهدة أجر عظيم لأهل البداية ، مؤجلا ولأهل النهاية معجلا.

قوله تعالى : (فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قدّس الحق سبحانه حضرة

__________________

(١) كذا سنّة الحق ـ سبحانه ـ مع من صدق في التجائه إليه أن يمهد مقيله في ظل كفايته ؛ فلا البلاء يمسه ، ولا العناء يصيبه ، ولا النّصب يظلّه. انظر : تفسير القشيري (١ / ٤٢١).

(٢) سبق تخريجه.

الكبرياء عن تهمة الأغيار ، ونفي الأنداد عن ساحة الجلال ، قال : (وَخافُونِ) في التفاتكم بالأسرار بنعت الخوف من الأغيار ، رفع ما استحق له عمّن ليس له استحقاق ، وخوف العباد منه حقوق ربوبيته ، وليس في هذا الخوف من الغير نصيب ، قرن الخوف والإيمان محل البرهان عند وقوع الامتحان ، فإذا وقع نور المشاهدة تظهر أنوار الهيبة ، وتذهب علّة الخوف ، خوفهم بنفسه لا من عذابه ، أي : من نظر إلى غيري بنعت إجلاله احتجب عني به ، وأنا أبقيه في الخوف من غيري ، وهو محل الشرك به ، أي : من خافني فهو في محل الإيمان ، ومن خالف غيري فهو في محل الشرك ، وهذا الشرك شرك خفي.

قال الواسطي : الخوف من شرط الإيمان ، والخشية من شرط العلم ، وإشارته في ذلك إلى قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨].

وقال ابن عطاء : ما دمتم متمسكين بالطريقة فخافوني ، فمن ترك الخوف فقد ترك الطريقة المستقيمة.

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨))

قوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) امتحن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعزائم الأمر في التوكل والرضا ؛ حيث أحزنه بحث الكفار وتخويفهم إياه ، ثم أمره بفتح عين سره في جلال قدمه ، الذي سبب ذهاب جميع الأحزان من غيره عن قلبه ، فإنّ من استحكم في معرفته فلا يجري أحكام التلوين على قلبه.

قال الواسطي : الحزن في الأحوال كلها ، وفي الحقيقة تعريف لهم وتنبيه ، وهذه الآية من خيار الحقائق التي جرت أنهم لن يضروا الله شيئا ؛ لأنهم جحدوا ما يليق بطبائعهم.

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) أخبر عن كمال اهتمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشفقته على شريعة الله ونظام دينه ، حيث أخبر بقوله : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ) ؛ لأن حزنه من أجله ، أي : فلا تحزن فإن ساحة الكبرياء مقدسة عن هجوم ضلال الضلّال ، وفيه أيضا إشارة الاتحاد بقوله : (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) أي : كيدهم بك لا يضرك ، أخبر به عنه ، وأقام نفسه حيث تخلق الحبيب بالحبيب ، وتوحد الحبيب بالحبيب.

وقيل في قوله : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) : لأنه الذي تولاهم وفي البلية ألقاهم.

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥))

قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) إنّ لله غيوبا ، غيب الظاهر ، وغيب الباطن ، وغيب الغيب ، وسر الغيب ، وغيب السر.

أمّا غيب الظاهر : فما أخبر الله تعالى عن أمر الآخرة ولا يطّلع عليها إلا من بلغ مقام اليقين ، وصاحبه خارج عن شواغل النفوس ، وخطرات الشياطين ، لكن لم يكن على حد الاستقامة ، فرؤية الآخرة له تارة ؛ لأن اليقين خطرات ، وهذا الخطاب بهذا المعنى خطاب الأضداد.

وأما غيب الباطن فغيب للمقدورات المكتومة عن قلوب الأغيار ، وذلك الخطاب خطاب أهل الإيمان.

وأما غيب الغيب فهو سر الصفات في الأفعال ، وفي هذا المعنى خطاب المريدين.

وأما سر الغيب فهو نور الذات في الصفة ، وهذا الخطاب للمحبين.

وأما غيب السر ، فهو عينية القدم التي لا يطّلع عليها أسرار الخليقة أبدا (١).

وإذا كان هذا الغيب المذكور في قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)

__________________

(١) وقيل : إنّ أسرار الغيب لا تظهر للمتلوثين بأدناس البشرية ، وإن الحق سبحانه مستأثر بعلم ما جلّ وقلّ ، فيختص من يشاء من أنبيائه بمعرفة بعض أسراره. انظر : تفسير القشيري (١ / ٤٢٦).

فخطابه مع جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين ، والأصفياء الصديقين العارفين الموحدين ؛ لأن الأزلية منزّهة عن إدراك الخلائق أجمعين ، وخاصية نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا المعنى رؤية هذه المعاني بنعت الكشف له ، وابتسام إصباح الأزل في وجهه ، لا بنعت الإحاطة وإدراك الكلية ، وذلك قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) مثل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعيسى وموسى وإبراهيم وآدم صلوات الله عليهم أجمعين ، وذلك مشروح في قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧].

قيل : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) وأنتم تلاحظون أشباحكم وأفعالكم وأحوالكم ، وإنّما يطلع على الغيب من كان أمين السر والعلانية موثوق الظاهر والباطن ، ثم يفتح له من طريق الغيب بقدر أمانته ووثاقته ، ألا تراه يقول : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧] ، هو الفاني من أوصافه ، المتّصف بأوصاف الحق.

وبيّن أن بعض الغيب مظهر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك حكمه بالغيب ، وحكمه على الغيب بقوله : «عشرة من قريش في الجنة» (١).

ومثل ما أخبر عن الله سبحانه وعن أمر الدنيا والآخرة قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) إن الله تعالى زجر الستارين هاهنا بكتمان المكاشفات ، وحقائق الواردات ، ووقائع المغيبات عن الطالبين ؛ لأن أصل السخاء تخليص المتحيرين عن درك الامتحان ، وإرشادهم إلى طريق العرفان ، وأي سخاء أعظم من إظهار مواهب الله على المريدين لاستزاد محبتهم وجه الله سبحانه ، واستكبار شوقهم إلى جماله ، وتحبيبهم أعمالهم وعبوديته ، وتصديق ذلك قوله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : ١١].

ومن كان يطيق ما ذكرنا من إرادة الخير على طلاب الله كيف لا يطيق بذل نفسه وماله وروحه في طريق الحق فداء لأولياء الله ، لأنهم معدن السخاء ، والسخاء منهم ينشعب ، والسخاء بالمال وصف المريدين ، وبالنفس وصف المحبين ، وبالروح وصف العارفين ، والبخل بجميع الأشياء أعمى النفس الأمّارة عن رؤية منن بحار القدم ، والسخاء انفتاح عين القلب على ذخائر القدرة ، وكنوز الألوهية المملوءة من الآلاء والنعماء ومباشرة تجلي الوهابية

__________________

(١) رواه البزار في مسنده (٤ / ٩٥) ، والنسائي في «السنن الكبرى» (٥ / ٦٠) ، والطبراني في «الأوسط» (٢ / ٣٥١).

الأزلية السرمدية قلوب الصدّيقين العاشقين ، وتلك الجبلة جبلة الأولياء ليس للأعداء فيها نصيب.

كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما جبل ولي الله إلا على السخاء» (١).

والذي نبأنا الله من أخبار اليهود دليل على ما ذكرنا أنهم سرقوا نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي وصف الله به نبيه في التوراة والإنجيل ، وهذا الكتمان أصل البخل ، فمن كان في الدنيا محجوبا بالمال عن مقام السخاء والتخلق بوصف الله سبحانه من الغنى والعطاء ، بقي فيه ذلك حجاب إلى الأبد ، ويكون مفتضحا في الدنيا والآخرة ، مشهورا بعلامة اللؤم وسمة البعد ، وذلك قوله تعالى : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وبّخ المفلسين ؛ حيث وصف نفسه ببقائه مع ملكه القديم بعد فناء خلقه وانقطاعهم عن مأمولهم ، بقوله : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : أنا صاحب المواهب السنية ، أجازي بها المنفقين وجودهم في طريقي ، وأعطيهم ما لم يؤت أحدا من العالمين.

قال ابن عطاء : السلوك في طريق الحق على السخاء واجتناب البخل ، وهو بذل النفس والمال والسر والروح والكل ، ومن بخل بشيء في طريق الحق حجب به ، وبقي معه ، ومن نظر في طريق الحق إلى الغير ، حرم فوائد الحق وسواطع أنوار القرب.

(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))

قوله تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) النفس صنم زينها الحق بكسوة الربوبية ، وملأها من القهر واللطف ، وكسي زينة ملكه أموال الدنيا امتحانا للعاشقين ، فمن نظر إلى نفسه بغير زينة الحق صار فرعونا نطق لسان القهر منه ب (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] ، وذلك مكر القدم واستدراجه.

ومن نظر إلى ربوبية وفنيت نفسه فيها نطق لسان الربوبية منه كالحلاج ـ قدّس الله

__________________

(١) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٢٤١) ، والمنذري في «الترغيب والترهيب» (٣ / ٢٥٩).

روحه العزيز ـ بقوله : أنا الحق ، ومثاله في ذلك مثال شجرة موسى عليه‌السلام ؛ حيث نطق الحق سبحانه منها بقوله : (إِنِّي أَنَا اللهُ) [القصص : ٣٠] ، نطق بصفته عن فعله.

ومن نظر إلى زينة الأموال التي هي زينة الملك صار حاله حال سليمان ـ صلوات الله عليه ـ لأنه كان ينظر إلى شرف جلاله بإعطاء الملك إياه ، ومن نظر إلى خضرة الدنيا وتابع شهواتها صار كالبلعام ، فمثله كمثل الكلب ، وأي الابتلاء أعظم من رؤية الملك ورؤية الربوبية في الكون ؛ لأنه محل الالتباس ، فمن كان محتجبا بهذين الوسيلتين عن رؤية الفردانية ، بقي في تهمة العشق خارجا عن نعوت الفردانية والوحدانية.

قال ابن زانيار : (لَتُبْلَوُنَ) أموالكم بجمعها ومنعها ، والتقصير في حقوق الله فيها ، (وَأَنْفُسِكُمْ) باتباع شهواتها وترك رياضتها ، وملازمة أسباب الدنيا ، وخلوها عن النظر في أمور المعاد.

وقيل : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ) بالاشتغال بها أخذا وإعطاء.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) إنّ الله تعالى أمر الصادقين الذين هم أصحاب إلهام الخاصة والمحدثين والمكلمين من المقربين ، بأن يظهروا بعض مقاماتهم التي بينهم وبين الله سبحانه ، وما يليق بفهم الطالبين ، ويعرفوا سنيات أحوال أهل الولاية في زمانهم للخلق ليتركوا بهم ويصلوا إلى الله ببركاتهم ، ولا يغار عليهم ، وذلك صفة أهل الكمال من علماء المعرفة ، ولا يكونوا مداهنين في كتمان مناقب الصدّيقين.

قيل : أخذ الله المواثيق على عامة أولياء الله به ألا تخفوا كرامات الله عندهم ، فمن لا يفتتن بذلك ، ولا يتخذه دعوى ، وإن يعلموا من قصدهم من المريدين الطريق إلى الحق.

وقوله تعالى : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) هذا لمن لم يبلغ مقام الواصلين ، ولو وصل ما باعه بالحدثان ، وكيف يطيق ممن رآه أن يشتغل بسواه ، ولم يصلوا مقاصد القوم ، وبقوا في أول الطريق برهة من الدهر ، ولم يجدوا حلاوة الوصال ، فادّعوا عند الخلق بالبلاغة والكمال ، وهم علموا أنهم لم يشاهدوا مواهب الله وكراماته ، فباعوا ما ليس لهم ، ووقفوا في تغير الله ، وخجلوا بين يدي أولياء الله ؛ لأنهم عرفوا خيانتهم (١).

__________________

(١) أخبر أنهم أبرموا عهودهم ألا يزولوا عن وفائه ، ولكنهم نقضوا أسباب الذّمام بما صاروا إليه من الكفران ، ثم تبيّن أنّ ما اعتاضوا من ذهاب الدين من أعراض يسيرة لم يبارك لهم فيه. انظر : تفسير القشيري (١ / ٤٣٣).

قيل : ادعوا ذلك لأنفسهم ليفتتنوا به الخلق.

قوله تعالى : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) هذا وصف الكذّابين في دعوى المعاملات قبل شروعهم فيها في إظهارهم سمات أهل المعاملة بظاهر التقشف وزي أهل الناموس لصرف وجوه الناس إليهم بمجرد الدعوى ، وأهل الرياء علوا على رؤية الخلق ، وجب محمدتهم ، وذلك القوم أضل من المرائين ؛ لأنهم يطلبون المحمدة والجاه بغير عمل ، وهم أقبح طائفة من المرائين الكذابين ، وإن الله تعالى بيّن بما ذكرنا في قوله : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) وأخبر أنهم لم يخرجوا من حجب النفسانية ، وبقوا في حجاب الهجران وهو أشد عذاب.

قال حاتم الأصم : حذّر الله بهذه سلوك طريق المرائين والمتقربين والمتزهدين والمتوسلين بسمات الصالحين ، وهم من ذلك أحوال.

قال الله تعالى : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) إنّ ذلك الظاهر ينجيهم من العذاب ، كلا بل لهم عذاب أليم ، وهو أن يحجبهم عن رؤيته ويمنعهم لذيذ خطابه.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢))

قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) في هذه الآية إشارة لطيفة ، وذلك أن الله سبحانه وصف الربانيين بإدراك أنوار صفة الأزل وذات القدم في ظهور قدرته في فعله ، أي : لهم برهان منه إليه لا من الخلق ؛ لأن في إيجاده غلقة يدركه نظّار المعارف وحذّاق الكواشف لا في رؤية الخلق ؛ لأن الحدث حجاب عن رؤية القدم ، وهذا مقام الخليل صلوات الله عليه أحسن الأدب ، وعلل في السؤال برؤية الخلق مراده إدراك الربوبية المحضة ، وذلك السؤال أعظم من سؤال موسى عليه‌السلام ؛ لأن موسى سأل رؤية الله تعالى قط بغير الواسطة ، وهذا عام ، وما سأل الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالواسطة أدق ؛ لأنه سأل سر التقدير والقدرة من كمال شوقه من معرفته إلى نكرته ، ومن نكرته إلى معرفته ، وأيضا خصّ السماء بظهور الآيات منها ؛ لأنها مزينة بنور جلاله ، ملتبسة بسنا جماله ؛ لأنها مرآة كواشف الصدّيقين وطرق معارج المرسلين.

ألا ترى إلى قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] ، وقال :

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥] ، وكشف جلاله للخليل عليه‌السلام بواسطة الشمس والقمر والنجم ، حتى قال : (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٦] ، وخاصية الأرض لموقع أقدام الصدّيقين والأنبياء والمرسلين ، وإشراق نوره للمراقبين والمشاهدين ؛ لأنها مقبوضة بطش الحق بقبضة العزة ، قوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧].

وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في معالم القدرة عن ظهور جلال الأزل من مواقف المقدسية بقوله : «جاء الله من سيناء ، واستعلن بساعير ، وأشرف من جبال فاران» (١).

وخصّ الليل ؛ لأنها محل مناجاة العارفين وكشوف عظمته ، فهو الأزل بنعت الهيبة للموحدين ، وخصّ النهار ؛ لأنه سبب فرحة المحبين ، وموضع بسط المشتاقين ، ورؤية جلاله للمبصرين ، الذين يرون الله في مرآة الكون بنور القدرة وسنا المعرفة ، وقفوا باب المعارف على هذه الشواهد ، ورأوا الشاهد قبل المشاهد.

كما قال بعضهم : ما نظرت إلى شيء إلا ورأيت الله فيه ، أرى الباء الحقيقة أنور فعله في السماوات والأرض والليل والنهار ، ثم أراهم فيها أنوار القدرة الخاصة الصفاتية ، وأرى ذاته تعالى في أنوار الصفة ، فعلل الحقائق بلفظ المجهول ، وأبهم على الأغيار أسرار معاني الخطاب ، بقوله الآيات وعني بالآيات ما ذكرنا.

أنشد بعضهم :

إنّ المودة لم تزل موصولة

قرر بلادي وأكثر ودادي

واحذر عداة الحيّ أن يلقوك

وليظنّ العداة أنّك حادي

هذا محل الالتباس ، وشبيه ذلك ما أخبر تعالى لمن حق فهم ظهور جلال عظمته في لباس القهر ، وفعل المجهول من المقصرين في نعوت الإرادة ؛ حيث قال : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : ٢١٠] ، ومع هذا لو كنوا هؤلاء شاهدين على نعت رؤية الفردانية لم تخلهم إلى رؤية الصفة في الآيات ؛ لأنها وسائط تليق بمقام المحبة وإفراد القدم عن الحدوث ، مقام أهل التوحيد ؛ حيث يرونه به لا بغيره.

ألا ترى كيف خاطب الحق من انسلخ عن نعوت الحدث إلى نعوت الحدث إلى نعوت الأزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) [الفرقان : ٤٥] ، ولولا أنهم حجبوا بالعقول ما رفعهم إلى رؤية الحوادث بأن الله سبحانه خلق العقول لجولانها في الآيات بنعت التفكر والتذكر ، وخلق

__________________

(١) سبق تخريجه.

الأرواح لتنسم نفحات تجلي القدس من بساتين الأنس ، وأيضا من احتاج في معرفة الله سبحانه إلى رؤية الآيات ليثبت بها وجود الحق سبحانه ، فهو عامي حيث يعرف القديم بالمحدث ، وأن الأكوان تلاشت في أول باد بدأ من نور العظمة والكبرياء القديم.

قال الجنيد : كل من أثبته بعلّة فقد أثبت غيره ، لأن العلّة لا تصحب إلا معلولا جل الحق عن ذلك.

وقال الواسطي في هذه الآية : هو فرّق ما بين معرفة العامة ومعرفة المحققين ؛ لأن العامة اعتقد به بما يليق بطبعها ، والخواص اعتقدوا به بما يليق به ، وكل حال أثبته العموم جحدته الخصوص ، فهو عند الخاص منزّه عن كل ما وصفه به العامة ؛ لأن العام اعتقدوه من حيث العبودية ، والخاص اعتقدوه من حيث الربوبية.

وقال بعضهم : إنّ الخواص لم ينظروا إلى الكون ، والحوادث إلا لمشاهدة الآيات ، وما شاهدوا الآيات إلا لمشاهدة الحق فيها ، ومن شاهد الحق لم يمازج سريرته طعم الحدث.

وقال النصر آبادي : من لم يكن من أولي الألباب ، لم يكن له في النظر إلى السماوات والأرض اعتبار ، وأولو الألباب هم الناظرون إلى الخلق بعين الحق.

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) إنّ الله سبحانه لمّا خلق أرواح أهل المعارف أوجدها على كشف جماله ، فوقعت كينونة الأرواح على سواطع نور المشاهدة ، فباشرت أنوارها صميم الأرواح ، فعشقت بالله جماله وجلاله ، فلمّا اشترت بالأشباح بقي الذكر والعشق والمحبة معها عوض المشاهدة ، ففي كل نفس لا يخلو عن ذكر معاهد الأول ومشاهدة القديم بنعت الشوق والمحبة والعشق ، وذلك بغير اختيارها ذاكرة للمذكور ، متفكرة للغيبة والحضور ، شائقة عاشقة بنعت الهيجان والهيمان على جميع الأحوال ، مجذوبة بسلسلة الوصلة إلى جمال القدم ، مستغرقة في بحار المواجيد وأنوار الكواشف ، لأجل ذلك وصفها الله بدوام الذكر والفكر على نعت التسرمد ، وأخبر على قدر عقول الخلق عن أحوالهم بلفظ الذكر والفكر ، وذلك نعت قلوبهم وعقولهم وأبدانهم ، وأخفى شهود أرواحهم مشاهد القدس والأنس لطفا وإبقاء ومحبة وغيرة ، بقوله : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) قيامهم مقرون بذكر العظمة والكبرياء ، وقعودهم مقرون بذكر الجمال وحسن الأفضال ، واضطجاعهم مقرون بذكر البسط والانبساط ، والرفاهية في الشوق والمحبة ، فذكرهم على قدر كشوف الصفات ، فكشف العظمة هيجهم إلى ذكر الفناء إلى التوحيد ، وكشف الكبرياء هيجهم إلى ذكر الاضمحلال في التواضع والتفريد ، وكشف البهاء هيجهم إلى ذكر الخمود في الشهود ، وكشف القدرة هيجهم إلى ذكر العجز في العبودية عن إدراك

الربوبية ، وكشف الجمال هيجهم إلى الغيبة في ذكر الآباد ، وعلى ذلك كل صفة لها تجلي ، ولذلك التجلي مباشرة في قلوب الذاكرين ، ولكل ذكر له عمل في المقامات ، وله حقيقة وجد في الحالات (١).

ذكر الرضا من رضا الحق والتوكل من حب الله ، وذكر القهر من جبروت الله ، وذكر الأفضال من ملكوت الله ، وذكر الآلاء من ملك الله ، وعلى قدر ظهور الصفات لهم تسرمد الذكر الذي وافق الكشف من الأسماء والصفات والنعوت والذات.

سبحان من خصّ الأولياء بكشوف صفاته ، سبق ذكره لهم بهذه الفضائل والقربات قبل ذكرهم إياه إلى الآزال ، فذكره جعلهم ذاكرين ، ورحمته جعلتهم متفكرين في جلاله وعظمته ، ومن عاش منهم عن حقيقة القدم ، صار متصفا بعد الذكر بصفة المذكور ، وخرج من مقام الذكر لغيبته عن الذكر في رؤية الأزل والأبد ، فعند ذلك الذاكر والذكر والمذكور في باب الاتحاد واحد في شرط الفردانية ، والموحد الذاكر يفنى ويبقى الموحد لا غير ، كما لم يزل في الأزل.

قال جعفر : (يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً) في مشاهدات الربوبية ، و (وَقُعُوداً) في إقامة الخدمة (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) في رؤية الزلف.

وقال الواسطي : كل ذاكر على قدر مطالعة قلبه بذكره ، فمن طالع ملك الجلال ذكره بذلك ، ومن طالع ملك رحمته ذكره بذلك ، ومن طالع ملك معرفته ذكره على ذلك ، ومن طالع ملك سخطه وغضبه كان ذكره أهيب ، ومن طالع المذكور أغلق عليه باب الذكر.

قال النصر آبادي : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً) بقيوميته ، أفمن هو قائم على كل نفس ، (وَقُعُوداً) بمجالسة ، «أنا جليس من ذكرني» (٢) ، (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) على إشادة (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ).

قال بعضهم : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً) يذكرونه قائمون باتباع أوامره ، (وَقُعُوداً) أي : قعودا عن زواجره ونواهيه ، (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي : وعلى اجتنابهم مطالعات المخالفات بحال.

__________________

(١) استغرق الذكر جميع أوقاتهم ؛ فإن قاموا فبذكره ، وإن قعدوا أو ناموا أو سجدوا فجملة أحوالهم مستهلكة في حقائق الذكر ، فيقومون بحق ذكره ويقعدون عن إخلاف أمره ، ويقومون بصفاء الأحوال ويقعدون عن ملاحظتها والدعوى فيها. انظر : تفسير القشيري (١ / ٤٣٦).

(٢) رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (١ / ١٠٨) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (١ / ٤٥١).

وقوله تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، التفكر في خلق السماوات والأرض على معنيين :

الأول : طلب غيبة القلوب في الغيوب التي هي كنوز أنوار الصفات التي تبرز منها مقادير الخلق ، يتفكرون في محض الربوبية ، وإرادتهم إدراك أنوار القدرة التي تبلغ الشاهد إلى المشهود بحقيقة رؤية الوصف.

والثاني : جولان القلوب بنعت التفكر في إبداع الملك في الملك ، طلب مشاهدة المالك في الملك ، الأول منزل التوحيد ، والآخر منزل الجمع.

قال بعضهم : هو رؤية الله قبل التفكر في الأشياء ، وواسطة التفكر أن ترى الأشياء قائمة بالله ، وفساد التفكر أن ترى الأشياء فيستدل بها على الله ، وقبل ذلك بالتفكر في صفات الحق لا في المحدثات ، ولو كان ذلك على المحدثات لقال : ويتفكرون في السماوات.

وقوله تعالى : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) تطرقوا من مقام الذكر إلى مقام التفكر في خلق الكون ، استرواحا من الاحتراق بنور الذكر بمروحة صفاء الفعل ، لكيلا يفنوا في مشاهدة المذكور ، وذلك غلبة المريدين في طلب الرفاهية ، وركوب الرخص ، ألا ترى كيف احتجبوا بالفعل عن الفاعل.

وأيضا : لمّا استحلوا رؤية الفاعل في الفعل ، ووجدوا حكم الأزلية بنعت التجلي في مرآة الفعل ، قالوا : (ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) أرادوا وجود الكون مرآة التجلّي المكون في مقام التفكر بعد إرادتهم زواله في صفاء الذكر ، غيرة على الغير ، وذلك قوله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ) ، وعلة ذلك أن الله سبحانه عرف مكان ضعف الخلق عن حمل مشاهدته ، صرفا فأظهر الكون ليتطرقوا بالوسيلة إليه ، كيلا يحترقوا في أول بوادي ظهور العظمة ، وسطوات الكبرياء رحمة وشفقة.

قال فارس : الحكمة في إظهار الكون إظهار حقائق حكمته بالفعل الحكيمي.

قال الخواص : أمرهم بالتفكر في خلق السماوات والأرض ، ثم قطعهم عن ذلك بقوله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) دلّهم عليها ، ثم حثّهم على الرجوع إليه ؛ لكيلا يقفوا معها ، وينقطعوا عن مشاهدته ، والإقبال عليه.

وقوله تعالى : (سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) لمّا نزل القوم من مقام الذكر الخالص بغير الوسائط إلى مقام التفكر في الأفعال والآيات ، ووقعوا في رؤية الخلق أدركوا مافاتهم من خوالص الذكر بقولهم : (سُبْحانَكَ) أي : أنت منزّه عن كل ذكر وفكر ، وكل خاطر وإشارة

وعبارة ، وأنت أعظم من أن يدركك أحد بوسيلة الكون ، حيث لم يدركك بكل ذكر خالص ، ولا يدركك إلا بك كل عارف ، سبحانك عمّا وصفناك بلسان الحدث ، أنت كما أثنيت على نفسك بقولك : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [المؤمنون : ٩١] ، و (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي : عن طلبنا بنا لا بك ، وعذاب النار عذاب البعد ، وذلك نيران الفراق وهو حرق من نار الظاهر.

قال النصر آبادي : (سُبْحانَكَ) أي : نزهت نفسك في نفسك بمعناك في معناك بما لا ، ومنك بك لك.

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨))

قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) أخبر الله سبحانه بهذه الآية عن أحكام توحيد القائمين في معهد الأزل بنعت المشاهدة والفناء في القدم ، بعد رجوعهم من الأرواح إلى الأشباح ؛ حيث سمعوا مناداة الحق وخطابه من لسان منادي الحق ، بشرط الوسائط بعد سماعهم خطابه صرفا ، أي : إننا سمعنا مناداتك بلسان الوسيلة ، فآمنا بشرط المشاهدة قبل مناداة الرسل ؛ حيث قلت : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) [الأعراف : ١٧٢] ، في المشاهدة والحضور بلا حجاب ، وأيضا (إِنَّنا سَمِعْنا) بأرواحنا وأسرارنا منك ، فآمنّا بك بغير علة ، فاتبعنا ظاهرا وباطنا مناديك ، وصدقناه بما وجدنا حلاوة اليقين في قلوبنا ، ومعنى الإيمان تصديق الكل برؤية الكل ، وسابقة نظر الأسرار إلى الأنوار ، وقبول الظاهر بيقين الباطن ، والشروع في العبودية بعد كشف الربوبية ، ومعاينة الغيب بالغيب.

قال القاسم : الإيمان أنوار الحق إذا اشتملت على السريرة ، وهو أن يغيب العبد تحت أنواره ، ويبدو له نجم الاحتراق فيغيبه عن وساوس الافتراق ، فيكون مصحوب الحق في أوقاته ، لا يشعر بتسخيره ، ولا يعلم بحجابه ، وإنما حجب الكل بالكل ، وحجب كلا بكليته ، وقمع كلا بحده ، لئلا يستوي علم أحد مع علمه ، فهذا هو صريح الإيمان.

وقوله تعالى : (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أي : اغفر قصور معرفتنا بك فإنه أعظم الذنوب ؛ حيث نطلب معرفة القدم بالحدث ، وكيف يكون مقارنة القديم بالمحدث ، (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) أي : تجاوز بكرمك عن كل خاطر يشير إلى غيرك بعد ما وجدنا حلاوة وصلتك ، (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) أي : توفنا مع الذين أنعمت عليهم بكشف مشاهدتك لهم ، وإيقاع محبتك في قلوبهم ، واستشواقك من صميم أسرارهم إلى جمالك ، واكتسابهم بكسوة رضا القديم ، حتى وقفوا معك بشرك الرضا في كل بلائك وامتحانك.

قال الشيخ أبو عبد الرحمن : مع من رضيت ظاهرهم للخلق ، وباطنهم لك.

وقيل : (الْأَبْرارِ) : هم القائمون على حد التفريد والتوحيد.

وقال سهل : الأبرار هم المتمسكون بالسنّة.

وقال بعضهم : هم الناظرون إلى الخلق بعين الحق.

قوله تعالى : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) أي : نحن احترقنا بنيران محبتك ، فأرونا بحسن مشاهدتك التي وعدت رسولك بقولك : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] ، وأيضا (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا) بلسان رسلك ، إنّ من اتبعهم تعطيه محبتك وسنيات آياتك وكراماتك ؛ حيث قلت : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ).

وقوله تعالى : (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : لا تحجبنا بنعمتك عنك ؛ حيث يشتغل أهل الفريقين بأنفسهم ، وهذا الدعاء من المعرفة تنزيه الأزلية عن الحدوثية ، واستغناء الربوبية عن العبودية ، حتى لو يحرق جميع الأنبياء والمرسلين ، لا يبالي بهم ، ولا تنقص من ملك جلاله ذرة لك ، عرفوا ما سبق لهم من حسن العناية ، فستزادوا تواتر الأنعام ؛ حيث تسلى الحق سبحانه قلوب الخائفين القانتين في رؤية العظمة ، بقوله : «سبقت رحمتي غضبي» (١).

__________________

(١) سبق تخريجه.

قال الشيخ أبو عبد الرحمن : أي : لا تجازنا بأعمالنا ، وعد علينا بفضلك ورحمتك ، إنك لا تخلف الميعاد ، بقولك : «سبقت رحمتي غضبي».

وتفسير قوله : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) عندي نفي علة الحدث عن ساحة الكبرياء ؛ لأن نقض العهد من شواغل أهل العلة ، أي : أنت منزّه عن خلف الوعد ، ونحن في محل الأمن من ذلك ، فإنّ أوصاف الحدثان لا تجري على عزة كبريائك.

قال الأستاذ في هذه الآية : أي حقق لنا ما وعدتنا على ألسنة الوسائط من كمال النعمة ، وتكفير السيئات ، وغفران كل ما سبق من متابعات الهوى.

قوله تعالى : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) في هذه الآية إشارة إلى تنزيه الأرواح من الخطرات ، وتقديس الأشباح من الشهوات ، هاجروا من غير الله إلى الله ، ثم إنّ الله تعالى حثّ الأعداء بإخراجهم عن ديارهم لحبّ عزته العاشقين الصادقين ، كيلا يركنوا بالطبع والحب إلى الإخوان والأوطان (١).

قيل في تفسيرها : تركوا الشرور ، وفارقوا أقرباء السوء.

وقوله تعالى : (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) إنّ القوم إذا لم يذوقوا مرارة إيذاء المنكرين لم يبلغوا حقائق الالتجاء إلى الله ، والفرار إليه ، فإيذاء الأضداد يهيج للأولياء إلى مقام القبض ، وضيق الصدور ، ذلك محل الامتحان من الله سبحانه ؛ لكظمهم غصص غيظ المنكرين ، لتفتح بعد ذلك أبواب الخطاب ، وصفاء البسط ، وسرور المنّة.

قال الجنيد : جزى الله إخواننا عنّا خيرا ، ردونا بحقائقهم إلى الله ، وهذا سنة الله التي قد جرت على أهل سلوك المعارف والكواشف ، قال تعالى : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٦٢].

قيل : غير القوم بصحبة الفقراء ومجالستهم ، والتزيي بزيهم ؛ لأن الفقر هو طريق الحق ، ألا ترى المصطفى ـ صلوات الله عليه ـ لمّا جلس معهم ، كيف قال : «المحيا محياكم ، والممات مماتكم» (٢).

__________________

(١) المظلوم منصور ، ولو بعد حين ، ودولة الحق تغلب دولة الباطل ، والمظلوم حميد العقبى ، والظالم وشيك الانتقام منه بشديد البلوى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) [النمل : ٥٢] ، وقد يجري من النّفس وهواجسها على القلوب لبعض الأولياء ، وأهل القصة ـ ظلم ، ويحصل لسكّان القلوب من الأحوال الصافية عنها جلاء ، وتستولي غاغة النّفس ، فتعمل في القلوب بالفساد بسبب استيطان الغفلة حتى تتداعى القلوب للخراب من طوارق الحقائق ، وشوارق الأحوال [تفسير القشيري (٥ / ٢٠٠)].

(٢) رواه ابن أبي شيبة في «المصنف» (٦ / ٤٠١) ، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٩ / ١١٧).

قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي : لا يعجبنك طوف المنكرين في البلدان لطلب الفصاحة البلاغة ، والتكلف في الآداب والزينة ، طلبا لصرف وجوه الناس والربانية والحيل بأولياء الله ، فإنّ أحوالهم مزخرفات فانية ، يريدون بها إسقاط جاه الصدّيقين عند الخلق ، وأنا بجلالي في كل نفس أرفع درجاتهم ، وأزيد في ملك ولايتهم رغما للمنكرين ، وإرغاما لأنوف المبطلين.

وأيضا : لا يغرنك ، ولا يفتتنك صحة أبدانهم ، وأين عيشهم في العالم ، وتيسير إقبال الدنيا إليهم في البلاد بجاههم عند العامة ؛ فإنهم يحاربونني بإهانتهم أوليائي ، ومبارزتهم معي بعداوة إحمائي ، فإن أيامهم قليلة ، وحسراتهم كثيرة عند طلوع أنواري من شرق العناية على وجوه أوليائي ؛ حيث قلت : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) [الزمر : ٦٩] ، أفتضحهم عند وضوح الكتاب ، وحضور الأنبياء والشهداء ، وهذا وعيد شديد لأهل أزماننا من السالوسيين الناموسيين.

قال يوسف في تفسير هذه الآية : لا تفتتنك الدنيا بوقوع الجهال عليها ، والاغترار بما فيها ، والتكثر بنعيمها ؛ فإنها زادهم إلى النار.

قوله تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) بيّن الله تعالى رفعة منازل المتقين في الجنان ، ثم أبهم لطائف العندية لهم ، بقوله : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) أي : ما عنده من نعم المشاهدة ولطائف القربة وحلاوة الوصلة ، خير مما هم فيه من النعيم في الجنة ، وأيضا صرح في بيان مراتب الولاية أنه ذكر المتّقين ، والتقوى تقديس الباطن عن لوث الطبيعة ، وتنزيه الأخلاق عن دنس المخالفات ، وذلك درجة الأول من الولاية ، والأبرار أهل الاستقامة في المعرفة ، وبيّن أن أهل التقوى في الجنة ، والأبرار في الحضرة.

وأيضا : أعجبوا الأبرار بما وجدوا من أنوار نيران المكاشفات ، ولطائف المناجاة ، وحقائق المشاهدات بنعت الوجد والحالات ، فأخبرهم أن ما هم فيه بالإضافة إلى ما عنده لهم في الآخرة كلا شيء في ذلك ، وذلك قوله تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) ، وأيضا لا يتعجبوا صورة أحكام أهل الدنيا في طراوتهم ، وحسن هيئاتهم ، أيها المريدون ؛ فإن شدائد مجاهداتك تورث سليم العيش في رؤيتي وقربتي ومشاهدتي.

قيل : ما عنده لهم خير ما يطلبونه بأفعالهم.

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ

الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١) أعلم الحق سبحانه حقيقة لهيب نيران فؤاد المشتاقين ، وتسلاهم بخطابه ، وبما أمرهم بالصبر في لوعة الفراق ، أي : اصبروا أيها المشتاقون في ركوب عظائم آلام المحبة والشوق على قلوبكم ، بتذكيركم بلوغ وصالي ، فإذا اشتد الأمر عليكم بالصبر في بلائي ، صابروا على الصبر لكيلا يجزع صبركم في عناء الفرقة ، والاحتراق في المحبة ، اصبروا بمشاهدتي ، وصابروا في طلبكم حقائق معرفتي ، اصبروا بأسراركم ، وصابروا بأسراري ، ولا تكشفوها عند الأغيار ، ورابطوا قلوبكم بكتمانها ، واتقوا الله في إفشاء السر ، كيلا تحتجبوا عنه ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وتظفرون بنعمة جمالي ، وحسن وصالي ، وتفوزون من أليم عذاب فراقي.

وأنشد أبو حمزة الصوفي :

نهاني حيائي منك أن أكتم الهوى

وأغنيتني بالفهم عنك من الكشف

تلطفت في أمري فإن أك شاهدا

إلى غايتي فاللطف يدرك باللّطف

وأنشد أبو بكر أحمد بن إبراهيم المؤدّب لإبراهيم الخواص :

صبرت على بعض الأذى خوف كلّه

ودافعت عن نفسي لنفسي فعزت

وجرّعتها المكروه حتّى تدرّبت

ولو جملة جرّعتها لاشمأزت

ألا ربّ ذلّ ساق للنّفس عزة

ويا ربّ نفس بالتّعزز ذلّت

إذا ما مدتّ الكف التمس الغنى

إلى غير من قال اسألوني فشلّت

سأصبّر نفسي إنّ في الصّبر عزة

وأرضى بدنياي وإن هي قلّت

وأنشد الشبلي في حقائق الصبر :

عبرات خططن في الخدّ سطرا

فقرأه من لم يحسن يقرا

صابر الصّبر فاستغاث به الصّبر

فصاح المحبّ بالصّبر صبرا

__________________

(١) المصابرة نوع خاص من الصبر ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه ، تخصيصا لشدته ، وصعوبته وكونه أكمل ، وأفضل من الصبر على ما سواه ، والصبر هو حبس النفس عما لا يرضاه الله ، وأوله التصبر ، وهو التكلف لذلك ثم المصابرة ، وهى معارضة ما يمنعه عن ذلك ثم الاصطبار ، والاعتبار ، والالتزام ، ثم الصبر ، وهو كماله ، وحصوله من غير كلفة [تفسير حقي (٢ / ٣٩٣)].

قال الجنيد : إنّ الله تعالى ذكر الصبر وشرفه وعظم شأن الصابرين لديه ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا) أمرهم بالصبر على الصبر ، ثم قال : (وَرابِطُوا) وهو ارتباط السر مع الله سرّا ، والوقوف مع البلاء جهرا ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصبر عند الصدمة الأولى» (١).

قال الحارث : الصبر التهدف لسهام البلاء.

وقال الجريري : الصبر إسبال التولي قبل وقوع البلوى ، فإذا صارف البلوى تلقاه بالتولي ولم يجزع.

وقال بعضهم : (اصْبِرُوا) تحت حكمي ، (وَصابِرُوا) في الحلاوة مع أعدائي ، (وَرابِطُوا) قلوبهم بموافقتي ورضائي.

وقال جعفر : (اصْبِرُوا) عن المعاصي ، و (وَصابِرُوا) على الطاعات ، (وَرابِطُوا) الأرواح بالمشاهدة ، (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : اجتنبوا الانبساط مع الحق ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) تبلغون مواقف أهل الصدق ، فإنّه محل الفلاح.

وقال بعضهم : (اصْبِرُوا) بجوارحكم على الطاعات ، (وَصابِرُوا) بقلوبكم مع الله ، (وَرابِطُوا) بأسراركم بالحقائق سبل الشوق والمحبة.

وقال بعضهم : (اصْبِرُوا) بالله ، (وَصابِرُوا) مع الله ، (وَرابِطُوا) أسراركم بالحقائق لعلكم تجردون عن همومكم وخطراتكم.

قال ابن عطاء : الصبر للمطيعين ، والمصابرة للمحبين ، والمرابطة للعارفين ، وقال : الصبر لله ، والمصابرة بالله ، والمرابطة مع الله.

وقال الأستاذ : الصبر فيها يتفرد به العهد ، والمصابرة مع العدو ، والرباط نوع صبر ، ولكن على وجه مخصوص.

ويقال : أول الصبر التصبّر ، ثم الصبر ثم المصابرة ، ثم الاصطبار وهو نهايته.

ويقال : (اصْبِرُوا) على الطاعات وعن المخالفات ، (وَصابِرُوا) في ترك الهوى والشهوات ، وقطع المنى والعلاقات ، (وَرابِطُوا) بالاستقامة في الصحبة في عموم الحالات.

ويقال : (اصْبِرُوا) على ملاحظة الثواب ، (وَصابِرُوا) على ابتغاء القربى ، (وَرابِطُوا) في محل الدنو أو الزلفة على شهود الجمال والعزة.

__________________

(١) رواه البخاري (١٢٠٣) ، ومسلم (١٥٣٤).

وقد وقع لي قول بعد أقوال أشياخ المعرفة زيادة على قولي في الآية قبل أقوالهم ، أنّ الله سبحانه أعلمنا في هذه الآية بيان أربع مراتب من عظائم مقامات أهل الكمال في التوحيد :

الأول : مقام المعرفة ، والثاني : مقام النكرة ، والثالث : مقام الفناء ، والرابع : مقام البقاء.

وأضاف الصبر إلى المعرفة ، والمصابرة إلى النكرة ، المرابطة (١) إلى الفناء ، والفلاح إلى البقاء ، أي : اصبروا في معرفتي حيث أعرفكم نفسي بنفسي ، فإن في عرفاني مباشرة السر بالسر ، وتخلق الصفة بالصفة ، واتحاد الذات بالذات.

أي : إذا كنتم في مقام الاتحاد بإدراك ربوبيتي ، اصبروا بكتمان دعوى الربوبية فإنكم في مقام المكر ، وأنتم لا تعلمون ، وإذا وقعتهم في بحار ألوهيتي ، واختلط بكم بحار السرمدية والأزلية ، ولا تعرفون طرق معرفتي بعد وقوعكم في نكرتي ، ونكرتي جهلكم بي بعد معرفتكم بي ؛ حيث امتزج ظلام القهريات بأنوار اللطفيات.

صابروا هناك لكي تدركونني فتربحون بكم ذوق وصالي ، وسكر مشاهدتي ، وصحو صحبتي من غمرات النكرات ، فإنكم في النكرة على محل غيرتي عليّ لكم ، وإذا انكشف لكم سطوات عظمة قدمي ، وبرزت أنوار أزليتي ، وأنتم في محل الاضمحلال والفناء عنكم ، ورابطوا أسراركم في أنواري ؛ كيلا تتلاشوا بي عني فيفوتكم إدراك لطائف الغيبية ، ووضوح أسرار الأزلية ، فإذا استفهم في الفناء عنكم ، ولقيتم بي عليّ تفلحون بإسبال بقائي عليكم حتى تخرجون من بحار الفناء بشرط البقاء ، فإذا صرتم باقين ببقائي ، فزتم عن ورطة الفناء بعد ذلك ، ولا تجري عليكم أحكام التلوين بعد الاستقامة والتمكين.

سورة النساء

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ

__________________

(١) قال ابن عجيبة : المرابطة أن يربط هؤلاء خيولهم ، وهؤلاء خيولهم ، إرصادا لمن حاربهم ، ثم أطلق على كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه ، وإن لم يكن له مركب ، إذا كان بنية الدفع عن المسلمين كان بأهله أو وحده ، المدار على خلوص النية [البحر المديد (١ / ٣٨٦)].

مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي : أيها الناسي عهد الأزل وميثاق القدم بشرط وفاء العبودية بعد خطابي ومعرفتي وتعريفي نفسي لكم ، حيث قلت : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] ، فأجبتم بقولكم : (قالُوا بَلى).

وأيضا : أيها الناسي جمال مشاهدتي ؛ حيث أخرجت أرواحكم من العدم بتجلي أنوار القدم ، فبصرتها بمشاهدتي ، وأسمعتها خطاب أزليتي باشتغالكم على حظوظ البشرية ومأمول الطبيعة.

وأيضا : أيها المستأنس بالمستحسنات من الأكوان والحدثان طلبا لمشاهدتي اعلم أنها أعظم الحجاب ؛ لأنها وسيلة حدثية وإيصال إلى أحد إلا بي ، ورؤية الأشياء في رؤيتي مكر.

وأيضا : أيها المستأنس في المستوحش من غيري فلا تغرنّ بي ؛ فإنك لي لا لك.

وأيضا : أي : أيها الناسي أنفسكم التي هي مخلوقة من الجهل بي ، فلا تخافون حيث ادّعيتم معرفتي ، ومعرفتي للقدم لا للحدث.

وأيضا : هذا خطاب لبني آدم ، أي : أيها الذين انتسبتم إلى ابن الماء والطين الذي اشتغل عني بأكل حبة حنطة حتى بكى عليها مائتي سنة إيش تفعلون بعده في مواقف القربة ، وتنزل المشاهدة بعد المعرفة ، فإن عذاب الفراق أليم ، لو تعرفون أنفسكم لا تشتغلون بالحدثان ، فإني اصطفيتكم بمشاهدتي وخطابي من بين البريات ، أما سمعتم قولي : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [الإسراء : ٧٠] ، وهذا الخطاب خطاب العتاب للمفارقين أوطان المآب ؛ ألا ترى إذا غضب عظيم على خادمه لم يسم باسمه ، ويقول : يا إنسان. ولا يقول : يا حسن ، يا أحمد ، أي أنت على محل الجهل بمرادي منك.

والإشارة فيه : إن الله سبحانه عرف أمر المعرفة عباده حيث اشتغلوا بسواه ، كأنه نبههم عن رمدة الغفلات بزواجر هذا الخطاب ، ويقول : أيها الناقضون عهد المعرفة والعشق ، أما تستحيون مني باشتغالكم بغيري ، اتقوا من فراقي وعتابي.

قال بعضهم : يا بني النسيان والجهل.

وقال ابن عطاء : أي كونوا من الناس الذين هم الناس ، وهم الذين أنسوا به ، واستوحشوا مما سواه.

وقال جعفر : أي : كونوا من الناس الذين هم الناس ، ولا تغفلوا عن الله ممن عرفه ، إنه من الإنسان الذي خصّ خلقته بما خصّ به ، كبرت همته عن طلب المنازل ، وسمت به الرفعة حتى يكون الحق نهايته ، ثم (إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٤٢] ، وسمو همته مما خصّ به من الاختصاص من التعريف والإلهام.

وقال بعضهم : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) خطاب العام ، و (يا عِبادِيَ) خطاب الخاص ، وخطاب خاص الخاص ، (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) ، (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ).

قوله تعالى : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) (١) أي : كونوا على تقديس الأسرار عند كشف الأنوار ، وعلى شرط الانفراد في محبتي عن الأغيار ، ولا تبغوا آثار الأشرار لتكونوا في منازل الصدق من الأبرار ، حذّرهم من نفسه.

والإشارة فيه : إن من مال سرّه في سيره إليه امتنع بعزته عن مطالعة جلاله ، كقوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨] ، وحقيقة التقوى قدس السر عما سواه بنعت الخوف من فراقه في متابعة هواه.

قال بعضهم : التقوى ترك المخالفات أجمع.

وقال بعضهم : تقوى الله هو الاجتناب من كل شيء سواه.

وقال الواسطي : التقوى على أربع وجوه : للعامة تقوى الشرك ، وللخاص تقوى المعاصي ، وللخاص من الأولياء تقوى التوسل بالأفعال ، وللأنبياء تقويهم منه إليه.

وقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) (٢) ، إن الله سبحانه ذكر جميع أوصاف قدمه وأمره ومشيئته ونعته وأفعاله في هذه الآية رمزا وإيماء ؛ لأنه تعالى لمّا أراد إبداع الخليقة لعرفانها حقوق الألوهية ، وانتشار أنوار المحبة الأزلية في فضاء القلوب وأماكن الأرواح تجلى ذاته لصفاته ، وتجلت صفاته لأفعاله ، وجمع علمه وحكمته وقدرته في نعت واحد وهو الأمر ، فقرنت الإرادة بالأمر ، فنظر في الأمر بنعت الكاف والنون إلى العدم من القدم ، فأظهر جوهر البسيط المجموع فيه الأجسام والأرواح والجوهر والأعراض.

__________________

(١) التقوى ترك كل شيء تقع عليه ؛ فهو في الآداب مكارم الأخلاق ، وفي الترغيب ألا يظهر ما في سره ، وفي الترهيب ألا يقف مع الجهل ، ولا تصح التقوى إلّا بالمقتدي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالصحابة ـ رضي الله عنهم. [تفسير التستري (١ / ١٨٦)].

(٢) أخرج النّسمة من نفس واحدة وأخلاقهم مختلفة ، وهممهم متباينة ، كما أن الشخص من نطفة واحدة وأعضاؤه وأجزاءه مختلفة ؛ فمن قدر على تنويع النطفة المتشاكلة أجزاؤها ، فهو القادر على تنويع أخلاق الخلق الذين أخرجه من نفس واحدة [تفسير القشيري (٢ / ٤٧٩)].

ثم نظر إليه بنظر الهيبة والعظمة والجود ، فأنشر منه ما سبق علمه في الأزل به من العرش إلى الثرى على صور وهيئة كانت منقوشة بنقوش خواتيم أفعاله ، وذلك المبدع هو أحمد ـ صلوات الله عليه ـ حيث قال : «أوّل ما خلق الله نوري ، فكنت كذا وكذا» (١) ، حتى ذكر أن من العرش إلى الثرى خلق من نوره وهو آدم عليه‌السلام الأول الذي قال تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ، ثم جمع الأرواح والأشباح والأنوار والأسرار في قبضة عزته ، وخمرها بطينة آدم عليه‌السلام في أربعين ألف صباح من صبح الآزال والآباد ، حتى خلقه بخلقه ، وأنشأه بروحه ، فقال : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] ، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص : ٧٢] ، فباشرت فيه يد الأزل والأبد ، وظهر فيه قدس القدم بجميع الأسماء والصفات والنعوت والأفعال ، فصوره بصورة الملك ، فتتشعب منه أماكن أسرار القديم من خلق الأولين والآخرين ، وهو صورة عين الجمع التي أظهر الحق منها أوصاف قدمه ، ألا ترى إلى قول سيد البشر ـ صلوات الله عليه ـ كيف قال في المتشابهات : «إن الله خلق آدم على صورته» (٢) ، وهو آدم الثاني.

قوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً) ، أخبر عن مقام الجمع بقوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ، ثم أخبر عن التفرقة بقوله : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً).

وبيّن بعض ما أشرنا أستاذ الأستاذين شيخ التمكين عمرو بن عثمان المكي ـ رحمة الله عليه وقدس روحه ـ وقال : إنّ الله خلق العالم ، وهيأه باتساق نظم واحد من أطرافه وأكنافه ، وأوله وآخره ، وبدؤه ومنتهاه ، من أسفله إلى أعلاه ، وجعله بحيث لا خلل فيه ولا تفاوت ولا فطور ، أحكم بناءه باتصال تدبيره ، وحبسه على حدود تقديره وإن اختلفت أجزاؤه في التفرقة والأجسام والهيئات والتخطيط والتصوير ، وفرّقه بتفرقة الأماكن ، وحققه بائتلاف المصالح ، فهو مربوط بحدود تقديره ، ومتتابع باتصال تدبيره ، وبث فيه الأجناس بينهما من شواهد الزينة ، فأظهر القدرة بإيجاد آدم عليه‌السلام ، ثم بث أولاده في البسيط إلى تصاريف التدبير لهم والمشيئة ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [الأعراف : ١٨٩].

وقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) ، أكّد التحذير ، وبيّن القدرة والتقدير أي : احذروا عمّن هو قادر لإيجاد الخلق من لا شيء ومن شيء ترك مخالفته ؛

__________________

(١) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ٣١١).

(٢) رواه البخاري (٥ / ٢٢٩٩) ، ومسلم (٤ / ٢٠١٧).

فإنه قادر أن يعدمكم ، حتى لم تكونوا أبدا كما لم تزالوا معدوما ، والمعدوم محجوب عن ديوان النبوة والولاية.

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) أي : اتقوا من فراق الذي تسألون منه به مشاهدته ووصاله ، وخوّفهم بالأرحام ، أي : اجتنبوا من مخالفة أوليائي رحم الصحبة ، قال : صحبتي موصولة بصحبتهم ، ومن فارق منهم فارق مني.

قال الأستاذ : أي فاتقوا الأرحام أن تقطعوها ، فمن قطع الرحم قطع ، ومن وصلها وصل.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) ، ذكر التقوى وأكّد التقديس الأسرار ، وليقع نظرات تجليه على مواقع القلوب ، وصميم الأرواح بلا علة وجود الغير فيها ؛ لأنه منزّه لا يصل إليه إلا منزّه عن غيره ، وهو ناظر إلى مواطن القلوب من الغيوب ، وترفرف أنوار قربه عليها ، فإذا يرى فيها ذكر الغير يرتحل مطايا أنواره منها إلى معادن الألوهية والربوبية ، وذلك قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً).

وأيضا : مقام الهيبة ووقوع نور العظمة على القلب الصافي بنعت حفظه عن خطرات الحوادث ، والقلب العارف المنقلب في معارج الصفات ، وهو تعالى استأثر حفظه بنفسه لا يكل حفظه إلى غيره ، وبيان ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن ، يقلّبها كيف يشاء» (١) ، وإذا راقب العبد ربه في البداية راقبه الله في النهاية ، كقوله عليه‌السلام لابن عباس : «يا غلام احفظ الله يحفظك» (٢) ، والمراقبة منه الحفظ والكلاءة ، وفيه بيان تسلية الله سبحانه قلوب المحزونين المشتاقين إلى جلاله ، أي : أنا ناظر إلى أسراركم ، وأعلم حرقتكم وهيجانكم ؛ إني أجازيكم بوصلي ، وأواسيكم بجمالي.

وأيضا : أخبر الله تعالى عن شوق قدمه قبل الحوادث إلى وجوه أصفيائه ، أي : كنت مراقبا بنفسي بغير علة التغاير بخروجكم من العدم إلى شواهد القدم ، ومن شواهد القدم إلى نور العدم ، كما قال : «وإنّي إليهم أشدّ شوقا» (٣) ، وكان إخبار عن الأزلية في الأزلية.

قال ابن عطاء في قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) قال : عالما بما تضمر من سرّك ، وما تخفيه من خواطرك ، فراقب من هو الرقيب عليك.

__________________

(١) رواه الترمذي (٤ / ٤٤٨) ، وأحمد (٣ / ١١٢).

(٢) رواه الترمذي (٤ / ٦٦٧) ، وأحمد (١ / ٢٩٣).

(٣) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٨ / ٤٥٤).

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٦) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧))

قوله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) المال هاهنا حقائق المعرفة التي لا يعرفها إلا الربانيون ، أي : لا تظهروها للمبتدئين ؛ لئلا تفسد عقائدهم.

وأيضا : لا تعطوا المال إلى غير من يبلغ درجة التمكين ؛ فإنه يهلك في تصرفه.

قيل : أولادكم الذين يمنعونكم عن الصدقة.

قوله تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) الرشد هاهنا والله أعلم : معرفة الله ومحبته وسلوك سبيله على موافقة السنة.

وقيل : أصحابه الحق ، وقيل : القيام في العبادات على شرط السنة.

قال ابن عطاء : الرشيد من يفرق بين الإلهام والوسوسة.

وقوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) هذه التسلية للمشتاقين أي : كفى بكم عدي أنفاسكم التي تنفستم بها في غلبة شوقكم إلى لقائي ، فأجازيكم بكل نفس بوصل بلا فصل ، وأنا حسبكم ، ومشاهدتي حسبكم ؛ لأنه بلا نهاية ولا حجاب ، وتخوف به أهل المراقبة ، لئلا يخطر على قلوبهم خاطر دونه.

قيل : الحسيب الكريم أن يوفيك ما لك ، ولا يناقشك فيما عليك.

قال ابن عطاء : الحسيب الذي لا يضيع عنده عمل.

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠) يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ

وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١))

قوله تعالى : (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ) أمر الله سبحانه أولي النهايات من العارفين إذا انفتحت لهم خزائن جود المشاهدة ، وانكشف لهم حقائق علوم الربوبية أن يقسمها على تلامذتهم من المريدين الصادقين على قدر مراتبهم ، ومذاق حالاتهم.

و (أُولُوا الْقُرْبى) أصحاب الصحبة ، (وَالْيَتامى) الساقطين عن الدرجة.

(وَالْمَساكِينُ) أهل السلوك من المجاهدين أي : حدثوا عن نوالي عند هؤلاء لتزداد محبتهم فيّ ، وشوقهم إليّ ، لأزيد عليكم نعمتي ، فإن كشفكم لطائفي عندهم شكر نعمتي.

و (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم : ٧] ؛ فارزقوهم من موائد القربة وخوان العناية لقيمات الحقائق ، وإن هذا يحدث من نعمتي ، ولذلك أمر صفي المملكة ورئيس القربة أن يذكر لطيف صنعي به على أمته ، لزيادة محبتهم جماله وجلاله بنعت بذل مهجتهم له ، بقوله : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : ١١].

قال محمد بن الفضل : دلت هذه الآية على كرم الله تعالى مع عباده ؛ لأنه أمر إذا حضر من لا نصيب له في الميراث أن يرزقهم منه ، دل بهذا أنه إذا حضر عباده يوم القيامة في المشهد العظيم أنه يتفضل بعطائه على من لم يكن مستحقّا لعطائه بمخالفته بإيصال رحمته إليه بفضله (١) وسعة رحمته ، وبلوغه إلى منازل أولي الأعمال ؛ لأنه قال : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس : ٥٨] ، من أفعالكم وطاعاتكم التي اعتمدتم عليها ، واعتمدوا فضلي وسعتي ورحمتي.

قوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ

__________________

(١) قال ابن عجيبة : فضل الله : أنوار الإسلام والإيمان ، ورحمته : أنوار الإحسان ، أو فضل الله : أحكام الشريعة ، ورحمته : الطريقة والحقيقة ، أو فضل الله : حلاوة المعاملة ، ورحمته : حلاوة المشاهدة ، أو فضل الله : استقامة الظواهر ، ورحمته : استقامة البواطن ، أو فضل الله : محبته ، ورحمته : معرفته ، إلى غير ذلك مما لا ينحصر ، ولم يقل : فبذلك فلتفرح يا محمد ؛ لأن فرحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالله ، لا بشيء دونه. [البحر المديد (٢ / ٤٩٩)].

فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) ندب الله سبحانه عباده عند مفارقتهم الدنيا إلى أن يوصوا أولادهم بتقوى الله وتوحيده ، وتحبيبهم له ، وحثهم بالشوق إلى لقائه ، والقول المعروف وصف الله ، وذكر أفضاله وإنعامهن وأمرهم بتقوى الله في ذلك ألا يداهنوهم فيما يروا منهم من الميل إلى غير الله ، وأن يعطيهم تقواهم بالميراث ، فإذا كانوا متفقين ، فإن الله خلفهم في أولادهم ، وهكذا شأن المشايخ عند مفارقتهم من المريدين إلى دار الآخرة ، حتى لا يخفوا عنهم أسرار المقامات والحالات ، ويكلوهم إلى الله بعزائم التوكل وتحقيق اليقين ؛ فإنه لا سبيل للشيطان إليهم بعدهم.

قيل : استعينوا على كثرة العيال ، وقلة ذات اليد بالتقوى ، فإنه الذي يجبر الكسير ويغني الفقير.

وقال جعفر بن محمد : الصدق والتقوى يزيدان في الرزق ، ويوسعان المعيشة ، قال الله تعالى : (فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً).

وقال الأستاذ في هذه الآية : إن الذي ينبغي للمسلم أن يدّخر لعياله التقوى والصلاح لا المال ؛ لأنّه لم يقل : فليجمعوا المال ، وليكثروا لهم العقار والأسباب ، ويخلفوا العقل والأثاث ، بل قال : (فَلْيَتَّقُوا اللهَ) ؛ فإنه يتولى الصالحين ، وقد وقع لي قول آخر ، وهو أنّ المرء يطلب في طول عمره الأموال الكثيرة ، ويدّخرها لأولاده حتى يموت ، وهم يعيشون بها ، فإنّ الله سبحانه علم نيته ، أنّه يكل أولاده إلى المال والميراث ، فحذّره من ذلك ، وأمره بتقوى الله ، فإن نيته في ذلك منازعة قدره ؛ فإنّه تعالى يفعل بهم ما يشاء ، من يتوكل على الله فهو حسبه ، وهو خلفه بعده.

قوله تعالى : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) أشكل الأمرين من هاتين الطائفتين أنهما يبلغان إلى درجة الولاية والمعرفة الموجبة مشاهدة الله وقربه ، التي لو وقعت ذرة منها لأحد من هذه الأمة ينجو بشفاعته من النار سبعون ألفا بغير حساب ، أي اخدموا آباءكم ، وارحموا أولادكم ، فربما يخرج منهم صاحب الولاية يشفع لكم عند الله سبحانه ، وحكمة الإيهام هاهنا تشمل الرحمة والشفقة على الجمهور ؛ لتوقع ذلك الولي الصادق.

قال ابن عباس في قوله : (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) : أطوعكم لله عزوجل من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة ؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض ، فإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله والديه إلى درجته ، لتقرّ بذلك عينه ، وإن كان الوالد أرفع درجة من ولده رفع الله الولد إلى درجتهم لتقرّ بذلك أعينهم.

قيل : (آباؤُكُمْ) ببرّهم ، (وَأَبْناؤُكُمْ) بالشفقة عليهم ، والتأديب لهم هما بمحل النفع.

(وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢) تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤) وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦))

قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) حسم الله سبحانه أبواب حكمته في أمر فرائضه في كميتها وكيفيتها على الخليقة ، لوضع رقابهم على باب الربوبية عجزا ، وتواضعا في عظمته وكبريائه ، واستأثر نفسه بعلم ذلك ، لئلا تجاوز حدوده أحدا من خلقه ، ولكل صادر وارد معارفه وكواشفه حدّ يمنعه من مطالعة صمديته وأحديته ، وحدود الله برزخ بين بحر الحدث وبحر القدم ، لا يختلطان ؛ لأنّ القدم منزّه عن مباشرة الحدثان.

قال محمد بن الفضل : حدود الله أوامره ونواهيه ، فمن تخطّاها فقد ضلّ في سبيل الرشد.

قيل : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) : أي الإظهار من الأحوال للمريدين على حسب طاقتهم لها ، فإنّ التعدي فيها يهلكهم.

وقال أبو عثمان : ما هلك امرؤ لزم حده ، ولم يتعد طوره.

وقال بعض البغداديين : العبد ينقلب في جميع الأوقات على الحدود ، دخل في هتك الحرمات ، قال الله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها) [البقرة : ١٨٧] ؛ لأنّ المرتع إلى

جانب الحمى ربما يخالط الحمى.

(إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨))

قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) ظاهر الآية في (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) على بمعنى من أي : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ) على لسان القوم.

الإشارة فيه : أن من وقع في المعصية وقع في الظلمة والحيرة ، ولا يرى سبيل الرشد ، ولم يكن في وسع البشر أن يهدي نفسه إلى طريق الحق ، فإنه هو الهادي ، والهداية متعلقة بأوصاف قدمه ، ويستحيل أن يكون الحادث على وصف القديم ، فإذا على الله نعته ووصف نفسه بالهدى لأنّه الهادي أن يرجع إلى عبده المتحير الذي زلّ قدمه في شهوات طبعه ، فإنه لا يقدر أن يخلّص نفسه من قهر الله ، إنّما تخليصه شرط كرمه الفياض ، الذي وصف به نفسه تعالى للمذنبين الذين يقصدون حظوظ البشرية بغير الاختيار.

قال : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ٥٤] فبقى (عَلى) بشرط الظاهر بقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى) إنّما الرجوع منه إلى العبد شرط الرحمة الواسعة ، التي بها ، قال : «سبقت رحمتي غضبي» (١).

هذه سنة الله على أبينا آدم صلوات الله عليه بعد أكل الحنطة بقوله : (فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ٣٧].

وقال : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) [طه : ١٢٢] ، وخصّ توبته ورجوعه للذين يعملون السوء بجهالة ، إخبارا عن عطفه ولطفه بأقوام امتحنهم الله في بدو الإرادة في بعض حظوظ أنفسهم لإيقاع نيران الندم والخوف والحياء والإجلال في قلوبهم ؛ لئلا يرفعوا أعناقهم بعد اتصافهم بنعوت الكبرياء وبلوغهم حقائق الانبساط ومقامات الاتحاد ، فيسقطون عن رؤية الأزلية ومشاهدة الأبدية في فنائهم عن الحدوث وتخلقهم بخلق القدم ، وإضافة السوء إليهم ونسبتهم إلى الجهل.

__________________

(١) رواه البخاري (٦ / ٢٧٤٥).

أي : الذين يعملون سنيات الطاعات على رؤية الأعواض جهلا بمكره ، وقلة عرفانهم بعزته وتنزيه جلاله عن طاعة المطيعين ومعصية العاصين ، يعملون الطاعات ، ويرونها أنها هي شيء ويتقربون بعلل الحدث إلى جناب القدم ، فإذا صاروا مبصرين جمال مشاهدته استحيوا من ظنونهم بطاعاتهم في جلال عظمته ، وذلك قوله تعالى : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) ، عليما بشوقهم إلى لقائه ، حكيما بتربيتهم في معرفته.

وقيل في قوله : (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) : الذين يتقربون بالطاعات إلى من لا يتقرب إليه.

وقال محمد بن الفضل : ضمن الله التوبة لمن يصدر منه الذنب من غير قصد لا صحّ إلى من يضمره ، ويتأسف على فوته ، قال الله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ

الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨))

قوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي : كونوا في معاشرتهم في مقام الأنس وروح المحبة وفرح العشق حين أنتم مخصوصون بالتمكين والاستقامة في الولاية ، فإنّ معاشرة النساء لا تليق إلا بالمستأنس بالله كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجميع المستأنسين من الأولياء والأبدال ؛ حيث أخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كمال مقام أنسه بالله وروحه بجمال مشاهدته ، فقال : «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وجعلت قرّة عيني في الصلاة» (١).

وهكذا حال يوسف عليه‌السلام حين همّ فيها ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) [يوسف : ٢٤].

وقال ذو النون : المستأنس بالله يستأنس بكل شيء مليح ، ووجه صبيح ، وبكل صوت طيب ، وبكل رائحة طيبة.

وأيضا : (وَعاشِرُوهُنَ) بطلب ولد صالح منهن.

وأيضا : (وَعاشِرُوهُنَ) أي : باشروهن حين رغبتكم في مرادكم منهن ، فإنّ المعروف لا يقع إلا على استواء من كلا الجانبين على نعت واحد.

وأيضا ، أي : عرّفوهن صفات الله وأسماءه ، ورغّبوهن في طاعته بنعت العلم ، وشوّقوهن إلى جماله وجلاله. قيل : علّموهن السنن والفرائض.

قال عبد الله بن مبارك : العشرة الصحيحة ما لا تورثك الندم عاجلا وآجلا.

قال أبو حفص : المعاشرة بالمعروف حسن الخلق مع العيال فيما ساءك وما كرهت صحبتها.

__________________

(١) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (١ / ٤٠٧).

قوله تعالى : (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) كل أمر من الله سبحانه جاء على مخالفة النفوس امتحانا واختبارا ، والنفس كارهة في العبودية ، فإذا ألزمت عليها حقوق الله بنعت المجاهدة والرياضة ، واستقامت في عبودية الله أوّل ما يطلع على قلبك أنوار جنان القرب والمشاهدة ، قال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) [النازعات : ٤٠] ، وفي أجواف ظلام المجاهدات للعارفين شموس المشاهدات وأقمار المكاشفات.

قيل في تفسير الخير هاهنا : الولد الصالح.

قيل : غيب عنك العواقب ؛ لئلا تسكن إلى المألوف ، ولا تنفر من مكروه.

قوله : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) أي : أن يصرح لكم ما أشكل على قلوبكم من علوم الغيبة وأحكام الإلهامية وحقائق الشرعية ليقتدي بكم المريدون ، ويستفيد منكم الصادقون.

قيل : أي أنه ليس إليكم من أموركم شيء.

وقال الأستاذ : أي يكاشفكم بأسراره ، ليظهر لكم ما أخفي على غيركم.

قوله تعالى : (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (١) يعني : طرق معارف الأنبياء وكواشف الأصفياء وسبل مقاماتهم وحالاتهم ورياضتهم.

قيل : سنن الأنبياء والصدّيقين التفويض والتسليم والرضا بالمقدور ساء أم سرّ.

قوله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) إرادته قديمة ، وزلتنا محدثة ، ومراده تعالى من ذنبنا رجوعه إلينا بنعت استقباله علينا ، وهذا من كماله محبة عبادة في الأزل.

قال النصر آبادي : أراد لك التوبة فتاب عليك ، ولو أردته لنفسك لعلك كنت تحرم.

قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) أي : أن يخفف عنكم من ثقل أوزار المعصية إذا باشرتم أمره بمراده ، وإذا استقبل العبد إلى الله سبحانه في قبول أمره ثقلت عليه النفس ، فإذا صبر في العبودية رفع الله أثقال النفس عنه حتى صار مخففا في عبادته ، قال تعالى : (وَإِنَّها

__________________

(١) إنما ينزل المريد إلى العلوم الرسمية ، أو الأعمال الحسية ، إذا خشي الانمحاق أو الاصطلام في بحر الحقائق ، وإن صبر وتماسك ، حتى يتقوى على حمل أعبائها ، فهو خير له ، لأن الرجوع إلى الحس ، لا يؤمن من الحبس ، والله غفور لمن تنزل لعلة ما تقدم ، رحيم حين جعل له الرخصة ، (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) سلوك الطريق إلى عين التحقيق ، ويهديكم طرق الوصول ، كما هدى من قبلكم ، ويتوب فيما خطر ببالكم ، من الفترة أو الوقفة ، والله يريد أن يتعطف عليكم ، لترجعوا إليه بكليتكم. [البحر المديد (١ / ٤١٦)].

لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥].

ثم إنّ لطاعته وأمره وقوله ثقل الربوبية بقوله : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) [المزمل : ٥] فيرفع الله عن عارفه في مقام المشاهدة ثقل الربوبية والعبودية ، ويسهل أمرهما عليه ، ويحمل عنه له ، قال تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) [المزمل : ٢٠] ، وقال : (طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) [طه : ١ ، ٢].

وتصديق ذلك قوله : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً).

قيل : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) أثقال العبودية ؛ لعلمه بضعفكم وجهلكم.

وقيل : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) ما جهلتموه بجهلكم من عظيم الأمانة.

يقال : يخفف عنكم أتعاب الطلب بروح الرضوان.

ويقال : يخفف عنكم كلفة الأمانة بحملها عنكم.

ويقال : يخفف عنكم مقاساة المجاهدات بما يفتح بقلوبكم من أنوار المشاهدات.

قوله تعالى : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) أي : عن حمل واردات الغيب وسطوات المشاهدة وكشوف الصفة وضعف هيجانه وهيمانه وزعقاته وشهقاته ودورانه وسيرانه.

قيل : ضعيف الرأي وضعيف العقل إلا من أيّد بنور اليقين ، فقوته باليقين لا بنفسه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١))

قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) هذا خطاب أهل الرفاهية والأنس والروح والبسط ، أي : لا تقتلوا أنفسكم المطمئنة بالمجاهدات والرياضات ، ولا تحملوا مشقة الجهل في العبودية قلوبكم الروحانية ، ولا تؤذوا أرواحكم القدسية بشروعكم فيما لا يليق بالبداية ؛ فإنّ هذه الأشياء تمنع الأرواح العاشقة من طيرانها في عالم المشاهدات ، وتغم عليها أنوار المكاشفات.

وتصديق ذلك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) أي : كان في الأزل رحيما بأوليائه في وضع أثقال العبودية الشاقة عنهم في مقام مشاهدتهم روح قلوبهم بالله.

ألا ترى كيف سهّل على سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه أمر العبودية بقوله :

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) ، وبيّن أن قربته ووصله تتعلق برحمته السابقة لا بأمانة النفوس وكثرة المجاهدات.

وأيضا : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) الروحانية الملكوتية بمتابعة هوى النفوس الأمارة الشيطانية ؛ فإنّ النفس الروحانية في جوار النفس الأمارة ، وإذا علت بهواها على النفس الروحانية أظلمتها بغيم المعصية.

قال بعضهم : لا تهلكوا أنفسكم بارتكاب المخالفات واستكثار الطاعات.

قال محمد بن الفضل : باتباع هواها ، قال : فقيل : لا تغفلوا عن حظ أنفسكم ، فمن غفل عن حظ نفسه فكأنه قتلها (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً).

ويقال : بنظركم إليها ، وملاحظتكم إياها.

وقال علي بن موسى الرضا ، عن أبيه ، عن جعفر ـ رضي الله عنهم : معناه لا تغفلوا عن أنفسكم ؛ فإنّ من غفل عن نفسه غفل عنه ربه ، ومن غفل عن ربه قتل نفسه.

قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) (١) الكبائر هاهنا في الإشارة رؤية العبودية في مشهد الربوبية ، ورؤية الأعواض في الخدمة ، وميل النفس إلى غير الله من العرش إلى الثرى ، والسكون والوقفة في مقام الكرامات ، وإظهار المقامات قبل بلوغها برسوم الرسومات والخطرات السارقة الجارية بخفيات ضمائر الرضا في بطنان ضمائر الأسرار ، وهذه المحن حجبات المعارف من بقي فيها تقاعد عن سلوك المعرفة ، واحتجب بنفسه عن نور المشاهدة ، وأنّه تعالى نبّهنا أن من حجب عنها ، وإن باشرها يعينه ويؤيده بتخليصه عنها وبرفع الوحشة والكدورة التي بقيت منها في قلبه عن ذلك.

قوله تعالى : (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) ومن خرج عن هذه الظلمات أدرك ما فاته من المقامات ، وزاد قربه في المشاهدات بقوله تعالى : (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً) والمدخل الكريم : وصال جماله وإدراك لطائف نواله.

قال أبو تراب : أمر الله باجتناب الكبائر ، وهي الدعاوى الفاسدة ، والإشارات الباطلة ، وإطلاق اللفظ بغير الحقيقة.

__________________

(١) الكبائر ـ على لسان العلم ـ هاهنا : الشّرك بالله ، وعلى بيان الإشارة أيضا الشّرك الخفيّ ، ومن جملة ذلك ملاحظة الخلق ، واستجلاء قبولهم ، والتودد إليهم ، والإغماض على حق الله بسببهم ، ويقال : إذا سلم العهد فما حصل من مجاوزة الحد ؛ فهو بعيد عن التكفير ، ويقال : أكبر الكبائر إثباتك نفسك ، فإذا شاهدت نفيها تخلّصت من أسر المحن [تفسير القشيري (٢١ / ٤٧٢)].

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣))

قوله تعالى : (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ) التمني هاهنا وصف النفس الأمّارة التي رأت الأشياء بعين الجهل ، وقصورها عن حقائق المقادير الأزلية التي سبقت في الجمهور على قدر مراد الله والاستعداد ، وذلك التمني وهمها على غير قصد الحق من رؤية هواها ، ولو كان طلب القلب سني المقامات من الحق سبحانه بنعت التواضع وصدق الافتقار لكان مما يوجب البلوغ إليه ، وذلك قوله : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ).

وأيضا : زجرا للضعفاء عن جمال أحكام المجاهدات ، ومقام أهل المشاهدات.

وقال بعضهم : لا تتمنوا منازل السادات والأكابر أن تبلغوها ، ولم تهذبوا أنفسكم في ابتداء إرادتكم برياضات السنن ، ولا إسراركم بالتطهير عن الهمم الفاسدة ، ولا قلوبكم عن الاشتغال بالفانية ، فإنّ الله قد فضّل بهذه الأحوال أولئك ، فلا تقربوا إلى الدرجات الأعلى ، وقد ضيقتم الحقوق الأدنى.

قال أبو العباس ابن عطاء : لا تتمنوا ؛ فإنكم لا تدرون ما تحت تمنيكم ، فإن تحت أنوار نعمه نيران محنه ، وتحت نيران محنه أنوار نعمه.

قال الواسطي في هذه الآية : إن تمنى ما قدر له ، فقد أساء الظن بالحق ، وإن تمنى ما لم يقدر له ، فقد أساء الثناء على الله بأن ينقص قسمته من أجل تمني عبده.

قوله تعالى : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) أمر بالسؤال ، ونهى عن التمني ؛ لأن السؤال افتقار ، والتمني اختبار ، والسؤال استرداد النعمة ، والتمني الاقتحام في المحنة.

وعرف تعالى طلابه عظم فسحة سرادق كبريائه وجلاله ووسع عطايا أزليته أي : أنتم يا دنيات الهمم لا تنظروا إلى فقيرات الفيض ، فإنّي واسع الفضل والعطاء ، لو أعطي ألف جنان في طرفة عين إلى عبد واحد لم ينقص من ملكي ذرة ، أين وقعتم من رؤية جلال قدمي وبحار منني ، انظروا مني إليّ ، واسألوا زيادة فضلي ، فإنّي وهّاب كريم.

وافهم أنّ للسؤال مقامات ، ولتلك المقامات آداب ينبغي أن يعرفها العبد ، فإنّ من ترك السؤال في مقام الانبساط ، وسأل في مقام الهيبة استعمل سوء الأدب ، ويسقط من عين الله.

ووبّخ الله سبحانه بهذه الآية أهل دناءة الهمة ، والمقصرين في طلب مشاهدته ؛ حيث

خاطبهم (وَلا تَتَمَنَّوْا) ، فقال : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) حجبهم جميعا بالفضل عن رؤية جماله ، ولو كان على محل التحقيق من معرفته ومحبته لم يحملهم إلى الفضل ، بل يردهم إلى نفسه ، كما وصف صفيه عليه‌السلام ؛ حيث عرض إليه الأكوان والحدثان في مقام المشاهدة ، ما زاغ سره إليها ، بقوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧].

قال ابن عطاء في قوله : (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) : فإنّ عنده أنوار كرمه.

قال الواسطي : لو لم يعط إلا على السؤال لكان الكرام ما هو أمر المعروف بالكرم من يبتدئ بالعطاء قبل السؤال.

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥) وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦))

قوله تعالى : (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) فالصالحات العارفات بالله ، وبحقوق الله ، وبأمر الله ، وبعفو الله وبعقوبته ، وبما وجب عليهن من حقوق أزواجهن في حسن معاشرتهن معهم ، والنصيحة في أمرهم ، والقانتات قائمات على باب الله بخلوص نيتهن في عبوديته ، والشوق إلى لقائه والتواضع في خدمته.

(حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) أي : ساترات على ما كوشف لهن من أحكام الغيب ، وأنوار القرب حتى لا يطّلع عليهن أحد ؛ حياء من الله ، وسترا على حالهن ؛ لئلا يخرجن من حدة الوجد وصفاء الود ، ومتابعة قول الله سبحانه بما أمرهن ، قال : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) [الأحزاب : ٣٣].

ولما رقّت زجاجات قلوبهن بنيران الخوف ونور الرجاء ولطف المراقبة وسناء الشهود ورقة الملازمة في البيوت وشوقهن إلى عالم الآخرة علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك منهن ، وأمر الحادي

بالسكوت عن إنشاد الشعر فقال : «يا فلان إياك والقوارير» (١).

ولا يكون ذلك إلا بما حفظن الله من الغلبات ، والخروج من الحجرات ، فتولى حفظهن بنفسه ، يعني حفظهن أنفسهن بحفظي إياهن ، كما أخبر من لطفه تعالى على أم موسى عند غلبات شوقها إلى موسى ، فقال : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) [القصص : ١٠].

وأيضا : (حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ) أي : ما رأين من أزواجهن من الكرامات وأسرار الله التي انكشفت لهم فلا يقلن عند أحد.

وأيضا : بما رأين من فقرهم ومجاهدتهم وعبادتهم ؛ لئلا يفتتنوا برياء الخلق ، ولا يقعن في الشكاية عنهم ، وأيضا : حافظات لفروجهن وعوراتهن من خوف الله ؛ فإن خوف الله يمنعهن من هتك الأستار.

قال بعضهم : بحفظ الله لهن صرن حافظات للغيب ، ولو وكلهن إلى أنفسهن لهتكت ستورهن.

(فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) اختلفت طينة الأشباح في التداني والتباعد ، وهكذا جوهر الأرواح وقت إيجادها ، فوقعت بينها منازعة ؛ لتفاوت الأخلاق والحالات والمقامات.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف» (٢).

من هنا وقع النشوز والخلاف بين الأزواج ؛ لتفاوت السجيات ، فإذا جعل بالممارسة والمجاهدة والرياضة صوره طاعة ، طاعة الرجال فلا ينبغي أن يطلبوا منهن مرافقة الطباع ومجانسة الأشباح والأرواح ؛ فإن ذلك منازعة القدر ، وهذا معنى قوله (فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) أي : لا تكلفوهن بما لا يكون لهن من تبديل الخلق ، قال تعالى : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم : ٣٠].

وقيل : لا تبغوا فيهن المحبة وخلوص النية معكم ؛ فإن قلوبهن بيد الله ؛ ولذلك قال عليه‌السلام : «اللهمّ هذا قسمي فيما أملك ، فلا تؤاخذني بما تملك ولا أملك» (٣).

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (١ / ٣٥٠) ، والديلمي في الفردوس (٥ / ٣٩١).

(٢) رواه البخاري (٣ / ١٢١٣) ، ومسلم (٤ / ٢٠٣١).

(٣) رواه أبو داود (٢ / ٢٤٢) بلفظ : «فلا تلمني» بدلا من «فلا تؤاخذني».

قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (١) أمر بشيئين : العبودية والإخلاص في العبودية ، ولا تكون العبادة مع الشرك ، ولا يكون الإخلاص والتوحيد بغير العبادة ، فطلب التوحيد بنعت إفراد القدم عن الحدوث ، ونفي الأنداد والأضداد ، وطلب العبادة المقرونة بهذا التوحيد ؛ لتكون العبادة موافقة للتوحيد ، ويكون التوحيد موافقا لتنزيه القدم.

خلق النفس مع حظها ، وأمر العباد بتقديس حظ اليقين عن اليقين ، وكيف يكون تبديل الخلق وطبع النفس أن يكون مائلا إلى غير الله ـ تعالى ـ أي : اطلبوا مني تقديس الأسرار في كشوف الأنوار ؛ فإني قادر على أن أزمّها بأزمّة الوحدانية ، وأسيرها خاضعة لفردانيتي.

وأيضا : اعبدوا الله لله ، لا على رؤية العوض والعبادة ؛ فإنهما شرك العارفين ، واعبدوه على رؤية التقصير ؛ فإنها عبادة الموحدين ، وأيضا : شغلهم منه به ، ولو أحبهم بالحب البالغ أسكرهم بشراب القرب والمشاهدة ، وأوقعهم في بحار القدم بعد خروجهم من العدم ، وهذا آخر الأمر في المحبة والمعرفة ؛ ألا ترى كيف وقع بالامتحان من أهل الجنة ، وأخبر عنهم بما وجدوا من راحة القرب والمشاهدة بغير نصب الامتحان (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) [فاطر : ٣٥].

قال أبو يزيد : إن الله سبحانه نظر في العالم فلم ير أهلا لمعرفته ، فشغلهم بعبادته.

قال أبو عثمان : حقيقة العبودية قطع العلائق والشركاء عن الشرك.

وقال الواسطي : الشرك رؤية التقصير والعزة من نفسه والملامة عليها ، يقال له : ألزمت الملامة من تولى إقامتها ومن قضي عليها الشره.

وقال بعضهم : العبودية فناؤك عن مشاهدتك في مشاهدة من تعبده.

قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) الوالدان : مشايخ المعرفة ، وإحسان المريدين إليهم بوضع أعناقهم عند ساحاتهم بنعت ترك مخالفاتهم في جميع الأنفاس مع نشر فضائلهم عند الخلق والدعاء لهم بمزيد القرب.

قال الجنيد : أمرني أبي أمرا ، وأمرني السري أمرا ، فقدّمت أمر السري على أمر أبي ، وكل ما وجدت فهو من بركاته.

قوله : (وَبِذِي الْقُرْبى) أي : إخوان المحبة من أهل قربة الله.

__________________

(١) العبادة موافقة الأمر ، وهي استفراغ الطاقة في مطالبات تحقيق الغيب ، ويدخل فيه التوحيد بالقلب ، والتجريد بالسر ، والتفريد بالقصد ، والخضوع بالنفس ، والاستسلام للحكم ، ويقال : اعبدوه بالتجرد عن المحظورات ، والتجلد في أداء الطاعات ، ومقابلة الواجبات بالخشوع والاستكانة ، والتجافي عن التعريج في منازل الكسل والاستهانة [تفسير القشيري (١ / ٢٨)].

(وَالْيَتامى) أهل فرقة الله الذين وقعوا في الفترة وآفة الشهوة ، واحتجبوا بها عن المشاهدة ، فإحسانهم ترغيبهم إلى طاعة مولاهم ، وتشويقهم إلى مشاهدة سيدهم مع التلطف والظرافة في دعائهم الله ، ومن مات أستاذه قبل بلوغه إلى درجة القوم فهو يتيم المعرفة ، والإحسان إليه تربيته بآداب القوم ؛ لئلا ينقطع عن الطريق.

قوله تعالى : (وَالْمَساكِينِ) أراد به السالكين غير المكذوبين ؛ فإن المساكين سلكوا طريق المقامات بالمجاهدات ، وإحسانهم كشف أسرار المشاهدات عندهم لتقع آثار المحبة في قلوبهم ، فيسكنوا عن المجاهدات الظاهرة ، ويطلبوا الحق بالقلوب الحاضرة والأسرار الظاهرة ؛ ليصلوا بطرفة عين إلى مقام لا يصلون إليه بألف سنة بالمجاهدة والرياضة.

وأيضا : المساكين الذين وقفوا على باب العظمة ، وتاهوا في أودية الصفة ، وتحيروا في بيداء القدم ، ولم يجدوا سبيلا إلى مرادهم الكلي لظهور النكرة في المعرفة ، والمعرفة في النكرة ، فأمر الله سبحانه أن يواسيهم بما يفرج عنهم أثقال العظمة بروح القلوب ، وذلك المجالسة بالسماع مع صوت طيب ورائحة طيبة بين كرام المعارف وأشراف الكواشف ؛ ليستأنسوا بسماع ساعة كي لا يحترقوا بنيران الكبرياء.

قال عليه‌السلام : «روّحوا قلوبكم ساعة فساعة» (١).

أمرهم بالنشاط بالله على الله ؛ لعلمه باحتراق أهل الإجلال والعظمة ؛ فأشفق عليهم ، وأمرهم بالتوسع ، وفتح عليهم باب الرخص زيادة تشوقهم ومحبتهم جماله تعالى.

قوله تعالى : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) أي : أحسنوا إلى من كان مقامه موافقا لمقاماتكم ؛ لأنه في طريق المعرفة جار قربة الله ، وهو قرابتكم في محبة الله.

وأيضا : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) هو الروح الناطقة العارفة العاشقة الملكوتية ، التي خرجت من العدم بتجلي القدم ، وانقدحت من زنود الأزل ، وهي أقرب كل شيء منك ، وهي جار الله ، وهي مصبوغة بصبغ الله ، وهي في يمين الله ، قال عليه‌السلام : «الأرواح في يمين الله» (٢) ، ومعذبها من قلبك منظر نور التجلي ، ومسكن نور سنا التدلي ، وإحسانها أن تطيرها بجناح المعرفة والشوق والمحبة إلى عالم المشاهدة ، بعد أن تطلقها من قيد الطبيعة ، وتقدس سكنها من حظوظ البشرية ، وهي أقرب القرابة منك ؛ لأنها أصل قيامك ، وأنت قائم بها.

(وَالْجارِ الْجُنُبِ) هو المريد المبتدئ ، فإحسانك إليه أن ترغّبه إلى سلوك مدارج

__________________

(١) رواه الديلمي في الفردوس (٢ / ٢٥٣).

(٢) ذكره المصنف في مشرب الأرواح (ص ٧٨).

الصدّيقين العارفين ، وتنشر له مطويات أسرار المحبين وفضائل أحوال المشتاقين.

وأيضا : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) صورتك التي هي حاملة الروح ، والإحسان إليها أن تفطم جوارحها من حظوظ المعاصي والشهوات.

(وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) يعني رفيقك في سفر الغيب ، الذي هيّجه حب الله إليه ، وشوقه معرفة الله إلى معرفة الله ؛ فأنفاسه أنفاسك ، وسرّه سرّك ، ومقامه مقامك ، وهو قرينك في غربة الأزل ، وأسفار الأبد ، وإحسانك إليه ؛ إذ كاد ينقطع بلذة المحبة من المحبوب ، لن تخوفه من مكره ، وترغبه إلى طلب الفناء فيه.

وأيضا : (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) هو قلبك ، وإحسانك إليه أن تفرده من الحدثان ، وتشوقه إلى جمال الرحمن.

وأيضا : (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) هي النفس الأمّارة بالسوء ، التي قال سيد المرسلين وإمام العالمين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك» (١) ، وإحسانك إليها أن تحبسها في سجن العبودية ، وتمنعها عن الشهوة ، وتحرقها بنيران المحبة ، وتزر ترابها برياح المعرفة ، حتى لا يبقى في جار الله غير الله.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) أي : غريب الله في بلاد الله ؛ حيث لا يعرفه سوى الله ، الذي يتطرق إليه من نور الأفعال إلى نور الصفات ، ومن نور الصفات إلى نور الذات ، وهو في غربة الآزال والآباد لا يذكر روعته ولا يطفئ حرقته ، ويزيد تحيره وتغربه ، لا يعرفه أحد يواسيه ، قال عليه‌السلام : «إن حضروا لم يعرفوا ، وإن غابوا لم يفتقدوا» (٢).

وزاد في وصفهم : لا يفتح لهم السدد ، ولا يروحهم المنعمات ، أنوار قلوبهم أنور بنور الشمس ، والإحسان إليهم بدر المهجة بين أيديهم ، وزيادة الاستطابة في أوقاتهم ، ودفع الأغيار عن صحبتهم ، حتى لا يطّلع عليه أحد يمنعهم من أحوالهم ساعة.

(وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي : مريدوكم الذين هم أرقّاء الإرادة ، والإحسان إليهم تربيتهم في طريق الله بآداب الله ، ونشر كرامة الله عندهم ، ودعاؤهم إلى طريق الرجاء ؛ لأن الراجي طيار ، والخائف سيار ، وتعليمهم طريق المشاهدة بلزوم المراقبة.

وذكر سهل بن عبد الله في تفسير هذه الآية قال : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) هو القلب ، و (وَالْجارِ الْجُنُبِ) هو النفس ، (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) العقل الذي ظهر على اقتضاء

__________________

(١) رواه البيهقي في الزهد الكبير (٢ / ١٥٧).

(٢) ذكره ابن الجوزي في صفوة الصفوة (٤ / ٢٥٠).

السنّة والشرع ، (وَابْنِ السَّبِيلِ) والجوارح المطيعة لله.

وقال الأستاذ في قوله (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) من جيرانك ملكان ، فلا تؤذيهما بعصيانك ، وراع حقهما بما يصل إليهما من إحسانك.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠))

قوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) من عرف الله وشاهد صفاته وبدا له حقائق المحبة ، ولم يطق أن يبذل نفسه لله وفي الله ، فهو بخيل ، ولم يذق حلاوة المحبة بحقائقها ، ومن كشف الله له أحكام الملكوت ، ولا يذكرها عند المشتاقين إلى لقائه ، فهو بخيل ، ومنع الأساتذة والمشايخ عن بيان حقائق طريق الله عن المريدين ، فهو معاتب بهذه الآية ، وتصديق ما ذكرناه قوله سبحانه وتعالى : (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فضله : معرفته ومحبته ، ورؤية نوال قربه ولطف بره.

قيل : الذين يمنون بالعطاء ، ويطلبون من الناس الثناء عليهم.

قال ابن عطاء في قوله : (وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) : من البراهين الصادقة.

وقال بعضهم : لا يشكرون نعمة العافية عليهم.

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) أخبر عن تنزيه جلاله وتنزيه نواله عن النقص على المحسنين ، وبشّر في تضعيف الآية الذين يظنون أعمالهم الصالحة لا تقع موقع القبول ، ولا يجدون ثوابها بأنه تعالى يثيبهم على ذلك بأحسن ما يحبون منه ؛ لأن علمه تعالى محيط بما كان وما سيكون ، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة من العرش إلى الثرى ، لا ينقص ثواب الصادقين ، وإن كان أقلّ من ذرة ؛ لأنه خالق ذلك ، وكيف يخفى عليه ذلك ، وهذا إخبار عن كمال علمه وقدرته جميع المخلوقات ، وفيه إذا كان المرء مسيئا فتاب هو تعالى يبدّل سيئته حسنة ، فكيف إن كان محسنا؟ فهو يقبل الحسنة منه ، ويثيبه بها بعشرات أمثالها ، وأن يعطيه جميع درجات الجنان بلا حسنة ، فهو أهل له ؛ لأنه أهل التقوى وأهل المغفرة.

والحسنة ههنا توحيد الله ، وإذا كان صادقا مخلصا في ذلك فدرجاته مضاعفة على درجات غيره من العامة ، ثم أخبر أنه تعالى يتفضّل على عبده الصادق بلا سبب من عند كرمه

وجلاله ما لا يحصي عدده من نوال قربه ، ومشاهدته بقوله : (وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) والأجر العظيم : مشاهدته.

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً (٤٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥))

(مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧))

قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) أخبر تعالى عن مقام جلاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مشاهدته تعالى حيث شاهده جمهور الأنبياء والصديقين ، وبيّن عن عظيم خوفه في قلوب الجميع ، ووضع هاهنا الرغبة والرهبة معا ؛ لأن العارف إذا قرب من البساط يغلب عليه التعظيم والإجلال والرغبة والرجاء ؛ لأن شهود أنوار قربه يقتضي هاتين الحالتين ، أي : كيف حالك في رؤية القدم ، وأنت لا أنت ، وكيف حال هؤلاء عند بروز سطوات عظمته ، وهم في حد الفناء في رؤية كبريائي؟ وكيف حال الأنبياء والصديقين قبلك وقبل أمتك في ميادين عزتي وجلالي ، إذا كان حالك وحال أمتك بهذه الصفة؟ أي : فكيف تشهد الشهداء والمشهودين عليهم حين أبرزت وجهي الكريم؟ كيف تشهدون على الأمة في وجهي وكشف جمالي؟ وكيف تبقي الأمة عند فناء الأنبياء؟ أما مقام الرهبة فيها فإن الله سبحانه لما كشف بعد حواشي سرادق كبريائه من الأنبياء والصديقين وقع عليهم البهتة والتحير والفناء من عظمته وسطوة عزته ، فلا يبقى أحد منهم إلا أن يكون مضمحلا في نفسه ، فخاطب على وجه التعجب ، أي : كيف يقومون بإيذاء كشف جمالي بنعت

الرضا ، وأنتم على شبه السكارى حيارى من حلاوة لذة جمالي؟.

وفي الحديث المروي : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر ابن مسعود ببعض قراءة القرآن عنده ، فقال : يا رسول الله أنزل عليك القرآن ، وأنا أقرأ عندك ، فقال عليه‌السلام : «أنا أحبّ أن أسمعه من غيري ، فقرأ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ...) إلى قوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) فوضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على ابن مسعود وقال : إلى ههنا ، وبكى بكاء شديدا حتى اضطربت لحياه» (١).

وفي رواية أنه عليه‌السلام صاح صيحة عند سماع هذه الآية ، وبيّن في وجده عليه‌السلام هاتين المنزلتين.

وأيضا : بيّن شرف نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته وشرف الأنبياء وأممهم ، وألا يخفى عليه شيء من العرش ليستره.

قال بعضهم : (وَجِئْنا) من كل أمة بوليّ وصديق ، (وَجِئْنا بِكَ) مصدقا لولايتهم أو مكذبا لها ، قال الله تعالى : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : ١٤٣].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) هذا خطاب لأهل العشق والمحبة والشوق الذين أسكرتهم أنوار القدوسية ، وسبحات السبوحية وسطوات العظمة ، وشربات بحار الأزلية ، ولطائف كشوفات القدمية ، وهم حيارى سكارى ، تائهون في مشاهد الجلال والجمال ، فغالب أحوالهم العبرات والغلبات والزعقات والشهقات ، والهيجان والهيمان ، لا يعرفون الأوقات ، ولا يعلمون الليل من النهار ، ولا النهار من الليل ، لا يقدرون في حال سكرهم أي : ماتوا على شرائط الصلاة من القيام والقراءة والركوع والسجود ، كهشام بن عبدان ، وبهلول ، وسعدون ، وجميع عقلاء المجانين.

أي : أيها العارفون بذاتي وصفاتي وأسمائي ونعوتي السكارى من شراب محبتي وسلسبيل أنسي وتسنيم قدمي وزنجبيل قربي وخمور عشقي وعقار مشاهدتي إذا كشفت لكم جمالي وأوقعتكم في مقام ربوبيتي فلا تكلفوا أنفسكم أمر صورة الظاهر ؛ لأنكم في جنان مشاهدتي ، وليس في جنة جلالي تعبّد ، حتى سكنتم من سكركم ، وصرتم صاحين على نعت التمكين ، فإن جنون العشق يرفع قلم التكليف عن مجنون محبتي ، فإذا تصلون وتقربون مقام البدايات على حدّ الصحو ، وإن كنتم مضطربين من خمار ذلك السكر ، لأنّ السكران

__________________

(١) رواه البخاري (٤ / ١٦٧٣) ، ومسلم (١ / ٥٥١).

والصاحي يذهبان عن صورة العقل إلى عالم العشق ، عند طلوع جلال عظمتي ، من مطالع قدمي في عيون أبصار أسرارهم ، فعند ذلك يستوي حالهما :

إذا طلع الصباح لنجم راح

تساوى فيه سكران وصاحي

وكشف غمة إبهام المبطلين ، الذين يطعنون إشاراتنا لقلة أفهامهم بها ؛ حيث قال : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ذكر القربة ، وما قال : لا تصلوا ، وشرط فيها السكر ، والسكر خطرات ، والصحو وطنات ، وإذا أبقى العقل الإلهي في إشراق أنوار سلطان المشاهدة ذرة فينبغي أن يصلي ، ويؤدي حق الأوقات ، فإنّ بعض مشايخنا لما حان عليهم وقت الصلاة وهم في وجد وحالة قاموا إلى الصلاة ، ومريدوهم عدوا ركعاتهم وسجداتهم وركوعاتهم فإذا سهوا عن شيء ذكّروهم ذلك ، وهذا من كمال ظرافتهم في المعرفة.

وأيضا : خاطب أهل الغفلة وسكارى الجهل من شراب الهوى والشهوة ألا يأتوا إلى مقام مناجاته وقربه ومشاهدته حتى يخرجوا منها ؛ فإن الغافل لا يؤدي فرائضه على شرائط السنة.

قال الواسطي : لا تقرب إلى مواصلتي إلا وأنت منفصل عن جميع الأكوان.

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢))

(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) مكان الآية مكان الخوف والرجاء ، أخبر أنه غفر عن العام جميع المعاصي الصغائر والكبائر دون الشرك الجلي الذي يستوجبون به النار ، ولم يشترط التوبة هاهنا ، ولم يبين مكان الغفران ، وفيه رجاء ، وهم بعدم الشرطين ؛ لأنّه يغفر ذنوبهم في الدنيا ، ولم يذكرها عندهم في الآخرة ؛ لطفا وكرما إن لم تصادف المعصية الشرك ، وشدّد الأمر على الخواص بمؤاخذته إياهم ؛ حيث تفحّص أمر الخطرات المخفية من رؤية الطاعة وأعواضها ، وحب الجاه والمحمدة والرياء والسمعة ، بيّن أن ما دون هذه الأشياء منهم مغفور من العثرات والزلات ، فإنها غير نقض عهد المحبة والمعرفة ، وإنهم مأخوذون بالشرك الخفي ، فهو خطرات الرياء والشك في الطريق ،

وأراد تعالى بذلك أنهم محاسبون به في جميع الأنفاس ، فإن بقوا في ذلك لمحة عاقبهم الله بذلك الحجاب ، وهذا إذا كانوا غافلين عن تلك الخطرات ، أما إذا استدركوها بعد جريانها ولم يغفلوا عنها برد الخاطر ورد وسوسة العدو بذكر الله ونشر صفاته والتفكر في آلائه ونعمائه بفسح قلوبهم بأنوار ذكره حتى تداركوها بالخجل ورؤية تقصيرهم بالمراقبة والحضور ، فبعد ذلك تنتشر أسرار الألوهية وأنوار الربوبية في صدورهم ، قال تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) [الزمر : ٢٢] ، فبتلك الأنوار والأسرار عمروا طرق المعارف والكواشف.

قال بعضهم في الآية : أن يطالع سره شيء سوى الله.

وقال بعضهم : إن رؤية العمل ورؤية النفس وطلب المدح عليه كلها من أنواع الشرك الذي أخبر الله أنه لا يغفره ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاكيا عن ربّه : «من عمل عملا أشرك فيه غيري ، فأنا منه بريء» (١).

قال الأستاذ : العوام طولبوا بترك الشرك الجلي ، والخواص طولبوا بترك الشرك الخفي.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) شكا سبحانه عن أهل الدعاوى الباطلة ، الذين يراءون الناس ، ولا يذكرون الله ، سمعوا كلام الأولياء ، وباعوا على سوق السالوسيين ، وأضافوا حقائق الصديقين إلى أنفسهم ، وأشاروا إلى مقام الرياضات والمجاهدات بغير علم ، ولم يشموا رائحة الصدق ، ومع هذه العيوب يرون أنفسهم عنها ، فرّد الله عليهم بقوله : (يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي : يلبس أنوار تنزيهه أولياءه وأصفياءه ، فيقدّسهم به عن كل سوء ، وعن كل خاطر غير سبيل الحق.

قال بعضهم : ليست الأنفس بمحل التزكية ، فمن استحسن من نفسه شيئا ، فقد أسقط من باطنه أنوار اليقين.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) وبّخ الله تعالى أهل ظاهر العلم ، الذين اختاروا الرئاسة ، وأنكروا على أهل الولاية ، وآثروا صحبة المخالفين ، يقبلون هواجس نفوسهم التي هي الجبت ، ويخطون آثار الطاغوت التي هي إبليس.

قال سهل بن عبد الله : رأس الطواغيت نفسك الأمّارة بالسوء إذا خلا العبد معها عن العصمة.

__________________

(١) رواه ابن ماجه (٢ / ١٤٠٥) ، وأحمد (٢ / ٤٣٥).

وقال ابن عطاء : أعطوا الكتاب حجة عليهم لا كرامة لهم.

قال بعضهم : الجبت مرادك ، والطاغوت هيكلك.

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧) إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨))

قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أخبر عن حسدة الأولياء ، الذين يرون الناس الهيبة والوقار على الصديقين ، وهم معظمون به في عيون الخلق ، وهم يحسدون بهم وبكراماتهم وولايتهم ، فإذا ذكر الخلق أوصافهم يدفعونه بإنكار عليهم ، وفضل الله معرفة الله وكراماته.

قال بعضهم : الفضل هاهنا الكرامات والولايات والمشاهدات ، يكذبون صاحبها ولا يعظمونه.

قوله تعالى : (وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) الملك العظيم : النبوة والولاية ، التي تشتمل على فنون الحقائق من الفراسات والكرامات ، ورؤية الغيب وكشف الأسرار.

قيل : إشرافا على الأسرار.

وقيل : فراسة صادقة.

قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) وصف المقبلين والمدبرين مقبلين بنعت الإرادة في حق الأولياء ، ومدبرين بوصف الإنكار عليهم.

قوله تعالى : (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) أي : في مشاهدة صفات الأزلية ورؤية جلال ذاته سبحانه.

وأيضا : الظل الظليل : عنايته الأزلية ، وكفايته الأبدية ، ورعايته السرمدية.

قال بعضهم : التفويض ، وهو محل الراحة والأمن في الدارين.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (١) الأمانة : عهد الله الأزلي ، الذي عاهد به أرواح أهل القرب في مشاهدة جماله ؛ حيث قبلت الأرواح من الربوبية سمات العبودية ، ومن المشاهدة لطائف المحبة ، ووجدت أسرار الملك والملكوت عند سرادق الجبروت ، فكتمتها عن الأغيار ، فلما تلبست بالأشباح كادت تفشيها من الضعف عن حملها ، فأمرهم الله بكتمانها عن الخلق حتى يؤدونها إلى الحق سبحانه عند كشف جماله في الآخرة ؛ لأنه تعالى أهل تلك الأمانة ، وذلك قوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) [الأحزاب : ٧٢] ، لأنه أيضا أمرهم بإظهار ما كوشف لهم من أحكام الغيب عند العارفين وكتمانها عن الجاهلين.

قال الجريري : أفضل الأمانات أمانة الأسرار ، فلا يظهرها ولا يكشفها إلا لأهلها ؛ لأنهم أهل الأمانة العظمى.

قال بعضهم : الأمانة أسرار الله ، وأهل الأمانة هم العارفون بالله والعالمون بأسراره ، وهم الناظرون إلى القلوب بأنوار الغيوب ، فيحكمون عليها ، حقق الله أحكامهم ، وهو الذي قال الله : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) [الكهف : ٦٥].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ) جعل الله تعالى الطاعة على ثلاث مراتب ، وهي في الأصل واحد ؛ لأنّه مرجع الكل ، وكل طاعة منها مخصوصة بمقام من مقام الولاية ، فإذا كان أهلا لبساط القربة وفهم خطاب الحق بلا واسطة

__________________

(١) ردّ الأمانات إلى أهلها تسليم أموال الخلق لهم بعد إشرافك عليها بحيث لا تفسد عليهم ، ويقال لله سبحانه وتعالى أمانات وضعها عندك ؛ فردّ الأمانة إلى أهلها تسليمها إلى الله سبحانه سالمة من خيانتك فيها ؛ فالخيانة في أمانة القلب ادعاؤك فيها ، والخيانة في أمانة السّرّ ملاحظتك إياها ، والحكم بين الناس بالعدل تسوية القريب ، والبعيد في العطاء والبذل ، وألا تحملك مخامرة حقد على انتقام لنفس [تفسير القشيري (١ / ٤٩١)].

أطاعه بمراده بلا واسطة ، وإذا لم يبلغ إلى تلك الدرجة ولم يفهم حقائق رمز الله يرجع إلى بيان نبيه عليه‌السلام ؛ لأنه بيّن غوائص خطاب الله ، وأطاعه فيما أمر ، وذلك طاعة الله بواسطة نبيه ، وإن لم يبلغ إلى فهم خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستنباطه إشارته يرجع إلى بيان أكابر علماء أمته من أصحابه وغيرهم من الأولياء والصديقين والعارفين ؛ لأنهم بيّنوا خطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأيضا : هذا طاعة الله بوسيلة أولي الأمر والأنبياء والملوك في الدنيا مساقط ظل الله ، ومن أراد أن يرى بهاء الله وآثار عظمته فلينظر إليهم ، قال عليه‌السلام : «السلطان ظلّ الله في الأرض» (١) ، وقال : «الملك والنبوة توأمان» ، ومن التبس بظل الله صار أمره أمر الله ، وهاهنا أشار عين الجمع.

وفي الآية إشارة : أي : إذا بلغتم مقام خطاب الخاص من العلوم المجهولة المشكلة اسلكوا مسلكها بغير الواسطة ، كالخضر كان متابعا للعلم اللدني في الخارج عن أمر الظاهر ، مثل قتل الغلام ، وكسر الألواح ، وهذا خاصّ لمن وقع له سهم الغيب ، ومن بلغ مقام التوحيد ومرتبة الاستقامة لسلك مسلك الأنبياء في مباشرة التوسع والرخص كالأنبياء ، مثل سليمان وداود عليه‌السلام ويوسف عليه‌السلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا منزل الاقتداء ، ولا يصلح هذا للمتكلفين ، ومن فتح له باب بيان علم الحقائق يتكلم بإصلاح علماء الله ، فإن سلوك مسالكهم لمن له فهم الغيب طاعة معروفة وأسوة حقيقية ، وكل ما ذكر فهو تفسير قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ).

وعن جعفر بن محمد قال : (أَطِيعُوا اللهَ) بالرضا بحكمه ، (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في المجاهدة في الوفاء بأمره والسر مع الله والظاهر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال محمد بن علي : أطع الله ، فإن تملك ذلك ، وإلا فاستعن بطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طاعة الله ،

فإن وصلت إلى ذلك ، وإلا فاستعن بطاعة الأئمة والمشايخ على طاعة رسول الله ، ولا تسقط عن هذه الدرجة فتهلك.

قال الجنيد في تفسير هذه الآية : العبد مبتلى بالأمر والنهي ، ولله في قلبه أسرار تخطر دائما ، فكلما خطر خاطر عرضه على الكتاب فهو طاعة الله ، فإن وجد له شفاء ، وإلا عرضه على السنة ، وهو طاعة الرسول ، فإن وجد له شفاء ، وإلا عرضه على سر السلف الصالحين ، وهو طاعة أولي الأمر.

قال أبو سعيد الخرّاز : العبودية ثلاثة : الوفاء لله بالحقيقة ، ومتابعة الرسول في الشريعة ،

__________________

(١) رواه البيهقي في الشعب (٦ / ١٦).

والنصيحة لجماعة الأمة.

قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) أي : إذا وقع عليكم حكم من أحكام الغيب المتشابه وتظهر في أسراركم معارضات الامتحان فارجعوا إلى خطاب الله ورسوله ؛ فإن فيها بحار علوم الحقائق ، فكل خاطر لا يوافق خطاب الله ورسوله فهو مردود ولا تعتبر به ، وإذا أشكل عليكم خطاب الله ورسوله من علم الإشارة فقيسوه بظاهر الكتاب والسنة ، فإن في الظاهر إعلام الباطن.

قيل : فإن أشكل عليكم شيء من أحوال الكبراء والسادة واختلفتم فيها فاعرضوا ذلك على أحوال الرسول ، وردوه إليه ، فإن لم يتبين لكم فردوه إلى الكتاب المنزّل من ربّ العالمين.

قال النصر آبادي : إن علمنا لا يصلح إلا لمن له علم الكتاب والسنة ، وله معاملة واردة ، ومع ذلك يكون له ظرف ونظافة.

(فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥))

قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) المصيبة التي أصابتهم هي جزاء إنكارهم على النبي وأصحابه ، ومصيبتهم احتجابهم بأنفسهم عن بلوغهم إلى مقام الولاية والمعرفة ، وأعظم المصائب عند القوم الانقطاع عن الله ، والتحير عن وجدان السبيل إليه.

قيل : أعظم المصائب اشتغالك عن الله ، وأعظم الغنائم اشتغالك بالله.

قال أبو الحسين الوراق : أعظم المصائب سقوط الحرمة من قلبك ، ونزع الحياء من وجهك ، وثقل السنن على جوارحك.

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) يسلّي قلب نبيه عليه‌السلام بقوله : (يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) أي : لا تهتم ، فأنا أجازيهم بما في صدورهم ، فأحجبهم عن كل مرادهم في الدنيا والآخرة ، فأعرض عنهم أي : اترك صحبتهم وصحبة كل

جاهل غافل ، وعظهم على قدر فهومهم ، فإن موعظتك لهم عقوبة ، حيث لم يعرفوها ، ولم يتبعوها حق الاتباع.

قال الواسطي : أعرض عن الجهّال ، وعظ الأوساط ، وأخبر بعيوب الأشراف ، وخاطب كلّا على قدر طاقته.

وقيل : أعرض عنهم بقولك ، وعظهم بفعلك.

قوله تعالى : (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) أي : صفني بالعظمة والكبرياء واستغنائي عن كفرهم وإيمانهم ، وبعدهم الأبدي عني حين احتجبوا عني بحب الرئاسة ، والإنكار على الأنبياء والصديقين.

قال الجنيد : كلّمهم على مقادير العقول ومحتمل الطاقة.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) أخبر الله سبحانه عن قوم نقصوا حظ أنفسهم منه باشتغالهم بحظ أنفسهم من الكون ، وعن مرارة قلوبهم بمر البعد ، لو يخرجون من ظلماتها وحجابها إلى أنوار رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبصرون في وجهه طلعة جلالي وجمالي ، فيخرجون في رؤيته عن اشتغالهم بالكون ، فيرجعون من أنفسهم بنعت الخجل والحياء إلى ساحة كرمه ، ويقفون على باب عظمته مرهونين باستغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن عليهم بقايا الذنوب من ترك الحرمة في ديوان النبوة ، التي لا ترفع عنهم إلا بشفاعته عليه‌السلام ، فإذا كانوا كذلك يجدون الله بنعت الإقبال عليهم ، وقبولهم وإرشادهم بنفسه إلى نفسه.

قال ابن عطاء في هذه الآية : أي لو جعلوك الوسيلة إليّ لوصلوا إليّ.

قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) بيّن الله سبحانه أنه عليه‌السلام سبب إيمان الكل ، والإيمان به يكون بمحل الإيمان بالله ، وقد أشار ههنا إلى مقام الاتحاد وعين الجمع ، وأقسم بنفسه تعالى على ذلك ؛ إعلاما بأن الحبيب والمحبوب واحد في المحبة ، وبيّن أن حقائق الحكم ودقائق الدين لا تظهر إلا عنده ؛ لأنه لسان بيان الحق في العالم ، ونفى الحكم عن غيره من الجبت والطاغوت ، الذين قرأوا الكتب ولم يظفروا بحقائقها.

وصرح في بيان الآية أن من أسلم وسلم الحكم إليه لم يبلغ حقائق الإيمان إلا بسلامة الصدر وسكونه عند قبوله أمره ؛ لأن الطمأنينة هي موضع اليقين ، وحقيقة الإيمان هو اليقين ، وهذا معنى قوله تعالى : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

قال أبو حفص : رضي الله تعالى من عباده لنفسه بظاهر القول ، ولم يرض لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا

بإخلاص القلب ، والرضا بحكمه ساء أم سرّ ، ومن لم يكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستقيما ظاهرا وباطنا وسرّا وعلنا وحقيقة ورسما كان بعيدا عن حقيقة الإسلام ومراتب المسلمين.

قال عبد العزيز المكي : أقسم الحبيب للحبيب بالحبيب أنهم لا يؤمنون حتى يحكموك ، فيا لها من شرف ، ويا لها من كرامة حارت فيه أوهام الخلائق ، وجعل نفسه لنفسه ، وجعل الرضا بحكمه كالرضا بحكمه ما وجب على خلقه الرضا ، والتسليم بحكم نبيه عليه‌السلام ، كما أوجب عليهم الرضا والتسليم بحكمه ، فهكذا إنسان المتحابين.

قال بعضهم في هذه الآية : أظهر الحق على حبيبه خلعة من خلع الربوبية ، فجعل الرضا بحكمه ساء أم سرّ سبيلا لإيمان المؤمنين ، كما جعل الرضا بقضائه لإيقان الموقنين ، فأسقط عنه اسم الواسطة ؛ لأنه متصف بأوصاف الحق متخلق بأخلاقه ؛ ألا ترى كيف قال حسان : «فذو العرش محمود وهذا محمد» (١).

قال الأستاذ : سدّ الطريق إلى نفسه على الكافّة إلا بعد الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن لم يمش تحت رايته فليس من الله في نفس.

ثم جعل من شرط الإيمان زوال المعارضة بالكلية بقوله : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) ، فلا بدّ لك من ملقي المهالك بوجه ضاحك.

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ

__________________

(١) رواه البخاري في التاريخ الصغير (١ / ١٣).

الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦))

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) شكا الله سبحانه عن أحبائه بهذه الآية ، وتقصيرهم من بذل نفوسهم لرضائه إعلاما منه للمحبين أنهم لن يصلوا إليه إلا بإيثار مراده على مرادهم ، وهذه الشكاية لا تكون من محل إيمانهم ؛ لأنهم بحمد الله على الصدق والإخلاص والإيمان واليقين وصلوا إليه ، لكن أخبر عن معارضة نفوسهم عند نزول البأس إلا الأقوياء والمستقيمين في المحبة بقوله : (إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ).

ثم أخبر أن قتلهم النفوس بالرياضات والمجاهدات والهجرة من الخطايا والذنوب ، وهجران السوء من أمارات محبة الله.

قال محمد بن الفضل : (اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بمخالفة هواها ، أو (اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ) أخرجوا حب الدنيا من قلوبكم ، (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) في العدد ، كثير في المعنى ، وهم أهل التوفيق والولايات الصادقة ، وقرن سبحانه مقام المجاهدة بمقام المشاهدة ، وبيّن أن من قصّر في واجب حقوقه لم يبلغ إلى معالي الدرجات.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي : بقاؤهم في مشاهدة الله خير من بقائهم في الدنيا مع نفوسهم ، ورهن الوصول بقتل النفوس بقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا) ، وزاد الوضوح بالآية الثانية في شرح ما ذكرنا بقوله تعالى : (وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً) الأجر العظيم مشاهدته الأزلية وكشفه الأبدي.

(وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) : الإرشاد إلى معارف طرق الصفات ، والفناء في بقاء الذات ، تعالى الله عن كل إشارة وإيماء ، والصراط المستقيم المعرفة بعد المعرفة بعد النكرة ، وإفراد القدم عن كل العلة.

قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) إنّ طاعة الله لا تحصل بحقائقها إلا بعد مشاهدة الله ؛ لأن حقيقة الطاعة لا تكون إلا من المحبة ، ولا تكون المحبة إلا بعد الرؤية ، والمشاهدة أي :

من أطاع الله محبة الله في رؤية الله ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعبد الله كأنّك تراه» (١) ، وطاعة الرسول بمعرفة الرسول من معرفة الله ، أي : بلغ طاعته إلى هذه المراتب ، فهو أهل الله ، وهو شبيه أنبيائه وشهدائه ورسله وأوليائه ، ويكون في الدنيا والآخرة رفيقهم ، وهذا معنى قوله تعالى : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ) إنعام الله على النبيين مداناتهم ومشاهداتهم وعلومهم بذاته وصفاته تعالى ، واستشرافهم على خزائن ملكه وملكوته ، وإنعامه على الصديقين إعطاؤهم سني الكرامات ، وفتح أبصارهم بأنوار الصفات ، وإنعامه على الشهداء كشف جماله لهم دية لدمائهم ، وإنعامه على الصالحين إبراز لطائف بره لهم ليألفوه بها ، ويستقيموا في الحضرة بالخدمة.

قوله تعالى : (وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) معناه حسن مرافقتهم مع المطيع لله ، وحسن مرافقة الله مطيع الله لهم ؛ لقرب منازلهم ودنو مقاماتهم بعضهم بعضا ؛ لأن المرافقة لا تحسن إلا بموافقة المقامات ، والأنبياء هم الذين سمعوا أنباء الله بسمع الخاص ، والصدّيقون هم الذين مع الله بحسن الرضا ، ومشاهدة نور البقاء ، والشهداء المقتولون بسيوف محبته في معارك سطوات عظمته ، والصالحون هم الذين خرجوا من محن الامتحان ، وظفروا بنعمة الجنان ، والروح والريحان ، ويتراءون هلال جمال الرحمن ، ولم يذكر المرسلين ؛ لأنهم في الغيب غائبون وعن غيب الغيب غائبون ، آواهم الله في ستره ، لا يطّلع عليهم أحد من خلقه إلا عند بروزهم من الحضرة.

قال فارس : أدنى منازل الأنبياء أعلى مراتب الصديقين ، وأدنى منازل الصديقين أعلى مراتب الشهداء ، وأدنى منازل الشهداء أعلى مراتب الصالحين ، والصالحون في ميدان الشهداء ، والشهداء في ميدان الصديقين ، والصديقون في ميدان الأنبياء ، والأنبياء في ميدان المرسلين.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨))

__________________

(١) رواه البخاري (٤ / ١٧٩٣).

قوله تعالى : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) كما أن في الآية تخويفا لمحب الدنيا ، وترغيبا لطالب العقبى الذي هو مطيع الله بنعت التقوى.

وأيضا : فيها إشارة إلى أن العارف أخذ التوسع ، وألف الرخص بعد احتراقه في المجاهدة والرياضة بنيران المحبة ؛ لأنه لا ينكر عليه أحد لم يبلغ إلى درجته ، فإن الدنيا بأسرها لو كانت ذهبا وجواهر ومسكا وعنبرا ووردا وريحانا ونساء ومركبا وثيابا حسنة ومجالس رفيعة قليلة في جنب ما يحتاجه إليه ؛ لأنه يريد أن يسلّي قلبه في فراق محبوبه بشيء مستحسن من الحدثان ، ولا يكفيه جميع المستحسنات من العرش إلى الثرى ، فكيف بشيء قليل من قليل ، وإن الله سبحانه يسلي فؤاده بقوله : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) أي : لمن يصبر في مجاهدته وشوقه إليّ من الاستئناس بهذه المستحسنات القليلة ؛ لأن في الآخرة كشف جمالي له ، الذي هو راحة لا راحة فوقها ، كما قال عليه‌السلام : «لا راحة للمؤمن دون لقاء الله» (١).

قال الواسطي : هوّن الدنيا في أعينهم ؛ لئلا يشق عليهم تركها.

قوله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) ظاهره تخويف للمخالفين ، وباطنه توجيه للمشتاقين ، أي : لا تخافوا أيها المشتاقون إلى لقائي ؛ فإني آتيكم بأحسن ما تظنون بي ، فأريحكم من سجن الدنيا ، وأوصلكم إلى مجلس وصلتي أينما كنتم ، فأنا معكم ، فإذا حان وقت القربة أسلبكم من أيدي المنايا ، وموتكم خروج أرواحكم بظهور مشاهدي كحجر المغناطيس حيث يظهر بجذب الحديد إليه.

وفيه إشارة : أي : لو طرتم بجناح الروحانية فوق الملكوت لتكون أجسامكم كأرواحكم يدرككم سطوات عظمتي منزل أرواحكم من أجسامكم ؛ لأن الأجسام الترابية لا تقوم بإزاء كشف عظمتي إلا بترتيبي إياها في مواقف العرض الأكبر ، ومثل هذا الموت يكون فرح المؤمن العارف به ، وهو بشارة الحبيب له ، يبشره بوصله وقربته ، و «من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه» (٢).

بشّر أحبّائي أنّ الموت راحتهم

والموت وصلتهم والموت تقريب

قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وبّخ الله المفلسين الذين سقطوا من عينه وحفظه وكلاءته حتى إذا أتت إليهم راحة أقبلوا إلى الله من فرح النفوس ولذة الشهوات ، لا بنعت المعرفة والمحبة ، وإذا أتتهم محنة أضافوها إلى غيره ، ورجعوا إلى الأسباب ، وخاصموا ، وظهر

__________________

(١) رواه ابن أبي عاصم في الزهد (١ / ١٥٦).

(٢) رواه البخاري (٥ / ٢٣٨٦) ، ومسلم (٤ / ٢٠٦٥).

منهم أن إقبالهم إليه من رأس النفس ليس من حقيقة إيمانهم بالله ، فأمر صفيه أن قل لهم : إنما تجدون من الأسباب من العرش إلى الثرى لا يكون إلا من عند الله السبب والمسبب ؛ لأنه سبب الأسباب والمسبب ، ولو كنتم على رؤية التحقيق ترون الأكوان قائمة بالله وزاد في توبيخهم بقوله تعالى : (لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) أي : ليس بهم في قلة إدراكهم أنبائي وقلة معرفتهم بوحدانيتي حيث يكونون ثنويين إلا إدراك خذلاني إياهم. قال النصر آبادي : الكل منه ومن عنده ، ولكن لا تطيب ما منه وما عنده إلا بما به وبما له.

(ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٧٩) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٨١))

قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) الحسنة الطاعة ، والحسنة المحبة ، والحسنة المعرفة ، فأشار إلى هذه الحسنات أنها تفضل منه لا من كسب العبد ؛ لأنه تعالى واهب هذه المراتب بلا علة ولا شفاعة (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) [المائدة : ٥٤] ، وهو أهل الفضل والعطاء ، والسيئة معصية الله ، وذلك صفة النفس الأمارة ، نزّه نفسه تعالى من مباشرة المستقبحات ، أي : كل حسنة ترجع إلى مشاهدتي ، وأنا حسنة أوليائي ، فمن مشاهدتي تصدر حسنات تجليائي ، وكل سيئة ومعصية فتصدر من النفس الأمارة التي خلقتها وما فيها ؛ لأني مباشرها وأنا خالقها أنا منزّه عن مباشرة شيء بذاتي.

قال محمد بن علي : أجل الحسنات والنعم عليك في أن عرفك نفسه ووفّقك لتشكر نعمه ، وألهمك ذكره.

وقيل في قوله : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) باتباع هواها ، وتركها رضا مولاها ، وهي من النفس الأمّارة بالسوء.

واستدل القدرية بهذه الآية على مذهبهم ؛ حيث أضافوا القدرة إلى النفس ، قال عليه

الصلاة والسلام : «القدرية مجوس هذه الأمة» (١) ؛ لأنهم قالوا باليزدان والأهرمن (٢) ، ولم تفهم الكفرة والفرقة الضالة أن من لم يقدر أن يخلق ذاتا فكيف يقدر بأن يخلق صفاتا ، أو لم يفهموا سر القرآن وخطاب الله ؛ فإن الله سبحانه نسب إتيان السيئة إلى غيره لا إلى النفس ، فقال : (وَما أَصابَكَ) والإصابة فعل الغير لا فعل النفس ، وتبين من فحوى خطابه أن السيئة عني بها البلاء الذي هو جزاء معصية النفس ، وإصابة البلاء من الله جزاء لكسب المعصية ، كما قال : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) [آل عمران : ١٢٠] ، فهذه السيئات هي من الأسباب لا من الاكتساب.

قال الأستاذ : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) فضلا (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) كسبا ، وكلاهما من الله سبحانه خلقا.

قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ظاهر هذه الآية تدل على الوسيلة ، والوسيلة من الله هو الرسول ، أي : من أطاع الرسول فقد أطاع الله بوسيلة الرسول ، وهذا مقام الأمر والعبودية في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وباطن الآية إشارة إلى عين الجمع ؛ حيث تندرج صفاته تحت صفات القدم ، ويغني خلقه في خلق الأزل ، ويخرج من تحت الفناء بصفة البقاء ، ويكون مرآة الحق تجلى منها للخلق ، فإذا كان كذلك أمره وطاعته مع أمر الله وطاعته واحد لموضع اتصافه واتحاده.

قال جعفر بن محمد : من عرفك بالرسالة والنبوة فقد عرفني بالربوبية والإلهية.

قال أبو عثمان : من صحح الاقتداء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وألزم نفسه طاعته أوصله الله إلى مقامات الأنبياء والصديقين والشهداء ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ).

قال بعضهم : المتحققون في طاعة الرسول مع الأنبياء ، والمقتصدون مع الشهداء ، والظالمون مع الصالحين.

وقيل : طاعة الرسول طاعة الحق لفنائه عن أوصافه ، وقيامه على أوصاف الحق ، وفنائه عن رسومه ، وبقائه بالحق ظاهرا وباطنا ، فطاعته طاعته ، وذكره ذكره ، وبه يصل العبد إلى الحق ، وبمخالفته ينقطع عنه.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً

__________________

(١) رواه أبو داود (٤ / ٢٢٢).

(٢) وجه الشّبه في الحديث : أنّ المجوس ينسبون الكوائن إلى إلهين يزدان فاعل الخير وأهرمن فاعل الشّرّ.

(٨٢) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨))

قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) القرآن صفات القدم ، وهو موصوف به ؛ لأنّ كلامه الأزلي والقرآن صفة خاصة ذاتية من جملة صفاته ، وهو واحد من جميع الصفات ، لكنه مجمع الصفات كلها ، فيه الأسماء والنعوت وخبر الصفات ، وإعلام تقديس الذات ، وهو قائم بذات الله بغير علة الأصوات والحركات والحروف ، ولو وقع للخلق التفكر والتدبر فيه بنعت المشاهدة والكشف لعلموا أنه خارج من صفة الحوادث ؛ لأنه نعت الأزلية ، ووقعوا في بحار أسراره ، وفنوا في أنواره ، وخرجوا منها جواهر حكم القدمية ورموز السرمدية وحقائق الأبدية التي هو خبر جلال الذات وعيون الصفات وأسرار الأفعال من العرش إلى الثرى ، صفته تجلت في حروف الوحدانية ، وتجلت حروف الوحدانية في حروف القرآن ، وكل حرف مملوء من بحار نكت الإلهية ، من وقف على أسرارها يدهش في تجليها ، ويعرف أنها خرجت من القدم ، وأنها ليست من أوصاف أهل العدم ، لأن وصف الله منزّه عن الخلل والتضاد والخلاف ، وأوصاف الخلق متضادة متباينة متغيرة ، وذلك المعنى موجود فيما بقي من الآية.

قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) كلهم مرضى في دار الدنيا ، يحتاجون إلى مفرج القرآن ، ولو تدبروا لوجدوا كل حرف منه شفاء لعلة ، فإذا وصل دواؤه داء الخليقة يذهب آلامه ، ويبقى شفاء القرآن ، ويكون صحيحا بجماله غير سقيم باحتجابه ، قال تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢] ، وفي إنباء استفهامه شكاية عن العباد أي : أفلا تأتون طلاب عرائس جمال الأزل إلى حجاب القرآن لأن تحت كل حرف حجلة من نور البهاء ، وفيها عروس من عرائس جمال الأزل يتلو بلسان السر بنعت الترنم حقائق خطاب الحق.

قال بعضهم : لا يتعظون بكريم مواعظه ، ويتبعون محاسن أوامره.

قال أبو عثمان المغربي : تدبرك في الخلق تدبر عبرة ، وتدبرك في نفسك تدبر موعظة ، وتدبرك في القرآن تدبر حقيقة ومكاشفة ، قال الله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) جزاك به على تلاوة خطابه ، ولولا ذلك لكلت الألسن عن تلاوته.

قال السري : أفهم الناس من فهم أسرار القرآن وتدبر فيه.

وقال سهل : تدبر القرآن تفهمه ، ولا يكون التدبر فيه إلا لمن عرف المقاصد فيه ، ونطق بمعنى الحق.

قوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أعلم الحق سبحانه وتعالى أن المتكلفين برسوم العلم يظهرون من أنفسهم بالزّي والمقالة الظاهرة أنهم بلغوا مقام الربانيين ، والذين هم مخاطبون من الله بأسرار القرآن ، المكاشفون بأنوار عجائبه ، ولطف حقائقه ، حين تعرضوا بالأرواح الربانية والأسرار القدوسية ، واستنباط جواهر الأسرار من بحار القرآن ، أي : لو تركوا التكلف ، وألقوا زمام الأمر إلى ملوك المعارف ، وهم أولو الأمر في الملك والملكوت لسمعوا منهم حقائق مفهوم الخطاب ، ولنجوا من مهالك آرائهم الباطلة.

قال ابن عطاء : لو أخذوا طريق السنة وطرق الأكابر في إرادتهم لأوصلهم ذلك إلى المقامات الجليلة من مقامات الإيمان التي هي محل الاستنباط وطرق المكاشفات.

قال الحسين : استنباط القرآن على مقدار تقوى العبد في ظاهره وباطنه وتمام معرفته ، وهو أجلّ مقامات الإيمان.

قال أبو سعيد الخرّاز : إن لله عبادا يدخل عليهم الخلل ، ولولا ذلك لفسدوا وتعطلوا ، وذلك أنهم بلغوا من العلم غاية صاروا إلى علم المجهول ، الذي لم ينصّه كتاب ، ولا جاء به خبر ، لكن العقلاء العارفين يحتجبون له من الكتاب والسنة بحسن استنباطهم ومعرفتهم ، قال الله تعالى : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (١).

__________________

(١) أي : يستخرجون تدبيره بتجاربهم وأنظارهم الصحيحة ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها ، وأصل الاستنباط إخراج النبط وهو الماء يخرج من البئر أول ما تحفر يقال أنبط الحفار إذا بلغ الماء وسمى القوم الذين ينزلون بالبطائح بين العراقيين نبطا لاستنباطهم الماء من الأرض ، وقيل : كانوا يقفون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء أو على خوف واستشعار فيذيعونه فينشر فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا لعلمه الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون منه فالمراد

قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) فضل الله معرفته ، ورحمته حفظه وكلاءته عبده عن متابعة الشيطان ، وهذا عامّ في المريدين خاصّ في العارفين ، والفضل والرحمة منه للعموم ، ومحبته للخصوص الذين هم المستثنون بقوله : (إِلَّا قَلِيلاً).

قال ابن عطاء : لولا فضله عليكم في قبول طاعاتكم لخسرتم ما ضمن لكم في آخرتكم ، لكن برحمته نجّاكم من حسراتكم ، وتفضّل عليكم بما نجّاكم.

قال الأستاذ : لولا فضل الله مع أوليائه لهاموا في كل واد من التفرقة كإسكانهم في الوقت.

(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣))

__________________

بالمستنبطين منهم على كلا الوجهين الرسول وأولوا الأمر.

قوله تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ) إذا خرج عارف بكسرة الربوبية من الغيب ، وظهرت سلطنته في العالم هاج نيران حسد الحساد عليه ، وخافوا كسر شوق سالوسهم ، وافتضاحهم بين الخلق ، ويختالون به كسحرة موسى بموسى عليه‌السلام من حسد فرعون ، لكي يوقعوه في بعض مخائيل الشيطان ومكائيل النفسانية بتربيتهم الرئاسة والدنيا وجاهها في عينه ؛ ليكون مخدوعا مفتضحا مثلهم ، وأن الله سبحانه حافظ أوليائه وناصر أحبائه ، يحفظهم بكلاءته الأزلية ورعايته الأبدية.

قال بعض المشايخ : ودّ أهل الدعاوى الفاسدة أن يكون المتحققون في أحوالهم أمثالهم ، فلا تظهر عليهم فضائح دعاويهم ، فحذّر أولياءه ألا يجالسوا المخالفين ؛ لئلا يقع عليهم شؤم حسدهم بقوله : (فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤) لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا

حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا) أي : إذا سلكتم مسالك المقامات بين يدي الله تعالى لطلب مشاهدة الله ، وسرتم بأسراركم في أسرار صفاته وأنوار ذاته تبينوا حقائق كل مقام بعرفان وبرهان وذوق وإيقان ، وتثبّتوا ، واستقيموا في ظهور جلال الله ؛ لئلا تقعوا في تفرقة التلوين ، ولا تقعوا في التشبيه في معارك مكريات الالتباس ؛ لأن هناك ظهور الذات في لباس الصفات ، وظهور الصفات في لباس الأفعال.

قيل : إذا سافرتم اطلبوا أولياء الله ، وتثبتوا ألا يفوتكم مشاهدتهم ؛ فإن الفوائد في الأسفار وموضع التثبت والاستقامة.

قوله تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (١).

(الْمُجاهِدِينَ) : الذين بدلوا بهجتهم في طلب مشاهدة الله بوصف المراقبة.

و (الْقاعِدِينَ) أهل الفترة قعدوا عن طلب جماله تعالى بحظوظ البشرية.

و «الأجر العظيم» : مشاهدة الله ، ووصول قربته.

قال بعضهم في قوله : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ) القائمين بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر (عَلَى الْقاعِدِينَ) عنه (أَجْراً عَظِيماً).

قوله تعالى : (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) وصف قوما أقعدهم نور الشهود عن السير في المجاهدات ، وأفناهم عن طلب الخروج من نيران الكبرياء ، وطمس طرق الرجوع من مشاهدة الذات إلى الصفات ، ومن الصفات إلى الأسماء ، ومن الأسماء إلى الأفعال ، ومن الأفعال إلى الخلق في عيونهم ، وحيرهم في قفار الأزليات والأبديات حتى لو يريدون روح الفترة لحظة لم يظفروا به ؛ لأنهم مردودون من بحار الصفات إلى بحار الذات ، ومن بحار الذات إلى بحار الصفات ، (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً) الرجوع إلى البشرية ، (وَلا

__________________

(١) قال القاضي أبو محمد ـ رحمه‌الله : لأنهم مع المؤمنين بنياتهم كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك «إن بالمدينة رجالا ما قطعنا واديا ولا سلكنا جبلا ولا طريقا إلا وهم معنا حبسهم العذر».

قال ابن جريج : والتفضيل «بالأجر العظيم والدرجات» هو على القاعدين من غير أهل العذر ، المحرر الوجيز (٢ / ١٧٩).

يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) إلى الكون والعلة ؛ لأنهم مستضعفون في قبضة الألوهية ، مستغرقون في قاموس القدمية.

قال أبو سعيد الخرّاز : الذين أسرهم البلاء ، واستولى عليهم حتى صار البلاء لهم وطنا بعد ما كان الحول لهم وطنا ، ثم أفنى عنهم شاهد البلاء علم البلاء ، وردّ عليهم على الإنسانية بإثبات علم الحق ، وذلك حين ردت إليهم صفاتهم بعد محو آثارهم فإذ ذاك (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً).

قوله تعالى : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) أي : من هاجر من أوطان نفسه إلى فضاء ولاية التفريد ، وأتلف مهجته في طريق محبة الله ، ولم يبق له مسكن يسكن قلبه فيه من العرش إلى الثرى ، ويجد في الأرض المشرقة بنور وجه الله سبحانه مواطن الأنس ، ومواقف القدس وسعة أنوار قربته وسنا وصلته يستغني به عن كل موطن ومرقد ، وعن كل مألوف سوى الله ، وفي أرض القدم وفضاء الأزل للعارفين المهاجرين منهم إليه مراغم وطنات الصفات ، ومشارب سواقي الجلال والجمال في بحار الذات وسعة كنوز أزل الآزال ومشاهدة أبد الآباد.

وأيضا : من هاجر لله في سبيل الله ، وصار غريب الله في بلاد الله مستوحشا مما دون الله ، يجد في أكناف أطراف الأرض مراغم صحبة أولياء الله التي هناك سعة أنوار مشاهدة الله.

قال الأستاذ : من هاجر في الله بما سوى الله ، وصحح قصده إلى الله وجد فسحة في عقوق الكرم ومقيلا في ذوي القبول ورحبا وسعة في كنف القرب.

قوله تعالى : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) أي : من يخرج من طبيعته وهوى نفسه وحوله وقوته وإشاراته وعباراته وعلمه ورسمه إلى الله في طلب مشاهدته وإلى الرسول في متابعته بنعت المحبة ، ويدركه في تضاعيف السير بعض الامتحان ، ويقع في منزل الفتوة بعد المجاهدة ، وقد وقع أجر الوصلة له ؛ لأن الله تعالى يجازيه بصدق مقدم الأول قبل أن يهاجر عما دون الله تعالى ، وقبل أن يخرج عن جميع مراداته وهواه متبعا لأوامر الله وما يوصله إلى رضوانه.

قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) هذه رخصة لأهل المشاهدة ، الذين استغرقوا في بحار المعرفة والمحبة ، فإذا غلب عليهم سلطان الوجد وحان وقت الخدمة سهل عليهم أحكام الفريضة بترخيص الله إياهم ، وهم إنس الله الذين يجوز لهم التوسع والرخص ، وعلى صورة الظاهر الضعفاء رخصة من عجزهم في ديوان الإنسانية عن حمل وارد الشرع بهيئاته.

قوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) بيّن الله سبحانه أن واجبات العبودية لا تسقط عن العبد ما دام فيه الرمق ، إما في الخوف وإما في الأمن ، ومن تاه في الوجد وهام في الغلبة فهو مجنون العشق ، خارج عن مراتب التمكين ، وذلك علة له ؛ حيث ضعف في الوجد عن حمل وارد الشرع ؛ لأن سلطان الشرع حقّ الله ، وسلطان الوجد حظّ العبد ، وسلطان الله غالب على ما دونه ؛ لذلك أمر سيد الرسل والأنبياء والأولياء بإقامة الصلاة في مقام الاضطراب والتلوين والامتحان ، وهو سائح بحر المشاهدة ، وأصحابه فرسان ميادين المحبة ، وسادات أهل الولاية ، ولو سقطت العبودية عن أهل الوجد لما أمر لسيد الواجدين بأداء الفريضة في مقام الخوف.

والإشارة فيه : أي : إذا كنت بينهم فتكون الصلاة على وفق مراد الله من العباد.

وأيضا : إذا كنت فيهم فالصلاة ترجع إليهم ، وإذا غبت عنهم فالصلاة ترجع إلينا ؛ لأنهم في البداية في رؤية الوسيلة ، وفي النهاية في إسقاط الوسيلة.

وأيضا : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) اشتغلت بتأديبهم ، وإذا غبت عنهم اشتغلت بنا ، فالشرع خفي على العباد ، وخفي لك حجاب لحق مشاهدة الشرع في مواطن القرب ، بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّه ليغان على قلبي» (١) أي : شغلي بكم حين يمنعني قلبي من حظ مشاهدتي من الله.

وأيضا : أي : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) لأنك تدري أن ساحة كبريائي مقدسة عن وقوف المصلين ، وشريعة بحار قدمي منزهة عن ورد الواردين ، فالعبودية ترجع إلى العباد ، والربوبية ترجع إلى عظمتي وكبريائي.

وأيضا : إذا كنت مشغولا بمشاهدة جمالي ، وتسبح في بحار عظمتي فتضيف عالم الخدمة إليهم ، فإنك غائب بسترك في عيني وغيب غيبي وجلال مشاهدة أزلي ، وسقط عنك ما أوجبت على الغير ، وهذا موضع خاصّ له عليه الصلاة والسلام ، الذي قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبيّ مرسل» (٢).

قال الحسين بن منصور : ليس لله مقام ولا شهود في ناد ، ولا استهلاك في حيرة ، ولا ذهول في عظمته يقطع عن الآداب الشرعية ، ولا له مقام أوقف فيه الموحدين ، أشهدهم الشريعة أن جريانها عليهم علم للغير لا لهم.

ومما يصح هذا قوله : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) فجعل إقامته للصلاة

__________________

(١) رواه مسلم (٤ / ٢٠٧٥) ، وأبو داود (٢ / ٨٤).

(٢) ذكره المناوي في فيض القدير (٤ / ٦).

أدبا لهم ، وهو في الحقيقة في عين الحصول لا يرجع إلى غير الحق في منصرفاته ، ولا يشهد سواه في سعاياته.

وقال بعضهم : ما دمت فيهم فإن الصلاة تكون قائمة ، وإذا غبت فالصلاة آتية إليها ، كما قال : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى).

(فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦))

قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ).

الإشارة فيه : أي : إذا أخرجتم من مقام الصلاة فينبغي أن تكونوا في جميع الأحيان كأنكم في الصلاة ؛ لأن الصلاة هي الذكر بعينه ، وصورة الصلاة شاغلة عن الذكر الحقيقي ، الذي هو نور وجه المذكور ، أي : إذا تخلصتم عن آلة الصلاة وعلة الأمر فاذكروني بنعت المراقبة في جميع أنفاسكم ؛ لأنكم في مشهد مشاهدتي ، واسترحتم بالذكر عن أسباب الذكر ، فذكركم في القيام حيرة في وجود جلالي ومشاهدة عظمتي ، وذكركم في قعودكم سقوطكم في الوجد عن صدمات سطوات كبريائي بالبديهة ، وذكركم في جنوبكم اضمحلالكم في رؤية قدمي وبقائي ، فإذا كنتم في حالة التمكين وامتلأتم في أنوار ذكري فينبغي أن تخرجوا من أبواب الرخص ، والاستراحة في ساعة الروح ، وترجعوا إلى مقام الصلاة ، فإن آخر سيركم في ربوبيتي أول بدايتكم في عبوديتي.

ثم إنّ الله سبحانه وقّت لأيام الخدمة وقتا ، وهو كشوف أبواب العظمة والكبرياء الذي تجليه يزعج العباد إلى الفناء في بوادي عظمته وجلاله ، ولو كان دائما لاحترقت الخلائق فيها ، وفني العباد بأسرها ، وكيف يوازي الحدث جلال القدم ، ومن يجرؤ أن يتعرض بالسرمدية لساحات عظمة الله تعالى ، أوقعهم في الفترة ؛ غيرة على المعرفة ، ولم يوقّت للذكر وقتا ؛ لأن ذكره شعاع تلك الشموس وضوء تلك الأقمار ، وهو قطرات مزن الغيب ، يحيى بشريانها فؤاد المحبين والموحدين ، وهاهنا مقام الضعفاء والإسراء ، والله أعلم وأحكم.

قال أبو عثمان : وقّت الله العبادات كلها بالمواقيت إلا الذكر ؛ فإنه أمرك به على كل حال وفي كل أوان.

وقال الأستاذ في هذه الآية : الوظائف الظاهرة مؤقتة ، وحضور القلب بالذكر مسرمد ، غير منقطع.

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) تفضّل على الناس بإنزال كتابه على نبيه ، وإعطائه فهم خطابه ، وكشف لآرائه العلية عليه‌السلام حقائق حكمته الأزلية السابقة بمراده من عبودية عباده ، ووقوع صلاحهم من بيانه عليه‌السلام ، موافقا لرضا الله ، أراد من العباد عبوديته في الأزل ، وعلم جهلهم بها ، فكاشف عليها على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا معنى قوله : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) أسرار ، وفي قلبه عليه‌السلام من الله أنوار يعرف خطاب الله ، فيحكم بها بين الخلق ، ليتبين الرشد من الغي ، قال تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) [البقرة : ٢٥٦] كتاب الظاهر الشاهد على ما أراد الله من مشاهدات الغيب ، وما قدر الله لعباده من أحكام العبودية وعرفان الربوبية ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه» (١).

قال سهل : (بِما أَراكَ اللهُ) أي : بما علمك الله من الحكمة في القرآن والشريعة.

قال بعضهم : بما كشف لك من بواطنهم ، وأظهره لك لا على ما يظهرونه ، فإن رؤيتك لهم رؤية كشف وعيان.

قال ابن عطاء : (بِما أَراكَ اللهُ) فإنك بنا ترى ، وعنا تنطق ، وأنت بمرأى منا ومسمع.

(وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢))

__________________

(١) رواه أحمد (٤ / ١٣٠).

قوله تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) بيّن الله سبحانه في هذه الآية أن أمر النبوة ليس من طبائع الخلق والخليقة ، ولا للاكتساب فيه مدخل ؛ إنما يتعلق باصطفائية أزليته واجتبائية أبديته ، وبيّن موضع السهو والنسيان الإنساني ، وبيّن أن التنزيه عن الغلط والسهو لا يكون إلا لله تعالى ، عجز الخليقة عن إدراك قدس الأزلية والخروج عن علة البشرية بالكلية ، وأدّبه ليلقى أزمة الأمر إلى مراد الله ولا يزيد إلا ما يريد ، قال : (وَلا تُجادِلْ) أي : ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم وحظوظها على مراد الله ومحبته وخيانتهم مع أنفسهم أنهم عاهدوا الله أن يبذلوا نفوسهم إليه ليفعل بها ما يشاء ، ليربيها بحسن قربته وحلاوة وصلته ، فلما أعطوا حظوظها نقضوا عهد الأول ، وألقوا أنفسهم في ظلمات هواها حتى بقيت في الحجاب عن الوصول إلى العهد الأول ، وهذا غاية الخيانة مع النفس.

قال بعضهم : خيانة النفس اتباع مرادها وترك نصيحتها.

قال الحسن بن علي الدامغاني : من خان الله في السر هتك سرّه في العلانية.

قوله تعالى : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) أي : يسترون من الناس معايبهم ، وخيانتهم تعميهم عن رؤية عجز الناس وقلة قدرتهم بدفع المضرة وإعطاء المنفعة ؛ لأنهم عاجزون في قبضة التقدير ، وعظم الخلق في قلوبهم من قلة عرفانهم عظمة الله وجلاله وإحاطته بكل ذرة من العرش إلى الثرى ، ولا يستترون من الله ؛ لأنهم ليس لهم استعداد عرفانه الذي ثمرته الخوف والحياء من الله سبحانه ، قال عليه‌السلام : «أنا أعرفكم بالله ، وأخوفكم منه» (١) ، بيّن أن زيادة الخوف من زيادة العرفان.

وقوله : (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) أي : لا يستترون من الله في مباشرة القبائح ، وهو محيط بظاهرهم وضمائرهم وإراداتهم ، لا يعرفونه بنعت الإحاطة ، وأنهم لا يقدرون بالاستتار عنه ، وهذا نفي فائدته بيان عجزهم عن الاستتار عنه ، ومعناه أنهم يستحيون من الخلق ولا يستحيون من الخالق.

قال محمد بن الفضل : من لم يكن أعظم شيء في قلبه ربه كان جاهلا به ومبعدا عنه.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ

__________________

(١) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (١ / ٢٣١).

بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧))

قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) أي : أنزل عليك الكتاب شاهدا على ما كوشف لك قبل نزول الكتاب من أحكام المشاهدة والمعرفة ، وما استأثرك من علوم الغيبية لتثبيت فؤادك بما وجدت منا قبل نزول الكتاب كقوله : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) [هود : ١٢٠] ، والحكمة إحكام الطريقة وآداب القربة ونوادر علوم الإلهية ، (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) أي : علوم عواقب الخلق ، وعلم ما كان وما سيكون.

قوله تعالى : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) بمسابقتك على الأنبياء بكشف جمالي ورؤية ذاتي وصفاتي ودنوك مني حيث قلت : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [النجم : ٨ ، ٩] ، وعني بالفضل العظيم استغراقه في بحار قدمه وبقاءه بنعت المعارف والكواشف.

قال الجنيد في قوله : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) : عرّفك قدر نفسك.

قال سهل : العلماء ثلاثة : عالم بالله لا عالم بأمر الله ولا بأيام الله ، وهم المؤمنون ، وعالم بالله عالم بأمر الله لا عالم بأيام الله ، وهم العلماء ، وعالم بالله وعالم بأمر الله وعالم بأيام الله ، فهم النبيون والصديقون.

وقيل : علمتك من مكنون أسراري ما لم تكن تعلمه إلا بي.

قال الواسطي في قوله : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) : إنما عظّمه بالمباشرة ، فاحتمل الذات بعد ما احتمل الصفات ، وموسى احتمل الصفات ، ولم يحتمل الذات.

قال بعضهم : فضلت في الأزل بفضائل ، وقد تعثر في المشاهد العثرة ، كما قال : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) [التوبة : ٤٣] ، فتعاتب ، ثم ترد إلى الفضل الذي جرى لك في الأزل.

قيل في قوله : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) : من علو رتبتك على الكافة (١).

قوله تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) وبّخ الله سبحانه قوما ليس مجالستهم ونجواهم لله فكل مجالسة على غير ابتغاء وجه الله ، والشيطان يغريهم إلى الغيبة والبهتان والنميمة والترهات ، أي : لا خير في كثير من هؤلاء في نجواهم يعني [...] (٢) وقومه.

ثم استدرك ووصف أهل المجالسة لله الذين جلسوا لمحبته ، وقاموا لشوقه ، واجتمعوا لعشقه ، وتفرقوا لطلب زيادة معرفته والمساكنة في مجالس أنسه بالخلوات في الفلوات.

ثم وصفهم بأحسن الوصف ؛ حيث آواهم إلى كنف قربه وحجال أنسه بقوله : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) [المجادلة : ٧].

ثم وصفهم على لسان نبيه ، وزاد شرفهم ؛ حيث قال عليه الصلاة والسلام فيما روى عن الله عزوجل : «وجبت محبّتي للمتحابّين فيّ ، والمتزاورين فيّ والمتجالسين فيّ ، والمتباذلين فيّ» (٣).

سبق في الأزل محبته لهم ، فأوقعتهم تلك المحبة الأزلية في بحار محبته ، حتى استغرقوا فيها إلى الآباد لا مخرج منها لهم بالنظر إلى سواه ، قال تعالى في وصفهم : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] نجواهم جريان أسراره وجولان أنفاسهم في ميادين أنواره ، فساعة تاهوا ، وساعة تحيروا ، روحهم بمروحة أنسه ، وأدخلهم في قباب قدسه ، وسقاهم من شراب لطفه ،

__________________

(١) قال حقي : احسبوا أن علم الروح مما لم يكن يعلمه ألم يخبر أن الله علمه ما لم يكن يعلم فأما سكوته عن جواب سؤال الروح وتوقفه انتظار للوحي حين سألته اليهود فقد كان لغموض في معنى الجواب ودقة لا تفهمهما اليهود لبلادة طباعهم وقساوة قلوبهم وفساد عقائدهم ، فإنه وما يعقلها إلا العالمون وهم أرباب السلوك والسائرون إلى الله فإنهم لما عبروا عن النفس وصفاتها ووصلوا إلى حريم القلب عرفوا النفس بنور القلب ولما عبروا بالسر عن القلب وصفاته ووصلوا إلى مقام السر عرفوا بعلم السر القلب وإذا عبروا عن السر ووصلوا إلى عالم الروح عرفوا بنور الروح السر وإذا عبروا عن عالم الروح ووصلوا إلى منزل الخفى عرفوا بشواهد الحق الروح ، وإذا عبروا عن منزلة الخفى ووصلوا إلى ساحل بحر الحقيقة عرفوا بأنوار صفات مشاهدات الجميل الخفى ، وإذا فنوا بسطوات تجلى صفات الجلال عن أنائية الوجود ووصلوا إلى الجنة بحر الحقيقة كوشفوا بهوية الحق تعالى وإذا استغرقوا في بحر الهوية وابقوا ببقاء الإلهية عرفوا الله بالله ، فإذا كان هذا حال الولي فكيف حال من يقول علمت ما كان وما سيكون. [روح البيان ٧ / ٢٨٠].

(٢) بالأصل (طعمة) وهي غير واضحة.

(٣) رواه أحمد (٥ / ٢٣٣).

وأسكرهم بجمال وجهه ، وحثهم إلى مسامرته وذوق فهم طعم لطف مناجاته ، فإذا سكنوا من سطوات مشاهدة جلاله ، وأفاقوا من سكر جماله لحظة احتالوا لزيادة محبته في أخذهم طريق بذل المهجة لمحبته ، ورجعوا إلى سنن المجاهدات وحقائق العبادات ، أمر بعضهم بعضا ببذل الأرواح والأشباح ؛ لشوقهم إلى عالم الأفراح ، وأمروا بالمعروف بحكمهم على النفوس الأمارة بإذابتها في المجاهدة بنيران الرياضة ، ويراعي بعضهم بعضا بحسن النصيحة وآداب الطريقة ، ويسألون الله صلاح هذه الأمة من كمال شفقتهم على عباد الله وبلاد الله ، وهم المستثنون من قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) ، وبيّن أن ذلك لزيادة رغبتهم في مشاهدة الله ، وشوقهم إلى جماله ، وهو تعالى وعدهم بتضعيف زيادة كراماته ودرجاتهم بقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

قيل في تفسيره : (لا خَيْرَ) في الاجتماعات إلا ما يعود نفعه عليك أو على أهل مجلسك.

وقيل : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ) تصدّق بنفسه بمنعه عن أذى المسلمين ، وارتكاب المحارم.

(أَوْ مَعْرُوفٍ) قيل : المعروف حثّ النفس على سبيل الرشاد.

(لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً (١٢٢))

قوله تعالى : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) ، لما التصق رغام الإياس في أنف إبليس من إغواء الأولياء والمخلصين حيث يئس في سماع خطاب الحق جل سلطانه في وصف إحسانه من جميع العباد بقوله : (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢] ، رأى بعد ذلك في حواشي ساحات قلوبهم مجاري ضيقة تجري فيها للنفس الأمارة وهواجسها ، قال : لما يئست من انقطاع المريدين عنه (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً) ، يعني : ألتقط قطيعات من هواهم ونفوسهم نصيب وسواسي أوسوسهم من وراء القاف ؛ لأني لو دنوت منهم بالمباشرة

أحترق بنيران محبتهم ، وذلك النصيب لما سلبه سارق القهر من حومة مراقبتهم تداركوه بالندم ورموه بسهام الذكر من قوس الفكر ، فخرجوه حومة التلاوة ، ونشاب الاستعاذة ، ثم رأوه بعد ذلك أسيرا في سجن جوعهم ومجاهدتهم.

صحة ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢١] أبصروه خائبا خاسرا محترقا ، وهم بعد ذلك ينزلون أعالي منازل القرب ، وزادوهم دنو الدنو ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيس الشيطان أن يعبده المصلون ، وقال في موضع : «ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلادكم هذا أبدا ، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به» (١). في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم» (٢)

ألا ترى كيف دار حول آدم صفي الله ـ صلوات الله عليه ـ فاحترق بنيران لعنة الأبدية ، وكانت وسوسته لآدم سبب زيادة زلفته ، وقربته ، واجتبائيته ، واصطفائيته ، قال تعالى : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) [طه : ١٢٢] ، وهذا إعلام من الله سبحانه للخلق ، هكذا يكون شأن من يؤذي وليه وحبيبه من أحبائه وأصفيائه.

قال الواسطي : فقال له : إن كان إليك شيء من القدرة والقوة فاغو أحدا سوى ما جعل له من النصيب المفروض ، عند ذلك يظهر عجزه وضعفه.

وقال بعضهم في هذه الآية : لتر في أعينهم طاعتهم ، وأغلق دونهم أبواب الإنابة ورؤية الفضل.

وقد وقع لي شيء أخف : أن ذلك النصيب التفات العاشق في طلب جمال الحق إلى عالم المستحسنات ؛ لأن فيها ما يليق بالنفس الأمّارة حين تلطف في جوار الروح الناطقة العاشقة ، فأخذت الروح من الوجوه الحسان لطف معدن الحسن ، وبقى للنفس الأمارة حظّ من حظوظ الشهوات.

قال أبو سعيد الخرّاز : رأيت إبليس في منامي ، فقلت له : هل لك يد على الصوفية؟ فقال : لا. ومضى ، ثم التفت ، وقال : لي عندهم لطيفة ، وهي نظرهم إلى وجوه الأحداث.

وأيضا : نصيب الملعون منهم فرحهم بحالهم ، ووقوفهم بلذات مواعيدهم ، وإلقاء مخاييله في مكاشفتهم ، وذلك النصيب يقع على أكثر من مقاماتهم منها أي : يعدهم إلى بلوغ مقام الكرامات بغير استعمال آداب الطريق ، ومتابعة المشايخ ، وموافقة الأسوة والسنة ، وهذا

__________________

(١) رواه الترمذي (٤ / ٤٦١).

(٢) رواه أحمد (٣ / ٣٨٤).

له في المريدين.

ومنها : أن يمنيهم بطول العمر ، ونيل الدرجات في شيخوختهم بأن تقاعدوا عن استعمال رسوم المعرفة ، وكل هذا غرور الملعون ، ولا يشتري غرور إلا من فرّ من أمانة النفس في طريق الله ، وكل هذا معنى قوله تعالى في وصفه : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) ، والغرور وله للمريدين أنك قد بلغت منتهى المقامات ، وآخر الدرجات فاسكن من مجاهدتك ورياضتك ، واجلس في مجلس الشيوخ ، وتكلّم بكلامهم ، أنت أعظم منهم ، حتى يدور حولك المريدون ، وأراد بذلك الغرور أن يوقعه إلى حب الجاه والرئاسة ، فيهلك فيها كهؤلاء المطرودين في زماننا ، طهّر الله وجه الأرض منهم ، ومن أمثالهم.

قال بعضهم : (يَعِدُهُمْ) طوال العمر ، والموت غايتهم ، (وَيُمَنِّيهِمْ) (١) الغنى والفقر سبيلهم ، (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) ما يقربهم من الدنيا ، ويبعدهم عن الآخرة.

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥))

قوله تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) حقيقة هذه الآية قطع أسباب الحدث عن جناب القدم ، وإفراد الأزل عن الحوادث ، وأن الخليقة للعبودية لا للربوبية ، أي : ما دمتم في رقّ العبودية يجازيكم بأعمالكم ، ليس كما يجري على خواص الأولياء ، أنا ما دام بيني وبينهم نسبة المحبة لا أجازيهم باشتغالهم بغيري ، ولا أحاسبهم بالعثرات والزلات ؛ فإني منزّه عن أن يدركني أحد بنعت الحقوق منه عليّ ، فحقوقي قائمة على عبادي أبدا ، وهذا معنى قوله : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) لأنه وإن كان عزيزا عليّ لم يخرج من رقّ العبودية ، وأنا أجازيه بالسيئة بعد أن أوقعته فيها تربية لا حرمانا ، وإذا مال خاطر العبد العارف إلى مراد نفساني فذلك الخاطر في حساب المعرفة سوء ، فيجازيه باستعماله ، وهذا إشارة قوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ، فذلك أسوأ جزاء سوء الخاطر ، وسوء الخاطر امتحانه لتربيته ، ومن لم يعرفه فوجوده

__________________

(١) ما لا ينالون نحو ألا بعث ، ولا حساب ، ولا جزاء أو نيل المثوبات الأخروية من غير عمل. تفسير حقي (٣ / ٩٨).

كله سوء ، فمن عرفه غيره فالكل قد وقفوا فيه العالم والجاهل في مدارك عرفانه في عين النكرة ، والنكرة لا تتناهى ، والعبد في جميع الأنفاس في جزاء النكرة بعد النكرة ، وهذا معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «لو أن الله تعالى عذّب جميع الملائكة لكان حقّا له ، قيل : إنهم معصومون ، قال : من قلة معرفتهم بربّهم» (١).

وهذا الامتحان في دار الدنيا ؛ لتقديس أسرارهم عما دون الله ، وتخفيف مطايا قلوبهم عن غبار الأوزار في تلك المرائي ، التي هي مجالس الأنس ومحافل الطرب ، حيث هرب الهرب.

قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) بمعنى قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً) أنه وصف من يحمل بسربال جلاله الذي يتلألأ منه حسن وجهه القديم ، وطار بجناح المحبة والشوق في هواء هويته ، فيجد طريقا من الأزل إلى الأزل ، فيسير من الله إلى الله إلى أبد الأبد ، فتلك المسالك دينه ، أي : دين أحسن من هذا ، وهو بجلاله وعظمته دليله منه إليه ، لم ينطمس مسلك الآزال والآباد ما دام بعزته ومجده أمام مطايا أسراره وعلم رواحل أنواره :

إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا

كفى لمطايانا بريّاك هاديا

بانت سمات الحسن منه حين أسلم وجهه لله إلى جمال الله ، يتجلى من وجهه تعالى لوجه قاصده ، فيبرز نور وجه القدم من وجهه ، أفنى وجوده لإدراك وجوده ، (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي : عارف وعالم بما يطلب ويطلبه ، ومقصده مشاهدة الباقي بنعت الفناء فيها ، فسهّل عليه اضمحلاله بالله في الله.

قال ابن أدهم : من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل ، فنعته في الفناء فيه اتصافه برضاه ، فيرضى عنه فيما يريد منه ، ومثل هذا الدين دين الحنيفية الحبيبية الجليلية المسايلة عن الحدثان في مشادة الرحمن ، ألا ترى كيف وصف حبيبه بقوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧] حين رآه لم يلتفت إلى الحدثان ، وكيف وصف خليله حين برزت أنوار جلاله من مطالع القدر ببراءته عن الحدث بقوله : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ٧٩].

وبيّن تعالى أن تمام حسنه لم يكن إلا بمتابعة خليله : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) وملته كسر أصنام الطبيعة بفأس الحقيقة في بداية المحبة ، وإذهاب عرائس الملكوت من

__________________

(١) لم أقف عليه.

خاطره بقوله : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) بعد قوله : (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٧] ، حين انكشف في عينه جمال الجبروت الأول مقام الإيقان ، والآخر مقام العرفان وطريق تسليم نفسه لله في محل الامتحان بنعت سلامة القلب عما دون الرب ، قال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٩].

وزاد في وصفه بقوله : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١] امتحن تسليمه بذبح الولد ، فمرر السكين على حلقه سبعين مرة ، وامتحن بنفسه بإلقائه في النار ، فعرض عليه جبريل عليه‌السلام المعاونة ، فقال : «ألك لي حاجة؟ فقال : أما إليك فلا» (١).

وبيّن سبحانه إذا كان الخليل بهذه الصفة في عبوديته وعرفان ربوبيته اتخذه ، كان في الأزل خليل الله بلا علة ولا تهمة ، اصطفاه بالخلة في الأزل ، ولو كانت خلته بعوض ما كان فضلا ؛ لأن اصطفائيته بالخلة وصف الأزل ، والأزل قديم قبل وجود الحوادث ، حيث أقبلت صفته تعالى وهى المحبة إلى الذات ، وأقبل الذات إلى الصفة ، وتجلى الذات للصفات ، ثم تجلى الذات والصفات للفعل ، وتجلى الفعل إلى القدم ، فظهر الخليل بوصف الخليل ، ويرى الخليل الخليل بعين الجليل ، فصار خليلا للجليل ، ولذلك قال تعالى : (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) ، وهذا الذي بعينه للحبيب ، والحبيب أفضل من الخليل ؛ لأن المحبة لبّ الخلة ، ثم صرّح بالإشارة أن المحسن الراضي إذا تابع الحبيب والخليل فيما ذكرنا صار حبيب الله وخليل الله.

قال بعضهم في هذه الآية : أي من أحسن حالا ممن رضي بمجاري الأقدار عليه في العسر واليسر ، وأسلم قلبه إلى ربه ، وأخلص وجهه له وهو محسن ، أي : متبع لسنة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال أبو بكر : من ظاهر واتبع ملّة إبراهيم عليه‌السلام حنيفا ، أي : يخرج من الكونين إقبالا منه على الحق.

وقال الواسطي : حنيفا أي : مطهّرا من أدناس الكون ، خالصا للحق ممّا يبدو له وعليه.

قال ابن عطاء : اتخذه خليلا ، ولم نخالك سرائره شيئا غيره ، فذلك حقيقة الخلّة.

وأنشد :

قد تخللت مسلك الروح مني

وبذا سمّي الخليل خليلا

فإذا ما نطقت كنت حديثي

وإذا ما غشت كنت عليلا

قال الحسين : اتخذه خليلا ، ولا صنع لإبراهيم عليه‌السلام فيه ، وذلك موضع المنّة ، ثم أثنى

__________________

(١) رواه البيهقي في الشعب (٢ / ٢٩).

عليه بالخلّة ، وذلك فعل الكرام.

وقال الواسطي : تخللته أنوار بره ، فسماه خليلا.

وعن جعفر بن محمد قال : أظهر اسم الخلّة إبراهيم عليه‌السلام ؛ لأن الخليل ظاهر في المعنى ، وأخفى اسم المحبة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتمام حاله ؛ إذ لا يحب الحبيب إظهار حال حبيبه ، بل يحب إخفاءه ، ويستره ؛ لئلا يطّلع عليه سواه ، ولا يدخل أحد فيما بينهما.

وقال ابن عطاء في تفسير قوله : (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي : قصده وتدبيره لربه وهو محسن ، أي : يرى الحق بسره ، فأسلم له ذلك كله مفوضا إليه ومسلما تدبيره إليه.

قوله تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) كان الله تعالى ألزم النفوس سمات النكرة ، وفتح أبصارها عليها حتى لا ترى إلا وجودها ، فعشقت على وجودها ، وعميت عن رؤية خالقها ، فتكون كل وقت في طلب حظها من العالم ، فإذا حركها الله بواجب العبودية تأبى عن ترك حظوظها ؛ لقلّة عرفانها حظ الأكبر ، وهو مشاهدة خالقها ، التي هي رأس كل دولة في الكونين ، وهذا معنى قوله : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ).

قال النوري : ألزمت الأشباح مخالفة الحق في جميع الأحوال ، وشحها ما يضرها من طلب الدنيا.

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ

وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨))

قوله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) العدل صفة الحق ، فمن اتصف بصفته يكون عادلا في جميع الأحيان ، لكن ما كان العدل مستعارا في التخلق يرجع إلى معدنه عند الامتحان ، ولذلك قال تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا) ، وهاهنا أجدر أن ينصرف العدل إلى معدنه ؛ لأن ميلان الأرواح والأشباح بعضها بعضا علّة الفطرة ، وحبّ النساء من أحكام العشق الروحاني طبعا وطلبا لمعدن حسن الأزل ، فكيف تكون الاستطاعة من النفس بالعدل بينهن والروح في طلب زيادة الحسن أبدا! ولذلك قال تعالى : (وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) أي : أرموا النفوس بأزمة المجاهدة والرياضة والمراقبة عند امتناعها من الخضوع عند أمر خالقها.

قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) : فكيف تستطيعون العدل بينكم وبين الحق وليس من العدل أن تحب ما يشغلك عن حبيبك ، وليس من العدل أن تفتر عن طاعة من لا يفتر عن ترك.

وقال الواسطي في قوله : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) الجوارح تبع للقلب ؛ لأنه أمير أمرك أنّ تخالفه إذا خالف الحق.

(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ) التقوى حقيقة العبودية ، ولا يستقيم أمرها إلا بأداء حقوق التقوى ، وهى الاجتناب مما منعه الله من النفس والهوى ، ومعنى (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) أي : أنظروا بأبصار القلوب إلى عالم الغيوب ترون سبحات عظمتي وجلال عزتي الذي ينبغي للعباد أن يدونوا تحت تجليه.

قال بعضهم : أمر الكل بالتقوى ، وأوصل النفس إلى التقوى ، من جرى له في السبق عناية.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ) أمر سبحانه العباد بالإنصاف والقسط والعدل في الشهادة ؛ لئلا يتنوع الحكم حين تميل النفس إلى غير الله ، أي : راقبوني في أمري ، ولا تراقبوا غيري ؛ فإن الشاهد العادل إذا كان مراقبا لي يرى شهودي على كل ذرة ، فيفرغ بي شهادته من شهودي.

قال الجنيد : لن يصل إلى قلبك روح التوحيد ، وله عندك حقّ لم تقضه أو لم تؤده.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) هذا بلسان الحقيقة خاطب المريدين الذين آمنوا بالمقامات والكرامات والمكاشفات والمشاهدات في بدو الإرادة مطلقا بغير المباشرة ، فإذا وقعوا في مسلك الحقائق رأوا أحكام الغيب ، وسمعوا أصوات الإلهام من هواتف الملكوت ، واضطربوا عند معارضة النفوس ، أي : أيها المدّعون في بدايتكم بالإيمان على حقائق الطريقة اثبتوا بنعت الإيقان في محل الامتحان عند كشوف أسرار الغيب ، وأيقنوا أن ما سمعتم من خطاب الأسرار فهو كلامي على لسان تلك الهواتف.

وأيضا : لهذا خطاب الأكابر ، أي : أيها العارفون اعرفوني ؛ فإن ما وصلكم من معرفتي فهو يؤولكم إلى النكرة ، ومن ظن منكم أنه بلغ إلى حقيقة المعرفة أخطأ الطريق ، فإني ممتنع بعزتي وجلالي عن مطالعة الخليقة وجود قدمي ، وارجعوا من تفردكم عند إفرادكم القدم عن الحدوث إلى الوسائط ، يعني الإيمان بالرسول ؛ فإنه حادث يكون محل الحوادث ، وساحة الكبرياء منزّهة عن الإيمان والكفر.

سئل فارس : ما معنى هذه الآية وليس في ظاهرها التجريد؟ قال : التجريد إنما يقع بلسان السرّ من جهة هواتف الحق ، ومعنى الآية : (آمَنُوا) ، وقوله : (وَرَسُولِهِ) يريد تكرار الإيمان.

وقيل : أي : أيها المدعون تجريد الإيمان بي من غير واسطة ، لا سبيل لكم إلى الوصول إلى عين التجريد إلا بقبول الوسائط.

قال الأستاذ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) من حيث البرهان آمنوا من حيث البيان إلى أن يؤمنوا من حيث الكشف والعيان.

ويقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) باستعمال أدلة العقول آمنوا إذا تحتم بعفوه الوصول ، واستمكنت منكم حيرة البديهة ، وغلبات الذهول ، ثم أفقتم من تلك الغيبة ، فآمنوا أن الذي كان غالبا عليكم كان شاهد الحق لا حقيقة الذات ، فإن الصمدية ممتنعة مقدسة عن كل قرب وبعد ووصل وفصل.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً) يصف أهل التردد في سلوك سبيل أولياء الله والإيمان بهم وبأحوالهم حين هاجت رغبتهم إلى رئاسة القوم أشرفهم عند الخاص والعام ، وآمنوا رسما لا استعدادا ، فلمّا جنّت عليهم ظلمات المجاهدات لم يحتملوا ، وأنكروا عليهم ، ورجعوا إلى حظوظ أنفسهم ، فإذا سمعوا أفكار الخلق على ترددهم ورأوا مهابة الأكابر

عندهم آمنوا بعد ذلك رسما لا حقيقة ، فلمّا لم يصلوا إلى شيء من مقامات القوم وكراماتهم ارتدوا ، وصاروا منكرين على القوم وعلى مقاماتهم ، وزاد إنكارهم على الإنكار حين رجعوا إلى اللذات والشهوات ، واختاروا الدنيا على الآخرة ، ويقولون عند الخلق إن هؤلاء ليسوا على الحق ، ويطعنونهم ، يقعون في تمزيقهم وغيبتهم حتى تضيق صدور القوم عليهم ، وأن الله سبحانه ينتقم منهم بأن يشغلهم بجمع المال والرئاسة ، ولا يرشدهم بعد ذلك إلى سبيل الرشاد ، وتبقى على وجوههم سمات الخسران ، ويحترقون غدا عندهم في وسط النيران ، وهذا وصف أهل زماننا من المنكرين الذين كان عندهم بالإرادة الإيمان بنا وبأحوالنا.

قال الأستاذ : إنّ الذين تبدلت بهم الأحوال فقاموا وسقطوا ثم تغشوا وعثروا ثم ختم بالسوء أحوالهم أولئك الذين قصمتهم سطوات العزّة حكما ، وأدركتهم شقاوة القسمة خاتمة وحالا ، الحق تعالى لا يهديهم لقصد ولا يدلهم على رشد.

(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧))

قوله تعالى : (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) أعلم الحق سبحانه أن

جهلة النفوس طلبوا العزّ من موضع الذل وأخطأوا الطريق ، فان العزّة بصفة الأزلية ، ومن لم يكن متصفا بعزّة الأزلية لم يكن عزيزا بين الأعزّاء ، ويكون ذليلا بين الأذلّاء ، قال على وجه الاستفهام والتعجب ونفي العزّ عن غيره ، وأضاف العزّة إلى جلاله وعظمته ، أي : افهم أنهم لو يريدون العزّة فينبغي أن يطلبوا العزّة إلى جلاله وعظمته ، أي : افهم أنهم لو يريدون العزّة فينبغي أن يطلبوا العزّة من عند من كان عزيزا ، يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وأولياءه ؛ لأن عليهم رداء عزّة العزيز ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨].

قال محمد بن الفضل : كيف تبتغي العزّة ممن عزّه بغيره ، فاطلب العزّة من مظانه ومكانه ، قال الله : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) فمن اعتزّ بالعزيز أعزّه ، ومن اعتزّ بغيره أذله.

قال رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اعتزّ بالعبد أذلّه الله» (١) ، فابتغ من عند ربّ العزّة يعزّك في الدنيا والآخرة.

قال أبو سعيد الخرّاز : العارف بالله لا يرى عزّة إلا منه.

قال الواسطي : ما مالت سريرة إلى حبّ العزّ إلا ظهر خسوفها ، وما مالت النحيرة إلى حبّ الدنيا إلا ظهرت ظلمتها عليه ، فصارت محجوبة ، وعن [المآب (٢)] مصروفة.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) بيّن أن من خالف الطريق ، وظهرت منه الخيانة لم يصل إلى مقام الأول إلا بالعبور على هذه الشرائط المخصوصة ، منها التوبة وهى الخروج من النفس والهوى ، والرجوع إلى الله بمراد الله ، والإصلاح وهو إصلاح السريرة بنعت تقديسها عن النظر إلى غير الله ، والاعتصام بالله الالتجاء إليه في جريان القضاء ، والقدر عليه الإخلاص في الدين تجريد الأسرار عن النظر إلى الأغيار ، فإذا غير على هذه القناطر فتكون في السلوك مع العارفين ، ولكن لم يكن معهم في مشاهدة رب العالمين لا صحبة المخالف لم تكن مستعدة لما نال أهل المعارف والكواشف ، وبيان ذلك قوله تعالى : (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ، وما قال «من المؤمنين» أي : ليس هؤلاء منهم وإن اجتهدوا في الطريق ؛ لأن الجاهد وإن اشتد جهده لم يكن عارفا ، لأن المعرفة موهبة الأزلية ، وهبها الواهب لمحبيه بغير علّة ، وهذا إخبار عن قوم محرومين من الوصول إلى هذه المقامات ، وظهر في نحوي الخطاب أن هذا الخبر منهم أنهم لم يفعلوا ذلك.

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (٢ / ١٧٤).

(٢) غير واضحة بالأصل.

قال ابن عطاء : (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ، ولم يقل «من المؤمنين» ؛ ليعلم أن الاجتهادات لا تؤثر في سبق الأزل.

قال أبو عثمان : التوبة الرجوع من أبواب الخلاف إلى أبواب الائتلاف.

وقال محمد بن الفضل : الاعتصام هو التشبث بالسنة وطرق السلف.

وقال سهل : تابوا من التوبة.

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢))

قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) بيّن سبحانه شفقته على العباد ، حيث لا يرضى بشناعة الغير عليهم ظاهرا ، فكيف يرضى من نفسه أن يهتك سترهم ، اعلم أنه غيور ؛ حيث لا يحب الجهر بالسوء من القول.

وقوله : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) لأن حديث المظلوم هفوة وانبساط بين يديه ، وليس قول السوء فحشا ، إنما هو الدعاء على ظالمه ، وهو سميع لدعاء المظلوم على الظالم ، وهذا كقوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) [الشورى : ٤١] ، وهذا تسلية وشفاء لعلّة المظلوم.

قال الواسطي : لا يرضى الله من عباده باستماع الجفاء إلا مثاله إلا من جحد نعم الله عنده في البينات والبراهين.

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ

مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦))

قوله تعالى : (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) أراد بالسلطان المبين سطوع نور التجلّي من وجهه حتى لا يرى أحد وجهه إلا حارت عيناه من غلبة بهاء الله وعظمته على وجهه ، وأخبر سبحانه عن ذلك النور ؛ لقوله : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) (١) [طه : ٣٩].

قيل في تفسير الظاهر : ملاحة في عينيه لا يراه أحد إلا أحبه ، وذلك النور أيضا من نور تجلّي الحق الذي ظهر من الشجرة حين سمع خطاب الحق منها ، وذلك قوله تعالى : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) [طه : ١٠] ، وكان موسى عليه‌السلام من فوقه إلى قدمه برهان الله للعالمين ، وهكذا كل نبيّ ووليّ.

ألا ترى إلى اليد البيضاء والعصا وأعظم البرهان في وجهه عكس التجلّي من جبل الطور على وجهه حتى احتاج بعد ذلك أن يستر وجهه بالبرقع ، والسلطان المبين أيضا إخباره عن الله بكلام الله.

قال بعضهم : قوة عظيمة على سماع المخاطبة من كلام الحق.

وقيل : أعطى سلطانا على نفسه في مخالفتها وهو المبين الظاهر للخلق.

(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما

__________________

(١) أظهر الله عليه ميراث علمه قبل العمل ، فأورثه محبة في قلوب عباده ؛ لأن من القلوب قلوبا تثاب قبل الفعل ، وتعاقب قبل الرأي ، كما يجد الإنسان في نفسه فرحا لا يعرف سببه ، وغما لا يعرف سببه [تفسير التستري (١ / ٣٢١)].

أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢))

قوله تعالى : (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) كان روحا روحانيّا إلهيّا يحيي الأموات به ، حيث يبرز نور الألوهية منه لها ؛ لأنه من الله سبحانه بالقدرة ، فلمّا أراد الله أن يرفعه إلى جواره رفع الحجاب عن روحه ، فظهر روحه لبعض خاصته ، فصار منقوشا بنقشه ؛ لأن صورة عيسى عليه‌السلام منقوشة بنقش روحه ، وهذا منه قوة إلهية ، وهو كان بها مؤيدا بقلب الأعيان ، ولا تكون هذا إلا من فعل الله المنزّه عن مزج لاهوتية ناسوتية الإنسان.

وأدقّ الإشارة فيه : أن الله سبحانه عرف طباع اليهود والنصارى بميلها إلى التشبيه ، وتنفرها من القدس والتنزيه ؛ لأنهم أصحاب المخائيل.

ألا ترى إلى عبدة العجل كيف كان حبهم لها ، وقول النصارى أن الله هو المسيح ، فشبه لهم صورة عيسى عليه‌السلام بنعت الالتباس من تجلّى نور اللاهوت من الناسوت لقلّة عرفانهم قدس الأزل عن نعوت الحدث ، فغلظ بعضهم وقالوا بإلهية عيسى وعزير عليهما‌السلام ، فغرقهم عيسى مكان المكر في الالتباس ، وفات خطهم من رؤيته ، قصدوه بالقتل ، فألقى الله سبحانه عكس ذلك الشبه على أحد استدراجا ومكرا ، فقتلوه ؛ لأنهم ما وجدوا فيه ما وجدوا في عيسى عليه‌السلام من حلاوة الحب ولذّة العشق ، وهذا الفقدان من رفعه إلى السماء بقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ).

قيل في تفسير : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) كساه الريش ، وألبسه النور ، وقطع لذّة المطعم والمشرب ، وطار مع الملائكة حول العرش ، فكان إنسيّا ملكيّا سماويّا أرضيّا.

قوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) المستقيمون في سماع خطاب الخاص من الله سبحانه بغير معارضة النفوس واضطراب الأسرار ؛ لأنهم عالمون إلهام الحق من وسوسة الشيطان ، وهم مفرّقون بين لّمة الشيطان ولّمة الملك ، ويعرفون خطاب العقل والقلب والنفس والروح والملك والسرّ والشيطان بنور خطاب الله ، ويعرف به مكان كل خطاب ، علمهم لدنيّ ، ولسانهم إلهيّ ، وقلبهم عرشيّ ، وروحهم ملكوتية ، وأسرارهم مشحونة بالعلوم المجهولة ، والأنباء العجيبة الغيبية ، ويزنونها في جميع الأنفاس بميزان القرآن والسنة وكلام الأولياء.

قيل : هم العلماء بالله ، والعلماء بأمر الله ، والمتبعون سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قيل : هم الواقفون مع حدود العلم وشرائطه ، لا يجاوزونه بالرخص والتأويلات.

ويقال : الراسخ في العلم من يرتقي عن حدّ تأمل البرهان ، ويصل إلى حقائق البيان.

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠))

قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) ذكر الأنبياء عند ذكره تسلية في الامتحان ، وتثبيتا للكشف والخطاب والبيان بالغيرة لزيادة المحبة والقربة ، وذكر نوح عليه‌السلام ثاني ذكره ؛ لأنه هو نواح الحضرة من الشوق إلى المشاهدة ، ولأن بينهما مشاركة في احتمال الجفاء من الأغيار ، ألا ترى كيف قرّبه الله في أخذ الميثاق بقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٧].

قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) بيّن تخصيص موسى عليه‌السلام بمقام الخطاب الخاص بلا واسطة ، بادر موسى عليه‌السلام من بين الأنبياء بسؤال الرؤية ، فأوقفه الحق في مقام سماع كلامه ، ومنعه من مشاهدة رؤيته صرفا ، وتحمل نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثقال الشوق بمطايا أسراره ، ولم يسأل مشاهدة الحق جهرا بالانبساط ، فأوصله الله إلى مقام مشاهدته ورؤيته بالظاهر والباطن بعين الرأس وبعين القلب ، ثم أسمع كلامه بلا واسطة ولا حجاب ، قال تعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [النجم : ١٠ ، ١١] ، وأن الله سبحانه إذا أراد أن يسمع كلامه أحد من الأنبياء والأولياء يعطيه سمعا من أسماعه ، فيسمع بها كلامه ، كما

حكى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه تعالى : «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به» (١) ، أسمعه كلامه ، وليس هناك الحروف والأصوات ، بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية الذي منزّه عن همهمة الأنفاس ، وخطرات الوسواس ، وليس في ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شيء ، هناك السامع والمسمع واحد من حيث المحبة لا من حيث الجمع والتفرقة.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣))

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) كان رسول الله إلى عباد الله بأمانة الله ، وهي نور جلاله الذي برز من وجهه لهم ؛ ألا ترى كيف توجّهوا إليه وصاروا عاشقين به كما عشقت ملائكة الله لوجه آدم عليه‌السلام ، ولذلك سجدوا لآدم عليه‌السلام ، وذلك من تجلّي كلمته الأزلية التي كظهر نورها في مريم ، وكان في ظاهره وباطنه روحا صدر من زند نعوت الأزل حين انقدحت لظهوره من العدم ، وأدنى عيسى عليه‌السلام خاصية فرده أفضل من خاصية آدم عليه‌السلام ؛ لأن هناك قال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] ، خصّه بالروح منه فيه ، ولههنا قال : (وَرُوحٌ مِنْهُ) يعني ظاهر صورته وروحه بمجموعها ، (وَرُوحٌ مِنْهُ) العالم بأسرها صورة وروح تلك الصورة هي الأنبياء والأولياء ، قال عليه‌السلام : «بهم يمطر ، وبهم ينبت ، وبهم يدفع البلايا» (٢).

قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) لماذا اتصف بأوصاف الحق حين برزت أنوارها له ، وباشرت أسرار لطائفها قلبه وروحه

__________________

(١) رواه البخاري (٥ / ٢٣٨٤).

(٢) رواه أبو نعيم في الحلية (١ / ٩).

وعقله ، وامتلأ من سنا الألوهية أسراره حين انعقد عقد وجوده ، كاد الحال أن يسلبه من رؤية العبودية ، فأدركه تأييد الحق حتى رأى الحدث محوا في القدم ، فلم يدّع الربوبية ، ونطق في المهد بالعبودية بقوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠] ، لم يكن كابن الحلاج ـ رحمة الله عليه ـ حين ادّعى بالأنائية من سكر العشق والمحبة ، وفنائه في الأزلية ، واتصافه بالأبدية ؛ لأنه كان في منزل التلوين ، بل حاله كان كحال سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين عاين الحق بالحق ، فخرج من بحار الذات بنعت الاتصاف بالصفات ، ورأى اضمحلال الحدثان في جمال الرحمن ، فنطق بالعبودية وقال : «أنا العبد لا إله إلا الله» (١) ، وهكذا أهل القدس في الملكوت تلاشوا في سبحات عزّته ، وقالوا : «ما عبدناك حقّ عبادتك ، وما عرفناك حقّ معرفتك» (٢) ، وكيف لا يكون ذلك وقهر الجبروت استولى على كل ذرة من العرش إلى الثرى ، وجرها بأزمة العظمة والكبرياء في تراب ساحات عزّته ، راغمة في جناب جبروته والألفة من عبادة صانعها مستجبلة! لأن كونها وتكوينها محض عبادته ، لأنها تكون بداعية القدم من العدم ، خصّ ذكر عيسى عليه‌السلام والملائكة لأنهما موضع إشارة الكفرة نسبتهم إلى الألوهية ذكر عيسى عليه‌السلام بالأول وأتم ذكر الملائكة.

وبين ظاهر الآية تخصيص الملائكة على عيسى عليه‌السلام ، والمراد من ذلك أنهم سماويون نجباء الحضرة وأشياخ القدرة ؛ لأنهم أفضل من عيسى عليه‌السلام ، وأشار بوفق رسوم خواطر الكفرة ، وإلا كيف يكون هم أفضل من الأنبياء ، والأنبياء جلاليون قدسيون ، والملائكة روحانيون ملكوتيون قبل ، لا يأنف أحد من القيام بالعبودية ، فكيف يأنف منه وبه يتقرب إلى مولاه.

وقيل : كيف يأنف أحد من عبودية من يظهر على العبيد آثار صنائع الربوبية كما أظهر على عيسى عليه‌السلام من إحياء الموتى وغيره.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا

__________________

(١) ذكره ابن عجيبة في «البحر المديد» (٢ / ٤٥٣).

(٢) رواه الطبراني في «المعجم الكبير» (٢ / ١٨٤).

وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) برهانه ظهوره في كل ذرة ، ولمعان سنا قدرته في جميع الفطرة ، وبرهانه طوف أسراره أسماع قلوب الخلائق يكون وجوده وأنباء عجائب صفاته والنور المبين خطابه الظاهر في الظاهر ونوره في الباطن.

قال ذو النون : استقرت منار الدجى ، وأقامت حجة الله على خلقه ، فأخذ بحظه ومضيع لنفسه.

وقيل في قوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) خطابا من القرآن فيه محل الشفاء لأسرار العارفين.

وقال الأستاذ : البرهان ما لاح في سرائرهم من شواهد الحق.

سورة المائدة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لله الأسماء الحسنى ، والنعوت الأعلى ، من جملتها المؤمن ، فألبس نور هذا الاسم خواصه ، وزيّن أسرارهم به ، فخاطبهم بخاصية اتصافهم باسمه وصفته ، وهم بنوره ، ويرونه ، فساروا بمراكب اسمه ونعته في ميادين الصفات حتى بلغوا أنوار الذات ، فشاهدوه بوصف اليقين والسكون ، أي : أيها الشاهدون مشاهدتي.

قال ابن عطاء : أي : أيها الذين أعطيتهم قلوبا لا تغفل عني ، ولا تحجب دوني طرفة عين.

وقال شيخنا وسيدنا أبو عبد الله محمد بن حنيف : الإيمان تصديق القلوب بما أعلمه الحق من الغيب.

قال بعضهم : يا غيب ، وأي سرّ ، وها تنبيه وإخراج ، وآمنوا وصف المحبين.

قال أبو الحسين الفارسي في قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) أمر الله عباده بحفظ السياسية في المعاملات ، والرياضات في المحاسبات ، والحراسة في الخطرات ، والرعاية في المشاهدات ، فليس للعبد من هذه الأسباب مهرب ، ولا له عنه محيص.

وقال بعضهم : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) عقد القلب بالمعرفة ، وعقد اللسان بالثناء ، وعقد الجوارح بالخضوع.

وقال جعفر بن محمد في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : أربع خصال : نداء ، وكناية ، وإشارة وشهادة ، (يا أَيُّهَا) نداء وأي : خصوص النداء ، وها كناية ، و (الَّذِينَ) إشارة ، و (آمَنُوا) (١) شهادة ، أشار رضي الله عنه وما فسّر ، وأراد ـ والله أعلم ـ أن الياء نداء الأذل ، تقاضى بها وصول المشتاقين إلى الأزل بالأزل ، فخرجت الأرواح العاشق بنداء القدم من العدم ، وأي خطاب بسط لأهل الخصوص من أهل الانبساط ، والهاء للغائبين في جلاله ، والغائبين في سطوات عظمته وكبريائه ، المتحيرين في دائرة هويته ، كنّاهم بوصف الهوية ، و (الَّذِينَ) إشارة إلى الواقفين بطلب هلال جماله في سموات عظمته ، (آمَنُوا) وصف قبولهم أمانته الأزلية ، وهي المعرفة القائمة بالأزلية التي عرضها على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها.

وقوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) هذا كناية عتاب ؛ حيث طلب منهم الوفاء بعهد الأزل حين قبلوا أمانة المعرفة ، وأقرّوا بالربوبية في معاينة المشاهدة ، عقد مع الأرواح العارفة في الأزل بظهور صفاته تعالى لهم ، ففي كل كشف صفة لها عقد وعهد لاتصافه بها ، فطارت بوصف الصفات ونورها في الأشباح بطلب الحق سبحانه الأرواح والأشباح بفوائد التخلق والاتصاف بالصفات في الأزل ؛ ولذلك قال : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ؛ لأن العقود جمع عقد وعهد أخذها الأرواح.

قيل : الأشباح في فضاء الأزل.

قيل : أول عقد عليك عقد إجابتك له بالربوبية ، فلا تخالفه بالرجوع إلى سواه ، والعقد الثاني عقد تحمّل الأمانة فلا تحقرنّها.

__________________

(١) الإيمان صنفان : أحدهما يشير إلى عين الجود ، والثاني إلى بذل المجهود ؛ فبذل المجهود خدمتك ، وعين الجود قسمته ؛ فبخدمتك عناء الأشباح ، وبقسمته ضياء الأرواح ، وحقيقة الإيمان تحقق القلب بما أخبر من الغيب [تفسير القشيري (٢ / ٨٣)].

قال الواسطي : العقود إذا لم تشهد القصود تلوّن عليها المقصود.

قال الجريري : الوفاء متصل بالصفاء.

قال الأستاذ : ناداهم.

قيل : أن أبدلهم وسماهم قبل أن رآهم أهلهم في آزاله لمّا أوصلهم إليه في آباده شرفهم بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، وكلفهم بقوله : (أَوْفُوا) (١) لمّا علم أن التكليف يوجب المشقة ، قدّم التشريف بالثناء على التكليف الموجب للفناء.

وقوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) المحرم الذي ذكره الله هو من اكتسى في إحرام أنوار عزّته في حرم مشاهد قربه ، قد منعه ألا يصيد في بيداء العبودية صيود الحظوظ ؛ لأن صيده هو بنفسه تعالى لا غير ، ومن كان هو صيدة حرم عليه سواه.

قال الأستاذ : المحرم متجرد عن نصيب نفسه بقصده إليه ، فالأليق بصفاته كفّ الأذى عن كل حيوان ، وقد هتفت هواتف خاطري بأن العاشق إذا ألبس إحرام العشق حرّم عليه ما فيه آثار صنع معشوقه وأنوار خصائصه.

ألا ترى إلى مجنون بن عامر لما اصطاد ظبيا خلاه عن القيد ، وأطلقه ، وأنشد :

وعيناك عيناها وجيدك جيدها

سوى أن عظم الساق منك رقيق

وأنشد أيضا :

أيا شبه ليلى لا تذاع فإنني

لك اليوم من وحشية تصديق

أقول وقد أطلقتها من وثاقها

ألست لليلى أن شكرت طليق

وقوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) قطع أطماع النفوس دخولها في شهوات اختراع مرادها ، وحسم حبال أمنية الخلق عن دفع سابق المشيئة بالمجاهدات ، وأفرد نفسه بالحكم الأزلي بنعت نقض عزائم الخليقة ، يحكم أولياءه بنزول بلائه عليهم بعد إسقائهم شراب وداده

__________________

(١) الإشارة : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود التي عقدتموها على نفوسكم في حال سيركم إلى حضرة ربكم ، من مجاهدة ومكابدة ، فمن عقد عقدة مع ربّه فلا يحلّها ، فإن النفس إذا استأنست بحلّ العقود لم ترتبط بحال ، ولعبت بصاحبها كيف شاءت ، وأوفوا بالعقود التي عقدتموها مع أشياخكم بالاستماع والاتّباع إلى مماتكم ، وأوفوا بالعقود التي عقدها عليكم الحق تعالى ، من القيام بوظائف العبودية ، ودوام مشاهدة عظمة الربوبية ، فإن أوفيتم بذلك ، فقد أحلّت لكم الأشياء كلها تتصرّفون فيها بهمّتكم ؛ لأنكم إذا كنتم مع المكوّن كانت الأكوان معكم ، إلا ما يتلى عليكم مما ليس من مقدوركم مما أحاطت به أسوار الأقدار ، «فإن سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار» ، غير متعرّضين لشهود السّوى ، وأنتم في حرم حضرة المولى ، والله تعالى أعلم. [البحر المديد (٢ / ٢٨)].

من بحار جماله.

قال جعفر عليه‌السلام : حكم بما أراد ، وأمضى إرادته ومشيئته ، ومن رضي بحكمه استراح وهدي لسبيل رشده ، ومن سخطه فإن حكمه ما مضى ، وله فيه السخط والهوان.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) خاطب العارفين عند أخذ ميثاق التوحيد في مقام قرب المشاهدة بألا يباشروا محارم منازل أسفار الأرواح من القدم إلى البقاء ، وهى شعائره للنفوس ؛ حيث سارت في حرمات الشهوات حتى لا يوافقوها في طلب حظوظها ، وهذا معنى قوله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) ، ثم وقّت لهم في سير الأسرار إلى مشاهدته في زمان ظهور تجلّي الخاص أن يتجردوا غيره ، ويمنعوا أنفسهم في زمان انجذابهم من عالم الحدثان إلى جناب الرحمن عن الدخول في حمى الرفض الذي هو ينزل أهل الانبساط ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) ، وإذا رأوا طلاب المريدين الذين ذهبوا أنفسهم إلى الله هديا في سلوك المقامات ، ورأوا المجذوبين والمقلدين بسلسلة المحبة في مزار الحالات ، ورأوا السالكين القاصدين إلى كعبة المشاهدة الذين يبتغون وصلته وبقاءه بألا يغيروهم عليهم بغيرة المعرفة ؛ إرادة لقطع طريقهم ليلا ، يروا غير نفوسهم في باب الأزل ، كما فعل موسى عليه‌السلام ببلعام ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ).

ثم رخّص المحرمين ممّا دونه إذا بلغتم إلى مقام المشاهدة ووجدتم عيد الأكبر ، وخرجتم من إحرام المجاهدة اصطاد ، وفي منزل البسط والانبساط زيادة روح القربة والتنفس في الأنس من ترنم ألحان بلابل بساتين الربيع ، وسماع أصوات الطيبات ، ومشاهدة المستحسنات.

ألا ترى إلى قوله عليه‌السلام لنساك الغيب ، حين تضايقت الأكوان عليهم في مقام القبض كيف قال : «روّحوا قلوبكم بساعة فساعة» (١) ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) ، وإذا كنتم في زمان الامتحان ويتعرضكم أهل ظاهر السبيل والعلم ويمنعكم عن الجلوس بالسماع والرقص والهيجان والوجد والهيمان وعن دخولكم مراد الله من المواقف القدسية لا تخاصموهم ، ولا تقتلوهم بأنفاسكم القاتلة ؛ حتى لا يكون عليكم رقم الاضطراب في الطريقة ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ

__________________

(١) تقدم تخريجه.

عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا) ، وإذا تحيّر المريدون في بيداء الشوق وهاموا في وادي العشق وفنوا في قفار التوحيد زيدوا عليهم وصف مشاهدتي ولذّة وصالي قدس عظمتي ، يزيد حرقتهم ورغبتهم ومحبتهم لقائي ، ويزيد سرعتهم في سيرة العشق والشوق إليّ ، وإذا وقع في طريقهم حظّ من حظوظ أنفسهم من أبواب الرخص والتأويلات فامنعوهم منه ، واتقوا من احتجابي عنكم حين احتجبوا مني ، فإن عذاب الفراق مني أشدّ العذاب ، وما ذكرنا فهو معنى قوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

قيل : البرّ ما وافق عليه العلم من غير خلاف ، والتقوى مخالفة الهوى ، والإثم طلب الرخص ، والعدوان التخطي إلى الشبهات.

قيل : البرّ ما اطمأن إليه قلبك من غير أن ينكره بجهة ولا سبب.

قال بعضهم : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) ، وهو طاعة الأكابر من السادات والمشايخ ، ولا تضيعوا حظوظكم منهم ومن معاونتهم وخدمتهم ، (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) ، وهو الاشتغال بالدنيا ، والعدوان موافقة النفس على مرادها وهواها.

وقال سهل : البرّ الإيمان ، والتقوى السنة ، والإثم الكفر ، والعدوان البدعة.

وعن جعفر عليه‌السلام قال : البرّ الإيمان ، والتقوى الإخلاص ، والإثم الكفر ، والعدوان المعاصي.

وقال الأستاذ في قوله : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) إذا خرجتم عن أسر حقوقنا فارجعوا إلى استجلاب حظوظكم ، فأما ما دمتم تحت قهر بطشنا فلا نصيب لكم منكم ؛ لأنكم لنا ، وقد وقع لي في البرّ : معنى البرّ المحبة ، والتقوى المعرفة ، والإثم طلب حظ المشاهدة من المشاهدة ، والعدوان دعوى الأنائية في الاتحاد ؛ لأنه احتجب بحظ الربوبية عن الربوبية في العبودية.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ

فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤))

قوله تعالى : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) خشية الله هاهنا حوالة إلى رؤية سبق العارفين في الأزل ، أي : إذا وقع أمر الامتحان عليكم بواسطة الخلق أقبلوا إليّ بنعت معرفتي ومحبتي ، ولا تفزعوا منهم ؛ فإنهم مكان امتحاني ، فإذا عرفتموني عرفتم مكان الامتحان ، فلا تبقى إذا الخوف من غيري ، قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] ، فإذا استحكم عقد الخشية منهم فيظهر للعالم بالله سرّ إفراد القدم عن الحدوث.

قيل : فيه قطعك عن الكل قطعا ، وجذبك إليه جذبا بهذه الآية : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ).

قال ابن عطاء : لا تجعل لهم من قلبك نصيبا ، وأفرد قلبك لأن تجدني بصفة الفردانية مقبلا عليك.

وقال سهل : أعجز الناس من خشي من من لا ينفعه ولا يضره ، والذي بيده النفع والضرّ يخاطب بقوله : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ).

في قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أراد في الأزل وأزل الأزل بلا علّة العمياء ، والأزل منزّه عن دهر الدهار والأزمنة الفرارة أن يظهر كنوز صفاته وخزائن جود ذاته محبة منه ومعرفة لعباده ، كما قال تعالى : «كنت كنزا مخفيّا ، فأحببت أن أعرف» (١) ، فيتجلّى للعدم من القدم ، فظهر العباد ، وألزمهم سمة العبودية ، وكشف أنوار أفعاله لهم ، فعبدوه برؤية نور أفعاله وصنائعه ، ثم كشف لهم أنوار الصفات ، فأحبوه برؤية نور الصفات ، فلمّا حان وقت خروج سيد الأولين والآخرين وأصحابه وأمنه من العدم بسط بساط العطايا لهم حتى وقفوا على بساط لطفه وكرمه ، وربّاهم بحسن عنايته ، ثم تجلّى لهم بنور الأسماء والصفات ، وربّاهم بها إلى أن بلغوا حدّ الاستقامة في المحبة والشوق ، فكشف لهم جلال ذاته ، فعرفوه بنور الأسماء والنعوت والأفعال والصفات ، فلمّا عرفوه بمعرفة الذات كملت أحوالهم للكشف والمشاهدة والمعرفة والتوحيد ، ولم يحتجبوا عنه ببركة مشاهدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتواصلت الكشوف والتجلّي بالتجلّي ، قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، حيث ما أكملت لأحد من خلقي ما أكملت لكم.

وما ذكرنا بمجموعه قد أشار عليه‌السلام إليه بقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ «جاء الله

__________________

(١) تقدم تخريجه.

من سيناء ، واستعلن بساعير ، وأشرف من جبال فاران (١)» ، والدين هو الطريق منه إليه بنعت عرفان طرق الصفات إلى الصفات ، وسبل الصفات إلى الذات ، والنعمة منه لهم كشف جماله بلا حجاب ، والعفو بلا عتاب ، والوصول بلا عذاب ، وإتمامها وقايتهم من الاشتغال بغيره ، وظهوره من جمال نبيه لهم ، ووصول نبيهم إلى درجة مقام المحمود لشفاعتهم وارتضاء الإسلام لهم دينا ، أسأل أستار العظمة عليهم حتى انقادت نفوسهم الأمّارة الفرّارة من الحق لسبحات عظمته ، ومباشرة قهر سلطان كبريائه ، ولا يحتجبون عن الحق بها أبدا.

قال أبو حفص : كمال الدين في شيئين : في معرفة الله ، واتباع سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال جعفر بن محمد عليهما‌السلام : (الْيَوْمَ) إشارة إلى يوم بعث محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ويوم رسالته.

وقيل : (الْيَوْمَ) إشارة إلى الأذل ، والإتمام إشارة إلى الوقت ، والرضا إشارة إلى الأبد.

وقيل : (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (٢) أن خصصتكم من بين عبادي بمشاهدة المصطفى ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يخاطب به الصحابة ، وجعلتكم حجة لمن بعدكم من الأمة إلى يوم القيامة.

قيل : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بالمعرفة.

قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الدنيا ميتة الأولياء ، والاجتناب منها واجب عليهم في تجريد التوحيد ، فإذا وقعوا في السير في بحر الأنس ، وغلب عليهم البسط والانبساط ، وصاروا منعوتين بوصف العشق والمحبة ، وطابت نفوسهم في روح القلوب الملكوتية ، واحتاجوا إلى مباشرة الرخص والسعادة ، فهم في حدّ الاضطرار من جهة نفوسهم الساكنة بروح الأنس ؛ لأنها تطلب من مستحسنات الكون

__________________

(١) ذكره القرطبي في التفسير (١٣ / ١٥٩).

(٢) إكماله الدين ـ وقد أضافه إلى نفسه : صونه العقيدة عن النقصان ؛ وهو أنه لما أزعج قلوب المتعرفين لطلب توحيده أمّلها بأنوار تأييده وتسديده ، حتى وضعوا النظر موضعه من غير تقصير ، وحتى وصلوا إلى كمال العرفان من غير قصور ، ويقال : إكمال الدّين تحقيق القبول في المآل ، كما أن ابتداء الدّين توفيق الحصول في الحال : فلولا توفيقه لم يكن للدين حصول ، ولو لا تحقيقه لم يكن للدين قبول ، ويقال : إكمال الدين أنه لم يبق شيء يعلمه الحق سبحانه من أوصافه ، وقد علّمك ، ويقال : إكمال الدين أن ما تقصر عنه عقلك من تعيين صفاته ـ على التفصيل ـ أكرمك بأن عرّفك ذلك من جهة الإخبار. [تفسير القشيري (٢ / ٨٦)].

ما يليق بزيادة هيجان القلوب ، وزيادة شوق الأرواح ، فإذا باشروا طيبات الدنيا على حدّ ترويح الخواطر ، وتسكينها من الحرق والهيجان ، فهي مباح لهم ما داموا في سير المعارف ، فإذا بلغوا منتهى المقامات ، ولم تجاوز النفوس من تلك المباحات إلى استدامة الحظوظ فهي غير متجانفة إلى الفترة ، فإن الله سبحانه يتجاوز عن مؤاخذتها بالحجاب ، ويعينها في طلب المآب ، فإنه غفور لخطرات أوليائه ، رحيم بنعت الوصلة باصطفائه.

قال الأستاذ : يحتمل أن معناه من نزل عن مطالبات الحقائق إلى رخص العلم لضعف وجده في الحال فرعا ، يجري معه مساهلة إذا لم يفسخ عقد الإرادة.

ونعم ما قال الأستاذ في وصف السالكين في باب الرخص ، فإن الله سبحانه صدق ما ذكرنا في الآية بثانيها من الآي بقوله لنبيه : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) ، وفي حقيقة التفسير التي أغرب مما مضى ذكره أن الطيبات في الدنيا والآخرة للمحبين مشاهدة الله سبحانه وما سواها ، فهو محرم عليهم من الدنيا والآخرة ؛ لأنهم يسألون عن الحلال ، والحلال مشاهدة جماله وما سواه ، فهو غير حلال في الحقيقة.

وتصديق ذلك قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «الدنيا محرّمة على أهل الآخرة ، والآخرة محرّمة على أهل الله» (١).

سئل أبو الحسين النوري عن القوت؟ فقال : القوت هو الله.

قال أبو علي الروذباري : أطيب أرزاق العارفين المقوتات.

وقال يوسف بن الحسين : الطيب من الرزق ما يبدو لك من غير تكلف ، ولا إشراف نفس ، ولي مسألة غير مائة كرت وذلك : أن أصل الطيبات الحلالات ما وقع للعارف في مقام التوكل من الغيب بنعت الرضا.

وأيضا : الطيبات السماع ورؤية المسحسنات التي تطيب قلوب المحبين بسنائها حتى تفرّغها إلى طلب معادن الحسن في الأزل.

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى

__________________

(١) لم أقف عليه.

الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

قوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) الإيمان هاهنا المعرفة ، أي : من وقع في بحر النكرة بعد المعرفة ولم يخرج منها إلى ساحل التوحيد الذي هو مفتاح كنوز الذات والصفات وهو محجوب عن الله بالله ، ولم تنعقد له عقود المحبة والمعرفة ، وما وجد من الطريق ذهب عنه بقوله : (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ).

وأدقّ من هذا أن من عرف الله ووصل إليه بمعرفته وسكر بأنوار توحيده ، وادّعى في شكره الأنائية التي هي صفة المعدم ، فهو محجوب بالوجد من الموجود ؛ لأنه كفر الربوبية بأنائيته التي صدرت إليه من رؤية الربوبية ، هذا معنى قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) ، وكل عمل من أعمال المعرفة له باطل لخروجه من العبودية إلى الربوبية ، فإذا رجع إلى العبودية ، وعرف إفراد القدم عن الحدوث يستأنف العمل ؛ لأنه ما مضى منه قد حبط بدعواه.

وأيضا : من ظنّ أن أعماله في الإيمان الذي هو موهبة الله الخاصة بلا علّة أداء حقوقه فقد كفر بالإيمان ، وحبط عمله ؛ لأن الإيمان كشوف ذاته وصفاته ، وأعمال العبد معلولة محدثة ، وكيف يوازي صفة القدم بعلّة الحدث.

قيل : من لم يشكر الله على ما وهب له من المعرفة واليقين ، فقد كفر بمعالي درجة الإيمان ، وفيه إحباط ما سواه من الاجتهادات والرياضات.

وقيل : من لم ير سوابق المتن في خصائص الإيمان ، فقد عمي عن محل الشكر.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) بدأ بغسل الوجه ؛ لأنه منبت أنوار تجلّي الحق التي برزت من الوحدانية للأرواح ، فعكست لطائفها على الوجوه.

وأيضا : خصّ الوجه بالغسل ابتداء ؛ لأنه تعالى خلقه بنفسه ، ونفسه بنقش خاتم ملك الصفات ، وسبب حكمة غسله بالماء أنه مغير بغبار الشهوات ، منعوت بنعت الحدث ، وخاصية جوهر الماء أنه تعالى خلقه من جوهر أول الفطرة ؛ حيث تجلّى له من نور قدسه وسنا عظمته ، فإذا وصل إلى الوجه صار طهورا من دنس توجهه إلى غير القدم ببركة نوره وقدسه ،

الذي أصل جوهر الماء ، كذلك جميع الأعضاء ، فإذا كان العبد بهذه الصفة في الطهور أجدر أن يكون مقبلا إلى الله بوجهه.

قال عليه‌السلام : «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره» (١).

والإشارة في الآية إلى تطهير الأسرار من الالتفات إلى الأغيار لاقتباس الأنوار بمياه الحزن التي تجري من عيون قلب المجروح بالمحبة على سواقي العين ، فإذا كان مطهرا من غير الحق فصلواته مواصلة ، وحركاته قربة ، وقراءته زلفة ، وقيامه محبة ، وركوعه خشية ، وسجوده شهود ، وتحياته انبساط ، ودعواته مستجابة ، أي : إذا قمتم عنكم إلى وصلتي ومشاهدتي طهّروا أنفسكم من الحدوثية في بحار الربوبية حتى تصلوا إليّ بي ؛ لأن الحدث لا يقوم بإزاء القدم.

قال أبو عثمان : شرائط الطهارة معروفة ، وحقيقتها لا ينالها إلا الموفقون من طهارة السرّ ، وأكل الحلال ، وإسقاط الوسواس عن القلب ، وترك الظنون ، والإقبال على الأمر بحسب الطاقة.

وقال سهل : أفضل الطهارات أن يظهر العبد من رؤية طهارته.

قوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) (٢) تواتر العزائم بغير الرخص حرج ثقيل على المستأنسين بالله مما سوى الله ، مانعة لأهل المجاهدة بقيودها عن الاقتحام إلى عالم الشهوات ، فرفع الحرج عن المحبين ، وبسط الكرم للمشتاقين ، وسهّل أحكام العبودية على العارفين بوضع الرخص ؛ زيادة لاستشواقهم إلى مشاهدته ، وتقديسا لأسرارهم بنور مشاهدته ، وهذا معنى (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) ، أي : أنه لا يريد نصب المجاهدة على أهل المشاهدة ؛ لأنه تعالى أضاف تطهير أسرارهم إلى نفسه لا إليهم ، قال : (يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) ، وما قال : «لتتطهروا» ، أي : يطهّركم عنكم بنور مشاهدته.

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ٢١٦).

(٢) يعني : يطهركم من أحوالكم وأخلاقكم وأفعالكم ، لترجعوا إليه بحقيقة الفقر من غير تعلق بسبب من الأسباب ، والطهارة على سبعة أوجه : طهارة العلم من الجهل ، وطهارة الذكر من النسيان ، وطهارة الطاعة من المعصية ، وطهارة اليقين من الشك ، وطهارة العقل من الحمق ، وطهارة الظن من النميمة ، وطهارة الإيمان مما دونه ، ولكل عقوبة طهارة ، إلّا عقوبة القلب ؛ فإنها قسوة. [تفسير التستري (١ / ٢٤)].

قال بعضهم : يريد أن يطهّركم من أفعالكم ، وأحوالكم ، وأخلاقكم ، ويقينكم عنها لترجعوا إليه بحقيقة الفقر من غير تعلق ، ولا علاقة بسبب من الأسباب.

قال الأستاذ : يلوح من هذه الآية إشارة إلى أنه إذا نفى المريد عن أحكام الإرادة ، فليحط رحله بساحات العبادة ، وإذا عدم اللطائف في سرائره فيستدم الوظائف على ظاهره ، وإذا لم يتحقق بأحكام العبودية ، فلا يخلون من آداب الشرعية ، وإذا لم يخرج عن الفضلة ، فلا يدنس تصرفه بالحرام والشبهة.

وقال في قوله : (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) : أي : يطهّر ظواهركم عن الذلّة بعصمته ، ويطهّر قلوبكم عن الغفلة برحمته.

قوله تعالى : (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) إتمام النعمة هاهنا بيان العبودية للعباد ، وتعليمهم آداب المعاد ؛ لينالوا بها رؤية المنعم بنعت الخجل عن أداء واجب حقوقه بنعت ما يليق بجلاله ، وهذا هو الشكر المطلوب من عباده بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

قال الأستاذ : إتمام النعمة لقوم نجاة نفوسهم ، وعلى آخرين نجاتهم عن أنفسهم ، فشتّان بين قوم.

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) نعمة الله هداية الله السابقة في الأزل لأهل سعادة المعرفة منهم إلى نفسه بنعت المشاهدة والشوق إلى لقائه ، والميثاق الذي واثق به عباده ألا ينشغلوا عنه بغيره إلى الأبد ، وإن كان الجنة وما فيها.

قال أبو عثمان : النعمة كثيرة ، وأجلّ النعم المعرفة ، والمواثيق كثيرة ، وأجلّ المواثيق الإيمان.

قال الواسطي : أنعم الله على خلقه لكي يشهدوا المنعم بالنعم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ

وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ) أي : كونوا مستقيمين في محبتي ومعرفتي ، قائمين على باب ربوبيتي ، ولا تفروا عني بنزول بلائي عليكم ، وكونوا حاضرين في حضرتي لشهودكم على مشاهدتي بنعت الصدق والإخلاص والاستواء في جميع الأحوال ، ولا تخافوا في عبوديتي من ملامة اللائمين عند إظهاركم حقوقي على حقي.

قال بعضهم : أي : كونوا أعوانا لأوليائه على أعدائه.

وقيل : كونوا خصماء الله على أنفسكم ، ولا تكونوا خصماء لأنفسكم على الله.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) إن الله سبحانه لمّا أراد أمرا عظيما من أمور الربوبية بين عباده وبلاده وضعه على أولياءه ؛ ليقوموا به على وفق مراده ؛ معذرة لضعف الخلق ، ونيابة من تقصيرهم ، فإذا خرجوا من ذلك بنعت الرضا في العبودية سهّل الله ذلك بعده على العامة ؛ لأن العامة خلقوا بنعوت الضعف ، وخلق أولياءه بنعوت القوة ، وفي كل أمة خلق الله أقواما من أئمة المعارف والكواشف لواقع نظره وتحمل بلائه وهم النقباء ، والبدلاء ، والنجباء ، والأولياء ، والأصفياء ، والأتقياء ، والمقربون ، والعارفون ، والموحدون ، والصديقون ، والشهداء ، والصالحون ، والأخيار ، والأبرار ، رئيسهم الغوث ، وأئمتهم المختارون ، وعرفاؤهم السياحون السبعة ، ونقباؤهم العشرة ، ونجباؤهم الأربعون ، وخلفاؤهم السبعون ، وأمناؤهم الثلاثمائة ، كل واحد منهم خلق على صورة نبيّ ، وسيرة رسول ، وقلب ملك ، لا يعرفهم إلا مثلهم ، وهم لا يعرفون إلا الله حقيقة ، قال تعالى : «أوليائي تحت قبائي لا يعرفهم سواي» (١).

روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تعالى في الأرض ثلاثمائة ، قلوبهم على قلب آدم عليه‌السلام ، وله أربعون قلوبهم على قلب موسى عليه‌السلام ، وله سبعة قلوبهم على قلب إبراهيم عليه‌السلام ، وله خمسة قلوبهم على قلب جبريل عليه‌السلام ، وله ثلاثة قلوبهم على قلب ميكائيل عليه‌السلام ، وله واحد قلبه على قلب إسرائيل ، فإذا مات الواحد أبدل الله مكانه من الثلاثة ، وإذا مات من الثلاثة أبدل الله مكانه من الخمسة ، وإذا مات من الخمسة أبدل الله مكانه

__________________

(١) ذكره المناوي في التعاريف (١ / ٦٧٦).

من السبعة ، وإذا مات من السبعة أبدل الله مكانه من الأربعين ، وإذا مات من الأربعين أبدل الله مكانه من الثلاثمائة ، وإذا مات من الثلاثمائة أبدل الله مكانه من العامة بهم يحيي ويميت ، قال : لأنهم يسألون إكثار الأمة ، فيكثرون ، ويدعون على الجبابرة ، فيقصمون ، ويستسقون فيسقون ، ويسألون فينبت لهم الأرض ، ويسألون فيدفع عنه أنواع البلاء» (١).

قال أبو بكر الوراق : لم يزل في الأمم أخيار وبدلاء وأوتاد على المراتب ، كما قال تعالى : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) ، وهم الذين كانوا مرجوعين إليهم عند الضرورات والفاقات والمصائب.

كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يكون في هذه الأمة أربعون على خلق إبراهيم عليه‌السلام ، وسبعة على خلق موسى عليه‌السلام ، وثلاثة على خلق عيسى عليه‌السلام ، وواحد على خلق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهم على مراتبهم سادات الخلق» (٢).

قال أبو عثمان المغربي : البدلاء أربعون ، والأمناء سبعة ، والخلفاء من الأئمة ثلاثة ، والواحد هو القطب ، والقطب عارف بهم جميعا ومشرف عليهم ، ولا يعرفه أحد ولا يشرف عليه ، وهو إمام الأولياء ، والثلاثة هم الخلفاء من الأئمة ، يعرفون السبعة ، ويعرفون الأربعين ، ولا يعرفهم أولئك السبعة ، والسبعة الذين هم الأمناء يعرفون الأربعين الذين هم البدلاء ، ولا يعرفهم البدلاء ، والأربعون يعرفون سائر الأولياء من الأئمة ، ولا يعرفهم من الأولياء أحد ، فإذا نقص من الأربعين واحد أبدل الله مكانه واحدا من أولياء الأمة ، وإذا نقص من السبعة واحد جعل مكانه واحدا من الأربعين ، وإذا نقص من الثلاثة واحد جعل مكانه واحدا من السبعة ، فإذا مضى القطب الذي هو واحد في العدد وبه قوام أعداد الخلق جعل بدله واحدا من الثلاثة ، هكذا إلى أن يأذن الله لقيام الساعة.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (١ / ٩).

(٢) لم أقف عليه.

عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥))

قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) إذا أراد الله طرد الغافلين عنه هيّج نفوسهم إلى مباشرة أحكام القهر الذي يوجب لهم البعد ، فبعد ذلك تقع مخالفة الأمر ونقض العهد الذي هو أصل الإيمان.

قال يوسف بن الحسين : ترك حفظ العهود الصحيحة ونقض المواثيق يوجب اللعن ، قال الله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ).

قيل : نقض العهد مع الحق السكون إلى سواه.

وقال الأستاذ : جعل جزاء العصيان الخذلان للزيادة في العصيان.

قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) (١) أراد نور المعرفة بلا واسطة ولا تصنّع.

وأيضا : نوره الذي يتجلّى به من وجود الأنبياء والأولياء لأبصار الناظرين ، وشاهد ذلك النور ما جاء في كتابه من بيان مقامات الصديقين ، قد جاء النور منه جمعا ، وجاء الكتاب تفرقة ظاهرة في شهادته على من له من الله نور ، والنور والكتاب صفتان من صفات الأزل ظهر لجذب السالكين إلى الله.

قيل : كشف عن أسراركم غطاء الوحشة ، وألبسكم لباس الأنس.

قال بعضهم : بعناية الأزل وصلتم إلى نور الكتاب المبين ونور التوحيد.

(يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧))

قوله تعالى : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) ذكر واحدا منهما من النور والكتاب ؛ لأنهما في عين الجمع واحدا ، أعني معدن الصفات.

والإشارة بقوله : (يَهْدِي بِهِ اللهُ) أي : يهدي بصفته إلى طرق معرفة ذاته ، ويهدي

__________________

(١) أنوار التوحيد ظاهرة لكنها لا تغني عند فقد البصيرة ، فمن استخلصه بقديم العناية أخرجه من ظلمات التفرقة إلى ساحات الجمع فامتحى عن سرّه شواهد الأغيار ، وذلك نعت كل من وقف على الحجة المثلى [تفسير القشيري (٢ / ٩٨)].

بذاته إلى سبل معرفة صفاته ورضوانه ما رضي للأنبياء والأولياء في الأزل من إصابة أبصارهم إلى محل الرضوان الأكبر ، وهو غاية رعاية حسن تجليه بنعت العيش في مراده ، ولا تحصل المتابعة إلا لمن سبق في الأزل رضاه له.

وأيضا : يهدي بالقرآن من اتبع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سبل السلامة التي توصّل المؤمن بالتوحيد إلى كشف جماله وحسن وصاله بالعوافي.

قيل فيه : يهدي الله لأسلم المسالك في سبيل إرادته من خصّه برضوانه.

قيل : إيجاده ليوصله الرضوان إلى محل الرضا والتسليم.

قوله تعالى : (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : من أوصله إلى سبيل الهدى يطهّر أسراره عن خطوات الشك والريب والاعتراضات النفسانية والخطوات الشيطانية ، فإذا كان مقدسا من هذه الشوائب يكشف له أنوار الأزليات والأبديات ، وليس كل من وصل إلى هذه المراتب وصل إلى محل الاستقامة في المعرفة والتوحيد ، فيختصّ به من يشاء من سبق له عناية الأزل بوصوله إلى محل التمكين الذي لا تجري فيه بعد ذلك أحكام التردد والامتحانات الظاهرة.

قال ابن عطاء : يهدي لنوره من رضي عنه في الأزل ، وخصّه بكرامات الولاية ، وخرجه من ظلمات الاعتراض إلى نور الرضا والتسليم.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩))

قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) وسمع كفرة اليهود والنصارى ذكر سباق الحقيقة أنهم وصلوا إلى ساحات الكبرياء بكشف مشاهدة البقاء ، وسكروا بوجه القدم ، وصاروا بنعت الانبساط في مجالس الأنس ، فمن سكر المحبة ادّعوا القربة ، ومن سكر الأنس وحلاوة الانبساط ادّعوا نبوة الأسرار من الأنوار ؛ حيث ظهرت أنوار صفات الأزل ، وسقطت من زنودها أنوار أسرار الأرواح ، كما قال الواسطي : أنا أمن الأزل والأبد ، وغلطوا في الطريق ، ولم يعرفوا حقائق قول المتقدمين من جهالتهم بمقامات الأولياء والصديقين ، فردّ الله دعواهم إلى أعناقهم المنكسرة حين ألزم الحجة عليهم

بلسان نبيه عليه‌السلام بقوله تعالى : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ) ، أنبأنا الله سبحانه أن من بلغ نبوة سبل الأزل بنعت المعرفة والمحبة خرج من محل الامتحان حيث الأشباح.

قوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ) أي : أنتم أيها المدّعون الكاذبون ليس كما تزعمون ما بلغتم تلك المنازل ، بل بقيتم في مقام البشرية والنفوسية ، وهذا مقام من تقدّس ، وتقدّس الله ممّا سوى الله.

قوله تعالى : (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي : يوصل إلى تلك المواقف المقدسة من أهل الولاية من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يشاء ، ولا يبالي بتقصيره ، ولا يشم رائحتها من يشاء من الأعداء ، لا يبالي بطاعته ، فإن طاعته على غير موافقة السنة.

قيل : يغفر لمن يشاء فضلا ، ويعذّب من يشاء عدلا.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤))

قوله تعالى : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) (١) أي : ملوكا بالولاية والكرامات ، ومعرفة الصفات ، والتنور بأنوار كشوف الذات.

وأيضا : جعلكم ملوكا بسلطنة الوجد ، قوة الحال ، وعزّة علم المعرفة.

وأيضا : أي : جعلكم ربّانيين مالكين أنفسكم بمنعها عن غير طاعتي.

وأيضا : أي : ملتبسين بأنوار أنائيتي.

وأيضا : معافين من ضرر الامتحان ، محررين من رقّ الحدثان.

__________________

(١) قال ابن عجيبة : جعل منكم ملوكا ، وقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء ، فكان كل نبي معه ملك ينفذ أحكامه ، فكانت دار النبوة ودار المملكة معلومة ، يخلف بعضهم بعضا في النبوة والملك ، استمر ذلك لهم ، حتى قتلوا يحيى ، وهموا بقتل عيسى ، فنزع الله منهم الملك ، وأنزل عليهم الذل والهوان ، وقيل : لمّا كانوا مملوكين في أيدي القبط ، فأنقذهم الله ، وجعلهم مالكين لأنفسهم ، سماهم ملوكا [البحر المديد (٢ / ٤٩)].

قال القرشي : ملككم سياسة أنفسكم.

قال سهل : مالكين لأنفسكن ، ولا يملككم نفوسكم.

قال الحسين : أي أحرارا من رقّ الكون وما فيه.

قوله تعالى : (وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) يعني : كشف مشاهدتي وحلاوة مخاطبتي سنا آياتي ومعجزاتي ، وما يظهر لكم من وجه موسى عليه‌السلام من نور تجلياتي.

قال ابن عطاء : قلوبا سليمة من الغلّ والغشّ.

وقيل : سياسة النبوة ، وآداب الملك.

قوله تعالى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) أي : ادخلوا بنعت المعرفة والنظر الفائق مساكن القلوب ؛ لتجدوا منها أنوار الغيب.

وأيضا : اطلبوا في مواقف المقدسة رجال المعرفة ؛ لتصلوا ببركة أنفاسهم قدس جلالي.

قوله تعالى : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) يخافون من الله فراقه ، وتذوبون بي جلاله وعظمته وميثاقه (الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بألا يخافا غير الله ، ويتوكلا على الله ، وزيادة النعمة عليهما أن الله تعالى عصمهما من جريان الخواطر المذمومة على قلوبهما ، وأنه تعالى أدخلهما في باب عظمته وأنوار هيبته.

قال سهل : أنعم الله عليهما بالعصمة والمراقبة.

قال الأستاذ : أنعم الله عليهما بأنوار العرفان ، فلم يحتشما من المخلوقين.

قوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١) أي : كونوا على رجائي في وقت إياسكم ، وثقوا بمحبتي لكم ، ولا تفزعوا من امتحاني إياكم ؛ لأني لا أقطع حبل الوصال عنكم ، ولا أنزع ثياب عصمتي عنكم ، أي : إن كنتم عارفين بي تصدقون قولي توكّلوا عليّ عند مباشرة قهري إياكم ، فأنا اللطيف بأوليائي الرحيم بأصفيائي.

__________________

(١) أي : ينبغي للمؤمن أن يتوكل على الله ، فإن قدّر أن واحدا منهم لا يتوكل ، فلا يخرج به ذلك عن الإيمان ، كذلك من لم ينته عن الفحشاء والمنكر ؛ فليست تخرج صلاته عن كونها صلاة ، ويقال : بل الصلاة الحقيقية ما تكون ناهية لصاحبها عن الفحشاء والمنكر ؛ فإن لم يكن من العبد انتهاء فالصلاة ناهية على معنى ورود الزواجر على قلبه بألا يفعل ، ولكنه يصر ولا يطيع تلك الخواطر ، ويقال : بل الصلاة الحقيقية ما تنهي صاحبها عن الفحشاء والمنكر ؛ فإن كان ـ وإلا فصورة الصلاة لا حقيقتها ، ويقال : الفحشاء هي الدنيا ، والمنكر هو النّفس ، ويقال : الفحشاء هي المعاصي ، والمنكر هو الحظوظ ، ويقال : الفحشاء الأعمال ، والمنكر حسبان النجاة بها ، وقيل : ملاحظته الأعواض عليها ، والسرور والفرح بمدح الناس لها ، ويقال : الفحشاء رؤيتها ، والمنكر طلب العوض عليها [تفسير القشيري (٦ / ١٠٣)].

قال شقيق : التوكل طمأنينة القلب بموعود الله.

قال سهل : التوكل طرح البدن في العبودية ، وتعلق القلب بالربوبية.

قال الواسطي : من توكّل على الله لعلّة غير الله فليس بمتوكّل على الله ، جعله سببا إلى مقصوده ، وفي ذلك قلّة المعرفة بربّه.

(قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧))

قوله تعالى : (قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) من بلغ عين التمكين ملك نفسه ، وملك نفوس المريدين ؛ لأنّه عرفها بمعرفة الله ومعها من الله سلطان سائس قاهر ، من نظر إليه يفزع من الله ، لا يطيق عصيانه ظاهرا وباطنا ، فأخبر عليه‌السلام عن محل تمكينه وقدرته على نفسه ونفس أخيه ، وأعلمنا أن بينهما اتحادا ، بحيث أنه إذا حكم على نفسه صارت نفس أخيه مطمئنة طائعة لله بالانفعال ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمنون كنفس واحدة» (١) ، ويمكن أنه عليه‌السلام كان مخبرا عن مقام القدرة التي اتصف بها من الله سبحانه ، وفيه بيان لطف استعداد لهارون عليه‌السلام بقبول تلك القدرة الإلهية.

قال سهل في قوله : (لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) : أي : في مخالفة هواها.

قيل : في بذلها لله واستعمالها في طاعته.

قال الأستاذ : لمّا ادّعى أنه يملك نفسه عرف عجزه عن ملكه لنفسه ؛ حيث أخذ برأس أخيه يجره إليه ، تقدّس شأن موسى عليه‌السلام من كل خاطر ، إشارته إلى أنه لا يعرفه مكان عجزه من النفع والضرّ في ذرة ؛ لأنه عرف أن سلطان قهر الله غالب على كل شيء ، وأن الحدث له قدر في الربوبية عند ساحة الكبرياء.

قوله تعالى : (إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ) من لم يسبق له في الأزل عناية الله صار إحسانه إساءة ، وطاعته تؤول إلى المعصية.

كما قيل : من لم يكن للوصال أهلا فكل إحسانه ذنوب ، قرّب هابيل بقربان نفسه لله ، وقرّب قابيل لحظ نفسه بغيا وحسدا على أمر كان مشرفا بتأيد الله ، فلا جرم حاله كان يئول إلى

__________________

(١) لم أقف عليه بهذا اللفظ.

الظلم الأكبر بقوله : (لَأَقْتُلَنَّكَ).

قال ممشاد الدنيوري : كانت معصية آدم عليه‌السلام من الحرص ، ومعصية إبليس من الكبر ، ومعصية ابن آدم من الحسد ، والحرص يوجب الحرمان ، والكبر يوجب الإهانة ، والحسد يوجب الخذلان.

قوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) عرفه مكان سبق العناية وسبق الخذلان ، أي : إنّما يتقبل الله القربان ممن اتقى الله في الأزل ممّا سواه ، أي : إنّما يتقبل الله من الذين يخافون عظمته بعد إخلاصهم في طاعته ، هل يقبل أم لا ، والمتقي هو المتجرد في التوحيد بالموحد من غير الموحد.

قال سهل : التقوى والإخلاص محل القبول لأعمال الجوارح.

وقال ابن عطاء : المخلصين فيما يقولون ويعلمون.

قال السلامي : القرابين مختلفة ، وأقرب القرابين ما وعد الله تعالى بقبوله ، ووعد الصدق ، وهو الذكر في السجود ؛ لأنه محل القربة ، قال الله : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق : ١٩].

عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر عليهم‌السلام قال : التقوى في الأحوال ، والأحوال في الأفعال كالروح في الأبدان ، والأفعال إذا فارقتها الأحوال فهي جيفة ميتة ، والتقوى على أربعة أوجه : من الرياء والعجب ورؤية النفس ، وأن يخطر بعده غير الله عزوجل.

(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١))

قوله تعالى : (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) إن الله سبحانه أسبل ستر الغيرة على وجه القدم حتى لا ينظر إلى أنوار عظمته من لم يكن أهله ، وكشف ذلك الستر لأبصار العارفين ؛ لينظروا إلى عظيم جلاله ، ويكونوا في رعايته من حيث أن عظمته تعالى محيطة على أسرارهم بنعت مباشرة نورها ، فالطائفة الأولى بقوا في أسر عصيانه ، والأخرى بقوا في نور سلطانه ، فهدّد قابيل أخاه بالقتل ، وأجابه هابيل بسطوة التوحيد وخوّفه من جلال الحق ؛ حيث قال : (ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) ، ومن شعار أهل الخوف ألا يقاتل أحدا

لإسقاطهم الوسيلة بينهم وبين رؤية القدر السابق.

(مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤))

قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) فيه إشارة لطيفة من الحق سبحانه : إن النيّة إذا وقعت من قبل النفس الأمّارة في شرّ وباشرته فكأنها باشرت جميع عصيان الله ؛ لأنها لو قدرت على جميعها لفعلت ؛ لأنها أمّارة بالسوء ، ومن السوء خلقت ، فالجزاء يتعلق بالنيّة ، وكذلك إذا وقعت النيّة من قلب القلب الروحاني في خير وباشره ، فكأنه باشر جميع الخيرات ، لأنه لو قدر الفعل ، قال عليه‌السلام : «نيّة المؤمن أبلغ من عمله» (١).

وفيه إشارة أخرى : إن الله سبحانه خلق النفوس من قبضة واحدة مجتمعة بعضها من بعض ، وفرقها مختلفة ، وتعلّق بعضها ببعض من جهة الاستعداد والخليقة ، فمن قتل واحدا منها أثّر قتلها في جميع النفوس عالمة به أو جاهلة ، ومن أحيا نفس مؤمن بذكر الله وتوحيده ووصف جماله وجلاله حتى تحب خالقها وتحيى بمعرفته وجمال مشاهدته ، فأثّرت حياتها وبركتها في جميع النفوس ، فكأنما أحيا جميع النفوس ، وفي الآية تهديد الله لأئمة الضلالة ووعد وشرف وثناء حسن لأئمة الهدى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ

__________________

(١) رواه البيهقي في الشعب (٥ / ٣٤٣).

اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) أي : اتقوا الله في النظر إلى غيره ، وابتغوا إليه الوسيلة بنعت التقوى ، ولا يكون عندكم الوسيلة إليه شيئا دونه ؛ لأنه هو الوسيلة إليه.

ألا ترى إلى قول الشاعر :

أيا جود معن ناج معنى بحاجتي

فليس إلى معن سواه شفيع

وسيلته محبته ومعرفته والاستعانة به عنه.

قال جعفر عليه‌السلام : اطلبوا منه القربة.

قال الواسطي : لو كشف لهم ما عاملهم به لفسدت أوقاتهم ، وأوقاته من يفتدي بهم.

وقال : ما يتوسل به إليكم ؛ لقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ٥٤].

وقال الأستاذ : ابتغاء الوسيلة التبرؤ عن الحول والقوة ، والتحقق بشهود الطول والمنّة.

ويقال : ابتغاء الوسيلة التقرب إليه بما سبق إليك من إحسانه.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣))

قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) قطع حبال أطماع الخليقة عن إضافة القدرة القديمة إليهم ؛ حيث أراد الفتنة بالمفتتن ، وفتنته بأن يشغل الطالب بنفسه ، ويوقعه في يد نفسه ، ويغريها إلى الشهوات المحببة القاطعة طريق الحق ، ويغرس أشجار الهوى في قلبه ، ويسقيها من مياه الغفلة حتى حيزت حومان القلب بظلمة الشهوات ،

بحيث لا يدخل فيه نور البرهان والعرفان.

ثم زاد في وصفهم ، وعلّق الجميع بإرادته ، وقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ).

قال الخواص في قوله : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) : من يرد الله افتراق أوقاته لم يملك جمعها له.

وقال ابن عطاء : من يحجبه الله عن فوائد أوقاته لن يقدر أحد إيصاله إليه.

قال أبو عثمان : أي بالمراقبة والمراعاة.

وقال أبو بكر الوراق : طهارة القلب في شيئين : في إخراج الحسد والغشّ منه ، وحسن الظنّ بجماعة المسلمين.

قوله تعالى : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) وصف الله سبحانه أهل السالوس الذين في هذا الزمان يجلسون في الزوايا ، ويظهرون التزهد والتقشف ، ويطرحون على أعناقهم الطيالسة ، يسمعون مديح أهل الدنيا لهم ، مثلما قالوا : ليس في الدنيا مثلك يا شيخ ، وأنت كذا وكذا ، وهو يشتري غرورهم وأقاويلهم الباطلة ، وهم يمدحونه لأهل الشفاعة عند الأتراك ، ويجعلونه وسيلة إلى السلطان ، ويعطونه رشوة ؛ لاستجلاب مرادهم ، فهو يسمع الكذب ، ويأكل السحت ، طهّر الله وجه الأرض منهم ، ووقانا من صحبتهم وسوء أفعالهم ، فإنهم مرقوا من الدين ، وأكلوا الدنيا بالدين.

قال بعضهم : سمّاعون الدعوى الباطلة ، أكّالون للسحت يعنى أكّالون بدينهم.

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧))

قوله تعالى : (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) (١) الربّاني الذي نسب إلى الرب بالمعرفة والمحبة والتوحيد ، فإذا وصل إلى الحق بهذه المراتب والاستقامة في شهوده جلاله وجماله صار متصفا بصفات الله ، حاملا أنوار ذاته ، فإذا فني عن نفسه بقى بربه صار ربانيا ، مثله مثل الحديد في النار ؛ فإذا لم يكن في النار كان مستعدا لقبول النار ولم تكن نارا ، فإذا وصل إلى النار واحمرّ صار نارا ، هكذا شأن العارف ، فإذا كان منورا بتجلّي الرب صار ربانيّا روحانيّا نورانيّا ملكوتيّا جبروتيّا ، كلامه من الرب إلى الرب مع الرب ، فالربانيون عشّاق الله وأحباؤه ، الحاضرون من بين يديه ، المكاشفون وجه الله سبحانه ، والأحبار الذين يسمعون كلام الله من الله بواسطة المفرقون بين الحق والباطل بنور الله.

قيل : الربانيون الراجعون إلى الرب في جميع أحوالهم ، والأحبار العلماء بالله وبآياته.

وقيل : الربانيون العلماء بالله ، والأحبار العلماء بأحكام الله.

وقال ابن طاهر : الربانيون هم الصحابة الذين أخذوا كلام الرب عن السفير الأعلى ، والواسطة الأدنى ، والأحبار علماء الأمة العاملون بعلمهم.

قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) العارف مخاطب من الله في جميع أنفاسه وحركاته ، يتنزل على قلبه من الله وحي الإلهام ، وربما يخاطبه بنفسه ، ويكلمه بكلامه ، ويحدثه بحديثه كقوله عليه‌السلام : «إن في أمتي محدّثين ومكلّمين ، وإن عمر منهم» (٢) ، فإذا لم يحكم بنفسه بما أنزل الله على قلبه بأن يخرجها من الشك إلى اليقين ، ومن الظلمة إلى النور ، ومن المخالفة إلى المتابعة ، ومن الكذب إلى الصدق ، ومن الشرك إلى التوحيد ، ومن الظلم إلى العدل ، ومن العصيان إلى الطاعة ، يكون موصوفا بأواخر هذه الآيات الثلاثة ، كفر أنعام الله الذي هو مقام الخطاب ، وظلم بأنه لم يضيع علمه على علمه ، وفسق عن مراد الله إلى مراد نفسه.

قال بعضهم : من لم يحكم للناس بحكمه على نفسه قد كفر نعم الله عنده ، وجحد سني مواهبه لديه ؛ فظلم نفسه بذلك.

__________________

(١) الربانيّ من كان لله وبالله ؛ لم تبق منه بقية لغير الله ، ويقال : الربّانيّ الذي ارتقى عن الحدود ، والربانيّ من توقّى الآفات ثم ترقّى إلى الساحات ، ثم تلقّى ما كوشف به من زوائد القربات ، فخلا عن نفسه ، وصفا عن وصفه ، وقام لربّه وبربّه ، وقد جعل الله الربانيين تالين للأنبياء الذين هم أولو الدّين ، فهم خلفاء ينهون الخلق بممارسة أحوالهم أكثر مما ينهونهم بأقوالهم ، فإنهم إذا أشاروا إلى الله حقق الله ما يؤمنون إليه ، وتحقق ما علقوا هممهم به [تفسير القشيري (٢ / ١٤٤)].

(٢) ذكره القرطبي في التفسير (١٣ / ١٧٤).

وقيل : من لم يحكم خواطر الحق على قلبه كان محجوبا من المبعدين.

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣))

قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) إن الله تعالى جعل في بحار القدم والبقاء السواقي لورود الأرواح القدسية ، ومشارب للقلوب العارفة به ، وسواقي العقول الصادرة من نوره ، ولكل واحد منها شريعة من تلك البحار ، فلبعض شرعة العلم ، ولبعض شرعة القدرة ، ولبعض شرعة الصمدية ، ولبعض شرعة الحكمة ، ولبعض شرعة الكلام والخطاب ، ولبعض شرعة المحبة والمعرفة ، ولبعض شرعة العظمة والكبرياء ، ثم جعل لها منهاجا من الصفات إلى الذات ، ومن الذات إلى الصفات ، ومن الصفات إلى الصفات ، ومن الذات إلى الذات ، ومن الأسماء إلى النعوت ، ومن النعوت إلى الأسماء ، ومن الأسماء إلى الأفعال ، ليعرفه كل واحد بقدر ذوقه وشربه وطريقه ، وجعل بينهم تباعدا وتقاربا ، قال تعالى : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) [البقرة : ٦٠] ؛ فمن وافق شربه شرب صاحبه لم يقع بينهما الخلاف في الشرعة والمنهاج ، ومن لم يكن شربه موافقا لشرب صاحبه لم يعرف أحدهما مكان الآخر ويكون بينهما نزاع ، وذلك من غيرة الله عليهم ، وعلى نفسه ؛ لئلا يركن بعضهم بعضا ، ولا يطّلع عليه سواه.

ألا ترى كيف وصف مزاج الأبرار من مزاج المقربين ، وفرّق بينهم بالمشارب

والسواقي ، وكيف خصّ بعضا بالرحيق المختوم بقوله : (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ) [المطففين : ٢٥ ، ٢٦] ، وذلك رحمة منه على الجمهور ، ولتفاوت فوائد استنباط علوم الغيبية من مراد الله ، قال عليه‌السلام : «اختلاف العلماء رحمة» (١) ، ولاختيارهم في طريقهم بحقائق العبودية وعرفان الربوبية ، وهذا قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) يعني شيوخا وأكابر بغير المريدين والسالكين ، (وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) من المقامات الشريفة والأحوال السنية ، كيف تخرجون من دعواكم بحقيقة عبوديته؟ وتخرجون جواهر العلوم من كتابي وحكمتي.

ثم خاطبهم جميعا بقوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) عرّفهم مكان تقصيرهم ، أي : ما أدركتم مني في جنب ما عندي لكم كقطرة في بحر ، سارعوا إلى خيرات مشاهدتي ، وجميل عطاياتي.

ثم أفردهم ممّا وجدوا إلى عين جلاله بقوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) أي : إليه مرجع افتقاركم من مقاماتكم إليه ، لزيادة القربة والمعرفة ، وهناك يظهر تفاضل درجاتكم ، وما غاب عنكم من حقائق أسراري ، ونوادر لطائفي ، وهذا معنى قوله تعالى : (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).

قال بعضهم في قول : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) كلّ قد فتح له طريق إلى الله ، فمن استقام على الطريقة وصل إلى الله ، ومن زاغ وقع في سبيل الشيطان ، وضلّ عن سواء السبيل.

وقال أبو يزيد البسطامي : الطريق إلى الله بعدد الخلق ، ولكن السعيد من هدي إلى طريق من تلك الطرق.

قال الأستاذ في قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أي : ولو شاء الله لسوّى مراتبكم ، ولكن غاير بينكم ابتلاء ، وفضّل بعضكم على بعض امتحانا.

وقال في قوله : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) : مسارعة كل واحد على ما يليق بوقته ؛ فالعابدون تقدمهم من حيث الأوراد ، والعارفون بهممهم من حيث المواجيد.

ويقال : استباق الزاهدين برفع الدنيا ، واستباق العابدين بقطع الهوى ، واستباق العارفين بنفي المنى ، واستباق الموحدين بترك الورى ، ولسان الدنيا والعقبة.

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (١٠ / ٣٦).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤))

قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) إن الله تعالى وبّخ المفلسين من أهل الرّدة بأن ليس لهم في محبة الله نصيب بارتدادهم عن الإسلام ، وأخبر أنه يجيء بقوم إن الله تعالى قد أحبهم في الأزل وهم بمحبته يحبونه ، وهم يوافقون النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه ـ بشرط المحبة ؛ لأن من شرط المحبة الموافقة والطاعة ، وبيّن أن من لم يكن مطيعا لم يكن محبّا ، قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ، وفي الآية ذكر شرف الصحابة والتابعين من بعدهم ، وبيّن تعالى أن المحبة من خواص صفته الأزلية ؛ لأنه كان بذاته يحب أحباءه ، وكان ذاته موصوفا بالمحبة الأزلية ، وكما أنه تعالى يحب الأولياء بذاته وصفاته فهم يحبون الله بذاتهم وصفاتهم من جميع الوجوه ؛ لأن مصدر المحبة القدم ، وليس هناك فعل ، ومحبة العباد مصدرها قلوبهم ، وليس هناك فعل ، وأصل المحبة وقع بغير العلّة من الآلاء والنعماء والأفعال والحركات ؛ كأن سبحانه أحبهم بعلمه في الأزل قبل إيجادهم باصطفائية ، فكأنه قد أحب نفسه ، لأن كونهم لم يكن إلا بكون وجوده ، ووجوده سبب وجودهم ، وهو تعالى أحب فعله ومرجع الفعل صفته ، فكأنه أحب صفته ، ومرجح صفته ذاته ، فكأنه أحب ذاته ، لم يكن الغير في البين ، فكان هو المحب وهو المحبوب وصفته المحبة ، وهم يحبونه بتجلي الصفة في قلوبهم ، وهو مباشرة نور محبته في فؤادهم ، فلمّا تكحلت أرواحهم بنور محبته فطاب مصدر أصل الصفة ، فوجدت مشاهدة الأزل عيانا بلا حجاب ، فأحبتها بالمحبة الأصلية التي لا تتحول من مصرف الأصل أبدا ، فإذا كان كذلك فالمحب والمحبوب والمحبة في عين الجمع واحد ، وهذه إشارة قوله سبحانه بلسان نبيه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حيث أخبر عن المحب المتحد المتصف بصفاته ، قال في أثناء الحديث : «فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا» (١).

وفي هذا المعنى أنشد الحسين بن منصور فقال :

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته

وإذا أبصرته أبصرتنا

قال الواسطي في هذه الآية : كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته ؛ لأن الهاء راجعة إلى

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (٨ / ٣١٩).

الذات دون النعوت والصفات.

قال السلامي : بفضل حبه لهم أحبوه ، كذلك ذكرهم بفضل ذكره لهم ذكروه.

وقال : الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة ، فإذا لم يكن ذلك لم يكن فيه حقيقة.

وقال يوسف بن الحسين : المحبة الإيثار.

وأنشد في معناه الحسين بن أحمد الرازي ، قال : أنشد أبو علي الروذباري لنفسه :

سامرت صفو صبابتي أشجانها

حرق الهوى وغليلة نيرانها

وسألت عن فرط الصبابة قيل لي

إيثار حبّك قلت خذ بعنانها

كلّ له وبه ومنه ، فأين لي

وصف؟ فأؤثره فطاح لسانها

قيل : المحبة ارتياح الذات بمشاهدة الذات.

وقيل : المحبة هي أن تصير ذات المحب صفة المحبوب.

قال الواسطي : بطل حبهم بذكر حبه لهم بقوله : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) ، وأن تقع صفات المعلولة من الصفات الأزلي الأبدي ، وقد وقعت إلى إشارة : أن محبة الله وقعت في الأزل ، ولم يكن هناك وجود الأحباء ؛ لأنه تعالى لم يكن محتاجا إلى رؤيتهم محبته إياهم ، ولكن لم تكن محبة الأحباء له إلا بعد أن رأوا مشاهدتهم ، فثبتت المشاهدة قبل المحبة ، وثبتت المحبة بعد المشاهدة ، والمحبة بعد المشاهدة من قبل المحبين لم تكن محبة حقيقية ، لأن محبة الآلاء والنعماء وقعت معلولة ، ولذلك لم يرتدوا عن دينهم الذي هو المحبة ؛ لأن من رأى عشقه فكيف يرجع عنه من كان مسلوب القلب بعشقه وجماله!

ثم زاد الله في وصفهم بذكره تواضعهم لأحبائه وغلبتهم على أعدائه بقوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) ، وذكر بذل وجودهم في طريق محبته ، بنعت جهدهم أعدائه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقلّة مبالاتهم في الله إلى ملامة اللائمين بقوله تعالى : (يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) ، وعلّق جميل أوصافهم بفضله وسعة رحمته ، كما أنه علّق محبتهم بمحبته بقوله تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

قال أبو بكر الوراق : الجهاد ثلاثة : جهاد مع نفسك ، وجهاد مع عدوك ، وجهاد مع قلبك ، والجهاد في سبيل الله هو مجاهدة القلب بألا تتمكن منه الغفلة بحال ، وجهاد النفس ألا تفتر عن الطاعة بحال ، وجهاد الشيطان ألا يجد منك فرصة فيأخذ بحظه منك.

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ

راكِعُونَ (٥٥))

قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) أي : محبّكم الله بصدق العناية ، ومحبة الرسول تأديبهم بالشريعة ، ومحبة المؤمنين الإيثار للنفس والمال إليهم بالأخوة.

قال سهل : أما ولاية الله فهو الاختيار لمن استولاه ، وولاية الرسول عليه‌السلام إعلام الله ورسوله أنه وليّ ، فيجب على الرسول أن يوالي من والى الله.

(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧))

قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) أي : من وقعت له تولية الله بمحبته ورؤية مشاهدته ووقعت التولية من رسول الله بموافقته لطاعة الله ، وتوليه المؤمنين من جهة استعداد الفطرة ورؤية أنوار الغيب في وجوههم ، فإنه محبوب الله ، ومحبوب رسوله ، ومحبوب المؤمنين ، ويكون طالبا على نفسه وشيطانه بالنصرة الإلهية.

قال القاسم : موالاة الله مشتقة من موالاة رسول الله ، ومولاة رسول الله مشتقة من موالاة السادة والأكابر من عباده ، وهم المؤمنون ، ومن لم يعظم الكبراء السادة لا يبلغ إلى شيء من مقام الموالاة مع الله ورسوله.

قال عليه‌السلام : «من تعظيم جلال الله إكرام ذي الشيب المسلم» (١).

قال في قوله : (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) قال : لأهوائهم وإرادتهم ومقاصدهم.

وقال بعضهم : حزب الله أهل خاصته القائمين معه على شرائط الاستقامة.

(وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ

__________________

(١) رواه البخاري في التاريخ الكبير (٦ / ١٩).

لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣))

قوله تعالى : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً) مناداة الحق لا يسمعها إلا أهل الحق ، من سمع نداء الأزل وأجاب بالتلبية بنعت المحبة يسمع نداءه بالواسطة بشرط إصغاء سمعه الخاص في السماع إلى قول الغيب ، ومن لم تكن روحه مستروحة بمروحة الصفاء لم يكن سرّه منوّرا بنور البقاء ، ولم يكن قلبه مشتاقا إلى جمال مشاهدة الله بنعت الحرق والهجان ، ولم يكن من أهل السماع ، ولم يجب داعي الغيب.

قال الأستاذ في هذه الآية : الأذان دعاء إلى محل النجوى ، فمن تحقق بعلوّ المحل فسماع الأذان يوجب له روح القلب واسترواح الروح ، ومن كان محجوبا عن حقيقة الحال لاحظ ذلك بعين اللعب ، وأدركوا بسمع الاستهزاء.

قوله تعالى : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) في الآية تحذير الربانيين العارفين بالله وبحقوق الله ، والأحبار العلماء بالله ، وبعذاب الله لمن عصاه ، وبثواب الله لمن أطاعه ؛ لئلا يسكنوا عن زجر المبطلين والمغالطين المائلين عن طريق الحق إلى طريق النفس ، وبيّن تعالى أن من داهن في دينه عذّبه وإن كان ربانيّا.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من رجل يجاور قوما يعمل بالمعاصي بين ظهرانيهم ، فلا يأخذون على يديه إلا أوشك الله أن يعمّهم منه بعقاب» (١).

قال الواسطي : الربانيون العارفون مقادير الخلق من جهة الحق ، والأحبار الآمرون بالمعروف ، والناهون عن المنكر.

قال أبو عثمان : الربانيون هم أهل حقيقة الحق ، وهم أهل المحبة لله بالصدق.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ

__________________

(١) رواه الطبراني في الكبير (٢ / ٣٣٢).

وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦))

قوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) أشار الله سبحانه عن التمثيل والتصوير إلى يد القدم ويد البقاء ، يد القدم اصطفائية الأولياء والصديقين بمعرفته ومحبته ، وذلك كقضاء الإرادة القديمة من القدرة القائمة بالذات إيجاد الصفوة ، فتجلّت القدرة بالمشيئة الأزلية للعدم ، فظهرت من العدم بنور القدم أرواح أهل الولاية ، فقبضتها القدرة ، وأنفقت عليها أنوار المشاهدة ، ورتبها برزق القدرة والوصلة حتى أدخلتها الأشباح وأوصلتها إلى يد البقاء ، قربتها يد البقاء بقربات الأبدية ، ومداناة السرمدية ، ففي كل لحظة يتجلّى لها القدم ألف ألف مرة بتجلّي البقاء لهم في كل لمحة ألف ألف مرة بغير نعت الفترة والانقطاع ؛ لأنه تعالى لا نهاية لجلال قدمه وجمال بقائه.

وأيضا : يد لطفه مبسوطة بالرحمة الواسعة الأزلية لأهل العناية والسعادة ، ويد قهره مبسوطة بالعذاب لأهل الشقاوة ترفع قوما بميزان اللطف ، وتضع آخر من ميزان القهر.

قال عليه‌السلام : «يد الله ملأى ، تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق مذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يديه ، وكان عرشه على الماء ، وبيده الميزان ، يخفض ويرفع» (١).

قال الأستاذ : بل قدرته بالغة ، ومشيئته نافذة ، ونعمته سابغة ، وإرادته ماضية.

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ) أشار سبحانه إلى أن لو استقاموا في عملهم بخطاب الله ولم يترسموا برسم أهل الحظوظ لكوشفت لهم أنوار الملكوت في قيامهم لقوة قلوبهم وقوة أبدانهم ، وكوشفت لهم أنوار الجبروت في سجودهم لقوة أرواحهم وقوة عقولهم ، وبيّن أن فيهم أمة مستعدة لقبول هذه الأحوال ، ومع ذلك أخرج الله سبحانه قوما من مقام التوكل ؛ حيث شرط معهم العمل بالكتاب كما شرط على أهل التقوى بقوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٢ ، ٣] ، ولو كانوا على محل التحقيق في المعرفة لأكلوا رزق الله بالله من خوان غيبه ، كأصحاب المنّ والسلوى والمائدة من السماء ، ويفتح لهم كنوز الأرض ، وهم على ذلك بإسقاط رؤية الوسائط.

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ

__________________

(١) رواه البخاري (٤ / ١٧٢٤).

وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) إن الله سبحانه وتعالى خوّف نبيه عليه‌السلام من نفسه حتى لا يبقى فيه غير الله ، ويسقط عن عينه الخلق ، ولا يفزع منهم في وصف عليهم ومداواة معايبهم ، وحثه على تبليغ ما أخبر الله إليهم ، فإن الله تعالى أراه ما لهم بين يديه بقوله : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) ، ومع ذلك أمره بإبلاغ ما أنزل إليه من الذي يتعلق بأحكام العبودية ، ولم يأمره بأنه يعرّفهم أسرار ما بينه وبين الله ، وما بين الله وبين أوليائه ، فإن ذرة من أسرارها لم تحتملها السموات والأرضون ، ولا الحدثان بأسرها ؛ لأنها وصف خاصية الصفات وكشوف أنوار الذات ، ومحل الأنس والجمال بنعت الانبساط والاتصاف والاتحاد ، ودعوى الأنائية والأزلية والسرمدية ، وذلك ما أبهم الله على قلوب الخلائق من العرش إلى الثرى ، من السرّ ما بينه وما بين قلب نبيه في محل الدنوّ ، ودنوّ الدنوّ ، لقوله : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١)) [النجم : ٨ ـ ١١] ، لا يطيق أهل الكون أن يحتمل ذرة من ذلك الوحي ، وكيف يحتمل الحدثان كشف قدم الرحمن ، كان عليه‌السلام حمله به لا بنفسه ؛ لأن الحدث متلاش في الأزل ، ويبقى أنه في عصمته من كيد نفوسهم وشرّ معاصيهم بقوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي : يعصمك من أن يوقعك أحد في التمويه والغلط والخيال في طريقك إليّ ، وهذا لكونه مختارا بالرسالة ، وحقائق الرسالة في الرسول ظهور أنوار الربوبية في قلبه وبيان أحكام العبودية في سرّه.

قال الواسطي : حقائق الرسالة لو وضعت على الجبال لذابت ، إلا أنه يظهر العالم على مقادير طاقتهم ، ألا ترى إلى قوله : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ، ولم يقل ما تعرفنا به إليك.

قال بعضهم : معناه بلّغ ما أنزل ، ودع ما تعرفنا إليك ، الأول الشريعة ، والثاني ما أنزل من الأنوار على سرّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يطيقها بشر.

قال بعضهم : بلّغ ما أنزل إليك ، ولا تبلغ ما خصصناك به من محل الكشف والمشاهدة ، فإنهم لا يطيقون سماع ما أطقت حمله من مشاهدة الذات والتجلّي بالصفات.

قال بعضهم : الرسول هو المبتدى ، والنبي هو المقتدى ، قال الله في صفة الأنبياء : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠].

قيل في قوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (١) أي : يعصمك منهم أن يكون منك إليهم التفات ، أو يكون لك بهم اشتغال.

قيل : يعصمك من أن ترى لنفسك فيهم شيئا ، بل ترى الكل منه وبه.

وقال الأستاذ في قوله : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) : أي : بيّن للكافة أنك سيد ولد آدم ، وأن آدم من دون لوائك.

ويقال : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) إني أغفر للعصاة ولا أبالي ، وأرد المطيعين من شئت ولا أبالي.

ويقال في قوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) أي : حتى لا يغرق في بحر التوهم بل تشاهدهم كما هم وجودا بين طرفي العدم.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠))

قوله تعالى : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) إن خطاب الله سبحانه ذو صفتين : صفة القهر ، وصفة اللطف ، فمن تجلّى القرآن بقلبه بصفة اللطف يزيد نور بصارته بلطائف حكمته ، وحقائق أسراره ، ودقائق بيانه ، ويزيد بذلك نور إيمانه وتوحيده ، ويعرف بذلك ظاهر الخطاب وباطنه ، ومن يتجلّى لقلبه بصفة القهر يزيد ظلمة طغيانه ، وقلّة عرفانه بحيث لا يدرك فهم الخطاب ، ويزيد لحظة بعد لحظة ظلمة قلبه ؛ لأن القرآن صفة الله وصفته لا نهاية لها ، إما برؤية اللطف أو برؤية القهر ، قال تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) [البقرة : ٢٦].

قال الواسطي : هم الذين تولى الله إضلالهم وصرف قلوبهم عن درك دقائق الحكمة.

__________________

(١) أي : يحفظ ظاهرك من أن يمسّك أذاهم ، فلا يتسلط بعد هذا عليك عدوّ ، أو يصون سرّك عنهم حتى لا يقع احتشام منهم ، ويقال : يعصمك من الناس حتى لا تغرق في بحر التوهم ؛ بل تشاهدهم كما هم ؛ وجودا بين طرفي العدم [تفسير القشيري (٢ / ١٤٨)].

(وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩))

قوله تعالى : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) وصف الله قوما بعميهم عن رؤية الحق ، وإدراك فهم الخطاب بما على عيونهم من غشاوة الغيرة ، وبما في آذانهم من وقر الضلالة ، فلم يعرفوا محض الاستدراج والامتحان في إمهال الله إياهم في ظلمة العصيان ، وحسبوا أنهم يحسنون فيما بينهم وبين الله ، ولم يعرفوا سقوطهم عن الدرجات إلى الدركات ، ولمّا فتح الله باب الرحمة عليهم عرفوا تقصيرهم ، ثم جاء إعلام القهر وسد باب العصمة والتوفيق عليهم فرجعوا إلى الضلالة وعمى الباطن ؛ لأنهم ليسوا بأهل الله وخاصته ، ولو أدركوه بشرط العناية لم يرجعوا عنه أبدا.

قال بعضهم : ظنوا ألا يفتتنوا في آذانهم وأهوائهم ؛ فعموا عن رؤية الحق ، وصموا عن استماعه ، إلا من أدركته رحمة الله وفضله فتاب عليه وفتح عينه لرشده.

قيل : ظنوا أنهم لن يقعوا في الفتنة ، وهم طالبون الدنيا ، معتمدين على الخلق ، عميت أبصار قلوبهم ، وصمّت آذان أسرارهم ، إلا من يتداركه الله بكشف الغطاء ، ويحله محل التائبين.

قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) لمّا ظهرت آيات الله في عيسى عليه‌السلام وأمه برزت من الآيات أنوار الصفات ؛ فوقع أكابر العشاق في مقام الالتباس ، وخضعوا عند رؤية الربوبية في رؤية الصفات في الآيات ، فغلط المقلدون بما رأوا عليهم شرائط العشق وبراهين عين الجمع ، فكفروا بتفريقهم الألوهية في محل تفرقة الحدثان ، وذلك ما حكى الله تعالى عنهم بقوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) أي : عموا عن رؤية حقائق رؤية وحدانية الله التي هي منزّهة عن الاجتماع والافتراق والامتزاج بالناسوت ، والحلول في الحدثان عند ظهوره لأبصار العشاق والعارفين من لطائف الآيات وبراهين المعجزات.

تصديق ذلك قوله تعالى في نفي الأضداد والأشباه والأنداد والأوهام والجبال عن ساحة جلاله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ).

ثم وصف بعد وصف تنزيه المسيح ومريم بأنهما موضع آياته ، وبرهان صفاته ، وصفهم بالعجز في الإنسانية والضعف في البشرية عن حمل امتحانه تعالى بقوله : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) أي : هو من عالم الجلال أرسلته إلى عشاقي وعرفاني ، وأول من صدقه أمه ؛ لأنها شقائقه في مباشرة الآيات ورؤية الصفات ، ثم أحوجهما إلى علل الأبشار بوصفهما بأنهما كانا يأكلان الطعام ، هذا كناية وعبارة عن الحدث بذلك أبرأ عنهما الألوهية ، وكيف يليق بعزّة القدم تغاير الحدثان.

(تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢))

قوله تعالى : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) بيّن الله سبحانه ميلان الجنس إلى الجنس في الكفر والإيمان من تجانس الفطرة الأولية ، وأظهر بغضه لموالاة الأعداء بعضهم بعضا ، ومحبته لموالاة الأولياء بعضهم بعضا ، وبيّن أن موالاة الكفار توجب سخط الله عليهم أبدا ، وبقاءهم في عذابه أبدا ، ولا تظن في رضاه وسخطه أنّهما صفتان متغايرتان من جهة تأثير

أفعال الحدث في القدم ، فإنّ صفات القدم منزّهة عن أن تكون محلا لنزول الحدثان فيها ، فإنّ رضاه سبق عنايته للمقبولين ، وإنّ غضبه إرادة وضوح وسم البعد على المطرودين.

قال الواسطي : ما أظهر من الوسم المكروه على خلقه ، جعل ذلك مضافا إلى غضبه وسخطه من غير أن يؤثر عليه شيء ، ألا ترى إلى قول الحكيم كيف يؤثر عليه ما هو أجراه أم كيف يغضبه ما هو أبداه.

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) وقع اليهود في سخطه الأكبر ؛ حيث اختاروا من يلههم العجل بالإلهية بقوله : (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) [النساء : ١٥٣] ، وقوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣] ، ثم نزلوا من رتبة الحيوان إلى رتبة الجماد بقولهم لموسى عليه‌السلام : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ) [الأعراف : ١٣٨] ، ومن علامة همتهم أشار إلى رتبة الإنسان بقولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] ، فلمّا قطع الله نسبة القدم عن الحدث اشتد غضبهم على أهل التوحيد وذلك قوله سبحانه : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ) ، ووقع النصارى في سخطه الأصغر ، حيث ارتفعوا بهمتهم في طلب الإلهية إلى عيسى عليه‌السلام ؛ لأنه مجمع آيات الله وقعوا في الخيال عند بروز الصفة عن الآية ؛ لقلّة إدراكهم الوحدانية ، لكن بسبب استعدادهم قبول ظهور الآية صاروا أقرب من اليهود إلى قبول الإسلام ، والذي وصفهم الله هاهنا بقوله : (قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) أنهم بقوا في النصرانية في طلب الحق ، فلمّا لاح الحق لهم خرجوا ممّا دون الحق إلى الحق ، وكانوا صديقين في تجريدهم في طريق الله ؛ حيث وصفهم الله بالقسيسية والرهبانية ، وإذا كانوا في طلب الله أدركهم الله بنور الإسلام والتوحيد ، وما أبقاهم في الشكوك والآراء المختلفة.

ثم زاد في وصفهم بالخضوع والإذعان عند بروز البرهان تصديقا وتعريفا بقوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).

قال بعضهم : جزيات الخدمة أثبت عليهم وإن كانوا على طريق المخالفة ، لكنهم لمّا أظهروا لزوم الباب بدت عليهم آثارها في قبول الجزية وتحليل المناكحات والانتساب إلى التزهد والرهبانية.

(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا

وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦))

قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) وصف الله سبحانه أهل خالصة الإيمان بحسن الإصغاء عند سماع الذكر والخطاب ؛ حيث شاهد عقولهم بشواهد الكتاب بنعت الانبساط ، وشاهد قلوبهم حلاوة الخطاب ، وشاهد أرواحهم مشاهد جمال الأنبياء ، وشاهد أسرارهم أنوار الصفات بوصف إدراك لطائفها ورؤية نوادر عجائبها ، فوردت سواقي بحار علومها ، وشربت مفرحات عجائب مكنونها ، ورأت غرائب تجلّي عرائس غيبها ، وهاجت إلى طلب معادنها بنعوت شوقها إلى جمال المخاطب ، فلمّا أدركته عرّفته بالألوهية ، وعلمته بالوحدانية ، وعشقته بما رأت من لطيف خطاب معهم وعرفان أسراره فيهم ، فأثرت ما أدركت في الأشباح حتى اضطربت وأدمعت عيونها بدمع الشوق ، واحترقت قلوبها بنيران العشق في مجالس الذكر والسماع ، فعرف الله صدق عرفانهم ومواجيد قلوبهم بالعلامة الصحيحة ، وهي سيلان قطرات الدموع الأسحان بوصف الهيجان على حدود أهل العرفان بقوله : (وَإِذا سَمِعُوا) إلى قوله : (مِنَ الْحَقِ) أي : إذا وجدوا في سماع الخطاب ما فاتوا من لطائف حقائق أسراره وعرفوا حق قدر المخاطب والمخاطب استبشروا بالوجدان ، وحزنوا من ضرر الفقدان ، وهيج فرحهم وحزنهم إلى الشوق والبكاء ، وذلك البكاء من إصابة عيونهم قلوبهم إلى معارف الغيب ومصادفة أرواحهم شواهد القرب ، وربّ قتيل قتله سماع القرآن من غمرات المعرفة وغشيان النور على قلوبهم.

روي عن جنيد قال : كنت قائما أصلي فقرأت هذه الآية (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥] ، فرددتها مرارا ، فنادى مناد من ناحية البيت كم تردد هذه الآية ، فلقد قتلت بها أربعة نفر من الجن لم يرفعوا رؤوسهم إلى السماء حتى ماتوا من ترديدك هذه الآية.

وكان الصديق رضي الله عنه عنه لا يتمالك بكاءه عند سماع القرآن.

ثم وصف الله سبحانه وتعالى مؤمني أهل الإنجيل بزيادة التصديق بما ذكره في كتابه من قولهم : (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي : صدقناك بما عرفتنا قدر رسولك وأصحابه ؛ فإنهم شاهدون قربك ووصالك.

قال ابن عطاء في تفسير قوله : (وَإِذا سَمِعُوا) : كادت جوارحهم وقلوبهم أن تنطق بقبول الوحي قبل سماعه في مشاهدة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولمّا سمعوا منه لم يطيقوا حمله إلا ببكاء فرح ، أو بكاء حسرة ، أو بكاء دهشة ، أو بكاء حرقة ، أو بكاء معرفة ، كما قال الله : (مِمَّا عَرَفُوا

مِنَ الْحَقِ).

قال الأستاذ : إذا قرع سمعهم دعوة الحق بقسم البصيرة في قلوبهم فسكنوا إلى المسموع لما وجدوا من التحقيق.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) هذا خطاب أهل المشاهدة ، أي : إذا وصلتم مقام المشاهدة فلا تميتوا قلوبكم بالمجاهدة ، فإن المجاهدة للنفوس ، والمشاهدة للقلوب ، وإذا ظهرت المشاهدة للقلوب فلا يبقى فيها للنفوس أثر ، وأعلم بذلك تعالى أهل قربه الذين بلغوا مقام الأنس والبسطان ما يجري في قلوبهم من ذكر بدايتهم في ترك الطيبات من القوت واللباس ، لا يجوز في هذه المقامات الرجوع إلى البدايات ، فإن هاهنا لا يليق مجاهدة النفس بهم ؛ لأنهم يذوبون في روح الأنس ونور البقاء ، وهم في ذلك عرائس الله يبيح لهم ما لا يبيح للمريدين من أكل الطيبات ولبس الناعمات لبقائهم في الدنيا ولا يحترقون بواردات الوجد.

ألا ترى أن سبب نزول هذه الآية اجتماع أخيار الصحابة مثل : عثمان بن مظعون ، وأبي بكر الصديق ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وأبي ذر الغفاري ، وسالم مولى حذيفة ، والمقداد بن أسود ، وسلمان الفارسي ، ومعقل بن مقرن على ترك النساء والطيب واللحم ، واختاروا صوم الدهر ، وقيام الليل ، والسياحة في الأرض والرهبانية ، ولبس المنسوج ، ورفض الدنيا كلها ، فنهاهم الله ورسوله عن ذلك بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا).

وقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لأنفسكم عليكم حقّا ، فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا ، فإنّي أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم ، وآتي النساء ، ومن رغب عن سنّتي فليس منّي» (١) ، بيّن ذلك ألا يجوز لأهل الحقائق والمشاهدات أن يرجعوا إلى مقام البدايات.

وتصديق هذه المعاني الآية الثانية قوله تعالى : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) الحلال ما وصل إلى المعارف من خوان الغيب بلا كلفة إنسانية ، والطيب ما يقوّي قلبه في شوق الله وذكر جلاله بالتسرمد.

قال سهل في قوله : (لا تُحَرِّمُوا) : هو الرفق بالأسباب من غير طلب ، ولا إشراف نفس ، وقد يبدأ الرفق بالسبب لأهل المعرفة على الظاهر وهم يأخذونهم من المسبب بالحقيقة.

قال بعضهم : رزقه الذي رزقك ما هو من غير حركة منك ولا استشراف ، وهو الطلب الحلال يحلك محل الدعة ويطيب قلبك يتناوله.

وقال الأستاذ : ممّا أباحه من الطيبات الاسترواح إلى نسيم القرب في أوطان الخلوة ، وتحريم ذلك أن تستبدل تلك الحال بالخلطة دون العزلة ، والعشرة دون الخلوة ، وذلك هو العدوان العظيم ، والخسران المبين ذكره في تفسير قوله : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ).

وقال في قوله : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) : الحلال الصافي أن يأكل ما يأكل على شهوده ، فإن نزلت الحالة عن هذا فعلى ذكره ، فإن الأكل على الغفلة حرام في شريعة الإرادة ، ولي في الحلال والحرام لطيفة ، وهي أن الحلال الذي يراه العارف في خزانة القدرة ، فيأخذ منها بوصف الرضا والتسليم ، والحرام ما قدر بغيره وهو يجتهد في طلبه لنفسه لقلّة عرفانه بالمحذر في المقدر ، وهذا العلم غير موازن في العقول ، وما لم يكن مرضيّا في الشريعة لم يكن مرضيّا في المعرفة ، ولمّا قوي العباد بنسائم لطفه وغذّاهم من موائد قربه ، ورماهم بشهيات نعمه ، دعاهم بعد ذلك إلى طاعته وطاعة رسوله ؛ لئلا يسقط عليهم آداب الحضرة وعلامات العبودية وظرافة الخدمة ، وحذّرهم في كتابه من مخالفته طرفة عين بقوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) طاعة الله تكون في رؤية هيبته ، وطاعة الرسول تكون بحلاوة محبته ، والحذر إخراج الحدث عن وصف العدم ، وحبس الأرواح في منازل الإجلال ، أي : استقيموا في المعاملات ، واحذروا عن رؤيتها ورؤية أعواضها حتى لا تحتجبوا

__________________

(١) رواه الطبري في التفسير (٧ / ٩) بنحوه.

بها عن مشاهدة المعطي.

وأيضا : أي : احذروا في طاعتي من ضمائر الرياء ، وفي طاعة رسوله عن ضمائر الشك ، واحذروا من كراهة نفوسهم في الطاعة حتى تصلوا إلى مقام الحرقة عن دعوى الأنائية ، فإن طاعتي بالإخلاص والمحبة تصير المطيع بصفة الربوبية ، وهناك موضع الخطر قال عليه‌السلام : «المخلصون على خطر عظيم» (١) ؛ ولأن هناك يفنى الحدث في العدم ويظن الفاني أن ضرغام مكر الأزل نائما ، قال تعالى : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف : ٩٩].

قال الواسطي في هذا الآية : الحذر لا يزول عن العبد وإن كان مدرجا تحت الصفات ، ولولا ذلك لبسط العلم إلى شرط الجود وقلّة المبالاة بالأفعال ، ولكن الآداب في إقامة الموافقات كلما ازدادت السرائر به علما ازدادت له خشية.

وأيضا قال : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) : ألا تلاحظوا طاعتكم وتسقطوا عن درجة الكمال.

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦))

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا) لمّا كان الله سبحانه يتجلّى بوصف اللطف بشيء فيه محل ابتلاء العباد كان مباحا لهم وهم غير مأخوذين بتناوله ما داموا مبصرين لطائف الحق فيه ، وإذا رفع عنهم نور تجلّي اللطف حرّم ذلك عليهم.

وهذه إشارة لطيفة لمن له فهم رجعنا إلى شغلنا بالتفسير : أن العاشق العارف مادام في

__________________

(١) رواه البيهقي في الشعب (٥ / ٣٤٥).

سيره إلى الله على نعت التجريد مما سواه وهو في منظر من الله بالمراقبة والإجلال لم تضره أوقات الرفاهية والدخول في الرخص والبسط في السعادة مادام يشبه بشرط العلم.

قال سهل : إذا طلب الحلال ولم يأخذ فوق الكفاية وآثر مما حمله رواسي.

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠))

قوله تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) ألبس الله الكعبة سناء قدس آياته ونورها بصبح مشارق صفاته من مطالع ذاته ، وصيرها مرآة حسنه وجماله لنظر نظار معارفه ، وأبصار عشاق كواشف رداء عظمته وكبريائه ؛ لقيامهم على مشاهد قربه ومواقف قدسه ، ليطلبوا منها رؤية براهين هلال صفته ومشارق صنع جلال قدمه ، وحرّم تلك المنازل على الأغيار دون الأخيار ، ومنع الأخيار عن الدخول فيها مع بقاء نفوسيتهم ؛ ليعلموا أنها ممنوعة من تناول الكل لهم ، ليعرفوا عين القدم أنه منزّه عن خطرة كل حادث ، جعل الكعبة بيته ، وجعل بيته قلب العالم ، ويظهر بجلاله منه لعيون العارفين ، كما ظهر لموسى عليه‌السلام من طور سيناء ، وظهر لعيسى عليه‌السلام من طور المصيصة ، وظهر لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته من الكعبة ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جاء الله من سيناء ، واستعلن بساعير ، وأشرف من جبال فاران» (١) ، هكذا جعل قلب العارف كعبة مشاهدته في حرم صورته ، وسد بابه عن كل طائف غير نظره ، فيظهر آثار جلاله من صورهم.

قال الشبلي : الكعبة أمام أعين الناس ، والحق أمام قلوب أوليائه.

وقيل : البيت الحرام حرام في مجاورته ارتكاب المخلفات بمحال.

وقيل : حرام على من يراه أن يرى وصفه دون واصفه.

وقيل : (قِياماً لِلنَّاسِ) أي : من ذلّ عن قيامه فاعوجّ بالتدنس بمعصية ، فأتاه فتعلق به ، أقامه ببركة آثار الأنبياء عليهم‌السلام والسادة فيه وردّه إلى حالة الاستقامة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها

__________________

(١) تقدم تخريجه.

حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢) ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) أي : إذا لم تكونوا برؤية الغيب محرمين للغيب ، ولا تكونوا بالغيب إلى معالي درجات أهل المعارف والكواشف ، (لا تَسْئَلُوا) عن حقائقها ؛ فإنه إذا بيّن المستقيم لكم دقائقها بعبارة أهل الأسرار لا تطيقون أن تدركوها ، فيسوؤكم حرمانكم عنها ، وربما ينكروا على بعضها فتهلكوا ، وإن الله سبحانه غيور على هتك ستر الغيب للأغيار.

أنشد الحسين بن منصور ـ قدّس الله روحه :

من لم يضيق قدر ما أولاه سادته

لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا

وعاقبوه على ما كان من زلل

وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا

لا تقبلوه مذيقا بعض سرّهم

حاشا ودادهم من ذكر حاشا

وفيه تحذير المريدين عن كثرة سؤالهم في البداية عن حالات المشايخ.

قال بعضهم : لا تسألوا عن مقامات الصديقين ودرجات الأولياء ؛ فإنه إن بدا لكم شيء منه فأنكرتم ذلك هلكتم.

قال سهل : سؤاله حجاب ، ودعاؤه قسوة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ

أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨) يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩))

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ليس ظاهر الآية يوجب إسقاط أمر المعروف والنهى عن المنكر ، لكن فيه لطيفة أي : عليكم أن تعرفوا أسرار نفوسكم الأمّارة التي لو تدعونها لتدّعي الربوبية ، كما كان يدعي فرعون بقوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] ، وإذا عرفتم مكائدها عرفتم سرّ قهر الأزل ، فإن قهري يعلمها مخائيل الضلال.

لذلك قال عليه‌السلام : «من عرف نفسه فقد عرف ربه ، ومن عرفني فقد استقام في طاعتي ، وصار موضع نظري لا يعوجه كيد كافر ، ولا مكر ماكر ؛ لأنه محفوظ بي ، بل من ينظر إليه صار ضرّه نفعا ، وفساده صلاحا ببركته» (١).

قال سهل بن عبد الله : للنفس سرّ ، ما ظهر ذلك السر على أحد من خلقه إلا على فرعون ، فقال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات : ٢٤] ، ولها سبع حجب سماوية ، وسبع حجب أرضية ، وكلما يدفن العبد نفسه أرضا أرضا سما قلبه سماء سماء ، وإذا دفنت النفس تحت الثرى وصل القلب إلى العرش.

قال محمد بن على : عليّا لنفسك أن كفيت الناس شرّها ، فقد أدّيت أكثر حقها.

ودخل خادم الحسين بن منصور ـ رحمة الله عليه ـ الليلة التي وعد من الغد لقتله فقال له : أوصيني ، فقال : عليك نفسك ، إن لم تشغلها شغلتك.

وسئل أبو عثمان عن هذه الآية؟ فقال : عليك نفسك إن اشتغلت بإصلاح فسادها وستر عوراتها شغلك ذلك عن النظر إلى الخلق والاشتغال بهم.

قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) إن لله سبحانه أياما وساعات لظهور جبروته ، وكشف ملكوته ، وبروز أنوار عزّة قدمه ، وشروق بروق لمعات وحدانية أبديته ، وخصّ لها خطاب العظمة ، وسياسة السلطنة ، وأظهرها لقواطب أهل جلاله ، ورؤية عظائم قدرته ، وإجراء مشيئته ، وهناك تفوح مجامر عطر صفاته ، وتذيع نفحة مسك سبحات ذاته.

قال سيد أهل البيت صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ لربّكم في أيام دهركم لنفحات ، ألا فتعرضوا لها» (٢).

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (١٠ / ٢٠٨) بأوله فقط.

(٢) رواه الطبراني في الكبير (١٩ / ٢٣٣) بنحوه ، وذكره الزرقاني في شرحه (١ / ٣١٦).

فلما أراد كشف الكلى وإجراء خطاب الأزلي يجمع أكابر أهل القرب من المرسلين والنبيين والملائكة المقربين ، وذلك يوم القيامة يوم العرض الأكبر ، حيث يتمتع العارفون بجمال الحق وجلاله وقربه ووصاله ، والقيامة بلد أحياء الله هناك يستأنسون به أبدا ، ويحولون على مراكب النور في ميادين السرور ، هناك مقامات ، ففي مقام لهم بقاء ، وذلك من بسط الله بساط عطايا المشاهدة ، وفى مقام لهم فناء ، وذلك من تراكم عساكر سطوات العظمة ؛ حيث يظهر رداء الكبرياء وإزار العظمة ، وفي ذلك المقام يضمحل الحدثان وما فيها في عزّة القدم ، فيفنيهم ساعة بالجلال ، ويبقيهم ساعة بالجمال ، ويخاطبهم ساعة باللطف ، وساعة بالقهر ، ليعرفهم طرائق كشوف الألوهية بنعت المباشرة ، ومن ذلك الخطاب قوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦].

وأيضا قوله سبحانه : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) عرفهم بخطابه معهم عجز العبودية في الربوبية ، وفناء الحدث في القدم عيانا بعد الخبر ، خاطبهم بعد إحاطته بجميع ذرّات الكون وبعد علمه الشامل بجريان الحدثان من الأزل إلى الأبد ، ومقصوده تعالى منهم إظهار ما أخبره بما جرى على الخلق في كتابه ، كيف توافق الخبر بالمعاينة ، وهو تعالى منزّه عن الجهل بشيء من العرش إلى الثرى ، ومعنى قول سيد المرسلين : لا علم لنا بما تريد منا وبما تريد منهم ، ولا علم لنا بما أجريت في الأزل علينا ، ولا علم لنا بما في أنفسنا فضلا بما في نفسك ، ولا علم لنا إلا علما مخلوقا مستفادا من علمك وتعليمك إيانا ، وإذا بهتوا وتاهوا وتحيروا وتلاشوا في كشف عظمته طاشت أشباحهم وطابت أرواحهم ، ولم يطيقوا أن يتكلموا بما في ضمائرهم من صولة الخطاب.

وأيضا : استحيوا من إظهار ما أجابهم قومهم عند جلاله وعظمته.

وأيضا : أي : لا علم لنا فيما وضعت في أسرارهم ؛ فإنك تعلم الغيب ، وذلك قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

قال الواسطي : أظهر ما منه إليهم كلهم من تولية ، فقالوا : كيف يقول فعلت الأمم أو فعلنا! عندها كلت الألسن إلا عند العبادة عن الحقيقة.

وقال : خاطبهم لعلمه بأنهم يحملون ثقل الخطاب ، وأشد ما ورد على الأنبياء في ثبوتهم حمل الخطاب على المشاهدة ، لذلك لم يظهروا الجواب ، ولم ينطقوا بالجواب إلا على لسان العجز ، لا علم لنا مع ما كشفت لنا من جبروتك.

وقال الجنيد : رفق بهم فلم يفقهوا ، ولو فقهوا وعلموا لماتوا هيبة ، لورود جواب الخطاب.

قال ابن عطاء : لا علم لنا بسؤالك ، ولا جواب لنا عنه.

قال بعضهم : لمّا ظهر عليهم الحق بعلمه وسبقه ثم سألهم جحدوا علومهم ، ونسوها في قوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) إلى قوله : (لا عِلْمَ لَنا) وذلك من إقامة الأدب لا جهلا بما أجابوا.

قال محمد بن فضل : (لا عِلْمَ لَنا) أي : لا علم لنا بجواب ما يصلح لهذا السؤال.

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠))

قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) أي : اذكر لخواص أحبائي والمريدين ما أنعمت عليك من كشف جمالي لك ، وإظهار علومي عليك ، وتجليائي منك للعالمين ، وإلقاء كلمتي إلى أمك ؛ إذ برزت منها أنوارها تظهرك ملتبسا بلباس نور الألوهية ، وذلك حين (أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) أي : بروح المعرفة التي أشرقت من صبح الأزل ، وذلك النفخ الأول الذي نفخت في آدم عليه‌السلام من روح تجلّي جلالي ، وظهور جمالي.

ألا ترى إلى قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران : ٥٩] كشف عن قدسه لصورة عيسى عليه‌السلام ، فصار حيّا بكشفه ، ومقدسا بروح قدسه عن تهمة مزج اللاهوتية بالناسوتية ، فصار جميع وجوده روحا قدسيّا.

ألا ترى كيف كان يحيى الموتى بإذن الله أي : بتأييد الله وجلال نور وروح قدسه.

وأيضا : أيدتك بجبرائيل عليه‌السلام ليعرفك مكان العبودية والشريعة ، ويلزمك في مهد البشرية ؛ فإنك صدرت من نور الربوبية ، لو لا ذلك ما سكنت في الكون.

قال بعضهم : منهم من ألقى إليه روح النبوة ، ومنهم من ألقى إليه روح الصدقين ، ومنهم من ألقى إليهم روح المشاهدة ، ومنهم من ألقى إليه روح الصلاح والحرمة ، وأسر إليهم ممّا لا يترجم ولا يغير علم رباني غاب وصفه وبقي حقه.

وقال الواسطي : لا تصح الصحبة مع الله إلا بصحبة الروح في صحبة القدم ، قال الله :

(أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) (١) إلا بالعقل ، فمن صحت صحبة روحه في القدم صحت صحبته مع الله.

وقال في قوله : (أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) : ذكر الروح في هذا الموضع لطفا لقربه من المستترات.

قال بعضهم : قدست روحك أن تمازج شيئا من هيكلك وطبعك ، بل ظهرته لئلا ترى غيري ، ولا تشاهد سواي ، وأسكنته قالب جرمك سكون عارية كإسكان آدم عليه‌السلام الجنة ، لأطهّر به جسدك عن أدناس الكون حتى أقدسهما جميعا وأخرجها إلى محل القدس ، ومن تمام نعمة الله عليه صيرورة جسمه بنعت روحه في المهد على مثابة بالقوة الإلهية بأن نطق بوصف تنزيه الله وقدسه وجلاله وربوبيته ، وفناء العبودية فيه ، وبقيت تلك القدرة فيه في كهولته حتى عرف عباد الله تنزيه الله ، وقدس صفات الله ، وحسن جلال الله ، وهذا معنى قوله تعالى (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً).

وزاد في وصفه بقوله تعالى : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) تجلى بقدرته ليده حتى تخط بغير تعلم ، (وَالْحِكْمَةَ) أي : حكمة معارف العشق ، وطريق كواشف الملكوت ، وبطون الأفعاليات بنعت ماهيتها ، (وَالتَّوْراةَ) علمه ما علّم موسى عليه‌السلام بنعت تجليه له من نور التوراة ، ليعلم شرائع المعرفة ، وحكم الربوبية ، (وَالْإِنْجِيلَ) عرّفه أناجيل القدمية بظهور صفات الأبدية.

وزاد وصفه على وصف باتصافه بالقدرة القائمة ، والقوة الإلهية في خلق الطير حين نفخها من نفخ روح القدس التي فيه ، وذلك أمارة ظهور ربوبية الله منه ، ولذلك كان قادرا على إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى والاستشراف على مكنون الغيب بقوله بما وصف في موضع آخر : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [آل عمران : ٤٩].

قال أبو علي الرودباري في قوله : (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ) غاية الربوبية في غاية العبودية ، لمّا استقام على بساط العبودية أظهر عليه أشياء من أوصاف الربوبية بقضائه

__________________

(١) قال الورتجبي : من تمام نعمة الله تعالى عليه صيرورة جسمه بنعت روحه في المهد على شبابه بالقوة الإلهية ، بأن نطق بوصف تنزيه الله وقدسه وجلاله ، وربوبيته وفناء العبودية فيه ، وبقيت تلك القدرة فيه إلى كهولته ، حتى عرّف عباد الله تنزيه الله وقدس صفات الله وحسن جلال الله ، وهذا معنى قوله تعالى : (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) ، وزاد في وصفه بقوله : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ) ، تجلى بقدرته بيده حتى يخط بغير تعلم [البحر المديد (٢ / ١٥٥)].

وقدره.

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣))

قوله تعالى : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) وحي الله إلى المرسلين يكون خاصّا ويكون عامّا ، الخاص بغير واسطة ، والعام بواسطة جبريل عليه‌السلام ، وللوحي الخاص مراتب : وحي بالفعل ، ووحي بالصفة ، ووحي بالذات ، وحي الذات يكون في مقام التوحيد عند رؤية العظمة والكبرياء ، وهناك محل الفناء ، ووحي الصفات يكون في مقام المعرفة عند تجلّي الجلال ، وهناك محل البقاء ، ووحي الفعل يكون في مقام العشق والمحبة ، وهناك منازل الأنس والانبساط ، وهاهنا للأنبياء والأولياء نصيب ، وليس لهم في الوحي برسالة الملك نصيب ، وحي منزل التوحيد بالكلام ، ووحي منزل المعرفة الحديث ، ووحي منزل العشق الإلهام ، ومقام الإلهام منقسم على الإلهام الذاتي والصفاتي والفعلي ، وربما يكون الإلهام الفعلي بواسطة الملك والروح والقلب والعقل والسر وحركة الفطرة ، وربما يرد على السمع قرع هواتف الغيب ظاهرا ، وربما يكون بلسان الخلق حركات الأكوان ، ولا يعرف هذه المقامات إلا ذو منصب في معرفة الخواطر وحقائق علومها ، وهاهنا وحي الصفاتي الذي يتولد منه الإيمان والمعرفة.

ألا ترى إلى قوله سبحانه : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي) أي : اعرفوني وصدقوني فيما كشفت لكم من أنوار الغيب في قلوبكم وبرسولي فيما أرسلت إليه من أنباء الغيب وبيان شرائط الشرع في نعوت العبودية.

قوله : (آمِنُوا بِي) مقام الجمع ، و (وَبِرَسُولِي) مقام التفرقة.

قوله تعالى : (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) تفحص القوم مكانتهم من عند الله سبحانه بتأييد الظاهر ومشاهدة المعجزة جهرا ؛ لأنهم موقنون مشاهدون بالقلوب والأرواح والأسرار حقائق الغيب ، ورأوا منازلهم في محل القرب والخطاب عند كشف رؤية الحق لإبصار قلوبهم ، لكن القوم ليسوا بمتمكنين في شهود الغيب ، تجري عليهم أحكام أهل التلوين من معارضة النفس والعدو في رؤية الغيب ، وطلبوا آيات الله ؛ لدفع المعارضة وطمأنينة القلوب.

ألا ترى إلى الخليل في بداية أمره كيف قال : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠] ، فأجابه الله قال : (قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠] ، فأحوجه إلى رؤية القدرة في الفعل بقوله : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) [البقرة : ٢٦٠] ، وليس في الوصفين شكّ من جانب النبوة ومن جانب الولاية ، فلمّا سمع عيسى عليه‌السلام منهم اشتد عليه أمرهم وعجب منهم ذلك بعد إبقائهم ، وأجابهم بقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : خافوا الله فيما يجري عليكم من معارضة النفس ، أي : ألزموا اشتغالكم بدفع الخطرات ؛ كي لا تحتجبوا عنه بغيره ، وإن من وصل إليه بنعت المعرفة ورؤية الغيب لا يستحسن منه طلب الآيات لتصديق الباطن ، فإنه صفة أهل البداية ، فأظهر القوم عجزهم عن إدراك مقامات أهل التمكين بقوله تعالى : (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) أي : نريد أن تربّي أبداننا بمأكول الجنة ، كما تربّي قلوبنا وأرواحنا بموائد المشاهدة ، ويزيد في قلوبنا تصديقك ومحبتك حتى لا تبقى فينا معارضة الطبيعة ، ونكون من شهداء رؤية المعجزة ، الصادقين بآثارنا عند المريدين المقتدين ، ولأنك قلت لنا : أنتم أصفياء الله وأولياؤه ، وإذا حصل مرادنا تحصل طمأنينة قلوبنا في صدق الله وصدقك وصدق ولايتنا ، فسأل عليه‌السلام مرادهم بقوله تعالى : (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) سأل من السماء لا من الأرض لما فيها من الروحانية والحنانية والملكوتية غير ممزوجة بعناصر الدهر الذي يتولد منه عصيان الله. وأيضا : يسأل من السماء خصوصية في المعجزات.

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥))

قوله تعالى : (تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) أي : اجعلها عيدا ولا تجعلها وعيدا لمجهور ، واجعلها سببا لعودنا من رؤية الآيات إلى رؤية الصفات ، عيدا لأولنا من المريدين وآخرنا من العارفين ، (وَآيَةً مِنْكَ) دليلا منك إليك ، فأجابهم الله سبحانه بما سألوا وهداهم من كفران نعمته بقوله تعالى : (إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) أي : من عاين رؤية صفاتي في رؤية آياتي ثم يرجع إلى الفترة وحظوظ النفس واختيار شهوة الدنيا علينا فإنا نحجبه عنا حتى لا تصل إلى قلبه نسم عبير صفاتي وورد جلال مشاهدتي ، ولا يشرق عقله صبح وصالي ، ولا تنكشف لروحه أنوار

حسني وجمالي ، وإن هذا العذاب عذاب الفراق ، وهو أشد العذاب للطالبين.

قال الشيخ أبو عبد الله : كنت نائما في بدايتي ، فرأيت في منامي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحركني ، قال : قم يا أبا عبد الله ، فإن من عرفه وآثر غيره عليه فإنه يعذبه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين.

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨))

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) غيّر الله سبحانه المنتسبين إلى الشرك بقولهم إن الله ثالث ثلاثة فأظهر الله تنزيه عيسى عليه‌السلام ممّا زعموا.

وتصديق ذلك قوله تعالى : (قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ).

وأيضا : ألف الله سبحانه أن يخاطب الكفرة بما كذبوا وزاغوا عن التوحيد والحق ، وخاطب مع صفيه وروحه إعلاما للكافرين بتغييرهم ؛ لأن السلطان إذا أراد أن يخاطب قوما خاطب كبيرا من كبرائهم ، وأراد بذلك قومه ، وفيه أن الله سبحانه أراد أن يجر روحه عليه‌السلام إلى مقام سطوات العظمة وخطاب الكبرياء ، ليفيه به عنه حتى لا يبقى للحدث في القدم أثر ، ولولا فضل الله عليه لا يكون بعده أبدا من عزّة الخطاب وعظمة القول.

قال عبد العزيز المكي : لولا إثبات الله إياه لذاب على مكانه ، وصار ماء بين حياء الله وخجلته ، ولو خيّر عيسى عليه‌السلام بين النار وبين هذا العتاب لاختار النار ، ولو أحرق بنار الأبد كان أحب إليه من أن ينسب الربوبية إليه.

وفرق ابن عطاء بين السؤالين : بين سؤال الأنبياء حين قالوا : (لا عِلْمَ لَنا) [البقرة : ٣٢] ، وسؤاله عن عيسى عليه‌السلام (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي) ، وقال سأل عيسى عليه‌السلام عن قصته وحاله ولم يسعه السكوت عنه ، وسأل الأنبياء عن أحوال الأمم فدهشوا ، وذلك أنّ سؤال الرسل إظهار العظمة ، وسؤال عيسى عليه‌السلام براءة وتنزيه عما قيل فيه.

وقد سنح لي قول آخر : وهو أن الأنبياء حين سئلوا كانوا في مقام الهيبة ومشاهدة

العظمة ، لذلك بهتوا وتحيروا وسكتوا ، وعيسى عليه‌السلام هناك أيضا معهم بقوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) ، وهو من الرسل ، فلمّا أفرده الحق للخطاب كان في مقام البسط والانبساط ومشاهدة الجمال ، لذلك تكلم وأجاب ولم يسكت.

قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) أي : تعلم ما في نفسي من توحيدك ومعرفتك وتنزيهك وتقديسك وتعظيمك وإجلالك الذي ينفي الأضداد والأشباه والأنداد ، ولا يليق بجلالك ممّا تخاطبني بقولك : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) ، ولا أعلم ما في نفسك من علوم الغيب ، وغيب الغيب ومكر القدم ، وما يعلم ما في نفسك بأنك لو تريد أن تحرق جميع الأنبياء والصديقين لا يبالي بها.

وأيضا : (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) من كنه القدم ووجود الأزل.

قال الواسطي : يعلم ما في نفسي لك ، ولا أعلم ما في نفسك لي.

وقال الحسين : تعلم ما في نفسي لأنك أوجدتها ، ولا أعلم ما في نفسك لبعد الذات عن الإدراك.

قال الجنيد : تعلم ما أنا لك عليه وما لك عندي ، ولا أعلم ما لي عندك إلا ما أطلعتني عليه أو أخبرتني به.

وقال سهل : تعلم ما في نفسي ممّا أودعته نفسي ممّا لا تظهره عليّ ، ولا أعلم ما في غيبك لي.

قال علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر عليهم‌السلام قال : تعلم كيفيتي ، ولا أعلم كيفيتك ولا كيفيته لك.

قوله تعالى : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) أي : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ، أي : ما قلت لهم إلا بإفراد قدمك عن الحدوث ، وإسقاط الغير عن البين ، وهو قوله تعالى : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) أظهر عبوديته في عبوديتهم فردا للموحد المنزّه عن الأنداد والأشباه.

قوله تعالى : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي : في الدنيا في طاعتهم وعصيانهم وما كشفت لي من بعض سرائرهم.

وأيضا : أي كنت عليهم شهيدا ، (ما دُمْتُ) في مقام الرسالة وإبلاغ الوحي إليهم ، أما إذا أفنيت عن الأكوان من صولة مشاهدتك فغابت عني أخبار أهل الكون.

وتصديق ذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أي : كيف

نخفي عليك ما خلقت ظاهره وباطنه ، وأنت قديم محيط بكل ذرة من العرش إلى الثرى ، فالعجز عن ذلك صفة من يتلاشى فيك ، كما أنا حين توفيتني عني إليك.

قيل في قوله : (ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) : أنّى لي لسان القول إلا بعد الإذن بقولك : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥].

وقيل في قوله : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أي : لمّا أسقطت عني ثقل الإبلاغ كنت مراقبا لهم بما أجريت عليهم من مختوم قضائك.

قال أبو بكر الفارسي في هذه الآية : الموحد ذاهب عن حاله ووصفه وعن ماله وعليه ، وإنما هو ناظر بما يرد ويصدر ليس بينه وبين الحق حجاب ، إن نطق نعته وإن سكت فيه ، حيثما نظر كان الحق منظوره ، وإن أدخله النار لم يلتمس فرجا لأن رؤية الحق وطنه ونجاته وهلاكه من عين واحدة ، لم يبق حجاب إلا طمسه برؤية التفريد ، وكان المخاطب والمخاطب واحدا ، وإنما كان يخاطب الحق نفسه بنفسه لنفسه ، قد تاهت العقول ودرست الرسوم وبطل ما كانوا يعملون.

قوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) اتفق أهل التفسير أن الله لا يغفر للمشركين الذين ماتوا على شركهم ، ذلك مذهب المسلمين جميعا ، وقد أرى هاهنا لطيفة ، وهي أن الله تعالى أجرى على لسان عيسى عليه‌السلام سرّا مكتوما مبهما على قلوب جميع الخلائق ، إلا من كان من أهل خالصة سرّه ، ومحال أن خفي على عيسى عليه‌السلام أن من مات على الشرك وهو غير مغفور في ظاهر العلم ووارد الشرع وإنما نطق بذلك من عالم السر المكتوم في الغيب ، ومفهوم أصل خطاب في ذلك كأنه أشار إلى ما أشار ابن عباس وابن مسعود ـ رضي الله عنهم ـ في قوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٨] ، قالا : يأمر النار أن تأكلهم وتفنيهم ، ثم تجدد خلقهم.

قال ابن مسعود : ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد ، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا.

قال الشعبي : جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعها خرابا ، ألا ترى صورة اللفظ (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) يعني بكفرهم (فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) فهو حقّ لإطلاق الملك لك ، وإن تغفر لهم ما هم فيه في الدنيا اليوم من يمنعك عن ذلك وأنت العزيز الواحد بالوحدانية في ملكك لست بجاهل في غفرانهم ، فإنك حكيم في أمرك ومرادك وإمضاء مشيئتك ، ونحن لا نقول أكثر من هذا ، فإنه موضع الأسرار.

وأيضا : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) بدعوى المعرفة بأن توقعهم في درك الحيرة والفناء في عظمتك ، و (وَإِنْ تَغْفِرْ) بأن تدخلهم في مقام الالتباس حتى لا يدركوك بنعوت الوحدانية ، وبقوا في حجاب حظوظهم عنك بك.

قال الوراق : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) بتقصيرهم في طاعتك ، فإنهم عبادك مقرّين لك بالتقصير ، (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) ذنوبهم فأنت أهل العزّة والكرم ، فلم يبدلها إلا لمن خلقه لها ومن هو حق بها وأهلها.

قال بعضهم : ترك عيسى عليه‌السلام الانبساط في السؤال للأمة ، وترك المحاكمة مع الحق في أفعاله ونبينا ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لا يزال يشفع ويقول : أمتي ... أمتي!! حتى يجاب في الكل من أمته ، وهذا هو المقام المحمود الذي خصّ به ، ويغبطه عليه الأولون والآخرون ، حيث يراجع الحق منبسطا ويجاب بقوله : «قل تسمع واشفع تشفّع» (١).

(قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠))

قوله تعالى : (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) وقع صدقهم على رؤية فناء الحدث في القدم ، حيث ما أدركوا الحق إلا بالعجز عن إدراكه ، فلمّا لم يدركوه قبل العجز وبعد العجز إلا به أقروا بالجهل عن معرفته ، وهذا من كمال معرفتهم بربهم ، وهذا هو الصدق الذي ذكره الله لهم فلا جرم ينفعهم ، هذا العجز عند بروز طوارق مشاهدة عظمته وكشوف سطوات عزته بأن يدركهم في محل فنائهم ، ويلبسهم صفة بقائه حتى بقوا مع الحق أبدا بلا حجاب ولا عتاب.

قال الحسين في هذه الآية : إذا قابل ربه بصدقه ، وجهل أمر ربه ، وطالب ربه بحظه ووعده ، يطالبه ربه يصدق صدقه ، فأفلسه عن رتبته ، وأبعده عمّا قصده ، وينفع صدقه من لقيه بالإفلاس ، وأيقن أنه كان مستعملا تحت حكمه وقضيته.

قوله تعالى : (لَهُمْ جَنَّاتٌ) أي : جنات المشاهدات الذاتية التي تجري تحتها عيون الصفات بنعت تجليها لهم لحظة فلحظة ، (خالِدِينَ فِيها) باقين بالاتصاف بها ، (أَبَداً) بلا

__________________

(١) رواه النسائي في الكبرى (٦ / ٤٤٠).

انقطاع ، (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) (١) حيث وجدهم متحيرين عن إدراك كنه القدم بعد فنائهم فيه ، (وَرَضُوا عَنْهُ) بما وجدوا منه من لذّة مشاهدته ، وحلاوة خطابه ، وهذا الرضا انسداد أبواب كشوف القدم عليهم ، وإبقاؤهم فيما هم فيه ، ولو عرفوا قلّة حفظهم عن القدم لماتوا جميعا في الحيرة ، وكيف رضي عنه من عرفه ، وكيف سكن عنه ، وإن كان في مشاهدته عن إدراكه بنعت التوحيد ، ولولا فضله ورحمته لفنوا في قهر سلطان كبريائه ، ولم يبقوا بعد ، فبقاؤهم وتخليصهم من فنائهم فيه ، فبفوز عظيم وظفر كريم ليتمتعوا لوصاله أبدا ، (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خصّ ملك الإيجاد والإبداع ، وزال عمن سواه ملكه.

سورة الأنعام

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) جعل حمده في الأزل طريقا للعباد إلى حمد جلاله ، وثناء جماله ، علم في القدم نفسه ، وأوجب الحمد قطعا قبل كون الكون مقابل عين الذات والصفات ، فلم ير بحمل حمده ، فحمل بنفسه حمد نفسه ، ورفع الحمد عن الحدث علما بأن الحدث يكون مثلا شيئا في أوائل حمده ؛ لأن حمده لا يكون إلا بمعرفة المحمود حقيقة بجميع ذاته وصفاته ، وذلك مستحيل ؛ لأن حقيقة ذاته وصفاته غير متناهية ، وكيف يدرك المتناهي صفات الذي هو غير متناه.

وأيضا : قطع الحمد عن غير نفسه ، وبيّن ألا يستحق للحمد الحقيقي إلا وجوده بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) (٢) أي : لله لا لغير الله.

__________________

(١) رضاء الحق سبحانه : إثبات محلّ لهم ، وثناؤه عليهم ومدحه لهم ، وتخصيصهم بأفضاله وفنون نواله ، ورضاؤهم عن الحق سبحانه في الآخرة وصولهم إلى مناهم ؛ فهو الفوز العظيم ، والنجاة الكبرى [تفسير القشيري (٢ / ١٩٣)].

(٢) حقيقة الحمد الثناء على المحمود ، بذكر نعوته الجليلة وأفعاله الجميلة ، واللام هاهنا للجنس ، ومقتضاها الاستغراق ؛ فجميع المحامد لله سبحانه إمّا وصفا وإمّا خلقا ، فله الحمد لظهور سلطانه ، وله الشكر

وأيضا : أي : حمد الله لله ؛ لأنه مادح نفسه بالحقيقة لا غير.

وأيضا : أي : الحمد القديم يرجع إلى القديم ، وليس للحدث فيه نصيب ، لأن حمده أزليّ ، والحمد الأزلي لا يليق إلا بالأزلي.

قيل : حمد نفسه بنفسه حين علم عجز الخلق عن بلوغ حمده.

قال الجنيد : الحمد صفة الله ؛ لأنه حمد نفسه بتمام الصفة ، ولو حمد الخلائق كلهم لم يقدروا الإقامة ذرة من صفته ، وبيان قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : هذا الحمد بالحقيقة لمن هذا صنعه وقدرته ، وما دام لم تقدروا معرفة نعمته في صنعه وفعله لم تقدروا على حمده وثنائه ، له سموات ، وأخصّ سماواته الروح المقدسة ، وله أرضون ، وأخصّها القلب السليم الصافي بوضوح الفطرة الصافية فيه الروح سماء القلب ؛ لأن منها تتنزل عليه قطرات الإلهام ، ويقع عليه منها أنوار الرحمن والقلب أرضها ، لأنه ينبت أزهار الحكمة وأنوار المعرفة.

قيل : السموات المعرفة ، والأرض الخدمة.

قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أي : الذي خلق الروح والقلب جعل في الروح نور العقل لعرفان الآيات والشواهد ، وجعل في القلب ظلمة النفس الأمّارة لظهور العبودية في محل الامتحان.

وأيضا : أسرج في القلب نور الإيمان من سراج الغيب ، وأنشأ في النفس ظلمة الشهوات من عالم الريب.

وأيضا : نوّر الروح بنور المشاهدة ، وأدخل القلب في ظلمة المجاهدة.

قال بعضهم : أبدى الظلمات في الهياكل ، والنور في الأرواح.

وقال بعضهم : جعل الظلمات أعمال البدن ، ونوّر أحوال القلوب.

__________________

لوفور إحسانه ، والحمد لله لاستحقاقه لجلاله وجماله ، والشكر لله لجزيل نواله وعزيز أفضاله ، فحمده سبحانه له هو من صفات كماله وحوله ، وحمد الخلق له على إنعامه وطوله ، وجلاله وجماله استحقاقه لصفات العلو ، واستيجابه لنعوت العز والسمو ، فله الوجود «قدرة» القديم ، وله الجود الكريم ، وله الثبوت الأحدي ، والكون الصمدي ، والبقاء الأزلي ، والبهاء الأبدي ، والثناء الديمومي ، وله السمع والبصر ، والقضاء والقدر ، والكلام والقول ، والعزة والطول ، والرحمة والجود ، والعين والوجه والجمال ، والقدرة والجلال ، وهو الواحد المتعال ، كبرياؤه رداؤه ، وعلاؤه سناؤه ، ومجده عزه ، وكونه ذاته ، وأزله أبده ، وقدمه سرمده ، وحقه يقينه ، وثبوته عينه ، ودوامه بقاؤه ، وقدره قضاؤه ، وجلاله جماله ، ونهيه أمره ، وغضبه رحمته ، وإرادته مشيئته ، وهو الملك بجبروته ، والأحد في ملكوته ، تبارك الله سبحانه!! فسبحانه ما أعظم شأنه!! [تفسير القشيري (١ / ٢)].

وسئل الواسطي : الحكمة في إظهار الكون وقوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ)؟ قال : لا حاجة له إلى الكون ؛ لأن فقد الكون ظهوره ، وظهوره فقده عنده ، فإن قيل إظهارا للربوبية. قيل : ربوبيته كانت ظاهرة ، ولم تظهر ربوبيته لغيره.

قيل : لأنه لا طاقة لأحد في ظهور ربوبيته ، بل أظهر الكون ، وحجب الكون بالكون لئلا تظهر لأحد الربوبية فتطمس ؛ لأن الحق في الحكمة لا يحتمله إلا الحق.

وسئل بعضهم ما الحكمة في إظهار الكون؟ قال : ارتفاع العلّة ، فإذا ارتفعت العلّة ظهرت الحكمة بإظهار الكون ، إن الله سبحانه كان موصوفا بالعلم الأزلي ، وكان في علمه كون الكون كما هي ، فأظهر الكون بسابق علمه في ذاته ، وإرادته السابقة في الأزل بوجود الكون ، وكيف لا يظهر الكون والعلم والإرادة سابقان في الأزل بإيجاده ، فإذا بقاء الكون في العدم مستحيل.

وأيضا : ذاته تعالى معدن صفاته ، وصفاته معدن فعله ، فظهرت فوائد الذات في الصفات ، وظهرت فوائد الصفات في الفعل ، كانت قدرته المنزّهة حاملة الأفعال ، فوضعتها بالإرادة القديمة في أخصّ زمان ؛ لقوله : (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [التوبة : ٣٦].

وأيضا : كان في الأزل عاشقا مشتاقا إلى المشتاقين إليه ؛ ليظهر كنوز جلال الذات ، وجمال الصفات بنعت التعريف لأحبائه ؛ لقوله سبحانه : «كنت كنزا مخفيّا ، فأحببت أن أعرف» (١) ، فسبب إظهار الكون شرفه إلى جمال المشتاقين ومحبته السابقة للمحبين.

قال الأستاذ في قوله : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : (الَّذِي) إشارة و (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) عبارة ، فاشتغلت الأسرار بسماع الذي تحققها بوجوده ، ودوامها بشهوده ، واحتاجت القلوب عند سماع (الَّذِي) إلى سماع الصلة ؛ لأن (الَّذِي) من الأسماء الموصولة لكون القلوب تحت ستر الغيب ، فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، وبانت لي إشارة : أن قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ظاهر الألوهية لأهل العبودية ، وقوله : (الَّذِي) باطن المشاهدة لأهل المحبة ، لأن المحبة والمشاهدة من لطائف الأسرار ، فأشار إليها بلفظ الغيبة.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) السموات جسد ، وقلب ذلك الجسد الأرض ، وأن الله سبحانه خصّ قلب السموات بإشراق جلاله فيه بقوله : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) [الزمر : ٦٩] ، ومن تلك الخاصية خلق صورة آدم عليه‌السلام من قلب العالم فكان قلبيّا

__________________

(١) تقدم تخريجه.

لا جسديّا ؛ لأنه تعالى أودع الأرض ودائع حكمته ولطائف فطرته من الأرواح القدسية والأشباح الملكوتية ، وجعل لفظ الطين نكرة غير معينة ، أي : من طين الجنة خلق أجسام المؤمنين ، ومن طين الحضرة أي القربة أجساد الموقنين ، ومن طين المحبة أشباح المحبين والمشتاقين ، كما أخبر سبحانه لداود عليه‌السلام : «خلقت قلوب المشتاقين من نوري ، ورقمتها ونعمتها بجمالي ، وخلقت طينة أحبائي من طينة إبراهيم عليه‌السلام خليلي ، وموسى عليه‌السلام كليمي ، وعيسى عليه‌السلام روحي ، ويحيى عليه‌السلام صفيي ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبيبي».

وقال الحسين : ردهم إلى قيمتهم في أصل الخلقة ، ثم أوقع عليهم نور إليه وخاصية الخلقة ، فتميزوا بذلك عن جملة الحيوانات بالمعرفة والعلم واليقين.

قوله تعالى : (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) أي : يعلم لهيب نيران الاشتياق إلى جماله في صميم أسراركم ، وما يتعرض إلى سبل عساكر تجلّي القدم بنعت طلب الوصول إليها في ضمائركم ، ويعلم حركات أشباحكم بطيران أرواحكم في الولد والهيمان والوجد والهيجان ، ويرى قطرات عبرات الشوق على خدودكم في سجودكم بين يديه بوصف التضرع في جبروته وتقلب القلوب في ملكوته.

وأيضا : يعلم جولان أرواحكم في السماء لطلب معادن الأفراح ، ويعلم تقلب أشباحكم في الأرض لطلب الوسيلة إلى مشاهدته.

ألا ترى كيف أشار إلى ذلك بقوله : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) يريكم في السموات مشاهدة الجبروت ، وفي الأرض مشاهدة الملكوت.

قال بعضهم : يعلم ما تضمرون في سرائركم ، وما تجهرون به من دعواتكم.

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩))

قوله تعالى : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) من عمي

قلبه عن مشاهدة الله كيف يراها في آثار الله؟! وآياته في السماوات والأرض ، وفي وجوه أنبيائه وأوليائه ، حيث أشرقت بحسن وقوع تجليها وظهور سناها بما فيها ، ويزيد على عمائه عمى ؛ لأنه موسوم بسمة البعد في الأزل ، غير مقبول إلى الأبد.

قال النصر آبادي : آياته في خلقه أولياؤه ، وأهل صفوته.

قوله تعالى : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) طلبوا رؤية الملائكة عيانا ، وليسوا هم أهل ذلك ، ولو كانوا أهل الحقيقة لرأوا في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم يكن في وجوه أهل الملكوت من سنا إشراق صفات نور الأزل ؛ لأنّه كان مشكاة نور الذات والصفات ؛ لقوله سبحانه : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) [النور : ٣٥] ، ولكن كيف يرون ذلك ، وهم عيان في ظلمات ظلال القهريات؟ قال تعالى : (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [الأعراف : ١٩٨].

والإشارة في قوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أن المريدين لم يروا أهل الملكوت إلا بالمثال الحسي ؛ لأنهم في ضعف عن رؤية ماهيتها ، ولو يرون الملك لم يروه إلا في صورة الآدمي الذي هو موقع الالتباس.

(وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (١) معناه : أريناهم رؤية أهل الغيب في اللباس الإنساني بغير وقوفهم على صفات الروحاني ؛ لأنّهم أهل التلبيس في المعاملات ؛ حيث وقعوا في ورطة الفترة ، ويدعون مقام أهل الاستقامة.

وأصل البيان في ذلك أي : خلطنا عليهم ما يخلطون ، حتى لا يعلموا سبيل خداعهم كما يريدون ، ويرجع كيدهم على أعناقهم ، ويسيروا في ظلمات التردد ، ولا يعلموا نكاية كيدهم عند الأولياء والصديقين.

__________________

(١) قال ابن عجيبة : أي : لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضعفائهم ، أو لفعلنا لهم في ذلك فعلا ملبسا يطرق لهم إلى أن يلبسوا به على أنفسهم وضعفائهم ؛ فإن عادة الله في إظهار قدرته أن تكون مرتدية برداء حكمته ؛ ليبقى سر الربوبية مصونا ، فمن سبقت له العناية خلق الله في قلبه التصديق بها ، حتى علمها ضرورة ، وغيره يلبس الأمر عليه فيها.

وكرامات الأولياء كمعجزات الأنبياء ، لا تظهر إلّا لأهل الصدق والتصديق ، ولا يتحقق بولايتهم إلّا من سبق له الوصول إلى عين التحقيق : «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه» ، فأهل الإنكار عليهم لا يرون إلا ما يقتضي البعد عنهم ، وأهل الإقرار لا يرون إلا ما يقتضي القرب منهم والمحبة فيهم ، والله تعالى أعلم [البحر المديد (٢ / ١٢٦)].

وفي إشارة أهل الحقيقة أنّ مقام الخداع والمكر في العشق والمحبة يكون من شركهم في العشق ، حيث يطلبون المراد بنعت الاستراحة ، وهو سبحانه يجازيهم بظهور صفاته في نعوت أفعاله لهم ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) [الأنعام : ٩].

قال الواسطي : يلتبس على أهل ولايته بحضرته ، كما أنزل في بعض الكتب ، يعني ما يتحمل المتحملون من أجلي وطلب مرضاتي ، أتراني أنسى لهم ذلك؟! كيف وأنا الجواد الكريم ، أقبل على من تولى عني ، فكيف بمن أقبل عليّ؟

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣))

قوله تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخبر عن الجهلة لمّا لم يعرفوا أهل مشاهدته ، وخواص حضرته ، ولم يروا آثار جلاله فيهم ، استهزأوا بهم بإعراضهم عنهم ، وإنكارهم عليهم.

قال القاسم : لمّا لم يعرفوا حقوق الرسل ، ولم يكرّموهم ، ولم ينظروا إليهم بعين الحق ؛ فعموا عن الأنوار والمشاهدات والرفع من المعاملات.

قوله تعالى : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) أي : لمن ما في السماوات والأرض إيجاد ، (قُلْ لِلَّهِ) أي : إفناء الأول : إشارة إلى الإرادة القديمة ، والثاني : إشارة إلى المحبة الباقية.

وأيضا : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بالعبودية ، (قُلْ لِلَّهِ) أي : في الربوبية.

قال يوسف بن الحسين : الأول عبارة ، والثاني عبادة.

وقيل : الأول هيبة ، والثاني توحيد.

قوله تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) الإشارة في هذه الآية إلى قلوب المنقبضين بصولة العظمة ، وقلوب المنبسطين ببسط نور جمال المشاهدة ، سكنت قلوب أهل القبض في الليالي بنعت الإذابة في سرادق كبريائه ، والسكون في مقام التواضع عند بروز سطوات عزة ذاته ، حيث تخلصت عن ازدحام أهل الغفلة ، وسكنت قلوب أهل البسط برؤية أنوار جماله

في مناظر آياته في النهار ، ولطائف صنع صفاته ، حيث تخلصت من رؤية أعلام عظمته وكبريائه ، أي : له هذه القلوب العاشقة ، والأفئدة المتحيرة لا لغيره من الحدثان ، خصّها لنفسه ، والنظر إلى مشاهدته.

ومعنى قوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يسمع أنينها في شوقه ، ويعلم ضمائرها المحزونة نداء جماله.

قال محمد بن علي الكناني : اختصّ الحق بقلوب العارفين لسكونها إليه ؛ فقال : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) كيف لا يسكن إلى الحق ، ولدغات الحقيقة بقصده ، وهو موضع النظر؟.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨))

قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : كيف أتخذ أحدا بالمحبة دونه ، وليس له صفة القدم التي أغارت قلوب أوليائه بحسن تجليها؟! وكيف أتخذ بالولاية محدثا لا يقدر على أن يمنع عني علّة الحجاب بيني وبينه ، حيث الكل حاجز في أمر مشيئته وملك جلاله؟!

ألا ترى إشارته تعالى إلى ذلك بقوله : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : الكل ملكه ، فكيف ألجأ من ملكه إلى ملكه ، وعلّة الملك في المالك متلاش بقوله : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ).

قال الجوزجاني : أأبغي سواه ملجأ ، وقد سهّل إليّ السبيل إليه؟!

وقال غيره : أسواه أستكفي ، وهو الذي يكفيني الهم في الدارين؟!

وقوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي : أمرني حين كنت جوهر فطرة الكون ، حيث لم يكن غيري في الحضرة أن أكون أول الخلق له في المحبة والعشق والمعشوق ، وأول الخلق له منقادا بنعت محبتي له ، راضيّا بربوبيته ، غير منازع لأمر معيشته.

قال بعضهم : أكون أول من انقاد للحق إذا ظهر.

وقال ابن عطاء : إن أكون من الخاضعين لما يبدو من مبادئ القدرة.

وقال جعفر عليه‌السلام : من الراضين بموارد القضاء.

قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) أي : إن يمسسك بضرّ الحجاب ، فلا كاشف لضرّه إلا ظهور مشاهدة جماله لك.

قال الجنيد : معبودك أول خاطر يخطر لك عند نزول خير ، أو ظهور بلاء ، إن رجعت فيه إلى الله فهو معبودك ، وهو الذي يكفيك ، فإن رجعت إلى غيره تركك وما رجعت إليه.

قال الأستاذ : إنّما ينجيك من البلاء من يلقيك في الفناء ؛ إذ المتفرد بالإبداع واحد ، فالأغيار كلهم أفعال ، والإيجاد لا يصلح من الأفعال.

قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) أي : قدمه جار في غير قهره ولطفه ، بلطف مشاهدة جماله ، وكشف جلاله للمحبين حتى ذابوا في حلاوة شهود مشاهدته ، وقهر بسلطان كبريائه أهل التوحيد والمعرفة حتى فنوا في سبحات عظمته وعزّة أزليته.

وأيضا : أي كان قاهرا في الأزل قدمه ، علا عن العدم حين تجلّى قدمه للعدم ، وأجار به العباد عن العدم ، وكان المقدور في العدم تحت القدم ، وبقي القدم بوصفه إلى الأبد ، وبقي المقدور بوصفه كما خرج من العدم إلى الأبد.

وقال الحسين رضي الله عنه : القاهرية تمحو كل موجود.

وقال بعضهم : قهرهم على الإيجاد والإظهار ، كما قهرهم على الموت والفناء.

قال ابن طاهر : القاهر الذي إذا شهد سوى العبد أفناه عما سواه.

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩))

قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) أي : أي شيء أعظم من شهود الله بوصف ظهور تجلّي جلاله وجماله من كل ذرة على كل شيء من العرش إلى الثرى ، وذلك شهادته الأزلية التي سبقت منه على وحدانيته ، حيث لم يكن وجود الحدث في القدم.

وتصديق ذلك جواب الأمر بالأمر بقوله تعالى : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) ، لمّا عمي القوم عن رؤية شهود الله ، وصموا عن شهادة على نفسه ، أنكروا على أشرف موقع شهادة ، وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغباوتهم وجهلهم بما ظهر من وجهه من أنوار جلال الله ، أمر الله نبيه عليه‌السلام أن يقول لهم بعد قوله : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) بقوله : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) بأن يظهر أنوار صفاته متى شاء للعالمين.

وتصديق ذلك سهولة المعجزات ، أي : من لم ير الشهادة العظمى في وجهي ؛ فإنه يحتاج

إلى رؤية الشهادة الصغرى وتلك معجزتي ، ومن يكون أعمى عن رؤية الشهادة الكبرى ، فأيضا يكون أعمى عن رؤية الشهادة الصغرى.

قال الحسين عليه‌السلام : لا شهادة أصدق من شهادة الحق لنفسه بما شهد به في الأزل بقوله : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ).

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩))

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) بيّن الله سبحانه أن اليهود كانوا يعرفون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعلامات الصحيحة ، التي وجدوها في التوراة ، من نعته وصفته ، وصدق معجزته ، لكن لم يعرفوه بنور معرفة الله ، ورؤية مشاهدة الله في وجهه ، كانوا مقلدين في معرفته ؛ لذلك خالفوه ، ولو عرفوه بمعرفة الله لكانوا كالصحابة المباركة ، حيث كانوا تراب قدمه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المتحابين.

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) كانت قلوبهم محجوبة بعوارض البشرية ، وظلمات النفس الأمّارة عن رؤية أنوار الغيب ، وفهم خطاب الحق ، كانت قلوبهم في أغطية الغيرة ؛ لأنهم ليسوا مطبوعين باستعداد قبول خطاب الله ، ورؤية عرائس الملكوت ، وفي آذان أسرارهم وقر الضلالة ، ولم يسمعوا بها ما لم يسمع بسمع الخاص ، وعلى عيون ظاهرهم

وباطنهم غشاوة العجب والجهل ، حتى لم يروا براهين الحق في وجوه الصديقين.

قال ابن عطاء : لأنه لم يجعل لهم سمع الفهم ، وإنما جعل لهم سمع الخطاب.

وقال الواسطي : منهم من يستمع إليك بنفسه ؛ فهو في ظلمات نفسه يتردد ، ومنهم من يستمع منك بنا ؛ فهو في أنوار العارف يتقلب.

قوله تعالى : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) القوم لم يعرفوا حقائق الكفر في الدنيا ، ولو عرفوه لكانوا موحدين ، فيظهر لهم يوم القيامة حقيقة الكفر ، ولا ينفع لهم ذلك لفوتهم السير في النكرات ، التي معرفتها توجب المعارف ، وذلك المقام في أماكن صدورهم ، وهم كانوا يخفونه بمتابعة صورة الكفر ، وشهوة العصيان بغير اختيارهم ؛ لقلة عرفانهم به ، ولا يكون قلب من العرش إلى الثرى إلا ويطرقه هواتف الغيب بإلهام الله الذي يعرف به طرق رضا الحق ، وصاحبه يعلم ذلك ، ويسمع ويخفيه في قلبه ؛ لأنه أدق من الشعرة ، وحركته أخفى من دبيب النمل ، ومع ذلك يعرفه من نفسه ، ولكن من غلبت شهوات نفسه عليه لا يتبع خطاب الله بالسرّ ، فأبدى الله لهم ما كانوا يخفونه ، تعبيرا لهم ، وحجة عليهم.

قيل : ظهر لهم من غيوب أسرارهم ما كان يخفيه عنهم قلة علمهم.

وقال أبو العباس الدينوري ـ رحمه‌الله : أبدى لهم الحق فساد دعاويهم التي كانوا يخفونها ، ويظهرون للناس خلافها من التقشف والتقوى في الدنيا ، فبدا لهم قبح بواطنهم عند صدور العارفين ، وأكابر الموحدين ، ويقولون : لسنا على شيء ، والصدق معكم ، وذلك عند غلبة هيبة وجوههم عليهم ، فإذا رجعوا إلى أوطانهم عادوا إلى الرزق والناموس من قلّة معرفتهم بربهم ، وقلّة معرفتهم بافتضاحهم عند مشايخ القوم ، قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ

بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥))

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) أظهر لطفه وكرمه العميم على خلقه في هذه الآية حين وقف القوم على حضرة جلاله لسماع خطابه ؛ ليسهل عليهم دخول النار ، ولولا ذلك لكان عذابهم أضعافا.

والآية تعجب أي : ولو ترى إذ وقفوا في حضرة الجبروت ، وخوطبوا بخطاب الهيبة كيف يتنعمون بخطابه ، وإشراق أنوار سلطان كبريائه ، وإن كانوا في منازل الهيبة! والله هيبته مستلذة ، كما أن لطفه مسألة ، وجميع العذاب عند خطابه يكون نعمة.

وأنشدوا :

يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى

إليكم تلقّى طيبكم فيطيب

وما ذاك إلّا حين أيقنت أنّه

يمرّ بواد أنت منه قريب

قال ابن عطاء : وقفوا وقوف قهر ، ولو وقفوا وقوف اشتياق لرأوا من أنوار كراماته ما تعجبوا منها.

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨))

قوله تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) السماع سماعان : سماع فهم ، وسماع عشق ومحبة ، من سمع سماع فهم لم يكن من أهل النطق في جريان حكم المعارف ؛ لأنه في مقام البداية ، ولم يكن له تصرف إلا تصرف ظاهر العلم ، ومن سمع سماع العشق بسمع المعرفة على حدّ الكمال يكون له لسان بيان المعرفة والتصرف في الإشارات والعبارات.

ألا ترى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموسى عليه‌السلام لما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاملا مستقيما قال : «بعثت بجوامع الكلم» (١) ، و «أنا أفصح العرب والعجم» (٢).

ولما كان موسى عليه‌السلام في محل الإرادة أخبر الله سبحانه عنه بقوله بعد سؤاله بشرح الصدر الموجب فصاحة اللسان في المعرفة ، قال : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) ، بيّن أن على قدر السماع يكون الجواب ، ونفى السماع عن غير الأحياء بالمعرفة والمشاهدة.

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١٠٨٧) ، ومسلم (١ / ٣٧١) ، وأحمد في «مسنده» (٢ / ٢٦٤).

(٢) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٥٦٢).

قال النوري : من فتح سمعه بالسماع أجرى لسانه بالجواب ، قال الله تعالى : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) (١).

وقال ابن عطاء : أخبر الله أن أهل السماع هم الأحياء ، وهم أهل الخطاب والجواب ، وأخبر أن الآخرين هم الأموات بقوله : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ).

قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) إن الله سبحانه خلق غير الآدمي والملائكة والجن من الحيوانات والطيور والسباع والحشرات على فطرة التوحيد ، وجبلة المعرفة ، وإن الله سبحانه خاطبها لوضوح طرق معارفه ، والإيقان والإيمان جعل لها طرقا من خواطرها ، منورة بأنوار العقل إلى حضرته القديمة الأزلية وأسرارها ، ينظرون بنور الأفعال ولطائف الصنعة ، وسناء الخطاب إليها على السرمدية ، وإنها تعيش وتتحرك وتطير بقوة من قوى الحضرة ، وهذا الصفير والألحان والزفرات والشهقات منها من حلاوة تصل إلى قلوبها من روح عالم الملكوت ، ووضوح أنوار الجبروت ، ولها على قدر حالها في المعرفة والتوحيد شوق إلى الله ، وذوق من بحار رحمة الله.

سمعت أن سمنون المحب كان إذا تكلم في المحبة تنشقّ القناديل ، ويسقط الطير من الهواء ، حتى سمعت أن يوما ما كان يتكلم في المحيط فسقط طير بين يديه ، وغرز منقاره في الأرض ، وقطر الدم من منقاره ، ومات بين يديه.

وأمثال هذه الحكاية كثيرة في الآثار والأخبار ، من جميع الحيوان والسباع والطيور والحشرات ، ألا ترى كيف تكلم الضب مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكيف مدحه بقوله : «ألا يا رسول الله : إنّك صادق ، فبوركت مهديّا وبوركت هاديا» إلى قوله : «فبوركت في الأحوال حيّا وميتا ، وبوركت مولودا ، وبوركت ناشئا» (٢).

وقوله تعالى : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) في طلب الحق ، وإفراد قدمه عن الحد والاعتبار في صنائعه اللطيفة ، التي تبرز منها أنوار الصفات في العالم ومثيلتها ، إنها خلقت من عالم الملك والشهادة والأفعال والآدمي والملائكة خلقت أجسامهما من عالم الأفعال ، وأرواحها من نور

__________________

(١) إنما يستجيب لدعوة الخصوصية ، ويجيبون الدعاة إلى السير لشهود عظمة الربوبية ، الذين سبقت لهم العناية ، وأحيا الله قلوبهم بالهداية ، فيسمعون بسمع القلوب والأرواح ، ويترقّون من حضرة عالم الأشباح إلى حضرة عالم الأسرار والأرواح ؛ والموتى بالغفلة والجهل يبعثهم الله ببركة صحبة أهل الله فتهب عليهم نفحات الهداية ؛ لما سبق لهم من سر العناية ، ثم إليه يرجعون فيتنعمون في حضرة الشهود ، في مقعد صدق عند الملك الودود [البحر المديد (٢ / ١٤١)].

(٢) ذكره ابن حجر في الإصابة (١ / ٥٢٣) بنحوه.

الملكوت ؛ لذلك فضلت الملائكة والآدمي على غيرهما ، قال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ...) الآية.

وقوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) أي جناحيه : جناح التوكل والرضا ، وجناح الخوف والرجاء ، وجناح الفناء والبقاء ، وجناح الإيمان والتقى ، وجناح النعمة والبلاء ، وجناح الهمة والصفات ، وجناح العبودية والربوبية ، وجناح المعرفة والمحبة ، يطيرون بها هربا وطربا وشوقا وطلبا ، وإشارة الظاهر في المثلية أن جبلة الأمم من العناصر الأربع خلقت ، ومن طبيعة الحيوانية والروحانية أنشئت ، وتساوت في الأكل والشرب والحركة والاجتماع ، وصفات النفسانية ونعوت الذاتية من الحرص والغضب والشره والبطر ، وحقائقها في التساوي رجوعها إلى معدن الفطرة ، الذي أنشأها الله منه ؛ لقوله تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) [طه : ٥٥].

ومن أئمة التفسير الظاهر قول ابن عطاء قال : أمثالكم في التوحيد والمعرفة.

وقيل : (إِلَّا أُمَمٌ) في التصوير (أَمْثالُكُمْ) في التسخير ، وأقوام جميع الحيوان والملائكة والجن والإنس والجمادات من العرش إلى الثرى بالقدرة القادرية الأزلية ، ولهم مشارب وسواق من بحر خطاب الله ، وكلماته الأزلية المبيّنة طرق توحيد الملائكة ، ومعرفة الناس وفطرة الحيوانات والطيور والحشرات والسباع الممزوجة طباعها بالعلم بصانعها وخالقها ، إلى ظهور صفاته وذاته لهم بيانا غير مشكل عليهم ، ولا ناقص عن تمام مرادهم.

قال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أي : كل ما يحتاج الخلق في العبودية وعرفان الربوبية بيّناه في كتابنا ، ليس مقام ولا حال ولا وجد ولا إدراك ولا معرفة ولا رؤية إلا وبيّن طريقه في كلامه تعالى صفته الخاصة المبينة ، عرفان جميع الصفات ، وطرق الصفات إلى الذات ، أخبر تعالى به عن أسرار الأولين والآخرين من العرش إلى الثرى.

قال بعضهم في قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) أي : ما أخرنا في الكتاب ذكر أحد من الخلق ، ولكن لا يبصر ذكره في الكتاب إلا المؤيدون بأنوار المعرفة.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ

ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) وصف سبحانه أهل الامتحان الذين تهتف هواتف الإلهام بالخطاب لقلوبهم من الغيب فيستقبلونها بمعارضة نفوسهم ، ويكذبون خواطر الحق بخاطر الباطل حين لم يعرفوا الإلهام من الوسواس ، وذلك من وقر الضلالة في آذانهم ؛ حيث لم يلقوا أسماعهم في مقام الشهود إلى الله ، ولم تذكر اسم الله ألسنة أسرارهم بوصف الهيبة والمحبة ، وذلك من بقايا نفوسهم في ظلمات هواها.

ومعناه : أي من كذب خواطر الحق الواردة من عندنا حين ألهمنا بخالص الإيمان بكرامات أوليائنا ومعجزات أنبيائنا تغطى آذان أسراره ، وأبصار بصائره بغشاوة الضلالة ؛ حتى لا يسمع كلامنا في الغيب ولا يرانا في الملكوت ، ويبقيه في ظلمات نفسه الأمّارة وشيطانه الكافر ، ولا يقدر أن يتكلم بذكرنا ومعرفتنا.

قيل : لم تصدقوا إظهار كراماتنا على المقربين من عبادنا عموا وصموا عن أنوار الملاحظات ، وبقوا مع ظلمات النفوس ، وهواجس الهياكل.

وقوله تعالى : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) المشيئة تقع على المقبولين والمطرودين على الإبعاد والقبول والرضا والسخط ، بما جرى عليهم في الأزل من السعادة والشقاوة ، فمن لم يكن صادقا في بدء إرادته يغويه الحق في ظلمات قهره غيرة على وصله ؛ حتى لا يصل إليه غير صادق في محبته ، ومن كان صادقا في بدء إرادته ولم ينقص عقد بدايته بمتابعة نفسه والفترة عن طاعة يهديه الحق بنفسه إلى نفسه ، ويجعله مستقيما في طريق معرفته وطاعته ، والطريق المستقيم طرق أفعاله للعقول بنعت الفكرة ، وطرق صفاته للقلوب بنعت المحبة ، وطرق ذاته للأرواح بنعت المعرفة.

قيل : من يرد الله به الشرّ يتركه في سوء تدبيره ليبقى في ضلالته ، ومن يرد الله به الخير يجره إلى حسن اختياره ، فيبقى على أسلم الطرق ، وهو الرضا بمجاري القدرة ، وهو الصراط المستقيم.

وقوله تعالى : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) ، (غَيْرَ اللهِ) : الجاهلين ربوبيته عند امتحانهم ببلائه ، يرجعون إلى غيره من الخلق ؛ لطلب المعاونة بدفع البلاء عنهم ، أي : إن كنتم صادقين في دعوى معرفتي لم تتكلمون إلى غيري عند نزول البلاء؟ فإنكم تدعونني حين تدعون غيري ، فإن الدعاء لم يقع على غيري ؛ إذ فنيت الحوادث في سطوات عظمتي ، لكن لا تعلمون أنكم تدعونني حين تدعون غيري من جهلكم بفناء الحدث في القدم.

وأيضا : وبّخهم بانصرافهم عن بابه تعالى في دعة العيش من قلّة وجدانهم حلاوة قربه ووصاله إلى طلب زيادة حظوظ أنفسهم ، والسكون إلى غير الله ، ثم يرجعون إلى بابه حين امتحنهم بالبلايا ، ويدعونه لكشف الضر عنهم لا لطلب مشاهدته وقربه ، يدعونه ، وهذه عادة المفلسين المعرضين عنه إلى غيره.

قيل : على غيره تتكلون ، وإلى سواه ترجعون ، وهو الذي وفقكم لمعرفته ، وأقامكم مقام الصادقين من عباده.

قال الجريري : يرجع العارفين إلى الحق في أوائل البدايات ، ويرجع العوام إليه بعد اليأس من الخلق.

قال الله تعالى : (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بل الصادق من إليه يرجع ، وإياه يدعو.

قال الجنيد : من دعا الحق فبإياه لإياه يدعو ، من غير حظّ فيه ولا حضور من نفسه ، قال تعالى : (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ).

قال بعضهم : بل إليه المرجع لمن غفل عنه خطابه.

قوله تعالى : (فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) هذا وصف قوم لم يذوقوا طعم وصل المشاهدة ، حيث أرجعهم الحق إليه بسوط قهره ، ولو كانوا على محل المعرفة والمحبة والشوق إلى المشاهدة لم ينصرفوا عنه طرفة عين.

وأيضا : إذا أراد سبحانه كلاءة قوم من محبته إياهم ألزم عليهم حراس بلياته ، وضرب عليهم سرادق حفظه ؛ لئلا يشتغلوا بغيره لحظة.

وأيضا : أي لما اشتغلوا بحظوظ ما وجدوا من قربنا أوقعناهم في أودية الفترة حتى لم يجدوا آنئذ المواجيد وحقائق الواردات ، ومسسناهم ببأساء الفراق وضراء الأشواق ؛ لكي يصلوا إليّ من نفوسهم وحظوظهم ، ويروني بنعت تجريد التوحيد ، وإفراد القدم عن الحدوث.

قال ابن عطاء : أخذنا عليهم الطرق عليها ليرجعوا إلينا.

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥))

قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) وصف قوما تركوا نصائح المشايخ من

إعجابهم برأيهم ، ولم يتيقظوا بدقائق إلهام الله الذي نزل على قلوبهم حين زجرهم طوارق الغيب عن سكونهم بما وجدوا من أنفسهم نبذة من الحكم ولمعا من الفراسة ، وهذا معنى (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ).

ولما سكنوا إلى أنفسهم لما وجدوا من لطائف الكرامات فتح الله عليهم أبواب الرئاسة والجاه عند الخلق ، حتى إذا فرحوا بتمكينهم عند العوام يرد الله قلوب الخلق عنهم ويفضحهم عندهم ، ويعرف الخلائق خيانتهم ومكرهم وسقوطهم عن درجة القوم ؛ حتى لا ينظر إليهم أحد من خلقه بالشفقة والرحمة ، ويموتوا على حسراتهم ، وهذا معنى قوله تعالى : (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً).

وقوله تعالى : (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) أي : آيسون من نيل كرامات الله بعد ذلك ؛ لأنهم خانوا في طريقه ، وهو لا يهدي كيد الخائنين.

فلمّا قدّس الله بساط الولاية عنهم ودفع إيذاءهم عن خواص حضرته أثنى على نفسه ، وحمد جلاله المنزّه عن الاستبشار بوجودهم والاستيحاش عن عدمهم نيابة عن أحبائه ، الذين عجزوا عن حمده وثنائه بقوله تعالى : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧))

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) الإشارة في ذلك إلى أهل مقام ذهاب الذهاب ، أي : إن أخذ الله أسماع أسراركم بصواعق العظمة ، وطمس بطون بصائركم بأنوار العزة ، وختم على قلوبكم بخواتم الملكوت والجبروت بعد امتلائها من أنوار الكبرياء ، وفنائها في سنا البقاء حين غلبت سطوات القدم على الحدث بنعت تلاشي الحدث ، فيبقى القدم ولا يبقى العدم من يكون بعد عدمه في القدم ممن يدعي الأنائية ، ويخرج نفسه بعد فنائها من تحت أذيال الأحدية بوصف سمع الأزلي ، وبصر الأبدي ، وقلب الصمدي ، لا يكون للفاني في الباقي أثر ؛ فإنه ـ تعالى ـ قادر به بذلك ، منزّه عن النظير والعديل.

قال الترمذي : إن أخذ الله سمعكم عن فهم خطابه ، وأبصاركم عن الاعتبار بصنائع قدرته ، وختم على قلوبكم سلبكم معرفته ، هل أحد يقدر على فتح باب من هذه الأبواب

سواه؟ كلا بل هو المبدي النعمة تفضلا ، ومتممها في الانتهاء تكرما.

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠))

قوله تعالى : (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي : من أيقن مني أني أعطي ولايتي لمن أطاعني ، وشاهد بقلبه حضرتي بعد تصديقه إلهامي في قلبه حين دعوته منه إليّ ، وأصلح مزاري وموضع تجليّ من قلبه وسره ، ما خرب من سابق هواجسات نفسه ، وركضات شيطانه بذكري وثنائي والاستعاذة مني إليّ ، فلا خوف عليه من احتجابي عنه ، ولا له حزن من انقطاعه عني.

قال بعضهم : من أخلص باطنه ، وأصلح ظاهره ، (فَلا خَوْفٌ) خوف القنوط ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) حزن القطيعة.

قوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) أي : هل يستوي الأعمى عن النظر إلى غير الذي لم يبق له عين من نفسه إلا من عيوني ، والبصير بنور ملكي وملكوتي ، أفلا تتفكرون بين الفاني والباقي عليّ ، وفيه شرف المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين تجرّد في العبودية ، وتفريد التوحيد بنفي الأنانية عن نفسه ، وإسقاط الحدث عن ساحة القدم حين أمر : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) ، ونزّه نبوته عن التكلف في اقتباس علم الغيب بالجد والسعد بقوله تعالى : (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) ، وتواضع حين أقام نفسه مقام الإنسانية بعد أن كان أشرف خلق الله من العرش إلى الثرى ، وأظهر من المكروبين والروحانيين على باب الله سبحانه خضوعا لجبروته ، وخشوعا في أبواب ملكوته.

وقوله تعالى : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) ، وليس لي اختيار في نبوتي ، (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) هل يكون من هذا وصفه بعد كونه بصيرا بنور الله ورآه به ، كالذي أعمي عن رؤية إحاطته بكل ذرة من العرش إلى الثرى؟! أفلا تتفكرون أن من ولد من العدم بصيرا بنور القدم ليس كمن ولد من العدم أعمى عن رؤية عظمته وجلاله!

قال بعضهم : الأعمى من عمي عن طريق رشده ، والقائم مع عبادته ، والبصير الناظر إلى منن الحق عليه ، وحسن توليته له ، أفلا يتفكرون في اختلاف السبيلين وتباين المذهبين.

قال الأستاذ : هل يتشاكل الضوء والظلام؟ وهل يتماثل الجحد والتوحيد؟ كلا أن

يكون كذلك.

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١))

قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) أدق طريق معارفه ؛ حيث أسبل نقاب العظمة على وجه جلال القدم ، وضرب سرادق العزة على ساحات الكبرياء ؛ حتى لا يصل إلى إدراك كنه قدمه وبقاء ديموميته.

وبيّن ذلك في كلامه القديم ، أي : خوف بما وصفت نفسي بامتناعي عن مطالعة الخليقة وإدراكها سر حقيقة وجودي في كتابي وخطابي ، الذين يخافون من قطيعتي ، ويعلمون تنزيه جلالي عن أن يصل أحد إليّ بطاعته حين أحشر إليّ بعلل الإنسانية وسمات النفوسية ، إن الأمر هناك أجلّ من أن تخطر بخواطرهم ، وأدقّ من أن يفهم أحد ، فإن مكري قديم ، وصفتي تنزيه ، لو أحرق جميع المخلصين بنيران البعد بعد أن يكونوا من أهل القرب ، فلا أبالي فإن كيدي متين ، ولو يأتونني بملء السماوات والأرض إخلاصا ، وأريد أن أرفق عليهم بإخلاص الإخلاص لا يخلصهم إخلاصهم من دقائق حسابي.

وما أطلع عليهم من خطرات ضمائرهم المسيرة إلى غيري ، ولو أمنعهم مني من يتولى أمرهم بإرجاعهم إلى غيري ، وهذا معنى قوله تعالى : (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) لعلهم يتقدسون من نفوسهم بقدس تذكرتي وذكري لهم ، ويخافون مني بقلة خوفهم عني.

قال أبو عثمان : أهل المعاملات وأرباب الصدق في ذلك خائفون ممّا يبدو لهم من الإيمان والتوكل واليقين وأنواع العبادات ، وعرض ذلك على ربهم يشغلهم خوف ذلك من رؤية أفعالهم والتلذذ والاعتماد عليها ، قال الله تعالى : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ) ... الآية.

وقال أبو سعيد الخرّاز في الآية : (أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) : أن يجعلوا إليّ وسيلة أو شفيعا إلى نفسي سواي.

قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي : سمعت الأستاذ أبا سهل محمد بن سليمان يقول : لسنا مخاطبين بحقائق القرآن ، إنما المخاطب بحقيقته هم الذين وصفهم الله ، فقال : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ ...) الآية ، وقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧].

وقال الواسطي في قوله : (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ) : من استقطعته المملكة عن الملك لا يصلح لخدمة الملك.

وقال : لا تلاحظ أحدا ، وأنت تجدّ إلى ملاحظة الحق.

وقال في قوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي : أن يجعلوا إليّ وسيلة غيري.

وقيل في هذه الآية : إنما تعطى الأطماع بمقاربة صرف الكريم دون السعاية بضياء الهداية.

ويقال : الخوف هاهنا العلم ، وإنما يخاف من علم ، فأما القلوب التي غطاها الجهل ، فلا تباشرها طوارق الخوف.

(وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣))

قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) بيّن الله سبحانه في هذه الآية تخصيص الولاية بعد تخصيصه النبوة والرسالة ، وصرّح في بيانه أن الولاية اصطفائية محضة كما أن النبوة والرسالة اصطفائية محضة ، لا يتعلقان بسبب من الأسباب من العرش إلى الثرى.

وكما أنه ـ تعالى ـ أحبّ الأنبياء والرسل كذلك أحبّ الأولياء والأصفياء محبة بلا علّة ، وكما أن الله سبحانه خصّ نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرسالة بغير علّة ، وجميع الخلائق من الجن والإنس والملك كذلك خصّ أصحابه بشرف الولاية بغير سبب من جهته ، ولا جهد من جهده ، وصحة ذلك قوله تعالى : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ، بل كما سبق في الأزل العناية له بالرسالة ، كذلك سبقت لهم في الأزل الولاية ، كذلك وقعت لهم الصّحبة والموافقة من جهة تلك الأهلية ، اتبعوه وقبلوا أمره ، ووضعوا رقابهم تحت قدمه ، ولولا تلك العناية الأزلية كان حالهم كحال هؤلاء الأعداء ، لكن إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، فمنّ الله على نبيّه عليه‌السلام بتأييده ونصر أصحابه له بقوله : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ٦٢] ، ولما بلغ شرفهم إلى هذه المرتبة وصّى الله نبيه عليه‌السلام بمراعاتهم ، ورعاية حالهم ، وتربيتهم ، وعاتبه في الآية لأجلهم بقوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ...) الآية ، أي : لا تمنع هؤلاء من صحبتك ، ولو كان لحظة لأجل حرصك بإسلام البطالين ، فإن هدايتهم عندي ، و (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) من أقربائك ، (وَلكِنَ

اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) من هؤلاء الفقراء مثل بلال ، وصهيب ، وسلمان ، وعمار ، وحذيفة ، والمقداد ، ونظرائهم من أصحاب الصفة ، الذين يدعون الله لوصولهم إليه عند كل صباح ومساء ؛ لشوقهم إلى جماله ومحبتهم اللحوق منه ، وهذا معنى قوله : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (١) ، وخصّ الغداة والعشي بالدعاء ؛ لانجلاء أذيال الظلام من النهار بالغداة ، وانجلاء أذيال الضياء من الظلام بالعشي ، ولأن هناك ظهور تجلي القدرة وجلال العظمة ، وهناك تكون ساعة تستجاب الدعوة فيها.

وأيضا : يدعون الله بنعت الفناء في شوق جماله عند طلوع كل صبح من أنوار تجلي صفاته في قلوبهم عند كل نفس ؛ لأن عند تنفس كل نفس من العارف يكون صبحا من ظهور بركة مشاهدته هناك ، ويدعون ويستزيدون محبته وشوقه وقرب مشاهدته هناك ، ويدعون عند كل وارد غشيان الأحوال على قلوبهم بنعت الحيرة في عظمته ؛ لأن ظهور تراكم سحائب العظمة وضباب الكبرياء ، وبعد كل نفس بنفس العارف يكون عشي الحال ، وليالي الوصال كانوا يدعون الله في جميع أنفاسهم لقاءه لإرادتهم احتراقهم في أنوار وجهه تعالى ، وعلّق الدعاء بالوقتين ؛ لأنهم هناك سكنوا من علية الواردات وطوارق الحالات ، فلمّا سكنوا في تلك الساعات ضاقت صدورهم ، ودعوا الله بإرجاعهم إلى السكر بعد الصحو ، وإلى حضورهم بعد الغيبة.

ألا ترى إلى قوله : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) وصفهم بالإرادة مع كمالهم في المعرفة ؛ لأن الكامل يرجع عند كل نفس من مقام النهاية إلى مقام البداية ؛ لأن هناك منزل النكرة من ظهور أنوار آفاق القدم ، وبروز سنا بطون الآزال ، وكشف غيوب الآباد فرّوا من سطوات الذات إلى نور الصفات ؛ لأن هناك مقام المعرفة ، ورؤية الذات مقام النكرة ، ففرارهم من النكرة إلى المعرفة ، ومن النهاية إلى البداية.

ألا ترى إلى قول الصديق رضي الله عنه كيف قال : «سبحان من لم يجعل سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته» (٢).

وسئل بعض العارفين : ما النهايات؟ قال : الرجوع إلى البدايات.

وخصّ الله سبحانه إرادتهم وجهه ؛ لأن الوجه صفة أزلية من خواص صفاته المتشابهة ،

__________________

(١) أي : يريدون وجه الله ورضاه ، ولا يغيبون عنه ساعة ، ثم قال : أزهد الناس أصفاهم مطعما ، وأعبد الناس أشدهم اجتهادا في القيام بالأمر والنهي ، وأحبهم إلى الله أنصحهم لخلقه [تفسير التستري (١ / ١٣٥)].

(٢) ذكره المناوي في فيض القدير (٢ / ٣٥٤).

وهو معدن جلاله وجماله ، يتجلى بنور وجهه لقلوب العاشقين والمشتاقين والمحبين ، وذكر الوجه خاصة ؛ لأن القوم في مقام العشق والمحبة والشوق ، ولذلك علقهم بمقام المتشابه لوقوع الأحوال والمكاشفات على مقام الالتباس ، لما كان حالهم العشق في وصفهم بالإرادة ، وعلقهم بصفة من صفاته ؛ لأن العاشقين في جنب العارفين ، والموحدين كقطرات في البحار ، ولو كانوا على محل النهايات ما وصفهم بالإرادة ، ولا علقهم بصفة واحدة من جميع صفاته ؛ لأن العارف خرج من مقام الإرادة التي توجب العبودية إلى مقام الحقيقة التي توجب الربوبية ، ولو كانوا على حدّ الكمال وصفهم بطلب جمع الذات والصفات ، وما وصفهم بطلب صفة واحدة من جميع صفاته.

وقال في موضع قوله تعالى : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي : يريدون الله ؛ لأن اسم الله عين الكل ، وعين الجمع.

وأيضا : وصفهم بإرادة وجهه ، ووجهه سبحانه عن إشارة التشبيه والتعطيل مندرج تحته جميع الصفات من السمع والبصر والكلام ، ويتعلق به جميع الصفات ، وأراد بالوجه عين الكل ، و (وَجْهَهُ) أي : ذاته وصفاته.

ألا ترى إلى قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] أي : إلا نفسه.

وقوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٧] أي : ذاته وصفاته.

وكذا قال أهل التفسير الظاهر : فإذا كان كذلك كان القوم يريدون الله بجميع ذاته وصفاته بوصف المحبة والشوق ، كانوا يريدونه لأنه ـ تعالى ـ يعرّفهم نفسه بنعت مباشرة تجلية قلوبهم ، وهذا مقام قد استأثره الله لنفسه لا لأحد غيره ؛ لأنه ـ تعالى ـ عرف نفسه لا سواه ، غلب عليهم لذّة قربه وخطابه ، فأرادوا كشف كنه القدم ، كما غلب على موسى عليه‌السلام حين سأل هذا المقام بعد ذوقه لذّة كلامه تعالى بقوله : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] ، لمّا رآه بالوسائط ، وخرّ من سطوات القدم ، وأفاق بنور البقاء ، فلم ير للحدثان في جنات القدم أثرا تاب عن سؤاله ، فقال : (تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) [الأعراف : ١٤٣].

ألا أعرفك كما أنت ، وهذا مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن رآه صرفا ؛ حيث قال : «لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» (١).

فلمّا علم سبحانه ذلك منهم أمرهم بالاستغفار وطلب العفو ، كما أخبر عنهم بقوله :

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ٣٥٢).

(رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) [آل عمران : ١٩٣].

سئل أبو يعقوب النهرجوري عن المريد؟ فقال : صفته ذكرها الله في كتابه : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) ، وهو دوام ذكر وإخلاص عمل ، أوصى بهذه الآية أكابرهم في التعطف عليهم والصفح عن زللهم.

قال بعضهم : يدعونه شوقا واعتمادا عليه لم يشغلهم شاغل ، ولم يصدهم عن خدمته صادّ ، قائمون على بابه من الخدمة والعبودية ، منتظرون زوائد بركاته عليهم.

ولي إشارة أخرى : أن الله تعالى وصف حضورهم بالغداة والعشي أي : حضروا في الحضرة بالغداة بعزم خدمته إلى العشي ، وحضروا بالعشي بعزم خدمته إلى الغداة حتى تكون أوقاتهم مسرمدة بغير فترة.

الإشارة فيه : لمّا وصفهم بالحضور نفى عنهم بدليل الخطاب جميع أشغال الدنيا ، أي : كانوا رجال المراقبة والحضور والمشاهدة ، لا يشغلهم عن الله شاغل طرفة عين ، كما وصفهم في موضع آخر بقوله : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [النور : ٣٧].

وأيضا فيه لطيفة : وصفهم بالحضور بالغداة والعشي على تسرمد الأحوال لترويحهم سويعات بالأحكام الظاهرة ، هذه شفقة من الله ؛ لكيلا تحرقهم نيران محبتهم ، وتزيلهم حدة إرادتهم.

يقال : أصبحوا ، ولا سؤال لهم من دنياهم ، ولا مطالبة من عقباهم ، ولا همة سوى حديث مولاهم ، فلمّا تجردوا لله تمحضت عناية الحق لهم فتولى حديثهم.

وقال : ولا تطردهم يا محمد ، ثم قال : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٥٢] ، الفقير خفيف الحال لا يكون على أحد منه كثير مؤنة.

وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) : الفقير الصادق إذا امتنّ الله عليه بمعرفته ، وكشف مشاهدته ، وكساه رداء هيبته يتجلّى عند جميع الخلائق لبروز نور جلال الله من وجهه بحيث يجيء بقوم العالم عنده لصولة حاله ، وغلبة وجده ، ولطائف كلامه ، ويكون سالب قلوب الخلق بما يجري عليه من أحكام ربوبية الله ، فيظهر للحق منه سنا كرامات الله ، ولطيف آيات الله ، فيحسده عليه أهل الدنيا من المغرورين بمزخرفاتها ، الواقعين في ورطاتها ، ويقولون عند العامة : أهذا الذي له كرامات وآيات؟! هذا طراز سالوس ، وأرادوا بذلك صرف وجوه الناس عنه إليهم.

قال الله سبحانه في وصف الحساد عند حسدهم على أوليائه : (أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ

عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) استهزاء ، فأجابهم الله رغما لأنوفهم : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) أي : هو تعالى يعلم صدقهم وإخلاصهم وبذل وجودهم شكرا لإنعامه ، وحمدا لما منّ عليهم من الدرجات الرفيعة ، والحالات الشريفة ، ويعلم غيظ أعدائهم.

وفي الأية نكات : أن فتنة الفقر طمعه إلى الغنى ، وفتنة الغني بغضه للفقير ؛ لئلا يؤديه حقه.

وأيضا : في الحقيقة مقام الفقر مقام التجريد والتوحيد والتنزيه ، وإفراد القدم عن الحدوث ، وفناء النفس في الحق ، وإذا كان الفقير بهذه الأوصاف يستظل بظلال الربوبية ، ومقام الغنى مقام الاتصاف بصفات غنى القدم والاكتساء بكسوة الربوبية ، فإذا كان الغني بهذه الأوصاف يكون نائب الحق في العالم ؛ فإذا رأى فقيرا بوصف ما ذكرنا يصول عليه بقوة مقامه ، فيكونان في حجاب حالهما ومقامهما ورؤية غير الله ، وهذا من غيرة الله عليهما ؛ لئلا يسكن أحدهما الآخر ، فيسقطان من درجة السكون إلى الحق ، ومن غيرته تعالى على نفسه لشغل بعضهم بعضا ؛ لئلا يطّلع عليه غيره.

وما ذكرنا بمجموعه فهو معنى قوله : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) ، وما يليق بذلك من تفسير.

وقوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) أي : بالذين منهم من لا ينظر في طريقه إلى نفسه وإلى غيره طرفة عين.

قال الحسين رضي الله عنه في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) : قطع الخلق بالخلق عن الحق.

وقال محمد بن حامد : فتنة الفقراء بالأغنياء ، وفتنة الأغنياء بالفقراء ، ففتنة الفقير في المعنى رؤية فضله ، وبسخطه لما يمنعه ما في يده ، ويراه المعطي والمانع دون الله ، وفتنة الغني في الفقير ازدراؤه الفقراء ، وتحقيره إياهم ، ومنعهم ما أوجب الله عليه لهم مما في يده ، وامتنانه عليهم بإيصالهم إلى حقوقهم وإيصال الحقوق إليهم ، والذي يسقط عن الفقير فتنة فقره رؤية دخل الأغنياء ، والذي يسقط عن الغني فتنة غناه رؤية دخل الفقراء.

قيل : في الشكر ، والشاكرون : الراجعون إلى الله في جميع أحوالهم.

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ

الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦))

قوله تعالى : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) : تطييب لقلوب المريدين ، الذين يطلبون الله بوسائط الآيات ، وتسلية لقلوب النادمين على ما فات عنهم من أوقات المراقبات بمباشرة الجنايات ، فأحالهم الحق إلى سلام نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنهم في مقام الوسيلة ، ولو بلغوا إلى درجة أهل المشاهدة لأحالهم إلى سلامه بقوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨].

انظر كيف أحب الرجوع للمذنبين ؛ حيث أمره عليه‌السلام بالسلام عليه بقوله : (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الأنعام : ٥٤] ؛ لأنهم قاسوا مقاساة امتحانه في بيداء قهره ، لمّا رآهم مقبلين إليه بعد تحملهم بلاياه ، سلّم عليهم بلسان نبيه ، ثم رفع درجتهم من ذلك ، وواساهم بنفسه ، وروّح فؤادهم بمروحة رحمته السابقة عليهم في الأزل بقوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي : كان في الأزل اصطفاهم برحمته ، وإن علم منهم العصيان ، رحمته الأزلية أصل ثابت ، والمعصية عارضة من طوفان قهره في طريق الإقبال إليه والمسارعة في السير إلى وصاله ، فإذا وصلوا إلى معادهم بقيت الأصول ، وفنيت العوارض ، إذا أحبهم بمحبته الأزلية توجب محبته أن يوصلهم إلى مشاهدته التي هي رحمته الكبرى ، وأن يخلصهم من غبار الطبيعة ، ويطهّرهم من أدناس النفسانية بمياه رحمته الكافية بقوله تعالى : (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً) نظر إلى غيره (بِجَهالَةٍ) بقلّة علم على ذوق وصالي ولطف جمالي ، (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ) رجع من نفسه إليّ ، (وَأَصْلَحَ) مزار تجلياتي من قلبه ، بأن قدسه من شوائب شهواته.

(فَأَنَّهُ غَفُورٌ) لما سلف من تقصير في أداء حقوقي ؛ بحيث لا أعيرهم بذلك أجرا.

(رَحِيمٌ) بأن قوّاهم بقوة أزلية ؛ ليحملوا أثقال مشاهداتي بها ، ولولا ذلك لفني وجودهم في أول رؤية سطوات عظمتي وجلال كبريائي.

قيل في قوله : (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) : سلّم أنت على الذين يؤمنون بآياتنا ، فإنا نسلم على الذين آمنوا بنا بلا واسطة ، وذلك قوله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨].

قال إبراهيم بن المولد : والله إن الحق هو الذي يسلّم على الفقراء ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك واسطة.

وقال الواسطي في قوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) : برحمته وصلوا إلى

عبادته ، لا بعبادتهم وصلوا إلى رحمته ، وبرحمته نالوا ما عنده لا بأفعالهم ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «... ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمته» (١).

وقال ابن عطاء في قوله تعالى : (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ) : كل من عصى الله عصاه بجهل له ، وكل من أطاعه أطاعه بعلم ، فإن العبد إذا لم يعظم قدر معرفة الله في قلبه ركب كل نوع من البلاء.

وقال بعضهم في قوله تعالى : (فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) : بادرهم بالسلام قبل أن يسلموا ؛ إكراما لهم ، وإظهارا لقدرهم.

قال بعضهم في قوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) : في الأبد لمن نظر إليه في الأزل بعين الرحمة.

قال أبو عثمان : أوجب على نفسه عفو المقصرين من عباده ؛ لذلك قال : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ).

وقال بعضهم في قوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) : في الصفات الجارية عليهم ولهم ، الذي أعتقهم من رقّ الكون ، وأظهرهم من خفايا المخزونات المصونات المكنونة بأعجب أعجوبة ، ثم أشهدهم السلام ، فكانوا سالمين منه في إظهار ربوبيته ، سالمين منه في آخريته ، استحقوا اسم السلام بذلك.

(قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨))

قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) أي : على يقين ومشاهدة ورؤية غيب وسلطان براهين ، وسطوع نور الأزل من وجهي ، فإنه أعظم البينات في العالم ، من رآه رأى الحق ؛ لقوله عليه‌السلام : «من عرفني فقد عرف الحقّ» (٢) ، و «من رآني فقد رأى الحقّ» (٣).

قال أبو عثمان المغربي : الأنبياء على بينات ، والأكابر من الأولياء على بينات ، وبينات الأنبياء وحي يقين ، وبينات الأولياء الفراسات الصادقة ، والإخبار على الغيب كما كان ليوشع عليه‌السلام وللصديق الأكبر رضي الله عنه.

__________________

(١) رواه البخاري (٥ / ٢٣٧٣) ، ومسلم (٤ / ٢١٦٩) ، وأحمد في مسنده (٣ / ٣٣٧).

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) رواه البخاري (٦ / ٢٥٦٨) ، ومسلم (٤ / ١٧٧٦).

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩))

قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) غيبة ذاته القدمي ، وهو خزانة أسرار الآزال والآباد ، ومفاتيحها صفاته الأزلية ، لا يعلم صفاته وذاته بالحقيقة إلا هو تعالى بنفسه ، فنفى الغير عن البين ؛ حيث لا حيث ولا بين ، فمن إشارة الأحدية المفتاح والخزانة واحد ؛ لأنه منفرد بصفاته وذاته عن الجمع والتفرقة.

قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣٤] ، قال : علمه مفاتيح الغيب خمس ، لا يعلمها إلا الله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) إلى قوله : (عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

قال السدي من كبار المفسرين : (مَفاتِحُ الْغَيْبِ) خزائن الغيب.

وأيضا : مفاتح الغيب عنده أنوار عنايته الأزلية التي سبقت منه بنعت الكرم والفضل لأنبيائه وأوليائه وملائكته ، وغيبة ذاته وصفاته تعالى ؛ لأنه كنزه القديم الباقي ، ألا ترى إلى قوله : «كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف» (١).

فيفتح بلطفه بتلك الأنوار الأزلية التي سماها المفاتيح لهم أبواب خزائن صفاته وذاته ؛ ليعرفوا كنز القدم بأنوار القدم ، وهو تعالى يظهر مكنون أسراره من ذاته وصفاته لهم ، وهم يستخرجون من بحار الذات والصفات جواهر علومه الأزلية والأبدية ؛ ليوضحوا بأنوارها طرق العبودية لعباده ، ويبينوا مدارك المعاملات ومراقي الحالات لهم.

وقوله : (لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) أي : لا يعلم الأولون والآخرون قبل إظهاره تعالى ذلك لهم ، ولا يعلم حقائق أقدارها إلا هو ؛ لأنه تعالى عرف قدره بالحقيقة لا غير.

وأيضا : لا يعرف طريق وجدانها والوسيلة إليها إلا هو ، هو بذاته تعالى عرّف طرقها لأهلها ، قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧].

وأيضا : له مفاتيح الغيب ، ومن تلك المفاتيح التي يعطي قاصديه وطالبيه في بدء شأنهم ما داموا صادقين ، هي المعاملات السنية ، والمقامات الشريفة التي يستفتح بها لهم خزائن الملكوت والجبروت ، ويستخرج منها أنوار المحبة والشوق والعشق والمعرفة ودرجاتها ،

__________________

(١) ذكره المناوي في «التعاريف» (١ / ٥٦٨) ، والعجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ١٧٣) بنحوه.

والتوحيد ومكاشفاته وعلومه ، فيصلون بها إلى وصاله الأبدي وقربه الجلالي.

وأيضا : له مفاتيح اللطيفات والقهريات ، يفتح بها أبواب أنوار المعرفة للأولياء ، ويفتح بها أبواب ظلمات الطبيعة للأعداء.

وأيضا : عنده مفاتح غيب الدرجات ، يفتح للقلوب خزائن المشاهدات ، وللأرواح خزائن المكاشفات ، وللعقول خزائن المعارف ، وللأسرار خزائن علوم الذات والصفات ، وللأشباح خزائن المعاملات ، يفتح للأنبياء بها خزائن المعجزات ، ويفتح للأولياء خزائن الكرامات ، ويفتح للمريدين خزائن الفراسات.

قال الجريري : لا يعلمها إلا هو ، ومن يطلعه عليها من صفي وخليل وحبيب وولي.

وقال ابن عطاء : هذه الآية تفتح لأهل الخير المحبة والرحمة ، ولأهل الشر الفتنة والمهانة ، ولأهل الولاية الكرامة ، ولأهل السرائر السر ، ولأهل التمكين جذبا.

وقال ابن عطاء : الفتح في القلوب الهداية ، وفي الهموم الرعاية ، وفي الجوارح البشارة.

وقال أيضا : يفتح للأنبياء المكاشفات ، وللأولياء المعاينات ، وللصالحين الطاعات ، وللعامة الهدايات.

وقال أبو سعيد الخرّاز في هذه الآية : أبدى ذلك لنبيه وحبيبه ، فتح عليه أولا أسباب التأديب ، أدّبه بالأمر والنهي ، ثم فتح عليه أسباب التهذيب ، وهو المشيئة والقدرة ، ثم أسباب التذويب ، وهو قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ، ثم أسباب التغييب ، وهو قوله : (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) [المزمل : ٨] ، فهذه مفاتح الغيب التي فتحها لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال جعفر عليه‌السلام : يفتح من القلوب الهداية ، ومن الهموم الرعاية ، ومن اللسان الرواية ، ومن الجوارح السياسة والدلالة.

وقوله تعالى : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي : يعلم عجائب بحر غيب لطفه الأزلي للأنبياء والأولياء ، ويعلم عجائب بحر غيب قهره للأعداء.

وأيضا : يعلم في بحار الغيوب وبراري القلوب.

وأيضا : يعلم ما في بحار القلوب من عجائب الحكم وجواهر الكرم ، وأصداف المعارف وألطاف الكواشف ، ويعلم ما في براري النفوس وبناتها من ألوان الشهوات.

وقوله تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ) [الأنعام : ٥٩] : لا تسقط ورقة من أوراق أشجار الغيوب إلى فضاء القلوب من سطوة صرصر رياح القهر واللطف التي هي حكمة من حكم علوم الأزلي الأبدي.

وأيضا : ما تسقط ورقة من أوراق تجلي الجمال والجلال من شجر القدم على قلوب

المحبين والمشتاقين والعارفين إلا بعلمه على خاصيتهم واصطفائيتهم بذلك ، ولا يكون حبة المحبة في غيوبات قلوب المحبين إلا هو تعالى يربّيها بمياه لطفه ورياح كرمه ، وبياض نهار مشاهدته ، وسبل إسبال ستر رعايته حتى رسخت أصلها في أرض القلب ، وأثمرت فرعها في سماء اليقين.

قال تعالى : (أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) أخبر سبحانه بإحاطة علمه على كل ذرة من العرش إلى الثرى ، وعن شمول أنوار سلطان كبريائه بنعت الغلبة على جميع الحدثان ظاهرا وباطنا (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [سبأ : ٣] ، وهدد به العباد ؛ ليفرغوا منه إليه عند كل خاطر يخطر على قلوبهم يشير إلى غيره ، فإنه يعلم السرّ وأخفى ، وبيّن أن جميع المقدورات من العرش إلى الثرى في كونيتها من العدم إلى الوجود ، ومن الوجود إلى العدم يكون بسابق مشيئته الأزلية ، وإرادته القديمة ، وأن جميعها مكتوب على ألواح الصمدية بأقلام أقداره ، الغربة محفوظة من تغير الحدثان في تلون الزمان والمكان.

وصحة ذلك قوله سبحانه : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩] رطوبتها من أثر نسيم شمال ربيع لطف مشاهدته ، وخضرتها من نضارة ظهور عرائس قدرته ، وصفرتها من تأثير رياح خريف قهره ، وسقوطها من حدة صولة نظر عظمته ، وبدوها خضوعا لربوبيته ، وزوالها من تقديس جلاله عن علة الكون والوجود والعدم.

قال الواسطي في قوله تعالى : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) : متى علمها حين لا متى؟

قيل : نضرتها وخضرتها وذهابها حتى لا يوجد منها شيء ، فما ستر من صفاته ، وما أظهر واحد ، ذلك على قدر الكون ، إنّما يتكلم بأقدارنا ، ويشير بأخطارنا ، ولو كان قدره كان الهلاك.

وقيل في قوله : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ) : فالاضطرار في أن يقدم ما أخّر أو يؤخر ما قدّم منازعة لربوبيته وخروجا عن عبديته.

قال أبو سعيد القرشي في هذه الآية : ما من دابة إلا ولها ورقة خضراء معلقة من تحت العرش ، فإذا يبست الورقة وقعت بين يدي ملك الموت ، مكتوب عليها اسمه واسم أبيه ، يعلم ملك الموت قد أمر به بقبض روحه فيقبض روحه.

وفي الحديث المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من زرع على الأرض ولا ثمار على الأشجار

إلا عليها مكتوب : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) هذا رزق فلان بن فلان» (١) ، وذلك قوله في محكم كتابه : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها).

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢)) (٢).

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) : توفيتهم في الليل لطيران أرواحهم في الملكوت ، وسيرانها في أنوار الجبروت ، ليزيد شوقها إلى معادنها ، وتعرف ما يجازي به بأعمال الأشباح التي كسبتها ، وبالنهار من الثواب والعقاب ، وتعلم قدرة الله بالإماتة والإحياء مباشرة ومعاينة ؛ ليجيء عليها وقت انقطاعها من الحدثان إلى مشاهدة الرحمن ، أشار إلى هذا بتمام الآية : (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

وشاهد الآية ومعناها : قوله تعالى بعد ذكر قهر سلطانه بوصف الإحاطة على العبد ومحافظته بالملائكة وإرجاعه إلى كنفه القديم وقربه الكريم : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) من شرفه وكرامته لا يبقيه في سجن الدنيا وبليتها ، وأبدى الملائكة الكاتبين عليه أعماله غيره على وليه ؛ لئلا يطّلع عليه غيره ، وفي الآية رجاء المذنبين ، وذلك تلطفه بهم حيث قال : (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) ، لو قال : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) ، ولم يقل : (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) لذابوا من عظمته وقهر كبريائه ، ولكن تعطف على عباده بإضافة مولويته إليهم ، ولو قال : «هم موالي» لكان عظيما ، خصّ أن قال : (مَوْلاهُمُ الْحَقِ) أي : حبيبهم وناصرهم الحق أذهب الأمر من مقام الهيبة إلى مقام الزلفى من قوله : (رُدُّوا إِلَى اللهِ) ، ثم قال : (مَوْلاهُمُ الْحَقِ).

__________________

(١) رواه الديلمي في الفردوس (٤ / ٥٣).

(٢) قال ابن عجيبة : من علم أن الله قاهر فوق عباده ، انسلخ من حوله وقوته ، وانعزل عن تدبيره واختياره ؛ لإحاطة القهرية به ، ومن تحقق عموم قهاريته تعالى ، علم أنه لا حجاب حسي بينه وبينه ، إذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه ، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر ، وكل حاصر لشيء فهو له قاهر (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) ، وإنما المحجوب : العبد عن ربه بوجود وهمه وجهله ، ومن تحقق أن الملائكة تحفظ أعماله استحيى من ارتكاب القبائح ، لئلا تعرض على رءوس الأشهاد [البحر المديد (٢ / ١٥٦)].

قال بعضهم : هي أرجى آية في كتاب الله ؛ لأنه لا مردّ للعبد أعزّ من أن يكون مردّه إلى مولاه.

(قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٦٤) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (٦٦))

قوله تعالى : (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) الإشارة فيه إلى من غمّ عليه غيم القبض ، وتراكم عليه كرب الفراق ؛ ليخلصه الله منها بكشف جماله له ، وقربه إلى وصاله ، فيخطر على سرّه وارد الامتحان ، فيميل من حظ رؤية الصفة إلى حظ رؤية الفعل عند رؤية مستحسنات الكون ، أي : كاشفت كرب البعد عن قلوبكم ، بكشف قرب مشاهدتي لها ، فنظرتم إلى المستحسنات التي رؤيتها ممزوجة بلذة شهوات نفوسكم ، فتشركون إذا سكنت قلوبكم إلى غيري ، وإن كان محل لطفي ، لكان هناك منازلة مكر القدم.

قال بعضهم يقول الله : «أنا كاشف الكروب ، ومن قصدني عند كرباته وحاجاته كشفت عنه كروبه ، ومن قصد غيري أسقطت عنه وجاهته» (١).

لما ذكر امتنانه بكشف الكربة وعاتبهم لشركهم وسكونهم إلى غيره خوّفهم بقدرته الأزلية ، وإرجاعهم إلى ظلمات الكربة ، وعذاب الفرقة بقوله تعالى : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) أي : بأن أحجبكم من النظر إلى ملكوتي ، وأقطع موارد تجلي مشاهدتي عن قلوبكم ، (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) أي : لا أسهّل عليكم القيام على باب ربوبيتي بنعت الخدمة ، وطلب الوصلة ، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) إنكارا على أوليائي وأهل مجالستي ، (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) مخالفة المريدين للمشايخ ، ومفارقة المشايخ من المريدين.

قال القاسم في قوله : (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) : اللهو والنظر إلى المحرمات ، والنطق بالفحش ، (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) المشي إلى الملاهي ، وأبواب السلاطين ، وهتك أستار المحرمات ، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) برفع ما بينكم من الألفة ، (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) بكفر أهل الهوى بعضهم بعضا.

(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا

__________________

(١) لم أقف عليه.

فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٦٨) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٦٩))

قوله تعالى : (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) أي : كل خطاب من خطابنا معدن من ذاتنا ؛ لأن خطابنا كلامنا ، وكلامنا صفتنا قائمة بذاتنا ، وذاتنا معدن صفاتنا ، فإذا ورد أمر كان وارد خبر الغيب ، وخبر الغيب وارد الخطاب ، ووارد الخطاب وارد الكلام الذي هو صفة الأزل التي سطع نورها من ذات القديم ، وورد على أشكال الأمر والفعل ، فيكون على قدر عقول الخلق ، ولو خرج صرفا لم يحتمل الحدثان ، ويضمحل فيه الزمان والأكوان ؛ لأن نعوت الأزلية لا تحملها إلا صفة الأزلية.

وأيضا : لكل خبر على صورة المدركة مراد من الله سبحانه الذي يوافق خبر الغيب ، ولا يفهمه إلا رباني الصفة.

وأيضا : لكل خطاب من الله سبحانه من قلوب العارفين مستقرّ لا تنزل إلا في مستقره ، هناك لا يضطرب الخبر ؛ لأن هناك مسقط تجلّي الأزل ، وخبر الأزل في موضع تجلّي الأزل يستقر ؛ لأنه أهله.

قال عليه‌السلام : «أهل القرآن أهل الله وخاصّته» (١).

وأيضا : لكل نبأ بيان يدل ذلك إلى مقام من مقامات الصديقين ، مثلما ذكر في القرآن أوصافهم ، ونعوتهم من المحبة ، والخوف ، والرجاء ، والصدق ، والإخلاص ، والمعرفة ، والتوحيد ، والإيمان ، والإيقان ، والمشاهدة ، والمكاشفة ، والحضور ، وإلقاء السمع ، وأمثال ما ذكرنا يوجب الخبر ، وصف فوائد تلك المقامات لأهلها ، ولا يستلذه ، الحمد لله الذي خصّ أولياءه بهذه المقامات.

وأيضا : لكل نبأ من أوقات العارفين وقت ، ينزل على قلوبهم على قدر الوقت ليدل على معالي درجات الغيب.

قال الحسين : لكل دعوى كشف.

قوله تعالى : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) وصف رعايته تعالى أهل حضرته الذين خرجوا بنعت التجريد من أنفسهم ، ومن الأكوان جميعا ، ألا يطرأ عليهم من طوارق القهر التي استأصلت أعداء الله بمماسة قهرها ، أي : لا يرجع شرّ الأعداء إلى الأولياء في الدنيا والآخرة ؛ لأنهم مصونون بكلاءة الله وحفظه إياهم ، ووصفهم بتمام الآية

__________________

(١) رواه ابن ماجه (١ / ٧٨) ، وأحمد (٣ / ٢٤٢).

بقوله تعالى : (وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي : إذا كنتم مصونين بحفظي عن شر الأشرار ذكرهم أوصاف عظمتي وجلالي ؛ كي يتقوا من عذابي ، ويرجعوا إلى بابي نادمين من زلاتهم ؛ لأن الوعظ والتذكير من شأن أهل التمكين والاستقامة في المعرفة ، والطريقة ؛ فإنهم ثواب الأولياء والرسل.

قيل : ما على التاركين الاعتماد على الوسائط ، والأخذ من الحق حظوظهم حساب.

قال سهل : أخذ الله تعالى على أوليائه بالتذكير لعباده ، كما أخذ التبليغ على أنبيائه ، فعلى أوليائه أن يذكروا به ، وأن يدلوا عليه ؛ إذ أخذ الله عزوجل ذلك عليهم ، ومتى قعدوا عن ذلك كانوا مقصرين.

(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠))

قوله تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) أي : اترك البطّالين الذين شغلوا عنا بحظوظ الكونين ؛ حتى لا يزاحموا مجالس الصديقين ؛ فإنهم محجوبون بحظوظهم عن لذة خطابنا ، وحقائق خبرنا ، ولذة صحبة أوليائنا.

قال الحسين رضي الله عنه : ألا تلاحظ من شغلهم خلقنا عنّا ، وأنسوا بحياتهم في دنياهم ، وهي في الحقيقة موت ، والحي من يكون حيّا.

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٧١) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٢))

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) أي : إن هدى الله الذي بسط شرائعه وحقائقه وطرائقه للأنبياء والأولياء والصديقين والمقربين ، وذلك طريق عرفانه ، والوصول إلى جنان مشاهدته ، وذلك الطريق لأهل معرفته يدل الأولياء على الرضا بقضائه ، والصبر في بلائه والتسليم لمراده ، بحيث لا يكون منهم معارضة ، وهذا معنى قوله : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ).

قال القاسم : الطريق إلى الله هو الأصح ، والقاصد عرصته هو المعان ، قال الله : (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى).

قال أبو عثمان : أمر العبد بالتعليم ، والتسليم ترك التدبير والرضا بمجاري القضاء ، ولما بيّن طرائق الهدى ووصفهم بالإذعان له في مراده منه أمرهم بالصلاة ، وخوّفهم فيها من نفسه ، وذلك قوله تعالى : (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ) إقامة الصلاة ظهور الربوبية في العبودية ، وترائي هلال المشاهدة في الخدمة ؛ لقوله عليه‌السلام : «تعبد الله كأنّك تراه» (١) ، والتقوى هنا معناها : اتقوني في الصلاة ؛ فإنها مقام الهيبة والإجلال والمناجاة من أن يخطر على قلوبكم شيء دوني ، فأحتجب عنكم بامتناعي عن مطالعتكم بعيون مسدودة بعوارض الخطرات.

قال ابن عطاء : إقامة الصلاة حفظ حدودها مع الله ، وحفظ الأسرار فيها مع الله ألا يختلج في سره سواه.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (٧٣) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٧٤) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥))

قوله تعالى : (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ) لمّا أراد تعالى أن يخرج الكون من العدم تجلى من ذاته بصفاته ، ومن صفاته لأمره ، ومن أمره للكاف والنون ، فيقدح أحدهما بالآخر ، فيخرج من بين نورهما الأكوان والحدثان ؛ لاتصال نور الذات بالصفات ، واتصال نور الصفات بالأمر والفعل والكاف والنون ، فيحقق ذلك مراده في الأزل بذلك.

(قَوْلُهُ الْحَقُ) أي : قوله يحقق ما في علمه بنعت إخراجه من العدم إلى الوجود ، بحيث لا يكون في ذرة منه خلل ، يوافق فعله أمره ، وأمره إرادته ؛ لأن له الملك والقدرة الأزلية القائمة بذاته القديم الباقي بوصف الأزل إلى الأبد.

قال الحسين : هو الحق ، ولا يظهر من الحق إلا الحق ، قال الله : (قَوْلُهُ الْحَقُ).

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : كما خصصنا الخليل في الأزل بالخلة ، أريناه ملكوت السماوات والأرض ما يظهر من أنوار صفات الأزلية ، وذات السرمدية من مرائي ملكوت السماوات التباسا لثبوت خلته واستقامة

__________________

(١) رواه البخاري (٤ / ١٧٩٣).

محبته ، وزيادة شوقه إلى جمال القدم ؛ وليكون من المشاهدين لقاءنا في مقام اليقين بواسطة الملك والملكوت.

قال أبو سعيد الخرّاز : أراه ذلك ليطيق الهجوم على عظمته ذكر في مقام الواصلين.

وقال فارس في تفسير الآية : بدايات أعلام الغيوب التي لا تبقي على النفوس غير الله ، وهو دلائل أهل التوحيد عندهم.

وقال بعضهم : أرى الخليل الملكوت لئلا يشتغل بها ، ويرجع إلى مالكها.

وقال بعضهم : أرى الخليل الملكوت ، فاشتغل بالاستدلال على الحق ، فلمّا كشف له عن الحقيقة يتراءى الكل ، فقال : «أما إليك فلا» (١).

وقيل : ليكون من الموقنين بعد معرفة اليقين.

وقال النصر آبادي في قوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) : ولم يقل : أري إبراهيم ، ولا يمكن رؤية الفروع بالفروع ، إنما رأى الفرع من الملكوت بالأصول.

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (٧٦) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨))

قوله تعالى : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) إن الله سبحانه امتحن خليله عليه‌السلام بالبلايا ، ومن جملتها امتحانه برؤية الملكوت ؛ ليشتغل بحلاوة رؤيتها عن مشاهدة القدم ، وكذلك امتحنه في بدايته بمقام الالتباس عند ظهور كوكب تجلّي نور الفعل الخاص في صورة الشعرى ، فنظر إليه حين جنّ عليه ليل الامتحان ، فرأى بعين الإرادة نور فعله الخاص الذي مشربه أنوار الصفة ، فقال بلسان التعجب : (هذا رَبِّي) ، فدار عليه دور الإرادة ، وربّاه بنور القربة ، وبلغه إلى مقام القلة ، فلمّا جنّ عليه ليل الفرقة من مقام الأول برز نور الصفة من معدن الذات ، وظهر من نور الفعل الخاص في القمر له ، فنظر إليه ورأى مشاهدة الصفة في الفعل ، فقال بلسان الشوق : (هذا رَبِّي) ، فدار عليه دور الخلّة ، وربّاه بنور الوصلة ، وبلغه إلى مقام العشق وذوّقه طعم حقيقة طرب سره ، وهاج شوقه إلى طلب الزيادة ، فظهرت أنوار الذات في الصفات ، وظهرت أنوار الصفات والذات في الأفعال الخاصة.

ثم ظهرت أنوارها في الشمس ، فلمّا صفا وقته واندرجت ظلمة ليلة الفراق طلعت

__________________

(١) رواه الطبري في «التفسير» (١٧ / ٤٥).

عليها الشمس ، فنظر إليها ، فرأى مشاهدة جلال القدم في مرآة الشمس ، فقال بلسان العشق : (هذا رَبِّي) فوصل إليه غيرة القدم ، وجرّده عن رؤية الوسائط في رؤية القدم عند رؤيته أفول الآيات بنعت فنائها في عظمة أنوار القدم ، وانكشف له عين القدم صرفا ، ففرّ منه إليه ، وتوحّد بوحدانيته ، وقال للنفس المطالبة حظّها من رؤية الكون المشيرة إلى كوكب الفعل : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) أي : الساقطين في مهوات المحو عند بروز سطوات عظمة الله.

وقال للعقل المطالب حظ رؤية القدرة في رؤية القمر ، الذي هو مرآة نور الصفة : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) الذين بقوا في مقام الالتباس عن رؤية صرف الصفات ، أي : لئن لم يهدني به إليه لبقيت به عنه.

وقال للقلب المطالب حظه من مقام العشق ورغبته في لذة المحبة في رؤية الوسائط ، وفراره من الاحتراق في نيران الكبرياء : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) يفرون إليه من غيره ، وإن كان وسيلة إليه ، فإني أراه بلا واسطة رأيته به لا غير ، برئت من حظي في الوسائط.

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٧٩) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١))

قوله تعالى : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : إني متوجّه بعد تبرئي من الحدث بنعت تجريدي في التوحيد إلى شرف القدم الذي بدا من أنوار فعله كل وسيلة.

وهذا معنى قوله تعالى : (حَنِيفاً) مسلما حنيفا قائدا عمّا دونه ، مسلما منقادا بنعت الرضا عنده.

(وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يسيرون إلى الوسائط ، فإني ذاهب إلى ربي سيهديني منه إليه ، حتى أبقى بنعت الفناء فيه قبل ، كمن فيه كواكب الوحدانية وشموسها وأقمارها ، فغلب بها الشكوك في رؤية الأقمار والنجوم والشموس.

قال الواسطي في قوله : (رَأى كَوْكَباً) : قال : إنه كان يطالع الحق بسيره لا الكوكب ، وكذلك الشمس والقمر بقوله : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) عند رجوعه إلى أوصافه بارتفاع

المعنى البادي عليه ، أي : لا أحب زوال ما استوفاني من لذة المشاهدة ، فأذهلني ، وأحضري فيه.

وقال بعضهم : لمّا أظلم عليه الكون ، وعمي عن الاختيار ، وألجأه الاضطرار إلى نفس الاضطرار ، ورد على قلبه من أنوار الربوبية ، فقال : (هذا رَبِّي).

ثم كوشف له عن أنوار الهيبة ، فازداد نورا ، فصاح ، ثم أفني بنور الإلهية عن معنى البشرية ، فقال : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) ، ثم أبقي ببقاء الباقي ، فقال : (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).

قال الواسطي في قوله : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) : لئن لم يقمني ربي على الهداية التي شاهدتها بإعلام بواديه لأكونن من الضالين في نظري إلى نفسي ، وبقائي في صفاتي.

قيل في قوله : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) من الاستدلال بالمخلوقات على الخالق بعلمي ، إنه لا دليل على الله سواه.

قال الواسطي في قوله تعالى : (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي : مني الدعوة ومن الله الهداية.

وقال جعفر عليه‌السلام في قوله : (إِنِّي وَجَّهْتُ) يعني : أسلمت قلبي للذي خلقه ، وانقطعت إليه من كل شاغل ، وشغل بالذي فطر السماوات والأرض ، فإن الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ، وأظهر فيها بدائع صنعه قادر على حفظ قلبي من الخواطر المذمومة والوساوس التي لا تليق بالحق.

قال بعضهم : كان لإبراهيم خليل الرحمن عليه‌السلام مقامات : الأول : مقام الفاقة ، والثاني : مقام النعمة ، والثالث : مقام المعذرة ، والرابع : مقام المحبة ، والخامس : مقام المعرفة ، والسادس : مقام الهيبة ، فتكلم في مقام الفاقة بلسان الدعوة فقال : (اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ) [إبراهيم : ٤٠] ، وفي مقام النعمة بلسان الشكر ، وقال : (الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) [الشعراء : ٧٩] ، وفي مقام الاعتذار بقوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) [الشعراء : ٨٢] ، وفي مقام المحبة بلسان المودة : (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [الأنعام : ٧٨] ، وفي مقام المعرفة بلسان الانبساط : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) [البقرة : ٢٦٠] ، وفي مقام الهيبة بالسكون لمّا قال له جبريل عليه‌السلام : «هل لك من حاجة؟ قال : أما

إليك فلا» (١).

وقال الأستاذ في قوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) يعني : أحاط جوف الطلب ، ولم يخيل له صباح الوجود ، فطلع له نجم العقول ، فشاهد الحق بسرّه بنور البرهان ، فقال : (هذا رَبِّي) ، ثم زيد في ضيائه ، فطلع له قمر العلم ، فطالعه بشرط البيان ، فقال : (هذا رَبِّي) ، ثم أسفر الصبح ، وطلع النهار ، فطلعت شموس العرفان عن برج شرقها ، فلم يبق للطلب مكان ، ولا للتجويز حكم ، ولا للتهمة قرار ؛ فقال : (يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨)) ؛ إذ ليس بعد الغيب ريب ، ولا عقب الظهور سرّ.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢))

قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) أي : الذين شاهدوا الله بوصف المعرفة والتوحيد لا برسم الاستدلال بالأكوان والحدثان ، ولم يتجاوزوا في مقام المشاهدة عن مقام العبودية إلى مقام الأنائية من مباشرة أحكام الربوبية وحسن تجليها ، فإن العارف إذا بقي عند المشاهدة في مقام العبودية فنعته صحو وتمكين ، وهو في غاية المعرفة ، وهو مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند قوله : «أنا العبد لا إله إلا الله» (٢) ، فإذا تجاوز منه بذوق إدراك نور الربوبية إلى الأنائية ؛ فنعته السكر والتلوين ، وهو في مقام الاضطراب غير بالغ في المعرفة ، كمن ادّعى الأنائية بقوله : أنا الحق وسبحاني ، فإن دعوى الأنائية هاهنا ظلم ، والظلم وضع الشيء في غير موضعه ، فمن بقي بوصف العبودية في المشاهدة وقاه الله بوقاية التوحيد ، والمعرفة الخاصة أن يسلبه غمرات السكر التي توقع السكران إلى هتك الأسرار ودعوى الأنائية.

وهذا معنى قوله : (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) به إليه.

وأيضا : إشارة الآية إلى من لا يرجع في مشاهدة الله إلى الحدثان ، كمّا وصف نبيه عليه‌السلام بمقام الدنو والتمكين في دنو الدنو بنعت الاستقامة في مشهد القرب ؛ حيث ما زاغ سره إلى غيره بقوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) ؛ لأن من التفت منه إلى غيره ، وإن كان الجنة فقد أشرك في حقائق التوحيد (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) ، مقام الأمن لا يحصل لأحد مادام بوصف الحدثية ، وكيف يكون أمنا منه وهو في رقّ العبودية ، ويعرف نفسه بها ، ويعرف الحق بوصف القدم والبقاء وقهر الجبروت.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) تقدم تخريجه.

وقال الله تعالى : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) فإذا رأى الله سبحانه بوصف المحبة والعشق والشوق ، وذاق طعم الدنو ، واتصف بصفات الحق بدا له أوائل الأمن ؛ لأن في صفة القدم لا يكون علّة الخوف والرجاء ؛ لأن هناك جنة القرب والوصال ، وهم فيها آمنون من طوارق القهر ، وهم مهتدون ما داموا متصفين بصفاته ، وإن كانوا في تسامح من مناقشة الله بدقائق خفايا مكره.

قال ابن طاهر في قوله : (لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ) : لم يرجعوا في النوائب والمهمات إلى غير الله ، (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) الكفايات ، (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) راجعون إلى من إليه المرجع.

وقال الأستاذ : أي الذين أشاروا إلى الله ، ثم لم يرجعوا إلى غير الله.

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧))

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩))

قوله تعالى : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) (١) الدرجات : المقامات الشريفة في المعرفة ، والحالات الرفيعة في المحبة ، والكرامات الزكية في المعاملة ، وهي بذاتها طريق إلى الله ، فإذا وصل إليه وفني فيه وبقي معه لم يبق هناك درجات ولا دركات ، إنما هناك سباحة في بحار الآزال والآباد للعارفين والموحدين ، أي : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) من المريدين ، ونوصل من نشاء إلينا بلا قطع المقامات ، والسير في الدرجات من العارفين.

وأيضا : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) درجات العشق والمحبة والشوق ، وهي مراقي القرب ، رقّاهم الله بها إليه أبد الآبدين.

__________________

(١) قال ابن عجيبة : رفع الدرجات في جنات الزخارف يكون بالعلم والعمل وزيادة الطاعات ، ورفع الدرجات في جنة المعارف يكون بكبر اليقين ، والترقي في شهود رب العالمين ، وذلك بحسب التبتل والانقطاع ، والتفرغ من شواغل الحس ودوام الأنس ، والله تعالى أعلم [البحر المديد (٢ / ١٦٩)].

قيل : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) : بصفاء السر ، وصحة الهمة.

وقيل : بخلق السنا والهمة الزكية.

وقيل : بالكون مع الله والفهم عنه.

قوله تعالى : (اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : اجتبيناهم في الأزل بمعرفتنا قبل إيجادهم ، وهديناهم إلى مشاهدتنا بعد إيجادهم ؛ لأن هناك استقامة كل عارف ، ولا يدخل فيهم اعوجاج الخطرات واضطراب البشريات.

قال الجنيد : أخلصناهم لنا ، وأدّبناهم لحضرتنا ، ودللناهم على الاكتفاء بنا عمّا سوانا.

(أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١))

قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) أمر حبيبه عليه‌السلام بالاقتداء بالأنبياء والرسل قبله في آداب الشريعة والطريقة ؛ لأن هناك منازل الوسائط ، فإذا أوصله بالكلية إليه وكحل عيون أسراره بكحل الربوبية ، وجعله مستقلا بذاته مستقيما بحاله ، وخرج من حدّ الإرادة إلى حدّ المعرفة والاستقامة ، أمره بإسقاط الوسائط بقوله : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) [الأعراف : ٢٣].

ألا ترى كيف زجر صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جاء إليه بورق من التوراة ليستأذن منه عليه‌السلام بقراءته والعمل به ، فقال : «أمتهوكون أنتم كما تهوّكت اليهود والنصارى ، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لو كان موسى حيّا ما وسعه إلا اتباعي» (١).

وأيضا : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ) أي : عرفهم ذاته لصفاته ، وعلمهم حقائق آدابه ، وأمر صفيه عليه‌السلام بأن يأمر أمته بالاقتداء بشريعته التي هي شريعة الأنبياء.

ألا ترى كيف قال الله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) [الشورى : ١٣].

وقال الواسطي في هذه الآية : هداهم بذاته ، وقدّسهم بصفاته ، فأسقط عنهم الشواهد والأعراض ، ومطالبات الأعواض ، ملأ لهم إشارة في سرائرهم والعبارة عن أماكنهم.

__________________

(١) رواه البيهقي في الشعب (١ / ٢٠٠).

قيل في هذه الآية : لا تصح الإرادة إلا بالأخذ من الأئمة وبركات نظرهم ، ألا ترى كيف أثر نظر المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصحابه ، فقال : «اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر» (١) ، فلا يصح الاقتداء إلا بمن صحت بدايته ، وسلك سلوك السادات ، وأثّرت فيه بركات شواهدهم.

ألا ترى المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «طوبى لمن رآني» (٢) أي : فاز من أثّرت فيه رؤيتي.

قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) قطع الله بهذه الآية أطماع الحدثان عن إدراك كنه قدمه وغرة أزليته ؛ لأن الحدثان لا يبقى أثرها في جمال سطواته عزة الرحمن ، كيف يعرف قدره من لا يعرفه؟ وكيف يعرفه من لا يعرف نفسه؟ وكيف يعرف نفسه من لا يكون خالق نفسه؟ وكيف يكون خالق نفسه ، والأزلية منزّهة عن الأضداد والأنداد؟! لأن سطوات عظمته لا تبقي للحدثان أثرا في ساحة كبريائه ، عرف قدره بنفسه لا غيره عرف قدره ، بطنان الألوهية لا يدرك ؛ لأنها غير متناهية في العقول ، غير محدودة في القلوب ، غير معروفة بالحلول في الأماكن والأزمنة.

قال الحسين : كيف يعرف أحد حق قدره وهو يقدره ، يريد أن يقدر قدره وأوصاف الحدثان أثر يقع من أوصاف القدم.

وقال بعضهم : ما عرفوا حق قدره ، لو عرفوا ذلك لذابت أرواحهم عند كل وارد يرد عليه من صنعه.

وقوله تعالى : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) أي : إذا وقعت أسرار الواصلين في أودية الألوهية ، وتحيرت أرواحهم في هواء الهوية ، وفنيت عقولهم في سطوات القدرة ، وذابت أشباحهم في طوارق تجلّي المشاهدة ، وما عرفوا مسالك ما يرد عليهم من واردات موارد تجلّي الجمال والجلال ، ويسألونك بنعت الدهش والهيمان ، إيش بنا؟ وأين وقعنا؟ قل بلسان داء المحبة : الله ، أي : ما وقعتم فيه فهو بحر آزال الله ، وقعتم بالله في الله ، وإذا سألك أهل وقائع ظلمات القهر التي حيرتهم في وادي الضلال ، من أين هذا وقع علينا؟ فقل : الله أوقعكم فيها ، ليست الولاية بالمجاهدة ، وليست الضلالة بالعلّة ، ثم ذرهم طائفتين واشتغل بي ، فإن ممازجة الحدثان لا يليق بقلب فيه محبة الرحمن.

وأيضا : قل بلسانك الله ، ولا تقل بلسان سرك ؛ فإن الاشتغال بالذكر عن المذكور حجاب.

__________________

(١) رواه الترمذي (٥ / ٦٠٩) ، وأحمد في مسنده (٥ / ٣٨٢).

(٢) رواه أحمد في مسنده (٣ / ٧١).

وأيضا : إذا فرغت من تبليغ الرسالة توجه إلى الله ممّا سوى الله ، وقل : الله ؛ حيث لم يكن غير الله ، ثم ذر الأكوان والحدثان بعد قولك الله ؛ ليوافق لسان الظاهر سريرة الباطن في المحبة.

قال بعضهم : دعا خواصه بهذه الآية إلى الانقطاع من كشف ما له إلى الكشف عمّا به.

وقيل : (قُلِ اللهُ) إشارة إلى جريان السر ، (قُلِ اللهُ) في سرك ، وذر ما في لسانك.

حكي أن رجلا سأل الشبلي ، وقال : يا أبا بكر ، لم تقول الله ، ولا تقول لا إله إلا الله؟ فقال الشبلي : لا أنفي به ضدّا ، فقال : زد عليّ من ذلك يا أبا بكر ، فقال الشبلي : لا يجري لساني بكلمة الجحود ، فقال : زد عليّ من ذلك ، فقال : أخشى الله أن أؤخذ في وحشة الجحد ، فقال : زد عليّ من ذلك ، فقال : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) [الأنعام : ٩١] ، فزعق الرجل وخرجت روحه ، فتعلق أولياء الرجل بالشبلي ، وادّعوا عليه دمه ، فحملوه إلى الخليفة ، فخرجت الرسالة إلى الشبلي من عند الخليفة يسأله عن دعواه ، فقال الشبلي : روح حنت فدنت ، فدعيت فأجابت ؛ فما ذنبي؟! فصاح الخليفة من وراء الحجاب : خلوه ، لا ذنب له.

(وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩٢))

قوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : مقدس من تهمة الأوهام ، غير مدرك بحقائقه عند الأنام.

وأيضا : مبارك عليك ، وعلى أمتك الصادقين الذين يتبعونه بالشوق والمحبة ، ويفهمونه بالذكر والهيبة ، فيصلون به إلى رؤية خزائن صفات القدم ؛ لأنه صفة تدل كلماته إلى جميع الصفات وعرفانها ونيل خزائنها ؛ لأنه مفتاح كنوز الصفات والذات ، وهو ميمون علا كل عارفيه ، وعلا كل متابعيه بالتدبر فيه ، واقتباس أنواره كما ذكر في موضع آخر : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩].

وأيضا : مبارك ؛ لأنه كتاب الحبيب إلى الحبيب ، فيه أسرار القرب والوصال والتشويق إلى الحسن والجمال ، والتحذير من البعد والفراق ، وهو مسامرة النجوى لأهل النور والتقى ، ومشحون بإشارات العارفين ، ومعجون بمفرحات فؤاد الموحدين ، مكنوناته مصونة عن عيون الأغيار ، ولطائفها محروسة عن مطالعة أهل الاغترار ، وهو يوافق جميع الكتب في تعريف الله بصفاته وذاته وعبوديته ؛ لأنها جميعا من مصدر واحد وصفة واحدة غير متغيرة.

قيل : مبارك على من اتبعه وآمن به.

وقيل : مبارك على من صدقه وعمل بما فيه.

وقيل : مبارك على من فهم عن الله أمره ونهيه.

وقيل : مبارك على من قرأه بالتدبر وعلى من سمعه بالحضور.

وقال الأستاذ : كتاب الأحباب عزيز الخطر ، جليل الأثر ، فيه سلوة عند غلبات الوجد ، ومن بقي عن الوصول بذلك الرسول.

وقيل :

وكتبك حولي لا تفارق مضجعي

وفيها شفاء للذي أنا كاتم

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (٩٣) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٩٤))

قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) إن الله سبحانه بيّن في كتابه شأن الغالطين والمفترين والناحلين الكذب والزور ، المترسمين بالتكلف رسوم العارفين ، وألزمهم سمة الظلم ، وذكر أنهم ظالمون بدعواهم الكذب ، وإشارتهم إلى مقام الأمناء من المحدثين المكلمين بغير وصولهم إلى ذرة منه ؛ تغريرا بالعوام ، وطلبا لجاههم ، وهم خائنون في ذلك ، ولا يرجع مكرهم إلى منقصتهم في الدنيا والآخرة ، وإسقاط جاههم عند الله وعباده ، وسقوطهم عن قلوب رجال الله.

قال تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ؛ لأنهم متشبعون ولم يعطوا ، فضحهم الله بكشف غطائهم عند الخلق ، وإظهار كذبهم عند عجزهم عن الإخبار من مقامات القوم بالحقيقة حين يمتحنهم أهل المعرفة بالله.

قال عليه‌السلام : «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زورا» (١).

وأنشد بعضهم في ذلك :

إذا انسكبت دموع في خدود

تبيّن من بكى ممّن تباكى

__________________

(١) رواه البخاري (٥ / ٢٠٠١) ، ومسلم (٣ / ١٦٨١).

وقال آخر :

أمّا الخيام فإنّها كخيامهم

وأرى نساء الحيّ غير نسائها

فمن ذكر الله سبحانه ورأى لذكره موقعا فهو مفتر ولا يعلم ؛ لأنه تعالى وصف نفسه قبل وصف الخلق نفسه ، وكل وصف بعد وصفه صفة الحدوثية ، وكيف يصفه أحد وهو لا يعرفه كما هو يعرف نفسه ، تعالى الله عن أذكار الغافلين.

قال بعضهم : إن ما لا يليق بجلالة قدره ، وحقيقة شأنه قربه ، وإن كان مأذونا فيه ؛ لأن ذلك على أقدار خلقه وطاقتهم لذلك.

وقال سهل بن عبد الله : من ذكر فقد افترى ، قال الله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) [الصف : ٧] لأذكار الغفلة.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بيّن أن أعمال جميع الخلائق من العرش إلى الثرى مضمحلة عند كشف جلال عظمته ، ونوال جماله لما يبدو لهم أنوار الأزلية ، يتبرأون من جميع أعمالهم ؛ لأنهم يرونها لا تليق بجلال قدره ، ولا يكون موازيا بما يعطيهم الله من سنيات كراماته ، ولطائف برّه ، وحسن مواساته ، وعند رؤية القدم كما كانوا خارجين من العدم.

قال بعضهم : أجل مقام العبد إفلاسه ، والرجوع إليه خاليا من جميع طاعته.

قيل : لأنه [حفص] (١) بماذا تقدم على الله.

قال : وما للفقير أن يقدم به على الغني سوى فقره.

قال الله : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) خالين من أعمالكم وأحوالكم وطاعاتكم.

ولي هاهنا لطيفة أخرى : أي : لقد جئتمونا موحّدين بوحدانيتي ، شاهدين مشاهدتي بوصف الكشف والخطاب ، كما جئتمونا من العدم في بدء الأمر حين عرّفتكم نفسي بقولي : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] ، قلتم : بلى ، بلا إشارة التشبيه وغلط التعطيل ، كما وصفهم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ مولود يولد على الفطرة» (٢) يعني : على فطرة الأزل ، يلزم سمة العبودية بلا علّة الاكتساب عند سبق الإرادة ، وزاد تعالى وضوحا في أثناء الآية بقوله : (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ).

__________________

(١) هكذا بالأصل.

(٢) رواه البخاري (١ / ٤٦٥) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤٧).

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٩٥) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٧))

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) فلق حبة محبته الأزلية في قلوب المحبين والصديقين ، وفلق نوى شجر أنوار الأزل في فؤاد العارفين ، فتثمران أثمارهما بالأعمال الزكية والمقامات الشريفة ، والحالات الرفيعة ، قال تعالى : (أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) [إبراهيم : ٢٤].

قال ابن عطاء : مظهر ما في حبة القلب من الإخلاص والرياء.

قوله تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) فالق إصباح مشاهدته من مطالع قلوب أحبائه حين انتشر نورها من بشرة الربانيين من أوليائه وأصفيائه ، وجاعل الليل سكنا للمستأنسين بحلاوة خطابه ولذائذ كشف جماله.

قال بعضهم : فالق القلوب بشرح أنوار الغيوب.

وقال بعضهم : منور الأسرار بنور المعرفة.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) نوّر نجوم العقول لتعرفوا بها حقائق الآيات ، ونوّر نجوم القلوب لتعرفوا بها أنوار الصفات ، ونوّر نجوم الأرواح لتعرفوا بها لطائف سبحات الذات ، جعل نجوم الأفعال لعرفان الصفات ، وجعل نجوم الصفات لعرفان الذات ، أسرج مصباح قلوبكم من أنوار نجم تجلي الجلال والجمال لتهتدوا ، وتعرفوا ، وتسبحوا بها في ظلمات بحار القهر ، وظلمات براريه لتبلغوا إلى رؤية أقمار الصفات وشموس الذات ، وتنالوا جواهر المعارف من أصداف الكواشف.

قال أبو علي الجوزجاني : جعل الله الليل مطية ودليلا ، فالمطية تركبها في طلب الزلف ، والدليل تستدل به إلى أبواب الرضا ، قال الله : (لِتَهْتَدُوا بِها) إلى طريق الجنة.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (٩٨) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي

ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٩٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (١٠٠) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١))

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) ذكرت في موضع آخر تفسير قوله تعالى : (أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) أنشأ الكل من جواهر الفطرة ، وجوهر الفطرة منشأ نور فعل الخاص ، ومنشأ نور فعل الخاص ظهور الصفة ، وظهور الصفة وظهور الذات تجلّي القدم ، فأخرج الكل من العدم تخصيص لطائف الخطاب بالإشارة إلى نفس واحدة ، أي : بظهور نفس وحدانية أزلية أبدية منزّهة عن الاجتماع والافتراق ، فبعض القلوب مستقرها الملكوت ، ومستودعها عالم الجبروت ، وبعض العقول مستقرها الملكوت ، ومستودعها عالم الجبروت ، وبعض العقول مستقرها الآيات ومستودعها الصفات ، وبعض الأرواح مستقرها الصفات ومستودعها الذات بنعت البقاء في الصفات والفناء في الذات ؛ لأنّ القدم منزّه أن يحل فيه الحدث.

وأيضا : مستقر القلوب المقامات ومستودعها الحالات ، ومستقر العقول العبادات ومستودعها الكرامات ، ومستقر الأرواح أنوار المعرفة من تجلّي الصفات ومستودعها أنوار التوحيد من تجلّي الذات.

قال ابن عطاء : خلق أهل المعرفة على جهة ومنزلة واحدة ، (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) فمستقر في حال معرفة مكشوف عنه ، ومكشوف في حال معرفته مستقر عليه.

وقال بعضهم : مستقر لطاعته وعبادته مع الإيمان به ، ومستودع لذلك زائل عنه بعد موته.

وقال الواسطي : مستقر أنوار الذات على الأبد ، ومستودع لا يعود إليه إذا فارقه.

قال محمد بن عيسى الهاشمي : لم يزل عالما بخلقه شائيا كما أراد ، أودع اللوح ما استقر في كلامه ، ثم أودع إلى اللوح المقادير ما استقر فيه ، ثم كذلك حالا بعد حال حتى بلغه إلى درجة السعادة والشقاوة ، وذلك قوله : (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ).

قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مخرجها بصورة العلم الأزلي على نعت اختراعه بالقدرة القادرية ، والحكمة الحكيمية ، فلا أخذ من مأخذ المشاكلة والمشابهة ؛ فإنه تعالى ناظرهما بما كان في علمه من منقوش الحكمة ، وسنا القدرة ، وجلال العزّة ، كساهما أنوار فواتح قدرته ، وضياء بهجته لطائف علمها ؛ ليجعلهما أسباب عبادة عباده ، ومعاش جميع

خلقه.

قيل : هو المبدع للأشياء والمبدي لها.

وقال بعضهم : فاق الأشياء جمالا وكمالا.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣))

قوله تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) لمّا وصف تعالى نفسه بالقدرة الكاملة في خلق الكون ، وعرّفهم نفسه بإظهار الآيات ، ونفى عن نفسه علّة الحدثان ، وعرّفهم بتنزيه صفاته ، وإفراد ذاته وصفاته من بين الأضداد والأنداد ، ووصف جلاله بالوحدانية الأزلية ، وعرّفهم قدس ذاته وصفاته بخطابه معهم بوصف تلك النعوت ، ألزمهم بعد ذلك العبودية صرفا بقوله : (فَاعْبُدُوهُ) أي : اعبدوا من هذا وصفه ، ولا تتكلموا إلى غيره ، فإن الكون وما فيه خاضع لعظمته بعد أن كان في قبض عزته ، لا يضرّ ولا ينفع إلا بمشيئته الأزلية ، وإرادته القديمة ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي : أنا ملجأ الكل ، ومفزع ذوي الحاجات ، ومناص صواحب العاهات.

قال الأستاذ في الآية : تعرّف عليهم بآياته ، ثم تعرّف إليهم بصفاته ، ثم كاشفهم بحقائق ذاته بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تعريف السادة والأكابر ، وقوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) تعريف العوام والأصاغر.

ثم وصف نفسه عقيب الآية بالتنزيه عن إحاطة أبصار الحدثان به ، وعجزهم في حواشي ساحات كبريائه عن درك مكنون أسرار قدمه ، وإحاطة علمه ، وقدرته بجميع زلات الوجود.

قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) لا تدركه الأبصار إلا بالإبصار ، مستفادة من أبصار جلاله ، وكيف يدركه الحدثان ووجود الكون عند ظهور سطوات عظمته عدم؟!

(وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) ببصره القديم المنزّه عن المشابهة بالحدثان ، بأن يكسوها أنوار صفاته لتراه لا بنفسها ؛ لأنه بلطف ذاته ممتنعق عن مطالعة خلقه مع علو شأن علمه وإحاطته بجميعهم وجودا وعدما بقوله تعالى : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) من لطف جماله انجذاب القلوب بنعت العشق إلى ضياء وجهه الكريم عجزا واضطرارا ، من لطفه غرقت الأرواح في بحار محبته ، وفنيت الأسرار في فضاء هويته ، ودهشت القلوب في معارك أشواقه ،

واضمحلت العقول في بيداء ألوهيته من إدراك غوامض علمه.

قال أبو يزيد في قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) : إن الله احتجب عن القلوب ، كما احتجب عن الأبصار ، فإن أوقع تجليّا فالبصر والفؤاد واحد.

وقيل : معناه أن الله يطّلع على الأبصار بالتجلي لها ؛ لأن الأبصار تسمو إليه.

قال الحسين في قوله : (اللَّطِيفُ) (١) قال : لطف عن الكنه فأنّى له الوصف؟! ومن لطفه ذكره لعبده في الدهور الخالية ؛ إذ السماء مبنية والأرض مدحية.

قيل : سبق الوقت وإظهار الكونين وما فيها ، فهذا معنى لطيف.

وقال القاسم : اللطيف الذي لم يدع أحدا يقف على ماهية سره ، فكيف الوقوف على وصفه؟!

قال ابن عطاء : لا تدركه الفهوم ، وأحاط بكل شيء علما.

وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) : «لو أن الجنّ والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفّا واحدا ما أحاطوا بالله أبدا» (٢).

وقال الجنيد : اللطيف من نوّر قلبك بالهدى ، وربّى جسمك بالغذاء ، وجعل لك الولاية في البلوى ، ويحرسك وأنت في اللظى ، ويدخلك جنة المأوى.

وقيل : اللطيف الذي إن دعوته لبّاك ، وإن قصدته آواك ، وإن أحببته أدناك ، وإن أطعته كفاك ، وإن عصيته عافاك ، وإن أعرضت عنه دعاك ، وإن أقبلت إليه هداك.

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (١٠٤) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١٠٥) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (١٠٦) وَلَوْ شاءَ

__________________

(١) اللطيف من يعطي قدر الكفاية ، وفوق ما يحتاج العبد إليه ، ويقال : من لطفه بالعبد علمه بأنه لطيف ، ولولا لطفه لما عرف أنه لطيف ، ويقال : من لطفه أنه أعطاه فوق الكفاية ، وكلّفه دون الطاقة ، ويقال : من لطفه بالعبد إبهام عاقبته عليه ؛ لأنه لو علم سعادته لاتّكل عليه ، وأقلّ عمله ولو علم شقاوته لأيس ولترك عمله ؛ فأراده أن يستكثر في الوقت من الطاعة ، ويقال : من لطفه بالعبد إخفاء أجله عنه ؛ لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله ، ويقال : من لطفه بالعبد أنه ينسيه ما عمله في الدنيا من الزلّة ؛ لئلا يتنغّص عليه العيش في الجنة ، ويقال : اللطيف من نوّر الأسرار ، وحفظ على عبده ما أودع قلبه من الأسرار ، وغفر له ما عمل من ذنوب في الإعلان والإسرار [تفسير القشيري (٧ / ١٧٧)].

(٢) رواه العقيلي في الضعفاء (١ / ١٤٠).

اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (١٠٧))

قوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) منّ الله سبحانه على عباده بمجيء بصائر آياته التي تبرز نعوت الأزلية منها ، وكلماته التامات التي تتجلى لذوي الحقائق منها ، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه : «إنّ الله تعالى يتجلى لعباده في القرآن» ، وبتلك البصائر كحّل الله أبصار العارفين كحل أنوار صفاته وسنا سبحات ذاته ، فمن كان له استعداد النظر إليها بنعت البصيرة وجد طريق الرشد لنفسه ، ومن ليس له استعداد النظر والبصيرة صار محتجبا من رؤية صفائح القدس في الآيات ، وصحائف الأنس في الكلمات.

قال الخواص : أنزل الله البصائر ، فطوبى لمن رزق بصيرة منها ، وأدنى البصائر أن يبصر الإنسان رشده.

قوله تعالى : (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) صرف الله فهم خطابه عن قلوب الأعداء ، وفسح لطائفها وحقائقها للأولياء ؛ لأن خطاب الحبيب لا يعرفه إلا الحبيب يلطف بأهله ؛ حيث وهبهم فهم كلامه ، حتى أدركوا بمواهبه السنية التي أودعت قلوبهم أنوار الغيوب والعلم بإدراك مكنون خطابه ؛ لذلك منّ على الموصوفين بهذه الصفة بقوله : (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي : لقوم يعرفون قدرتي ويفهمون خطابي ، لا لمن لا يعرف مكان خطابي ومرادي من كلامي.

قال ابن عطاء : القوم يعلمون حقيقة البيان ، وهو الوقوف معه حيثما وقف ، والجري معه حيثما جرى ، لا يتقدمه بغلبة ولا يتخلف عنه لعجز.

قوله تعالى : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) لمّا ذكر تعالى بيانه لعموم أهل العلم لمتابعتهم أمره خصّ عليه‌السلام بما بينهما من أسرار الربوبية ولطائف المحبة وحقائق الانبساط في المقامات والحالات ، وأفرده بها عن جميع الخلق ؛ حيث لا طاقة للخلق لمطالعة تلك الأسرار ، ولا قوة لهم لحمل واردات تلك الأحوال غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه مؤيد بالقوة الأزلية والنصرة الأبدية.

قال تعالى : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي : استعد لحمل واردات سطوات الألوهية ، وجذبات أنوار نعوته الأبدية ، وإنها خاصة لك ، ألا ترى كيف وصف نفسه له في وسط الآية بالفردانية والتنزيه عن أشكال الخليقة بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : هو بوصفه تجلى لك بنعته ووصفه حيث كنت ، خلقت بنعت استعداد تحمل ظهور الأزلية ، وإذا كنت كذلك أنت لا تليق بالمشيرين إلى غيره ، فأنت أعزّ وأفضل من أن يكون معك في هذا المقام

أحد من المغيرين بحالهم ، وهذا معنى قوله سبحانه : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).

وكان عليه‌السلام له مقامات في الوحي ، كان له وحيّ خاص الخاص له لا لغيره ، وذلك موضع سر السر في دنو الدنو ، حيث خصّه الله بذلك بقوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ١٠] ، وله وحيّ خاصّ له ولخواصه وإخوانه من الأنبياء والأولياء بقوله تعالى : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) [الشورى : ١٣] ، وله وحيّ عامّ ، وهو قوله تعالى : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [الأنعام : ١٦].

قال بعضهم : الوحي سرّ عن غير واسطة ، والرسالة والإنزال ظاهر وبواسطة ؛ لذلك قال : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ؛ لأن الوحي كان خاصّا له مستورا ؛ لقوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ، (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [الأحزاب : ٢] ، والإشارة للأولياء في ذلك تأديبا لهم ، حيث يتعارض إلقاء العدو ووحي الله ، أي : دعوا ما سوى الوحي من الهواجس والوسواس ، واتبعوا ما يجل في قلوبكم من الخطاب الذي وصفه قدس القلوب ، من الخواطر والعوارض ، ألا ترى إلى قوله عليه‌السلام لوابصة : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (١) ، و «استفت قلبك ، ولو أفتاك المفتون» (٢).

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٠٨) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣) أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ

__________________

(١) رواه الترمذي (٤ / ٦٦٨) ، والنسائي في الكبرى (٣ / ٢٣٩).

(٢) رواه أحمد (٤ / ١٩٤).

الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨))

قوله تعالى : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) إن الله سبحانه ابتلى العموم بالدنيا وأعمالها في نفع الجاه والمال ، وابتلى الخصوص برؤية المعاملات الأخروية ورؤية أعواضها ، فمن كان غير أهله أبقاهم فيها ، وحجبهم بها عن لذّة قربه ووصاله ، ومن كان أهلا له من العارفين والمتحققين رفعها عن عينه حتى لا يرى وزنا ، ولا يزنها مقدار عند رؤية امتنانه بما سبق لهم من اصطفائيته وخاصيته بالولاية والمعرفة ، زيّن للبطالين شرور أعمالهم النفسانية حتى يروها مستحسنة ، (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤)) [الكهف : ١٠٤].

قال تعالى : (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) ، وزيّن للمجاهدين أعمالهم في العبادة حتى يزيد رغبتهم فيها.

قال الواسطي : زينت الأعمال عند أربابها ؛ فأسقطوا بها عن درجة المتحققين إلا من عصم بنور المشاهدة ، فشاهد المنّة في التوفيق بل شاهد المنان.

قوله تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) أضاف الحق سبحانه تقليب القلوب والأبصار إلى نفسه ، فكل موضع قلب القلوب إلى رؤية صفاته وذاته بنعت المحبة والشوق والمعرفة اتبعتها الأبصار بمطالعتها أنوار القدرة والعزّة في الآيات ، فوافقت الأبصار القلوب بتصحيح المعاملات وتقديس الأسرار وصفاء الحالات ، وكل موضع صرف القلوب عن الإقبال إليه انصرفت الأبصار عن مطالعة المشاهد في الشواهد ؛ لذلك استعاذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي» (١).

قال النصر آبادي : النفوس في التنقيل ، والقلوب في التقليب ؛ لذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا

__________________

(١) رواه الترمذي (٤ / ٤٤٨).

مقلّب القلوب» (١).

وقال أبو حمزة : أقبل الله على قلوب فأقبلت عليه ، وأعرض عن قلوب فأعرضت عنه.

قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أخبر تعالى عن سابق كلماته الصفاتية الأزلية يكلم بها بنفسه مع نفسه في نفسه ؛ لاختصاص أهل ولايته واصطفائيته بخالصة محبته ، واجتبائه صفوة أهل معرفته وتوحيده بغير علّة اكتسابهم خيرا وشرّا ولا نقضا لإبرام قضيته ، ولا ناقضا لميثاق مشيئته ، سبقت منه العناية لهم بوصف استجلاب أرواحهم إلى معادن قدسه ، واجتذاب قلوبهم إلى مجالس أنسه ، تمت كلمته بحسن قبولهم ، حيثما اشترط علّة العبودية ، وتمام كلماته صدق مواعيده بلطف عنايته بلا مكافأة منهم لها ، وهو تعالى بذلك عادل ؛ حيث اصطفاهم بوضع خزائن معرفته في قلوبهم ، وهو لها أهل ، ولهم من عنايته استعداد لقبول أمانته بشرط الرعاية ، واصطفاء أسماع قلوبهم بحياطتها حتى لا تشوبها أذكار الحدثان وخطرات الطغيان ، لا مبدل لكلماته ، لا يدخل في ديوان سبق رحمته لأهل عنايته طوارق قهره من علّة ما طرأ عليهم من وارد امتحانه ، كما قال تعالى : «سبقت رحمتي غضبي» (٢).

قيل في تفسير قوله : (صِدْقاً وَعَدْلاً) : صدقا للأولياء تفضلا عليهم ، وعلى الأعداء أخذهم بميزان العدل.

قال مقاتل : صدقا فيما وعد ، وعدلا فيما حكم.

(وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠))

قوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وصف الله سبحانه أئمة الضلالة أنهم سقطوا من طريق الصواب ، فلمّا رأوا فضاحة أنفسهم أرادوا أن يكون أهل الإرادة من الصديقين مثلهم ، فيزينون لهم طريق الشهوات ، قال تعالى : (وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة : ٧٧] ، وذلك من جهلهم الله ، ويعلمه الذي شامل على كل موجود.

__________________

(١) تقدم في سابقه.

(٢) رواه البخاري (٦ / ٢٧٤٥) ، ومسلم (٤ / ٢١٠٨).

قال القرشي في تفسيره قوله : (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يتبعون مرادهم ، ويتركون أوامر الكتاب والسنة.

قوله تعالى : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) ظاهر الإثم ما ذمّه الكتاب والسنة ، وباطن الإثم ما ذمّه باطن علم الكتاب والسنة.

وأيضا : ظاهر الإثم ما لم يوافقه العقول ، وباطن الإثم ما لم توافقه القلوب.

وأيضا : ظاهر الإثم ما يعوج الجوارح عن طريق السنة ، وباطن الإثم ما يشوش القلوب عند رؤيته المشاهدة.

وأيضا : ظاهر الإثم حبّ الدنيا ، وباطن الإثم حبّ الجاه.

وأيضا : ظاهر الإثم ما يغرك برؤوسها من الأعمال ، وباطن الإثم ما يسكن إليه قلبك من الأحوال.

قال بعضهم : ظاهر الإثم رؤية الأفعال ، وباطنه الركون إليها في السرّ باطنا.

قال سهل : اتركوا المعاصي بالجوارح ، وحبها بالقلوب.

قال الشبلي : ظاهر الغفلة ، وباطنه لسان المطالعة عن السوابق.

وقيل : باطن الإثم خفي العقائد ، ومسترقات الألحاظ.

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٢) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (١٢٤) فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (١٢٥) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦))

قوله تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) بيّن الله سبحانه من الناس خلق على طبع الشياطين بقوله : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) ، وهم أهل السالوس ، والناموس ، والمتقشفين بزي الظاهر ، المدّعين مقامات أولياء الله ، يأخذون مزخرفات

الشياطين بقلوبهم ، ويترفعون بألفاظ الطامات ، ويغزون بها من لا يعرف الحق من الباطل.

قال أبو عثمان المغربي في هذه الآية : يلقون على ألسنة المدعين ما يقطعون به الطريق على المتحققين ، ولمّا ذمّ الله المدعين الذين ماتت قلوبهم في ظلمات الطغيان واحتجبت بها عن أنوار العرفان وصف بعد ذلك إحياء المعارف بأنوار الكواشف بعد أن كانوا محجوبين بالعدم عن نور القدم بقوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) أي : أو من كان ميتا بالعدم فأحييناه بنور القدم.

وأيضا : أو من كان ميتا بالمجاهدات فأحييناه بروح المجاهدات.

وأيضا : أو من كان ميتا بشهوات النفس فأحييناه بصفاء القلب ، ومن كان ميتا بالخليقة فأحييناه برؤية الحقيقة.

وأيضا : من كان متمنيا برؤية الثواب ، فأحييناه برؤية المآب إلى الوهاب.

(وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) أعطيناه نور الفراسة يحكم باستشراق قلبه على الهموم بنور الفراسات في قلوب الناس.

وأيضا : ألبسناه أنوار الغيب فيكون سراجا بين الناس لهداية الناس بإنقاذهم من وثائق الوسواس.

وأيضا : كسينا روحه نور مشاهدتنا ، وعقله نور آياتنا ، وقلبه نور صفاتنا ، وسره نور ذاتنا ، وصورته نور حضرتنا ، وجعلنا جميع وجوده نورا بين الخلائق ؛ ليهتدي به كل ضال من سبيل الرشاد هذا كالذي في ظلمات طبيعته ونفسه ، وهاوية هواه متحيّر لا يهتدي إلى طريق الحق ؛ لأنه في حجاب القهر أبدا ، ووصف امتنانه على المريدين الصادقين ، وتفضله على المقبلين ، وقهره على المفلسين ، وأضاف الهداية والضلالة إلى عنايته الأزلية وكفايته الأبدية وقهره السابق في المشيئة ، وسمي المريد الصادق ميتا قبل وجدان نوره وروح حياته قربه ؛ لأنه كان من المقصرين ، وإن كان بعد ذلك من المتوفرين ؛ لأن أكابر المعرفة كانوا أحياء في بساتين لطف مشاهدته تحت أذيال ألطاف قربه أحياء من الأزل إلى الأبد.

قال جعفر عليه‌السلام في قوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) بنا ، وجعلناه إماما يهتدي بنور الأجانب ويرجع إليه الضّلال (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) كمن يرى شهوته وهواه ، فلم يؤيد بروائح القرب ومؤانسة الحضرة.

قال ابن عطاء : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) بحياة نفسه وموت قلبه ، (فَأَحْيَيْناهُ) بإماتة نفسه وحياة قلبه ، سهّلنا عليه سبل التوفيق ، وكحّلناه بأنوار القرب ، فلا يرى غيرنا ، ولا يلتفت إلى سوانا.

قال الجريري : إذا أحيى عبدا بأنواره لا يموت أبدا ، وإذا أماته بخذلانه لا يحيى أبدا.

وقال جعفر عليه‌السلام : أو من كان ميتا بابتعاده عن الطاعات (فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ) نور التضرع والاعتذار.

وقال بعضهم : (مَيْتاً) برؤية الأفعال (فَأَحْيَيْناهُ) برؤية الافتقار.

قال القاسم : أحيا أولياءه بنور الانتباه كما أحيى الأجساد بالأرواح.

وقال سهل : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) بالجهل (فَأَحْيَيْناهُ) بالعلم.

وقال ابن عطاء : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) بالانقطاع عنا (فَأَحْيَيْناهُ) بالاتصال بنا (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً) أيضا ، لا كمن تركناه في ظلمة الانقطاع.

وقال الأستاذ : الإيمان عند هؤلاء القوم حياة القلب بالله ، وأهل الغفلة إذ ألهموا الذكر ، فقد صاروا أحياء بعد ما كانوا أمواتا ، وأرباب الذكر لو اعتراهم نسيان ، فقد ماتوا بعد الحياة ، والذي هو في أنوار القرب ، وتحت شعاع العرفان ، وفي روح الاستبصار لا بدّ أنه من هو في أسرار الظلمات ، ولا يساويه من هو رهين الآفات.

وقد وجد خاطري خاصية لطيفة في حقيقة تفسير الآية : إن المراد بالميت : الفاني في عالم نكرة التوحيد ؛ حيث بدت له صواعق سطوات الكبرياء والعظمة ، فأحياه بروح بقائه ومشاهدة أبديته ، حيث ينتعش من بيداء النكرة بأنوار المعرفة ، يمشي بالأسرار والأرواح في أنوار البقاء ، لا يحتجب عن أنوار جمال وجهه أبدا ، فيحيي به كل قلب ميت ، وتطمئن برؤيته كل نفس مفترة عن طاعة ربها ، مفتونة بظلمات شهواتها ، ولمّا استأثر إحياء ميته وإعطاء نوره لنفسه ومدحه بذلك وبيّن مزيته على المدبرين حصّن نفسه بالعلم الإلهي بوضع ولايته ورسالته في الأماكن المستعدة بقبول نوره وهدايته بقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ، بيّن أنه يعلم من بطنان صميم الفؤاد والأرواح والأسرار ، وخزائن مواهبه السنية من النبوة الولاية والرسالة والمحبة والمعرفة ، ونبّهنا بأنه أراد في الأزل وضع ودائع أسراره في ملكوت القلوب ، فنظر من نفسه إلى نفسه ، فأشرق نور صفاته وذاته ، وسطع ضياء مشاهدته ، ثم عكس ذلك إلى غيب غيبه ، فأظهر منه أرواح القدسية الملكوتية اللاهوتية ، فوضع في نفوسها أنوار الولاية والرسالة والنبوة ، وأفردها بتلك الخاصية عن جميع الخلائق تفضلا وكرما ، ما اعترته في ذلك علّة الحوائج ، لكن جعلهم سبل الخلق والمناهج ، بهم يهتدون إلى عبودية خالقهم وعرفان ربوبية سيدهم ، ومن خصّه الله بذلك لا يضرّه حسد الحاسدين ولا كيد الكائدين ، بل يزيد شرفه أبد الآبدين ، والحمد لله الذي خصّ نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إرغاما لأنوف عواديه ، وانتصارا لمواليه.

وقال النصر آبادي : الله تعالى يعلم الأوعية التي تصلح لسره ومنازلاته ومكاشفاته ، فيرنيها بخواص الأنوار ، ويلطفها بلطائف الاطلاع.

قال أبو بكر الوراق : كما أن الملوك يعلمون مواضع جواهرهم وخزائنهم ، ويجعلونها في أشرف الأماكن وأروحها وأخصها ، فالله يعلم حيث يجعل ويضع نبوته ورسالته وولايته ، ثم إن الله سبحانه إذا أراد أن يضع جوهر معرفته في وعاء قلب عبده يفسحه نور تجليه ، ويكسيه لباس نور كسوة ربوبيته ؛ ليطيق حمل أثقال أمانته من المعرفة والمحبة والولاية ؛ ليسهل عليه حمل عظيم ودائع أسراره ، وفوائد طوارق أنواره ، بقوله : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) أي : من يرد الله أن يهديه إلى نفسه ويعرفه صفاته ، ويريه جلال ذاته ، يوسع صدره بلطيف أنوار قربه وحلاوة خطابه حتى يعرّفه به لا بسواه ، ويراه بنوره لا بنفسه.

قال النهرجوري : صفة المراد خلوة ممّا له وقبوله ممّا عليه ، وسعة صدره بمراد الحق عليه ، قال الله : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ).

يقال في هذه الآية : نور في البداية هو نور العقل ، ونور في الوسائط هو نور العلم ، ونور في النهاية هو نور العرفان ، فصاحب العقل مع البرهان ، وصاحب العلم مع البيان ، وصاحب المعرفة في حكم العيان.

وفي تفسير هذه الآية أخبر نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كيفيته وأماراته فيما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) ، قالوا : يا رسول الله ما هذا الشرح؟ قال : نور يقذف في القلب ، فيفسح له القلب. فقيل : هل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال : نعم. قيل : وما هي؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل النزول» (١).

بيّن عليه‌السلام بوقوع نور التجلي في القلب فسحته بانتشار سناه فيه بعدما خلا بالله من بوادي أسراره ، وإلباسه ضياء قربه ووصاله ، وذلك محض الجذب بنعت العناية إلى مشاهدته ، فنعته في ذلك التسارع في عبوديته ، وسرعة القيادة لظهور ربوبيته ، وغلبة شوق جماله عليه عند تجافيه عن كل مألوف ومحبوب ، وهذا أحسن الصراط إلى الله ، المستقيم عن الاضطراب من جهة النفس والاعوجاج ، بإلقاء العدو بقوله : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) الصراط المستقيم بالحقيقة طريق الصفات إلى الذات بنعت المعارف والكواشف.

__________________

(١) ذكره ابن كثير في التفسير (٢ / ١٧٥).

والإشارة : في قوله : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) دليل قوليّ ؛ لأن هذا إشارة إلى القرآن ، والقرآن صفته القديم ، وهو طريق إلى ذلك القديم بنعت مباشرة التجلّي ووجدانه بوصف المحبة والمعرفة.

قال ابن مسعود رضي الله عنه : صراط ربك هو القرآن ؛ لذلك ارتضى لنفسه ؛ لأنه صفته وهو صراط ممهد لسير الأرواح من معادن الأشباح إلى عالم الأفراح ، مستقيم لقوامه بذاته القديم ، لا ينقطع المعتصم بحبله والمقتدي بأسوته.

وأيضا فيه نكتة شريفة وهي : أن قوله : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ) خصّه لنفسه ، أي : هو يأتي بنعت تجلّيه وظهور الصفات والذات بهذا الطريق إلى أصفيائه وأوليائه وأحبائه ، لم يقل : هذا صراطكم إليّ ، بل قال : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ) الذي أكشف فيه نقاب الحشمة عن جمال وجهي ، حتى ينظر إليّ من يتمسك بحبلي ، والمقبل إليّ بصراطي.

قال أبو عثمان : أهدى الطرق وأقومها طريق المتابعة ، وأهدى السبل وأضلها طرق الدعاوى بالمخالفة.

قال سهل : التوحيد والإسلام صراط ربك مستقيما ، ولمّا هداهم إلى صراطه المستقيم ، ومنهجه القويم الذي ينكشف جلاله وجماله لسالكه ، الذي لم يكن لإقباله إدبار ، ولم يكن لهفواته إصرار ، وصفهم بالسلامة في دار رضوانه ومربع غفرانه ، وجعل لهم هناك منازل الرفاهية ، وفتح فيها عليهم روازن العافية ، التي هي مشاهدته بلا حجاب بقوله تعالى : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ).

(لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢٧) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (١٣١) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢))

قوله تعالى : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) دار السلام : ساحة جلاله

وحظائر قدس صفاته ، ومساقط وقوع أنوار الجلال ، التي هي منزّهة عن خطر الحجاب وعلّة العتاب وظرفان العذاب ، حاشا منها عند الكريم الوهاب ، الذي هو وليهم بنعت رعايتهم ، وكشف جماله لهم بالعوافي الأبدية والسلامة السرمدية.

وأيضا : (السَّلامِ) هو الله سبحانه الذي وصف نفسه بالسلام ؛ لئلا يفرق منه قلوب العارفين ، ولا يفزع من جماله أرواح المحبين ، ولا يخاف من جلاله أسرار الواصلين ؛ لأنه معدن سلامة المقبلين إليه بنعت المحبة ، وداره قلوب عشاقه التي هي محل كنوز أسراره ومواهب أنواره ، ومعدن أنبائه العجيبة ، ولطائفه الغريبة ، وفواتح لوامع سبحاته الأزلية ، وهي بتقلبه في أنوار الصفات والذات بقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، ولقول صفيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاء» (١) ، وهو وليّهم تعالى بحفظها ورعايتها ؛ حتى لا يدخلها هواجس النفسانية ، وغمرات وساوس الشيطانية ، ما أحسن مناظرها! وما ألطف مطالعها! وما أكرم لطائفها! وما أنعم بهجتها! وما أطيب حلاوة محبتها!.

وأيضا : علّقهم بالدار الكرامة الجار ، ولو علّقهم بالجار لم يبق في البين ؛ لحديث الدار ، لكن بقي في القوم بعض إزاغة أبصارهم بنعت الالتفات عند الامتحان إلى غير وجه الرحمن من النعيم والجنان ، فعلّقهم بها لوقوع علّة الحدثان ، لكن بفضله ما خلاهم فيها حين قال : (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) يعني : يرفعهم عن رؤية الغير في البين ، قال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي : كل حادث مضمحلّ عند انكشاف وجه القدم.

وإذا كان تعالى بنفسه دعاهم فإن جميع المنازل طابت ، إما في الدنيا ، وإما في الآخرة ؛ لأن بحفظه طابت الأكوان ، وبحسن جواره تلذذت الحدثان ، وأنشد في معناه :

سلام على سلمى وإن شطّ دارها

سلام على الأرض قديم بها العهد

سلام على جاراتها لجوارها

سلام حزين وامق شفّه الصّدّ

إذا نزلت سلمى بواد فماؤها

زلال وسلسال وتيجانها ورد

يا عارف لو تراه في وسط النار بردا وسلاما

وتكون جمراتها وردا وريحانا

ألا ترى إلى قوله سبحانه في وصف خليله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أدخله في دار سلامته ، (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) [الأنبياء : ٦٩].

انظر إلى شأن البدوي العاشق كيف يقول في حال حبيبه :

يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى

إليكم تلقّى طيبكم فيطيب

__________________

(١) رواه ابن أبي عاصم في السنة (١ / ١٠١).

وما ذاك إلّا حيث أيقنت أنّه

يمرّ بواد أنت منه قريب

وأيضا :

أهوى هواها لمن كان ساكنها

وليس بالدّار لي همّ ولا حظر

وأيضا :

إنّي لأحسد جاركم بجواركم

طوبى لمن أضحى لدارك جارا

يا ليت جارك باعني من داره

شبرا فأعطيه بشبره دارا

قال سهل : دار السلام هو الذي يسلم فيه من هواجس نفسه ووساوس عدوه.

قال بعضهم : دار السلام هو محل السلامة من القطيعة.

قال بعضهم : دار السلام هو الذي يكرمهم الله فيه بالسلام عليهم ، وهو قوله (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) [الرعد : ٢٤].

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (١٣٣) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (١٣٤) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (١٣٥) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (١٣٦) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١٣٧) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣٨) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٣٩) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِراءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (١٤١))

قوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) أخبر تعالى عن الصفتين القديمتين الصادرتين من الأزل للعموم والخصوص من الحدثان ، بفنائه استغنى عن طاعة المطيعين ، وبرحمته رحم كل العاصين ، حين لا ينفعه طاعة المطيعين ، ولا يضره عصيان العاصين ، ملابسة أقطار الحدثان من لطائف الإنعام من بحار رحمته مطر لطفه على الأنعام ، غناه أغنى العارفين عن الكونين ، ورحمته شملت كل العالمين ، فقال : سماع غناه يوجب محوهم ، وسماع رحمته يوجب صحوهم.

وقال الأستاذ : (الْغَنِيُ) يشير إلى غيره ، والرحمة تشير إلى لطفه ، أخبرهم بقوله : (الْغَنِيُ) عن جلاله ، وبقوله : (ذُو الرَّحْمَةِ) عن أفضاله ، فبجلاله يكاشفهم فيفنيهم ، وبأفضاله يلاطفهم فيحييهم.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) إن لله سبحانه في قلوب العارفين جنان ورد المشاهدات وعبر المكاشفات ، وزهر الجمال ، ونور الوصال وياسمين المودة ، ورياحين الزلفى ، فبعضها معروشات بكرم حقائق معاملاتها وحالاتها ، بحيث تلاصق ثمراتها إلى حضرة القديم ، وأنوار معارفها تسطع إلى سماء اليقين ؛ لقوله سبحانه : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠] ، وذلك من جذب الله صميمها وأغصان أنوارها إلى قربه بقوة أزلية في إرفاعها إليه ، ويضع ثمراتها غير معروشة لبقائها على أشجار الهموم والفهوم ؛ ليتناولها كل طالب وكل مريد صادق ، تحلها هو الإيمان الثابت في أرض القلب ، وفرعها في عالم الملكوت ، قال تعالى : (أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) [إبراهيم : ٢٤] ، وزروعها تنبت فيها من بذر المحبة ، وهي مختلفة ثمراتها ، فمنها الأنس ، ومنها القدس ، ومنها الشوق ، ومنها العشق ، ومنها الخوف ، ومنها الرجاء ، ومنها العصمة ، ومنها المعرفة ، ومنها التوحيد ، ومنها التجريد ، وزيتونها إخلاصها ، تنبت من أنس الوصال بدهن نور الجمال ، وصبغ صبح الجلال متشابها في لباس الالتباس ، منبتها في منظر نور التجلي.

قال تعالى في وصفها : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ) [النور : ٥٣] ، ووصفها أيضا بقوله : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) [المؤمنون : ٢٠] ، ومن هاهنا خاطب كليمه يقوله : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) [القصص : ٣٠] ، ورمانها شجرة الإلهام الذي ثمره

حكمة الحقائق ولطائف الدقائق.

(مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ) مقاماتها بعضها متدانية من بعضها ، وبعضها متباعدة من بعضها ؛ لأن بعضها معاملات وبعضها حالات واردات ، وبعضها مكاشفات ، وبعضها أسرار ، وبعضها أنوار ، فخاطبهم رب هذه البساتين بأن يستمتعوا بثمراتها ومنافعها لزيادة قوة الإيقان ونور الإيمان بقوله : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ).

ثم أمرهم بأن يعطوا زكاة هذه النعم المتواترة إلى المريدين الطالبين بإخراج لطائفها بنعت البيان على لسان العلم ، ونشر فضائل المقامات والحالات بقوله : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ) أي : يوم أكملت الأحوال ، واستقيمت الأعمال بنعت التمكين والاستقامة.

ثم أمرهم بألا يبخلوا ، ولا يكتموا عن أهلها هذه النعم الغيبية المستفادة من لطف الله العزيز بقوله : (وَلا تُسْرِفُوا) فإن كتمانهم عن أهلها ظلم وإسراف (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (١) يعني : من كتمانها يكون محتجبا بعدها ، ما هذه البساتين ، ما أطيب ثمراتها! وما ألطف زهراتها! وما أعذب أنهارها! وما أشرق شموسها! وما أنور أقمارها! وما أزهر خضرتها! وما أكرم نضرتها! وما أحلى أصوات ألحان بلابل أشجارها حين ترنّمت بسبحاتي : وأنا الحق.

قال الأستاذ في تفسير هذه الآية : بساتين القلوب أتمّ من جنان الظاهر ، فأزهار القلوب مونقة ، وشموس الأسرار مشرقة ، وأنهار المعرفة زاخرة.

وقال : أما إخراج البعض فبيانه على لسان العلم وشهود المنعم في عين النعمة أتمّ من الشكر على وجود النعمة.

(وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٤٢) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

__________________

(١) الإسراف : ما تناولته لك ، ولو بقدر سمسمة ، ويقال : الإسراف هو التعدي عن حدّ الاضطرار فيما يتضمن نصيبا لك أو حظّا بأي وجه كان [تفسير القشيري (٢ / ٣٦٣)].

الظَّالِمِينَ (١٤٤) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤٥) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦))

قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) أي : من قوى الإنسانية ما لا يحمل أثقال المجاهدات ، ومنها ما يحمل أثقال وقار الامتحانات ، فما يحمل الإنسانية يضعف تحت امتحان الله ، وما يحمل بقوى الربانية يكون مطية حمل أمانة المعرفة ، قال تعالى : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) [الأحزاب : ٧٢] ، ألا ترى قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ : «والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية ، وإنما قلعتها بقوة ربانية».

وقوله تعالى : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) للأشباح رزق ، وللأرواح رزق ، وللقلوب رزق ، وللعقول رزق ، وللأسرار رزق ، وأما رزق الأشباح فما استطابته من عالم الفعل بما وافقه العلم ، وأما رزق الأرواح فمشاهدة تجلي الصفات ، وأما رزق القلوب فما ينكشف لها من أنوار الغيوب ، وأما رزق العقول فما يلوح لها من سنا الآيات ، وأما رزق الأسرار فما تجلّى فيها من مكنون علوم الخاص في رؤية الذات.

قال الأستاذ : الرزق ما يحصل به الانتفاع ، وينقسم إلى رزق الظواهر والسرائر ، فهذا وجود النعم ، وذاك شهود الكرم ، بل الجمود في وجود العدم ، وللقلب رزق ، وهو التحقيق من حيث العرفان ، وللروح رزق ، وهو المحبة بصدق التجرد عن الأكوان ، وللسر رزق ، وهو الشهود ، والذي قرينه العيان.

(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠))

قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ) فيه تسلية لقلب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأطماعه من الله سبحانه في إرجاع من سبق له في الأزل حسن عنايته إلى باب كرمه وعفوه وإن كان في صورة الامتحان ، أي : هو واسع الرحمة على الأكوان وأهلها ، يتحمل جفاء المدبرين ويواسيهم بما يصلح لأبدانهم من المعاش ، ويقبل على المقبلين ، فيربّي قلوبهم بلطائف خطابه وأنوار جماله.

وأيضا : رغّب الجمهور مع ما هم فيه إلى سواحل بحار لطفه ، وساحة جلال كرمه ؛ شوقا منه إلى وصول مصنوعاته من الأرواح والأشباح إليه ، وفيه مواساة قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : فإن جفوك فقل : (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ) بتخليصي وتخليص أوليائه عن جواركم إلى جواره الكريم.

قال سهل : قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أعرض عنك فرغّبه فيّ ، فإنه من رغب فينا ففيك رغب لا غير ، قال الله : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ) أطمعهم في الرحمة ، ولا تقطع قلبك عنهم.

قال الأستاذ : الإشارة فيه بيان تخصيصه الأولياء بالرحمة ، وتخصيص الأعداء بالطرد واللعنة ، فالصورة الإنسانية جامعة لهم ، والقسمة الأزلية فاصلة بينهم.

قوله تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) بيّن سبحانه أن ألسنة الإسرار وإن كانت فصيحة ناطقة بحجج الحكمة المستفادة المتلقفة من فلق إلهام الغيب عند مسامرتها مع الحق في الشهود ، فخرس عند بوادي حجج العدم ، ومناقشته عند لطائف العتاب ، أي : له حجة كاملة قاطعة ألسنة الخواطر عند وضوح بيان إشاراته في الإسرار ، وهذا المعنى لا يعرفه إلا أصحاب مسامرة ومحاضرة ، الذي خرج من نعوت الإنسانية عند شهود الغيب.

قال النصر ابادي : الخلق كلهم منعتهم شدة الحاجة عن معاني رؤية الحجة ، ولو أسقط عنهم الحاجات لكشف لهم براهين الحجة.

قال الحسين : لكل حجة حكم وأمر ونهي ، وبيان وسرّ ، وعلم ومعرفة ومشيئة ، فاعرفوا الله في كل مقام يتعرف إليكم في كل ساعة.

وقال الجنيد : آثار مشيئة الهداية تنبيه عند أهل الهدى.

وقوله تعالى : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أضاف علم البيان وهداية العرفان إلى مشيئته الأزلية ، يختص بعلم الإلهام والحجة والبرهان من يشاء من أهل الإيقان ، ومن لم يكن له استعداد رؤيته ومحبته وصلته لم يكن له حجج في أجوبته أهل الحقائق عند مجازاة الدقائق ونشر علوم الغيبة ، تظهر لأجنانه حجته ويبهم حجته ، ويبهم على قلوب المتكلفين إلهامه

وبيانه.

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١))

قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) ، (الْفَواحِشَ) عرائس الدنيا ، ما ظاهر منها زينتها وخضرتها ، وما بطن حب الرياسة والجاه.

قال المحاسبي : الفواحش ما أريد بها غير الله.

قال بعضهم : ما ظهر من الفواحش في الأفعال هو الوفاء ، وما بطن منها الدعاوي الكاذبة.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩))

قوله تعالى : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) إذا ادّعيتم مقام الولاية فاصدقوا بإلقاء نفوسكم إلى قناطر البلايا ؛ فإن الولاية مقرونة بالبلية.

وأيضا : إذا أخبرتم مني باللسان فكونوا حاضرين عندي بالجنان ، وإذا ذكرتموني بالظاهر فكونوا شاهدين مشاهدتي في الباطن ، وإذا شهدتم على معائب عبادي حين تعرفهم شأنها إياهم ، لا تفرغوا في الأمر بالمعروف ، ولا تخافوا عن لومة اللائمين بالنهي عن المنكر ، وكونوا عادلين فيه ، ولا تجاوزوا عن الحدود التي رسمتها في شرائعي.

قال أبو سليمان في هذه الآية : إذا تكلّمتم فتكلّموا بذكره.

وقال محمد بن حامد : العدل من الكلام ما لا يكون على صاحبه في ذلك بلغة ، عاجلا وآجلا.

وقوله تعالى : (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) الوفاء بالعهد إقبال القلب إلى الله بلا إدبار بنعت المحبة والشوق حتى يصل إليه ، ولا يحتجب بشيء دونه ، ولا يختار عليه غيره.

قال الجوزجاني : العهود كثيرة ، وأحق العهود بالوفاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، تأمر نفسك بالمعروف ، فإن قبلت منك وإلا رضّها بالجوع والسهر وكثرة الذكر ومجالسة الصالحين ؛ لترغّب في المعروف غيرك ، وتنهي نفسك عن المنكر ، فإن قبلت وإلا فأدبها بالسياحة والتقطع والعزلة وقلّة الكلام وملازمته لتنتهي ، فإذا انتهيت فانه الناس عن المنكر.

لما شرع الله سبحانه شوارع الحقيقة ونصّب في سبيل معرفته الربوبية وصى عباده باللزوم فيها بنعت الصبر والرضا عند تحمل العناء والسياحة في بحر البلاء للوجدان والتزّين بلباس البقاء ، وكذا عقد الحقيقة عليهم ، وحجّ عليهم ؛ تمهيدا للعبودية ؛ وعرفانا للربوبية بقوله : (هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) صراطه المستقيم متابعة إلهامه وكلامه والشروع في عبوديته لغفرانه وطلب مشاهداته عند تقديس الخاطر عن غيره.

قال جعفر بن محمد : السلام طريق من القلب إلى الله بالإعراض عما سواه ، وأراد بالسبل هاهنا سبل الخطرات المذمومة والهوام النفسانية والوساوس الشيطانية ؛ فإنها مظلمة مفاوزها قاطعة لطريق الميريدين ، وسبيله سبيل الهدى وضوح شموس الصفات في جلال الآيات للعقول الصافية عن أكدار الخليفة.

قوله تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي : أعطى موسى ما خصّ به في المناجاة ؛ حيث يزيد كلامه القديم الذي بيّن له طريق معارف القدم

وكواشف الذات والصفات حين تجلّى له ، ثم أعطى النور للعموم شريعة وبيانا بالمناهج العبودية ؛ لأنهم عند مشاهدة الجلال وسمع الخاص عند كلام الخاص بمعزل.

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) وصف المفترين والمائلين عن الطريقة حقها على المريدين بذل النفوس وأمانتها بالمجاهدات والرياضات بأنهم لمّا فارقوا سبيل الحق وقعوا في أودية الباطل ، فصاروا فرق الدعاوى الهالكة ، فبعضهم زراقون ، وبعضهم طرارون ، وبعضهم متشابهة بزي الرجال ، وبعضهم متلبسون بقول الإبطال. قال فارس : لم يستقيموا لله على وتيرة واحدة.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣))

قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) من بقي على رؤية الأعمال فأجره بحساب ؛ لأن أجره من عالم الحدثان من نعيم الجنان ، ومن رفع بصره عن أعماله بنعت الخجل عند رؤية الرحمن أجره بغير حساب ؛ لأنه لطائف العرفان وموائد الإيقان ، وأصل الحسنة إخلاص العبودية عند ظهور الربوبية ، لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه» (١) ، هذا إحسان العارفين الذين أجرهم مشاهدة الله بلا نهاية.

قال بعضهم : من لاحظها من نفسه فعشر أمثالها ، ومن لاحظها من مواصلة الحق فهو الذي يصلي عليكم وملائكته والله يضاعف لمن يشاء.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) الصراط المستقيم هاهنا أغرب طريق في المعارف والكواشف ، هداه به نبيه إلى نفسه ؛ لأنه خاصّ بذلك من جميع الخلائق.

ألا ترى إلى قوله : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي) كيف خصّ هداية نفسه بالرب ، وذلك وقوع الأسرار في منازل الأنوار وطيران روحه في الملكوت والجبروت حين شاهده نور دنو الدنو بوصف الرؤية الكبرى وسامرات الأعلى بقوله : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ

__________________

(١) تقدم تخريجه.

أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١)) [النجم : ٨ ، ٩ ، ١٠ ، ١١] ما رأى ما جاز عن سبيل القدم بعلّة الحدث ؛ لأنه كان محفوظا برعاية الأزلية وعناية الأبدية ، بلغ إلى أقوام الطرق في مشاعر الصفات ومشاعر الذات.

ألا ترى إلى قوله : (دِيناً قِيَماً) مستقيما له منزّها عن اعوجاج البشرية وطوارق التلوين ؛ لأنه بحجة المحبة وصراط النحلة التي سبلها جذبات الأزل ومكاشفات الأبد ؛ لقوله تعالى : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) يعني طريق محبة ملّة إبراهيم عليه‌السلام في خلته ، وإن كان هو مخصوصا بأغرب طريق المعارف من جميع الخلائق ، وصفه بالحنيفية المائلة في طريق المحبة عن غير الحبيب من تلك سبيله وصل إلى حبيبه ؛ لأنه مقدّس من شوك الشرك وغبار القطيعة بقوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) طريق المحبة والخلة واحد في نفس الاقتداء ؛ لأن معدنها عين القدم المنزّه عن كل علّة.

قال أبو عثمان : الصراط المستقيم الاقتداء والاتباع ، وترك الهوى والابتداع ، ألا تراه يقول : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣)) [النجم : ٣].

وقيل في قوله : (دِيناً قِيَماً) أي : سليما من الاعوجاج وهواجس النفس ، ووجود لذّة المراد فيه ، ولمّا وصفه عليه‌السلام باهتداء إلى جلاله وجمال وصفه بتنزيهه عن رؤية جميع الخلائق في عبادة خالقه ، أمره بتعريف حاله ، وقدس سنائه عن الإذاعة في الحدثان بقوله : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) صلواته وصلة ، وسجوده قربة ، وشهوده مشاهدة ، وركوعه وجد ، وقيامه حيرة ؛ لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قرّة عيني في الصلاة» (١) ؛ لأن قرة عينه ظهور مشاهدة الله في صلواته ، ولذلك أزه واردات تجلّي الجلال والجمال ، حتى قيل : كان يصلي ولحوقه أزيز كأزيز المرجل ، أي : هذه الصلاة لله لأنها مقدسة من رؤية غير الله فيها ، ومن مثابتها كانت لله خاصة لخصوصية صاحبها وشرفها على جميع الخلائق ، ولأن الصلاة عبادة ، والجهود كانت بالعرض إلا هذه الصلاة ؛ لأنها كانت فناء الحدث في القدم ، وقربان منهم روح الأول على باب الأزل بسيف المحبة والعشق شوقا إلى معدنه ، وهذا معنى قوله : (نُسُكِي) فإذا جعل وجوده قربان الأزل حيى بحياة القديم ، ثم فني في ظهور سطوات العزّة به ، كانت حياته ومماته ومثل هذه الحياة والممات والنسك والصلاة أن يكون لله رب العالمين لقدسها عن علة حظ الحدثان ، وخطرات علة النسيان.

__________________

(١) رواه النسائي في الكبرى (٥ / ٢٨٠).

قال الواسطي : بيان هذه الآية في قوله سبحانه : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [النساء : ١٣١] ، فمن لاحظها من نفسه قصمته ، ومن تبرّأ منها عصمته ، كيف يجوز الوجدان بلا حظّ فضلا.

قيل : من علم أنه بالله علم أن لله ، فإن علم نفس لم يبق فيه نصيب لغير الله ، فهو مستسلم لحكم الله غير معترض على تقدير الله ، ولمّا كان عليه‌السلام بوصف ما ذكر حيث انفرد بفردانية الله أفرد نفسه لله بحيث لا يرى غير الله بقوله تعالى : (لا شَرِيكَ لَهُ) أي : لا رؤية للغير في البين في ظهور شمس جلاله من مطلع القلب.

قوله تعالى : (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) أي : هو يستحق لإفراد قدمه عن الحدوث ، ولا يستحق ذلك لغيره ، ومادام شأنه ذلك خصّ الله جوهره بأول الفطرة التي انقادت لعزته عند ظهور تجلي هيبته الأزلية لها.

قال سبحانه عقيب قوله : (وَبِذلِكَ أُمِرْتُ) : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) إشارة إلى تقدم روحه وجوهره على جميع الكون وأهله في الحضرة حين خاطبه بالرسالة والولاية والمحبة والخلة ، فانقاد في أول الأول الأزلي الأبدي ، تعالى الله عما يقولون الظالمون علوّا كبيرا.

وأشار إلى ما ذكرنا قوله عليه‌السلام : «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين» (١) ، وقوله عليه‌السلام : «أول ما خلق الله نوري» (٢).

وقيل في قوله : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي : أسلمت لتصاريف قدرته متبرئا من حولي وقوتي ، مع أن التسليم في الحقيقة علّة ، ولمّا كان سابقا على جميع الخلائق في حضرة العزّة بنعت الانقياد بعز ربوبيته ، ومعرفته بجلال ديموميته ، أمره تعالى بأن يعرّف نفسه الشريفة المبرّأة عن علّة الحدثان لجميع الخلائق ؛ ليعرفه كل صادق ، ويطيعه كل محبّ موافق بقوله : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) أي : أنا في مشاهدة قدم الله أبغي ستائر على مشاهدته سواه ، حاشا من عظم شأنه أن يكون عوضا لجماله من العرش إلى الثرى.

قال الجوزجاني : أسواه أطلب حافظا وراعيا ووكيلا ، وهو الذي كفاني الهم وألهمني الرشد!

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي

__________________

(١) ذكره المناوي في فيض القدير (٥ / ٥٤).

(٢) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (١ / ٣١١).

جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥))

قوله تعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) أي : ما عملت النفوس إلا ما ألزمت عليها في الأزل ، فإذا عملت ترجع إليها ؛ لأن خالقها منزّه عنها.

قال بعضهم : لا تكسب من خير وشرّ كل نفس إلا عليها ، أما الشرّ فهو مأخوذ به ، وأما الخير فهو مطلوب منه صحة قصده ، وخلوه من الرياء والعجب ، ورؤيته من نفسه والتزين به ، والافتخار به ، والاعتماد عليه ، والإحسان فيه ، فإذا حصلته وجدته عليه ، لا إله إلا أن يعفو الله عزوجل.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) أي : جعلتكم خزائن جودي من المعرفة والمحبة والولاية ، خلفاء العالم بعد مضي دهر الدهار ، وتقلب الفلك الدوار ، والقرون الماضية ممّن قسم له الرسالة والنبوة والملك والشرف ، وما كان لهم في السبق السابق ، وأول الأول ، ويكون لكم يا خلفاء الأنبياء والصديقين ، هو الذي جعلكم خلفاء في أرضه كآدم عليه‌السلام ، ونوح عليه‌السلام ، وإبراهيم عليه‌السلام ، وموسى عليه‌السلام ، وعيسى عليه‌السلام ، وزاد شرفكم بشرف نبيكم على الجمهور ، وقال عليه‌السلام : «نحن الآخرون السابقون» (١).

وبيّن تعالى هذه الآية أن النجباء والأولياء والأصفياء والأتقياء والأخيار والأوتاد والخلفاء يختلف بعضهم بعضا ، كما وصف عليه‌السلام الأبدال والأولياء في حديث مرويّ بقوله : «إذا مات واحد منهم أبدل الله مكانه واحدا» (٢) ، وصرّح بخطابه أن درجاتهم متفاوتة بقوله : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) لاقتداء البعض بالبعض ، وبقية أمانته وأمانه وحجته وبرهانه في العالمين للعاملين درجة بعضهم المعاملات ، ودرجة بعضهم الحالات ، ودرجة بعضهم المقامات ، ودرجة بعضهم المكاشفات ، ودرجة بعضهم المشاهدات ، ودرجة بعضهم الفراسات ، ودرجة بعضهم الكرامات ، ودرجة بعضهم المواجيد والواردات ، ودرجة بعضهم الحكميات ، ودرجة بعضهم الدنيات ، ودرجة بعضهم المعرفة ، ودرجة بعضهم التوحيد ، ودرجة بعضهم التلوين ، ودرجة بعضهم التمكين ، ودرجة بعضهم اليقين ، ودرجة بعضهم الفناء ، ودرجة بعضهم البقاء ، ودرجة بعضهم الحيرة ، ودرجة بعضهم الوله والغيبة ، ودرجة بعضهم السكر ، ودرجة بعضهم الصحو ، ودرجة بعضهم الاتصاف ، ودرجة بعضهم الاتحاد ،

__________________

(١) رواه البخاري (١ / ٩٤) ، ومسلم (٢ / ٥٨٦).

(٢) رواه أحمد في مسنده (١ / ١١٢).

ودرجة بعضهم الربوبية ، ودرجة بعضهم المعبودية ، وعلم العام وعلم الخاص ، وعلم العلم ، ومعرفة العلم والسر ، ومعرفة السرّ والخير ، ومعرفة الخير والعلم المجهول ، وما فوق ذلك إلا رسوم مندرسة وطرق منطمسة ؛ لأن هناك ظهور كنه القدم ، ولا يبقى مع القدم إلا القدم ، ابتلاهم بهذه المقامات لفناء علّة الحدث في القدم ، ومن خرج بنعوت الربوبية منها ويدعي بها يضرب ويصلب ويقتل ويحرق ، كما فعل بحسين بن منصور ـ قدّس الله روحه ـ ومن خرج منها بنعت العبودية وبقي بنعت الاستقامة كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث قال : «أنا العبد ، لا إله إلا الله» (١) عصم من فورة السكر ، وغفر له خطراتها في أثناء الطريق ، وهو قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

قال بعضهم : مخلف الولي وليّ ، والصديق صديق ، ويرفع درجات البعض على البعض ، ودرجات البعض بالبعض ؛ لئلا تخلو الأرض من حجة الله وأمانه.

قال بعضهم : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) (٢) : ليقتدي الأدنى بالأعلى ، ويتبع المريد درجة المراد ؛ ليصل إليه ، والله أعلم.

سورة الأعراف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥))

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) قال ابن عجيبة : من شرف هذا الآدمي أن جعله خليفة عنه في ملكه ، يتصرف فيه بنيابته عنه ، ثم إن هذا التصرف يتفاوت على قدر الهمم ، فبقدر ما ترتفع الهمة عن هذا العالم يقع للروح التصرف في هذا الوجود ، فالعوام إنما يتصرفون فيما ملّكهم الله من الأملاك الحسية ، والخواص يتصرفون بالهمة في الوجود بأسره ، وخواص الخواص يتصرفون بالله ، أمرهم بأمر الله ، إن قالوا لشيء : كن يكون بإذن الله ، مع إرادة الله وسابق علمه وقدره ، وإلا فالهمم لا تخرق أسوار الأقدار.

والحاصل : إن من بقي مع الأكوان شهودا وافتقارا ، كان محبوسا معها ، ومن كان مع المكون كانت الأكوان معه ، يتصرف فيها بإذن الله ، خليفة عنه فيها ، وهم متفاوتون في ذلك [البحر المديد (٢ / ٢٢٩)].

(المص) كان الله سبحانه إذا أراد أن يتكلم مع نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقصص الأنبياء ، وما جرى عليهم في الدهور والإعصار ، وشأنه معهم في الأسرار والحقائق والشرائع ، وأراد أن يخصه عليه‌السلام بشريعته ، وما يكون من طريقته الخاصة إلى حضرته ، وتحيّره ممّا كان وما يكون إشارة إلى هذه الأشياء له بحروف التهجي ، وأعلم سر ذلك محض الإشارة ولطيف الخطاب ، وعلم تعالى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرف بتلك الإشارة مراده من علم سابق ونبأ طارق ، وعلم تعالى أن عموم أمته لا تعرف تلك الإشارة فعبّر عنها بسورة طويلة من القرآن ؛ ليعرفوا مراده سبحانه من خطابه وخواص أمته ، ربما يطلع على سر بعضها كالصحابة والتابعين والمتقدمين من الأولياء والعلماء.

كانت حروف المقطعات رموز معاني سور القرآن لا يعرف تلك الرموز إلا الربانيون والأحبار من الصديقين ، فهذا الألف إشارة إلى آدم عليه‌السلام ، ألا ترى أن أول اسم آدم عليه‌السلام ألف إشارة ، الألف إلى حاله وقصته وبدو أمره وخلقته ، وعرضه على الملائكة ودخوله الجنة وخروجه منها ، وكان هو أصل الفطرة ، ومن تشعب منه فهو تابع له في الذكر ، وإشارة الألف إلى علم الأسماء بقوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) التي فيها أنباء جميع الذات والصفات والنعوت والأفعال ، وعلم ما كان وما سيكون عرّف نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما عرف آدم عليه‌السلام بجميع الأسماء بحروف الألف ؛ لأنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألطف الأولين والآخرين وأكرمهم على الله ، وعلى قدر قربه إشارة ألطف وأخفى وأخبر باللام ، هاهنا تعالى حبيبه قصة تجلاه لموسى عليه‌السلام والجبل ، وعرف بها تلك الأحوال الماضية.

ألا ترى إلى حرف اللام في التجلّي ، وعرّف بحروف الميم شأن موسى عليه‌السلام وقصته من أوله إلى آخره ، ألا ترى إلى حرف الميم مراسم موسى عليه‌السلام ، وعرف بحرف صاد هاهنا قصص نوح وهود عليه‌السلام وصالح عليه‌السلام وشعيب عليه‌السلام ولوط عليه‌السلام وجميع ما جرى عليهم من بدئهم إلى آخر أعمارهم ، وأخبر بحرف صاد صبرهم ، وتحملهم في بلائه وصدق محبتهم بالوفاء والصدق بالأعمال والأقوال ، وتصديق ذلك وهو أن تحت الحروف جميع الكتب مندرجة ما روي في الحديث عن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله سبحانه أعطى آدم عليه‌السلام حروف التهجي ، وكان كل حروف كتابا من الله تعالى إليه» (١).

وأيضا أخبر سبحانه بحرف الألف نبيه عليه‌السلام عن عين القدم ووحدانية نفسه المنزّه عن الاجتماع والافتراق ، وإصدار جميع المخلوقات منه ؛ لأنه تعالى مصدر جميع الوجود ، كما أن الألف مصدر جميع الحروف ، وأخبر بالألف سر الأسرار وصرف الأنوار ، وما كان في جميع الحروف من علم الأولين والآخرين ، وهذا أدق إشاراته إلى نبيه عليه‌السلام ثم زاد وضوحه بحرف

__________________

(١) ذكره ابن طاهر في «تذكرة الموضوعات» (ص ١٦٨).

اللام لترقيه خاطره وزيادة إدراكه ، ثم صرح الخطاب بحرف الميم وبيّن له بحرف الصاد ما كان في الأحرف الخاص ؛ لأن بحرف الصاد صفا جميع علومها له ، ثم عمّ العبارة للخلق بالسورة لقلة إدراكهم لعزّ الأسرار ولطائف ضمائر الإضمار ، وأيضا أخبره بلام ألف سر أوليّته ، وما في بحار أزليته.

ألا ترى كيف شقّ الألف من اللام لإخفاء الإشارة حتى لم يبق حديث العدم في القدم ، وكيف يكون لها من لام وألف ومعناها العدم ، فشقّ أحدهما عن الآخر حتى لا يكون حديث النفي ؛ لأن النفي علّة يقع على الحدثين ، وليس ذكر الحدثان في القدم أخبر بالألف عن أحدية الأولية ، وباللام عن الأزلية السرمدية ، وبالميم عن محبته القدمية ، وبالصاد عن صفاته القائمة بذاته الأبدي ، أخبر بالألف عن الذات ؛ لأنها عين الواحد ، ثم أخبر باللام والميم والصاد عن شمول صفاته القديمة ، الألف من الذات ، واللام من صفة الأزل ، والميم من صفة المحبة ، والصاد خير جميع الصفات.

قال محمد بن عيسى الهاشمي : سمعت من ابن عطاء أنه قال : لمّا خلق الله الأحرف جعل لها سرّا ، فلمّا خلق آدم عليه‌السلام بث فيه ذلك السر ولم يبثه في الملائكة ، فجرت الأحرف على لسان آدم عليه‌السلام بفنون الجريان وفنون اللغات جعله الله صوره لها.

وقال الحسين : الألف ألف المألوف ، واللام لام الآلاء ، والميم ميم الملك ، والصياد صاد الصدق.

وقال : في القرآن علم كل شيء ، وعلم القرآن في الأحرف التي في أوائل السور ، وعلم الحروف في لام ألف ، وعلم لام تلك في الألف ، وعلم الألف في النقطة ، وعلم النقطة في المعرفة الأصلية ، وعلم المعرفة الأصلية في الأزل ، وعلم الأزل في المشيئة ، وعلم المشيئة في غيب الهو ، وغيبه الهو ليس كمثله شيء.

وقال أبو محمد الجريري : أن لكل لفظ وحرف من الحروف مشرب فهم غير الأخر.

ومن شرّاح ذلك حين سمعه يقول : (المص) للألف عندهم فهم ، وللفهم في محضرهم استماع إلى حسن مخرج وطعم عذب موجود نظر إلى المتكلم ، وكذلك اللام حسن استماع ومخرج غير الألف وطعم فهم موجود ، وكذلك للميم حسن استماع من مخرج غير اللام وطعم فهم موجود ، والصاد حسن استماع إلى حسن مخرج وطعم فهم موجود غير الميم فممزوج ذلك كله بالملاحظة للمتكلم.

وقال الحسين : الألف ألف الأزل ، واللام لام الأبد ، والميم ما بينهما ، والصاد اتصال من اتصل به ، وانفصال من انفصل عنه ، وفي الحقيقة الاتصال والانفصال ، وهذه ألفاظ تجري

على حسب العبارات ومعادن الحق مصونة عن الألفاظ والعبارات.

وقوله تعالى : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ذكرت إن حروف الأسرار كتاب وتصديق ذلك قوله تعالى بعد قوله : (المص) ، (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي : هذه الحروف (المص) كتاب الأسرار أنزل إليك ، (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي : لا يكون في صدرك حرج نكرتها وقلّة إدراكها ، أي : فلا تخف أنك لا تعرف إشارتنا فيها ؛ فإنك مخصوص بعلم لطائفها ، وحقائقها وصدرك محل البسط بفسخه نور تجلّي جمالي ، فلا يكون فيه خرج القبض (١) ، وتصديق ذلك قوله : (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي : لهذه الأسرار لا يحتمل غيرك أنها لك وأن لك استعداد فهمها ، فلا يكون في صدرك همّ لأجلها ، فإنها تسهل فهمها عليك.

قال ابن عطاء في (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) : عهد خصصت به من بين الأنبياء أنك خاتم الرسل وعهدك خاتم العهود ؛ لتشرح به صدرك ، وتقربه عينا.

وقال الجنيد : فلا يكن في صدرك حرج منه لا يضيق قلبك بحمله وثقله ، فإن حمل الصفات ثقيلة إلا على من يؤيد بقول المشاهدة.

وقال النوري : إن أنوار الحقائق إذا وردت على السر ضاق عن حملها كالشمس يمنع شعاعها عن إدراك نهايتها.

قال القرشي : لمّا قصّ الله في هذه السورة قصة الكليم علم أن قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحرك ، لذلك قال : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) لأنه كلّم على الطور وكلّمت وراء الصور ، ومنع المشاهدة ورزقتها.

وقال الأستاذ : كتاب الأحباب تحفة الوقت وشفاء عمّا يقاسيه من ألم البعد.

وقال في قوله : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) : إشارة إلى حفظ قلبه عن كل قبض ، وقال : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) ولم يقل قلبك فإن قلبه عليه‌السلام في تجلّي الشهود ولذلك قال : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) [الحجر : ٩٧] ، ولم يقل قلبك ، ولذلك قال موسى عليه‌السلام : (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) [طه : ٢٥] ، وقال له : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] ، فإن القلب في محل الشهود ، وهو أبدا بدوم الأنس والقرب ،

__________________

(١) أي : ضيق وثقل من أجل تبليغه لمن يكذب به ، مخافة أن تكذّب فيه ، أو مخافة أن تقصر على القيام بتبليغه ، أو بحقوقه ، وتوجيه النهي إلى الحرج للمبالغة. البحر المديد (٢ / ٢٣١).

قال عليه‌السلام : «تنام عيناي ولا ينام قلبي» (١) ، وقال : «أسألك لذّة النظر» (٢).

وصاحب اللذّة لا يكون له حرج.

(فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩))

قوله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) أي : يسأل عن الأمة فهم الخطاب وقبوله بشرط الحرمة واستعماله بوصف المتابعة ، ونسأل الرسل أداء الرسالة في صورة كلام على قدر عقول الخلق شفقة على الأمة.

قال أبو حفص : لنسألن الذين أرسل عليهم سؤال تعنيف وتعذيب ولنسألنّ المرسلين سؤال الشريف وتقريب قوله سبحانه وتعالى : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ) (٣) أي : لتخبرنهم حال المشتاقين إلى لقائنا ، وشأن المدبرين عن ساحة كبريائنا.

وأيضا : لتخبرنهم ما جرى عليهم ، وهم كانوا لا يعرفون حقائقه من آثار القهريات واللطفيات والموجودات والمعدومات.

(وَما كُنَّا غائِبِينَ) عن شهود المشتاقين ، وزفرات العارفين ، وعبرات العاشقين ، وجفاء المتكبرين ، فإنا قد علمنا في القدم ما كان في العدم.

قال ابن عطاء في قوله : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) : أي في حال عدمهم ووجودهم.

قوله تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) للحق سبحانه وتعالى موازين يزن بها الأحوال والأعمال ، يزن بميزان الإخلاص المعاملات ، ويزن بميزان الصدق الحالات ، فكل عمل عمل برؤية الأعواض ورؤية العمل والالتفات فيه إلى غير الله ، فهو ساقط عن محل القبول ، وكل حالة صاحبها موجب بها فهي ساقطة عن درجة الوصول ، فالنيات موازين المعاملات والصدق ميزان الحالات ، فمن هاهنا يزن نفسه بميزان الرياضات والمجاهدات ، ويزن قلبه بميزان المراقبات ، ويزن عقله بميزان الاعتبارات ، ويزن روحه بميزان المقامات ، ويزن سرّه بميزان المحاضرات ومطالعه الغيبيات ، ويزن صوره بميزان المعاملات ، الذي كفتاه الحقيقة

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١٣٠٨).

(٢) رواه النسائي (٣ / ٥٤).

(٣) أي : عنهم في حال من الأحوال فيخفى علينا شيء من أعمالهم وأحوالهم.

والطريقة ولسانه الشريعة وعموده العدل والإنصاف يوزن نفسه يوم القيامة بميزان الشرف ، ويوزن قلبه بميزان اللطف ، ويوزن عقله بميزان النور ، ويوزن روحه بميزان السرور ، ويوزن سره بميزان الوصول ، ويوزن صورته بميزان القبول ، فإذا ثقلت موازينه بما ذكرنا فجزاء نفسه الأمن من الفراق ، وجزاء قلبه مشاهدة مشوق في الأشواق ، وجزاء عقله مطالعات الصفات ، وجزاء روحه كشف أنوار الذات ، وجزاء سره إدراك أسرار القدميات ، وجزاء صورته الجلوس في مجالس وصال الأبديات.

وأيضا هاهنا لأهل الحق موازين ، ميزان الإرادة ، وميزان المحبة ، وميزان الشوق ، وميزان العشق ، وميزان المعرفة ، وميزان اليقين ، وميزان التوحيد ، فهذه سبعة موازين فينبغي أن يزن المريد نفسه في كل نفس بميزان الإرادة ، ويزن المحب قلبه في كل نفس بميزان المحبة ، ويزن المشتاقين عقله في كل نفس بميزان الشوق ، ويزن العاشق روحه في كل نفس بميزان العشق ، ويزان العارف سره في كل نفس بميزان المعرفة ، ويزن الموقن أنفاسه في كل نفس بميزان اليقين ، ويزن الموجد جميع وجوده بميزان التوحيد ، فيستوفي المريد بميزان إرادته عن نفسه انقيادها للحق عند جريان القضاء والقدر عليها ، ويستوفي المحب بميزان محبته عن قلبه شهوده في الحضرة بلا خطرات المذمومة ، والالتفاتات المشوبة بنعت النيات الصافية ، ويستوفي المشتاق بميزان شوقه من عقله جولانه في الشواهدات لطلب عرفان المشاهدات بلا فترة ولا رعونة ، ويستوفي العاشق بميزان عشقه من روحه طيرانها في الملكوت لطلب الجبروت ، ويستوفي العارف بميزان معرفته من سره إصغاء بنعت الشهود ؛ لكشوف أنوار الغيب ، وغوصه في بحر الهموم لطلب جوهر الإلهام ، ويستوفي الموقن بميزان اليقين من أنفاسه صعودها عند تنفسها إلى معارف القرب بلا هواجس اليقين وغبار الوسواس ، ويستوفي الموحد بميزان توحيده من جميع وجوده اضمحلاله في أنوار كبريائه القديم ، وفنائه في سبحات الأبد ، فمن ثقلت هذه الموازين أفلح عن حجبة الامتحانات ، وتنقل موازين الحضرة غدا بفيض أنوار صفات الحق ، ولطائف ذاته وكرامات قربته له ، فيفلح هناك بالله عن غير الله ويصير أهلا لله ؛ لأنه خرج عن موازين صفاته وأنوار ذاته بنعت المعرفة والتوحيد والمحبة ، فطوبى لهذا المحاسب طوبى له وحسن مآب.

قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في تفسير هذه الآية : ومن وزن نفسه بميزان العدل كان من المحبين ، ومن وزن خطراته وأنفاسه بميزان الحق اكتفى بمشاهدته ، والموازين مختلفة ، ميزان للنفس والروح ، وميزان للقلب والعقل ، وميزان للمعرفة والسرّ ، فميزان النفس والروح الأمر والنهي وكفتاه الكتاب والسّنة ، وميزان القلب والعقل والثواب والعقاب وكفتاه الوعد والوعيد ، وميزان المعرفة والسرّ الرضا والسخط وكفتاه الهرب والطلب.

وقال الأستاذ : يوزن أعمالهم بميزان الإخلاص وأحوالهم بميزان الصدق ، فمن كانت أعماله بالرياء مصحوبة لم يقبل أعماله ، ومن كانت أحواله بالإعجاب مشوبة لم يرفع أحواله ، وافهم يا صاحبي أن حكمة وزن الأعمال يوم القيامة للعباد أن الله يبيّن لهم ما كان مكتوبا في اللوح المحفوظ قبل الخلق مما يجري عليهم من القضاء والقدر ، والرضا والسخط ، والشقاوة والسعادة ، مقابلة بما جرى عليهم في الدنيا الذي في أوراق الحساب التي في أيدي الملائكة ليزيدهم برهانا وعيانا وعلما بعلمه المحيط على كل شيء ، وليكون حجة عليهم ، خرّج أعمالهم على وفق ما كان مكتوبا عليهم ، وافهم يا صاحبي أن الأعمال أعراض كيف تكون موزونة ليس هذا في علم الخلق أن ميزانه الحقيقي رده وقبوله ، وهو قادر أن يخرج الأعراض بصور الجواهر فيزن بميزانه الذي يظهره لهم يوم القيامة ، وذلك على لسان الشرع يوجب الإيمان به.

قال ابن عباس : توزن الحسنات والسيئات في ميزان له لسان وكفتان ، فأما المؤمن يؤتى بعمله في أحسن صورة فيوضع في كفة الميزان وهو الحق فيثقل حسناته على سيئاته ، فيوضع عمله في الجنة ، فيعرفها بعمله.

فذلك قوله تعالى : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : ٨] ، وهم أعرف بمنازلهم في الجنة إذا انصرفوا إليها من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم ، وأما الكفار فيؤتى بأعمالهم في أقبح صورة فتوضع في كفة الميزان وهي الباطل ؛ فيخف وزنه حتى تضع في النار ، ثم يقال للكافر : الحق بعملك.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) منّ الله على عباده بتمكينهم في الأرض بنعت لتسهيل عبادته ، حيث يسرّ لهم عبوديته بقدرة خلقها فيهم بعد أن كلفهم ذلك ، وجعل فيها لأبدانهم معايش الغذاء ،

ولقلوبهم معايش الذكر ، ولعقولهم معايش التفكر ، ولأرواحهم معايش روح رؤية ظهور جلاله في ملكوت الأرض من كل زهرة وحضرة ؛ لعرفان المنعم القديم بنعت عجزهم في شكره ، ثم زاد امتنانه عليهم بأنه تعالى أجادهم بأظرف الخلق وألطفه وأحسن الصور وأكرمها ، بقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أي : خلقنا أشباحكم جمعا في آدم عليه‌السلام ثم صورناكم في حواء ، وأيضا خلقنكم هياكل وصورناكم أرواحا ، وأيضا خلقناكم بالأفعال وصورناكم بالصفات ، وأيضا خلقناكم خلقكم بالأمر ، ثم صورناكم بظهور تجلي الصفات لكم ، فوقع الخلق بوقوع الأمر وترتيب الصور بوقوع تجلي بروز الصفات ، فتكونت الصور بنعوت الصفات ، وتكونت الهياكل بنعوت الأفعال ، وتكونت الأرواح من تجلّي الذات ، فيكون الجميع صادرة من العدم بنعت القدم.

ألا ترى كيف أشار عليه‌السلام فيه إلى سر المتشابهات حيث قال : «خلق الله آدم على صورته» (١) ، فجعل للأشباح طريق العبودية ، وجعل للأرواح طريق عرفان الربوبية ، وجعل للعقول طريق الملكوت ، وجعل للقلوب طريق الجبروت ، وجعل للأسرار طريق القدم والبقاء.

قال بعضهم : أبدع الله الهياكل وأظهرها على أخلاق شتى ، وصور مختلفة ، وجعل لكل شيء منها عيشا ، فعيش القلوب في الشهود ، وعيش النفوس في الوجود ، وعيش العبد معبوده ، وعيش الحواس الإخلاص ، وعيش الآخرة العلم ، وعيش الدنيا الجهل والإمارة والاغترار بها.

ولمّا صور الجميع في آدم عليه‌السلام بصورة آدم عليه‌السلام وصور آدم عليه‌السلام بصورة الصفات المنزّهة عن المشابهة بالحدثين هاهنا علما لا رسما ، وهاهنا عشقا لأشباهها أحدية وتوحيد وجمعا ، وتفرقة لا تشبيها ولا تعطيلا ، زينة بنور الصفات ونعت الأفعال ، ثم كساه أنوار الذات ، ثم قال للملائكة : اسجدوا له ، بقوله تعالى : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ؛ لأنه قبلة تجلّي الصفات والذات ، وهو مصور بصورة الملك في الملكوت قبل موضع استواء أنوار الذات ، وصورته موضع استواء أنوار الصفات ، وهيكله موضع استواء أنوار الأفعال ، وروحه موضع استواء أنوار المحبة ، وسره موضع استواء أنوار العلم والمعرفة.

(اسْجُدُوا لِآدَمَ) فإنه لكم واسطة في العبودية لا معرفة الربوبية واسطة في العبادة ، فإنه يليق بكم ، فإن في عبادتي لا يليق الكون ومن فيه ، وما فيه أظهر استغناؤه عن عبودية

__________________

(١) رواه البخاري (٥ / ٢٢٩٩) ، ومسلم (١ / ١٩٩).

الخلق ، لكن أدخل عشاق الملائكة في مقام المحبة والعشق فتجلّى لهم بنور جماله من مرآة وجه آدم عليه‌السلام ؛ ليفتر قلوبهم بلذّة المحبة والعشق ، ولو أبرز لهم أنوار صفاته وذاته صرفا احترقوا في أول ما بدا من نور الألوهية ، ولم يسجد إبليس لأنه كان محجوبا من ذلك الجلال والجمال بنظرة إلى نفسه وقياسه بجهله ، وكذا من نظر من الحق إلى النفس احتجب بها عن رب النفس.

قوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي : لم يكن من أهل شهود الصفات ورؤية جلال الذات.

قال أبو حفص : عرف الملائكة استغناءه عن عبادتهم ، قال : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، ولو كان سجودهم يزن عنده مثقال ذرة لما أمرهم بذلك ولا صرف وجوههم إلى آدم عليه‌السلام ، قال : سجود الملائكة وجميع خلقه لا يزيد في ملكه ؛ لأنه عزيز قبل أن خلقهم ، وعزيز بعد أن يفنيهم ، وعزيز حين يبعثهم ، ثم غيّر إبليس بامتناعه عن السجود لآدم عليه‌السلام وقلّة عرفانه ، شرفه بقوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) أي : أي شيء يمنعك من متابعة أمري ، ولم يبق في البين غيري ، أي : يمنعك من ذلك قهر سابق مني عليك ، وخذلان وارد في المشيئة عليك ، وإلا فمن الحدثان بامتناعها عن متابعة أمري ، وليس لها قدرة ولا مشيئة ، وكلها عاجزة في قبضة قهري ، ومن سبق له الشفاء لا يسبق بالمراد ، وإن كان جميع عبادة الثقلين مصحوبا معه في استباقه إلى الحضرة.

قال الواسطي : من استصحب كل نسك في الدنيا والآخرة والجهل فطنه ، والاعتراض عرضه ، والبعد من الله سببه ، لا يقرب منه ؛ لأن العبادات تقطع عن الرعايات ورؤية النسك رؤية الأفعال والنفوس ، ولا متوثب على الله أشد ممن طالع نفسه بعين الرضا ، فلمّا كلم الله إبليس بكلام التعبير وقهر السلطنة ألبسه من خطابه قدرة في الجواب ، ولولا إلباس الحق إياه لكان مبهوتا عند وارد قهر الخطاب عليه ، ولم ينطق بجواب الأمر ولكن أجابه إجبارا لا اختيارا ، وذلك قوله تعالى : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ). لمّا رأى المعلون لباس قهر خطاب الحق عليه قال بقوته : (أَنَا) ، ولولا ذلك لما قال : (أَنَا) ، وأين أنائيته وكان هباء في أنائية الحق ، نظر المعلون إلى جوهر النار الصادر من قهر العدم فانتسب إلى قهر القدم ، قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ، ولم ينظر بنظر المعرفة إلى الطين الذي صدر من لطف القدم ورحمة الأزلية ، النار من غضبه ، والطين من رحمته ، والرحمة سابقة على الغضب ؛ لقوله سبحانه : «سبقت رحمتي غضبي» (١).

__________________

(١) أي : يد تنزيه وتشبيه ، وإن شئت قلت يد وجوب وإمكان ، أو يد بخلاف سائر العالم ملكا وفلكا.

نظر إلى صفة واحدة ولم ينظر إلى صفة أخرى ؛ فاحتجب بالصفة عن الصفة فقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ، ولو رأى مصدر جميع الصفات لذاب تحت رؤية الكبرياء وأنوار العظمة ، ولم يكن بعد فنائه أبدا ؛ لأن من عرف وصف القدم صار عدما في القدم ، ولو رأى الملعون من وجه آدم عليه‌السلام ما رأى الملائكة ما قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) كان جاهلا به والملائكة كانوا عاشقين به ، غلط في قياسه ورؤيته إلى نفسه ، وأين النار من الطين الذي يقبض قبض ألطاف العزّة ومخلوق يد الصفة الخاصة بقوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] (١) ، وسقط الأرواح التي صدرت من تجلّي القدس بقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] ، وذلك محل التواضع والعبودية الخالصة ومنبت أجسام الأنبياء والرسل والأولياء والصديقين ، ومنبت أغذية الخلائق ومرجع الكل ، وهو بريقة الأجسام والأرواح في العالم ليخرج منه سبائك القدس لمجالس الأنس ، والنار عذاب قهره مجاز بها من خلقه ناريا كإبليس وجنوده ، قوته من أصله الذي كان منه ، كان من نار اللعنة فعداه باللعنة ، قال : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) [الحجر : ٣٥] ، كل شيء يرجع إلى أصله ، كان جاهلا بظاهر العلم بعد أن كان جاهلا بباطن العلم ولولا ذلك لم يسلك طريق القياس عند وقوع النص ، والنص غالب على القياس من جميع الجهات.

قال بعضهم : لمّا نظر إلى الجوهر والعبادة توهم المسكين أنه خير ، فسبب فساد النفوس من رؤية الطاعة.

وقيل : توهم أن الجواهر من الكون على مثله وشكله في الخلقة فضل من جهة الخلقة والجوهرية ، ولم يعلم ولم يتيقن أن الفضل من المتفضل دون الجوهرية.

وقال الواسطي : من لبس قميص النسك خامره أنا لذلك ، قال إبليس : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) [ص : ٧٦] ، ولو لم يقل خير منه لأهلكه قوله في المقابلة أنا.

قال ابن عطاء : حجب إبليس برؤية الفخر بنفسه عن التعظيم ، ولو رأى تعظيم الحق لم يعظم غيره ؛ لأن الحق إذا استولى على سرّ قهره فلم يترك فيه فضلا لغيره ، ولمّا رأى الملعون فضل آدم عليه‌السلام وذريته بالعلم الأسمائي وعرفان الصفاتي ، والمسابقة على الكل بعنايته الأزلية حسد عليهم وخرج على عدواتهم بعد طرده من باب الرحمة ، وتجاسر بجهله في مقابلة الحضرة بالمخاطبة بقوله : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) هاهنا قسم ، أي :

__________________

(١) رواه أحمد (٢ / ٢٤٢).

بإرادتك السابقة في غوائك ، أي : لأقعدن لهم صراطك المستقيم كما قال : (فَبِعِزَّتِكَ) [ص : ٨٢] ، أي : بما ألبستني لباس قهرك في الأزل أقدر أن أقعد في طريقهم المستقيم ، وإلا فلا أقدر أن آمر بهم في وراء العالم بقوة قهرك في الأزل ، أوسوس في صدورهم التي هي طريقك المستقيم الذي يسألك فيه عساكر أنوار تجلاك.

في قوله : (لَهُمْ) نكتة عجيبة ، أي : لأقعدن لهم لا عليهم ، فإن وسوستي لهم تزيد شرّا فهم عند إحساني عن صدورهم بنعت إياسي عن الظفر بهم ، ويتمازج هناك إيمانهم وإيقانهم عن نعوت الاضطراب وطوارق الوسواس وغبار الشك.

ألا ترى إلى قوله عليه‌السلام حين شكاه أصحابه عمّا وجدوا في صدورهم من الوسوسة ، فأشار عليه‌السلام بقوله : «ذاك صريح الإيمان» (١).

قال محمد بن عيسى الهاشمي : لو نجا إبليس بشيء لنجا برؤيته القدرة عليه والإقرار على نفسه بقوله : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) [الحجر : ٣٩] ، ثم زاد الجرأة بقوله : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي : من بين أيديهم من جهة النفس والهوى ، ومن خلفهم من جهة الشهوة والمنى ، وعن أيمانهم من طريق الدعوى ، وعن شمائلهم من طريق إظهارهم الشكوى في البلوى.

وأيضا : من بين أيديهم من طريق الطاعات ، ومن خلفهم من طريق رؤية الأعواض ، وعن أيمانهم من طريق العلم ، وعن شمائلهم من طريق الجهل.

وأيضا : من بين أيديهم من طريق القلب ، ومن خلفهم من طريق العقل ، وعن أيمانهم من طريق الروح ، وعن شمائلهم من طريق الصورة والنفس.

وأيضا : من بين أيديهم من طريق الإسلام ، ومن خلفهم من طريق الإيمان ، وعن أيمانهم من طريق العرفان ، وعن شمائلهم من طريق الإيقان ، ولم يذكر الفوق والتحت ؛ لأن التحت موضع الفناء في العبودية عند السجود الذي يوجب القربة ، وذلك السجود شهود والشهود محل رعاية الحق ، ولا يقدر أن تمر على باب رعايته أحد دونه ، والفرق محل الكشف ، والمشاهدة وارد التجلي وظهور سبحات وجه القدم ، ولو دنا منه جميع الشياطين من العرش إلى الثرى بقدر رأس إبرة لاحترقوا في أقل لمحة.

قال أبو عثمان المغربي : إن الشيطان يأتي الإنسان عن يمين الطاعات من بين يدي الأماني والكرامات ، ومن خلفه بالضلالات والبدع ، ومن يساره بالشرك ، فإذا جرى بعبد

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ١١٩).

سعادة قبل منهم ما يأمرونه من الطاعات ، فإذا أراد أن يهلكوه بطاعته رد إلى السعادة التي جرت له ؛ فيكون ذلك ربحا وزيادة ، ألا تراه بقوله : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) الآية.

قال : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) [الأعراف : ١٧] ، فالأكثر من هلك بطاعته والأقل من أدركته السعادة فنجا.

قال الشبلي : لم يقل من فوقهم ولا من تحتهم ؛ لأن الفوق موضع نظر الملك إلى قلوب العارفين ، والتحت مواضع الساجدين ، وموضع نظره وموضع عبادتهم ، لا يكون للشيطان هناك موضع ولا فيه طريق.

(وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١))

قوله تعالى : (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما) جعل الله سكونهما إلى الجنة وشغلها بأكل ثمارها ، ووعد العيش فيها ، وأخفى في عيشهما كدر الامتحان بأكل الشجرة وجعلها فتنة لهما ، ولو جعل سكونهما بجماله وحسن وصاله لم يدخل فيهما قهر الامتحان ؛ لأن حضرته تعالى مقدسة عن رحمة الحدثان.

(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) دلالة إشارة ، والإجرار إلى الفتنة بنعت الخدعة ، وكيف لم يقرباها وهو تعالى تجلّى فيهما لهما بنعت الجمال ليعشقهما بجماله ، فخامرهما سرّ الأسرار من لطائف الأقدار فاشتاقا إليها عشق نظر ، فلمّا قربا منها غلب شهوة العشق على حقيقة العشق ؛ فأكلا منها وباشراها فعلما علم سر الأسرار وعلم لطيف الأقدار ، فامتلأ ولم يحتملها الجنة لثقل أنوار الأسرار ، ورزانة قوة الربوبية لذلك قال : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) بدخلوكما في حمى الربوبية واقتباسكما أسرار الألوهية ، ولولا أن الله حبس لسانهما عن كشف الأسرار لملأ الأقطار من علم الأقدار.

ولذلك قال بعض المسرفين : إن تلك الشجرة شجرة علم القضاء والقدر ، ومن علم ، علم ما كتم الله فيها وصل إلى عزّ الملك والخلد بوصف الربوبية والحرية.

ولذلك حكى الله عن الملعون بقوله : (هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) [طه : ١٢٠] ، علم الملعون أنها شجرة الخلد والملك وحرم عنهما ، فأراد مباشرتها لينازع الربوبية بقوتها ، ولم يقدر بأن ليس له استعداد ذلك ؛ فتحسّر في نفسه ورأى كنوز الغيب مملوءة

فيها مثمرة ، فدلّ آدم عليه‌السلام إليها ليكون بتلك النعمة متمتعا أحد من خلقة ، لكن مزج بالإرادة الحسد على آدم عليه‌السلام فأوقعه فيها ؛ لأنه علم أنها موضع خطر فعصمها الله من ذلك الخطر ، فلمّا أكلا وجد ذلك في نفسها فزمّ الله وجههما وقلبهما زمام قهر سلطنته فلمّا رأى أنفسهما ساقطين عن محل الربوبية عرفا عجزها وضعفهما وعبوديتهما فقالا : (ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] ، وأراد الملعون أنهما لمّا أكلا من الشجرة أن يظهرا تلك الأسرار التي لو عرفها أحد يكون عيارا سكرانا ، والهامد هوسا خارجا من قبول أحكام الشرائع في العبودية ، ولا يكون في العالم حجة الله ، فقصدهما بذلك لسقوطهما عن درجة الرسالة والنبوة والولاية التي هناك ظهور العبودية لمّا يبدو لهما من عورات الأسرار المكنونة والأقدار المختومة بقوله : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) (١) إذا أراد سبحانه أن يظهر لعبده سرا من أسراره أعزى إبليس بوسوسة سبب ينكشف به تلك الأسرار له ، فيرتفع بعلمها درجاته ، فيرجع ضررها إلى إبليس ، ورجع منفعتها إلى عبده العارف كحال آدم عليه‌السلام وعدوه ، أراد العدو أن يسقطه من درجته فزاد شرفه على شرفه وقد سقط هو من رتبته بالحسد عليه وصار مطرود الأبد وصار آدم عليه‌السلام مقبول الأزل والأبد لقوله سبحانه : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : ٤٣].

وقال تعالى في حق آدم عليه‌السلام : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) [طه : ١٢٢] ، وقال في حق داود عليه‌السلام : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص : ٢٥] ، ولمّا بدا لهما تلك الأسرار كتماها في نفسهما باستعداداتهما إلى أشجار الرعاية بقوله : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٢].

قال أبو سليمان الداراني : وسوس لهما الشيطان لإرادة الشر بهما فكان ذلك سببا لعلو آدم عليه‌السلام وبلوغه إلى أعلى الرتب ، وذاك أن آدم عليه‌السلام ما عمل عملا قط أتمّ له من الخطيئة التي هي أدبته وأقامته مقام الحقائق ، وأسقط عنه ما لعله خامر سرّه من سجود الملائكة له ، ورده إلى بركة الأولى من التخصيص في الخلقة باليد حتى رجع إلى ربه بقوله : (ظَلَمْنا أَنْفُسَنا).

قوله تعالى : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) مادام مآل أمر آدم عليه‌السلام يئول

__________________

(١) قال التستري (١ / ١٥٤) : الوسوسة ذكر الطبع ، ثم النفس ، ثم الهم والتدبير ، ووسواس العدو على ثلاث مقامات : فالأول يدعوه ويوسوس له ، والثاني يأمن إذا علم أنه يقبل ، والثالث ليس له إلّا الانتظار والطمع ، وهو للصديقين.

إلى زيادة الزلفة كأنه صدق الملعون في حلفه ؛ لأنه رأى تلك الزيادة له بسبب أكل الشجرة ، لكن لم تكن نصيحته بالإخلاص ؛ لأنه خامر الحسد بالنصيحة فصار من الخائنين ، (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) [يوسف : ٥٢].

قال أبو بكر الوراق : لا تقبل النصيحة إلّا ممّن تعتمد دينه وأمانته ، ولا تكن له حظا في نصيحته إياك ، فإن العدو أظهر لآدم عليه‌السلام النصيحة وأضمر الخيانة ، قال الله : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ).

(فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤))

قوله تعالى : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) (١) خادعهما حين أخبرهما أن في الشجرة أسرار الربوبية فدلهما إلى غرور الاطلاع على أسرار القدم ؛ ليكونا أقرب من المقربين الذين هم سفر الملكوت ، وخزان خزائن الجبروت ، وغرور ذلك أوقعهما في بلاء أسفار القدم والبقاء التي تأتي لهما لكل لحظة ببلايا لا تقوم بها السماوات ، وهكذا شأن العشاق من شوقهم إلى وجه معشوقهم يسمعون حديث كل بر وفاجر لعلهم يصلون إلى شيء من قريب حبيبهم.

أذلّ لآل ليلى في هواها

وأقبل للأكابر والصغار

قيل : غرّهما بالله ولولا ذاك ما اغترّا.

وقوله تعالى : (فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما) ذكرت سر بدو السوءة ، وهاهنا لطيفة إشارته إلى أن تلك السوءة التي هي أسرار القدم لم تبد لغيرهما بدت لهما خاصة من جميع الكروبيين والروحانيين ، والحمد لله الذي عصم سوأتهما عن نظر الأغيار ؛ لأنهما محلا الكرامة والأمانة والرسالة والنبوة والولاية ، جردهما الحق عن الجنة وما فيها لكونهما في تجريد التوحيد وإفراد القدم عن الحدوث ، فأين الجنة في طريق العارفين إلى الله أفردهما عن الجنة

__________________

(١) أي : بسبب تغريره إياهما باليمين بالله كاذبا وكان العين أول من حلف بالله كاذبا ، وظن آدم أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا فاغتريه ، فإن شأن المؤمن أن يعتقد بصدق من حلف بالله لتمكن عظمة اسم الله تعالى في قلبه ، تفسير حقي (٤ / ١٢١).

لعظمها في المعرفة ولقدسهما عن حظوظ البشرية ؛ لأن حظ البشرية في المشاهدة ، فلمّا ذاقا ذوق شجر العشق انفرد عن الكل بالكل ، فصار عورة الحق في العالم فكشف عنهما غرائب علم الأقدار بخروج جميع الأشباح والأرواح منها.

وسئل الواسطي : ما بال الأنبياء العقوبة إليهم أسرع؟ إن إبليس وآدم عليه‌السلام في مخالفة واحدة ، قيل : (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما).

قال : سوء الأدب في القرب ليس كسوء الأدب في البعد.

قيل : يطالب الأنبياء بمثاقيل الذّر ، ولا يطالب العامة بذلك ؛ لبعدهم عن مصادر السرّ.

وقال بعضهم : بدت لهما سوأتهما ولم تبد لغيرهما هتك عنهما سر العصمة ، ولم يبد ذلك لغيرهما.

قال الواسطي : سلبه ما ألبسه وكساه كسوة الذل حتى عرفه أراذل قدرة فانيته نفسه عن نفسه بنفسه ، فأيقن أنه لا ينال شيئا من ربه إلا بربه ، وانقطع به إليه مغيبا عن حضوره ، ومأخوذا بحظه عن حظ غيره ، فلمّا بلغا إلى رأس كنوز علم الغيب ، وصارا متحيرين في مهمهة الامتحان من رؤية عن النكرات لاطفهما الحق بمناداته وخطابه وعتابه ليجرهما من فقار الديمومية إلى مهد طريق الشريعة بقوله : (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) النداء نداء المآب ، والقول قول العقاب ، ذكر لهما تلك الشجرة المنهية لموقعها في شوق تلك الأسرار ؛ لأنهما في البعد من تلك المزار.

قال القرشي : قيل لآدم عليه‌السلام أدخل الجنة ولا تأكل من الشجرة ، فلمّا أكلا نادهما ربهما والقول على معنى القرب والنداء على حد البعد ، فلمّا أعلمنا أنهما أخطآ حين باشرا الشجرة من جهد شهوة العشق ، والحق هناك رؤية ما ظهر في الشجرة من حسن تجلّي الحق ، وليس استيفاء خط البشرية بمباشرة الشجرة من حق المقام أضافا الظلم إلى أنفسهما بقولهما : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) الظلم هاهنا الجهل بحقائق المقام وطلب حظ النفس في مقام مشاهدة الحق أقرا بالجهل ، وكانا في ذلك الوقت في مقام التلوين ولو كانا في محل تجريد التوحيد لم يذكر النفس ولم يلوما أنفسهما ؛ لأن رؤية النفس وقدرتها في شيء في مقام التوحيد شرك ؛ ألا ترى إلى قول الأستاذ حين قال : من لام نفسه فقد أشرك.

قال الحسين : الظلم هو الاشتغال بغيره عنه.

وقال ابن عطاء : ظلمنا أنفسنا باشتغالنا بالجنة وطيبها عنك.

قال الشبلي : ذنوب الأنبياء تؤديهم إلى الكرامات والرتب ، كما أن ذنب آدم عليه‌السلام أدى إلى

الاجتباء والاصطفاء ، وذنوب الأولياء تؤديهم إلى الكفارة ، وذنوب العامة تؤديهم إلى الإهانة.

قال الواسطي : لم تكن له في حال طينته خواطر غير الحق ، فلمّا أحضره في حضوره غاب عن حضوره فقال : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) ما ورد عليه من ربه عن غيره ، وهل لا قطعه باتصاله في اتصاله عن اتصاله ، وهل لا عيّنه ما عليه في نفسه عن نفسه ، فزاد الله حرقته وهيجانه حين أردف شوقه داء الفراق من مقام الميثاق ليستوعب حقائق البلاء في سفر العشق بقوله سبحانه : (اهْبِطُوا) أرسله من مقام البهجة إلى عالم المحنة بين أهل العداوة ومقاساة الفرقة بعد ذوق الوصلة ؛ لأن في مقام العشق الوصال والفراق تؤمان كان في عيش الوصال مع الحبيب صافي الحال بلا كدورة الجفاء ولا رحمة الفراق ؛ ففتح عساكر الامتحان عليه أيدي الفرقة من ممكن الغيرة وكدرت له مشرب الوصال في أيام الصفاء كقول القائل :

وكان لي مشرب يصفو برؤيتكم

فكدّرته يد الأيام حين صفا

وأنشد بعض المتأخرين :

وبتنا على رغم الحسود وبيننا

حديث كريح المسك شيب به الخمر

حديث لو أنّ الميت يحيا ببعضه

لأصبح حيّا بعد ما ضمّه القبر

فوسّدته كفي وبتّ ضجيعه

وقلت لليلي طل فقد رقد البدر

فلمّا أضاء الصبح فرّق بيننا

وأيّ نعيم لا يكدّره الدهر

لم يكن آدم عليه‌السلام وحواء في قيد الجنة إنما طمعا في الخلد ببقائهما مع الحبيب أبدا لكن صال عليهما عسكر غيرة القدم ، وأخرجهما من ساحة الكبرياء حتى لا يكون مع الله غير الله ، أصابتهما عن غيرة الأزل في معناه ، قال الشاعر :

إن تكن عين أصابتك فلا

زالت العين تصيب الحسنا

لم يهبطا من الدرجات الكرامات وإن أخرجا من بقاع الجنات قيل : لم يخرج آدم عليه‌السلام عن رتبة الفضيلة ، وإن أخرج عن دار الكرامة ، فلذلك قال : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) [طه : ١٢٢] ، ولمّا حجبهما عن مقام الوصال وأدخلهما دار الفراق أخبرهما أنهما يحيان في الأرض بروح المعرفة ورزق المشاهدة ويموتان في حجر الشفقة عن صولة الحال والمكاشفة فيخرجان منها بنعت التوحيد والمحبة.

(قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما

لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠) يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢))

قوله تعالى : (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) فيها تحيون بالله وتموتون في الله ويخرجون بنعت الله.

قال بعضهم : فيها تحيون بالمعرفة ، وفيها تموتون بالجهل ، ومنها تخرجون ممّا أنتم فيه من التقدير والتدبير إلى سوابق القدر عليكم وجرى الأحكام فيكم.

ولمّا أعزى آدم عليه‌السلام وحواء من لباس الجنة غوّص بنوه بذلك ألبسة شتي من حضرته الكريمة بقوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) لكل طائفة لباس للعارفين لباس المعرفة ، وللمحبين لباس المحبة ، وللمشتاقين لباس الشوق ، وللموحدين لباس التوحيد ، وللزاهدين لباس الزهد ، وللمتقين لباس التقوى ، وللأولياء لباس الولية ، وللأنبياء لباس النبوة ، وللمرسلين لباس الرسالة ، ولكل واحد منها ظاهر وباطن زينة الباطن لنظر الحق وزينة الظاهر لموقع الشريعة وتلك الزينة ما قال تعالى : (وَرِيشاً) وتلك الزينة أنوار القرب مرخص بها صار بين الخلق مهينا.

وقوله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) لأن كل لباس فيه حظ العباد وليس في لباس التقوى حظ النفس ، وهذه الملابس هي كثرة العموم ولباس الله لمن فنيّ في الله واتصف بصفات الله ، فكل لباس يفني في لباس الله من خرج بلباس الله صار قبلة الله للعالمين ، من نظر إليه يرى الله ، ولهذا أشار عليه‌السلام إلى مقام اتصافه بصفات الله واكتسائه بكسوة أنوار الله بقوله : «من رآني فقد رأى الحق» (١).

__________________

(١) رواه مسلم (٤ / ١٧٧٥) ، والترمذي (٤ / ٣٥٣).

وقوله تعالى : (يُوارِي سَوْآتِكُمْ) أي : كلكم عريان من أنوار القدم بادي سوءة الحدث ؛ فينبغي أن تستروا بلباس القدم سوءة الحدث ، وبلباس العلم سوءة الجهل ، وبلباس الربوبية سوءة العبودية.

قال الواسطي : السوءة الجهل ، وأزين الزينة أن يزين العبد بالتقوى ، ولباس التقوى وقاية لا يخرقها كيد حاسد ، والتقوى لباس القلب علامتها الورع ، والتقوى الأدب مع الله ، وهو ألا يرى مع الله غير الله فانظر ، أي : القميص لبس قميص الصدق أو قميص الفسق أو قميص النسك.

وقال النصر آبادي : للباس كلها ملك الحق ولباس التقوى لباس الحق قال الله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) واللباس الذي يواري السوءة لباس الكرامة ، ولباس التقوى لباس الإيمان وهو أشرف.

وقال بعضهم : لباس الهداية للعوام ، ولباس التقوى للخواص ، ولباس الهيبة للعارفين ، ولباس الزينة لأهل الدنيا ، ولباس اللقاء والمشاهدة للأولياء ، ولباس الحضرة للأنبياء.

وقال الأستاذ : للقلب لباس التقوى وهو صدق القصد بنفي الطمع ، وللروح لباس أمن التقديس وهو ترك العلائق وحذف العوائق ، وللسر لباس من التقوى وهو نفي المساكنات والتصاون من الملاحظات (١).

ثم إن الله سبحانه حذر بني آدم بما حذر آدم عليه‌السلام من متابعة الشهوات وطلب المألوفات بقوله : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أي بطول الأمل والطمع في البلوغ إلى كبر السن ورغد العيش في المال والجاه.

كما طمع آدم عليه‌السلام في الخلد والإقامة في الجنة ؛ لأنها تخرج العبد من مقام القدس والأنس إلى عالم الكدورة والوحشة ، كما كان حال آدم عليه‌السلام ، وأن هذه الأشياء ينزع كسوة الأنوار عن سرّه وتصيره عريانا من لباس التقوى الذي ذكره الله.

هاهنا (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) إذا كان العبد متابعا للهوى نفسه وهوى شيطانه لشهوته ، وطلب حظه ينزع عنه لباس صفاء العبادة ويجرّد من نور الحضرة ، ويبدو له علل الإنسانية بنعت غلبتها عليه فإنها طوارق ليلة الهجران فيرى فيها تلك السوءة أضاف نزع لباسهما وإخراجهما من الجنة إلى العدو وفي الحقيقة هو واسطة القهر إذا يرى

__________________

(١) انظر : تفسير القشيري (٢ / ٣٥٩).

طوارق القهر في ليلي امتحان العبد يتبعها بوسوسة وإلقاء مزخرفاته إليه ، والأفاني له القدرة على إغواء العباد وليس إليه الضلال وفي كل موضع يرى أنوار العناية ونيران المحبة نحسا من هناك خوفا من احتراقه في تلك النيران والأنوار.

سئل بعضهم : ما الذي قطع الخلق عن الحق بعد إذ عرفوه؟ فقال : الذي أخرج إياهم من الجنة اتباع النفس والهوى والشيطان.

قال ابن عطاء : خروج آدم عليه‌السلام من الجنة وكثرة بكائه وافتقاره ، وخروج الأنبياء من صلبه خير له من الجنة والتنعيم والتلذذ بنعيمهما.

وقيل في قوله : (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) : هو أنوار القرب ولعان العزة.

قال أبو سعيد الخراز : هو النور الذي شملهما في القرب.

قال النصر آبادي : أحسن اللبسة ما ألبس الصفي في الحضرة فلمّا بدت منه لمخالفة نزع عنه.

لذلك قال بعض السلف : من تهاون سر الله عليه أنطقه الله بعيوب نفسه.

قال الأستاذ (١) : من أطغى على وسواس نفسه بإسراع الهوى وحد الشكلية بين وساوس الشيطان وهواجس النفس ، فيتناصر الوسواس والهواجس وتصير خواطر القلب ، وزواجر العلم معمورة مقهورة ، فعن قريب تشتمل تلك الوساوس صاحبهما وينخرط من سلك موافقة الهوى فيسقط في مهواة الزلة ، فإذا لم يحصل تدارك يوشك التوبة صارت الحالة قسوة والقلب إذا قسا فارقته الحياة وتم له البلاء.

وزاد تعالى تحذيره من الشيطان ، وبيّن أنه يسترق من حيث لا يراه الإنسان بعقيب بقوله الآية : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) أراد أن الشياطين ينظرون إلى العبد من حيث يأتي عليه مقادير المشيئة بنعت الامتحان ، فإذا يرون قضاء عليه يتبعونه بقصد الإغواء والعبد لا يرى ذلك مادام وراء حجب شهوته ، ولا يرى الشياطين مادام في ظلمات طبعه ؛ فيفعل به ما كان من صنيعهم فإذا خرج من ظلمة النفس والهوى إلى ساحة الحضرة وينظر إلى أسماء الغيب ويلتجئ إلى قرب مولاه من شر نفسه وشياطينه يبصره الله الشياطين ومكائدهم فيلقي إليهم من قارورة الاستعاذة ميزان المحنة ؛ فيحرقهم جميعا بتأييد الله قال تعالى في ذلك من نيرات كتابه آيتين واضحتين الأولى في وصف رؤيتهم مواقع حيلهم وأشكالهم ، الأولى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ

__________________

(١) في تفسيره (٢ / ٣٥٠).

تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) ، والأخرى قوله : (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ).

قال ذو النون المصري : إن كان هو يراك من حيث لا يراه فإن الله يراه من حيث لا يرى الله فاستعن بالله عليه ، فإن كيد الشيطان كان ضعيفا وبكرمه وفضله صرف الشيطان عن أوليائه وجعلهم أحباء أعدائه وحث الأولياء بعداوتهم جميعا بقوله : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أضاف الكل إلى نفسه جعل ألفة الأولياء في قلوب المؤمنين وجعل ألفة الفساق في قلوب المفسدين فلا تضر عداوتهم أولياءه ؛ لأنهم في عين رعاية الأزل من شرهم.

قال ابن عطاء : (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ) ، (إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ) فالحقيقة منها ما أضاف إلى نفسه والمعارف ما أضاف إليهم ، كذلك خطابه في جمع القرآن ولمّا انصرف القوم عن طريق العدل والإحسان ومتابعة الحق في طلب الغفران وتابعوا سلاك الضلال ، أمر الله صفيه عليه عليه‌السلام أن يظهر لهم ما يليق بحضرته تعالى من العدل والإخلاص والتوحيد والتوجه من كل شيء دونه بقوله : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) (١) القسط استواء السرّ بنعت التجريد ، والتقديس عن الحدث في رؤية القدم بحيث لا يكون في البين من حظ النفس شيء ؛ لأن هناك حظ النفس وجد أن حلاوة برد المشاهدة وحظ الله هناك احتراق النفس في نيران التوحيد حين أبرز الحق للسرّ أنوار عزّة الأزل فيستوي بنعت الاستقامة على وصف صفات الأزلية.

ألا ترى كيف فتح أبواب الإحلال في كشف الجلال لأهل شهود الغيب ودعاهم إليها بنعت الانقطاع عن الالتفات إلى الحدثين بقوله : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) أي : حيث يبرز لكم أنوار القدرة وسنا المشاهدة ضعوا وجوهكم على تراب فناء العزّة على وصف رفع الأغيار من ساحة الأنوار عند التضرع والدعاء ؛ فإن الدعاء شوق القلب إلى لقاء الرب بحيث لا يرى في البين غير الرب بإشارته ، (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) صافين عن كدورة الحدث والنظر إلى الغير ، فإذا تم هذه الصفات تم حقائق العبودية التي سماها الله

__________________

(١) القسط العدل ، ويقع ذلك في حق الله تعالى ، وفي حق الخلق ، وفي حق نفسك ؛ فالعدل في حقّ الله الوقوف على حدّ الأمر من غير تقصير في المأمور به أو إقدام على المنهيّ عنه ، ثم ألا تدخّر عنه شيئا مما خوّلك ، ثم لا تؤثر عليه شيئا فيما أحلّ لك ، وأمّا العدل مع الخلق ـ فعلى لسان العلم ـ بذل الإنصاف ، وعلى موجب الفتوة ترك الانتصاف. وأمّا العدل في حق نفسك فإدخال العتق عليها ، وسدّ أبواب الراحة بكل وجه عليها ، والنهوض بخلافها على عموم الأحوال في كل نفس. تفسير القشيري (٢ / ٣٦٢).

الدين أي مثل هذه الطريقة له.

قال الجنيد : في هذه الآية أمر بحفظ السر وعلو الهمة وأن يرضى بالله عوضا ممّا سواه.

وقال رويم : خلاص الدعاء أن ترفع رؤيتك عن أفعالك.

وقال حارث المحاسبي : وإخلاص الدعاء إخراج الخلق من معاملة الله.

وقال أبو عثمان : الإخلاص لسان رؤية الخلق لدوام النظر إلى الخالق.

وقال بعضهم : الإخلاص دوام المراقبة ونسيان الحظوظ كلها.

وقال الأستاذ في قوله : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) : الإشارة منه إلى استدامة شهوده في كل حالة وألا ينساه لحظة في كل ما يأتيه فنذره ويقدمه ويؤخره.

ولمّا أمر الكل بالعبودية الخاصة وخاطبهم بالوسائط بعد خروجهم من كتم العدم إلى ساحة الوجود على سمات القضاء والقدرة والشقاوة والسعادة والهداية والضلالة ، فأحالهم على سابق المشيئة.

أي : ليس كل من أقبل إلى العبودية فهو من أهل الوصال ، وليس كل من فرّ من مقام العبودية وأماته النفس في الطاعة إلى كدورة حظوظ البشرية فهو من أهل الفراق.

فإن الطاعة والمعصية خاصّان في البين ، ومن كانت فطرته فطرة المقبولين يكون مقبولا بأي صفة كان ، ومن كانت فطرته فطرة المطرودين يكون من المطرودين بأي صفة كان بقوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) بدأ الكل بسمتين سمة اللطف وسمة القهر ، فمن صحبة سمة لطفه لا يضره تصاريف التلوين ، ومن صحبة قهره لا ينفعه ظاهرة التمكين ، فيكونان بعد خروجهما من محل الامتحان على نعت فطرة الأزل فريقا في أنوار المعرفة وفريقا في ظلمة الطبيعة.

قال النوري : يجري عليكم في الأبد ما قضينا عليكم في الأزل.

وقال الحسين : لا تغتروا بما أجرى عليه من الأعمال ؛ لأن الأعمال قد توافق الخلقة وتخالف.

قال بعضهم : يعودون منه إليه أفقدهم لذّة الأشياء لوجوده ، وأخلصهم بعلمه عن علم من سواه ، وأعتقهم بإرادته عن إرادة الأغيار.

ولي هاهنا نكتة كما بدأكم بعضا في رؤية الجمال وقعوا في المعرفة ، وبعضا في رؤية الجلال وقعوا في النكرة ، أبواب عين نفس القدم ، وهناك تقصير الأفهام عن الإدراك بقيت في ضلال النكرة ، فريق بقي في نكرة النكرة أبدا ، وفريق بقي في معرفة المعرفة أبدا ، ولمّا ذكر سبحانه إقامة الوجوه بنعت العبودية في مساجد الشهود أمرهم بأخذ زينتها في مواقف

المراقبات بقوله : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) زينة العبد لباس العبودية الذي طرازها التواضع ، وسداه الاستقامة ، ولحمته الإخلاص قطع ذيله من الحدثين ، وقصر كمه من الأكوان ، وجيبه خشوع وعطفه خضوع وصاحبه منور بنور المآب مشرف بحسن الثواب ، فزينة التائبين الحرقة والبكاء ، وزينة الورعين التضرع والثناء ، وزينة الزاهدين سمات نور السجود على وجوههم ، وزينة العابدين سطوع نور الغيب من عيونهم ، وزينة المحبين الوله والهيجان ، وزينة المشتاقين الزفرة والهيمان ، وزينة العاشقين الوجد والغليان ، وزينة المستأنسين السكينة والوقار ، وزينة العارفين الهيبة والإجلال ، وزينة الموحدين الحيرة والفناء ، دانيهم في العبودية وعاليهم في الربوبية ، من أتى بالعبودية فلباسه لباس الأفعال ، ومن أتى بالربوبية فلباسه لباس الصفات ، ومن أتى بنعت القناعة مقبلا إلى قبلته القدم ، فلباسه لباس الذات فشتان بين الأحوال ، وشتان بين اللباس ، وشتان بين العباد

تزيّن النّاس يوم العيد للعيد

وقد لبست ثياب الزرق والسود

أصبحت في ترح والناس في فرح

شتّان بيني وبين الناس في العيد

قال الواسطي : (يا بَنِي آدَمَ) تغيّر كأنه يقول : يا بني النقص والعيب ، يرد ذلك عليهم حتى لا ينظروا إلى أنفسهم ، ولا يلتفتوا إليها.

وقال الأستاذ : على موجب الإشارة زينة العبد بحضور الحضرة ولزوم السدة والاستدامة لشهود الحقيقة.

ويقال : زينة نفوس العابدين آثار السجود ، وزينة قلوب العارفين أنوار الوجود ، فالعابد على الباب بنعت العبودية ، والعارف على البساط بحكم الحرمة ، فشتان بين عبد وبين عبد.

وقال : زينة النفوس مدار الخدمة ، وزينة القلوب حفظ الحرمة ، وزينة الأرواح الإطراق بالحضرة باستدامة الهيبة والحشمة.

ويقال : زينة اللسان الذكر ، وزينة القلب الفكر.

ويقال : زينة الظاهر السجود ، وزينة الباطن الشهود.

ويقال : زينة النفوس حسن المعاملة من حيث المجاهدات ، وزينة القلوب دوام المواصلات من حيث المشاهدات ، وأذكر هذه الزينة التي هي آثار قربة على أهل محبته الذين يلبسون لباس أهل البسط والأنس والانبساط من لبن الحب الذي لا يليق إلا بعشاق الله وعرائس بساط الله ، ويأكل أكل الحنانيين من أطيب المباحات في مقام الرفاهية غير بعد ذلك أهل إنكارهم الذين ينكرون أولياء الله بلبس الفاخرات ، وأكل الطيبات في مقام المشاهدات

التي هي أعياد العارفين والموحدين بقوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) (١) الخطاب يحتلم الغضب على الأعداء والتفضل على الأولياء من اجترئ أن ينكر على أحبائي الذين هم ملوك حظائر قدسي وعرائس مجالس أنسي باكتسائهم بزينة العاشقين ، ويتناولهم من طعام المستأنسين ، وأعلم أنها خارجة عن كسب الخلق حيث أضاف إخراجها إلى نفسه ، بقوله : (زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) أي : هي زينة أخرجها لقاصديه وعاشقيه ، أخرجها من تكلف الخلق حين أخص نفسه بإخراجها لهم ، وهي التي ما جرت عليها حيل الخلائق بقدسه عن غبار العلائق حلالا على أهل الحق ، حيث لا يدخل فيها خيانة الخائنين ، ولا كسب البطالين مباحا لأهل الأنس بحيث جاءت من عنده بلا علّة ولا كلفة ، يأكلونها بالتوكل ويلبسونها بالرضا والمحبة على عادية على الأعداء باقية على الأولياء بقوله : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ). وأيضا : في الحقيقة نور جماله وجلاله الذي ظهر من بشرة العارفين والطيبات من الرزق ، هي موائد الأنس على خوان القدس ، وإثمار التجلي من أشجار التدلي.

قال بعضهم : الزينة التي أخرج الله لعباده هي المباحات في البوادي ، والكسب الحلال في الحضر ، والطيبات من الرزق هي الغنائم.

وقال أبو عمرو الدمشقي : من حرّم التزين بما يبدو على الأولياء من المعونات والكرامات التي أخرجها لعباده المخلصين والطيبات من الرزق كسر الفقراء الذين يأخذونها عن ضرورة وفاقة.

وقال الأستاذ : الطيبات من الرزق أرزاق النفوس بحكم أفضاله سبحانه ، وأرزاق القلوب بموجب إقباله تعالى.

ويقال : أرزاق المعبدين إلهام ذكر الله ، وأرزاق العارفين الإكرام بنسيان ما سوي الله.

ولما ذكر تفضله تعالى على الموقنين العارفين بأن رزقهم من مدخور ما عنده في خزائن جوده من الزينة والطيبات التي قويت بها أبدان الصديقين ، وحرمت عن لذتها أجساد المفلسين الذين يتركونها رياء وسمعة وتزهدا وتقشفا وسالوسا وناموسا ، ويقولون إنها محرمة على أولياء الله جهلا بالشريعة وإنكارا على أهل الحقيقة ، بيّن أن ما حرم الله ليس هي إنما حرّم سمعة الظاهر ورياء الباطن وأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجواب الراجعين عن طريق الحق بقوله : (قُلْ إِنَّما

__________________

(١) عطف على زينة الله أي من حرم أيضا المستلذات من المآكل والمشارب كاللحوم والدسوم والألبان ، تفسير حقي (٤ / ١٣٦).

حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) (١) فحش الظاهر مباشرة ما يشغله عن العبادة الخالصة ، وما بطن ما يجري على القلب من الوسواس الذي يكون حجابا بينه وبين مشاهدة الحق ، وأيضا ما ظهر منها من الفواحش ، هو ما يجرى في صورة الفعل بالمعصية ، وما بطن فيها ما يبقى في النفس من حلاوة مباشرتها ، وزاد ذكر ما أنكره تعالى بقوله : (وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ) الاسم ظاهرا الإنكار على الأولياء ، والبغي الحسد في الباطن عليهم.

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤))

قوله تعالى : (وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي : امتنع بجلاله وعلو كبريائه في القدم من أن يكون معه في الألوهية ضد الشرك رؤية الغير في البين ، ثم ألقى الرغام على أنوف المدعين الذين يدعون علوم اللّدنيات بقوله : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

قال سهل : أن يكلم عن الله بغير إذن على غير سبيل الحرمة وحفظ الأدب ، فقد هتك ستره وغدا طوره ، وقد حذر الله تعالى أن يقول أحد عليه ما لا يعلم (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

قال أبو عثمان في قوله : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) : ما تريد لغير الله من الطاعات.

وقال بعضهم : ما ظهر من الفواحش هو الكذب والغيبة والبهتان ، وما بطن الغل والغش والحقد والحسد.

وقال الأستاذ : ما ظهر منها الذلّة ، وما بطن الغفلة.

ويقال : فاحشة الأحباب الصبر عن المحبوب.

(يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ

__________________

(١) ما أحد أغير من الله ، ولذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وما أحد أحبّ إليه المدح من الله ، ولذلك مدح نفسه ، وما أحد أحبّ إليه العذر من الله تعالى ، ولذلك أرسل الرّسل وأنزل الكتب». البحر المديد (٢ / ٢٠).

بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥))

قوله تعالى : (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ) أي : من تقدس عن ما دون الله في رؤية إجلال الله وعظمته ، وأصلح ما بينه وبين الله من أنفاس بنفسها في غير الشوق إلى الله ، وغير ملاحظة جماله وجلاله ؛ لأن كل نفس يخرج من العبد بغير هذه الأوصاف فاسد وإصلاحه على العبد واجب بالمراقبة والرعاية والمحافظة عن جميع الخواطر ، ومن كان بهذه الصفة لم يبق عليه من جنايات النفس شيء فلا خوف عليه من فوت المقامات ، ولا له حزن من احتجابه عن المشاهدات بقوله سبحانه : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

قال بعضهم : من اتقى في ظاهرة عن تناول الشبهات ، وأصلح باطنه بدوام مراقبة الله تعالى : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) في الدنيا ولا حزن عليهم في الآخرة ، ثم إن الله سبحانه وصف هؤلاء المقدسين بقدس خواطرهم من علل الإنسانية وغل الشيطانية ، ووصفهم بصدق الآخرة ، وجلوسهم على أسرار العناية في الحضرة بنعت الألفة والزلفة في مشاهدته ، حيث

رفع الله الحجب وسقاهم من تسنيم شراب الوصال في كشوف الجمال بقوله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ).

أثبت سبحانه وبيّن أن صدروا أهل الولاية ، وأهل بساط القرب مع إنها مكان نور الإسلام واليقين فائضا فيها أماكن علل الإنسانية من الغلّ والغشّ ، ولا يخرج الأولياء من هذه العلل ، وعن حد البشرية حتى لا يظن ظانّ أنهم خلقوا مقدسين ، وإذا كان كما توهموا فأين محل الامتنان عليهم بإضافة تقديس صدورهم بتفضله ، ونزعه عن أسرارهم كل خاطر لا يليق بحضرته وتصديق ذلك قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ قال : «فينا والله أهل بدر نزلت : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الحجر : ٤٧]» (١).

وأيضا : يحتمل أن هذا النزع إشارة إلى أن قلوبهم خلقت مقدسة عن هذه الشوائب ؛ لأنها محل نظر الله ، وفي هذه العلّة تجري على صدورهم الخارجة عن القلوب ؛ لأنها موضع وسوسة الشيطان بقوله تعالى : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) [الناس : ٥] والعلّة إذا لم تدخل القلب فهي طارئة لا يثبت أثرها ، فعلّة الأولياء في الصدور ، وعلّة العموم في القلوب.

قيل : هو التحاسد والتباغض والتدابر الذي نهى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عنها.

وقال بعضهم : من تحظّى بساط القرب سقط عنه رعونات النفس وحظوظ الشيطان ، قال الله : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) وعندي والله أعلم ألا يبلغ أحد إلى درجة الولاية.

وقيل : ذلك قدّس الله صدره عن جميع العلّة وتصديق ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث وصفهم بسلامة صدورهم والنصيحة للأمة ، وذلك حين وصفهم عند أصحابه بسني الدرجات ورفيع الكرامات ، فقيل : يا رسول الله ، بم نالوا؟ قال : «بسلامة صدورهم والنصيحة للأمة» (٢).

ثم أثنى الله عليهم عقب الآية بأنهم عرفوا فضل الله عليهم في قديم إحسانه ولطيف إنعامه الذي لا تدخل فيه علّة الاكتساب ، ولا رحمة الاجتهاد بقوله حكاية عنهم حين تجدون

__________________

(١) ذكره الهندي في كنز العمال (٢ / ٤٥٠).

(٢) رواه البيهقي في الشعب (٧ / ٤٣٠).

المنعم مفضلا عليهم بكشف النقاب ورفع الحجاب : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ) أي : هدانا بنفسه إلى نفسه بسبق عنايته لنا في أزلة.

قيل : فيه دلّنا على توحيده ، وجعلنا في سابق علمه من خواص عباده ، واختار لنا أعز الأديان ، ولو وكلنا إلى اختيارنا لضللنا في أول لحظة.

وقال بعضهم في هذه الآية : رؤية الهيبة توقع قبضا في الأحوال وربما تورث بسطا والعبد متردد فيما بينهما من قبض وبسط ، وحال البسط أورث قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا).

وقال ابن عطاء : لمّا نظروا إلى هداية الحق إياهم نسوا أفعالهم وطاعاتهم وعرفوا المنّة عليهم فقاموا مقام الشكر.

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١))

قوله تعالى : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) إن لله عبادا في الدنيا قلوبهم تطير في الملكوت ، وأرواحهم تطير في أنوار الجبروت ، وعقولهم تستشرق على الأسرار ، وأسرارهم تطلع على الأنوار ، فيرون بنور الله بالله من العرش إلى الثرى ، ويعرفون جميع الخلائق بسمات البعد والقرب التي تظهر من وجوههم ، وهي منقوش خاتم السعادة والشقاوة الذي لا يقرأه إلا عارف رباني ، ولهذا أشار عليه‌السلام بقوله : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» (١).

وهؤلاء على أعراف ذروة شرفات الحضرة يوم القيامة ، مطلعون على أحوال الدارين

__________________

(١) رواه الترمذي (٥ / ٢٩٨).

ينظر إليهم أهل الجحيم فيحتملون برؤيتهم أثقال العذاب ، وينظر إليهم أهل الجنة فيستزيدون من وجوههم سرور العيش ، وهم يشفعون على كل مقصر ، وينعمون على كل متوفر والدليل على ذلك قوله تعالى : (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) السلام منهم عليهم زيادة قربه أهل الجنة وقوله تعالى : (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) يعني أهل الأعراف من أعظم شأنهم عند الله في حضرته وقفوا شفاعة الخلق ، وهم يطمعون أن يدخلوا الجنة ، ويعيشون مع عوام الجنة كالملوك يجلسون مع أهل الدناءة ، لتطييب قلوبهم ، والفرح بملكهم.

روى أبو الحسن الفارسي عن سهل بن عبد الله يقول : أهل المعرفة هم أصحاب الأعراف قال الله : (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) (١) أقاموهم لإشرافهم على الدارين وأهلها ، يعرفهم الملكين كما أشرفهم على أسرار العباد في الدنيا وأحوالهم.

ويقال : عرفوهم غدا بسيماهم التي وجدوهم عليها في دنياهم ، فأقوم موسومين بأنوار القرب وآخرون موسومون بآثار الرد والحجب.

وقال الأستاذ : هؤلاء أصحاب الأشراف خصوا بأنوار البصائر اليوم ، وأشرفوا على مقادير الخلق بأسرارهم ، وأشرفوا غدا على مقامات الكل وطبقات الجميع بأبصارهم.

قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) إن من لطف الله وكرمه على خلقه أن رفع الحجاب من الجنة لأهل النار حتى يحتملوا آلام العذاب برؤية الجنان وأهلها ، وهذا من ألطافه الخفية.

ألا ترى إلى عاشق ينظر إلى وجه معشوقه ، وهو في وسط الثلج والزمهر فلا يجد آلامه لما وجد من حلاوة مشاهدة معشوقه ، اذكر شأن صويحبات يوسف عليه‌السلام كيف قطعن أيديهن في مشاهدة يوسف عليه‌السلام ، وما شعرن في مشاهدته آلام القطع سمعت أن بعضا من المشايخ مضي إلى مسجده بقرب داره بين المغرب والعشاء ، وكان ينزل الثلج فرأى شابا تحت منظر يتكلم مع معشوقه على المنظر ، وهما غائبان في حديثهما عن رؤية الشيخ حتى صلى ورجع ، فلما حان وقت الصبح ومضى إلى قربهما فرآهما واقفين بين الثلج ، والثلج بلغ إلى وسطهما ومع شيخ سراج ، فقالت المعشوقة لعاشقها : مر يا حبيبي ، فإن الشيخ يمضي إلى صلاة العتمة

__________________

(١) يعنى أصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنة والنار بما يتوسمون في سيماهم من آثار نور القلب وظلمته وسيمت الأعراف أعرافا لأنها مواطن أهل المعرفة ، وإنما سمى الله أهل المعرفة رجالا لأنهم بالرجولية يتصرفون فيما سوى الله تصرف الرجال في النساء ولا يتصرف فيهم شيء منه ، تفسير حقي (٤ / ١٥٥).

وأنشد في هذا المعنى :

شهور ينقضين وما شعرنا

بأنصاف لهن ولا سراري

فصاح الشيخ صيحة وخرّ مغشيا عليه ، ثم قام بعد ذلك وتأوه ومزق قميصه ، وقال : واويلاه أن آدميين لم يعلما في عشقهما ومشاهدتهما العتمة من الصباح ، ولم يشعر آلام الثلج في البرد ، وأنا أدعي حب خالق الخلق ، وأكون بهذه الصفة غافلا ، أنشد الحلاج في بلائه حين رؤية مبليه.

وحرمه الود الذي لم يكن

يطمع في إفساده الدهر

ما نالني عند نزول البلاء

بؤس ولا مسني الضر

وقولهم : (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) لأن الماء ضد النار ، أي : يا أهل القدرة في الحضرة أفيضوا علينا من مياه الشفقة ، وما رزقكم الله من مقام الشفاعة.

قال بعضهم : (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) أي : ماء الرحمة أو ممّا رزقكم الله من القربة.

وقال الأستاذ : لا يسقيهم قطرة مع استغنائه عن تعذيبهم وقدرته على أن يعطيهم ما يريدون ، ولكن قهر الربوبية وعزّ الأحدية وأنه فعّال لما يريد لم يرزقهم اليوم من عرفانه ذرة لا يستقيم غدا في تلك الأحوال قطرة ، في معناه أنشدوا :

وأقسمن لا يسقينا أمر شربه

ولو زخرت من أرضهن بحور

وقال : إنما يطلبون الماء ليبكوا به لأنه نفذت دموعهم كما قال لهم :

يا نازحا نزحت دمعي قطيعته

هب لي من الدمع ما أبكي عليك به

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣) إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦))

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)

ذكر سبحانه امتنانه على المؤمنين بما خاطبهم بمجموع كلامه القديم الذي أبنا ما عنده لهم من مدخور السعادات ، وسني الكرامات ، وعظيم الدرجات ، ودعاهم به إلى أعمال ذكية ، وأحوال شريفة ، ومقامات عزيزة ، وعرّفهم به بأسمائه ونعوته وصفاته وذاته تعالى وأفعاله في انتظام صنائعه ، وإعلام قدرته وبدّلهم به إلى المعرفة كل صفة من صفاته القديمة التي معرفتها معرفة ذاته تعالى ، عرّف نفسه به للعارفين ، وفتح بمفاتيحه كنوز غيبه للروحنيين ، وكشف قناع الجهل بأنواره عن قلوب الغافلين والعالمين ، وجذب بلطائفه قلوب المحبين والمشتاقين والعاشقين إلى مشاهدته ووصاله ، ورتّب فيه مقامات العبودية ومعارف الربوبية ، وذلك صدر منه بسابق علمه وقديم حكمه ، ويهدي به إلى نفسه قلوب المؤمنين به ، وذلك منه رحمة كافية للعموم والخصوص ، وكان رحمته سبقت في الأزل لمن خاطبه سبحانه بنعمة هدايته به إليه ، وأي نعمة أعظم من إنزاله كلامه إلينا الذي يعتقنا من رق النفوسية ، ويخلصنا من شهوات الشيطانية ، ويهدينا بنور إلى أنوار الربانية ، والحمد لله الذي أمنن علينا بفواتح أنعامه ولطائف إكرامه واصطفانا بخطابه ، وجعل استماعنا محل استماع كلامه وقلوبنا أوطان بيانه وأسرارنا أوعية أنوار سلطانه وأرواحنا خزائن عرفانه ، وعقولنا مشاهد برهانه وأبداننا مساقط شرائعه من قرآنه.

قال بعضهم : أنزل الله كتابا فيه هدى من الضلالة ، ورحمة من العذاب ، وفرقانا بين العدو والولي ، لا يعلم معانيها إلا المؤمنين بمتشابهه والعاملون بأحكامه والتالون به أناء الليل والنهار فيه الفلاح لمن طلب الفلاح ، والنجاة لمن رام النجاة ، لا يهلك عليه إلا هالك ولا ينجو به إلا ناجي ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ) (١) ولمّا عرّف نفسه بخطابه للعارفين ، عرّف نفسه أيضا لهم بأفعاله النورية ، وبرهانه القدرتية ، وآياته الصفاتية ، وأعلامه الذاتية ، بقوله سبحانه : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ).

فقد نبّه عن عين الألوهية صريحا حين قال : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) خاطبهم بالتربية ؛ لجذب قلوبهم بالمحبة ثم أشار إليهم بالألوهية لفناء الحدث في القدم ثم صرفهم من المحو إلى الصمود ، ومن الحضور إلى الغيبة ، بقوله الذي أشارة (إِنَّ رَبَّكُمُ) عبارة الأولى للبسط ، والثاني للقبض ، ثم صرفهم من الصفات إلى الأفعال كما صرفهم من الذات إلى الصفات كي

__________________

(١) أي : بيّنا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ ، مفصلة (على علم) أي : عالمين بوجه تفصيله حتى جاء في غاية الإتقان. البحر المديد (٢ / ٢٥٤).

لا تحرقوا في نور الألوهية ، الأول خطاب القلب ، والثاني خطاب الروح ، والثالث خطاب العقل الأول وقوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ) قوله : (اللهُ) وقوله : (الَّذِي) ثم أنزلهم من الشهود إلى الشواهد ، وخاطبهم على قدر عقولهم حيث أحالهم من القدم إلى الحدث لعلمه لضعفهم عن حمل بوادي طارقات سطوات الوحدانية ، قال : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) جعل الآيات مرآة الصفات لأهل المشاهدات خلقها في ستة أيام ، أيام الله قضاء الله وقدره ، احضرها بأيام مخصوصة وهي الستة ، وكل يوم من أيامه ظهور صفة من صفاته ، من مطلع القدم طلعت للعدم لكون الحدث ، وهذه الأيام الستة ظهور ست صفات من صفاته ، أولها العلم ، والثاني القدرة ، والثالث السمع ، والرابع البصر ، والخامس الكلام ، والسادس الإرادة ، كملت الأشياء بظهور أنوار الصفات الستة ، ولما أتمّها صارت الحدثان كجسد آدم بلا روح من صفاته السابعة ، وهي حياته القديمة الأزلية الباقية المنزّهة عن همهمة الأنفاس ، والمشابهة والقياس ، فقامت الأشياء بصفاته القائمة بذاته ، ويكون الأبد لحياتها بروح حياته المقدسة عن الاتصال والانفصال ، وفي أدق الإشارة السماوات الرواح ، والأرض الأشباح ، والعرش القلوب.

بدأ بكشف الصفات للأرواح ، وبدأ بكشف الأفعال الأشباح ، ثم بدأ بكشف الذات للقلوب ؛ لأن مناظر القلوب محل الغيوب ، والغيوب من القلوب محل تجلّي استواء القدم استويّ قهر القدم بنعت الظهور للعدم ، ثم استويّ تجلّي الصفات على الأفعال ، واستويّ تجلّي الذات على الصفات ، فاستويّ بنفسه لنفسه على نفسه المنزّهة عن المباشرة بالحدثان والاتصال والانفصال عن الأكوان وبالأكوان ، الاستواء صفة ذاتية خارجة عن مطالعة الخليفة خصّ السماوات والأرض بتجلّي الصفات ، وخصّ العرش بتجلّي الذات السموات والأرض ، جسّد العالم والعرش قلب العالم والكرسي دماغ العالم ، خصّ الجميع بالأفعال والصفات ، وخصّ العرش بظهور الذات لأنه قلب الكل ، وهو غيب الرحمن وعلمه وحكمته ، رأيته في المكاشفة أنوار شعشعانية بلا جسم ولا مكان ولا صورة يتلألأ ، فسألت عن ذلك ، فقيل لى : هذا عالم يسمى عرشا.

قيل في التفسير : عرشه علمه ، كقول ابن عباس في تفسير قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) [البقرة : ٢٥٥] ، أي : وسع علمه ، ثم رجع إلى ذكر الأفعال لبقاء الأرواح والأشباح بقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) بدأ بذكر الليل لأنه ستر الأولياء ، وحجال الأصفياء ، وملجأ النقباء ، وخيام عرائس أهل المناجاة بلبس القبض البسط ؛ لأنها ضدان ويقبض ويبسط الليل قبض العارفين ، والنهار بسط المشاهدين

يكون أحدهما طالب الأخر لأن وصفه الحضور والغيبة من خفاء التجلّي ، وبدأ به الليل النفس ، والنهار القلب ، والشمس الروح ، والقمر العقل ، والنجوم المعلوم مسخرات في أسماء الملكوت ، وهو الجبروت بأمره بقدرته الكاملة وعزّته الشاملة ومحبته القديمة التي تؤلف أرواح القدسية إلى مشاهد الأزلية ، ثم أن الله سبحانه أضاف الكل إلى أمر مشيئته ونفاذ قدرته وأخرج الجميع من تكلف الحدثان وعلمه الأكوان بقوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) الخلق فعله ، والأمر صفته الخلق في الأشباح ، والأمر في الأرواح بنور الخلق سبب العقول وحيرها من أدرك كنه الآيات ، ويتجلّى الأمر جذب القلوب إلى عالم الصفات وعشقها بجمال الذات ، ثم أثنى على نفسه حيث تقتصر الإفهام عن وصف صفاته ، وتقصر الألسن عن البلوغ إلى مدح ذاته بقوله : (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي : تقدس عن كل ما يجري على خواطر خلقه رب العالمين رب الجميع بظهور صفته في خلقه ، ورب العارفين بظهور ذاته في صفته.

قال الأستاذ : في هذه الآية تعرف إلى الخلق بآياته الظاهرة الدالة على قدرته وهي أفعاله وتعرف إلى الخواص منهم بآياته الدالة على نصرته التي هي أفضاله وإقباله ، وظهر لأسرار خواص الخاص بنعوته الذاتية التي هي جماله وجلاله ، فشتان بين قوم وبين قوم.

قال الواسطي في قوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ) : والأمر إذا كان له فمنه وبه وإليه ؛ لأن الأمر صفة الأمر ، ولما عرفهم إعلام الربوبية أمرهم بخالص العبودية ، وأدبهم فيها بأحسن التأديب بقولها : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) فإذا عرفتم نعوت الكبرياء وجلال العظمة وعزّ القدم والبقاء ، كونوا في رؤية هذه الصفات عند احتياجكم إلينا بنعت الفناء بحيث لا طلع على أسراركم نفوسكم ، فإن دعوة المضطر تقع على سامع الغيوب حين هاجت بوصف اللطف من لسان القلوب ، وأن أصفى الوقت في التضرع ودعوة الخفية وذكر الخفي الذي وصفه عليه‌السلام بالخيرية ، حيث قال : «خير الذكر الخفي» (١).

وقال أبو عثمان : التضرع في الدعاء أن لا تقدم إليه أفعالك وصلواتك وصيامك وقراءاتك ، ثم تدعو على أثره إنما التضرع أن تقدم افتقارك وعجزك وضرورتك وفاقتك وقلّة حيلتك ثم تدعو بلا علّة ولا سبب فترفع دعاءك.

وقال الواسطي : تضرعا بذل العبودية وخلع الاستطالة خفية ، أي : أخف ذكرى صيانة عن غيري ، ألا تراه بقول : «خير الذكر الخفي» (٢).

__________________

(١) رواه ابن حبان (٣ / ٩١).

(٢) تقدم في سابقه.

وأفهم أن الدعاء مقامات ، فبعضهم يدعوه بلسان الظاهر ، وبعضهم يدعوه بلسان الباطن ، وبعضهم يدعوه بإشارة العقل ، وبعضهم يدعوه بإشارة القلب ، وبعضهم يدعوه بإشارة الروح ، وبعضهم يدعوه بإشارة السر ، نعت أهل الظاهر التضرع ، ونعت أهل الباطن الافتقار والتخشع ، ونعت أهل العقل الفكر ، ونعت أهل القلب الذكر ، ونعت أهل الروح الشوق ، ونعت أهل السرّ الفناء ، يدعونه بالإذن ولا يكون الإذن في الدعاء إلا في مقامين مقام القبض ومقام البسط ، الدعاء في مقام القبض بنعت العبودية ، والدعاء في مقام البسط الحكم والانبساط من إدراك مباشرة صولة الربوبية ، ولا بدّ للعارفين من هذين المقامين ، والدعاء على أحوال شيء ، دعاء أهل البلاء لكشف الهموم ، ودعاء أهل النعمة لكشف الوجود ، ودعاء المحبين لتسلّي القلوب ، ودعاء المشتاقين للبلوغ إلى الوصول ، ودعاء العاشقين لنيل المأمول ، ودعاء العارفين لوجدان البقاء ، ودعاء الموحدين لمحوهم في الفناء ، وفيه أنس المستأنسين وتضرع العارفين وبهاء المحبين وزيادة قرة عيون الموحدين ، ما أطيب ألحانهم في السجود لكشف مشاهدة الموجود ، وما أحلى روح طيب مناجاتهم بالعبرات وحركات ضمائرهم بالزفرات.

قال الأستاذ : ما أخلص عبد في دعائه إلا روح الله سبحانه في الوقت قلبه ، ثم حذرهم عن الرجوع من الأعلى إلى الأدنى ، ومن متابعة الحق إلى متابعة النفس من تخريب أرض القلب بمسحاة الهوى بعد إصلاحها بصفاء المراقبة والحضور والمشاهدة بقوله : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها).

قال الأستاذ : إمهال النفس عن المجاهدات والرجوع إلى الحظوظ بعد القيام بالحقوق ، فساد الأرض بعد إصلاحها فيه ، ثم زاد سبحانه في آداب الدعاء وقرن بالتواضع والإخلاص فيه مقام الخوف والرجاء بقوله : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي : أدعوه بوصف الإجلال في رؤية جلاله ، وبنعت البسط في رؤية جماله فإن حقيقة الدعاء في الشهود الرجل في العبودية لمعرفة الربوبية ، والسرور من رجاء الوصول إلى المقصود.

وأيضا : (وَادْعُوهُ خَوْفاً) من إطلاعه على جريان كل مأمول سواه في القلب ، أي خافوا من طيران ذكر الحدث في رؤية القدم ، (وَطَمَعاً) معناه الطمع في مقام من قربه أشرف من مقام الدعاء ؛ لأن الدعاء وسيلة ؛ فإذا حصل الوصول انقطع الوسيلة ، وأيضا خوفا من رد الدعاء ، وطمعا في استجابة الدعاء ، وبيّن تعالى أن من كان هذا وصفه يكون من المحسنين

الذين يقربون منه بقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (١).

قيل في قوله : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي : خوفا من عقابه وطمعا في ثوابه.

وقيل : خوفا من بعده وطمعا في قربه.

وقيل : خوفا من أعراضه وطمعا في إقباله.

وقيل : خوفا منه وطمعا فيه.

قيل : المحسن من كان حاضر بقلبه غير لاه عن ربه ولا ناس لحقه.

ثم وصف الله نفسه بإنشاء مبشرات قربه من بطنان غيبة لوصول النسائم ورد مشاهدته إلى مشام أرواح عاشقيه ، وأفئدة مشتاقيه ، وأسرار وصليه ، وقلوب محبيه ، والباب مريديه.

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨) لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣))

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) يرسل نسيم وصاله في أسحار أصباح طلوع جلاله إلى مشام المستأنسين بشهوده في سجودهم لزيادة عطش شوقهم إلى وابل بحر مشاهدته من سحائب قربته وزلفته قدام ظهور سحاب صفاته التي تتجلّى من بحر ذاته للأرواح العاشقة ، وتسقيها من بروق الوداد ما لا يستقر بشربها الأرواح في الأكوان والحدثان ، بل تطير في فضاء البقاء وهواء القدم بأجنحة الآزال والآباد أظهر بلطفه ومحبته رياح تجلّي الصفات قبل ظهور تجلّي الذات ؛ لإعلام قوانيط القبض ببروز

__________________

(١) مصدران في موقع الحال أي خائفين من الرد لقصور أعمالكم وعدم استحقاقكم وطامعين في إجابته تفضلا وإحسانا لفرط رحمته. تفسير حقي (٤ / ١٦٩).

سحاب تجلي الذات لأحياء بلادة قلوبهم الميتة بجذب كشف القدم بقوله : (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) لا يستقل حمل أثقال تجلّي الذات إلا رياح تجلّي الصفات ، ولا يقدر سوق أنوار القدم إلا القدم ، ولا يقدر سقي زلال بحر الآزال إلى عطاش شراب الحيرة إلا الأزل ، ولا يقدر أن يخرج من بلاد القلوب ثمار أشجار الغيوب إلا علام الغيوب بقوله : (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ثمرات المقامات والحالات والمكاشفات والمشاهدات.

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد

لقد زادني مسراك وجدا على وجد

قال بعضهم : كل ريح تنسم نوعا من الرحمة ؛ فريح التوبة تنشر على القلب رحمة المحبة ، وريح الخوف تنشر رحمة الهيبة ، وريح الرجاء تنشر رحمته الأنس ، وريح القرب تنشر برحمته الشوق ، وريح الشوق تنشر نيران القلق والوله ، قال الله : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ).

قال الأستاذ : تباشر التقرب بتقديم فينادي نسيمه إلى مشام الأسرار.

قال قائلهم :

ولقد تنسمت الرياح لحاجتي

فإذا لها من راحتيك نسيم

وقال الأستاذ في قوله حتى إذا قلت : (سَحاباً ثِقالاً) الإشارة تحصل لمهجور تمادى به الصد وبرح به الوجد وأنحل جسمه ، بل أبطل كله البعد فيأتيه بشير القرب فيعود عودا ووصله بعد الذبول طريا وبصيرا وأرس حاله عقب السقوط قويا كما قال قائلهم :

كنّا كمن ألبس أكفانه

وقرب النّعش من الملحد

فحال ماء الروح في جسمه

فردّه الأصل إلى المولد

تبارك الله سبحانه ماكرهم هو بالسرمد ، وذكر سبحانه القلب الذي هو بلد الله الذي مطر عليه من بحر امتنانه ، ويخرج منه نبات ألوان الحالات والمقامات ، ويذكر ما هو بخلافه الذي فيه سجة الشهوات وشوك حظوظ البشريات بقوله : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) إلا يا أخي أرض القلوب تنبت أزهار المواجيد ورياحين المواريد بقدر كشوف أنوار الصفات والذات ، فكل قلب بذرة المحبة فنباته المشاهدة ، وكل قلب بذرة الشوق فنباته الأنس والوصال ، وكل قلب بذرة العشق ونباته كشوف الجلال والجمال ، وكل قلب بذرة الهوى فنباته الشهوات ؛ فالقلب المنور يظهر على الجوارح آثار المحبة وهي الموافقة ، وكل قلب مظلم يظهر بالظاهر آثاره وهي المخالفة.

ثم أشار تعالى إلى تبديل الأخلاق ونشر الأفضال وثبوت المقامات وطيران الأحوال بالإرادة السابقة والمشيئة الأزلية المنزّهة عن التغاير في التدبير ، بل هو موصوف بأصل التقدير بقوله : (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) لقوم يعرفون المشكور قبل وجود الآلاء والنعماء ، يجدونه شاكر أنعامه بنفسه فيخجلون عن شكره بعرفانهم بعجزهم عن محل شكره.

قال أبو عثمان : أسعد الطيب مثل قلب المؤمن التقي يخرج نباته بإذن ربه يظهر على الجوارح أنوار الطاعات والزينة بالإخلاص والذي خبث قلب الكافر لا يظهر منه إلا النكد والشؤم والظلمات على الجوارح من إظهار المخالفات.

وقال الواسطي : البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه أي بتوليه ، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا حجب عن التجلّي والخطاب كذلك نصرف الآيات ، كذلك تحرق الشمس طوائف من النبات وتنبتها وتغذي طوائف من النبات وتطيبها ، وذلك على قدر جوهرها ، كما أن بإرادة واحدة ظهرت المخالفات والموافقات.

قال بعضهم : البلد الطيب الذي طيبها بدوام الأمن وعدل السلطان.

ويقال : النسيم الساطع يدل إلى الجوهر اللازم ، إن خبث الجوهر لم يطلب ما لم يحل منه وإن طاب العنصر ، فالحر يحاكي أصله ، والأسرة تدل على السريرة ، فمن صفا ساكن قلبه زكي ظاهر فعله ، ومن كان بالعكس فحاله بالصد.

وقال الأستاذ : وإذا زكى الأصل بماء الفرع.

قال بعضهم : هو قلب المؤمن الذي طهره الله وطيبه طهر الله الروح بماء القربة ، وطيبه بطيب الكرامة ، وطهر القلب بماء العلم ، وطيب السرّ بنور المعرفة ، وطهر اللسان بالصدق والذكر ، وطهر الجوارح بماء العظمة وطيبتها بنور التوفيق.

قوله تعالى : (وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أعرّفكم طريق عرفان ربكم وأرشدكم إلى مشاهدة ربكم وتعطفه ولعلمه على عباده.

واعلم من الله من لطائف بره وجميل عطفه وكشوف صفاته وجمال ذاته وحلاوة مشاهدته ، ولذيذ خطابه ما لا تعرفونها ، ما وصل إليه يكون في ملك لا يبلى وسعادة لا تفنى ، ومن حرم من الوصول إليه يكون في بلاء وحجاب وضلال ، لا ينقضي محبها أبدا.

قال بعضهم : أنصح لكم أدلكم على طريق رشدكم ، واعلم من الله ما لا تعلمون من سعة رحمته قبول التوبة لمن رجع إليه بالإخلاص.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ

غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨))

قوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) (١) أي : محجوبين عن مشاهدة الله ومبعدين عن ذوق محبة الله غير مبصرين ببصائر الأسرار أنوار صفات الله وذاته التي يظهر من كل ذرة سطوعها.

قال ابن عطاء : ضالين عن طريق الحق.

وقال بعضهم : متثاقلين في القيام إلى الطاعات.

وقال بعضهم : عميت أبصارهم عن النظر إلى الكون برؤية الاعتبار ونظرهم نظر مراد وشهوة.

(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ

__________________

(١) أصله عميين جمع عم ، وأصله عمى على وزن خضر فأعل كإعلال قاض. قال أهل اللغة : يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر والمعنى عمين قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد غير مستبصرين وهذا العمى مانع عن رؤية الآيات ومشاهدة البينات. تفسير حقي (٤ / ١٧٩).

قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ

لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥))

قوله تعالى : (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : فاذكر نعم الله في اصطناعه في حسن تصويركم وإلباسكم جمال فعله حتى تكونوا في أحسن خلق وأظرف نعت وظهره لكم بأوضح الآيات وأنوار علاماته الدالة إلى وجوده لعلكم تفوزون من بعده ، وتظفرون بقربه وأفهم أن رؤية النعمة يوجب الشكر ، ورؤية الآلاء توجب الذكر ، ورؤية المذكور والمنعم توجب المحبة.

قال الواسطي : العامة تحبه على النعماء ذلك في قوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [المائدة : ١١] ، والخاصة تحبه على الآلاء ، وذلك في قوله : (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) والأكابر تحبه على الإيثار والربوبية ، ولكل علامة فعلامة الأولى دوام الذكر له والفرج به ، والثانية الاستئناس به لرؤية ما أبعده منه ، والثالثة الاشتغال به أن كل قاطع يقطع عنه.

وقال ابن عطاء : إذا ذكرت آلائه ونعمائه أحببته ، وإذا أحببته قصدته ، وإذا قصدته وجدته ، وإذا وجدته انقطعت إليه ، ونقول عند المشايخ لو أن القوم من أهل خالصة محبته ما أحالهم إلى رؤية الآلاء بل خاطبهم برؤية الذات والصفات.

ألا ترى كيف خصّ خواص المحبين بخطاب رؤيته وإصرافه إلى مشاهدته بقول الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) [الفرقان : ٤٥] لأن محبة الآلائية والنعمائية محبة معلولة كونية ، إذ كونها بسبب حدثي وخالص المحبة ما تصدر من مشاهدة جلاله وجماله ، وكيف يصل إليه من كان سبب حاله ومعرفته ومحبته رؤية الآلاء والنعماء أوقعهم في بداية الذكر.

قال : فأذكر وأجعل لقاءهم منتهى وهو درجة النجاة من العذاب ، ولو كانوا محققين ما خاطبهم بذكر غيره وصفه أفعاله.

وقوله : (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) (١) أي : أنا بعد أن خرجت من حظوظ نفسي وخصني الله برسالة ، وطهرني من شوائب الطبيعة ، وعرفني طريق محبته وخدمته ، وأعرفكم تلك الطريق المباركة شفقة ونصيحة وأنا أمين فيها ؛ حيث لا سبيل للشيطان في نصيحتي بالتهمة

__________________

(١) قال سهل : ومن لم ينصح الله في نفسه ولم ينصحه في خلقه هلك ، ونصيحة الخلق أشد من النفس ، وأدنى نصيحة النفس الشكر ، وهو ألا يعصى الله تعالى بنعمه. وقال أيضا : النصيحة ألا تدخل في شيء لا تملك صلاحه. تفسير التستري (١ / ١٦٢).

التي هي من صفات من يميل قلبه إلى غير الله.

قال أبو حفص : الناصح الأمين الذي لا يكون له في نصيحته حظ لنفسه ولا طلب جاهه وإنما يكون مراده منه قبول النصيحة والنجاة بها.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤))

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ولو أنهم شاهدوا ملكوتي واتقوا سوى جبروتي لتفتح على أرض قلوبهم أنوار مشاهدة صفاتي وذاتي حتى يروني في ملكوت الأرض والسماء بصفة اللطف والجمال ، وتنبت في صحاري قلوبهم رياحين الزلفة والقربة والشوق والعشق والمحبة واليقين والتجريد والمعرفة.

قيل : معناه لو أنهم صدقوا وعدي واتقوا مخالفتي ؛ لنورت قلوبهم بمشاهدتي وهي بركة السماء ، وزينت جوارحهم بخدمتي وهي بركة الأرض وقوله تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) لله بكل قوم مكر ، فمكره بالعموم ممزوج بالقهر ، وهو أن يعطيهم أسباب العبودية ، ولم يوفقهم بها ويعطيهم لسان الشكر ، ولا يعرفهم حقائق استدراجه بسلب النعمة عنهم وأخلاهم بلا نعمة ولا شكر ، ومكره بالخصوص أن يلذّذ ما وجدوا منه في قلوبهم ، ويحجبهم بتلك الحلاوة عن إدراك ما فوق مقاماتهم من مكاشفة الغيوب في القلوب ، ومكره بالمحبين والعاشقين ظهور الصفات في الآيات وهو مقام الالتباس ، ومكره بالعارفين والموحدين أن يريهم نفسه على قدر قوة المعرفة والتوحيد ، ولا

يعرفهم مكان المكر هناك بأن يعملوا أن ما وجدوا منه عندما لم يجدوا منه كقطرة في بحار ، وذلك من حلاوة مباشرة أنوار القدم والبقاء في أسرار أرواحهم وقلوبهم وعقولهم ، ولو أطلعوا على حقائق مكره ، حيث حجبهم به عنه لذابوا من الحياء تحت أنوار سلطان كبريائه وعظمته ، ومكره بأهل الاتحاد أن يريهم جلاله وجماله في مرآة قلوبهم ، فيرونه بحسن الأزل وجمال الأبد بنعت فنائهم فيه ، فيبقيهم به من حد الفناء ، فيرون أنفسهم كأنهم هو من حدة مباشرة الصفة بالفعل ، فيتحجب عليهم ويبقيهم في حلاوة تأثير أنوار الصفات فيرون أنفسهم في محل الربوبية فيدعون هناك بالأنائية (كالحسين بن منصور) و (أبي يزيد) ـ قدس الله روحهما ـ فهناك أخفى المكر وألطف الاستدراج ، ولولا فضله وكرامته عليهم لأبقاهم فيما هم فيه ولكن بلطفه الخفي وإنعامه الجلّي أخرجهم من ذلك ، وأغرقهم في بحار عظمته حتى أقروا بأنهم ليسوا على شيء منه ، وأنهم في أول درجة من عبوديته.

ألا ترى إلى قول أبي يزيد في آخر عمره حيث قال : ما ذكرتك إلا عن غفلة ، ولا عبدتك إلا عن فترة.

وإلى قول حسين بن منصور في وقت قتله قال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ، وهذا لطف الله نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث حرسه من هذا المكر الخفي في مقام رؤية الأعلى وشهود قاب قوسين وأدنى بقوله : «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (١) ، ذوّقه طعم الربوبية وأوقفه في مقام العبودية ، حتى افتخر بعبوديته بعد وجدان ربوبيته بقوله : «أنا العبد لا إله إلا الله» (٢) ، وكل صنيع منه لطيف بأوليائه أن مكر بهم وأن لم يمكر بهم ، ومن نجا من مكره والكل في قبضة العزّة متحيرون ، وكيف يأمن به منه من يعرفه بالربوبية ويعرف نفسه بالعبودية.

حكي أن رجلا سأل الشبلي عن معنى مكر الله ، فأنشد الشبلي بقوله :

أحبّك لا ببعضي بل بكلّي

وإن لم يبق حبّك بي حراكا

ويسمج من سواك الشيء عندي

فتفعله فيحسن منك ذاكا

فقال سائل : أسأل عن آيات من كتاب الله ، وتجيبني ببيت شعر فعلم الشبلي إنه لم يفطن ما قال.

فقال : يا هذا مكره بهم تركه إياهم على ما هم فيه.

قال الحسين : لا يأمن من المكر إلا من هو غريق في المكر ، فلا يرى المكر به مكرا ، وأما

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ٣٥٨).

(٢) تقدم تخريجه.

أهل اليقظة فإنهم يخافون المكر في جميع الأحوال إذ السوابق جارية والعواقب خفية.

وقال أيضا : من لا يرى الكل تلبيسا كان المكر منه قريبا.

قال أبو الخير الديلمي : كنت يوما عند الجنيد فارتعدت فرائصه ، وتغير لونه وبكى ، وقال : ما أخوفني أن يأخذني الله ، قال له بعض أصحابنا : نتكلم في درجات الراضين وأحوال المشتاقين ، قال : يا بني إياك أن تأمن مكر الله ، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

قال سهل : المكر تدبير الله بسابق العلم فلا ينبغي لأحد أن يأمن مكره ، وذلك أن من يأمن مكر الله بدفع القدرة ، ولا يجوز أن يخرج نفسه من قدرة الله عليه.

وقوله تعالى : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) كأن هذه الآية أنزلت في شأننا مع هؤلاء البطالين الذين سلكوا الطريقة وأخطأوا بما وجدوا فيها من الجاه والمال ، ونقضوا عهد الإرادة واشتغلوا بالرياسة وخانوا في الطريقة وأنكروا على المشايخ ، أعمى الله قلوبهم ما أشد إنكارهم على أهل الحق وما أشد خروجهم عن طريق الحق ، جمعهم الله في الاستدراج وطردتهم عن أنوار المنهاج كأنه تعالى عاتب الجهور حيث لم يفوا عهد الأزل ، حيث وقف الكل على ما وجدوا ، وهكذا شأن ما ألتفت في مشاهدة المحبوب إلى غير المحبوب ، ولكن هم معذورون لأن الحدثان لا يستثقل أثقال محامل الكبرياء ومطايا القدم ، والبقاء في أودية الفناء.

قال الجنيد : أحسن العباد حالا من وقف مع الله على حفظ الحدود ، والوفاء بالعهود. وقال الله تعالى : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) (١).

قال الأستاذ : نجم في العذر طارقهم ، وأقل من سماء الوفاء شارقهم فعدم أكثرهم رعاية العهد وحق لهم من الحق قسمة الرد والصد.

ويقال : شكا عن أكثرهم إلى أقلهم ، فالأكثرون من رده القسمة ، والأقلون من قبلتهم الوصلة.

(حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦)

__________________

(١) وذكر في أول التي تليها تنازعهم في الأنفال تحذيرا لهم من أن يكونوا من الأكثر المذمومين في هذه ، هذا بخلاف المقصود من سياق قصص بني إسرائيل في البقرة ، فإنه هناك للاستجلاب للإيمان بالتذكير بالنعم ، لأن ذلك في سياق خطابة سبحانه لجميع الناس بقوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [البقرة : ٢١] (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] وما شاكله من الاستعطاف بتعداد النعم ودفع النقم والله أعلم. نظم الدرر (٣ / ٢٦٥).

فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣))

قوله تعالى : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) لما تعاين معجزته وثبت سلطانه تكلم بالانبساط وتلفظ بالهيبة وادعى بالحقيقة ؛ لأنه كان في مشهد القرب والمشاهدة ، وأخبر أنه ينطق بالحق للحق في الحق مع الحق ؛ لأن الحق كان ينطق بلسانه وما نطق إلا بما يليق بالحق ، ومن بلغ مقام الحقيقة فيظهر الحق منه ، للحق فجميع حركاته وسكونه ونطقه وسكوته قام بالحق بوصف المشاهدة لا بوصف الغيبة.

قال ابن عطاء : من تحقق بالحق ؛ فإنه لا يقول على الحق إلا بما يليق بالحق.

وقال الخراز : سبيل الواصلين إلى الله لا يتكلم إلا عن الحق ، ولا يسمع إلا من الحق ولا ينطق إلا بحق ، فإن حقائق الحق إذا استولت على أسرار المتحققين أسقطت عنهم سوى الحق ولا يبلغ أحد من هذه الدرجات شيئا حتى يستوفي الحق أوقاته عليه ومنه فيبقى ولا وقت له ولا حال حينئذ ، والله أعلم.

وقال الأستاذ : من إذا لم يصح له أن يقول على الحق إلا الحق والخلق محو فيما هو الموجود الأزلي ، فأي سلطان لآثار التفرقة في حقائق الجميع.

قوله تعالى : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) ظهر سبحانه بصفات الفعلي عن العصا وألبسها بعد قلبها لباس فعل العظمة لتخويف الكفرة ، وهرب السحرة ، وأكل المخابيل ، وظهر بنور الصفة من يد موسى عليه‌السلام لفتح أبصار الإيقان والإيمان بأنوار صفاته في إظهار البرهان ؛ لأن الجماد محل تصرف فعل العام من طريق الأمر القائم به ، والحيوان محل تصرف فعل الخاص القائم بالصفة لأنه معدان أرواح الطباعية ، والإنسان محل تصرف الصفة القائمة بذاته الأزلي ؛ لأنه أشرف المواضع من العرش إلى الثرى لمحله من العقل القدسي ، والقلب الملكوتي ، والروح القدسية ، ظهر بالفعل عن العصا للعموم وظهر بالصفة عن موسى عليه‌السلام للخصوص ، وعرف موسى عليه‌السلام عجزه في قدرته ، حيث انقلب عصاه بغير اختياره ، وخرجت يده نورانية بغير اختياره ، وكان ذلك أعظم في صدق معجزته حيث لا اختيار له فيه. [سورة الأعراف (٧) : آية ١١٤]

(قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ

الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤))

قوله تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) إن الله سبحانه ألبس أولياءه لباس أعدائه امتحانا لهم ولغيرهم ، فأرشدهم بقهره إلى لطفه ؛ إذ الأصل فيهم سبق اصطفائيتهم في الأزل ، كانوا ممتحنين محجوبين من رؤية اللطف بحجاب القهر ، فلمّا أتوا بالسحرية آلوا التقرب من فرعون من رأس الطبيعة وجرى في الأزل قربهم من رؤية الحق سبحانه ، فنطق الله على لسان عدوه إخبارا عن سابق العناية للسحرة بقوله : (نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) المنطق بالخبر هو الله سبحانه وإن لم يعرفوا مكان الخطاب ، ولكن جرى على وفق العناية خبر الغيب علمهم ، وفرعون في البين واسطة ، وحقيقة الخطاب من الله سبحانه.

قال بعضهم : دعا فرعون السحرة إلى القرب منه ، وجرى لهم في الأزل مقام القرب من الحق.

قال فرعون : إنكم لمن المقربين إلى منازل الأبرار وبعد وأمن قرب الأشقياء.

قوله تعالى : (فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) السحر الحقيقي من عالم الفعل بواسطة الكسب البشري ، والمعجزة من عالم القدرة القديمة ، ولمّا ظهرت الصفة تلاشت معالم الاكتساب وغابت تواثير الفعلية.

قال السوسي : أظهر الحق لطيفة من صنعه في خشية عجز السحرة عنها ، وجعلها سببا لنجاتهم ، فقال : (فَوَقَعَ الْحَقُ) بإظهار القدر في جماد وبطل ما كانوا يعملون من الأباطيل ، ولمّا ظهر قهر القدم بلباس العظمة من عصا موسى عليه‌السلام ، وانهزموا من سطوات العظمة ويا ليتهم لو ثبتوا ورأوا مشاهدة جلاله من لباس عظمته الذي تجلّى من العصا يكون حالهم كحال السحرة ، لكن غابوا في بحر ضلال الأزل ولم يوقفوا بما وفق السحرة عندما كوشف لهم وجه جلال القدم ، فرأوه بلا حجاب فألقوا أنفسهم بنعت الإذعان له عشقا ومحبة وشوقا إلى تلك المشاهدة بما أخبر الله عن شأنهم بقوله : (فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ وَأُلْقِيَ

السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) (١) أي : صدقنا ما أخبر لنا بلسان موسى عليه‌السلام وهارون عليه‌السلام ، وشاهدنا مشاهدته عيانا ، بحيث لم يبق فينا معارضة الإنسانية ، وخطرات الشيطانية.

قال الواسطي : أدركهم سابق ما جرى لهم في الأزل من السعادة ، فأظهر منهم السجود.

وقال جعفر : وجدوا نسيم رياح العناية القديمة بهم فالتجاء وإلى السجود شكر وقالوا آمنا برب العالمين.

وقال أبو سعيد القرشي : نازع موسى عليه‌السلام مع فرعون طول عمره وقد قال الله إنه ليس من أهل الإسلام ، ولكن منازعة موسى عليه‌السلام مع فرعون كانت سبب نجاة السحرة حتى قالوا آمنا برب العالمين رب موسى عليه‌السلام وهارون عليه‌السلام.

قوله تعالى : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) هددهم فرعون بالبلاء ولم يعلم أنهم غرقوا في بحار رؤية المبلي متحملين بلاياه برؤية جماله ولو لا ذلك ما قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض.

قال سمنون : يحمل الهياكل من البلايا على المشاهدة ما لا يحمله في حال الغيبة ، ألا ترى كيف لم يبال سحرة فرعون بما هددكم به من قوله : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ).

(قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ

__________________

(١) أي : فسجدوا بسرعة عظيمة حتى كأن ملقيا ألقاهم بغير اختيارهم من قوة إسراعهم ، علما منهم بأن هذا من عند الله ، فأمسوا أتقياء بررة ، بعد ما جاؤوا في صبح ذلك اليوم سحرة. نظم الدرر للبقاعي (٦ / ٦٣).

سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣))

قوله تعالى : (إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) أجابوا فرعون بعد تهديده لهم بالبلاء بهذه الآية ، أي نحن ذاهبون بنعت الشوق والمحبة إلى مشاهدة ربنا ، ولا نخاف من جميع البلاء لأن من عانيته لا يوثر فيه آلام البلاء ولا يحجبه عن رؤية المبلي.

قوله تعالى : (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا) انظر إلى أدب موسى عليه‌السلام كيف علّم قومه معاملة طريق الله أمرهم بالالتجاء إليه والاستعاذة به والاستغاثة به في تحمل مشقة الصبر ووجدان حسن الرضا في البلاء ، وأخبرهم أن من كان بالله صبر يكون مظفرا على جميع المراد ويكون خليفة الله في أرضه.

قال أبو عثمان : من استعان بالله في أموره ، وصبر على ما يلحقه في مسالك الاستعانة ، أتاه الفرج من الله ، قال الله استعينوا بالله واصبروا.

قال سهل : أمروا أن يستغيثوا بالله على أمر الله ، وأن يصبروا على أدب الله ، ولمّا أمرهم بالاستعانة والصبر شكوا عن عقوبة الأعداء لهم بقوله : (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) ، فأجابهم بقوله : (قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ).

أي : لو يصبرون على مخالفة نفوسكم ودفع شهواتكم وترك حظوظكم الدنيا وبه يذهب الله عن ساح قلوبكم التي هي مواضع المشاهدة غبار الهواجس النفسانية ، ويجعلكم خلفاء الله في أرضه وبلاده.

قال بعضهم : أعدى عدوك نفسك عسى الله أن يمكنك من قيامها ، ويفني عنها أهواءها ومراداتها الباطلة ، ويجعلك خليفة على جوارحك وقلبك أميرا عليك ، فتقهر النفس بما فيها وتستولي عليها وعلى مخالفتها ، فينظر كيف يعملون كيف معرفتك بشكر ما أنعم عليك.

(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ

كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١))

قوله تعالى : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا) أخبر الله سبحانه عن نقض عهد المفسدين بعد رؤيتهم وضوح الآيات ، وظهور المعجزات ، ونيرات الكرامات ، وذوقهم طعم العذاب في البليات جحودا وإنكارا بعد علمهم بصدق الرسالة والنبوة والولاية ، لمّا وقعوا في ورطة الهلاك التجئوا إلى نبي الله عليه‌السلام بعد جفائهم به ، فلم ينفع التجاؤهم وتوبتهم لمّا سبق لهم في قديم العلم من الشقاوة ، ولأنفذ فيهم سهام الهمة النبوية ، وهكذا شأن من جفا المشايخ برعوناتهم وسوء آدابهم لا ينفعهم استعانتهم بالقوم.

قال القاسم : من لا يراع أسرار الأولياء في الأوقات لا ينفعه اللجوء إليهم في أوقات البلاء ، ألا ترى كيف لم يوثر على أصحاب فرعون اللجوء إلى موسى عليه‌السلام في اعتقاد المخالفة.

قال الله : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) ، وقوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) معنى الآية في وارد الحكم أن الكلمة صفته الأزلية ، وهي ذكر الله إياهم في سابق العلم بالتوفيق في عبوديته الخالصة ، وقبولهم امتحانه وبلاه بنعت الصبر والرضا ، وذلك عطاء محض ، حيث تمت تلك النعمة منه تعالى في الأزل لهم.

قيل : وقوع الفعل والجزاء والصبر والرضا فإن من تمام النعمة أن سبقت كلمة الله بنعت إتمام الدرجات لهم قبل وجودهم ؛ فالكلمة تمت بإعطائهم المعرفة والتوفيق في الطاعة ، ليس عناية الله الأزلية متعلقة بصبرهم واحتمالهم الجفاء ، فإنهما ميراث كلمة الحسنى التي سبقت بالعناية لهم ولو لا ذلك لما صبروا ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) [النحل : ١٢٧] ، أي : بالله تصبر وقوله : (وَتَمَّتْ) ، أي : تمت العناية بلا علّة الاكتساب

وصفاته الأزلية لا تحتاج إلى علّة الحدث ، فإن اصطفائية الله منزّهة عن خلل الحدثان وأفعالها.

قال الجنيد : طالبوا تمام الكلمات بوجود النعمة والمواظبة على الصبر فاستشعروا التثبت بحبائل الوفاء عند من أبلاهم ، ليتم عليهم كلمة الحسنى بجميل الثناء على الصبر الذي ضمن لهم إتمامها بالوفاء.

قال أبو سعيد الخراز : طالبوا تمام النعمة بالمواظبة على الصبر واستشعروا وعده الذي ضمن لهم إنما يكون عند القيام بما ألزمهم من شرائط الصبر ؛ لأنه تعالى قال : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى) بصبرهم في بلائه وإعطائهم مواريث الأرض من الملكين ، ملك الدنيا وملك العقبى.

قوله تعالى : (قالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) ردّ الله بلسان نبيه عليه‌السلام قول الجهل عند قولهم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) ، وعرّفهم مكان العقل في الإنسانية وتفضيل الآدمية على الحيوانية ، واختيار الله إياهم التوحيد والشريعة ، أي تطلبون غيره وهو بكرمه ورحمته أعطاكم العقل الذي لا يقبل في العبودية غير الله ؛ لأنه يفرد القدم من الحدوث يعلم من الله معه ، وصوركم بأحسن الصورة التي لو اعتبرتم بها يعرفون أن صانعها الله لا شريك له في ملكه ولا ضد له في سلطانه ، فضلكم على العالمين بإرسالي إليكم ، فإني أتم نعمت الله عليكم.

قال أبو عثمان : أتطلب غيره وهو فضلك على ما سواك من جميع ذوات الأرواح والجماد فتذل وتخضع لغيره ، وهو فضلك عليه ذلّ لمن يذلّ له لتستوي معه فتنال معه به العزّ الأوفر.

(وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥) سأصرف عن ءايتي الّذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يرو كل ءاية لا يؤمنوا بها وإن يروا

سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذّيوا بئايتنا وكانوا عنها غفلين (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧))

قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) أي : من سنة الله سبحانه إذا أراد أن يشرف عبدا من عباده بمقام لم يكن له ذلك وقربه منه وناجاه وأظهر عليه عجائب ملكه وملكوته ، يصفيه عن كل كدورة ، ويخلصه عن كل همه ، ويروضه بأنواع مجاهدة ، ويخلي بطنه عن الطعام والشراب إلا ما يقوى به صلبه ليحرق بنيران الجوع غواشي قلبه ، وتقدس من قلبه مكان نظره ، ويغسل بمياه المجاهدة جوارحه ، ويزويه في الخلوات ، ويشوقه بلطائف المناجاة إلى المشاهدات وله أوقات وساعات لفتح أذان قلوب أوليائه وأبصار أرواح أصفيائه ؛ ليسمعها كلامه ويبصرها جماله وجلاله ، وتلك أوقات تضوع عطر مشاهدته لأهل خلواته ومناجاته لا يستنشق تلك الروائح إلا المعترضون لها في المراقبات والرعايات ، وأخبر من تلك الأسرار سيد أهل الأنوار صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لنفحات الله» (١) ، ومن تلك الأربعين صارت الأربعين سنة لأولياء الله في بداية أمرهم في الخلوة والرياضة بخلوص نياتهم مع الله سبحانه ؛ لوجدان حكمته الأزلية وأبنائه العجيبة ، ومكاشفته البديعة ؛ لأنها عرائس الله لا تنكشف إلا المتفرد عن غير الله ، وأخبر بشرائف ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «من أخلص الله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قبله على لسانه» (٢) ، ما طاب زمان الوصال ومواعيد كشف الجمال لمّا طاب وقت كليم الله في مناجاته حبيبه بعد تمام ثلثين ليلة لم يستوف وطره من لذيذ خطابه ولطف جماله ؛ فعلل بالسؤال ليستزيد المقام في شهود العين ، فعلم تعالى حرق شوقه ولهيب حزنه وزيادة عشقه ومحبته ، فزاد على أوقات الوصال بقوله : (وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) ، وقال : (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) ، ومراده بالأربعين تواتر الحالات والاستقامة في الواردات ؛ ليحتمل بعد ذلك بها أوقات بديهات الكشوف وبروز أنوار القدم ذكر الليالي لخلو الأسرار عن نظر الأغيار وصفاء المواصلة عن غبار المخالفة ، فيالها من سماع ما أطيبه ومن خطاب ما ألذّه من جمال ما أشهاه ومن قرب ما ألطفه.

فكان بالعراق لنا ليال

سلبناهنّ من ريب الزمان

__________________

(١) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (٧ / ١١١).

(٢) رواه هناد في الزهد (٦٧٠) بتحقيقنا.

جعلناهنّ تاريخ الليالي

وعنوان المسرّة والأمان

وعده وجعل الأيام الخطاب ميقاتا لمزيد شوقه وزيادة خوفه وهيجاته.

قيل لأبي بكر بن طاهر : ما بال موسى عليه‌السلام لم يجع حين أراد أن يكلم ربه وجاع في نصف يوم حين أراد أن يلقي الخضر ، فقال : (آتِنا غَداءَنا) [الكهف : ٦٢] ، فقال لأنه في الأول أنساه هيبة الموقف الذي ينتظره الطعام والشراب ، والثاني كان سفر التأديب ، فزد البلاد على البلاء حتى جاع في أقل من نصف يوم ، والأول كان أوقات الكرامة ولمّا أراد المسير إلى الله والذهاب إلى مواعد قربه ومناجاته جعل أتيته هارون عليه‌السلام خليفته في قومه غيره على وقته وعلى محبوبه لئلا يكون معه غيره في سماع أسرار الأزل والأبد بقوله : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي).

استخلف لهارون عليه‌السلام بالشريعة وانفرد عنه في مقام الحقيقة ؛ لأن الحقيقة لا تقبل الغير في البين ولا يكون العشق بالشركة ؛ لأن العشق يغير عن العاشق دون معشوقه ، وكان لهارون عليه‌السلام علم غيرة أخيه فاستقبل الخلافة ولم يعارضه ، وإن كان ميل قلبه بصاحبته في الحضرة ، ولكن تحمل من حلمه أثقال الفراق لصحة المؤاخاة ، وصدق الإرادة.

وقال الأستاذ : لما كان المرور إلى فرعون استصحب موسى عليه‌السلام هارون عليه‌السلام ، فقال الله سبحانه : (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) [طه : ٣٢] ، ولمّا كان المرور إلى سماع الخطاب أفرده عن نفسه ، فقال : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) ولهذا غاية الحلم من هارون عليه‌السلام ونهاية الرضا ، ولهذه من شديدات بلاء الأحباب وفى قريب منه أنشد قال لي مراحب :

والبين قد جد ودمعي موافق الشهيقي

ما ترى في الطريق تصنع بعدي

قلت أبكي عليك طوال الطريق

وفي الآية دليل أن للأولياء خلفاء ونجباء ونقباء يستنون بسنتهم ويقتدون بأسوتهم ويبلغون الى درجاتهم بصدق إرادتهم.

قال محمد بن حامد : لم يزل الأنبياء والأولياء خلفاء يخلفهم في من بعدهم من أمتهم وأصحابهم ويكون هداهم على هداهم ، يحفظون على أمتهم ما يضيعونه من سنتهم وأن أبا بكر كان هو القائم بهذا المقام بعد النبي عليه‌السلام ، ولو لم يقم لهؤلاء يثبت سنين منها محاربة أهل الردّة وغير ذلك ، ولما خرج من أوطان البشرية وترك علّة الرفقة واستقام في الشوق إلى المشاهدة ، وهرب إلى الخالق من الخليفة ، أخبر الله سبحانه عن ذهاب كليمه إليه وإلى ميقات قربه وصاله بوعده بقوله : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) كيف له ميقات وليس عنده مساء

ولا صباح أزله أبده وأبده أزله ، أراد انفراده عن كل مراده وبلوغه إلى كمال تربيته ليقوي أن يقف على مسيل قلزم القدم وعلى مصب طوفان الأزل وعلى مهب صرصر العظمة.

ولولا أنه تعالى أكساه أنوار قربه لذاب في ميقات ربه وقته وقتاله معينا النيل مراده وذلك علّة البقاء البشرية وإلا لكل نفسه له فيه وقت وكشف وخطاب جاء لميقاتنا واحتجب عنا بالميقات ، ولو جاء لنا صرفا ما احتجت عنا أسرى حبيبة إلى الملكوت بالبديهة إلا بالميقات وسرى به ، إليه ولم يبق في همته ذكر الزمان والمكان من استغراقه في بحر هموم طلبه رؤية القدم بلا سؤال ولا حركة ولا إشارة ولا عبارة ولا جرم ، لم يبق بينه وبين الله وقت ولا زمان ولا مكان ، وأراه بعين وهيها له منه وأسمع كلامه بسمع أعطاه إياه منه خص في الأزل كليمه بسماع كلامه.

قال تعالى : (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) لمّا لم يجد في مسامع أسراره مسامع حديث النفس والوسواس ، ألبس سمعه لباسا من سمعه ، فأسمع كلامه بسمعه ، ولو لا ذلك كيف يسمع كلام القديم بسمع المحدث؟

وفي قوله تعالى : (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) إشارة إلى تفضله لموسى عليه‌السلام لما جاء بنعت الشوق والهيمان والعشق والهيجان بخطرات الوالهين إلى موعد رب العالمين ، وصار موسى عليه‌السلام فانيا عن موسى عليه‌السلام ولم يبق في موسى عليه‌السلام إرادة موسى عليه‌السلام بنعت التحيّر في موقف الفناء على جناب القدم والبقاء ، ولم يعلم من تحيره أين هو؟ وأين يطلب؟ وأين يفرّ؟ حيث لا حيث علم سبحانه أنه في ذهاب الذهاب ، فكلمه بالبداهة فطار سرّ موسى عليه‌السلام في هواء الهوية ، وطار روح موسى عليه‌السلام في سماء الديمومية ، وطار عقل موسى عليه‌السلام في فقار الأحدية ، وطار قلبه في أنوار الوحدانية ، وكان كلا شيء الأول كلام التعظيم والهيبة والآخرة كلام اللطف والبسط ففنا في الأول وبقي في الثاني ، ولولا لطفه وكرمه بكليمه كان يتلاشى في أول خطاب ، ولكن من عطفه ورحمته أسمع عجائب كلامه كليمه ؛ ليعرفه بكلامه لأن كلامه مفاتيح لكنوز الصفات والذات.

ولولا اصطفائيته الأزلية لموسى عليه‌السلام واختياره بالتكليم معه ، وأنه لم يخل في طول عمره عن كلامه ووحيه وإلهامه في كل نفس لم يبق في الميقات عند بداهة خطابه أثره وبصفه لذة كلامه وحلاوة خطابه يا ليتني لو أن لي لسانا أزليّا من ألسنة القدم ، لأصف به تلك الحلاوة ؛ لكن لا يفهم من لم يذق طعمه ، ولمّا طاب ذقته من لذيذ خطابه سكر من شراب بحر وصاله ، هاج شوقه إلى طلب مزيد القربة وكشف المشاهدة ؛ فأطلق لسان البسط وخطا خطوات الانبساط وهتك ستر الحياء عن وجه المحبة ، وغاص في بحر الجرأة ، حتى كان حاله ما أخبر

الله سبحانه عند بقوله : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ).

غلب عليه مواجيد الوصالية فخرج من مشيمة الأمر وأسقط في مقام العشق والسكر رسوم الأدب فسكره استنطقه بطلب دنو الدنو وشهوده عين العين ؛ لأن نسيم برد المشاهدة يحويه بلطائف الوصلة ، فلم يبق له قرار ولم يجد من ساكن السكر مفرا ، وكيف يكون السكون للعاشق عن طلب مشاهدة المعشوق في فنائه؟ حيث دنا الشائق من المشوق وأنشد في معناه :

وأبرح ما يكون الشوق يوما

إذا دنت الخيام من الخيام

والله لولا موسى عليه‌السلام أي جمال الحق في كشوفات الغيبية بفنون ألوان قمص الصفاتية وبروز سبحات الذاتية ، ولو لا أن رآه في مقام الالتباس في رؤية كل ذرة من العقل إلى الثرى من مرآة الوجود لم يجد إلى طلب مشاهدة الصرف سبيله ؛ لذلك وجبت الرؤية ولولا أن الرؤية حق الإبصار ، نظر المعرفة ما سأل كليم الله ما خفي عن الخليقة ، فلولا رجاء الوصل ما عشت ساعة ، ولولا مكان الطيف لما تهجع لم يذق الله طعم وصاله ، من له منية غير لقائه.

مناي من الدنيا لقاؤك مرة

فإن نلتها استوفيت كل منايا

سلبت فؤادي كى تكون مكانه

فكوني أو فاردد عليّ فؤاديا

قال جعفر الصادق : أسمع الحق عبده موسى عليه‌السلام كلامه بلسان الرحمة والعطف أولا ؛ لأنه مردود بنفسه إلى الله ، ثم أسمعه بلسان جوده وكرمه ثانيا ، وهو أيضا مردود إلى نفسه.

قال أبو سعيد الخراز : من غيرة الله تعالى أنه لم يكلم موسى عليه‌السلام إلا جوف الليل وغيبه عن كل ذي حس حتى لم يحضر كلامه معه سواه وكذلك محادثته مع الأنبياء.

وقال القرشي : إنما كلم الله موسى عليه‌السلام بإياه ، ولو كلم على حد العظمة لذاب وصار لا شيء.

قال جعفر : سمع كلامه خارجا عن بشريته وأضاف الكلام إليه وكلمه من نفسية موسى عليه‌السلام وعبوديته فغاب موسى عليه‌السلام عن نفسه وفنيّ عن صفاته وكلمه ربه من حقائق معانيه فسمع موسى عليه‌السلام صفة موسى عليه‌السلام من ربه ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع من ربه صفة ربه ، فكان أحمد المحمودين عند ربه ومن هذا كان مقام محمد المنتهي ، ومقام موسى عليه‌السلام الطور ومذ كلم الله موسى عليه‌السلام على الطور أفنى صفتها ، فلم يظهر فيها الثبات ولا تمكين لأحد عليها.

قال الحسين : في هذه الآية قال أزال عنه التوقيف والترتيب ، وجاء إلى الله لله على ما دعاه إليه وأراده له واجده عليه وأوجده منه وأظهره عليه ، ببذل الجهد والطاقات وركوب الصعب والمشقات ، فلمّا لم يبق عليه باقية بها يمتنع أقيم مقام المواجهة والمخاطبة ، وأطلق مضغة لسان المراجعة والمطالبة ، أما سمعت قوله قبل هذا الحال طالبا منه لمّا طولع بحال

الربوبية ، وكوشف بمقام الألوهية سائلا حل عقدة من لسانه ؛ ليكون إذا كان ذلك مالكا لنطقه وبيانه.

وقيل : لمّا سأل ملكيه شرح صدره ، ثم نظر إلى أليق الأحوال به ، فإذا هو تيسر أمره فسأل ذلك على التمام ليترقى به حاله إلى أرفع المقام وهي المجيء إلى الله بالله ، لمّا علم أن من وصل إليه لم يعرض عليه عارضة ، حينئذ صلح المجيء إلى الله وحده بلا شريك ولا نظير ، وكان ممن وفيّ المواقيت حقها غابت عنه الأحوال فلم يرها وذهبت عن غيبه ظهوره وما عداها إلا ما كان للحق منه ومعه ، حتى تحقق بقوله تعالى : (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) [طه : ٣٦] ، ولقد مننا عليك مرة أخرى فهذا حال لمجيء ، وهذا معنى قوله : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) ، وقوله : (وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) ، أنه انفرد بكلامه لأنه كان قبل ذلك مكلما بالسرّ والسفراء والوسائط.

فلمّا أتى الله تعالى به إلى المقام الأجل وحققه بالحال الأعظم الأرفع خاطبه مكلما على الكشف وغيبته عن كل عين رائية ومرئية ، وكل صورة مكونة ومنشأة إلا ما كان من الكليم والمكلم ، وأفرد الله عنده بالشرف الأعظم فسمع خطابا لا كالمخاطبات فاهتاج منه وله عند ذلك طالبا لا كالمطالبات واقتضى من الله ما لم يكن قبل يقتضيه ، فلذلك سأل النظر إليه إذا رجع إلى حقيقة ، فرأى الله في كل منظور له ومنصور ، فلمّا تحققت له هذه الأحوال ، قال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، فإن في كل مرئي أرجع إليك ، أي أرني ما شئت فلست أرى غيرك مقابلي إذا تحققت بما حققتني به ، إنك غير مسائلي ، ألم يدلك على ذلك خطابه ورجعته إليه إذ ذاك جوابه أرني فإليك أنظر وأحضراني ما شئت فلست غيرك أحضر بعد أن تحققت منك بحال يوجب لي منك ذاك ، وحق لمن تحقق بهذا أو تمكن فيه أن ينفرد بسؤال لا يشارك فيه بالحقيقة.

ويقال : صار موسى عليه‌السلام عند سماع الخطاب بعين السكر ، فنطق بما نطق والسكران لا يؤخذ بقوله ، ألا ترى أنه ليس في نص الكتاب معه عتاب بحرف.

ويقال : أخذته عزة السماع فخرج لسانه عن طاعته جريا على مقتضى ما صحبه من الأريحية وبسط الوصلة.

ويقال في القصص : إنه كان يحتمل في الوعد كلمات الخلق.

ويقول : لمعارفه لكم كلام معه ، ولكم حاجة إلى الله فإني أريد أن أمضي إلى مناجاته ، ثم أنه لمّا جاء وسمع الخطاب لم يذكر ما دبره في نفسه ، وتحمله من قومه وجمعه في قلبه سينا ولا حرفا ، بل أنطق بما صار في الوقت غالب قلبه ، فقال : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) وفي معناه

أنشدوا :

فباليل كم من حاجة لي مهمة

إذا جئتكم لم أدر بالليل ماهيا

ويقال : أشد الخلق شوقا إلى الحبيب أقربهم من الحبيب ، لهذا موسى عليه‌السلام كان غريق الوصلة واقفا في محل المناجاة محدقا به التولي غالبا له بذهاب الوجود في عين ذلك ، كان يقول : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) كأنه غائب عن الحقيقة لا ولكن ما إذا أزداد القوم شربا إلا ازدادوا عطشا ولا ازدادوا قربا إلا ازدادوا أشوقا ؛ لأنه لا سبيل إلى الوصال بالكمال والحق سبحانه لقبول أسرار أصفياه عن مداخل الملال.

ويقال : فمال موسى عليه‌السلام بلسان الافتقار فقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) فلا أقل من نظرة ، والعبد قتيل هذه القصة هو بل بالرد ، وقال : (لَنْ تَرانِي) فكذا قهر الأحباب.

ولذلك قال قائلهم :

جور الهوى أحسن من عدله

وبخله أظرف من بذله

ويقال : لمّا سمعت همته إذا أسنى الطلبات ، وهي الرؤية قوبل بلن ، فلمّا رجع إلى الخلق قال : للخضر هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا.

قال الخضر له : لن تستطيع معي صبرا قابله بلن ، فصار الرد موقوفا على موسى عليه‌السلام من الحق ومن الخلق ، ليكون موسى عليه‌السلام بلا موسى عليه‌السلام صافيا عذوبا عن كل نصيب لموسى عليه‌السلام من موسى عليه‌السلام ، وفي قريب منه أنشدوا :

أنني أبينا نحن أهلّ منازل

أبدا غراب البين فيها ينعق

ويقال : طلب موسى عليه‌السلام الرؤية وهو بوصف التفرق ، فقال :

(أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (١) ، فأجيب ب (لَنْ) عين الجمع أتم من عين التفرقة فزع موسى عليه‌السلام حتى خرّ صعقا ، والجبل يصير دكا ، ثم الروح بعد وقوع الصعقة على القالب يكاشف بما هو حقائق الأحدية ، وكون الحق لموسى عليه‌السلام بعد إمحاء معالم موسى عليه‌السلام ، خير لموسى عليه‌السلام من بقاء موسى عليه‌السلام لموسى عليه‌السلام فإن على التحقيق شهود الحق بالحق أتم من بقاء الخلق بالخلق ؛ لذا قال قائلهم لوجهها من وجهها قمر ، ولعينها من عينها كحل.

__________________

(١) إشارة لها أرق من هذه ، وعلى التوفية في الأمور كلها ؛ لأن الصوفي من أهل الصفاء والوفاء ، وعلى الصدق في الأقوال والأفعال والأحوال. وعلى الوفاء بالعهد ، وأعظمها عهد الشيوخ المربين ، وعلى اتباع طريق السلوك الموصلة للحضرة وهي ما عينه الشيوخ للمريدين ، فلا يتعدى نظرهم ولو لحظة. وبالله التوفيق ، البحر المديد (٢ / ٢٢١).

ولي هنا لطيفة في قوله : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) أضاف رؤيته إلى الله لا إلى نفسه حيث قال : (أَرِنِي) ، إذا ترني جمالك أطيق أن أنظر إليك وإلا فلا فإنه كان لي عالما بعين حديثه لا تحصل رؤية القدم ، فسأل منه تعالى عينا من عيونه يراه بها ، وبها يرى عين العين وكنه الكنه ، وقدم القدم ، وسرّ الذات ، وحقيقة الحقيقة ؛ لأنه لم يره ؛ لأن جميع ذرات موسى عليه‌السلام يرى الله ، فلمّا غلب سكره وزاد شوقه سقط عنه رسوم العلم وبقى معه صرف العشق فتحرك لسان البسط بطلب الإطلاع على الحقيقة ، فأجابه الحق سبحانه فقال : (لَنْ تَرانِي) أي : لن تدركني كما أنا ، فإن معك في البين واسطة الحدث وإن كان معك مني عيون الأزلية وأبصار الأبدية ، فأحاله إلى واسطة بقوله : (انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ).

وأيضا : ليس قوله : (لَنْ تَرانِي) نفي الرؤية عن موسى عليه‌السلام وغيره من المؤمنين ؛ لأن قوله : (لَنْ تَرانِي) أي : لن تراني بإياك ولكن تراني بإياي ، وصدق الله بهذا الخطاب وكيف يراه بين محجوبة بعوارض البشرية رآه به لا بالغير ، فإذا رآه به رأى الحق لموسى عليه‌السلام ، ورؤية الله مشاهدته ، وجلاله لموسى عليه‌السلام أعظم من رؤية موسى عليه‌السلام لموسى عليه‌السلام.

وأيضا : لن تراني من حيث أنت إذا أنت لن تراني بوصف القدم والبقاء وسطوات العظمة والكبرياء مادام أنت أنت ، انظر إلى مثلك في الحدوثية وهو الجبل ، انظر إلى الجبل فإن فيك علّة الحدث ولا تريني إلا بواسطة الحدث ، فجعل الجبل مرآة من فعله فتجلّى من صفته لفعله الخاص ثم للجبل ، فرأى موسى عليه‌السلام جمال القدم في مرآة الجبل فخرّ ؛ لأنه وصل إلى مقصوده على قدر حاله ، ولو تجلّى لموسى عليه‌السلام صرفا لصار موسى عليه‌السلام هباء ، ولو تجلّى للجبل صرفا لاحترق الجبل إلى الأرض السابعة ؛ لأنه تعالى تجلّى للجبل من عين العظمة وسبحات الأزلية.

ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا تجلى الحق بشيء خضع له» (٢).

قال تعالى : (جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) ، قال : وهب أمر الله أن يحمل عرشه ملائكة السماء السابعة ، قال : أروه ، فلما بدا نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب ، ورفعت ملائكة السماوات أصواتهم جميعا فارتج الجبل واندك ، وكل شجرة كانت فيه ، وخرّ العبد

__________________

(١) رواه مسلم (١ / ١٦١).

(٢) رواه عبد الرزاق في المصنف (٣ / ١٠٥).

الضعيف موسى عليه‌السلام صعقا على وجهه ، ليس معه روحه ، فقلب الله الحجر الذي كان عليه موسى عليه‌السلام وجعله كهيئة القبة لئلا يحترق موسى عليه‌السلام ؛ ولذلك قال له سبحانه في تعريفه عظمته وجلاله وغلبته قهر سلطان كبريائه على كل شيء ، قال : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) أي : أنا أتجلّى من نور عظمتي للجبل لك ، ولاستقر الجبل لتجلائي مع عظيم أجزائه وصلابة وجوده ، فكيف تحمل صورتك الضعيفة أثقال عزتي؟! لو تريد أن تراني انظر إليّ بعين روحك وقلبك ، فإني أتجلّى لهما بحسن جمالي ولطف جلالي ، وقلبك يسع ذلك التجلّي ، لأنه خلق من نور ملكوتي ، ورقمته بنور جبروتي ، وفي ذلك نطق على لسان نبيه عليه‌السلام حيث حكى عنه تعالى بقوله : «لم يسعني السماوات والأرض ويسعني قلب عبدي المؤمن» (١).

وأيضا : طلب موسى عليه‌السلام رؤية الحق بعين الظاهر ، وهناك عينه محجوبة عن فؤاده ، فاحتجب عن رؤيته ، وكان فؤاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عينه حين شاهد جمال الحق سبحانه ، فرآه بالفؤاد وبالعين.

قال تعالى في وصفه : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) [النجم : ١١] ، قيل : ما كذب فؤاده ما رأت عينه ، تصديق ذلك قوله عليه‌السلام في مراتب معراجه : «رأيت ربي بعيني وبقلبي» (٢).

ومن دخل فؤاده الملكوتي في عينه وقت تجلّى الجلال وكشف الجمال يراه كفاحا بلا حجاب ، فإن لله عبادا كسا نور جماله أفئدتهم ، وكمل أبصار أسرارهم بكمل الملكوت والجبروت ، فتدخل القلوب بنور الغيوب في عيونهم فلا يرون شيئا من العرش إلى الثرى إلا ويرون جلال الله تعالى فيها.

كما قال بعض العاشقين : ما نظرت إلى شيء إلا ورأيت الله فيه ، كان موسى عليه‌السلام غائبا في بحر صفات الحق ومستغرقا فيها ولم يعلم أين هو ، ظن أنه غائب من دوام شهوده مشاهدته عنه ، فسأل الرؤية فقيل له : (لَنْ تَرانِي) كأنه استفهم ، أين أنت حيث أنا أنت وأنت أنا ، وأنشد في معناه بعض الشعراء :

كبر العيان عليّ حتى أنّه

صار اليقين من العيان توهما

فلما رآه غائبا أراد أن يعرف مكانه فأحاله إلى الواسطة ؛ ليعرف قدر الوصل في البين ، وتعرف مكانه من المشاهدة.

(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ) عرف الجبل أن التجلي له عارية ، وبينه وبين التجلّي حجاب امتناع

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) سبقت الإشارة إليه ، وهو من الأحاديث التي ذكرها المصنف بكتبه.

الأحدية عن مباشرة الخليقة ، اندك من حسرة فوت التجلّي ، فلمّا رأى موسى عليه‌السلام تجلّي الحق بالواسطة عرف أنه سقط من مقام الاتحاد وغيبوبته في الصفات ، وارتهن بعلّة بسؤاله بالواسطة ، فخرّ صعقا من حسرة فوت المقام.

أنشد الحسين في هذا المعنى :

ما لي جفيت وكنت لا أجفى

ودلائل الهجران لا تخفى

وأراك تمزجني وتشربني

ولقد عهدتك شاربي صرفا

هذا معنى قوله تعالى : (جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً) فأدركه لطف الباري سبحانه وأحياه بروح المشاهدة ، فلمّا أفاق علم أنه مقصر من معرفة المقام وما كان فيه فاعتذر ، وقال : (قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ).

وأيضا : كان في بحر الصفات على محل شهود نعوت الأزلية فتقاضى سره إدراك حقائق الذات بعد فنائه في الصفات ، فأسقط عن مقامه غير ذات الأزلي حتى صيرته بنعت البشرية وردته إلى مقام البداية ، فعلم في الصحوة ما أخطأ في السكر من طلب الاطلاع على كنه القدم ، فقال : (سُبْحانَكَ) من إدراك الحدث قدمك وجلال أزليتك.

(تُبْتُ إِلَيْكَ) ممّا طلبت فأنا أول المقربين بأن لأثبت أقدام الحدثان على صفوان الأزل ، ولا تستقر حثالة الخليقة عند هبوب عواصف القدمية عنها ، لمّا رجع صار في مقام «لا أحصى عليك» (١).

علم السيد عليه‌السلام هذا المقام في أول شهوده عين الكل ، فقال : «لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (٢).

قيل : علّة الفناء والامتحان ، وعلم موسى عليه‌السلام هذا المقام بعد الامتحان والفناء ، ولو علم في الأول إدراك ما أدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تاب موسى عليه‌السلام مرة من هذا المقام ، وتاب الحبيب عليه‌السلام من هذا المقام في كل يوم سبعين مرة.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في كل يوم سبعين مرة» (٣).

كان عينه نكرة القدم فتاب من تقصيره عن معرفة حقائقه ، فرعاه الحق برعاية الكرم وعفاه عن إدراكه كنه القدم بقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) تقدم كسابقه.

(٣) رواه مسلم (٤ / ٢٠٧٥).

[الفتح : ٢] أي : من تقصير إدراكك كنه القدم ، وما تقصر إدراكك كنه القدم ، وما تقصر إدراك كنه أبد الأبد.

وأيضا : تاب كليم الله من تلوينه في مقام العشق والشوق إلى جمال القدم حيث أحاله بعد سؤاله كشف جماله إلى رؤية الوسائط بقوله : (انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) أي : تبت من دعوى عشقك والشوق إلى جمالك بالحقيقة ، فلو كنت متحققا في جبل لم ألتفت إلى غيرك بسؤاله في مقام السكر ، لذلك نطق بلسان السكارى.

فقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) فلمّا سمع (لَنْ تَرانِي) صار صاحبا لم ينطق بلسان البسط بعد ذلك ، فصرفه بالنظر إلى الجبل فتابع أمر قوله : (أَنْظُرْ) فأمتثل الأمر ، وما كان في محل السكر ما نظر إلى الغير ولم يكن مأخوذا بجرأته وانبساطه ، فلمّا رجع من السكر إلى الصحو ، ورجع من الحقيقة إلى الشريعة احتمل الجنايات ، واعترف بتقصيره بنظره إلى غيره ، قال : (تُبْتُ إِلَيْكَ).

وأيضا : (سُبْحانَكَ) أي : من أن يكون لك في مواهبك له علّة الاكتساب ، (تُبْتُ إِلَيْكَ) من قولي : (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) بعد قولي : (أَرِنِي) ولو اكتفيت ب (أَرِنِي) ما احتجت إلى التوبة ولكن لمّا ذكرت فعل عيني بقولي : (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، (تُبْتُ إِلَيْكَ) ، فأين الحدث من استجلاب القدم إليه وأدق الإشارة.

أي : (تُبْتُ إِلَيْكَ) من إشارتي إلى نفسي في سؤالي بقولي : (أَرِنِي) ، ومن أنا حتى (أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، الآن (تُبْتُ إِلَيْكَ) لأراك بك لا بي ، بعد أن فنيت فيك

فترى عينك جمالك لي لا بي

بيني وبينك أن ينازعني

فأرفع بأنك أنني من البين ؛ ولذلك غار عليه ملائكة الملكوت حين صعق.

روي في بعض الكتب : «إن ملائكة السماوات أتوا موسى عليه‌السلام وهو مغشي عليه ، فجعلوا يركلونه بأرجلهم ويقولون : يا ابن النساء الحيض ، أطمعت في رؤية رب العزة؟» (١).

كان الملائكة معذورين فإنهم ممنوعون من قوام القرب بمقرعة خوف العظمة ، ولم يعلموا أن هذه القصة وقعت على العاشقين الذين اصطفاهم الله في الأزل بمحبته وعشقهم في أزله بعشقه وشوقه عشقهم به ، وشوقهم إلى جماله ، وبانبساطه معهم كما جعلهم منبسطين إليه حتى سألوا ما لم يطمع فيه الكروبيون والروحانيون ، ولم يعلموا أن موسى عليه‌السلام رأى مناه

__________________

(١) رواه أبو نعيم في الحلية (٧ / ٧٦).

كما أراد في زمان الصحو عند سؤاله وجوابه ، ووجده في غيبته وسكره ، وحال صعقته لمّا غاب وسكر استغراق في بحار الأزل والآباد ، وانكشف له سرّ الأسرار ، فالملائكة عدوا من وراء حجاب الفعل في مقام الشريعة ، وكان موسى عليه‌السلام في حجر الوصلة غائبا عن الخليقة ، ولو شاهدت الملائكة ذرة من حاله لصعقوا واحترقوا جميعا ، والحمد لله الذي خصّ بديع فطرته وذريته بهذه المثابة دون غيرهم.

وأيضا : لي نكتة عجيبة ، لمّا وجد حلاوة خطاب الأزل واستحلاه طمع في الرؤية لزيادة حلاوته ، ووجدان لذته ، فأصعقته غيرة الأزل من سكوته عنه به وعمّا وجد من برد نسيم وصلته فلمّا أفاق بعد انقطاعه من حلاوته واحتراقه بنيران غيرة توحيده ووحدانيته قال : (سُبْحانَكَ) من أن يطلبك أحد بحظه ولحظه ، (تُبْتُ إِلَيْكَ) ألا أسالك إلا لك فرد بفرد فإن حلاوة المشاهدة حجاب المشاهدة ، ألا ترى إلى قول بعض الموحدين في وصف موحده حيث وصفه فقال سبحانه : «من حسنة حجاب حسنه» (١).

قال بعضهم في قوله : (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) فهو أشد منك جسدا ، وأعظم منك خلقا ، وأهيب منك منظرا ، فإن ثبت لرؤيتي تثبت ، ولا يحملني ولا يصبر على مشاهدتي شيء إلا قلوب العارفين التي زيّنتها بمعرفتي ، وأيدتها بأنواع كراماتي ، وقدستها بنظري ، ونورتها بنوري ، فإن حملني شيء فصير لمشاهدتي في تلك القلوب دون غيرها ؛ لذلك قال المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره» (٢).

ثم إذا حملني فتلك القلوب وصبرت لمشاهدتي وأنا حاملي لا غير إذ بي حملني وبإياي صبر لمشاهدتي ، فلا مشاهد للحق سواه ، جلّ ربنا وتعالى.

وقال ابن عطاء : شغله بالجبل ثم تجلّى ، ولو لم يشغله بالجبل لمات وقت التجلّي.

وقال الحسين في قوله : (لَنْ تَرانِي) لو ترك على ذلك ليقطع شوقا ولكن سكنه بقوله : (وَلكِنِ).

وقال ابن عطاء : انبسط إلى ربه في معاني الرؤية لمّا ظهر عليه عن الكلام ولم ينطق بإياه ، ألا تراه أنه لما رجع إلى وصفه رجع إلى أوائل المقامات ، فقال : (تُبْتُ إِلَيْكَ).

قال النصر آبادي : ما قطع موسى عليه‌السلام عن الرؤية إلى نظره إلى الجبل ، ولو تحقق بسؤال الرؤية لمّا كان يرجع منه إلى شيء سواه.

__________________

(١) هكذا في الأصل ، ولم أجد له أثر فيمن خرجه.

(٢) تقدم تخريجه.

قال الواسطي : (لَنْ) إلى وقت ولا على الأبد.

قال جعفر : شغله بالجبل ثم تجلّى ، ولولا ما كان من اشتغاله بالجبل لمات موسى عليه‌السلام صعقا.

وقال الواسطي في قوله : (جَعَلَهُ دَكًّا) صار الجبل كأن لم يكن قط ، ولا عجب لهيبة ما ورد عليه.

قال أبو سعيد القرشي : الجمال والكرم يبقيان ، والهيبة والإجلال يفيآن ، كمّا أن الله كلم موسى عليه‌السلام بصفة الهيبة وتجلّى للجبل ، فصار الجبل دكا وخرّ موسى عليه‌السلام صعقا ، وكان آخر عهده بالنساء ، ولم يتهيأ لأحد أن ينظر في وجهه.

قال الواسطي : وصل إلى الخلق من صفاته ونعوته على مقاديرهم لا بكلية الصفات ، كما أن التجلّي لم يكن بكلية الذات.

وقال أيضا : قالوا إليّ نقيت التجلّي ، والله يقول : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله إذا تجلى لشيء خشع له» (١).

قلت : ذلك على التعارف ومقادير الطاقات ، أليس بمستحيل أن يقال : تجلّى الهواء لذرة واحدة ، ولو احتجب لساوتها ، ولو تجلّى لقاء ربها ، وهو أجل من أن يخفى ويستر وأعزّ من أن يرى ويتجلّى إلى وقت الميعاد ، تنزّه عن أن يقع عليه إلا للحظ بمعانيها ، أو تقع تحت الألسنة بأماليها.

قال : وقرئ بين يدي الجنيد (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) فصاح ، وقال : بالجهل صار دكا لا بالتجلّي ؛ إذ لو وقع عليه آثار التجلي أفناه بكيف التجلّي.

وقال شيخنا وسيدنا محمد بن خفيف ـ قدس الله روحه ـ في قوله : (قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) لمّا قال : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) ، قال : (تُبْتُ إِلَيْكَ) من ألا أصدقك بكل ما ورد منك وأطالبك بالعلامات ، وذلك لمّا قال : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي) لم يكفه حتى نظر إلى الجبل ، فلمّا لم يقل موسى عليه‌السلام كفاني قولك : (لَنْ تَرانِي) حتى نظر إلى الجبل ، فالتوبة من هذا.

وقال بعضهم : (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) أن أسالك خطابي ؛ إذ لا يحيط بك أحد ولا يشهدك غيرك.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

وقال الواسطي : لم يزال المقصود ممتنعا من الاستغراق ، ألا ترى إلى قول موسى عليه‌السلام (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) قيل معناه : (لَنْ تَرانِي) بالسؤال والدعاء ، وإنما تراني بالنوال والعطاء ؛ لأنه لو أعطاه إياه لسؤاله لكانت الرؤية مكافأة السؤال ، ويجوز أن يكون فعله مكافأة فعل عبده ، ولا يجوز أن يكون هو مكافأة فعل عبده.

قال بعضهم : برق برقة من النور فصاحت الجبال وانقطعت وغارت البحار ، وانخمدت النيران ، وانكشفت الشمس ؛ فصعق موسى عليه‌السلام ، فكيف كان يطيق موسى عليه‌السلام ويثبت لمّا لم يثبت لها الجبال الرواسي ، وإنما كانت برقة.

روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأ هذه الآية فقال : «هكذا ، ووضع الإبهام على مفصل الأعلى من الخنصر فصاح الجبل» (١).

قال أبو سعيد الخراز : إن الله لا يتجلّى بالكشف فمن يقوم له ؛ لذلك تقطع الجبل حين تجلّى له ، وخرّ موسى عليه‌السلام صعقا ، فإنما نظر إلى أوليائه بالخصوصية من وراء الحجاب إذ أقبل عليهم بالرحمة والمحبة ، فهناك يصل إليهم العلم الكثير والفوائد.

قال علي عن أبيه عن جعفر قال : لمّا سمع الكليم الكلام ، واستولى على ذلك المقام سمع كلام الملك العلام ، قال بلسان الدلال على بساط الوصال تحت ظلال الجلال : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) فإني بين يديك ، فأجابه ربه : (لَنْ تَرانِي) الآن في غير الوقت ، بل تراني ببرهاني وشواهدي فإنك الآن لا تحتمل نور جلالي وسلطاني.

(وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) لترى عجائب قدرتي ، (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) فصار بأربع قطع ، وتبددت في أربع مواطن ، فتقطع قلب موسى عليه‌السلام بأربع قطع ، قطعة سقطت في بحر الهيبة ، وقطعه سقطت في روضة المحبة ، وقطعة سقطت في بساتين رؤية المنّة ، وقطعة سقطت في أودية القدرة.

(فَلَمَّا أَفاقَ) خرج عن الشدة وصاح إليه بالتعظيم ، بلسان الحياء (تُبْتُ) أن أسألك سؤال المحال في غير الوقت.

وقال ابن عطاء : علم الله تعالى منه عجزه عن إقامة حق إرادته وما طلبه ، فقال سبحانه : (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) فلمّا رأى الجبل قد صار دكا صعق ، ولو صحت منه تلك الإرادة ، وذلك السؤال لما كان تردعه عن ذلك ألف صعقة ، بل كان يقوم على مراده وسؤاله وطلبته.

__________________

(١) لم أقف عليه.

سئل الحسين بن منصور : لم طبع موسى عليه‌السلام في الرؤية وسألها قال : لأنه انفرد للحق فانفرد الحق في جميع معانيه وصار الحق مواجهه في كل منظور إليه ومقابلة دون كل محظور لديه على الكشف الظاهر إليه لا على التغيب ، فذلك الذي حمله على سؤال الرؤية لا غير.

قال أبو عثمان المغربي : لمّا قال موسى عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، قال الله : يا موسى عليه‌السلام اضرب بعصاك الجبل ، فضرب عصاه الجبل فظهر سبعون ألف بحر ، في كل بحر سبعون ألف جبل ، على كل جبل ألف موسى عليه‌السلام عليهم الكساء وبأيديهم العصا ، يقولون كلهم : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ، فلمّا رأى ذلك (خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) أيطمع في ليلي ، وتعلم أنها تقطع أعناق الرجال المطامع.

ثم إن الله سبحانه لمّا أبقى موسى عليه‌السلام في درك حيرة رؤية الأزل ، واستغراقه في بحار الشوق إلى وجهه ، تلطف عليه وتسلّى قلبه بتعريف منّته الشاملة عليه ليكون شاكرا لأنعامه ، ومتسليا بتدارك قلبه بإكرامه ، فقال : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أي : سبقت لك في الأزل اصطفائيتك المقدسة عن علّة الحدث برسالتك مني إلى أحبائي ، وتلك الرسالة شاملة لجميع ما يتوقع فيه الأولون والآخرون من الدنو ودنو الدنو ، والقرب ، وقرب القرب ، والوصال وكشف الجمال ؛ لأنها محل الاستقامة ووجدان جميع المنية.

وأيضا : سبقت لك الاصطفائية بأن تسمع مني كلامي بلا واسطة ، وتعلم منه أسرار ملكي وملكوتي ، ألبستك من فعلي لباس الرسالة ، ومن أنوار كلامي وصفتي لباس الربوبية ؛ فصرت موصوفا بصفتي حين اصطفيتك ، فوقعت في نور فعلي ، ثم وقعت في نور صفتي ، حتى صرت في معنى الإنصاف مشاهدا لذاتي ، ولا تخلو شعرة من جسدك إلا ولها عين من عيوني فتراني بتلك العيون ، فإيش تطلب مني ، بقولك : (أَرِنِي) كن من الشاكرين فيما أعطيناك من هذه المنازل السنية والمراتب الرفيعة ، ولا تكن مهتما من قلّة إدراكك غوامض بطون قدمي وأزلي.

وقال بعضهم : الاصطفائية أورثت التكليم والكلام لا التكليم أورث الاصطفائية.

وقيل في قوله : (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ) من عطائي ، (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لا من المدعين المختارين ، فما سبق مني إليك أكثر ممّا اخترته لنفسك.

وقال بعضهم : لمّا قال : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (١) أورث الاصطناع والاصطفائية ،

__________________

(١) أي ربيتك بصنائع المعروف تربية من يتكلف تكوين المربى على طريقة من الطرائق (لنفسي) أي لتفعل

وكنت مصطفا على الخلق لا بسابقة سبقت لك إليّ ، بل بسابقة مني إليك.

وأيضا : كن من العارفين بمشكورك ، فإن المعرفة بالمشكور هو الشكر لا غير.

وقال الأستاذ في قوله : (وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) إشارة لطيفة ، قال : لا تكن من الشاكين ولا ممن يشكو ، يعني : أن منعتك عن سؤالك ، ولم أعطك مطلوبك ، لا تشتكي إذا انصرفت ، وأنشد في معناه :

إن أعرضوا فهم الذين تعطفواكم

قد وفّوا فأصبر لهم إن خلفوا

ثم إن الله ذكر زيادة نعمه عليه بأن عرفه مواضع حقائق علومه الغيبية وأسراره العجيبة ، وأنبائه الغريبة الأزلية بقوله : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ).

في قوله : (وَكَتَبْنا لَهُ) إشارة عجيبة ، أي : كتبنا أسرارنا له لأنه أهلها ، عارف بها وغيره مقلده ؛ لأن أسرار الخطاب إشارات الأزلية إلى حكم الأبدية ولا يعرفها إلا من كان مصطفى ومصطنعا لها ؛ ولذلك قال : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) و (اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي).

ومعنى قوله : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً) إشارة إلى ألواح الصفات والذات ، كقوله : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) التي خصصناه بما في علومنا الأزلية في الأزل.

وأيضا : أي كتبنا في ألواح أنوار قلبه من نقوش حروف أسرار الوحدانية ، ومن كل شيء إشارة إلى علوم الذات والصفات والأفعال ؛ لأنه تعالى شيء الأشياء ، أي : علمناه علم ما كان وما سيكون من العرش إلى الثرى ، موعظة بلسانه للعارفين والعاشقين والمشتاقين الذين يتعرفون طرق وصالنا.

(وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي : مبيّن غوامض بطون الأشياء ، ومفسر إشارات السرمدية الأزلية ، فلمّا أعظم أقدار كلامه في قلبه وعينه ، وعرّفهما مكان شكره فيه أمره أن يقبل إليه به لا بنفسه ؛ ليعرف به لا بنفسه ، ويعمل به لا بنفسه بقوله : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي : هذه أثقال الربوبية ومرجى أمر الأزلية.

__________________

من مرضاتي في تمهيد شرائعي وإنفاذ أوامري ما يفعله من يصنع للنفس من غير مشارك ، فهو تمثيل لما حوله من منزلة التقريب والتكريم ، نظم الدرر (٥ / ٢٤٢).

(فَخُذْها بِقُوَّةٍ) من قواي حين تفرّ من نفسك ومن غيري إليّ بالاستعانة بي ، واقتباسك قوة ونصرة مني ، فخذها بتلك القوة الإلهية لا بقوة نفسك ، فإن قوة نفسك حدثية ، ولا تحمل أثقال الربوبية إلا بقوة الإلهية ، فإذا صرت مطيتها وحملت تلك الأمانة من قومك.

(يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) أي : بأسهلها عليهم من الأوامر والنواهي ؛ لأن حقائقها لا تليق إلا بك وبمثلك.

وأيضا : يأخذوا بأبينها لهم ، وهي المحكمات التي توجب العبودية ويأخذون متشابهها ، التي هي وصف الصفات بحسن الاعتقاد والتسليم فيها ؛ لأن علومها وحقائقها لا تنكشف إلا للربانيين ، قال الله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [آل عمران : ٧].

قال بعضهم في قوله : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) سر الله عند عباده ولأهل خصوصيته لا يحمله منهم إلا الأقوياء بأبدانهم وقلوبهم ، ألا ترى الله يقول لكليمه عليه‌السلام : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) والقوة هو الثقة بالله والاعتماد على الله ؛ ولذلك قال بعضهم : عطاياه لا يحمل إلا مطاياه.

وقيل في قوله : (فَخُذْها بِقُوَّةٍ) أي : خذها بي ولا تأخذها بنفسك ، فالقوي من لا حول له ولا قوة ، ويكون حوله وقوته بالقوي.

قال الأستاذ : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) فرق بين ما أمر به موسى عليه‌السلام من الأخذ ، وبين ما أمر أن يأمر به قومه من الأخذ ، أخذ موسى عليه‌السلام أخذا من الحق على وجه تحقيق الزلفة وتأكيد الوصلة ، وأخذهم أخذ قبول من حيث التزام الطاعة ، وشتان ما بينهما.

ثم إن الله سبحانه ذكر أن عرائس خطابه ولطائف كلامه لا تتكشف لمن رأى قيمة نفسه في جنات الأزلية وميادين الربوبية بقول : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ) أي : ما منع المدعين المعجبين بشأنهم ومزخرفاتهم بمجازاتهم كلام الدعاوي الباطلة.

(بِغَيْرِ الْحَقِ) عن إدراك حقائق خطابي ، وفهم لطائف معاني كلامهم ؛ لأنهم منكر وكرامات أوليائي وآيات أصفيائي ، بوصفه حالهم في تضاعيف الآيات بقوله : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) ثم زاد مباعدتهم من باب التوفيق ووجدان رشد الطريق بقوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً)

لو تبيّن ألف طريق من طرق الأولياء إلى الله لا يتبعوها لحرمانهم عن مصادقة الحق ، وإن ظهر لهم طريق الدعاوي في متابعة الشهوات ، اتبعوه وجعلوه سبيل الحق ، لأن سجيتهم سجية الضلال ، والمتكبر لو عرف التكبر الذي هو كبرياء القدم ما تكبر فإن جميع تكبر الحدثان من جهلهم بكبرياء الحق ، وفي كل موضع تبدو سطوات كبريائه ، يتلاشى فيها كل شيء ، وكل تكبر غير تكبر الله تعالى باطل ، إلا من تكبر بكبريائه حين اتصف بكبريائه ، وذلك من إلباس الله إياه نور عظمته وهيبته وكبريائه ، فينطق بالحق ويفعل بالحق ، ويظهر منه الحق بوصف الكبرياء ، علامته أن يخضع له كل شيء سوى الله ، وهذا معنى قوله عليه‌السلام : «من خضع لله خضع له كل شيء» (١).

قال بعضهم : التكبر تكبران : تكبر بحق ، وتكبر بغير حق ؛ فالتكبر بالحق تكبر الفقراء على الأغنياء استغناه بالله ممّا في أيديهم ، والتكبر بغير حق تكبر الأغنياء على الفقراء ازدراء لما هم فيه من فقرهم.

قال الواسطي : التكبر بالحق هو التكبر على الأغنياء والفسقة وعلى الكفار وأهل البدع ؛ لأنه روي في الأثر : «القوا أهل المعاصي بوجوه مكفهرة» (٢).

وقال سهل في قوله : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ) أي : هو أن يحرمهم فهم القرآن والاقتداء بالرسول عليه‌السلام.

قال ابن عطاء : سأمنع قلوبهم وأسرارهم وأرواحهم عن الجولان في ملكوت القدس.

وقال ذو النون : أبى الله أن يكرم قلوب البطالين بمكنون حكمة القرآن.

(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١))

قوله تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) كان

__________________

(١) رواه القضاعي في الشهاب (١ / ٢٦٥).

(٢) رواه الديلمي في الفردوس (٢ / ٥٦).

القوم في طلب الحق غلب عليهم رعونات الطبيعة من جهة ما شموا بعض روائح القرب ، فصار في قلوبهم حلاوة فباشرت تلك الحلاوة قلوبهم ، ولم يكن غالبا يفني صفات الإنسانية منها ، فاختلط ذلك الحظ بحظوظ البشرية ، فلمّا هاجت حلاوة البشرية غابت حلاوة القرب ، وعشقه في عشق الإنسانية وحظ البشرية ، فطلبت القلوب المطلوب بعد ذلك في كل منظور من الحدثان على صورة المخاييل ، لأن حظوظ بشريتهم أورثت في قلوبهم الخيالات المختلفة فسقطوا عن رؤية التوحيد وإفراد القدم عن الحدوث ، وبقوا في طلب الخيال وبحثه عن كل شيء ، فكل متحرك يتحرك لهم قبلوه بالمعبود من قصورهم عن كمال العشق وحقائق التوحيد ، فكسا الحق سبحانه العجل كسوة من قهر ربوبيته امتحانا للقوم ، فوقعوا في حسن اللباس واحتشموه ، واحتجبوا من رؤية القهر والامتحان ، ولو خرجوا من أوائل الالتباس لأحرقوه كما أحرقه موسى عليه‌السلام ، وكذا حال من لم يبلغ إلى درجة التوحيد ، وبقى في رعونة العشق حتى يؤول حلاله إلى حد غار عليه التوحيد والجاه إلى القتل ؛ لأنه بقى في رؤية غير الله ، والمشرك في التوحيد وجب قتله في طريق المعرفة ، ألا ترى أن الله سبحانه أمرهم بقتل أنفسهم بقوله : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ).

قال سهل : عجل كل إنسان ما أقبل عليه وأعرض به عن الله من أهل وولد ، ولا يتخلص من ذلك إلا بعد فناء جميع حظوظه من أسبابه ، كما لم يتخلص عبدة العجل من عبادته إلا من بعد قتلهم أنفسهم.

وقال الأستاذ : لم يظهر قلوبهم في ابتداء أحوالهم عن توهم الظنون ، ولم يتحققوا بخصائص القدم وشروط الحدوث ، فعثروا عن أقدام ذكرهم في وهاد المغاليط.

ويقال : إن أقواما رضوا بالعجل أن يكون معبودهم ، شمت أسرارهم نسيم التوحيد ، هيهات لا ولا من لاحظ جبرائيل أو ميكائيل أو العرش والثرى أو الخلق والورى.

قوله تعالى : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) وصل إلى كليم الله المضرب قهر (لَنْ تَرانِي) ، ورجع غضبانا منه عليه ، من غلبة انبساطه وشربه كأس سم أفاعي الفراق ، أسفا ممّا فات من وصول الوصول ، ورجع إلى قومه مع شريعة العبودية في تلك الحالة ، ورأى عبدة العجل صار كأسود الجياع مع قومه وأخيه ، فإن الكليم رجع من باب الأزل الذي كان الحدثان هناك بأسرها أقل من ذرة ، فرأى دناءة همم القوم حين اختاروا مصنوعهم بالإلهية ، وأين العقل والفهم والعلم والإنسانية هناك؟

والعقل لا يقبل من وصفه التغير والأصوات والخوار ، والمشابهة ، والجسدية والمماثلة بالإلوهية المنزّهة عن المتشابه بأشكال الحدثان.

ألا ترى أن الله عزوجل وصف العجل بالعرض والجوهر حيث قال : (عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) ووصفه بأنه لا يكلمهم من عجزة عن إبداع الكلام ، ولا يهديهم إلى سبيل نجاتهم من قهر ربوبية الأزل ، وليس من يقدر بالكلام فهو إله إرادته ، لا يكلمهم مثل كلام الأزلي الذي يكلمهم الله الذي من وصفه أنه صفة الأزل المنزّه عن الخوار والأصوات والهمهمة والأنفاس والحروف والقياس.

قيل : (أَسِفاً) على ما فاته من مخاطبة الحق إلى مخاطبة من لا أوزان لهم ، فرده من شوقه إلى مشاهده ؛ لئلا يقطعه ، وحال شوقه ومن بقية سكره وغضبه من فوت مكالمة الحق ، وأسفه على فوت مشاهدته.

(وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) إن الله سبحانه علم شوق موسى عليه‌السلام إلى جماله وعشقه بوجهه فأراه كل وقت ما أغاره عليه ؛ لزيادة حرقه ، وهيجانه أغضبه ؛ لأن الله أحب غضب كليمه ، وهكذا عادة الأحباب فأبرز من أول اللوح نعوت نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلمّا رأى بينه وبين حبيبه من أقرب منه إليه غضب من غيرة العشق ، وهكذا شأن العاشقين.

وأيضا : ذكر أيام الوصال وطيب المناجاة بغير واسطة الألواح ، فإلجاء فوت تلك المقامات إلى كسر الألواح فألقى الألواح ؛ لأنها عارضة بينه وبين خطاب محبوبه صرفا بلا واسطة ، وجرّ أخيه إليه ؛ لأنه رآه في مقام الشريعة مشغولا عن تلك المواقف القدسية التي خرج منها.

قال أبو سعيد القرشي : من تحرك غيرة للحق فإن الحق يحفظ عليه حدوده لئلا تخرجه الحركة إلى شيء مذموم كموسى عليه‌السلام لمّا ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره ، لمّا رأى قومه يعبدون العجل ، فلم يعاتبه الله على ذلك ، ولو باشر أحد من الكسر والأخذ ما باشر موسى عليه‌السلام كان ملوما ، ولكن حركة موسى عليه‌السلام كانت ملاحظ لموسى عليه‌السلام فيه ، بل قام غيرة لله وانتقاله ، فلم يزدد بذلك من الله إلا قربا.

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا

وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨))

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) لمّا أخطاؤا طريق طلب الحق واقتدوا بمن لا يعرف الله أبقاهم الله في شره شرب حب العجل ، وصاروا بين الموحدين والعارفين أذلاء ، وكذا حال كل مخطئ في الطريق ومبطل في الاقتداء ، بقوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) الذين يدعون ما لم يجدوا من المقامات والأحوال ، لكن من فضله ورحمته عرفهم موقع الخطأ حين قال سبحانه : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) ندموا على تقصيرهم رؤية الحقيقة.

(وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) عن طريق المعرفة ، (قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا) بأن تقبلنا بشركنا في التوحيد حتى نجدك بدرجة الشهادة ، (وَيَغْفِرْ لَنا) بأن تخرجنا من رؤية غيرك إليك ، (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين فارقوا حظ مشاهدتك بغيرك.

قال أبو عثمان : من أقبل على الله فلينتظر الراحة والزلفة والقبول ، ومن أعرض عنه فلينتظر الذل والسخط والبغضة مع غضب الله في الآخرة ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) الآية.

قال الحسين بن الفضل : لا ترى مبتدعا إلا ذليلا ؛ لأن الله يقول : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ).

قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) اختار موسى عليه‌السلام من شربه في الولاية شربه في النبوة من أولياء أمته ، ألا ترى قولهم لمّا سمعوا خطاب الحق بلا

واسطة واستلذّوه ، وسكروا بطيب الخطاب كيف قالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) وكيف أحرقتهم الصعقة ؛ لأنهم ضعفاء في الحقائق ، اختار منهم سبعين ؛ لأن في كل أمة سبعين من البدلاء والأولياء والنجباء ، وكذا في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال بعضهم : (وَاخْتارَ مُوسى) على عدد الأولياء في الأمم السالفة وفي أمته ، وهم السبعون الذين إليهم يفرغ الخلق وبهم يحفظون ، ثم لمّا وصل إلى القوم ما وصل إلى موسى عليه‌السلام صعقوا وفنوا تحت الصعقة ؛ لضعف قلوبهم عمن حمل سطوات العظمة ، اشتد على كليم الله وهاج سره بالانبساط لقوله : (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) أهلكتهم بنظرهم إلى العجل بين بني إسرائيل وإياي في صعقتي.

(أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) تؤاخذنا بتقصير عبدة العجل ، وهذا عادة الملوك إذا جنوا أخذوا أعيانهم ، ويمكن أن قوله : (بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ) إشارة إلى الغائبين في سكرهم بلذّة خطاب الحق حين سمعوه وقالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) وهم ضعفاء الحالات ، أي : تهلكنا بقول السكارى.

(إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) أطلق لسان الانبساط ، وخرج من سجف الاحتشام من بقايا خمار تلك الشربات في وقت التجلي ، أي : ما هي الصعقة إلا امتحانك لعشاقك من عشقك لهم في الأزل ، وهذا من صنيعك بمحبتك ألا ترفع محبك عن المشتاقين إليك.

إلى متى تحتجب منّا

أما آن للهجران أن ينصر ما

والغصن غصن البان أن يتبسما

والعاشق الصبّ الذي ذاب وانحنى

وفي هذا المعنى أنشد حسين بن منصور حين أرادوا قتله كان يتبختر ويقول :

نديمي غير منسوب

إلى شيء من الحيف

سقاني مثل ما شرب

فعل الضيف بالضيف

فلمّا دارت الكأس

دعا بالنطع والسيف

كذا من يشرب الرّاح

مع التنين في الصيف

فلمّا سكن موسى من حدة الانبساط رجع إلى مقام التوحيد وقطع الأسباب في العبودية وقال : (تُضِلُّ بِها) أي : تضل وتحجب بامتحانك واختيارك ، (مَنْ تَشاءُ) مشاهدتك ، (وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) إلى وصالك ، فمنّا من بقي في الصعقة عن المشاهدة ، ومنّا من وصل بك إليك في الصعقة ، وذلك فرق بين مراتب النبوة والولاية ، ثم نظر إلى كلائته

أنبيائه وأوليائه في مقام امتحانه فقال : (أَنْتَ وَلِيُّنا) أنت حافظنا منك فيك (فَاغْفِرْ لَنا) جناية انبساطنا في مقام رؤية هيبتك (وَارْحَمْنا) بكشف مشاهدتك لنا بلا امتحان ولا واسطة الحيل ، (وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) لأنك قديم ومغفرتك صفتك شاملة على جميع الجنايات منزّهة عن خلل الحدثان.

(وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً) اجعل نصيبا منك في الدنيا مشاهدتك ، ومعرفتك بالعافية عن قهرك وامتحانك ، (وَفِي الْآخِرَةِ) بغير واسطة الجنة وما فيها ، (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) رجعنا منا إليك ، وفررنا منك إليك.

قال ابن عطاء : أقبلنا بالكلية عليك.

ويقال : إن موسى عليه‌السلام جاهر الحق بنعت التحقيق وفارق الحشمة ، فقال صريحا : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) (١) ، ثم وكل الحكم إليه فقال : (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) ، ثم عقبة ببيان التضرع فقال : (فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا).

قال الأستاذ في قوله : (إِنَّا هُدْنا) ملنا إلى دينك وصرنا لك بالكلية من غير أن نترك لأنفسنا بقية ، فلمّا سأل موسى عليه‌السلام وقاية الحق من الحق لئلا تدخل في مربع الأنس واللطف زحمة القهر واستوفى منه حظ مشاهدته بلا كدورة الحجاب ، فرارا من قهره إلى لطفه ومنه إليه إجابة الحق ، أن لطف القديم مع قهر القديم بظهور فوقية قهر القدم على الحدث ، وإدخال إعتاق الخليفة تحت إقدام الهيبة بقوله : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) أي : عذاب فراقي وامتناعي من مطالعة أرواح القلوب على نعت السرمدية ، وأوصل إلى من شاء من العارفين والمحبين ، تربية وامتحانا لهم في العبودية ، وصل عذابه بالمشيئة ، وهو موضع رجاء وخوف لأهل الإيمان ، ثم عمّ الكل برحمته الواسعة الأزلية الشاملة على كل ذرة بقوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) جميع الخلائق مستغرقون في بحار رحمته ؛ لأن إيجاد الحق إياهم على أي وصف كانوا عين رحمته ، حيث جعلوا تحت نظره وسلطانه وربوبيته ومباشرة قدرته فيهم ، ثم إن الخلق بالتفاوت في الرحمة ، فالجمادات مستغرقة في نور فعله وهي الرحمة الفعلية

__________________

(١) أي : محنتك وابتلاؤك حيث أسمعتهم كلامك فافتتنوا بذلك ولم يثبتوا فطمعوا في الرؤية.

يقول الفقير : هذا يدل على أنهم سمعوا كلامه تعالى على وجه الامتحان والابتلاء لا على وجه التكرمة والإجلال وذلك لا يقدح في كون موسى عليه‌السلام مصطفى بالرسالة والكلام مع أنه فرق كثير بين سماعهم وسماعه عليه‌السلام والله أعلم. تفسير حقي (٤ / ٢٨٧).

والحيوانات مستغرقة في نور صفته ، وهي الرحمة الصفاتية والعقلاء من الجن والأنس والملائكة مستغرقون في فوز ذاته وهي الرحمة الذاتية القديمة من جهة تعريفهم وربوبيته ووحدانيته ، وهم من جهة الأجسام وما يجري عليها في الرحمة العامة ، ومن جهة الأرواح وما يجرى عليها في الرحمة الخاصة وهم فيها بالتفاوت ، فبعضهم في رؤية العظمة ذابوا ، وبعضهم في رؤية القدم والبقاء تاهوا ، وبعضهم في رؤية الجلال والجمال عشقوا فطاشوا ، ومن خرج من مقام الرحمة إلى أصل الصفة ، ومن الصفة إلى أصل الذات استغرق في الراحم وفني عن الرحمة فصار رحمته للعالمين ، وهذا وصف نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه وصل بالكل إلى الكل ، فوصفه برحمة الكل بقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ).

ثم خصّ رحمة الخاص الصفاتية بعد أن عمّ الكل برحمته العامة للمتفردين بالله عن غير الله ، الفانين بعظمته في عظمته ، الذين بدلوا وجودهم لحق ربوبيته عليهم بقوله : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) أي : يتقون في محبة مشاهدته عن كل مألوف ومحظوظ دونه ، ويؤتون الزكاة ، يتقربون إليه بذبح نفوسهم لديه.

(وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) يشاهدون مشاهدا في رؤية آياتنا.

قال الواسطي في قوله : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) ذلك في نفس العارف ما عرفه أحد إلا تكدر عيشه ، وأرباب الحقائق ألا يعذبون في الدنيا إلا بتواتر نعم الله عليهم والتقرب ، حتى يرد عليه ما منه بغيب من الصفات والنعوت ، فيرتفع عنه سوء الأدب في السير.

وقال الكتاني رحمه‌الله : تسمع كل شيء ، لكن خصّ بها الأتقياء ، قال الله : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ).

وقال أبو عثمان : لا أعلم في القرآن أنه يقنط من قوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) والناس يرونها أرجى آية ، وذلك أن الله يقول : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ، ومن يمكنه بصحيح التقوى فتكون بشرط الآية.

وقال بعضهم : وصف العذاب بصفة الخصوص مقرونا بالمشيئة ، وعمّ الرحمة أنها تسع كل شيء ، ثم وصف الله هؤلاء المتقين بالأسوة والقدوة والاقتداء في تقواهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَ).

وصف الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأمية ، كان عليه‌السلام أميا بأنه كان قبل الكون في بحر الوصلة ومهد القربة ، شرب ألبان النبوة والرسالة والاصطفائية من ثدي مرضعة خاصة الأزل ، كان أميّا

كالولد العزيز في حجر أمه لا يجري عليه ما يؤذيه ، كان في حجر الأزل رباه الله بلطفه وغذاء مشاهدته ، وصيّره مقدسا في وقاية كرمه عن المكر والقهر.

ألا ترى كيف قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم واقية الواقية» (١).

الوليد وصفه ، تقدس رسالته ، ولطف نبوته عن جميع علّة الاكتشاف ، تلقف من فلق شرف العناية كلمات الأزلية بلا واسطة الحدث ، لا يلتفت إلى علم المكتسب من الحدثان لاستغراقه في بحار علوم الرحمن.

قال ابن عطاء : الأمي هو الأعجمي ، قال : يكون أعجميّا عمّا دوننا ، عالما بنا وبما نزل عليه من كلامنا وحقائقنا.

وقال : الأمي من لم يعلم من الدنيا شيئا ، ولا من الآخرة إلا ما علمه ربه ، حالته مع الله حالة واحدة وهي الطهارة بالافتقار إليه ، والاستغفار عمّا سواه ، وزاد الله في وصفه عليه‌السلام في وضع أثقال الشرك والضلال وأغلال المخالفات عنهم في متابعته والاقتداء بسنته بقوله : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ).

كان القوم بقوا في أسر المجاهدات بلا مشاهدات ، وأغلال الرياضات بلا مكاشفات ، فلمّا اتبعوه خرجوا من حدّ الجهالة بطريق المعرفة واستنار لهم سبل الحقيقة ببركة السنة ، فوجدوا بدائع ألطاف الغيبة بنعت الجذب والمواجيد البديهية ، فيخفف عنهم ما عليهم من أثقال الرهبانية ، وانحلّ عن أسرارهم أغلال الشيطانية النفسية ، وأيضا لمّا رآهم عليه‌السلام تحت قهر البعد وأغلال فقدان المعروف ، حيث إنهم كانوا مطايا أثقال القهريات المسرورات بأسر الغضب القديم ، فأبرز لهم أنوار النبوة من مصباح الرسالة ودعاهم من طريق الهوى والمنى إلى محجة التقوى ، وسبيل الرضا ومشاهدة المولى ؛ فأجابوا بنعت الاقتداء ؛ فترفهوا من علّة البدعة بروح السنة.

قال جعفر رضي الله عنه : يضع عنهم أثقال المشرك وذل المخالفات وغل الإهمال.

وقال الأستاذ : لا شيء أثقل من كد التدبير ، فمن ثقل عن كد التدبير إلى روح شهود التقدير فقد وضع عنه المعرفة ، واستنار لهم سبل الحقيقة ببركة السنة ؛ فوجدوا بدائع ألطاف الغيبية بنعت الجذب والمواجيد البديهية ، فيخفف عنهم ما عليهم من أثقال الرهبانية ، وانحل عن أسرارهم أغلال الشيطانية النفسانية.

وأيضا لما رآهم عليه‌السلام تحت قهر البعد ، وأغلال فقدان المعروف حيث إنهم كانوا مطايا أثقال القهريات المأسورات بأسر الغضب القديم ، فأبرز لهم أنوار النبوة من مصباح الرسالة ،

__________________

(١) رواه القضاعي في الشهاب (٢ / ٣٣٩) ، بنحوه.

ودعاهم من طريق الهوى والمنى إلى محجة التقوى ، وسبيل الرضا ، ومشاهدة المولى فأجابوا بنعت الاقتداء فترفهوا من علة البدعة بروح السنة.

قال جعفر رضي الله عنه : يضع عنهم أثقال الشرك ، وذل المخالفات ، وغل الإهمال.

وقال الأستاذ : لا شيء أثقل من كد التدبير ، فمن ثقل عن كد التدبير إلى روح شهود التقدير فقد وضع عنه كل إصر ، وكفي كل وزر وأمر ، والأغلال التي كانت عليهم ما ابتدعوه من قبل أنفسهم باختيارهم في التزام طاعات الله ، لم يفرض عليهم.

ثم وصف هؤلاء بالإيمان والإيقان ، وإعانة رسوله ونصرته عليه‌السلام ومتابعة القرآن بقوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) أي : شاهدوا مقامات النبوة بنعت الولاية ، وبذلوا مهجتهم في نصرته على أعداء الله ، وسلكوا بنور القرآن طريق العرفان.

ثم وصفهم بالفوز والنجاة من أيدي الشياطين ، وهواجس النفوس بنور القرآن والسنة ، وظفروا بمشاهدة الحق وحلاوة محبته.

قيل : اتّبعوا سنّته ؛ ليوصلهم اتّباع السنن إلى مبادئ الأحوال السنّيّة.

قال بعضهم : صدّقوا ما جاء به ، وبذلوا المهج بين يديه ، ثم أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإظهار ما أعطاه الله من رفيع درجاته ، وسني معجزاته ، ولطيف كراماته لمن له استعداد الإنسانية ، وقبول الحقّ للعقل حجّة للعالمين ، وانفتاح أبصار الصدّيقين بأنوار جماله وسنا جلاله ، بقوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) أي : مخبركم عن شوق الله في وجوه العارفين ، وطبيب أمراض الخليقة ، ودليلهم إلى طريق الحقيقة ، ومنقذ العالمين من البدعة بأنوار الشريعة ، وأمره بوصف جلاله وملكه على انتظام السماوات والأرض ، وإيجاد الخلق وإفنائهم بالحقّ ، بقوله : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) : نفى الأنداد والأضداد من ساحة الكبرياء ، ووصفه بإحاطته على ملك السماوات والأرض بالعزّ والبقاء ، وبأنه يحيي قلوب العارفين بمشاهدته ، ويميت قلوب أعدائه بقهره.

ثم أمره بأن يأمرهم بالإيمان به وبرسوله بنعت معرفته ، وشهودهم مشاهدة نبوة نبيّه.

ثم وصف رسوله بالأميّة عمّا دونه ، وشهوده مشاهدة قدم به لا بنفسه ، ورؤية ما أخبر عن أسرار ذاته وصفاته في كلامه ، بقوله : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ) وكلمته أي : يؤمن بالله بنعت الرضا عنه فيما يجري عليه من قضائه وقدره ، ووصف حضور قلبه بنعت الكشف بين يديه ، ويوقن ما أخبر له من أسرار الآزال والآباد.

فلمّا كمل في ثنائه ، ووصفه بأحسن الوصف ، أمر الجمهور بمتابعته ؛ ليجدوا بنوره مناهج معرفته ، بقوله : (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) : جعل متابعة نبيّه مفاتيح فواتح خزائن كنوز معارف ذاته وصفاته ، أي : اتبعوه بنعت المحبّة ، ووصف الاقتداء بالسنّة بغير المخالفة ، لعلّكم ترشدون مشاهد أنوار الذات في الصفات ، ومساقط تجلّي الصفات في الأفعال ، وهذا وصف من تجانس له فطرة الولاية ، فطرة النبوة والرسالة.

فإذا وصل نور الرسالة إلى نور الولاية ، ظهرت طرق المعرفة لأهل الخالصة من المشاهدة ليس علّة المعرفة المتابعة ، ولكن علّة المتابعة المعرفة ؛ لأنّ منها ينشعب جميع المعاملات السنّيّة ، والحالات الشريفة ، فالمتابعة تكليف ، والمعرفة تشريف ، التكليف للأشباح ، والتشريف للأرواح.

قال الحسين بن منصور : إنّ الحقّ أورد تكليفه على ضربين : تكليفا عن وسائط ، وتكليفا بحقائق ، فتكليف الحقيقة بدت معارفه منه ، وعادت إليه ، وتكليف الوسائط بدت معارفه عمّا دونه ، فلم يصل إليه ، فتناهى من معارفهم إلى نهايات معرفة أهل الوسائط ، ولم يتناه معارف من أحد معارفه عن شهود الحقّ ، كلّ ذلك رفقا من الحقّ بالخلق ؛ لعلمه بأنّه لا يوصل إليه إلا بما منه.

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا

نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦))

قوله تعالى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) : وصف الله قوما من أمة كليمه عليه‌السلام ، الذين وصل إليهم ما منّ الله على موسى بكشف الأنوار لأرواحهم ، وفتح آذان قلوبهم لسماع خطابه ، هم وجدوا الله بالله ، واتّصفوا بصفاته ، فأخبر الحقّ عن اتّصافهم بصفاته ، حيث قال : (يَهْدُونَ بِالْحَقِ) : والهداية صفته ، أي : يهدون بنور الله عباد الله إلى الله لا بهم ، وهم على الحقّ لا بصورة العماء والغلط والظنون والحظوظ ، (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي : بعدله وباتّصافهم بعدله ، يعدلون بين الحقّ للحقّ ، لا لأنفسهم يتّصفون بالله لله ، لا يخافون لومة لائم : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) [المائدة : ٥٤].

قيل : يدلون الخلق على طريق الحق ، وإيّاه يسلكون ، ثم وصف الله قوم موسى بأنهم على اثني عشر طريقا من طرق المعارف ، بقوله : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً) (١).

وجعل ضرب موسى الحجر مثلا لانفتاح قلوبهم مشارب الألوهية ، بقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) : ضرب يد الأحدية بعصا العناية صفوان الأزل ، فظهر من عيون القدم ، وبحار الأولية لأرواح الموحّدين ، وقلوب العارفين ، وعقول العاشقين ، وأسرار الشائقين ، وهمم المحبّين ، وأفئدة الموقنين ، وخواطر المكاشفين ، وصدور المشاهدين ، وعلوم السالكين ، ونيّات الصادقين ، ومزار نور الراضين ، ووجود المريدين (اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) : من عيون الصفات الخاصة لعرفان أهل العيان.

منها : عين القدم ، وهى مشرب أرواح الموحّدين.

ومنها : عين البقاء ، وهي مورد قلوب العارفين.

__________________

(١) قال ابن عجيبة : (أسباطا) : بدل لا تمييز ؛ لأن تمييز العدد يكون مفردا ، والتمييز محذوف ، أي : فرقة أسباطا. وقال الزمخشري : يصح تمييزا ؛ لأن كل قبيلة أسباط لا سبط ، فكأنه قال : وقطعناهم اثنتي عشر سبطا سبطا. والسبط في بني إسرائيل كالقبيلة عند العرب ، و (أمما) : بدل بعد بدل على الأول ، وعلى الثاني بدل من أسباط. يقول الحقّ جلّ جلاله : (وقطّعناهم) أي : بني إسرائيل : فرقناهم (اثنتي عشر أسباطا) ؛ اثني عشر سبطا ، (أمما) : متميزة ، كل سبط أمة مستقلة. البحر المديد (٢ / ٣٠١).

ومنها : عين الجمال ، وهي مورد عقول العاشقين.

ومنها : عين تجلّي الوجه الذي هو صفته الخاصة ، وهي مشرب همم المحبّين.

ومنها : عين القدرة ، وهي مشرب أفئدة الموقنين.

ومنها : عين العلوم ، وهي مشرب خواطر المكاشفين.

ومنها : عين صفة السمع ، وهي مشرب صدور المشاهدين.

ومنها : عين صفة البصر ، وهي مشرب علوم السالكين.

ومنها : عين الكلام الأزلي ، وهي مشرب نيّات الصادقين.

ومنها : عين الإرادة القديمة ، وهي مشرب من أنوار الراضين.

ومنها : عين الحياة القديمة ، وهي مشرب وجود المريدين.

أما انفجار عين القدم لأرواح الموحدين ؛ لأن القدم أصل الأصل ، وماهية عين الكل.

ومنها : انفتح أنوار التوحيد للموحّدين ، والموحّد لم يبلغ إلى درجة حقائق التوحيد إلا بعد شربه زلال الحقيقة من بحار القدم.

وذلك الشرب يكون للأرواح الطائرة بأجنحة القدم في القدم ، وتلك الأرواح لا تبرح من تلك البحار ؛ لأنها تعيش بها أبدا ، ولا ترجع منها إلى غيرها من الصفات إلا ما شاء الله.

وأما انفتاح عين البقاء لقلوب العارفين ؛ لأنّها مصارف جميع الصفات ، وهي أصل ثان.

ومنها : تنبت كشوف الصفات ، وشهود أنوار الذّات.

والعارف لا يبلغ إلى درجة المعرفة ، إلّا بعد أن يشرب منها شراب وصال البقاء بنعت السكر والصحو ، ومن زاد سكره للبقاء زاد صحوه ؛ لأن البقاء يوجب التمكين ، وهم لا يلتفتون من ذلك المقام إلى مقام آخر ؛ لأنّ قلوبهم استغرقت في ذلك البحر.

وبحر البقاء باق لها ، ليس له ساحل ، وهي لزيادة العطش.

وأما انبجاس عين الجمال لعقول العاشقين ؛ لأن الجمال يوجب العشق للعاشقين ، ولا يكون العاشق عاشقا إلا بعد رؤيته جمال الحقّ سبحانه ، وتلك العقول هائمة في ذلك لا تسكن عنها أبدا ، ولا ترجع إلى مقام آخر من استلذاذها حلاوة الجمال.

وأما انفتاح عين تجلّي الوجه لأسرار الشائقين ؛ لأنها سبب سكر العشاق ، سكرت تلك الأسرار برؤية تلك الأنوار ، وهي هائمة أبدا ، لا يرجع منها إلى غيرها من المقامات والحالات ؛ لأنّ الشوق ألذّ الأحوال ، ولا يبلغ الشائق إلى درجة الشوق إلا بعد كشف تجلّي الوجه له.

وأما انفتاح عين الجلال لهمم المحبّين ؛ لأن الجلال مشرب تلك الهمم يوقعها إلى

البحرين بحر الهيبة ، وبحر الإجلال ، والإجلال يورّث لها الخوف ، والهيبة تورث لها الحياء وهما أخصّ صفات المحبّين ، وصفة الجلال شاملة لصفة الجمال ، والجمال يظهرها في الجلال ؛ لذلك استروحت تلك الهمم في أوقات عن برحاء الجلال ، وكلّ محبّ لم يبلغ مشاهدة الجلال لم يبلغ إلى درجة المحبّة بالكمال.

وتلك الهمة تنصرف بذاتها عن ذلك المقام تارة إلى محلّ الجمال ؛ لاقتباس نور الشوق والعشق ؛ لأن الجلال والجمال مصدرهما عين واحد ، وإن كان تأثيرهما في التجلّي والمباشرة مختلفا.

وأما انفتاح عين القدرة لأفئدة الموقنين ، وهي بكشوفها تزيد أنوار الإيقان للموقنين ؛ ولذلك قال تعالى : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [الأنعام : ٧٥].

ومشربها تجري على سوابق الآيات ، والأفعال في حدود الالتباس ، ونحلت نفس الصفة صرفا بغير رؤية الآيات إذا كان صرفا ، فهي توجب العرفان ، وإذا لم تكن صرفا توجب الإيقان ، وكيف يكون الموقن موقنا ، ولم يشرب فؤاده من هذين السقيين ، وأفئدة الموقنين هامت من سكرها من شرب سلسبيل عين القدرة ، ولا يرجع منها إلا بعد الاستيفاء منها إلى أعلى المقامات من شهود العين ، ورؤية جميع الصفات ، فهي على نعت الترقّي ؛ لأنّ تأثير القدرة في الأشياء على نعوت التغاير ، وإن كانت عينها مقدسة من علّة التلوين.

وأما انفتاح عين العلوم الأزلية اللدنية لخواطر المكاشفين ، وذلك أن عرائس الغيوب بلباس المعلوم تنكشف لخواطر المكاشفين ، وهي تورّث لعيونها مشاهدة الصفات والذات ، وتورث من فوائد وجدان نضارتها وبهجة سناها علوم المعارف الإلهية ، كلّ كشف بغير علم لا يكون على حد الكمال والعلم إلا تفارق الكشف ؛ لأن الكشف محلّ الخطاب ، والخطاب يوجب العلم ، لكن ربما تلوح بوادي الكشوف لضعفاء الطريق بالبديهة ، ولا يفهمون عنها أنباء العجيبة الإلهية.

وكلّ خاطر لم يشرف على هذين المنزلين ، فهو ناقص عن محلّ الربانيّة ، وتلك الخواطر معادنها علوم الأزلية ، مستلذة دقائق العلوم من حيث حلاوة الكشف ، وحلاوة الخطاب.

وأما انفتاح عين السمع لصدور المشاهدين يوجب لها أسماع الإلهية التي تسمع لها أصوات جريان أقلام القضاء والقدر من العرش إلى الثرى ، وتسمع من الحقّ بسمع الحق ما يقول الحق ، قال تعالى : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق : ٣٧].

وتلك الصدور حاضرة الغيب ، لا تحس لهواجس النفوس ، واصطكاك غيوم ظلام

الشياطين.

ومن لم يبلغ إلى وجدان تلك الصفة في صدوره ، لم يكن من السامعين أصوات جرس الوصلة.

وأما انفتاح عين البصر لعلوم السالكين ، وذلك أن أنوارها تبيّن لعلومهم طرائق الغيب ، وأحكام المتشابهات ، ومغيّبات الحكم ، ومن لم يبلغ إلى ذلك المقام ، ولم يشرب من شربه لم يكن من المتفرّسين في القلوب ، ولم يكن من المشاهدين في الغيوب.

وأما انفتاح عين الكلام الأزلي لنيّات الصادقين ، وذلك المشرب مخبر مشارب جميع الصفات ؛ لأنه من كلّ صفة فراج ، فكلّ صادق يتكلم الحق معه بكلام القديم ، يصير بنوره مطلقا على جميع الصفات ، عالما بأسمائها ونعوتها ، مشاهدا للذات مع جميع الصفات وتكون نيّته معلّقة بجريان خطاب الأزل ، يجري بجريانه حيث يجري ، ويدور حيث يدور ، ولذلك هي محفوظة من خطرات الشك والريب ، مرقومة بنور الإخلاص ، ومن لم يذق طعم ذلك المشرب ليس بصادق في المعرفة ؛ لأنه لم يكن معه مفاتيح كنوز الذات والصفات من الكلام.

وأما انفتاح عين الإرادة القديمة لمراد نور الراضين ، وذلك أن الرضا بالإرادة يكون من نور الإرادة ، مزيلا كلّ إرادة غير إرادة الله ، فإذا زالت الإرادات عن قرار نور أهل الرضا بقيت إرادة الله فيه ، فتكسبه سناها حتى تصير إرادة الراضي إرادة الحق ، فإذا كانت الإرادة إرادة فردة ، ولم يبق غيرها ، أورثت له حسن الرضا ، وذلك الرضا من رضوان الله ، فصارا متّصفين ، يورثان من معدن الأصل الرضا للراضي ، فحينئذ إرادة الله ، ورضي برضا الله ، قال الله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المائدة : ١١٩].

وكل ذلك جرى له في سابق الحكم والعلم ، فباشر حين وقع تجلّيه على قلب الراضي بغير علة اكتسابه ، ولا بحوله وقوته.

وأما انفتاح عين الحياة الأزلية لوجود المريدين ، وذلك أن المريد ميّت عن حياتها لمعرفة ، فيحييه الله بشربات ماء حياته ، فلا يموت بعد ذلك أبدا.

قيل : العرفاء لا يموتون ، فإذا شرب المريد من عين حياة الأزلية يستقيم بها في رؤية جميع الصفات ؛ لأن الحياة أصل جميع الصفات ، وجميع الصفات كأنه قائمة بها ، ومن لم يشرب من ذلك المشرب شربة الحياة لم يقدر أن يسبح بهمّيته في بحار الملكوت والجبروت ، ولم ير جواهر الصفات ، ولآلئ الحكم والعلم في بحر البقاء والأزل ، ولهؤلاء الطيّارين في هواء الهويب ، والسيّارين على مراكب الجود في ميادين الأحدية طيرانا وسيرا بقوة الشرب من مشارب الغيب ، والترقّي في المقامات والدرجات إلى أعلى معالي درجاتهم من القرب

والوصال.

وكل طائفة منهم عرفوا مشاربهم ، قال الله تعالى في تمام الآية : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) [البقرة : ٦٠].

لكلّ واحد منهم أعلام طريقة إلى الله من سلب المواجيد ، وحركات الجذب ، وظهور الصفة ، وإلقاء السمع ، واستماع الخطاب ، ويعرف منتهاه ، ويعلم مقصده ، وزيادة طلبه من قرب الحق ووصاله.

حكي عن الرضا عن أبيه ، عن جعفر بن محمد في هذه الآية قال : (فَانْبَجَسَتْ) من المعرفة : (اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) يشرب كل أهل مرتبة في مقام من عين من تلك العيون ، على قدرها (١) ، «فأول عين» منها : عين التوحيد.

و «الثانية» : عين العبودية ، والسرور بها.

و «الثالثة» : عين الإخلاص.

و «الرابعة» : عين الصدق.

و «الخامسة» : عين التواضع.

و «السادسة» : عين الرضا ، والتفويض.

و «السابعة» : عين السكينة ، والوقار.

و «الثامنة» : عين السخاء ، والثقة بالله.

و «التاسعة» : عين اليقين.

و «العاشرة» : عين الفعل.

و «الحادية عشرة» : عين المحبّة.

و «الثانية عشرة» : عين الأنس والخلوة ، وهي عين المعرفة بنفسها.

ومنها تنفجر هذه العيون ، من شرب من عين منها يجد طلاوتها ، ويطمع في العين التي هي أرفع منها ، من عين إلى عين حتى يصل إلى الأصل ، فإذا وصل إلى الأصل تحقق بالحق.

وقال بعضهم في قوله : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) : ظهر لكل سالك سلوكه ، وآثار برهانه ، وبركات سعيه ، وأنوار حقائقه.

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ

__________________

(١) قال الحدادي : الانبجاس خروج الماء قليلا والانفجار خروجه واسعا وإنما قال فانبجست لأن الماء كان يخرج من الحجر في الابتداء قليلا يتسع فاجتمع فيه صفة الانبجاس والانفجار.

إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١))

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) : تتابع الاستتار والتجلّي في أقلّ لمحة ، أحدهما يتابع الآخر لبدا قهر القديم ، ولطف القديم ، وخفائهما من معدن الأصل توجبان القبض والبسط ، والكشف والحجاب.

قال بعضهم : ما كان في القرآن من قوله : (لَسَرِيعُ الْعِقابِ) : فإنها عقوبة الحجاب عنه.

قوله تعالى (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) : فوق الأولياء والأعداء في الأرض ؛ ليعيش كل طائفة بما خلق لها من الطاعة والمعصية. (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) : خلفاء الأنبياء.

(وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) يعني : المستبدّين بآرائهم غير مقتدين بالأولياء والصدّيقين.

(وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) : جعلناهم جميعا في درك الامتحان ؛ لأن المولى مقهور القهر ، ومعطوف اللطف ، فقهره يورث المعصية والحجاب ، ولطفه يورث الطاعة والكشف ، ففي العقوبة مطالبون بالصبر ، وفي النعمة مطالبون بالشكر ، فالصبر منهم محال إلا بمعرفة الله ، والشكر منهم محال إلا بكشف جمال الله لهم.

(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) : من البلاء إلى مبليهم.

قيل : اختبرناهم بالنعم طلبا للشكر ، واختبرناهم بالمحن طلبا للصبر ، فأبى الجميع ، فلا هم عند النعم شاكرون ، ولا هم عن المحن صابرون.

قوله تعالى : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) : لما ادّعوا قرب الله ، والانبساط بين يديه ، وأنه تعالى لا يؤاخذهم بما كسبوا فضحهم الله بإظهاره

كذبهم بما قالوا على الله ما لم يعرفوا منه.

وكذا حال المدّعين إلى يوم القيامة ، وثق الحق سبحانه في كلامه على الصدّيقين ، ألا يقولوا على الله إلّا ما وصف به نفسه من التنزيه والتقديس من أوصاف الحدثان ، وأن من العرش إلى الثرى تجري على مقاديره السابقة ، ومشيئته القديمة.

قيل : ألم يبيّن لهم على لسان الوسائط ، وفي الكتب المنزلة ألا يصفوا الحق إلا بنفاذ المشيئة وعلو القدرة ، ثم بيّن سبحانه أنهم علموا بميثاق الله في كتاب الله ، وتركوا ما ندبوا إليه من سني المعاملات ، ورفيع المقامات ، بقوله : (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) (١) : درسوا ، وما عرفوا حقائقه ، ولو ذاقوا طعم الخطاب تابعوه ببذل المهجة.

قال سهل : تركوا العمل به.

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤))

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى).

أخبر سبحانه عن سرّ تقدير الأزل الذي في نفسه في أول الأول ، قبل كل قبل ، بلا تغاير الزمان وتواتر الملوان ، وذلك إرادة سابقة أزلية ذاتية صفاتية أحدية ، تكون بوجود إيجاده بظهور وجوده تعالى له ، فتقاضت الإرادة من العلم ، والعلم من القدرة ، والقدرة من جميع الصفات ، والصفات من الذات بغير تفرقة ، ولا جمع بل الوحدانية ، فأجابت الصفات للذات ، والذات للصفات من غير حاجة ، ولا وحشة ، ولا أنس بالحدثان ، بل الموجود أهل العرفان ، فمضت أدهار الأزلية بلا زمان ولا مكان ، بل قدم في القدم ، وأزل في الأزل أخبر عن علم القديم ، لا من الوقت ألا ترى قوله : (وَإِذْ) ، وليس عنده صباح ومساء لما تم أدهار الأولية ، التي هي دهر الدهار المنزّهة عن المكان والزمان ، وتمامها وقت إيجاد الأكوان والحدثان ، وإبراز أهل العرفان من معدن العيان تجلّت أنوار الذات لأنوار الصفات ، وتجلّت

__________________

(١) يعني تحققوا بمضمون الكتاب ثم جحدوا بعد لوح البيان وظهور البرهان ، يعني التعرض لنفحات فضله ـ سبحانه ـ خير لمن أمّل جوده من مقاساة التعب ممن بذل ـ في تحصيل هواه ـ مجهوده ، تفسير القشيري (٢ / ٤٦١).

أنوار الصفات لأنوار الذات ، ثم تجلّت الذات بجميعها للإرادة والمحبّة ، ثم تجلت الإرادة والمحبة لفعل الخاص ، ثم تجلى فعل الخاص لفعل العام ، ثم تجلى الفعل للعدم ، وأخرج من مكمن الغيب الأرواح بنعت إيجادها فأجادها برؤية تجلي الفعل العام ، ثم كساها نور فعل الخاص ، ثم أحضرها مشارب المحبّة والإرادة ، فسقاها من عين المحبة شراب العشق ، ومن عين الإرادة شراب التوحيد ، فاشتاقت من شراب المحبة ، وسكرت من هذا العشق ، وبهجت إلى معدن الصفة ، وطارت بأجنحة التوحيد في أنوار الصفات ، ثم طارت بنور الصفات في أنوار الذات ، ففنيت في القدم برؤية القدم ، وبقيت في البقاء برؤية البقاء ، فترفرفت كل واحدة على مورد من موارد الصفات ، وسكنت في العيون الصفات الأرواح ، فبعضها في عين العظمة ، وبعضها في عين الجلال ، وبعضها في عين الجمال ، وبعضها في عين الكبرياء ، وبعضها في عين القدم ، وبعضها في عين البقاء ، وبعضها في عين البهاء ، وبعضها في عين الحسن ، وبعضها في عين القدس ، وبعضها في نور الأنس ، وبعضها في سناه ، وبعضها في نور الأسماء والنعوت ، وبعضها في عين الحياة ، وبعضها في نور السمع ، وبعضها في نور البصر ، وبعضها في نور الكلام ، وبعضها في نور الوجه ، وبعضها في نور القدرة ، وبعضها في نور العلم ، وبعضها في نور المشيئة والإرادة ، وبعضها في صفات الخاصة من الاستواء وغيره من الصفات ، وبعضها في نور العطاء ، وبعضها في نور اللطف ، وبعضها في عين القهر ، وكل واحدة منها قويت لسجية موردها ، وقوة شربها.

وكل واحدة اشتاقت فيها إلى معدنها ؛ لذلك طباعها مختلفة في المقامات والحالات والمكاشفات والمشاهدات ، فوقعت أهل الألطاف في عيون المعرفة ، فبقيت في المعرفة أبدا ، ووقعت أهل القهريات في النكرة ، فبقيت في النكرة أبدا.

ألا ترى إلى مناهجهما من الكفر والإيمان ، فلمّا أراد سبحانه عبوديتها أخرجها من الغيب إلى صورة البشرية بنعت الامتحان والعبودية ، وكساها لباس الصلصالية ، بقوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) : أخرجهم جميعا بظهور وجوده لهم ، فخرجوا جميعا بنور ظهوره ، وتجلّي صفاته وذاته ، أخذهم بمباشرة الصفة في الفعل ، فوصل بركة أخذه إلى أهل معرفته ؛ لأن أخذه لهم أخذ لطف ووصل ، وقهر أخذه إلى أهل النكرة ؛ لأنهم أهل قهر ، فمن خرج بلباس اللطف شاهد الحق مشاهدة عيان ، ومن خرج بنعت القهر ، شاهد قهر الحق مشاهدة امتناع وحجاب ؛ لذلك بعضهم جحدوه ، أشهدهم على أنفسهم ليغيبوا عن مشاهدته ، ولو أشهدهم مشاهدته ما احتاجوا إلى تعريف الخطاب ، بقوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) : كانوا في الأول شاهدين ، ثم كانوا غائبين ، فلمّا صاروا غائبين عرّفهم تلك

الموارد والمشارب في زمان الأول حين خرجوا من العدم بنور القدم.

(أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) : خطاب تعريف وتذكير معاهد الأولية ، وأنشد في معناه :

سقيا لعهدك الذي لو لم يكن

ما كان قلبي للصبابة معهدا

سقى الله أياما لنا وليالي مضت

فجرت من ذكرهنّ دموع

فيا هل لها يوما من الدهر أوبة

وهل لي إلى أرض الحبيب رجوع

سلام على سلمى وإن شطّ دارها

سلام على أرض قديم بها العهد

في الأول كانوا غائبين عنه ، فأدركهم نور محبّته ، فأولهم قبل ظهورهم في لباس آدم ، فلمّا عرّفهم تلك الحلاوة ذكروا ما وجدوا ، وأنشدوا :

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى

فصادف صبّا فارغا فتمكّنا

(أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) : لأهل اللطف خطاب تعطف ، ولأهل القهر خطاب تعظم ، خاطب العارفين بتعريف المشاهدات ، وخاطب الجاهلين بالقهر والامتحانات ، فاعترفوا جميعا بوحدانيته طوعا وكرها ، طوعا لأهل العرفان ، وكرها لأهل العماء والطغيان.

ولولا خطابه وإنطاقه بالقدرة الأزلية ما قالوا جميعهم بني إلا أهل شهود جماله ، فلما خاطبهم فرح أهل محبته ، فطاروا بأجنحة توحيده في هواء وحدانيته فرحا وسرورا بجماله ، وتحيّر أهل الحجاب ، فبهتوا وتاهوا في أودية قهره ، ثم عظّم ميثاقه تعالى معهم بشهوده إيّاهم بقوله : (شَهِدْنا) : أخبر عن كشف نقاب الأزلية عن وجه السرمدية لأهل المعرفة ؛ لئلا ينسوه طرفة عين إلى أبد الآبدين ، وإن كانوا في حجب الامتحان ؛ لأن العاشق يرى معشوقه في رؤية جميع البلاء ، وكيف يحتجب المحبّ عن محبوبه ، ومحبته محيطة بجميع وجوده :

أريد لأنسى ذكرها فكأنما

تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل

قال أبو سعيد الخرّاز في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) : ترابا لأهل الإيمان بالسكون ، فعرفوه ، وسكنوا واطمأنوا ، وترابا لأهل الكفر بالتعظيم ، فطاشت عقولهم ، فتفرقوا عنه.

وقال يوسف : قد أخبر أنه خاطبهم ربهم ، وهم غير موجودين إلّا بإيجاده لهم إذا كانوا واجدين الحق من غير وجودهم لأنفسهم ، كان الحق بالحق في ذلك موجودا بالمعنى الذي لا يعلمه غيره ، ولا يجده سواه.

قال بعضهم في قوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) قالوا : بلى من غير مشاهدة ، ثم كوشفوا ، فشهدوا ما خوطبوا به ، قالوا شهدنا أي : شهدنا حقائق حقك.

وقال الحسين : الحق أنطق الذر بالإيمان طوعا وكرها ، أنطقهم بركة الأخذ أخذهم عنهم وأنطقهم لا بهم ، بل أخذهم عنهم ، ثم أشهدهم حقيقة ، فأنطقت عنهم القدرة من غير شركة كانت لهم فيه.

قال النصر آبادي : في هذه الآيات موئل الأكبر ، وما ألف الأعظم معافون من السلالة والطين ، وما بعده من النطف والمضغ ، فأنتم في جملة أخذ الأول أو مردودون إلى معتاد الأخذ في السلالات والنطف ، فإن أخذ الأول أول بأول الأول ، وهو بأول الأول أول.

قال النصر آبادي : أخذ ربك تلطّفا وتكرّما ، بل أخذه إجلالا وعظمة ، بل أخذه عز واستغناء.

وقال أيضا : أخذ لا للحاجة بل للحجة ، فمنع الخلق حاجتهم أن يروا ذرة من معاني الحجة.

وقال : أخذ ربك من معدن إلى معدن ، ومن معدن لمعدن.

قال الجريري في قوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (١) قال : تعرّف إلى كلّ طائفة من الطوائف ، وبما منحها من معرفته ، فقالت : بلى وكل أقر بما منح ، ثم أخرجهم من صلب آدم ، فقال الله : (كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ).

وقال لنبيّه : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال : ٦٣].

وقال بعضهم : خاطب منصوب القدرة في عين القدم.

وسئل عبد الرحيم عن قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) قال : كانوا موجودين في القدرة ، مغيّبين في شهود الوجود.

وقال الواسطي في قوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) قال : هو تقرير في صورة السؤال.

وقال بعضهم : القدرة أجابت عن القدرة.

وقيل في قوله : (قالُوا بَلى) : سمعوا كلامه أن (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، وخلق حياتهم من ذلك النور ، وجعل قوام جميعهم بتلك الكلمة ، وأنشد :

__________________

(١) سئل شخص من العارفين ، كأنّه ذو النون قدس‌سره عن علم الميثاق قوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢] ، فقال : كأنّه في أذني الآن.

وآخر قال حين سئل عنه : سمعت سبعا من المواثيق.

وآخر قال : إنّه صدق في كليات المواثيق أنّها سبعة ، وأما جزئياتها فغير متناهية ، فأنا مؤمن بذلك كله.

لو يسمعون كما سمعت كلامها

خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا

قال ابن بنان : خالصة من خلقه انتخبهم للولاية ، واستخلصهم للكرامة ، وأفردهم به ، فجعل أجسادهم دنياوية ، وأرواحهم نورانية ، وأذهانهم روحانية ، وأوطان أرواحهم غيبية ، وجعلهم فسوحا في غوامض غيوب الملكوت للذين أوجدهم لديه في كون الأزل ، ثم دعاهم فأجابوا سراعا ، أجاب تركيبهم حين أوجدهم بعد الدعوة منه ، وعرّفهم نفسه حين لم يكونوا في صورة الأنسية ، ثم أخرجهم بمشيئته خلقا ، فأودعهم صلب آدم ، فقال : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) : فأخبر أنه خاطبهم ، وهم غير موجودين إلا بإيجاده لهم ، إذ كانوا واجدين للحق في عين وجودهم لأنفسهم ، وكان الحق بالحق في ذلك موجودا.

قال الأستاذ : أخبر بهذه الآية عن سابق عهده ، وصادق عقده ، وتأكيده ودّه بتعريف عبده ، وفي معناه أنشدوا :

سقيا لليلى والليالي التي

كنّا بليلى نلتقى فيها

أفديك في أيام دهري كلّها

يفدين أياما عرفتك فيها

ويقال : جمعهم في الخطاب ، لكنه فرّقهم في الحال ، فطائفة خاطبهم بوصف القربة ، فعرّفهم نفس ما خاطبهم ، وفرقة أبقاهم في أوطان الغيبة ، فأقصاهم عن نعت العرفان ، وحجبهم.

ويقال : أقوام لاطفهم في عين ما كاشفهم ، فأقرّوا بنعت التوحيد ، وآخرون أبعدهم في نفس ما أشهدهم ، فأقرّوا عن ناس الجمود.

ويقال : تجلّى لقلوب قوم ، فتولى تعريفهم ، فقالوا : بلى عن حاصل اليقين ، وتعزز على الآخرين ، فأثبتهم في أوطان الحجة ، فقالوا : بلى عن ظنّ وتخمين.

ويقال : جمع المؤمنين في السماع ، ولكن غاير بينهم في الرتب ، فجذب قلوب قوم إلى الإقرار بما أطمعها فيه من المبار ، وأنطق آخرين بصدق الإقرار بما أشهدهم من العيان ، كاشفهم به من الأسرار.

ويقال : فرقة ردّهم إلى الهيبة فهاموا ، وفرقة لاطفهم بالقربة فاستقاموا.

ويقال : كاشف قوما في حال الخطاب بجماله ، فطوّحهم في هيجان حبّه ، فأسكنت محابهم في كوامن أسرارهم ، فإذا سمعوا اليوم سماعا ، تجدّدت لهم تلك الأحوال ، والانزعاج الذي يظهر فيهم ، لتذكر ما سلف لهم من العهد المتقدم.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ

كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١))

قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) (١).

خوّف الله أهل ولايته من ضربة مقرعة قهر الأزل بنعت الغيرة على أعناق من رأى قيمة نفسه في جلال عظمة القدم من حيث صنيعه ببلعام ؛ ليمتنع المسرورون بما وجدوا من سني الكرامات ، ورفيع الآيات من النظر إلى مقاماتهم ومعاملاتهم ، فإنه تعالى شغل عنه من نظر إلى غيره بغيره ونفسه ، فإنّ مكره قديم.

(فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) : ذكر أنه تعالى أتاه آياته ، ولو أعطاه قرب مشاهداته ما سلخ منه ؛ لأنّ من رآه أحبّه ، ومن أحبّه اشتاق إليه ، ومن اشتاق إليه عشقه ، ومن عشقه استأنس به ، واستوحش مما سواه.

فمن ذلك تبيّن أنه كان مستدرجا بوجدان آياته ، وتصديق ذلك ما أخبر سبحانه من ارتداده عن دينه ، واشتغاله بهواه ، وعداوة كليمه ، بقوله : (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ).

ولو ذاق طعم حبّه لم يلتفت إلى غيره مكر به في الأزل ، فكان مكره مستندا ما إلى الأبد ، فالكرامات الظاهرة له عارضة الامتحان بين الأزل والأبد ، وعند الأصل القديم لا يعتبر بالعارض الطارئ.

قال ابن عطاء : سوابق الأزل تؤثّر على انتهاء الأبد ، قال الله : (آتَيْناهُ آياتِنا).

__________________

(١) ذكر أنه تعالى أعطاه آياته ، ولو أعطاه قرب مشاهدته ما انسلخ منه ، لأن من رآه أحبه ، ومن أحب استأنس به واستوحش مما سواه ، فمن ذلك تبين أنه كان مستدرجا بوجدان آياته ، وتصديق ذلك ما أخبر سبحانه من ارتداده عن دينه ، واشتغاله بهواه وعداوة كليمه. البحر المديد (٢ / ٣١٢).

قال الأستاذ : يظهر الأعداء في صدّ الخلّة ، ثم بردّهم إلى سوابق القسمة ، ويبرز الأولياء بنعت الخلاف والزلّة ، ثم يغلب عليهم مقسومات الوصلة.

ويقال : أقامه في حجال القربة ، ثم أبرز له من مكامن المكر ما أعدّ له من سابق التقدير ، فأصبح والكل دون رتبته ، وأمسى والكلب فوقه مع خساسته ، وفي معناه أنشدوا :

فبتنا بخير والدّنا مطمئنّة

وأصبحت يوما والزمان تقلّبا

ثمّ إنّ الله سبحانه علّق ضلالته بالقسمة السابقة ، والمشيئة الأزلية التي لا تتأثر بتأثير الاكتساب بقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها).

أي : ولو شئنا في الأزل اصطفائيته لولايتنا لم يؤثر فيها مخالفة الظاهر ؛ لأنّ قسمة الأزل تقصم تواترات الطبيعة ، وتتّصل بالعناية الأبدية ، والرعاية السرمدية ، وليس تقاعده عن طاعة مولاه علّة المشيئة ، بل المشيئة علة عصيانه.

قال ابن عطاء : ولو جرى له في حكم الأزل السعادة ، لأثر ذلك عليه في عواقب سعيه وكدحه في أواخر أحواله.

وقال الأستاذ : لو ساعدته المشيئة بالسعادة الأزلية لم تلحقه الشقاوة الأبدية ، ولكن من قصمته السوابق لم تسعفه اللواحق ، وصدق سبحانه بآية أخرى ما ذكرنا في الآية ، بقوله :

(مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي : من اجتباه الله بقربه ومعرفته في الأزل ، فجميع أمره على نظام تلك الاجتبائية.

قال بعضهم : ليس الناجي من سعى ، وأحسن السعي ، إنما الناجي من سبقت له الهداية من الهادي.

قال الله : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) ، ثم وصف الخاسرين بأنهم محجوبون عن ساحة كبريائه ، ورؤية جلاله ، بقوله : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) أي : قلوبهم محجوبة عن مشاهدة الغيوب ، ولو أدركت تلك المشاهد لذاقت طعم الوصال ، وفهمت حقائق معالي النوال ، وعيونهم في غواشي الشهوات ، ولو خرجت منها لأبصرت أنوار الصفات ، وما التفتت منها إلى جميع المرادات ، وآذانهم في أثقال الغفلات ، ولو خرجت من تحتها لسمعت أصوات الوصلة ، وألحان هواتف بلابل القربة ، وطابت بسماعها وصاعت من جميع الملاهي.

قيل : لهم قلوب لا يفقهون بها شواهد الحق ، ولهم أعين لا يبصرون بها دلائل الحق ، ولهم آذان لا يسمعون بها دعوة الحق ، ثم وصفهم بأنهم أغفل من البهائم في الضلالة ؛ لأن للبهائم استعداد قبول التأديب فيقبلون التأديب ، ولهم أيضا استعداد قبول التأديب ، ولا

يقبلون التأديب.

قيل : الأنعام والبهائم لا يحسّون بالاستتار والتجلّي ، والأرواح نعيمها في التجلّي ، وعذابها في الاستتار ، قال الله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) (١).

قال ابن عطاء : لهم قلوب لا يفقهون بها معاني الخطاب ، ولهم آذان لا يسمعون بها حلاوة الخطاب ، ولهم أعين لا يبصرون بها شواهد الحق.

وقال الأستاذ : لا يفقهون معاني الخطاب كما يفهمه المحدثون ، وليس لهم تمييز بين خواطر القلب ، وهواجس النفس ، ووساوس الشيطان ، ولهم أعين لا يبصرون بها شواهد التوحيد وعلامات اليقين ، ولا ينظرون إلا من حيث العقل ، ولا يسمعون إلا دواعي الفتنة ، ولا ينخرطون إلا من سلك ركوب الشهوة ، ثم وصف نفسه تعالى بأن له الأسماء الذاتية والأسماء الصفاتية ، والأسماء الفعلية ، والأسماء الخاصة المنبّئة لقلوب العارفين عن عجائب صفاته الأزلية ، والتي مصدرها ذاته القديم تعالى بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) : خبّر الخلق في طلب تلك الأسماء العظام ، ولا ينالونها إلا بكشوفها ، ولا تنكشف لهم تلك الأسماء إلا بكشوف صفات الخاصة ، التي تلك الأسماء مفاتيح خزانتها ، ولا تنكشف تلك الصفات ألا بكشف الذات ، فمن خصّ بهذه المكاشفات يهتدي إلى اسمه الأعظم ، ويهتدي بنوره إلى معاني الصفات وأنوار الذات ، إذا دعا به أجيب ، ويكون قوله في مراده : (كُنْ فَيَكُونُ) ، فكل اسم مخبر عن صفة ، والصفة مخبرة عن الذات.

ولكلّ اسم للعارفين فيه مقام ، وهم في الأسماء على مراتبها في معرفة الصفات ، ومشاهدة الذات في بعضهم ، كل اسم من أسمائه يبلغك مرتبة من المراتب ، واسمه الله يبلغك إلى الوله في حبّه ، والرحمن الرحيم يبلغانك إلى رحمته ، كذلك جميع أسمائه إذا دعوته عن خلوص ضمير ، وصفاء عقيدة.

قال بعضهم : إنّ وراء الأسماء والصفات صفات لا تخرقها الأفهام ؛ لأنّ الحقّ نار

__________________

(١) في عدم الفقه والإبصار للاعتبار والاستماع للتدبر أو في أن مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب لتعيش مقصورة عليها. والأنعام جمع نعم بالتحريك وقد يسكن عينه وهى الإبل والشاة أو خاص بالإبل كذا في القاموس (بل هم أضل) بل للإضراب وليس إبطالا بل هو انتقال من حكم وهو التشبيه بالأنعام إلى حكم وهو كونهم أضل من الأنعام طريقا فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع والمضار وتجهد في جلبها ودعها غاية جهدها وهو ليسوا كذلك وهى بمعزل من الخلود وهم يتركون النعيم المقيم ويقدمون على العذاب الخالد وقيل لأنها لا تعرف صاحبها وتذكره وتطيعه وهؤلاء لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه ولا يطيعونه.

يتضرم لا سبيل إليه ، ولا بدّ من الاقتحام فيه.

وقال بعضهم : أبدى أسماءه للدعاء لا يطلب الموقوف عليها ، وأنّى يقف على صفاته أحد.

وقيل : فادعوه بها أي : قفوا معها عن إدراك حقيقتها ، حكي الإسناد عن بعضهم أن الله سبحانه وقف الخلق بأسمائه ، فهم يذكرونها.

قال : وتعزّز بذاته ، فالعقول وإن صفت لا تهجم على حقائق الإشراف ؛ إذ الإدراك لا يجوز على الحق ، فالعقول عند بوادىء الحقائق منقّبة بنقاب الحيرة عن التعرض للإحاطة ، والمعارف تائهة عند قصد الإشراف على حقيقة الذات ، والإبصار حيرة عند طلب الإدراك في أحوال الرؤية ، والحقّ سبحانه عزيز باستحقاق نعوت التعالي منفردا ، ومثل هذا ذكره الأستاذ.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي : من كاشفنا له أحكام القدرة الغيبية المخبرة عن حوادث المقدرة ، التي تنكشف بعد الواقعة ظاهرة في مرآة قلبه ، فكذّبها بمعارضة النفس ، وشك الطبيعة مشتركة في ذلك ، ولا نكشف له بعد ذلك أسرار الملك والملكوت.

وهو بما استبدأ من صنيعه في العبادات الظاهرة يفرح ، ولا يعرف احتجابه عن رؤية الغيب ، وأيضا من الكذب آيات أوليائي ، وهو يترسّم سلوك طريقهم ، وهو معجب بذلك لا يبلغه إلى درجة القوم ، وتركه في عزّته وغروره ومحاله.

وأيضا من أنعم عليه بتيسير الطاعات ، ويقف معها ولا يطلب ما وراءها من القربات نحجبه بها عنا ، وهو لا يعلم ، ومثل ما ذكرنا صورة من لم يسبق في مقاديره السابقة العناية له بالاصطفائية في البلوغ إلى درجة الولاية.

ومن خصّ بتلك العناية ، كيف يلحقه الاستدراج ، وهو محفوظ بعين رعاية الأزل؟

قال سهل : يمدّهم بالنعم ، وينسيهم الشكر عليها ، فإذا تمكّنوا إلى النعمة ، وحجبوا عن المنعم أخذوا.

قال : الاستدراج أن يلقي في أوهامهم أنهم من أهل الوصلة والحقيقة ، السابق لهم من القسمة حقائق الفرقة.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) : من لم يكن من نظّار الحقائق ، والمكاشفين أسرار الجبروت في الملكوت من أهل الدقائق ، كيف ينظر إلى مرآة الصفات ، التي تبرز فيها أنوار الذات ، ندبهم الحق إلى طلب مشاهدته وقربه ، وإلى النظر من القلوب إلى الغيوب ؛ ليدركوا بصفاء العقول ، وأبصار الأرواح ، وعيون الفؤاد ، ما لم يدركوا بجميع العبادات ؛ لأنّ النظر يورّث الفكرة ، والفكرة تورّث الذكر ، والذكر يورث المعرفة ، والمعرفة تورث الحكمة ، والحكمة تورث المحبّة ، والمحبة تورث الشوق ، والشوق تورث العشق ، والعشق يورث الأنس ، والأنس يورث الانفراد ، والانفراد يورث التوحيد ، والتوحيد يورث الفناء ، والفناء يورث البقاء ، والبقاء يورث رؤية الأزل ، ورؤية الأزل تورث رؤية الأبد ، والعبد هناك يطير بهذه الأجنحة من الآزال إلى الآباد ، ومن الآباد إلى الآزال.

ولو كان القوم أهل مناهج كبرى من المشاهدات أحالهم الحق بالنظر إليه ، لا إلى الملك والملكوت ، فإن النظر منه إلى غيره شرك في التوحيد ، وهؤلاء ضعفاء مسالك المعرفة.

قال بعضهم : النظر في الملكوت يورث الاعتبار ، والنظر إلى المالك يسقط منك الاشتغال بسواه.

وقال بعضهم : النظر إلى الملكوت على مراتب ثلاث :

«أولها» : النظر بعين العبرة لا بعين الشهوة ، و «الثانية» : النظر بعين اليقين إلى قدر القادر ، و «الثالثة» : النظر بعين المعرفة من الملك إلى المالك.

فأمّا الناظر بعين العبرة ، فإنه يجد حقيقة التوحيد ، والناظر بعين اليقين يجد حقيقة الإخلاص ، والناظر بعين المعرفة يجد حقيقة المعرفة.

قال الأستاذ : أطلع الله سبحانه أقمار الآيات ، وأماط بضيائها سحاب الشبهات ، فمن استضاء بها ترقّى إلى شهود القدرة.

ويقال : ألاح الله لقلوب الناظرين بعيون الفكر حقائق التحصيل ، فمن لم يعرج في أوطان التقصير أنزلته مراكب السير بمباحات التحقيق.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥))

قوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) : لمّا أفرد ساحة الكبرياء من تكلّف الاكتساب ، وألحق المشيئة والقدرة بالأفعال إلى الأزل.

أي : لا أملك لنفسي قرب الله ولا بعده ، إنّما القرب والبعد منه ، ولو علمت سرّ المقادير الغيبية ، لكنت قادرا بوصف

الربوبيّة على نفع نفسي ودفع الضر ، وذلك قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ).

قال أبو عثمان : عجز الخلق عن إيصال النفع إلى نفسه ، أو دفعه عنها عاجلا ، فكيف يثق بإيمانه ، وكيف يعتمد بطاعته؟

وقال تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ).

وقال بعضهم : لو كنت أملك الغيب ، أو أقدر عليه ، لما مسّنى السوء ، ولكن طويت الغيوب عنا ، وألزمت الملامة علينا.

قوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) لم يجد آدم في الجنّة إلا سنا تجلّي الحق ، فكاد يضمحل بنور التجلي لتراكمه عليه ، فعلم الله سبحانه أنه لا يحتمل أثقال التجلي ، وعرف أنه يذوب في حسنه ، وكلّ ما في الجنة مستغرق في ذلك النور ، فيزيد عليه ضوء الجبروت والملكوت ، فخلق منه حواء ليسكن إليها ، ويستوحش بها سويعات عن سطوات

التجلي ، لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة ـ رضي الله عنها ـ : «كلميني يا حميراء» (١).

وفي أدنى العبارة هي كانت امتحانه ، لشغل بها عن الحق ، ليقع في فجّ البلاء بها.

قال بعضهم : خلقها ليسكن آدم إليها ، فلمّا سكن إليها ، غفل عن مخاطبات الحقيقة بسكونه إليها ، فوقع فيما وقع من تناول الشجرة.

قال الواسطى : أكبر محنة آدم عليه‌السلام خلق حواء من بدنه ، قطعه بها عن نفسه ، بقوله : (لِيَسْكُنَ إِلَيْها) ، والسكون إلى غير الله محنة.

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨))

قوله تعالى : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) : أثبت محبّة الأزلية ، ورعاية الأبدية لحبيبه عليه‌السلام في هذه الآية تولاه بعين الأزل ، ورعاه بكفاية الأبدية ، ونزل عليه من بحار خطابه قطرات وابل جواهر كلامه الأبدىّ الأزلىّ ، وبيّن أنه تعالى كما ألحق إلى نفسه تولية حبيبه ، فأيضا ألحق إلى نفسه تولية الصدّيقين ، ومحافظته للعارفين ، يتولى الأنبياء بنقاب أنوار الذات ، ويتولى الأولياء بسجوف أنوار الصفات ، ويتولى العالمين بقوام أنوار الأفعال.

فالعموم في نور الآيات معصومون عن الزلّات ، والخصوص في نور الصفات معصومون عن الخطرات ، وخصوص الخصوص في أنوار الذات معصومون عن المكر والقهريات.

قال بعضهم : لاحظ الأولياء بعين اللطف ، ولاحظ العباد بعين البر ، ولاحظ الأنبياء بعين التولي.

قيل في قوله : (يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) : عن دعوته البشرية تولّيا ، وأصلح الخواص بصحة المقصود ، والإفراد بالإخلاص للمعبود ، وأصلح العوام بصحة الأوقات.

وسئل جعفر عن الحكمة في قوله : (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) ، ونحن نعلم أنه يتولى العالمين.

فقال : التولية على وجهين : تولية إقامة أبدا ، وتولية عناية ورعاية الإقامة الحق.

وقال الواسطي : يتولى الصالحين بالكفاية ، ويتولى الفاسقين بالغواية.

__________________

(١) ذكره حقي في تفسيره (٦ / ٣٨).

وقال أيضا : أصلح الأئمة بإصلاح سرائرهم عن دعوة البشرية تولّيا ، وأصلح الخاصة بصحة المقصود ، وأصلح العامة بالإثبات.

وقال الأستاذ : من قام بحق الله تولى الله أموره على وجه الكفاية ، فلا يحوجه إلى أمثاله ، ولا يدع شيئا من أحواله إلا أجراه على ما يريد بحسن أفضاله ، فإن لم يفضّل ما يريده ، جعل العبد راضيا بما يفعله ، وروح الرضاء على الأسرار ، أتمّ من راحة العطاء على القلوب.

قوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) : نفى الله سبحانه سمع الخاص ، ونظر الخاص عن أهل الغفلة ، إذ أسماعهم وعيونهم محجوبة بعوارض الضلالة وغواشي الغفلة ، لا يسمعون بآذان قلوبهم نداء الغيب ، ولا يبصرون بأبصار قلوبهم مشاهدة الحق في الشواهد ، وذلك من ردّ الله إيّاهم عن شهودهم بنعت إلقاء سماعهم في محاضر المراقبات ، وترائيهم بعيون قلوبهم أهلّة الجلال في سماوات اليقين ، ولو شاء لأسمعهم وأراهم جلاله ، ولكن منعهم قهر الأزلية وخذلان الأبدية.

كان عليه‌السلام مصبوغا بصبغ الألوهية في مجامع شريعة بحار القدس ، مزيّنا بزينة نور المشاهدة ، مخبّرا بسنا لباس القدرة ، موشّحا بوشاح الرسالة ، متوّجا بتيجان الملكوت ، راكبا على مركب النبوة في ميادين الجبروت ، وكان مرآة مشاهدة الله بين عباد الله ، يتجلى الحق منه للعالمين ، ولكن ما أبصره إلا من له منه بصر بصيرة ، لذلك قال عليه‌السلام في بعض إشارته في الحقيقة والاتصال قال : «من رآني فقد رأى الحق» (١).

فلمّا رأى الناظر إليه بنظر الحقيقة إلى أين بلغ من رتبة القربة ، قال : «طوبى لمن رآني وطوبى لمن رأى من رآني» (٢).

لأنّ من تزوّد من جماله نورا وبهاء ، يفيض ذلك النور في جميع وجوده ، ويتلألأ منه لعيون الناظرين :

أدر كأس السرور على أناس

لقاؤك عندهم كلّ الأماني

إذا اكتحلوا بوجهك لم يزالوا

من الخيرات في نعم حسان

قيل في قوله تعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) : كيف يسمع الدعاء من أصمّه الداعي عن الدعوة إليه؟ ولا يسمع نداء الحق إلا من أسمعه الحق ، وبإسماعه يسمع لا بسمعه ، ولا باستماعه.

__________________

(١) رواه البخاري (٦ / ٢٥٦٨) ، ومسلم (٤ / ١٧٧٦).

(٢) رواه ابن حبان (١٦ / ٢١٥).

وقيل في قوله : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [الأعراف : ١٩٨] : بأنفسهم ينظرون إليك ، ولا يبصرون خصائص ما أودعناه فيك ، وبركات ما أجريناه في الخليقة بك.

وكذا من نظر بنفسه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حجب عن إدراك معانيه حتى ينظر ببركة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الرسول ، بل هو أيضا قاصر البصر حتى ينظر بالحق إليه ، ومن الحق إذ ذلك يتبيّن له شرف ما خصّ به.

وقال سهل : هي القلوب التي لم تزيّنها أنوار القرب ، فهي عمياء عن درك الحقائق ، ورؤية الأكابر.

وقال أيضا : ينظرون إليك بأعين لم تكحل بنور التوفيق ، فلا يعرفون حقك ، وينظرون إليك بالقلوب التي لم يثبتها بنور هدايته شيئا.

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣))

ويقال : رؤية الأكابر ليست بشهود أشخاصهم ، لكن بما يحصل للقلوب من مكاشفات الغيب ، وذلك على مقادير الاحترام ، وحصول الإيمان ، ولما عظم شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعزّ عن إدراك ناظريه ، وعن أن يطّلع على ما في جلاله وجماله من أنوار الصفات ، وبرجاء سنا الذات ، وعلم الحقّ سبحانه عجز الخلق عن أداء حقه واحترامه بحد حقيقة أمره عليه‌السلام بالعفو والكرم عند قصورهم عن رؤية ما كان من سطوع أنوار الرسالة والنبوّة من وجهه ، بقوله (خُذِ الْعَفْوَ) أي : فاعف عنهم من قلّة عرفانهم حقك.

(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي : بلطف عليهم في أمرك ونهيك بهم ؛ فإنهم ضعفاء عن حمل وارد أحكام شرائعك وحقائقك.

(وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) الذين ليس لهم استعداد النظر إليك ، ولا يعرفون حقوقك ، فإن منكر كرامات أوليائي ، ومعجزات أنبيائي لا يبلغ إلى درجة القوم.

قال بعض المشايخ حين ذكر أهل الظاهر قال : دع ذكر هؤلاء الثقلاء ، ثمّ إنه سبحانه ألبس حبيبه عليه‌السلام أخلاق القدم بالتجلّي ، والكشف والمباشرة بالفعل ، ثمّ أراد أن يلبسه خلقه بالأمر القديم ، والكلام الكريم ؛ ليكون متّصفا بجميع معانيه بجميع صفاته ، متخلّقا بجميع

أخلاقه حتى عظم الأمر عنده في ذلك ، وأفاض لطفه على الجمهور ، فأمر أمته بما أمر الله بقوله : «تخلقوا بأخلاق الله» (١).

قال بعضهم : أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكارم الأخلاق ظاهرا وباطنا ، وهو الصفح عن زلّات الخلائق ، والأمر بمكارم الأخلاق.

(وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) أي : أعرض عن المعرضين عنّا ، فهم الجهّال.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل جبريل صلوات الله عليه عن تفسير هذه الآية ، فقال :

«تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، وتحسن إلى من أساء إليك» (٢).

قال ابن عطاء : خذ ما صفا ، ودع ما كدر.

وقوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ).

الشيطان كلب قهر القدم ، فإذا نبح وراء ساحة القلب في جانب النفس ، ففر من قهرنا إلى لطفنا ، ومننا إليك ؛ لذلك قال : «أعوذ بك منك» (٣).

فإذا كانت ساحة القلب مستضاءة بنور التجلّي يفر الشيطان من نواحيه ؛ لأنه لو يدنوا منه بقدر رأس إبرة تحترق.

قال الجريري : من أعقل السلاح ، أسره الشيطان في أول لحظة.

وقال الأستاذ : إن سنح في باطنك من الوسواس أثر ، فاستعذ بالله يدركك بحسن التوفيق ، وإن هجس في صدرك من الحظوظ ، فاستعذ بالله يدركك بإدامة التأييد ، وإن اعتراك في الترقّي أن محل الوصول وقفه ، فاستعذ بالله يدركك بإدامة التحقيق ، وإن تقاصر عنك في خصائص القرب صيانة لك عن شهود المحلّ ، فاستعذ بالله تثبتك له به لا لك بك.

ثم وصف سبحانه أهل التقوى من أهل الولاية أنهم ممتحنون بهواجس النفوس ، ووساوس الشياطين ، واستغاثتهم بالله ، وذكره عن شرّهم ، بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا).

حسدة الشياطين يراقبون من البعد أولياء الله ؛ ليرموهم بنيران الوسواس من قوارير الحسد حين تقاصروا عن مشاهدة الذكر والمذكور ، وغفلوا لحظة عن مراقبتهم ، ولو استقاموا على شريطة حضور مشاهدة الملكوت ، لم يقدروا أن يمسّهم من ألف فرسخ.

__________________

(١) ذكره الشيخ حقي في تفسيره (٤ / ٣٣٠).

(٢) رواه الحاكم في المستدرك (٤ / ١٧٨).

(٣) رواه النسائي في الكبرى (١ / ٤٥٢).

(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)) [الصافات : ١٠].

قال تعالى : (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) : فإذا وصل إليهم نار الوسواس ، وأوجسوا في أنفسهم غبار سنابك ، خيول الشيطان التجأوا بتراكب الذكر إلى جناب الأزل ، فإذاهم يرون ما أفسد الشيطان من محافل الأنس ، ومجالس القدس في قلوبهم ، ويرون طيف الشيطان أيضا بنور العرفان ، فيرمونهم بسهام الذكر ، ونيران المحبّة من قارورة الشوق فتحرقهم.

قال تعالى : (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ).

رأى الجنيد في المنام إبليس ، فقال : هل تقدر أن تمرّ على مجالس أهل الذكر؟ فقال : كما أن أحدا منّا يمر على أحد منكم ، ويمسّه ، ويصير مجنونا ومصروعا ، فمنا من يمر على مجلس الذكر يصير مصروعا ، ونسمّيه بيننا مأنوسا ، كما تقولون مصروعا منكم مجنون.

قال بعضهم : من حال سرّه في ميادين الأنس والقربة ، وحجر نفسه عن طوارق الفتنة وطوائف الشيطان ، هم الذين قال الله : (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا).

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦))

قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

ندب الحق سبحانه الجميع أن يسمعوا القرآن بقلوب حاضرة ، ونيّات صادقة ، وأسرار ظاهرة عند سكونهم عن الفضولات لوقار القرآن ، فإذا رآهم الحق في منازل مقال الخطاب وحرمات الأمر ، يتفضّل عليهم بكشف أسراره لقلوبهم ، ويذوق طعم خطابه أسرارهم ، ويعرفهم نكات إشاراته اللطيفة ، وأنبائه العجيبة ، والحكمة الغريبة ، فمن يرى مواقع أسراره بأنواره ، ويسمع بالله كلام الله صار القرآن بصائره ، يرى به جميع الصفات ومشاهدة الذات قال تعالى : (هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) (١). فلعلّ ههنا توجيها للمستمعين ، كلامه بالأدب والسكون أي : إذا كنتم كذلك ؛ لعلّكم تكاشفون بأسراره وأنواره ومواجيده.

قيل فيه : استمعوا له بآذانكم ؛ لعلّكم تسمعون بقلوبكم ، وتفهمون مراد مخاطبة الحقّ

__________________

(١) أي : براهين توحيده ، ودلائل معرفته ، حاصلة من ربكم ، تنفتح بها البصائر ، وتبصر بها أنوار قدسه. البحر المديد (٢ / ١٨٦).

إيّاكم ، وتتأدبون بلطائف مواعظه ، فيوصلكم حسن أدب الاستماع ، وبركة الخطاب إلى رحمته ، وهو أن يرزقكم آداب خدمته ، كما رزقكم سنن شريعته ، وأجلّ رحمة ، رحم الله بها عباده آداب العبودية التي خصّ بها الأكابر من الأصفياء ، والسادات من الأولياء.

قال الأستاذ : الإنصات في الظاهر من آداب أهل الباب ، والإنصات بالسرائر من آداب أهل البساط ، ثمّ أمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يذكره بجلاله وعظمته في نفسه ، بقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) حتى تفنى نفسك في نفسي ، ولا يبقي فيك إلا نفسي ، لإذعانك بنعت العبودية في ساحة كبريائي ، وبنعت رؤية جلالي ، حيث لا ترى غيري ، هذا معنى قوله : (تَضَرُّعاً وَخِيفَةً).

وأيضا واذكر ربك بأوصافه في نفسك ، كأنّها تحمل أثقال أسرار قدمي ، لا غيرها من النفوس.

وأيضا أوصل الذكر بالنفس ؛ لأن القلب موضع المذكور.

وقال الحسين في هذه الآية : لا تظهر ذكرك لنفسك ، فتطلب به عوضا ، وأشرف الذكر ما لا يشرف عليه إلا الحقّ ، وما خفي من الأذكار أشرف مما ظهر.

قوله تعالى : (وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) أي : لا تكن مشغولا بنا عنا ، ولا عمّن بقي في رؤية العطاء عن المعطي.

أمر تعالى نبيّه عليه‌السلام بحفظ الأنفاس عن خطرات الوسواس ، وجمع الهمّة عن طارق الغفلة ، أي : اذكرني بي ، لا بك ، فإنّ من ذكرني بنفسه غفل عني ، ومن ذكرني بي آخذه من الذكر والفكر ، وأكشف جمالي له حتى يصل بي إليّ.

قال سهل : ما من أحد ذهب منه نفس واحد بغير ذكر ، إلّا وهو غافل.

وقيل : «الغافل» : من غفل عن مراد الله فيه.

وقيل : «الغافل» : الذي غفل عن درك حقائق الأمور.

قال الأستاذ في معنى التضرّع والخيفة : «التضرع» : إذا كوشف بوصف الكمال في أواني البسط.

و «الخيفة» : إذا كوشف بنعت الجلال في أحوال الهيبة ، وهذا للأكابر ، فأمّا من دونهم فتتنوع أحوالهم من حيث الخوف والرجاء بالرغبة والرهبة ، ومن فوق الجمع فأصحاب البقاء والفناء والصحو والمحو ، ووراءهم أرباب الحقائق مثبتون في أوطان التمكين ، فلا تلوّن لهم ، ولا تخنس لقيامهم بالحق ، وامتحانهم عن شواهدهم.

ثم وصف الله كرام العارفين من الكروبيين ، والمقرّبين أنهم في محلّ العندية مقدّسون

عن شوائب نعوت الزائغين ، وصفات المتكبّرين ، بل هم موسومون بسيماء العبودية في محاضر الربوبيّة ، بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) : هم في نعوت العبودية عند بروز سطوات العظمة والفناء ، بشرط التنزيه في ظهور قدس القدم يتملّقون بنعت البهتة في كشوف جماله الأزليّ ، سبحان الذي حجبهم به عنهم ، ولولا ذلك ؛ لاحترقوا به فيه.

سورة الأنفال

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨))

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) : لكلّ طائفة في طريق المجاهدة والقتال مع النفس فتح وغنيمة ، فغنيمة المريدين صفاء المعاملات ، وغنيمة المحبّين ذوق الحالات ، وغنيمة العارفين كشف المشاهدات ، والسؤال عن ذلك اقتباس نور الشريعة من مشكاة النبوّة ، واستعلام الأدب في طريق المعرفة لله ، هذه الكرامة لا بالاكتساب يؤتيه من يشاء.

(وَالرَّسُولِ) : الحكم فيه لجهة تربية الأمّة ، وأن الله تعالى مستغن عن الخليقة ، ورسوله يظهر في أداء رسالته عن حظوظ نفسه.

ثم حذّرهم بنفسه عن نفسه في طريقه ، ومواساة عباده ، بقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي : اتقوا الله في طلبه ، ولا تلتفتوا إلى غيره ، وأسوأ قلوب إخوانكم يبدّل مهجتكم إليهم في مؤاخاتكم ، ومصادقتكم لله وفي الله.

(وَأَطِيعُوا اللهَ) في الحقيقة ، (وَرَسُولَهُ) في الشريعة.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : إن كنتم صادقين في دعوى المحبّة.

قال سهل : «التقوى» : ترك كلّ شيء يقع عليه الذمّ.

وقال الأستاذ : «التقوى» : إيثار رضا الحق على مراد النفس ، ثم وصف المؤمنين بالعلامات الصحيحة الدّالة على صدقهم التي إذا رأيتها لا تشك في إيمانهم ، وذلك تأثير وارد أنوار الغيب التي ترد على قلوبهم ، فتظهر علاماتها في وجوههم ، بقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).

وصف السامعين من أهل الإيمان والإيقان عند جريان ذكره ، وسماع خطابه ، وتلاوة كتابه بالوجل ، الذي يكون عند سماع الذكر من رؤية جلال الله وعظمته ، تجلّاها يزيد لإيمانهم نور الغيب ، ولإيقانهم سنا القرب ، ولحسن رضاهم في طاعته روح الأنس ، حتى يصيروا خائفين من عظمته ، عارفين بربوبيّته ، متوكّلين بكفايته (١).

قال شيخنا وسيدنا أبو عبد الله بن خفيف ـ قدّس الله روحه ـ في ذكر الوجل في هذه الآية قال : واعلم أن أحكام الوجل إنّما تصح للوجلين عند تكشّف أستار ألوان ، وذهاب حجب الغفلات من القلوب ، فيشهد بقوة علمه ، وصفاء يقينه سطوات الخوف ، فداخله لطيف الوجل برقّة الإشفاق ، وذلك مما جلى عن القلوب بعزّ جنابه وتعظيمه وترهيبه كلّ ساتر.

قال أبو سعيد الخرّاز : هل رأيت ذلك الوجل عند سماع الذكر ، أو عند سماع كتابه وخطابه ، هل أخرسك سماع ذلك الذكر حتى لم تنطق إلا به؟ وهل أصمّك حتى لم تسمع إلّا به منه ، هيهات.

وقال سهل في قوله تعالى : (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) : هاجت من خشية الفراق ، فخشعت الجوارح لله بالخدمة.

__________________

(١) الأنفال هاهنا ما آل إلى المسلمين من أموال المشركين ، وكان سؤالهم عن حكمها ، فقال الله تعالى : قل لهم إنها لله ملكا ، ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحكم فيها بما يقضى به أمرا وشرعا. قوله جلّ ذكره : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي : أجيبوا لأمر الله ، ولا تطيعوا دواعي مناكم والحكم بمقتضى أحوالهم ، وابتغوا إيثار رضاء الحقّ على مراد النّفس ، وأصلحوا ذات بينكم ، وذلك بالانسلاخ عن شحّ النّفس ، وإيثار حقّ الغير على مالكم من النصيب والحظّ ، وتنقية القلوب عن خفايا الحسد والحقد.

وقال الواسطي : الوجل على مقدار المطالعة ، ربما يريه مواضع السطوة ، وربما يريه مواضع المودّة والمحبّة ، وربما يريه التقريب والتبعيد.

وقال الجنيد : وجلت قلوبهم من فوات الحقّ.

وقال بعضهم : الوجل على مقدار المطالعات ، فإن طالع السطوة هاب به ، وإن طالع ودّه وجل عليه مخافة فوته ، ومن جملة ذلك من طالع التقريب بالتأديب وجل ، ومن طالع التهديد بالتبعيد وجل ، ومن طالعه مغيّبا عن شاهده ، قائما بسرمده ، خاليا من أزله وأبده ، فلا وجل حينئذ ولا اضطراب ، ولا تباعد ، ولا اقتراب ، فإنّه محقق بالذات ، ونسي الصفات ، وفني عن الذات بالذات ، كما هرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصفات إلى الذات ، فقال : «أعوذ بك منك» (١).

قال الجنيد في قوله تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) : إنّ لا وصول إلى الله إلا بالله.

قال الأستاذ : يخرجهم الوجل من أوطان الغفلة ، ويزعجهم عن مساكن الغيبة ، وإذا انفصلوا عن أودية التفرقة ، وجاءوا إلى مشاهدة الذكر ، نالوا السكون إلى الله ، فيزيدهم ما يتلى عليهم من آياته تصديقا على تصديق ، وتحقيقا على تحقيق إذا طالعوا جلال قدره ، وأيقنوا قصورهم عن إدراكه ، توكّلوا عليه في إمدادهم برعايته في نهايتهم ، كما استخلصهم بعنايته في بدايتهم.

ويقال : سنّة الحق سبحانه مع أهل العرفان ، أن يودّهم بين كشف جلاله ولطف جماله ، فإذا كاشفهم بجلاله ، وجلت قلوبهم ، وإذا لاطفهم بجماله ، سكنت قلوبهم ، قال الله تعالى : (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) [الرعد : ٢٨].

ويقال : وجلت قلوبهم لخوف فراقه ، ثم تطمئن وتسكن أرواحهم بروح وصاله ، فذكر الفراق يفنيهم ، وذكر الوصال يصحبهم ويحييهم.

ثمّ إن الله سبحانه زاد في وصفهم بالعبودية ، وبذل المهجة في الطريق ، بقوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ، ثم وصفهم باستكمال إيمانهم ، بقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) : فشرط حقيقة الإيمان بهذه الخصال التي ذكرها في الآيتين اللتين في صدر السورة ، كان من لم يتحلّ بهذه الخصال المذكورة لم يتحقّق في إيمانه ، وهي التقوى والإصلاح بين المؤمنين ، وذلك محل صحبتهم ، وهو نوع من التمكين والانقياد

__________________

(١) تقدم تخريجه.

عند أمر الله ورسوله ، بالإخلاص ووجل القلب عند سماع الذكر والقرآن ومزيد اليقين ، وترك التدبير في استقبال التقدير ، ومقام المناجاة من الصلاة ، والانقطاع عن الاشتغال بالدنيا ، وإيثار حقوق الإخوان على نفسه ، فإذا استكمل هذه الجلال ، وتمّ اسم تحقيق الإيمان عليه ، لقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا).

ويستحقّ بعد هذا الثناء ما وعده الله المتحقّقين في إيمانه من المغفرة التامة ، حيث لم يلتفت بفضله إلى خطراتهم ، ويشرفهم إلى علي الدرجات ، ويسقيهم شراب الوصال عند كشوف المشاهدات ، بقوله تعالى : (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) : بيّن أن حقيقة الإيمان مكاشفة الغيب ، وظهور ما وعد الله لهم ، وتصديق ذلك سؤال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحارثة فقال : «يا حارثة ، لكل حق حقيقة ، فما حقيقة إيمانك؟ قال : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يتزاورون ، وإلى أهل النار يتعاوذون ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عرفت فالزم» (١).

فصحّ في الآية والحديث أن حقيقة الإيمان رؤية الغيب بالغيب ، وثمرتها ما ذكره الله في الآية من المعاملات السنيّة ، والحالات الشريفة.

قيل : اجتمعت فيه أشياء حقّق بها إيمانهم ؛ لتعظيم الذكر والوجل عند سماعه ، وإظهار الزيادة عليهم عند تلاوة الذكر وسماعه ، وحقيقة التوكّل على الله ، والقيام بشروط العبودية على حدّ الوفاء ، وأكملت أوصافهم في حقيقة الحقائق ، فصاروا محقّقين بالإيمان.

قال الجنيد : حقّا إنه سبقت لهم من الله السعادة.

قال أبو بكر بن طاهر : حقيقة الإيمان بخمسة أشياء : باليقين ، والإخلاص ، والخوف ، والرجاء ، والمحبّة ، فباليقين يخرج من الشك ، وبالإخلاص يخرج من الرياء ، وبالخوف يخرج من المكر ، وبالرجاء يخرج من القنوط ، وبالمحبّة يخرج من الوحشة والحيرة.

وقال الأستاذ في قوله تعالى : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) : أنّ الحقّ سبحانه يسرّ مثالب العاصين ، ولا يفضحهم ؛ لئلا يحجبوا عن مأمول أفضالهم ، ويستر مناقب العارفين عليهم لئلا يعجبوا بأعمالهم وأحوالهم ، والرزق للأسرار مما يكون استقلالها من المكاشفات ، ثم بيّن تعالى أنّ لأهل حقائق الإيمان بعض طباع البشرية ، وحركات الأنفس الأمّارة عند وقوع أمر الله ، ولا ينقلب ذلك بمنقصتهم ، بل بفضله ورحمته اصطفاهم بهذه الكرامات قبل وجودهم في الأزل بخاصية اجتبائه بغير علّة اكتسابهم ، وبيّن أن الوليّ الصادق وإن بلغ درجة الولاية لم

__________________

(١) رواه ابن المبارك في الزهد (ص ١٠٦).

يخل من بعض خطرات النفس ، ولم يكن ذلك لنقصانه ، بل بيان اختصاصه باختصاصه القديم في سابق حكمه لهم ، حتى لا يظن الظّان أن الوليّ لم يبلغ درجة الولاية إلا بأداء جميع حقوق العبودية ، فإنّ محل النبوّة لا يخلو من الخطرات ، فكيف بمحل الولاية ، وجملة ذلك قوله سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ).

ثم زاد في وصف طباعهم النفسانية ، بقوله تعالى : (يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ).

سبحانه من خصّ هؤلاء بهذه الصفات بحقائق الإيمان ودرجاتها وأنوارها ومكاشفاتها ، ولم ينل بتلك الصفات ؛ ليعلم الخلق أن فضله سابق عليهم ، وعنايته لهم قديمة.

ومعنى الآية أن وضع قسمة الغنائم بقسمة الأزل ، كما أرادت نفوسهم (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) من بيتك لقتال العدو ، وهم في ذلك كارهون ، أي : كراهتهم في القتال لكراهتهم في قسمة الغنائم ، وتلك الكراهة من قبل النفس ، وطبع البشرية لا من قبل الإنكار في قلوبهم لأمر الله ورسوله ؛ فإنهم موقنون بقول الله ورسوله.

وكذا حال جميع السالكين لم تفر نفوسهم من أوطان قلوبهم في جميع الأنفاس ، إلا عند كشوف مشاهدة الحق سبحانه ، فهناك لا يبقى على وجه أرض القلوب إلا إشراق أنوار الغيوب.

قيل : أن النفس لا تألف الحق أبدا ، جدالهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة ، لانبساطهم أطفال حجر الوصلة ، وجدالهم كجدال الخليل عليه‌السلام من رأس الخلّة والانبساط.

قال تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤] ، والفرار ليلا قبل وقوع المشاهدة ، فإذا وقع الحق ، ورفع الحجاب لم يبق من آثار النفوس ذرّة ، فالقوم كانوا في ذلك الوقت في مقام الغيبة ، فلمّا انكشف لهم مأمولهم ، بذلوا مهجتهم بطيب نفوسهم ، حيث اختاروا الشهادة في الأحد ، وإن من سنّة الله لأهل السلوك إخراجه إياهم من أوطانهم ؛ ليذوقوا مرارة الفرقة في الغربة ، ولا يبقي عليهم مألوفات البشرية ؛ لذلك قال تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ). فالحقيقة في ذلك خروج الرجال من أوطان النفوس إلى فضاء المشاهدة ، حتى لا يبقى معك غيره.

قال أبو يزيد ـ قدّس الله روحه ـ : سألت الوصلة ، فقال لي : دع نفسك وتعال.

قال ابن عطاء : أخرجك من بلدتك ؛ ليحيي بك قلوبا عمياء عن الحقّ.

(وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) : مفارقة أوطانهم ، ولا تتم لعبد حقيقة الصحبة والنصيحة ، إلّا بعد هجران أقاربه ومفارقة أوطانه ، أخرجهم من تلك البلدة حتى ألفوا غيرها من البلاد ، ولم يبق عليهم مطالبة لها ، فردّهم إليها ؛ لئلا يملكنهم سوى الحق شيء.

وقال بعضهم في هذه الآية : أفناك عن أوصافك ، ومواضع سكونك واعتمادك ، وما كان يميل إليه قلبك ؛ لئلّا تلاحظ محلّا ، ولا تسكن إلى مألوف ، فأخرجك من المألوفات ؛ ليكون بالحق قيامك ، وعليه اعتمادك.

(وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) : ظاهر روحك ومفارقتك أوطانك ، ولا يعلمون أن خروجك منها الخروج عن جميع الرسوم المألوفة ، والطبائع المعهودة ، وأنك بمفارقة هذا الوطن المعتاد ، يصير الحق وطنك.

ثم زاد سبحانه في وصف القوم في طلب ماهيتهم ، بقوله تعالى : (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) (١) : سنّة الله التي قد جرت في الأزل أن عند كلّ مشاهدة مجاهدة ، وأن عند كل نعمة بلا ظهور فضل الربوبيّة ، وإذعان الخليقة لأمر القدم بنعت العبودية.

قال بعضهم : من ظنّ أنه يصل إلى الحقّ بالجهد فمتعن ، ومن ظن أنه يصل إليه بغير الجهد فهن.

قوله تعالى : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) : تعيّن بلطفه ، وإبراز كرمه ، وظهور جلاله لأهله ، وبيّن الصادق في محبّته ، والمدّعي بكراماته.

وأيضا (لِيُحِقَّ الْحَقَ) : الإيمان والصدق ببذل مهجتهم لله مما يجري على أوصافهم من خطور النفسانية.

وأيضا : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) : حق المشاهدة المحبّة في قلوبهم ، ويبطل الهواجس في نفوسهم.

قال بعضهم : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) بالإقبال عليه و (يُبْطِلَ الْباطِلَ) بالإعراض عنه.

__________________

(١) أي : ذات الحرب (تكون لكم) وهي العير ، فإنها لم يكن فيها إلا أربعون رجلا ، وتكرهون ملاقاة النفير لكثرة عددهم وعددهم ، (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ) أي : يظهر الحق ، وهو الإسلام ، بقتل الكفار وهلاكهم في تلك الغزوة ، (بكلماته) أي : بإظهار كلماته العليا ، أو بكلماته التي أوحى بها في هذه الحال ، أو بأوامره للملائكة بالأمداد ، أو بنفود كلماته الصادقة بهلاكهم ، (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي : يستأصلهم ويقطع شوكتهم. البحر المديد (٢ / ٣٣٦).

وقال الواسطي : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) بتجلّيه ، و (يُبْطِلَ الْباطِلَ) باستتاره.

وقال بعضهم : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) بالكشف ، و (يُبْطِلَ الْباطِلَ) بالستر.

وقال بعضهم : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) بالرضا ، و (يُبْطِلَ الْباطِلَ) بالسخط.

وقيل : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) للأولياء و (يُبْطِلَ الْباطِلَ) للأعداء.

وقيل : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) بالخدمة ، و (يُبْطِلَ الْباطِلَ) بالصرف.

وقيل : (لِيُحِقَّ الْحَقَ) بالبراهين ، و (يُبْطِلَ الْباطِلَ) بالدعاوى.

(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١))

قوله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ) : الاستغاثة مقام الشكوى والتواضع في الانبساط والفناء في رؤية البقاء ، فمن تعرّض له حال الاستغاثة ، فيفر منه إليه ويطلب هو منه يغيثه به لا منه ، فإنّ القوم طلبوا منه بالاستغاثة المعونة على مأمولهم من النصر ، ونيل الغنيمة ، فأغاثهم بإمداد الملائكة ، ثم صرفهم عن رؤية الغير.

بقوله : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) : إجابتهم بالسرعة من صدق لجوئهم إليه ، وكمال الإجابة ، استغراقهم في بحار شهود سنا جماله ، وأنوار جلاله.

قال بعضهم : من صدق اللجوء والاستغاثة ، أجيب في الوقت.

قال الله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ).

قال النصر آبادي : استغاثة منه ، واستغاثة إليه ، الاستغاثة منه لا يجاب صاحبها بجواب ، بل يكون أبدا معلّقا بتلك الاستغاثة ، والاستغاثة إليه ، فذلك الذي يجاب إليه الأنبياء والأولياء والأصفياء.

قال أيضا : النفس تستغيث بطلب حظّها من البقاء ، ودوام العافية فيها ، والقلب يستغيث من خوف التقليب ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء» (١).

والروح تستغيث بطلب الرواح ، والسرّ يستغيث لإطلاعه على الخفيّات ، قال تعالى :

__________________

(١) رواه مسلم (٤ / ٢٠٧٥).

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر : ١٩].

قال الأستاذ : الاستغاثة على حسب شهود الفاقة ، وعدم المنّة والطاقة ، والتحقّق بانفراد الحق بالقدرة على إزالة الشكاية.

قوله تعالى : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) إمداد الملائكة بشارة لصدق مواعيده ، ولطمأنة قلوب عباده بأنوار بقائه ، وصورة البرهان يكون لضعف الإيقان ، ولو كان الإيقان على حد الاستكمال بالعرفان ، لم تتعلّق الطمأنينة بالبرهان.

فلما عزّ في جلاله وكبريائه ، صرف عيون القوم عن الوسائط إلى عزّ جلاله ، بقوله : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) : «النصرة» : كشف أنوار مشاهدته للأرواح السكرى بشراب شوقه ، يظفرها بوصله ؛ لانهزام جنود قهرياته من ساحات لطفه.

قيل : بيّن الله آثار النصرة ، وبدو السلامة ، فمن لم يطلب النصرة والسلامة بالذلّة والافتقار إليه لا ينالها ؛ لأن طلب النصرة بالقوة والقدرة منازعة للربوبيّة ، ومن نازع المولى قهره.

ثم تعزّز بعزته في نصرة أوليائه عند تبرّيهم من حولهم وقوتهم ، بقوله : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) : «عزيز» : بامتناعه عن مطالعة خلقه جلاله وجماله بعلّة من العلل ، «حكيم» : باختصاصه مقام مشاهدته ، وكشف قربه لهم.

قال الواسطي : «العزيز» : الذي لا يدركه طالبوه ، ولو أدركوه لذلّ.

وقال الأستاذ في قوله : (عَزِيزٌ) : فالطالب واجد ، لكن بعطائه ، والراغب واصل ، ولكن إلى مباره ، والسبيل سهل ، ولكن إلى وجدان لطفه.

فأما الحقّ سبحانه ، فهو عزيز وراء كل وصل وفصل ، وقرب وبعد ، ما وصل إلى نصيبه ، وما بقي أحد إلا عن حظّ ، وأنشد :

وقلوبنا نحن الأهلّة إنّما

تضيء لمن يسري بليل ولا نقرى

فلا بذل إلّا ما تزوّد ناظري

ولا وصل إلّا بالخيال الذي سرى

ثم وصف سبحانه زيادة امتنانه عليهم بعد نصرهم ونيلهم مرادهم ، بعد أن أراح أبدانهم من وجع الآلام ، وقلوبهم عن كدّ القبض بإنزاله عليهم النعاس ، بقوله تعالى : (يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ).

«النعاس» : ارتفاع بخار الدم من حرقة القلب إلى الدماغ في أصل الحكمة ؛ لاستراحة أعصاب الدماغ وقت استرخائها من حدّة مشاغل تنفّس أنفاس الدموية المختلطة برطوبات

صفاء البلغمية ، وليس ذلك يقوى.

فإذا هاج ذلك الدم من أصل الكبد والقلب ، ومشرعه المعدة ، وارتفع إلى الدماغ يختلط هناك برطوبات الدماغ ، فيصير ثقيلا ، فيسقط ثقله إلى القلب ، ويصير الدماغ والقلب ثقيلين ، ويجري ذلك الثقل في جميع العروق ، فتصير جميع الأعضاء مسترخية من غشيان ذلك الدم ، ويغلب على العقل والحواس ، فيسمى ذلك بعينه النوم وهذه الصفات صفات حيوانية إنسانية ، نفى الله تلك الصفة عن جلال ذاته ، حيث وصف نفسه بالتنزيه والتقديس عن علّة الحدثان ، بقوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥] ، ومن فضلة وكرمه على أوليائه إذا أراد أن يروّح أبدان الصدّيقين من ثقل العبادات يغشي دماغهم بغفوة النعاس ؛ ليستريحوا من عناء القبض ، ويسكنوا بروح البسط.

ثم النعاس موضع ظهور أوائل أشكال المكاشفات ، واشتمال هواتف الغيبية من عالم الملكوت ، يرون بقلوبهم بين النعاس والنوم واليقظة ، أشياء بديهية غيبية ، تورث السكينة والطمأنينة والأمن ، بقوله تعالى : (أَمَنَةً مِنْهُ) أي : أمنا منه من زيادة الامتحان ، وغلبة النفس والشيطان.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «النعاس في القتال أمنة من الله ، وفي الصلاة من الشيطان» ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نومه نعاسا ، لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تنام عيناي ولا ينام قلبي» (١) ؛ لأنّ القلب إذا نام لم ير من عالم الملكوت شيئا ، وهكذا حال الأولياء قلوبهم في جميع الأوقات يقظى ، ونومهم ليس بكثير ، وكلّ قلب يرى في نومه شيئا من الغيب لم يكن في ذلك الوقت إلا نعاس.

قال سهل : «النعاس» : ينزل من الدماغ والقلب ، والنوم محلّ بالقلب من الظاهر ، وهو حكم النوم ، وحكم النعاس حكم الروح ، وفائدة النعاس هاهنا إعلام الله إيّاهم أن فيض كرمه ليس باكتسابهم ، أفناهم عن نفسه ، ثم أظهر فضله عليهم بأن يهزم عدوّهم بإلقائه عساكر الرعب في قلوبهم ، قال عليه‌السلام : «نصرت بالرعب» (٢).

وإذا برء العبد من حوله وقوته ، يجيء نصر الله له ، فيظفر بجميع مراده ، ثمّ منّ الله عليهم بإنزاله رحمته من السماء عليه ، بقوله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) الماء الطاهر يطهر الأشباح ، وماء المعرفة يطهر الأرواح ، ويعرفها مكان كل حقيقة من عين الفعل والصفة ، فإذا عرفت الأفعال والصفات عرفت الذات ، فمثالها مثال الأصداف في

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١٣٠٨).

(٢) رواه البخاري (١ / ١٢٨) ، ومسلم (١ / ٣٧٢).

البحار.

فالأرواح أصداف ، بحار الأفعال تتلقف قطرات عرفان الصفات من بحار الذّات ، كما تتلقف الأصداف في البحار من قطر الأمطار ، فتصير القطرة في أجوافها درّا ، فكذلك قطرة المعرفة في جوف الأرواح ، تصير درّة الحقيقة ، والحكمة الإلهية الأزلية.

قال بعضهم : ماء اليقين إذا نزل على الأسرار ، أسقط عنها الاختلاج والشكّ.

قال الله تعالى : (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ) من كل ما تدنّستم به من أنواع المخالفات ، ثم وصف ذلك الماء الحقيقي بأنه يربط به قلوبهم في معرفة العبودية والربوبية ، وهو ماء اليقين الذي يقوّي القلوب في معرفة الله ، ويثبّتها بوصف التمكين والاستقامة في سيرها في المقامات ، بقوله :

(وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) : نفّس عن قلوبهم وحشة الفرقة ، وأثبتها في رؤية الوصلة ، وتجلّي القربة بربط أبدانهم بالطاعات ، وربط عقولهم بالآيات ، وربط قلوبهم بأنوار الصفات ، وربط أرواحهم في سطوات الذات ، وربط أسرارهم بعلوم الآزال والآباد.

ثم أخذ أيديهم عن استغراقهم فيه بنعت الفناء ، وثبّتهم به في مقام البقاء ، ولولا تثبيته إيّاهم ، لفنوا في أول باد بدا من ربوبيته ، وأول ظهور سطوة من سطوات عظمته كانوا يحتملون به ، ومشاهدته قهر سلطان عزّته.

قال بعضهم : ربط على قلوب أوليائه ، لتلقي البلاء بالمحبّة والصبر ، وربط على قلوب العارفين ، لثبات الأسرار في مشاهدة ما يبدو لهم من الغيوب ، ويثبّت أقدام أهل الاستقامة ، فاستقاموا له على جميع الأحوال ، ولم يزالوا.

قال بعضهم : القلوب ثلاثة : قلب مربوط بالأكوان ، وقلب مربوط بالأسماء والصفات ، وقلب مربوط بالحق.

(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ

وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧))

قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) : افهم أن في هذه الآية للعارفين موضع الاتّحاد ، ولهم في الاتحاد مقامات اتّحاد بالأفعال ، واتحاد بالصفات ، واتحاد بالذات ، وهاهنا إشارة اتحاد الأفعال ، واتحاد الصفات ، فإضافة فعل القوم إلى نفسه بالقتل اتحاد الفعل.

وذلك مقام جمع وتفرقة ، ولهم تفرقة في الجمع ، إذ ذكر (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) ، نفي فعلا بعد إثباته لهم ، فإذا باشروا القتل كانوا في محلّ تفرقة ، وإذا أضاف القتل إلى نفسه كانوا في محل جمع ، فالتفرقة عالم الصورة ورسم الخليقة ، إذ كانوا في الخليقة معارفين من مصدر خاصية فعله تعالى ، ومن حيث إنهم قائمون في جميع الذرّات بفعله الخاص المتعلّق بالقدرة ، كانت عينهم عين الفعل ، خاصة أنه تعالى تجلّى من فعله الخاص لهم بنعت القهر للمقتولين ، فهم مع فعله عين أخذ ، فإذا كان كذلك ، والإضافة إلى نفسه إضافة حقيقة ، إذ لا يبقى في البين غير فعله من جميع الوجوه ، وهكذا أحكام الخلق من العرش إلى الثرى في جميع الأوقات من جهة الفعلية والخلقية.

لكن إذا لم يكن وقت المباشرة تجلّى الفعل إلى الفعل ، لم يكن هناك خاصية اتّحاد الأفعال ، كانوا كسيف على يد ضارب ، بل السيف واليد واحد بالمراتب والترقّي ، وإذا كان المصدر مصدرا واحدا ، لم يكن في البين من العرش إلى الثرى غير الله.

وللنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ههنا خاصيّة اتّحاد الصفة ، حيث اتّصف بصفته حين عاينه بنعت كشف تجلّي صفته تعالى في قلبه وروحه وعقله ، وسرّه وظاهره وباطنه وصورته ، فيصير جميع وجوده مستغرقا في نور الصفة ، فعله أضاف إلى صفته لا إلى فعله ؛ لأن القوم كانوا في رؤية أنوار آياته ، وكان عليه‌السلام في رؤية أنوار صفاته ، وخاصية اتّحاد الذات بعد مروره بالآيات ، وسباحته في بحر الصفات ، وقع بعد مباشرة المقامين ، واتّصافه بالصفتين صفة الفعل ، وصفة الخاص إدراكه جلال الذات ، وفناؤه فيه ، وبقاؤه به معه ، واستغراقه في آزاله وآباده ، وخروجه من بحر الأوّلية والآخرية بنعت الصفة ، وسنا الذات ، حتى صار مرآة للذات والصفات والفعل ، فأبرزه الله للعالمين ؛ لتعريف نفسه به إيّاهم ، كإخراجه خليفته آدم عليه‌السلام بعرفان الملائكة ، وكان متّصفا بالصفة ، متّحدا بها ، والنبي عليه‌السلام كان متّحدا بنور الذات بعد اتحاده بنور الذات والصفات ، بعد اتحاده بنور الصفات ، وكان فوق آدم باتحاد أنوار الذات ، فلمّا كمل في اتّحاده عرف الله مكانه في تمام الخلق ، بقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] لم

يبق في تجلّي علمه وصفته وذاته من وصف الحدوثية شيء.

لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رآني فقد رأى الحق ، ومن عرفني فقد عرف الحق» (١).

كأن تفرقته في عين الفعل جمعا ، وجمعه في الصفة جمع الجمع في عين الذات ، وفي عين الذات من حيث الألوهية جمع بغير تفرقة ، ومن حيث الخليقة تفرقة وجمع.

ذكرت نبذة من مقام الاتّحاد والاتّصاف بالجمع ، والتفرقة في هذه الآية لا يعرف معناها إلا صاحب رجاء العشق ، وبسط المحبّة ، وروح الشوق ، وأنس المشاهدة ، وانبساط المعرفة ، وفناء المعرفة والتوحيد ، والبقاء والاتصاف ، وإدراك علم الله في المجهول عند علوم العلماء ، وفهوم الفقهاء.

وما ذكر المشايخ في الآية قول فارس : ما كنت راميا إلا بنا ، ولا مصيبا إلا بمعونتنا ، وإمدادنا إيّاك بالقوة.

قال بعضهم : ما رميت ، ولكن رميت بسهام الجمع ، فغيبك عنك ، فرميت ، وكنّا رامين عنك ؛ لأنّ المباشرة لك ، والحقيقة كنّا إذ لم يفترق.

وقال الأستاذ : (إِذْ رَمَيْتَ) فرقا ، ولكن الله رمى جمعا ، والفرق صفة العبودية ، والجمع نعت الربوبيّة ، ثمّ عرّف موضع نعمته برميه بنفسه ، وصرف قهره عنهم ، بقوله : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) كما باشر بأنوار صفته قلب نبيّه عليه‌السلام في الرمي وأسرارهم في القتل ، باشر بها قلوبهم بحسن تجلّيها ؛ ليعرفوا بها نفسه ، واتجاه إيّاهم من مكره وقهره ، والبلاء الحسن وقوع محبّته في قلوب أوليائه ، وكشف جماله لأصفيائه ، وإسماع خطابه لنجبائه.

سئل الجنيد عن قوله : (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً).

قال : «البلاء الحسن» : أن يثبته عند الأمر ، ويحفظه عند الأمر ، ويفرده به عند مشاهدة الفر.

قال رويم : «البلاء الحسن» : أن تكون رؤية الحقّ أسبق إليه من نزول البلاء ، فيمر به البلاء ، وهو لا يشعر ؛ لاستغراقه في رؤية الحق.

وقال أبو عثمان : «البلاء الحسن» : ما يورّثك الصبر عليه ، والرضا به.

وقال علي بن موسى الرضا ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد قال : أن يفنيهم عن نفوسهم ، فإذا أفناهم عن نفوسهم ، كان هو عوضا لهم عن نفوسهم.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

قال الأستاذ : «البلاء الحسن» : توفيق الشكر في المحنة ، وتحقيق الصبر في المحنة.

ويقال : «البلاء الحسن» : أن يشهد المبلى في عين البلاء ، ثمّ روح قلوب المحتملين بلاء محبّته ، وأثقال شوقه ، بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) :

(سَمِيعٌ) : أنين أهل الشكوى في شوقه ، (عَلِيمٌ) : ألم فقدانه في قلوب أهل محبّته.

قال الأستاذ : تنفيس لقوم ، وتهديد لقوم ، أصحاب الرفق يقول لهم : إن الله سميع لأنينكم ، فيتروّح عليهم بهذا وقتهم ، ويحمل عنهم بلاءهم ، وأنشد في هذا المعنى :

إذا ما تمنّى الناس روحا وراحة

تمنيت أن أشكو إليه فيسمع

(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤))

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) : حذّر الله الصادقين عن الدعاوى الباطلة ، التي لم يكن معها المعنى ، فإنّ سماع الظاهر بغير فهم ، ومتابعة أمر ، فهو سماع غفلة.

ثم وصف هؤلاء المدّعين بأنهم أغفل من الحيوان ، بقوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) : «الصمّ» : عن استماع هواتف الغيب ، و «البكم» : عن نشر فضائل المعرفة ، ووصف المعروف بنشاط المعرفة ورؤية المشاهدة ، وذلك ميراث جهالتهم بأنفسهم ، ومعرفة صانعهم عن طريق العقل والعلم في كلّ موضع.

العقل هناك أمير البدن ، لا يقبل عن صاحبه إلا النظر إلى الحقّ ، والسماع من الحق ، والقول بالحق.

قال بعضهم : من سمع ، ولم يؤثر عليه فوائد السماع وزوائده في أحواله ، فهو غير مستمع ، ولا سامع ، والمستمع على الحقيقة من يرجع من حال السماع بزيادة فائدة ، أو بزيادة حال ، ومن حضر مجالس السماع ، ولم يرجع بزيادة ، فإنما يرجع بنقصان.

قال الله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ).

وقال بعضهم : «الصمّ» : عن سماع الذكر ، وفهم معانيه ، و «البكم» : عن مداومة تلاوة الذكر وطلب الزيادة منه ، الذين لا يعقلون ما خوطبوا به ، وما خلقوا له ، وما هم صائرون إليه في المآب.

وقال الأستاذ : من صمّ عن إدراك ما خوطب به وبسرّه ، وعمي عن شهود ما كوشف به قلبه ، وخرس عن إجابة ما أرشد إليه من حجة فهمه وعقله ، فدون رتبة البهائم قدره ، وفوق كلّ خسيس من حكم الله ذلّه وصغّره ، ثم أنّ الله سبحانه أضاف حرمانهم من فهم الخطاب ، وإدراكه حقائقه ، ومتابعة أمره إلى قسمة أزله ، ومشيئة سابق حكمه (١) ، بقوله :

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي : لو علم الله في قلوبهم خير اصطفائيته الأزليّة ، لأسمعهم حقيقة خطابه ، وعرّفهم مكان مراده فيه ، ولكن ما داموا لم يكونوا مصطفين في أزل الخيرية الاصطفائية ، ما أسمعهم لطائف كلامه ، وما عرّفهم مواضع أنبائه العجيبة ، وحقائق حكمه الغريبة ، وبيّن أنه تعالى لو أسمعهم خطابه بنعت ما وصفنا لم يدركوه ، وهم معرضون عن متابعة أمره ؛ لأنّهم محرومون في الأزل من رؤية حسن حضرته ، وإدراك اجتبائه.

قال يحيى بن معاذ : إنّ هذا العلم الذي تسمعونه ، إنّما تسمعون ألفاظه من العلماء ، ومعانيها من الله بآذان قلوبكم ، فاعملوا وتعقّلوا ما تسمعون ، فإن لم تعلموا كان ضره أقرب إليكم من نفعه.

قال بعضهم : علامة الخير في السماع لمن سمعه فناء أوصافه ونعوته وسمعه بحقّ من حقّ.

وقال الأستاذ : من أقصته سوابق القسمة لم يدنه لواحق الخدمة ، ولها وصف حرمان الزائغين عن الحق وعي ، فإن

الخطاب خطاب أهل إرادة المحبّة ، ودعاهم إلى مشاهدته وقربه ، وطلب منهم إجابة دعوته بنعت متابعته ، ومتابعة رسوله ، بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ).

طيّب أرواحهم بنسيم روائح قدس ندائه ، وفتح آذان قلوبهم لحلاوة دعائه ، وشوق أسرارهم بلذيذ خطابه ، وجعلهم مستبشرين بلطيف حكمه ، وعلى وجدانهم أنوار قربه.

ألا ترى كيف قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) : دعاءه

__________________

(١) انظر : تفسير القشيري (٣ / ١٢).

لا لأنفسكم وحظوظكم ، وطلب أعواض أعمالكم.

(اسْتَجِيبُوا) : ببذل أرواحكم وأشباحكم لداعية الأزل ، حيث دعاكم منه إليه قبل وقوع حدّ وثبتكم ، دعاكم بوصف السرمدية من محبّته لكم ، وشوقه إليكم ، فأحبّوه واشتاقوا إليه بمحبّته وشوقه ، واستجيبوا للرسول بمتابعة أمره ، فإنه روح الصغرى من عالم الملكوت أدرك من روح الكبرى ، وهي نعوت الجبروت حياة القدم.

(يُحْيِيكُمْ) : بروح الصغرى والكبرى.

وأيضا (لِما يُحْيِيكُمْ) أي : مشاهدة الأزليّة ، وقربته الأبدية ، ومحبّته الصفاتية ، ومعرفته الذاتية.

قال الجنيد في هذه الآية : قرع أسماعهم ، فيسمعهم حلاوة الدعوة ، فيتنسموا روح ما أدّته إليهم الفهوم الطاهرة من الأدناس.

فأسرعوا إلى حذف العلائق المشغلة قلوب الموافقين ومنعها ، وهجموا بالنفوس على معانقة الحذر ، وتجرّعوا مرارة المكابدة ، وصدقوا الله في المعاملة ، وحسن الأدب فيما توجهوا إليه ، وهانت عليهم المصيبات ، وعرفوا قدر ما يطلبون ، واغتنموا سلامة الأوقات ، وسجنوا همومهم عن التقلّب إلى مذكور سوى وليّهم ، فحيوا حياة الأبد بالحي الذي لم يزل ولا يزال ، فهذا معنى قوله : (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ).

وقال الواسطي في قوله : (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) : حياة تصفيتها من كلّ معلول لفظا وفعلا.

وقال جعفر : أجيبوه إلى الطاعة ؛ ليحيي بها قلوبكم.

وقال أيضا : (إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) : «الحياة» : هي الحياة بالله ، وهي المعرفة ، كما قال الله تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧].

وقال بعضهم : استجيبوا لله بسرائركم ، وللرسول بظواهركم إذا دعاكم إلى ما يحييكم.

فحياة النفوس بمتابعة الرسول ، وحياة القلب بمشاهدة الغيوب ، وهو الحياء من الله برؤية التقصير.

وقال جعفر الصادق : حياة القلوب في المعاشرة ، وحياة الأرواح في المحبّة ، وحياة النفوس في المتابعة ، ولما دعاهم إلى مشاهدته بنعت الشوق ، عرّفهم أن قلوبهم مسلوبة منهم بكشف جماله ، وإلقاء محبّته ومعرفته فيها ، بقوله :

(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) أي : قلوبكم معي فاتّبعوا أثرها ،

واطلبوها منّي حتى أطهّرها لكم ، متقلبات في بحر الصفات والذات ، حائرات في المشاهدات ، ساكرات بشراب القربات ، دانيات منّي ، فانيات فيّ ، باقيات معي ، لو تعرفونها تعرفوني ، لذاك قال عليه‌السلام : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» (١) ؛ لأنه نفس النفس ، وقلب القلب ، وروح الروح ، وعقل العقل ، وحياة الحياة.

ثمّ وصف عليه‌السلام تقلّبها في عيون الصفات بنعت البقاء ، وسباحتها في بحار الذات بنعت الفناء ، بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن» (٢).

قيل : أنّ الله أشار إلى قلوب أحبابه بأنه يأخذها منهم ، ويجمعها ويقلبها بصفاته ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء» (٣) ، فيختمها بخاتم المعرفة ، ويطبعها بطبائع الشوق.

وقيل : (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) أي : عقله وفهمه عن الله خطابه.

وقيل : يحول بين المؤمن والإيمان ، وبين الكافر والكفر ، ويردّهما إلى الذي سبق لهم منه في الأزل.

ويقال : حال بينهم وبين قلوبهم ؛ لئلا يكون لهم رجوع إلا إلى الله.

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧))

قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) : حذّر الله أهل القصة من الدعاوى الكاذبة ، وهي التي لم يبلغ صاحبها إلى ما تدّعي من المقامات ، فيفتتن بها هو وغيره من المريدين ، فإنّ من أظهر شيئا من نفسه ، ولم يكن أهل ذلك ، فهو يحتجب به عن كلّ مقصود.

ويضل من يقتدي به ممن لا يعرف الحقّ من الباطل ، قال عليه‌السلام : «المتتبع بما لم يعط كلابس ثوبي زورا» (٤).

قال أبو عثمان : اكتساب المال من الحرام من الفتن التي تصيب بغير مباشرة.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) رواه ابن حبان (١٣ / ٤٩).

وقال الأستاذ : الإشارة إذا باشر زلّة بنفسه ، عاد إلى القلب منه الفتنة ، وهي القسوة المعجد ، وتصيب النفس من الفتنة العقوبة ، والقلب إذا حصل منه زلّة ، وهو فيما لا يجوز يتأدى فتنته إلى السرّ ، وهي الحجبة.

ويقال : أنّ الزاهد إذا انحط إلى رخص الشرع في أخذ الزيادة من الدنيا ما فوق الكفاية ، وإن كان من وجه الحلال تعدى فتنته إلى من تخرج به من المبتدئين ، فيحمله على ما رأى منه على الرغبة في الدنيا وترك التقلّل ، فتؤدّيه إلى الانهماك في أودية الغفلة من الانشغال بالدنيا عن ربّه.

والعابد إذا جنح إلى ترك الأوراد ، تعدّى في ذلك إلى من كان يبسط في المجاهدة ، فيستوطن الكسل ، ثمّ يحمله الفراغ ، وترك المجاهدة على اتّباع الشهوات فيصير كما قيل : أن الفراغ والشباب والحدّة مفسدة للمرء ، أي مفسدة.

قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) : منّ الله على أوليائه بأنه وإن كان عددهم قليلا ، فهو عند الله عظيم ، فأكثرهم بالإخوان من العارفين حين كانوا عند الأعداء خائفين من شرّهم ، ومن شرّ معصيتهم وقلّة احترامهم ، بقوله : (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) ؛ لأنهم في منادى الأحوال ، فلمّا آواهم الله إلى مقام مشاهدته ، وألبسهم لباس أنوار هيبته ، وسقاهم شراب وصلته ، غلبوا بنصرة الله على أعداء الله ، وصاروا صاغرين عند هؤلاء الأولياء ، وذلك قوله تعالى : (فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) : آواهم من قهره إلى لطفه ، ووسّمهم بسمات قدرته ، وأطعمهم من موائد قربته.

(لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : تعرفون مشكوركم حين تعجزون عن أداء شكر معرفته.

قال الأستاذ : رزق الأشباح من طيّبات الغذاء ، ورزق الأرواح والسرائر من صنوف الضياء ، فلمّا وفّقهم بعوالي تلك الدرجات ، حذّرهم الله عن الخيانة في الطريق ، بقوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) : إذ عرّفكم الله معالم الربوبيّة ، وحقائق العبوديّة ، وأعلمكم علوم حكم المعرفة لا تكتموها عن أهلها من المريدين الصادقين ، وما وجدتم من ذلك من شرائع رسولي ، وعلمه المأثور منه لا تمنعوا منه من يقتبس منكم ، قال عليه‌السلام : «بلغوا عني ولو آية» (١)

وإذا عرفتم ذلك اعملوا به ، ولا تخونوا في تلك الأمانة التي أودعها الله قلوبكم بترك رعايتها بنعت العمل ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فذلك قوله : (وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) ،

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١٢٧٥).

وأنتم تعلمون أنكم خائنون في تضييعكم ، ومنّ الله عليكم من علمه الذي علّمكم.

وأيضا من عرف الله والتفت سرّه إلى شيء غير الله ، فقد خان الله في محبّته وأمانته ، وودائع معرفته في صدور عباده التي توجب انفراد خواطرهم من كلّ العوارض النفسانية والشيطانية.

قال أبو عثمان : من خان الله في السرّ ، هتك ستره في العلانية.

وقال بعضهم : خيانة الله في الأسرار من حبّ الدنيا ، وحب الرئاسة ، والإظهار خلاف الإضمار ، وخيانة الرسول في آداب الشريعة ، وترك السنن والتهاون بها ، وخيانات الأمانات في المعاملات والأخلاق ، ومعاشرة المؤمنين في ترك النصيحة لهم.

(وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢))

قوله تعالى : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) : بيّن سبحانه أن من اتّكل إلى المال في معيشته ، وتولّى إلى أولاده في طلب نصرته ، فقد افتتن في طريق الله بغير الله.

قال بعضهم : «أموالكم» : فتنة إن جمعها وأمسكها ، ونعمة إذا أنفقتم ، وبذلتم في وجوه الخيرات.

وقال بعضهم : «المال» : فتنة لمن طلب الفتنة ، ونعمة لمن كان خازنا لله فيه يأخذه بأمره ، ويخرجه بأمره إلى أربابه.

وقال أبو الحسين الورّاق : ما اعتمدت سوى الله من الدنيا والآخرة ، فهو فتنة حتى تعرض عن الجميع ، وتقبل على مولاك ، وتعتمد عليه.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) : بيّن سبحانه من مخرج بسرّه من جبّ شيء سوى الله من المال والولد والدنيا والآخرة ، يسرج الله في قلبه في مسرجة التقوى مصباح أنوار الغيب ، تضيء الأبصار أسراره ما في خزائن ملك الملكوت ، ويفرّق بسناها بين المكاشفات والمخاييل.

قال سهل : نورا يفرق به بين الحق والباطل.

وقال الجنيد : إذا اتّقى العبد ربه جعل له تبيانا يتبيّن به الحقّ من الباطل ، وهذه نتيجة التقوى.

فقيل له : أليست التقوى فرقانا؟ قال : بلى ، الأول : بداية من الله ، والثاني : اكتساب ، فإذا اتقى الله ، اكتسب بتقواه معرفة التفرقة بين الحق والباطل ، فيتبيّن هذا من هذا.

وقال الأستاذ : «الفرقان» : ما يفرّقون به بين الحق والباطل ، من علم وافر ، وإلهام قاهر ، فالعلماء فرقانهم محبوب برهانهم ، والعارفون فرقانهم موهوب عرفانهم ، فهؤلاء مع مجهود نفسهم ، وهؤلاء لمقتضى جود ربهم ، فالعرفان تعريف من الله ، والتكفير تخفيف من الله ، والغفران تشريف للعبد من الله.

قوله تعالى : (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) وصف تعالى نفسه بالمكر ، ومكره منزّه عن الحيل والمخاييل والأباطيل.

«مكره» : سخطه السابق ، الذي ظهر سماته للعبد على وجوه المطرودين ، وسوابق المشيئة الأزليّة ، وامتناع جماله بعزّته عن مطالعة غير العاشقين به ، فأخرجهم بصورة المقبولين ، وكانوا في الأزل من المطرودين ، فما عرّفهم مكان قهره.

ومكره بهم وعليهم ، فأبرز لهم أنوار السعادة ، وأزّمهم في ورطات قهرياته بأزمة الشقاوة ، فما رأوا على أنفسهم حلي الطاعات ، وغفلوا عن ظلمات بواطنهم ؛ لأنهم مطموسون بطمس مكر الأزل.

قال تعالى في وصفهم : (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف : ١٤] ، هذا وصف مكر البعد منه ، فالمكر في الأولياء مكر انبساط وقرب ، وهو من علم المجهول ، وذلك مقام الالتباس حيث ظهر عين الصفة في عين الفعل على حدّ الجمع والتفرقة ، وتلك لطائف مشاهدة المتشابهات من الاستواء والنزول ، وغيرهما من الصفات ، وما ذكرنا بمجموعه ، فيكون في إشارته عليه‌السلام حين عاين العدم في مرآة الحدث ، بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رأيت ربي في أحسن صورة» (١).

وهذا محلّ العشق والبسط والانبساط ، والأنس والشوق.

قال الشبليّ : المكر في النعم الباطنة ، والاستدراج في النعم الظاهرة.

وقيل : «المكر» مكران : مكر تلبيس ، ومكر هلاك.

__________________

(١) رواه الترمذي (٣ / ٥٦٥).

وقال الأستاذ : من جملة مكره اغترار قوم بما يرزقهم من الطيّبات الجميلة ، وأجر كثير الطاعات عليهم ، مع شرب لهم من قبول الناس إيّاهم ، ثم أسرارهم تكون بالأغيار منوّطة ، وهم عند الله غافلون ، وعند الناس أنهم عند الله مكرّمون ، وفي معناه قيل :

وقد حسدوني قرب داري منهم

فكم من قريب الدّار وهو بعيد

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨))

قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (١) : كان عليه‌السلام رحمة تامة للجمهور حياة ومماتا ، صرف الله عذابه المستأصل عمّن كان على رأس المخالفة ، ونبيّه عليه‌السلام بين أظهرهم ؛ لأنّ كلّ عين نظرته ، واقتبست نوره ، لم يكن مستأصلا من أصلها ، وإن كانت محجوبة عن رؤية مراتبه ، وشرف منازله ؛ لأن مكثه وظله عليه‌السلام كنف رحمة الله ، ومن يدرك في نفسه قارعة لتنبهه من غفلته ، وتخلصه من عذاب الله.

وأيضا ما كان الله ليعذّب قومك بعذاب البعد ، وأنت قريب منهم ، فإن من رآك رآني ، لا يحتجب منا ما دام ينظر إليك (٢).

__________________

(١) المراد بالتعذيب الأول هو : التعذيب الدنيوي ؛ لأن وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمان للمذنبين ، وعبارة الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإشارة لاصطفاء أمته ؛ فيكون كقوله : «لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك» ؛ فإن المراد به : لولاك ولولا ما هو شعبة من شعب أنوارك لما خلقت العالم من العرش ، والكرسي وغيرهما.

(٢) فانظر إلى قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ) إلخ ، كيف جعل الوجود النبوي ، وحصول الاستغفار سببا لارتفاع العذاب ، وباعثا على الأمان؟ فالأول : من الأسباب الآفاقية ، والثاني : من الأسباب الأنفسية ، فكما أن الورثة خلفاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونوابه ، وبهم يحصل من الأمان ما يحصل به ، وإن كان دونه ؛ فكذا القلب بمنزلة الوجود المحمّدي في عالم الوجود بشرط أن يظهر على الصفة النبوية من التوجه إلى الله

قال أبو بكر الورّاق : ما كان الله ليظهر فيهم البدع ، وأنت فيهم ، وما كان الله ليأخذهم بذنوبهم ، وهم يستغفرون.

قال بعضهم : الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الأمان الأعظم ، ما عاش وما دامت سنّته باقية فهو باق ، وإذا أميتت سنّته ، فلينتظروا البلاء والفتن.

وقال الأستاذ : وما كان الله ليعذّب أسلافهم ، وأنت في أصلابهم ، وليس يعذبهم اليوم ، وأنت فيما بينهم إجلالا لقدرك ، وإكراما لمحلّك ، وإذا خرجت من بينهم ، فلا يعذّبهم وفيهم خدمك ، الذين يستغفرون.

ويقال للجوّاد : حرمت فجاد الكرام في ظلّ أنعامهم ، والكفار إن تمتعوا بقرب الرسول عليه‌السلام ، فقد اندفع العذاب بمجاورته عليهم ، وأنشد في هذا المعنى :

وأحبّها وأحبّ منزلها الذي

حلّت به وأحبّ أهل المنزل

ثم إن الله سبحانه ذكر أنه يعذّب من يعادي نبيّه عليه‌السلام في الدنيا بالسيف ، ولا يعذّبهم عذاب الاستئصال إلا في الآخرة ، بقوله تعالى : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) : لحرمة نبيّه عليه‌السلام وإن المؤمن الصادق في إيمانه لا يعذبه الله في الآخرة ؛ لأن نبيّه يكون فيهم يوم القيامة ، وبشّرنا سبحانه أنه لا يعذب أمته مادام هو فيهم ، فيكون في الآخرة هو فيما بين المؤمنين ، فيدخل المؤمن النار ؛ لتحلة قسمه ، وبأن يطفئ بنوره ناره ، وذلك قوله عليه‌السلام : «جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك ناري» (١).

يدخل المؤمن والكافر في النار ، فيبقي الكفار في النار ، والمؤمنون يمرون على الصراط كالبرق الخاطف.

فإن وصلت النار إلى المجرمين من أمّته ، لا تصل إليهم لجهة الخلود ، بل لجهة الخلوص ، وفي هذا المعني قيل :

إذا سلم العهد الذي كان بيننا

فردّي وإن شطّ المزار سليم

وهكذا قال الأستاذ ـ رحمة الله عليه ـ ثم بيّن سبب إيصال العذاب إلى الكافرين ، بقوله تعالى : (يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا

__________________

تعالى ، والتبتّل إليه ، فإذا بالإنسان الكامل وبظاهره يحصل الأمان لظاهر العالم وصورته ، وبقلب الإنسان الكامل ونفسه ؛ يحصل الأمان لنفسه ، فهو أمان مطلق من الله تعالى في حق نفسه ، وفي حق غيره.

(١) هو من الأحاديث التي تفرد بذكرها المصنف في كتبه.

الْمُتَّقُونَ) : كانوا يعملون شيئا ليس لهم ، فإنهم ليسوا من أهل الحرم مع جهلهم بالله ، وهم لا يعلمون أن ليس لهم صد المؤمنين عنه ، فإن أحبّاء الكعبة ، هم الذين قدّسوا أعينهم من النظر إلى ما سوى الله غير الكعبة ، التي هي مرآة تجلّي صفاته ، بقوله تعالى : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ).

قوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).

إنّ الله سبحانه أراد بحشر الخلق يوم القيامة أن يزيد أشواق المحبّين والعارفين والمشتاقين ، بكشف جماله ، وحسن جلاله ، وتمييزهم من المدّعين الكاذبين ، الذين يدّعون في الدنيا معرفته ومحبّته وولايته ؛ وليريح أصفياءه من صحبة هؤلاء الكفرة الضالين ، الذين صرفوا وجوههم من الحقّ إلى الخلق بالرياء والسمعة ، وطلب الجاه والمنزلة.

وأيضا يخلّص أحباءه من مناهضة هواجس النفس الأمّارة ، وخطرات الشيطانية ، ويقدّس قلوبهم وأرواحهم وعقولهم من هجوم طوارق القهريات ، التي يأتي عليها بالابتلاء والامتحان.

قيل : المخلص من المرائي ، والمؤمن من الكافر ، والمطيع من العاصي.

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠) وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥))

قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) : الإشارة إلى كفرة النفوس الأمّارة بسوء أي : جاهدوها ، وأميتوها حتى تتقدّس مزارع أنوار اليقين ،

ومرابع سنا الإسلام والدين ، ويتفرد القلب بنور الموحّد والتوحيد من كلّ خاطر غير خاطر الحقّ ، ويكون القلب كلّه مستغرقا في بحار محبّته ، والروح هائمة في أودية هويته ، والعقل تائها في صحاري أزله وأبده ، ولا يكون منها جميعا نظر إلى غيره.

فإن النفس حجاب القهر بينها وبين بارئها ، الذي هو منعم عليها بإلقاء محبّة وجهه فيها ، ونصرها على نفوسها وهواها ، وفي ذلك مدح نفسه تعالى ، بقوله : (نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) : نعم المولى لأوليائه ، ونعم النصير لعمّاله ، أنعم بسبق ولايته ومحبّته على المحبين في أزله ، وعلى المجاهدين له هواهم ونفوسهم ، بنصرته لهم إلى أبد أبده.

قال بعضهم : نعم المولى لمن والاه ، ونعم النصير لمن استنصره.

وقيل : نعم المولى لأهل الولاية ، ونعم النصير لأهل الإرادة.

يقال : نعم المولى بالتعريف.

وقيل التكليف ، ونعم الناصر لك بالتخفيف والتضعيف يضعف الحسنات ، ويخفّف عنكم السيئات ، فأنشد :

هواك أول ما عرفت من الهوى

والقلب لا ينسى الحبيب الأزلا

قوله تعالى : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) : نفي التدبير عن ساحة التقدير ، ويخرج ما في المشيئة الأزلية على لباس الأمر بنقض العقود والعزائم التي اجتمعت عموم الخلق عليها.

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : عرفت الله بنقض العزائم ، وفسخ الهمم.

قال جعفر : ما قضى في الأزل يظهره في الحين والوقت بعد الوقت.

وقال بعضهم : ليكشف عن سوابق علمه في غيبه ، باتّصال كلّ من الفريقين إلى ما سبق له منه في أزله ، ثم صرف الخلق من ديمومة المشيئة ، إلى صورة الأحكام ، لعلمه بقلّة إدراكهم سوابق القسمة في الأزل ، بقوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) : قدّر في الأول ، ونصب أعلام القهر واللطف في الطريقة في الآخر ، فيرجع الآخر بما يبدو منه إلى مصدر تقدير الأول ، وبيّن أنه منزّه عن الجهل والظلم ، نصب الأدلّة لبيان حكمته ، وإثبات حجته.

(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) : أمره السابق ، وإرادته القائمة.

(وَيَحْيى مَنْ حَيَ) : بتلك البيّنات.

(مَنْ هَلَكَ) : بهواه ما هلك إلا بإهلاكه إيّاه في الأزل.

و (مَنْ حَيَ) : بمناه من مشاهدته ومعرفته ، ما حيا إلا بإحيائه في الأزل إظهار الشريعة ، وإبراز الأدلّة حكم في محلّ الامتحان ، وقضية الأزل غالبة على صورة الأمر.

قال تعالى : (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ).

قال بعضهم : أظهر للخلق الآيات ، ونصب لهم الأعلام ، وفتح أعين القوم لرؤيتها ، وأعمى قوما دونها ، وبعث إليهم الوسائط بالبراهين الصادقة ، والأنوار النيّرة ، ولكن (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).

وقدّم هذه المقدمة : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).

قال بعضهم : لا خير إلّا لمن حيا بذكره وأنس بقربه ، والخلق كلّهم متحركون في أسبابهم ، والحيّ منهم من تكون حياته ، بالحيّ الذي لا يموت.

قال الأستاذ : الهالك من عمي في أودية التفرقة ، والحيّ من حيا بنور التعريف.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢))

قوله تعالى : (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

أول الصبر التصبّر ، وهو مقام التكليف ، والبصر مقام التشريف ، الأول : مجاهدة ، والآخر : مشاهدة ، أي : اصبر بأنّي في لوعات شوقكم ، إنّي أشتاق إليكم ، واصبر كما يصبرون ، فهذا معنى قوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ).

وأيضا اصبروا في بلاء محبّتي ، وانظروا إلى مقام البلاء حتى تروني ، فإنّ التجلّي للصابرين في مكان صبرهم في.

وأيضا اصبروا لي ، فإن الصبر معي يوجب مراد الصابرين في نصرتهم على عدوّهم من النفوس والشياطين.

سئل محمد بن موسى الواسطيّ عن ماهية الصبر ، وحقيقة الذي قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) قال : هو سؤال التولّي قبل مخامرة المحنة ، وإذا صادقت المحبّة التولّي حملها بلا كلفة ، هذا صفة من كان الله معه في صبره.

قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) : حذرا وإباءة عن المشابهة بهؤلاء المرائين ، الذين يخرجون من دورهم ، وزواياهم الخبيثة بألوان زى السالوسيين ، ويتبخترون فيها من فرحهم بالجاه عند الظالمين ، الذين لا يعرفون الهر من البر ، وهم كالأنعام بل هم أضلّ ، ويتّبعون أهل الإرادة من صحبة الأولياء ؛ لتسعير أسواقهم وترويج نفاقهم ، حتى يجتمعوا عليهم ، ويجلّوهم في أعين الخلق ، أهلكهم الله في أودية قهره.

ثم وصفهم بأن الشياطين تزيّن قبائح أعمالهم في أعينهم ، بقوله سبحانه وتعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) : يريهم أعمالهم الفاسدة بصورة حسنة ، وهم بها يغترّون.

قال بعضهم : عظّم طاعاتهم في أعينهم ، وصغّر نعم الله عندهم.

وقال الأستاذ : الشيطان إذا زيّن للإنسان يوسوسه أمرا ، والنفس إذا استولت له شيئا عميت بصائر أرباب الغفلة عن شهود صواب الرشد ، فينخرّ الغافل معه في قياد وسواسه ، ثم يمحقه هو بهم التقدير وكوامن المكر من حيث لا يرتقب ، فلا الشيطان يفي له بما يعده ولا النفس شيئا مما يتمنّاه تجده ، وهو كما قال القائل :

وساءلتك الليالي فاغتررت بها

وعند صفو الليالي يحدث الكدر

وذكر الله سبحانه فعل ذلك الشيطان بعد تزيينه مخاييله لهم بقوله : (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) : بيّن تعالى أن الشيطان زيّن للمريدين شيئا من الأمل ، ويدليه بخيال المنية في ورطة الغفلة ؛ ليغويه عن طريق قربة الله ، ويحجبه عن مشاهدته ، ويعده بالكرامات ووجدان الآيات ، فلما أيّده الله بجذبه ، ووارد وجده نكص العدو على عقبيه ، واحترز من احتراقه بنيران مواجيده ، ويبقى المريد بلا خيال في مشاهدة الجمال ، فتقول نفسه لشيطانه : أين أنت من الوسوسة؟

فيقول : إني أرى ما لا يرون من عجائب مكاشفة الملكوت له ، وأخاف الله أن يجعلني في جنس مجاهدته أسيرا بأسر هيبته ، وأيضا يوسوس نفس الولي بأنها تغلب بشهواتها عليه بإعانته.

فلمّا رأى صولة جدّه ، واستعانته بربه ، ورميه إليها بأنفاس محبّته يفر منه ، ويترك النفس أسيرة في يده ، ويقول : إني برئ منكم ، إني أرى ما لا ترون أي : أخاف الله.

بيّن الله سبحانه أن الشيطان يرى ما لا يرى الآدمي من أحكام الملكوت بعد ظهورها في هذا العالم ، وذلك أنه رأى قبل هذا العالم عجائب الملكوت ، ويريه الله أنوار المؤمنين بتفريقه عنهم ، وقوله : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أي : إني أخاف عذاب الله ، وذلك بعد رؤية البأس ، ولا ينفع ذلك ، ولو كان متحقّقا في خوفه ما عصى الله طرفة عين.

قال الواسطيّ : ترك الذنوب على ضروب ، منهم من تركها حياء من نعمه كيوسف عليه‌السلام ، ومنهم من تركها خوفا كإبليس ، حين قال تعالى : (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) (١).

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩))

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ).

أخبر سبحانه عن مقام امتحان القوم حيث أراهم مقامات رفيعة ، وبلّغهم إلى بعضها ، ولم يعرّ شفاههم حقائقها ، ولم يوفّقهم لأداء حقوقها ، وشكر مراتبها ، وأبقاهم في ذلك برهة من الدهر ، ثم حجبهم عنها قليلا بنعت الاستدراج ، فبقوا مغيّبين عن ملابس أنوار الملكوت ،

__________________

(١) أي : إلى عالم الزور والتفت إلى ما سوى الحق وجعل سعيه هباء منثورا.

وآثار الجبروت ، وهذا إذا كانوا غير مصطفين في الأزل بالولاية السابقة في مشيئة الحكم ، بل هم مخذولون بحرمانهم الأزليّ عن كمال البلوغ إلى معالي درجات المعرفة مثل بلعام وبرصيصا وإبليس ، وحاشا من كرم الله العميم ، وأفضاله القديمة أنه سلب أولياءه أنوار الولاية ، الذين سبقت لهم اصطفائيته ، بحسن عنايته في أزله ، وكنايته إلى أبده.

قال جعفر : ما دام العبد يعرف نعم الله عنده ، فإنّ الله لا ينزع عنه نعمه ، حتى إذا جهل النعمة ، ولم يشكر الله عليها إذ ذاك جزي بأن تنزع منه.

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥))

قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) : أعلم الله المؤمنين والعارفين الاستعداد لقتال أعداء الله ، وسمّى آلة القتال القوة ، وتلك القوة قوة الإلهية ، التي لا ينالها العارف من الله إلا بخضوعه بين يديه بنعت الفناء في جلاله ، فإذا كان كذلك يلبسه الله لباسا من الله بخضوعه بين يديه بنعت الفناء في جلاله ، فإذا كان كذلك يلبسه الله لباس عظمته ، ونور كبريائه وهيبته ، ويغريه إلى الدعاء عليهم ، ويجعله منبسطا ، حتى يقول في همّته وسرّه : إلهي خذهم ، فيأخذهم بلحظة ، ويسقطهم صرعى بين يديه بعونه وكرمه ، ويسلّي قلب وليّه ، ويريحه من شرور معارضيه ومنكريه ، وذلك سهم رمي بقوس الهمّة عن كنانة الغيرة ، كما رمى نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى منكريه ، حين قال : «شاهت الوجوه» (١).

وهذا الوحي من الله بقوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى).

سمعت أن ذا النون كان في غزو ، وغلب المشركون على المؤمنين ، فقيل له : لو دعوت

__________________

(١) رواه مسلم (٣ / ١٤٠٢).

الله ، فنزله عن دابته وسجد ، فهزم الكفار في لحظة ، وأخذوا جميعا ، وأسروا وقتلوا.

وأيضا اقتبسوا من الله قوة عن قوى صفاته لنفوسكم ؛ حتى تقوّيكم في محاربتها وجهادها.

قال أبو علي الروذباري : «القوة» : هي الثقة بالله.

قيل : ظاهر الآية أنه الرمي بسهام القسي ، وفي الحقيقة رمي سهام الليالي في الغيب بالخضوع والاستكانة ، ورمي القلب إلى الحقّ ، معتمدا عليه ، راجعا عمّا سواه.

ثم بيّن أن المعول على الله ونصرته ، لا على السلاح والآلات ، بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي : قوّاك بقوته الأزليّة ، ونصرك بنصرته الأبدية ، ووفق المؤمنين بإعانتك على عدوك.

قال الواسطيّ : قوّاك به ، وقوّى المؤمنين بك ، بل أيدك به ، وأيّد المؤمنين بنصرك ، ثم بيّن سبحانه أن نصرة المؤمنين لم تكن إلا بتأليفه بين قلوبهم ، وجمعها على محبّة الله ، ومحبّة رسوله بعد تباينها بتفرقة الهموم في أودية الامتحان ، بقوله : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي : جمع أرواحها في بدء الأمر على موارد شريعة المشاهدة ، ومشارع الحقيقة ، فائتلفت بعضها بعضا في الحضرة القديمة عند مشاهدة الجليل جلّ جلاله ، فارتفعت من بينهم المناكرة ، وبقيت بينهم المصادقة والمحبّة والموافقة.

ثم تأكّد ذلك الائتلاف بأنه لا يكون من صنيع الخلق ، ويكلّف الاكتساب ، بل من إلقائه نور الإسلام في قلوبهم ، وجمعه إيّاهم على متابعة نبيّه بنظره ولطفه ، بقوله تعالى : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) : ألّف بين الأشكال بالتجانس والاستئناس ؛ لأنّها من مصدر فطرته.

قوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] وألّف بين الأرواح بالتجانس والاستئناس من جهة الفطرة الخاصة من قوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [ص : ٧٢] ، وألّف بين القلوب بمعاينة الصفة لها بإشارة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن» (١).

وألّف بين العقول بتجانسها ، وأصل فطرتها التي قيل فيها : العقل أوّل ما صدر من البارئ ، وذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول ما خلق الله العقل» (٢).

انصرف من مصدر الأزليّة ، وألّف بين الأسرار بمطالعتها الأنوار ، واتّصال الأنوار بها

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) رواه الطبراني في الكبير (٨ / ٢٨٣).

من الغيب ، بقوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣].

قيل : أي يشاهدون أنوار الغيب ، فموافقة الأشباح من حيث تجانس مقاماتها في الطاعات ، ورؤية الآيات ، والظفر بالكرامات ، وموافقة الأرواح بابتلائها من مجانسة مقاماتها في المشاهدات ، وسلوكها في مسالك المراقبات والمحاضرات ، وموافقة القلوب من تجانس سيرها في الصفات.

فمن شاهد القدرة يأتلف بمن شاهد بقاءه في القدرة ، وكذلك مقام رؤية جميع الصفات ؛ لأن سيرها في أنوار الصفات ، وموافقتها العقول من تجانس إدراك أنوار الأفعال ، وتحصيلها سنا الحكميات من أصول الآيات ، وتدبّرها وتذكّرها فيها بأنوار الهدايات ، وموافقة الأسرار من تجانس مشاربها من مشاهدة القدم ، ومطالعة الأبد ، وكلّ سرّ يردّ مشرب المعرفة ، أو المحبّة والشوق ، أو التوحيد ، أو الفناء ، أو السكر ، أو الصحو يستأنس بمن يكون شربه من مقامه من الأسرار ، فسبحان الذي ألّف بين كلّ جنس مع جنس ، رحمة منه وتلطّفا.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيان ما شرحنا من ائتلاف هذه المؤتلفات ، واستئناس هذه المستأنسات في مقام القربات قال : «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف» (١) ، فائتلاف المريدين في الإرادة ، وائتلاف المحبّين في المحبّة ، وائتلاف المشتاقين في الشوق ، وائتلاف العاشقين في العشق ، وائتلاف المستأنسين في الأنس ، وائتلاف العارفين في المعرفة ، وائتلاف الموحدين في التوحيد ، وائتلاف المكاشفين في الكشف ، وائتلاف المشاهدين في المشاهدة ، وائتلاف المخاطبين في سماع الخطاب ، وائتلاف الواجدين في الوجد ، وائتلاف المتفرّسين في الفراسة ، وائتلاف المتعبّدين في العبودية ، وائتلاف الواجدين في الوجد ، وائتلاف المتفرّسين في الفراسة ، وائتلاف المتعبّدين في العبودية ، وائتلاف الأولياء في الولاية ، وائتلاف الأنبياء في النبوّة ، وائتلاف المرسلين في الرسالة ، فكل جنس يستأنس بجنسه ، ويلحق بمن يليه في مقامه.

قال بعضهم : ألّف بين قلوب المرسلين بالرسالة ، وقلوب الأنبياء بالنبوة ، وقلوب الصدّيقين بالصدق ، وقلوب الشهداء بالمشاهدة ، وقلوب الصالحين بالخدمة ، وقلوب عامة المؤمنين بالهداية ، فجعل المرسلين رحمة على الأنبياء ، وجعل الأنبياء رحمة على الصدّيقين ، وجعل الصدّيقين رحمة على الشهداء ، وجعل الشهداء رحمة على الصالحين ، وجعل الصالحين رحمة على عامة عباده المؤمنين ، وجعل المؤمنين رحمة على الكافرين.

وقال أبو سعيد الخرّاز : ألّف بين الأشكال ، وغيّر الرسوم لمقام آخر ، فكلّ مربوط بمنحته ، ومستأنس في أهل نحلته.

__________________

(١) رواه البخاري (٣ / ١٢١٣) ، ومسلم (٤ / ٢٠٣١).

وهذا معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأرواح جنود مجندة» (١).

ثم أنّ الله سبحانه امتنّ على نبيّه بأنه حسبه في كلّ مراد له منه ، وحسب المؤمنين بما يريدون منه ، وأفرد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه والمؤمنين ؛ لتبرّيهم من حولهم وقوتهم ، حيث ضمن دفع العدوان عنهم بنصرته وأزليته ، بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ).

أولها مننت عليك بائتلاف قلوب المؤمنين في نصرتك ، فلا تلتفت إليهم في محلّ التوحيد ، فإنّي حسبك وحدي بغير معاونة الخلق ، فينبغي أن تفرد القدم عن الحدوث في سيرك مني إليّ ، وأنا حسب المؤمنين عن كلّ ما دوني ، وإن كان ملكا مقرّبا ، أو نبيّا مرسلا ، ولا ينبغي في حقيقة التوحيد النظر إلى غيري ، وإن كان مني ، وفي هذه الإشارة قد أشار بقوله سبحانه في وصف كبرياء مجالسه من المقرّبين ، بقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٥٢].

قال الواسطي : حسبك بالله وليّا وحافظا وناصرا ، ومن اتّبعك من المؤمنين ، فالله حسبهم.

(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦) ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨))

قوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) : كلّ مسامحة من الله في المجاهدة تكون من كشف المشاهدة.

فالمستأنس بالله يكون خفيف القلب ، خفيف البدن ، خفيف الحل ، شريف الهمّة ، لا يحتمل مع أنوار مشاهدته كثرة أثقال العبودية ، فيخفّف الله بأوليائه رحمة عليهم ، وتلطّفا منه عليهم ؛ ليزيد روح قلوبهم من المراقبة والاستئناس من المحاضرة ، ولذلك أكرم نبيّه عليه‌السلام بأن رفع مشقة كثرة العبودية عنه حين تورمت قدماه من كثرة العبادة ، بقوله تعالى : (طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) [طه : ١ ، ٢] ، بعد أن كان في البداية قد أقامه في أجواف الليالي لخدمته ، بقوله : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) [المزمل : ١ ، ٢].

__________________

(١) تقدم تخريجه.

ثم منّ على أصحابه حين بلغوا هذه الرتبة ، بقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) أي : ما تفعلون بقوّتكم في المجاهدات والجهاد ، فأنصركم بقوّتي ، وأريحكم بكشف مشاهداتي عن مشقّة المجاهدة ، وما أفعل لكم خير مما تفعلون لأنفسكم.

قال ابن عطاء : ما في السماء لا يوجد إلا بالافتقار ، وما في الأرض لا يوجد إلا بالاضطرار.

وقال النصر آبادي : هذا التخفيف كان للأمّة دون الرسول عليه‌السلام ، ومن لا تثقله حمل أمانة النبوّة كيف يخاطب بتخفيف اللقاء للامتداد ، وكيف يخاطب به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الذي يقول : «بك أصول وبك أجول» (١).

ومن كان به كيف يخفّف عنه ، أو يثقل عليه؟

قوله تعالى : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ).

أخبر سبحانه عن سرّ فطرة النفس الأمّارة التي من حيلة ما إن تميل في أكثر الأوقات إلى شهواتها ، وذلك ميلان النفس ، لا ميلان القلب.

أخبر عن الخطرات دون الوطنات ، وحاشا أنهم يريدون عرض الدنيا ، ولا يريدون مشاهدة الحقّ ، ولقاء الآخرة لكن ما مسامحهم الله في حرمان تلك الخواطر لقدس أسرارهم ، وطهارة نيّاتهم في معرفته وخدمته ، ألا ترى كيف حذّر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع جلالته عن النظر إلى عرض الدنيا ، بقوله : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٢٨] ، وقال تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) [طه : ١٣١] أي : تريدون الرفاهية في المجاهدة من قبيل خاطر النفس ، وأنا أريد بكم كشف مشاهدة الآخرة ، ووصولكم إلى مقام القربة والمشاهدة.

قال جعفر : ما يريد الله لكم خير مما تريدون لأنفسكم.

(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ

__________________

(١) ذكره القشيري (٣ / ٥٣).

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣))

قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) : أمر الله سبحانه بأكل الحلال الطيب ، الذي يتوّلد من كشف الحلال مثل الجهاد ، وذلك أن لقمة الحلال معجونة بنظر لطفه ، تقوّي أبدان الصدّيقين ، وقلوب المقرّبين ، وأرواح المحبّين ، ولا يتولد منه الأمان فيها معجونا ، وهو لطف الباري سبحانه ، ويهيجه إلى طهارة القلب من الوسواس ؛ لأن الحرام ميراث الشيطان ، وهم يتبعون ميراثهم ، ويطلبون عوضه حال الصادق وإيمانه.

قال جعفر : «الحلال» : ما لا يعصى الله فيه ، و «الطيّب» : ما لا ينسى الله فيه.

وقال بعضهم : «الحلال» : ما أخذته عن ضرورة ، و «الطيّب» : من الحلال ما أثرت به مع الحاجة والفاقة.

وقال بعضهم : «الحلال» : ما يظهر لك من غير سبب ، و «الطيّب» : ما يبدو لك من السبب ، وما أرى من الفرق بين الحلال والطيّب أن الحلال ما تأكل في المجاهدة ، والطيب ما تأكل في المشاهدة ، وأيضا الحلال ما لم يحك الصدر ، والطيب ما يروح القلب.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الإشارة : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، واستفت قلبك ولو أفتاك المفتون» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإثم ما حاك صدرك» (٢)

وأيضا «الحلال» : ما يتعرّض لك من الغيب بمراقبتك وانتظارك ، و «الطيّب» : ما يبدو لك من الغيب بغير مراقبتك ، واستشراف نفسك.

وقال الأستاذ : «الحلال» : ما كان مأذونا فيه ، و «الحلال الطيّب» : أن تعلم أن ذلك من قبل الله فضل لك من قبله ، لا استحقاق.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ

__________________

(١) رواه الترمذي (٤ / ٦٦٨).

(٢) رواه مسلم (٤ / ١٩٨٠).

اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥))

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) : الذين شاهدوا بأرواحهم مشاهدة الأزل ، حين عرّف سبحانه نفسه لها بتحقيق الخطاب ، بقوله تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) [الأعراف : ١٧٢].

قالوا : بلى ، فصحبتها أنوار مشاهدته من الأزل إلى الأبد بنعت المعاينة ، وحلاوة السماع ، ومواجيد واردات القرب ، مع اتّصال نور الغيب على السرمدية ، وهاجروا عن حظوظ طباعها من الأكوان والحدثان ، وجاهدوا في مكابدتها في محلّ الامتحان مع النفس ، والشيطان لرضا الرحمن ، وخوف الهجران ، فلما اتّصفوا بهذه الأوصاف حصل لهم حقائق الإيمان والعرفان ، وسمّاهم محقّقين في الإيقان ، بقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ).

ثم ذكر امتنانه عليهم بغفرانه حركات ضمائرهم في وقت الامتحان ، وتقصيرهم في حقيقة العرفان ، وكشف جماله لهم في مرآة البرهان ، بقوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) : سترهم عن عين القهر ، حتى لا تصل إليهم ضرب عين القهريات ، ورزقهم رزق قربه بكشف المواصلات.

قال أبو يزيد : جهاد النفس في هجرانها نزعها عن المألوفات ، وإجراؤها على سبيل الله بإسقاط العلائق عن المال والأهل ، وذلك قوله تعالى : (وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا).

وقال بعضهم : أي : فارقوا قرناء السوء ، والأعمال القبيحة ، والدعاوى الباطلة.

قال بعضهم : آمنوا ببذل القلوب لله ، وهاجروا ببذل الأملاك لله ، وجاهدوا ، وابذلوا الروح لله في سبيل الله ، فمن بذل قلبه لمحبّته ، وبذل ملكه لرضاه ، وبذل نفسه وروحه لإعزاز دينه كان محبّا حقيقة ، ومن كان محبّا حقيقة كان مؤمنا حقّا.

قال أبو بكر الوراق : فضّل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيئين : بصحبتهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمجاهدة معه ، وهجرانهم إلى الله بالسرائر ، وغربتهم مع أنفسهم.

ألا ترى الله تعالى يقول : الذين أمنوا من طوارق الخذلان ، وهاجروا بقلوبهم في ملكوت الغيوب ، وجاهدوا أنفسهم على طاعة رسوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) ، حقيقة إيمانهم ما قدم من الثناء عليهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

بيّن سبحانه أن ميراث الأولياء والصدّيقين من العلوم الغيبيّة ، والحكم الغريبة ،

والأنباء العجيبة ، وبيان المكاشفات والمشاهدات ، وأسرار الجذبات ، وأحكام المواجيد والواردات ، ولطائف المقامات ، والسير في المجاهدات لا يصل إلا إلى المريدين الصادقين ، والطالبين الموفّقين ، والقاصدين المودين ، والمحبّين ، والمستغرقين في أنوار الأذكار ، والطيّارين من المشتاقين بأجنحة الأفكار ؛ لأنهم في محاضر الولايات خرجوا برسم الأرواح جميعا من معادن الأفراح ، وأظهروا من أرحام العدم بتجلّي القدم ، ومن لم يكن عنهم من أهل الدعاوي والمترسّمين ، لم يصل إليه ميراث بلابل بساتين الملكوت ، وعنادل رياض الجبروت.

ولا يعرف ألحان تلك الأطيار إلا طير يطير بجناح الرسالة والمحبّة ، والنبوة ، والولاية الأذى كيف وصف الله سبحانه خليفة ملكه سليمان صلوات الله عليه ، حيث نشر فضائل ما منّ الله عليه ، بقوله : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ١٦].

نسب إليهم بطريق من هذه الطرق ، فهو نسبهم في الولاية ، وله منهم ميراث علوم الحقيقة ، وأنّ الله سبحانه بيّن في كتاب الأزل ، بقوله في كتاب الله قسّمت أرباب هذه المواريث.

قال عليه‌السلام في هذه الإشارة : «العلماء ورثة الأنبياء» (١) ، ورثوا علومهم بقدر حواصلهم وفهومهم وأحوالهم ، وسرعة سيرهم في الملكوت ، واقتباسهم أنوار الجبروت ، أولئك هم إلهيون ، ورثوا نعيم مشاهدته ، وهم فيها خالدون ، ثم أثنى على نفسه أنه كان عالما في الأزل باختياره هؤلاء الصدّيقين بهذه الكرامات ، محيطا بعلمه على اصطلاحهم بعد إيجاده إيّاهم بوصف قبولهم هذه الكرامات ، بقوله تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) [الدخان : ٣٢] ، وبقوله في تمام السورة : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي : «عليم» : بما أبدى لهم من الاصطفائية الأزليّة ، وما يبدو منهم من سنيّات طاعته ، والزفرات في شوقهم إلى لقائه إلى الأبد ، والله أعلم.

تم الجزء الأول

ويليه الجزء الثاني ، وأوّله :

سورة التوبة

* * *

__________________

(١) رواه الترمذي (/ ٢٤٠).

فهرس المحتويات

التقديم.......................................................................... ٣

ترجمة الشيخ المصنف............................................................. ٥

نماذج من صور المخطوط.......................................................... ٩

مقدمة المصنف................................................................. ١١

سورة فاتحة الكتاب............................................................. ١٥

سورة البقرة..................................................................... ٢٧

سورة آل عمران............................................................... ١٢٣

سورة النساء.................................................................. ٢٢٧

سورة المائدة.................................................................. ٢٩٢

سورة الأنعام.................................................................. ٣٤٣

سورة الأعراف................................................................ ٤١١

سورة الأنفال................................................................. ٥٠٨

فهرس المحتويات............................................................... ٥٤٢

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن - ١

المؤلف: أبي محمّد صدر الدين روزبهان بن أبي نصر البقلي
الصفحات: 542
  • التقديم 3
  • ترجمة الشيخ المصنف 5
  • نماذج من صور المخطوط 9
  • مقدمة المصنف 11
  • سورة فاتحة الكتاب 15
  • سورة البقرة 27
  • سورة آل عمران 123
  • سورة النساء 227
  • سورة المائدة 292
  • سورة الأنعام 343
  • سورة الأعراف 411
  • سورة الأنفال 508
  • فهرس المحتويات 542