أصول الفقه - ج ١٠

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ١٠

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مكتبة الفقه والأصول المختصّة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-83-6
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٩٤

منه أن يكون الفرد الواحد خارجاً وداخلاً. ولا يخفى أنّه بعد فرض خروجه عن العموم المذكور لا يبقى مجال للتمسّك بذلك الاطلاق ، وعلى الظاهر أنّه ليس المقام من قبيل التزاحم بين عموم العام وإطلاق المطلق ، لأنّ ذلك فيما لو لم يكن بينهما ترتّب وطولية كما في المقام ، لما عرفت من أنّ الاطلاق القاضي بالدوام والاستمرار فرع الدخول والشمول لزيد المذكور.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ خروجه إنّما هو من جهة كون حرمة إكرامه في يوم السبت منافياً لما أفاده الاطلاق من الدوام والاستمرار ، فنحن نرفع اليد فيه عن هذا الاطلاق القاضي بالدوام والاستمرار فيبقى مشمولاً للعام الأفرادي ، لكنّه حينئذ لا يكون الحكم في زيد المذكور بعد يوم السبت مستمرّاً ودائماً ، بل يبقى على ما يقتضيه وجوب الإكرام من الاكرام في الجملة من دون دوام. وفي الحقيقة أنّ هذا ليس من قبيل التزاحم بين العام والمطلق ، لأنّ ما يدلّ على حرمة إكرام زيد يوم السبت لا يعارض ما دلّ على وجوب إكرام العلماء مع قطع النظر عن الاطلاق القاضي بالدوام والاستمرار ، لأنّ السالبة الجزئية في حقّ زيد لا تنافي الموجبة الجزئية المأخوذة من العموم الأفرادي الذي مقتضاه إكرام كلّ فرد في الجملة ، فلو كان مفاد الاطلاق هو الاكرام في كلّ آن ، كان ما دلّ على عدم وجوب إكرام زيد في يوم السبت مقيّداً أو مخصّصاً له في زيد بما عدا يوم السبت ، وإلاّ فإن لم يكن إلاّ الدوام والاستمرار كان المتعيّن خروج زيد من العام ، لأنّ محصّل العام هو أنّه يجب إكرام كلّ عالم ومنهم زيد إكراماً دائماً أو مستمرّاً إلاّزيد لأنّه لم يثبت في حقّه هذا الحكم الدائم.

وهذا هو الذي أشار إليه في الغرر بقوله : ولو فرضنا أنّ الثاني متعيّن من جهة أنّ ظهوره إطلاقي برفع اليد عنه في مقابل الظهور الوضعي ، فلا يجوز أن

٣٨١

يقيّد موضوع الحكم بما عدا ذلك الزمان الخارج ليقال بثبوت الحكم لذلك الموضوع دائماً ، لأنّ ذلك فرع انعقاد ظهورات بالنسبة إلى الأزمان حتّى تحفظ فيما لم يعلم بالخروج والمفروض خلافه ، بل اللازم على فرض القول بدخول الفرد في الجملة القول بعدم دلالة القضية على زمان الحكم ، فافهم (١).

وحاصله : أنّ لازم دخول زيد تحت العموم الأفرادي هو تحكّم الاطلاق فيه القاضي بالدوام والاستمرار ، فحيث إنّه قد ثبت أنّ الحكم فيه غير مستمرّ كان مقتضى ذلك هو خروجه عن العموم الأفرادي ، ولو سلّمنا بقاءه تحت العموم الأفرادي القاضي بإكرامه في الجملة ، وأسقطنا فيه الاطلاق القاضي بالدوام ، لم يتحصّل من ذلك إلاّوجوب إكرامه بعد يوم السبت في الجملة من دون دوام واستمرار ، والسرّ في ذلك : هو أنّ هذا الاطلاق ليس على حدّ غيره من الاطلاقات يقبل التبعيض في التقييد بحسب ما يدلّ عليه الدليل المقيّد ، بل إنّ إطلاقنا المذكور يدور بين الوجود والعدم ، فإن تحكّم اقتضى الدوام والاستمرار ، وإن خدشنا فيه أدنى خدشة بإخراج يوم السبت ارتفع من أصله ، ولم يبق بيدنا منه شيء نتمسّك به فيما عدا يوم السبت ليقضي علينا بالدوام والاستمرار فيما عدا اليوم المذكور ، ولعلّ المراد من قوله في الغرر : بل اللازم على فرض القول بدخول الفرد في الجملة القول بعدم دلالة القضية على زمان الحكم ، فافهم ، هو أنّه لو كان مفاد وجوب إكرام كلّ عالم هو الاكرام في الجملة أو الوجوب في الجملة انسلخت القضية بالمرّة من الدلالة على الزمان ، وكان المطلوب بها هو مطلق الاكرام على نحو العموم البدلي من حيث الكيفيات والزمان والمكان ، وهو ما ذكرناه من العموم البدلي ، فلا تعرّض فيها للاستمرار ولا للدوام ، فيكون ذلك

__________________

(١) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٥٧٣.

٣٨٢

خروجاً عن الفرض ، لأنّ المفروض هو دلالتها ولو بالاطلاق على الدوام.

وعلى أي حال ، ليس حال هذا الاطلاق كحال باقي الاطلاقات في أنّه إذا سقط منه جانب تمسّكنا فيه بالجانب الآخر بعد فرض كون العموم البدلي منافياً للحكمة ، ليكون الحاصل هو أنّه بعد فرض انسداد باب العموم البدلي لكونه منافياً للحكمة لو ثبت الخروج في بعض الأزمان كيوم السبت مثلاً ، يتعيّن خروجه من تحت العموم الأفرادي ، ولو أبقيناه تحت العموم الأفرادي وتصرّفنا في الاطلاق كان محصّله لزوم إكرامه في الجملة وهو خلف ، لما فرضناه من كون وجوب إكرامه في الجملة منافياً وموجباً لعدم دلالة القضية على زمان الحكم ، لأنّ الاكتفاء بالعموم البدلي عبارة أُخرى عن أنّ المطلوب هو صرف طبيعة الاكرام من دون دلالة على الزمان ، فتأمّل.

ومن هنا تبدأ المعركة بين صاحب الغرر والمحشّي قدس‌سرهما ، فإنّ المحشّي في قبال ذلك يدّعي أنّه لا فرق بين هذا الاطلاق وبقيّة الاطلاقات ، فلو سقط الاطلاق في يوم السبت لم يسقط في غيره ، فيكون قاضياً بالدوام فيما عدا يوم السبت ويكون الحاصل عنده هو الدوام فالدوام ، فكلّ ما خرج عن هذا الاطلاق يحكم بالدوام فيما عداه ، من دون فرق عنده في ذلك بين كون الخارج من الأوّل أو الأخير أو الوسط.

ثمّ إنّه ذكر الوجه الفارق بين الاطلاق فيما نحن فيه وبينه في المقامات الأُخر بقوله : وربما يتخيّل الفرق بين هذا المطلق وسائر المطلقات ، بتقريب أنّ سائر المطلقات لها جهات عرضية ـ إلى قوله ـ وبمجيء المقيّد ولو في الجملة يختلّ هذا الاطلاق (١)

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٢٢٠.

٣٨٣

وحاصله : أنّ تحقّق الاطلاق المتعارف فيما نحن فيه يتوقّف على لحاظ قطعات الزمان قطعة قطعة ، ويكون محصّل الاطلاق في يوم السبت مثلاً أنّ الحكم لم يقيّد بوجوده ولا بعدمه ، وهكذا في يوم الأحد وفي يوم الاثنين وهكذا ، فإذا قام الدليل على أنّ الحكم مقيّد بعدم يوم السبت ، بقي إطلاق الحكم فيما عداه من الأيّام بحاله من عدم كونه مقيّداً بعدمه ولا بوجوده ، ولازمه وجود ذلك الحكم في تلك الأيّام القاضي بالدوام والاستمرار ، لكن هذا خلف ، لأنّ المتكلّم حسب الفرض لم يلاحظ القطعات قطعة قطعة ، بل لم يلاحظ إلاّذلك الزمان المستطيل ، فإذا خرج يوم السبت لم يبق محل لتلك الملاحظة للزمان المستطيل.

ثمّ إنّه دفع تخيّل الفرق المذكور بقوله : ويندفع بأنّ الاطلاق ليس جمعاً بين القيود حتّى يكون مرجعه إلى جعل الحكم في كلّ قطعة قطعة ليكون خلفاً ، بل إلى ملاحظة خصوصيات هذا الطبيعي الوحداني وعدم جعل وجودها ولا عدمها دخيلاً في الحكم ، كما هو معنى الاطلاق اللاّ بشرط المقسمي (١) ، فالنظر إلى قطعات الزمان وعدم تقييد طبيعي الزمان بها وجوداً أو عدماً معنى ، والنظر إليها وجعلها ظروفاً للحكم معنى آخر ، وما هو خلف هو الثاني دون الأوّل ، وإلاّ فملاحظة الزمان الوحداني المستمرّ مهملاً في مقام جعل الحكم الحقيقي جدّاً محال ، وملاحظته متقطّعاً خلف ، وملاحظته لا بشرط قسمياً لا يعقل إلاّبالنظر إلى الخصوصيات الموجبة وجوداً وعدماً لكونه بشرط شيء ولكونه بشرط لا الخ (٢)

__________________

(١) [ هكذا فيما يتراءى من الطبعة القديمة من نهاية الدراية ٣ : ١١٧ السطر ١٦ ولكن في الطبعة الحديثة : القسمي ، فلاحظ ].

(٢) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٢٢٠ ـ ٢٢١.

٣٨٤

وحاصل ذلك : هو أنّ إطلاق طبيعي الزمان الذي وجد الحكم فيه ، إن كان هو عبارة عن أخذ الزمان جامعاً بين التقييد باليوم الأوّل وباليوم الثاني وباليوم الثالث وهكذا ، كان محصّله هو التقطيع بحسب الأيّام مثلاً ووجود الحكم في كلّ قطعة ويوم منها وهو الخلف ، وإن كان مرجعه إلى أخذ طبيعي الزمان غير مقيّد باليوم الأوّل ولا بعدمه وهكذا في اليوم الثاني والثالث الخ ، فقد لوحظت القطعات ولم يلاحظ في كلّ واحدة منها تقييد ذلك الطبيعي بوجود تلك القطعة ولا بعدمها وحينئذ تكون النتيجة هي الاستمرار ، وإذا ثبت تقيّد ذلك الزمان الطبيعي بعدم قطعة خاصّة ـ أعني يوم السبت مثلاً ـ لزمنا رفع اليد عن إطلاقه بذلك المقدار دون غيره من باقي القطعات ، بل تبقى باقي القطعات على ما هي عليه من عدم أخذ وجودها ولا عدمها في طبيعي الزمان ، وهو محصّل الدوام فالدوام ، وقد سمّى هذا الاطلاق باللاّ بشرط المقسمي ، ثمّ أفاد أنّ أخذ الزمان مهملاً محال ، والظاهر أنّ الاهمال هو المنطبق على اللاّ بشرط المقسمي ، والاطلاق فيما نحن فيه لو تمّ فهو اللاّ بشرط القسمي ، بمعنى أنّ طبيعي الزمان لم يؤخذ مقيّداً بوجود اليوم الأوّل ولا بعدمه ، فكان المأخوذ منه هو القدر الجامع بين وجود ذلك اليوم وعدمه ، مثل ما إذا أخذنا الرقبة باللاّ بشرط القسمي بالنسبة إلى وجود الإيمان وعدمه.

وعلى أيّ حال ، فلا تكون النتيجة إلاّ أخذ طبيعي الزمان غير مقيّد بوجود اليوم الأوّل ولا بعدمه ، وهكذا في الثاني والثالث الخ ، ويكون الحاصل أنّ طبيعي الزمان لم يلاحظ فيه القطعات ، ولا لوحظ فيه التقييد بوجود أيّ قطعة منها ولا بعدمها ، ومن الواضح أنّ ذلك لا يقتضي الدوام والاستمرار ، وإنّما جُلّ ما فيه هو كون الحكم أو الاكرام مظروفاً لطبيعي الزمان ، وذلك يحصل بالوجود في أيّ

٣٨٥

قطعة منه الذي قلنا إنّ نتيجته هي العموم البدلي ، لا الشمولي ولا الدوام والاستمرار.

ثمّ لا يخفى أنّه لا محصّل لملاحظة طبيعي الزمان مقيّداً بوجود بعض قطعاته أو بعدمها أو أخذه مطلقاً من هذه الناحية ، إذ لا محصّل لأخذ الطبيعة مقيّدة بوجود بعض أفرادها وحصصها أو مقيّدة بعدم تلك الحصّة ، أو لحاظها مطلقة بالقياس إلى وجود بعض حصصها ، فإنّ ذلك ـ أعني أخذ الطبيعة مطلقة أو مقيّدة بوجود الشيء أو عدمه ـ فيما لا يكون من أفرادها ، بل كان ممّا يقارنها في الوجود مثل تقييد القيام بكونه مقارناً لوجود الضحك أو لعدمه ، أو كان ممّا يلحقها من الصفات والعوارض ، كتقييدها أو إطلاقها بلحاظ صفاتها مثل كون الرقبة مؤمنة أو غير مؤمنة ، أمّا تقييدها بلحاظ أفرادها وبعض حصصها فإنّما هو باعتبار الانطباق كتقييد الإنسان بكونه منطبقاً على الفرد الفلاني منه أو غير منطبق عليه ، وما نحن فيه ـ أعني الزمان ـ من هذا القبيل ، غير أنّ أفراده القابل الانطباق عليها طولية تدريجية ، فلو أخذنا الزمان الطبيعي مقيّداً باليوم الأوّل ، كان محصّله هو أنّ موضوع الحكم هو طبيعي الزمان المنطبق على الحصّة الأُولى منه ، وإذا أخذناه مطلقاً كان محصّله هو أنّ موضوع الحكم هو طبيعي الزمان الصالح للانطباق على اليوم الأوّل منه ، وللانطباق على اليوم الثاني منه ، وهكذا إلى آخر الأيّام ، فإن أُريد من الاطلاق المذكور صرف الطبيعة الصالحة على الانطباق على أيّ يوم من الأيّام ، لم تكن النتيجة إلاّ التقطيع والعموم البدلي ، وإن أُريد من الاطلاق المذكور هو الطبيعة المنطبقة على كلّ واحد من الأيّام ، كان محصّله هو التقطيع والعموم الشمولي فيما أمكن فيه العموم البدلي مثل وجوب الإكرام.

أمّا ما لم يمكن فيه ذلك مثل وجوب الوفاء ، لكون الحكم فيه على نحو

٣٨٦

العموم البدلي لغواً ، فحينئذ يدور الأمر فيه بين كون المراد الوفاء في زمان معيّن مثل شهر أو سنة من حين العقد ، وبين كون المراد هو الوفاء في كلّ آن ، أو الوفاء دائماً ومستمرّاً ، ولمّا لم يبيّن التعيين وكان المفروض أنّه لم يلاحظ القطعات ، تعيّن الدوام والاستمرار الموجب لوحدة الحكم وعدم إمكان التمسّك في مورد الشكّ.

وملخّص ذلك : أنّ الاطلاق بالقياس إلى حصص الزمان لا يعقل إلاّمع التقطيع ، سواء كان من قبيل العموم البدلي أو كان من قبيل العموم الشمولي ، وأمّا الدوام والاستمرار فهو لا يتحصّل إلاّمن أخذ الزمان واحداً من دون نظر إلى قطعاته.

وأمّا [ ما ] أفاده المرحوم الحاج الشيخ عبد الكريم قدس‌سره بقوله : ومقتضى هذا الاطلاق أنّ هذا الحكم غير مقيّد بزمان خاصّ ، فلازمه الاستمرار من أوّل وجود الفرد إلى آخره ، فإذا انقطع الاستمرار بخروج فرد في يوم الجمعة ـ مثلاً ـ فليس لهذا العام المفروض دلالة على دخول ذلك الفرد يوم السبت ، إذ لو كان داخلاً لم يكن هذا الحكم استمراراً للحكم السابق (١) ، فليس المراد به هو لحاظ طبيعي الزمان باعتبار وجود القطعة الفلانية منه وعدمها ، ولا باعتبار انطباقه على القطعة الفلانية منه وعدم انطباقه عليها ، بل المراد به هو أنّ لحاظ نفس الزمان ظرفاً من دون نظر فيه إلى قطعة خاصّة ، يعطي الدوام والاستمرار من أوّل وجود الفرد من العلماء إلى آخره بعد فرض سقوط التعيين والعموم البدلي ، بحيث إنّ نتيجة ذلك الاطلاق هو لحاظ ذلك الزمان على طوله قطعة واحدة ، وقد حكم بأنّه يجب فيه الاكرام ، أو بأنّه يجب الاكرام فيه ، فلا تقطيع ولا إطلاق ولا تقييد ، وإنّما أُطلق عليه

__________________

(١) درر الفوائد ١ ـ ٢ : ٥٧١.

٣٨٧

الاطلاق مسامحة ، بل لا يكون إلاّحكماً بوجوب طبيعة الاكرام في هذا الزمان الشخصي المستطيل ، أو حكماً بأنّ طبيعة الاكرام واجبة في هذا الشخص المستطيل من الزمان.

وما أفاده المحشّي من قوله : إذ ليست وحدة الزمان المجعول ظرفاً لثبوت طبيعي الحكم لطبيعي الوفاء مثلاً وحدة شخصية ، كي يتوهّم أنّ الواحد الشخصي غير قابل للتقييد ، فإنّ طبيعي الحكم المنحل إلى أحكام متعدّدة يستحيل أن يكون ظرفه شخصياً ، بل واحد طبيعي ، فيكون طبيعي الحكم المتعلّق بطبيعي الموضوع في طبيعي زمان وحداني بوحدة طبيعية كمظروفه ومتعلّقه ، والواحد الطبيعي قابل للتقييد الذي يجعله حصّة ، والحصّة وحدتها الطبيعية واستمرارها محفوظة ، فيكون المطلق والمقيّد بمنزلة دالّ واحد من الأوّل على ظرفية حصّة طبيعية للحكم الطبيعي الثابت لموضوع كذلك (١) كلّ هذه الهزاهز والرعود منوطة بقوله : فإنّ طبيعي الحكم المنحلّ إلى أحكام متعدّدة يستحيل أن يكون ظرفه شخصياً. ومراده بذلك الردُّ على من يدّعي أنّ الزمان لوحظ واحداً شخصياً مستمرّاً من أوّله إلى آخره ظرفاً للحكم الكلّي المتعلّق بفعل كلّي ، كالوجوب المتعلّق باكرام كلّ عالم.

وليت شعري أيّ استحالة فيما لو أُخذ لهذا الحكم الكلّي ظرف مكان خاصّ ، وقيل : أكرم كلّ عالم في هذا المسجد الخاصّ ، بأن يكون ذلك المسجد ظرفاً للوجوب أو للواجب ، وما الفرق بين كون الظرف مكاناً أو كونه زماناً؟ وما المانع من وجوب اللُبود أو حرمة إقامة الحدود في زمان الغيبة على طوله واستمراره؟ كلّ ذلك لا أدري ، إذ لم أتوفّق لأن أدري أسرار ذلك ، ومنه تعالى

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٢٢٠.

٣٨٨

أستمدّ التوفيق لأن أدري ما لا أدري.

ومن ذلك كلّه يظهر لك أنّ المانع من التمسّك بالاطلاق في مثل زيد المذكور بعد قيام الدليل على عدم وجوب إكرامه يوم السبت ليس هو وحدة الظهور الاطلاقي ، كما نقله بقوله : كما أنّ تخيّل عدم صحّة التقييد لكونه فرع انعقاد ظهورات للعام المطلق من حيث قطعات الزمان ، والمفروض أنّ المطلق له ظهور واحد في معنى واحد مستمر ، وبعد رفع اليد عنه لا ظهور يتمسّك به (١) كي يندفع ذلك المانع بقوله : مندفع بأنّه لا تعدّد للظهور هنا ولا في سائر المطلقات ولا في العمومات ـ إلى قوله : ـ مع بقاء الظهور الوحداني على حاله في جميع المقامات (٢) ، وذلك لما عرفت من أنّ المانع إنّما وحدة المعنى المستفاد من الاطلاق وبساطته ، وهو كون الحكم دائمياً ومستمرّاً في الزمان الواحد على سعته وطوله ، كما أشار إليه بقوله : والمفروض أنّ المطلق له ظهور واحد في معنى واحد مستمر ، ومع فرض خروج زيد عن وجوب الاكرام يوم السبت لم يثبت في حقّه ذلك المعنى الوحداني البسيط ، فمن أين لنا ما يدلّ على وجوب إكرامه في باقي الأيّام ، فلاحظ.

ثمّ إنّك بعد أن عرفت وحدة الحكم الدائمي بوجوب الاكرام أو وحدة وجوب الاكرام الدائمي ، تعرف أنّه واحد واقعاً وخارجاً وإنشاءً وثبوتاً وإثباتاً وإطاعة وعصياناً ، وأنّ الخروج من أحد الطرفين يباينه كالخروج من الوسط ، وليس نسبة ذلك إليه نسبة الخاصّ إلى العام ، ولا نسبة المقيّد إلى المطلق ، وكذلك فيما لو قال : أكرم العالم في كلّ جمعة ، وفهمنا منه وحدة الحكم واستمراره في

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٢٢١.

(٢) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٢٢١.

٣٨٩

أيّام الجمع ، بحيث إنّا فرضنا أنّ الآمر لاحظ أيّام الجمع شيئاً واحداً وحكم بوجوب الاكرام فيها ، أو أوجب فيها الاكرام ، فإنّ وحدة الحكم حينئذ تكون بوحدة تلك الأيّام ، ولا دخل لهذه الأيّام بما يفصل تلك الجمع بعضها عن بعض بسائر أيّام الاسبوع ، ولا ينقص تلك الوحدة إلاّبخروج بعض الجمع ، ولا يتوقّف ذلك على لحاظ العموم في الجمع مجموعياً ، بل المفروض أنّه قد لاحظ الدوام والاستمرار في الحكم الوارد على الاكرام في أيّام الجمع ، أو أنّه لاحظ الدوام والاستمرار في الاكرام الذي أوجبه أيّام الجمع ، على إشكال في ذلك.

وبالجملة : أنّ الظاهر في أمثال ذلك هو العام الأزماني الشمولي أو المجموعي ، لكن لو ادّعى مدّع أنّه لوحظ الدوام في الحكم المذكور كان له معنى آخر غير ما نحن بصدده ، وذلك المعنى هو المعبّر [ عنه ] في كلمات شيخنا قدس‌سره بكونه فوق الحكم ، وأين هذا من الدوام الذي نحن بصدده ، الذي أخذناه في وجوب الاكرام أو في الاكرام المتعلّق به الوجوب ، الذي قلنا إنّه مباين لما يدلّ على عدم الوجوب في بعض الأيّام ، سواء كان من أحد الطرفين أو من الوسط ، وأنّه لا يتصوّر فيه التبعيض في الاطاعة والعصيان ، وأنّه حكم واحد من جميع الجهات خارجاً وواقعاً وثبوتاً وإثباتاً وإطاعة وعصياناً.

ومن ذلك يظهر لك التأمّل فيما أفاده بقوله : وأمّا حديث تعدّد الواحد والاتّصال بعد الانفصال ـ إلى قوله ـ فتدبّره فإنّه حقيق به (١) ، خصوصاً ما أحال به على ما تقدّم منه (٢) من تصوير الاطاعة والعصيان في مثل قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

(٢) نهاية الدراية ٥ ـ ٦ : ٢١٨.

٣٩٠

ولا يخفى أنّه لو كان الدوام ظرفاً للفعل الذي هو الوفاء ، لم يكن محصّله إلاّ تعلّق الوجوب بهذا الفعل الواحد المنطبق أوّله على أوّل الزمان وآخره على آخره نظير الامساك الواحد فيما بين الفجر والغروب ، ولا ريب في عدم إمكان التبعيض في الاطاعة والمعصية في مثل ذلك ، إذ ليس هو بأقل من العام المجموعي ، أمّا لو أُخذ الدوام في نفس الوجوب ، فقد عرفت أنّ دوامه يستلزم دوام متعلّقه ، وبواسطة ذلك لا يمكن التبعيض فيه من حيث الاطاعة والعصيان ، ولو فرضنا كون المتعلّق حدوثياً وتجدّدياً مثل الضرب والاكرام وقيل : يجب دائماً الاكرام أو الضرب ، فكذلك الحال ، لصيرورة الاكرام المتعدّد المستمرّ في الزمان بمنزلة فعل واحد تعلّق به وجوب واحد ، إلاّ أن يقال : إنّ تعدّد الفعل خارجاً يكون كالقرينة على تعدّد حكمه الذي هو الوجوب ، فيكون الدوام كناية عن تعدّد الوجوب بتعدّد متعلّقه ، فيخرج بذلك عن الوحدة الاستمرارية.

ثمّ لا يخفى أنّ الوفاء في الآية الشريفة لو كان كناية عن الحكم الوضعي الذي هو اللزوم ، فهذا لا يتصوّر فيه التعدّد بالاطاعة والعصيان ، نعم لو أُريد منه الجري على مقتضى العقد أو وجوب الابقاء وعدم الحل والفسخ ، بحيث إنّه يكون مفاده الحكم التكليفي بالجري على طبق العقد وعدم حلّه وفسخه ، فهو ممّا يدخله الاطاعة والعصيان وإن لم يترتّب الأثر على فسخه ، إلاّ أنّه بعد أخذ الدوام فيه لا يتصوّر فيه الاطاعة مرّة والعصيان أُخرى ، فلاحظ.

قوله : وأمّا الأحكام الوضعية فليس لها متعلّقات لكي يبحث فيها عن مصب العموم الزماني ، فينحصر أن يكون مصب العموم فيها نفس الحكم الوضعي ... الخ (١).

لا يخفى أنّ الأحكام الوضعية وإن لم يكن لها متعلّق ، إلاّ أنّ لها موضوعاً

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٤٨ ـ ٥٤٩.

٣٩١

قابلاً لكونه مصبّاً للعموم الأزماني ، ففي مثل لزوم العقد كما يمكن أن يكون العموم راجعاً إلى نفس اللزوم ، فمن الممكن أن يكون راجعاً إلى نفس العقد بحيث يكون العقد في كلّ آن واجب الوفاء ، في قبال تقييد العقد بكونه في الآن الأوّل واجب الوفاء. نعم إنّ الرجوع إلى نفس العقد لا يخلو عن بعد ، ولكن ذلك ـ أعني ظهور رجوعه إلى نفس الحكم الذي هو اللزوم ـ لا يضرّ بالتمسّك بذلك العموم الأزماني في مورد الشكّ على ما عرفت تفصيله.

ثمّ لا يخفى أنّ الكثير من الأحكام الوضعية مثل الطهارة والنجاسة والملكية والحرّية والرقّية والزوجية ونحو ذلك ، لا يتصوّر فيها التخصيص الأزماني ، بل إنّ المتصوّر فيها هو التخصيص الأحوالي ، وحينئذ فالنافع إنّما هو العموم الأحوالي دون العموم الأزماني ، أمّا ما يكون رافعاً للغويتها لو كانت آنية فليس هو العموم الأزماني ، بل هو ما يقتضيه طبع الحكم من البقاء في جميع الآنات ، وهو المقدار من البقاء الرافع للغوية ، فإنّه ليس في البين امتثال آناً ما كي يقال إنّها هل تسقط به أو لا ، ونحتاج إلى رفع احتمال السقوط بالامتثال آناً ما إلى جعل ذلك الحكم موجوداً في كلّ آن الذي هو العموم الأزماني ، فتأمّل.

قوله : هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ النهي أو النفي بنفسه لا يدلّ على أزيد من ترك الأفراد العرضية ... الخ (١).

الظاهر أنّ متعلّق النهي هو صرف الطبيعة كما أنّ متعلّق الأمر هو صرف الطبيعة أيضاً ، ومن الواضح أنّ صرف الطبيعة يصدق على الفرد الموجود منها في الآن الثاني كما يصدق على الفرد الموجود منها في الآن الأوّل ، ولأجل ذلك يكون المأمور ممتثلاً بالاتيان بواحد من تلك الأفراد الطولية كما يحصل الامتثال منه

__________________

(١) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥١.

٣٩٢

بواحد من الأفراد العرضية ، ومن [ ذلك ] تعرف أنّ النهي يشمل متعلّقه الأفراد الطولية كما يشمل الأفراد العرضية ، ويكون مقتضى تسلّط النهي على صرف الطبيعة هو انتفاء تلك الأفراد أجمع ، لأنّ أيّاً منها جاء به يكون مصداقاً للطبيعة فيكون مشمولاً للنهي ، وبذلك تعرف أنّ عموم النهي للأفراد الطولية لا يتوقّف على أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ، ولا في ناحية الحكم ، وقد صرّح قدس‌سره بذلك تفصيلاً (١) فيما حرّرته عنه فليراجع هناك. وهنا أبحاث تعرّضنا لجملة منها في أوائل النواهي (٢) وفيما علّقناه على أوائل مسألة الأقل والأكثر (٣).

قوله : فإنّه لا معنى لاشتراط الحكم في أوّل النهار بتعقّبه بالحكم في آخر النهار ... الخ (٤).

يمكن أن يكون الأمر كذلك بعد فرض كون الوجوبات المستمرّة ارتباطية في مقام الامتثال وفي مقام التكليف. نعم إنّ ذلك محتاج إلى الدليل ، فراجع ما حرّرناه في كيفية وجوب الصوم في باب الأوامر في بعض مباحث الواجب التعليقي ممّا حرّرناه ص ٢٠٧ (٥) وفيما علّقناه على ص ١٢٥ (٦).

__________________

(١) في درس ليلة السبت ١٨ ج ١ سنة ١٣٤٤ [ منه قدس‌سره ].

(٢) راجع أوّل المجلّد الرابع من هذا الكتاب.

(٣) راجع الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثامن من هذا الكتاب ، الصفحة : ٢٤٨ وما بعدها.

(٤) فوائد الأُصول ٤ : ٥٥٣.

(٥) لعلّه قدس‌سره يقصد بذلك تحريراته المخطوطة عن شيخه المحقّق النائيني قدس‌سره.

(٦) وهي الحاشية المتقدّمة في المجلّد الثاني من هذا الكتاب ، الصفحة : ٩٣ وما بعدها. وراجع أيضاً ما قبلها.

٣٩٣

قال قدس‌سره فيما نقلته عنه قدس‌سره (١) : لا يخفى أنّه إذا كان في ناحية المتعلّق ما يكون مؤدّياً مؤدّى العموم الأزماني كان كافياً عن العموم الأزماني في ناحية الحكم ، بل يكون أخذ العموم الأزماني حينئذ في ناحية الحكم لغواً ، وعمدة الإشكال في النواهي هو ما يقال من أنّ المتعلّق فيها هو الطبيعة المطلقة الشاملة للأفراد الطولية والعرضية ، فيكون ذلك الاطلاق في ناحية المتعلّق مغنياً عن أخذ العموم في ناحية الحكم.

وقد يشكل على ذلك بأنّ الاطلاق إنّما هو بالنسبة إلى الأفراد العرضية ، وأمّا الأفراد الطولية التي يكون المفرّد لها هو الزمان فلا يكفي فيه الاطلاق المذكور وحينئذ فلابدّ من أخذ العموم الأزماني إمّا في ناحية المتعلّق أو في ناحية الحكم وحيث إنّه لم يدلّ دليل على أخذه في ناحية المتعلّق ، لاحتياجه إلى مؤونة زائدة وبيان زائد ولم يبيّن ذلك ، فلابدّ أن يكون مأخوذاً في ناحية الحكم.

والجواب عن ذلك : أنّ النهي والنفي ضدّ الأمر والايجاب ، فكما أنّ الحكم الايجابي يكون متعلّقاً بصرف الطبيعة المعرّاة عن الزمان ، فكذلك الحكم بالنهي أو النفي يكون متعلّقه هو الطبيعة المعرّاة عن الزمان ، وكما يكون نتيجة تعلّق الحكم الإيجابي بصرف الطبيعة المعرّاة عن الزمان هو الاكتفاء في مقام الامتثال بمجرّد وجود تلك الطبيعة وإن كان بفرد واحد ، فكذلك في مقام النهي تصدق الطبيعة الصرفة المعرّاة عن الزمان على أيّ واحد من أفرادها في أيّ زمان كان ذلك الفرد ، وحينئذ فيكون مقتضى تعلّق الحكم العدمي بصرف الطبيعة هو انعدام جميع أفرادها الطولية والعرضية ، فيكون الطبيعة المتعلّقة للنهي شاملة للأفراد الطولية كما تكون شاملة للأفراد العرضية ، فيكون مثل الشرب في قوله : لا تشرب

__________________

(١) في درس ليلة السبت ١٨ ج ١ سنة ١٣٤٤ [ منه قدس‌سره ].

٣٩٤

الخمر شاملاً للشرب في كلّ آن ، ويكون كلّ واحد من أفراد الشرب للخمر الموجود مشمولاً لقوله : لا تشرب الخمر ، ويكون هذا العموم للأفراد التي يكون مفرّدها هو الزمان المعبّر عنه بالعموم الأزماني مأخوذاً في ناحية المتعلّق ، فيكون المرجع فيما شكّ في خروجه هو العموم الأزماني المأخوذ في ناحية المتعلّق ، لا استصحاب حكم العام فيما كان الشكّ فيه بدوياً ، ولا استصحاب حكم المخصّص فيما كان الشكّ فيه بعد ما يكون خروجه قدراً متيقّناً ، كما إذا كان مريضاً على وجه لو لم يشرب الخمر لتلفت نفسه ، ثمّ إنّه لم يشربه إلى أن خفّ مرضه ، على وجه تنزّل من تلك المرتبة إلى مرتبة يكون لو لم يشرب لطال مرضه مثلاً ، فإنّ خروج المرتبة الأُولى هو القدر المتيقّن ، والمرتبة الثانية التي حدثت بعد المرتبة الأُولى يكون خروجها مشكوكاً ، فبناءً على ما ذكرناه من كون العموم الأزماني مأخوذاً في ناحية المتعلّق ، لكون المتعلّق هو صرف الطبيعة المعرّاة عن الزمان ، وأنّ مقتضى تعلّق النهي بها هو شمولها لجميع الأفراد الطولية كالعرضية ، يكون المرجع في الفرض المذكور إلى عموم لا تشرب الخمر ، لا استصحاب حكم المخصّص ، ولا يبعد أن يكون نظر الفقهاء في مثل الفرع المذكور هو البناء في مورد الشكّ المذكور على التحريم ، دون الحكم بالترخيص.

هذا تمام الكلام في النواهي ، ولا فرق فيها بين أن يكون للمتعلّق فيها موضوع خارجي كما مثّلنا ، أو لم يكن له موضوع خارجي كما في مثل لا تكذب ولا تغتب ، سوى أنّ الدوام في مثل لا تشرب الخمر يكون ما دام الموضوع الخارجي موجوداً ، وفي مثل لا تكذب يكون الدوام ما دام المكلّف جامعاً لشرائط التكليف ، وكذا لا فرق فيما يكون لمتعلّقه موضوع خارجي بين أن يكون ذلك الموضوع الخارجي شرطاً للتكليف خطاباً وملاكاً ، أو يكون شرطاً للتكليف

٣٩٥

خطاباً لا ملاكاً ، انتهى ما حرّرته عنه قدس‌سره.

وقال أيضاً فيما حرّرته عنه قدس‌سره قبيل هذا الدرس : أمّا النواهي فيترتّب على كون العموم الأزماني فيها مأخوذاً في ناحية المتعلّق ، أو في ناحية الحكم الذي هو نفس النهي فائدة مهمّة ، وهي أنّه لو خرج بعض الأزمنة عن عموم النهي لأجل ضرورة ونحوها ممّا يوجب سقوط النهي ، وشكّ في بقاء الترخيص فيما بعد ذلك الزمان ، فهل يكون المرجع هو عموم النهي ، أو يكون المرجع هو استصحاب حكم المخصّص ، فبناءً على كون العموم الأزماني مأخوذاً في ناحية المتعلّق يكون المرجع في مورد الشكّ المذكور إلى العموم ، وبناءً على أخذه في ناحية الحكم يكون المرجع في مورد الشكّ المذكور هو استصحاب حكم المخصّص.

وقبل تنقيح أحد الأمرين ينبغي أن نقدّم لذلك مقدّمة ، فنقول : إنّ كلّ عموم أفرادي مثل أكرم كلّ عالم يكون له جهة أزمان وجهة أحوال ، فقد يكون عامّاً أيضاً من جهة الأزمان والأحوال ، بأن يكون المطلوب هو إكرام كلّ عالم في كلّ آن وفي كلّ حال ، سواء كان قائماً أو قاعداً أو نحو ذلك من الحالات ، فباعتبار العموم الأزماني يكون شاملاً لأفراد الإكرام الطولية ، وباعتبار العموم الأحوالي يكون شاملاً لجميع أفراد الاكرام العرضية. وقد يكون عاماً من إحدى هاتين الجهتين ويكون مطلقاً من الجهة الأُخرى ، بأن يكون المطلوب هو إكرام كلّ عالم في كلّ آن من دون تعرّض لأحواله ، فلا دلالة فيه على كون إكرام العالم مطلوباً في جميع حالاته ، بل يكون مطلقاً من هذه الجهة.

وبالجملة هناك جهات ثلاث : الأفراد والأزمان والأحوال ، وكلّ جهة كان العموم فيها محقّقاً يصحّ التمسّك في موارد الشكّ فيها بأصالة العموم ، وما لم

٣٩٦

يكن العموم فيها محقّقاً من إحدى هذه الجهات لا يكون أصالة العموم في الجهة الأُخرى نافعاً في إزالة الشكّ الواقع فيه ، فإنّه إذا ثبت العموم لكلّ عالم وشككنا في وجوب إكرام زيد العالم يوم السبت مثلاً ، لم تكن أصالة العموم في ناحية العلماء نافعة في إدخال مورد الشكّ تحت عموم وجوب الإكرام.

إذا عرفت ذلك فنقول : إذا قيل : لا تشرب الخمر ، فهذا عموم أفرادي ، فإن شككنا في حرمته في زمان أو في حال مثل حال المرض الخفيف ، وكان في البين عموم أزماني وعموم أحوالي ، بأن قال : لا تشرب الخمر في كلّ آن وفي كلّ حال صحّ التمسّك بأصالة العموم الأزماني على إدخال زمان الشكّ تحت العموم ، وبأصالة العموم الأحوالي على إدخال الشرب في تلك الحالة المخصوصة المشكوكة تحت العموم الأحوالي ، أمّا إذا لم يكن في البين ذلك العموم الأحوالي وطرأت حالة يشكّ في حرمة شرب الخمر معها ، لم يمكن التمسّك بأصالة العموم الأفرادي ولا بأصالة العموم الأزماني على دخول الشرب في تلك الحالة تحت الحكم المذكور أعني الحرمة ، وحينئذ فإن كان ذلك العموم الأزماني مأخوذاً في ناحية المتعلّق لم يمكن التمسّك أيضاً على الحرمة بالاستصحاب ، لأنّه من جرّ الحكم من موضوع إلى آخر ، وينحصر المرجع حينئذ في أصالة البراءة ، أمّا إذا كان ذلك العموم الأزماني مأخوذاً في ناحية الحكم أعني النهي ، كان التمسّك بالاستصحاب المذكور على التحريم في مورد الشكّ المذكور صحيحاً ، ومن الواضح لمن له أدنى تتبّع أنّ ديدن الفقهاء في أمثال ذلك على الحكم بالتحريم ، فهذا كاشف عن أنّ نظرهم إلى أنّ العموم الأزماني مأخوذ في ناحية الحكم لا في ناحية المتعلّق ، لأنّه لو كان في نظرهم مأخوذاً في ناحية المتعلّق كان المرجع في صورة هذا الشكّ هو البراءة ، انتهى.

٣٩٧

قلت : لا يخفى أنّه هنا أفاد أنّ حالة المرض لم تكن داخلة في العموم الأزماني ، وبعد سقوط العموم الأحوالي لعدم تحقّقه يتعيّن الرجوع إلى استصحاب الحرمة الثابتة في الزمان السابق ، وإذا كان العموم الأزماني مأخوذاً في ناحية المتعلّق لم يمكن استصحاب الحرمة من زمان إلى ما بعده ، لأنّه حينئذ من جرّ الحكم من موضوع إلى آخر ، لكنّه قدس‌سره بعد ذلك كأنّه عدل عن هذا الطريق ، فأفاد بعد ذلك فيما نقلناه عنه أنّ حالة المرض داخلة في العموم الأزماني.

والأولى أن يقال : إنّ حالة المرض لمّا كانت موجبة للّحوق بالأفراد العرضية ، فهي داخلة تحت عموم الشرب ، لما عرفت من عمومه وشموله للأفراد العرضية ، وحينئذ فيكون الحكم بالحرمة في مورد الشكّ المذكور إنّما هو لأجل التمسّك باطلاق الطبيعة في حيّز النهي ، الشامل للأفراد العرضية التي منها ما يتحصّل بحسب الأحوال.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ هذه الأحوال ـ أعني حالة المرض ونحوه ـ إنّما تدخل في أحوال المكلّف ، لا في أحوال الشرب الذي هو المكلّف به ، وحينئذ نقول : إنّه بناءً على ذلك يكون المرجع هو استصحاب الحكم في حقّ المكلّف ، بأن يقال : إنّه كان يحرم عليه الشرب والآن كما كان ، أو نتمسّك بالعموم والاطلاق الأحوالي بالنسبة إلى المكلّف نفسه. وعلى أيّ حال ، لا يكون صحّة ذلك منوطاً بأخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق أو في ناحية الحكم ، فتأمّل.

ثمّ لا يخفى أنّ كون متعلّق النهي هو صرف الطبيعة الصادقة على جميع الأفراد الطولية كالعرضية وإن كان بالنتيجة يوافق أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ، إلاّ أنّه بحسب الصناعة مغاير له ، لأنّ ذلك ـ أعني أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ـ يكون كتقييد للشرب بأنّه الموجود في كلّ آن ، ولأجل ذلك

٣٩٨

جعلنا هذا التقييد في متعلّقات الأوامر في مقابل بقاء تلك المتعلّقات على إطلاقها الذي يكون مقتضاه الاكتفاء بواحد من الطبيعة ، وهذا بخلاف كون المتعلّق للنهي هو صرف الطبيعة ، فإنّما هو تمسّك باطلاق الطبيعة الموجب لانطباقها على أيّ فرد من أفرادها ، لكن لمّا كانت واقعة في سياق النهي كان مقتضاه هو انتفاء جميع تلك الأفراد ، طولية كانت أو عرضية ، وكان تحقّق أيّ فرد منها مخالفاً لذلك النهي وناقضاً له ، وحينئذ فاطلاق المتعلّق في باب الأوامر مثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يوجب لغويتها ، لأنّه موجب لحصول الامتثال بالاتيان بواحد من تلك الطبيعة ، فلابدّ من تقييده بالعموم الأزماني ليخرج مثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) عن اللغوية ، بخلاف إطلاق المتعلّق في باب النواهي ، فإنّه يخرجها عن اللغوية ويلزمه عدم السقوط بالاجتناب عن الطبيعة آناً ما ، بل لابدّ من اجتناب كلّ واحد من أفرادها الطولية.

وحاصل الفرق بين وجوب الوفاء بالعقد وقوله لا تشرب الخمر ، أنّ المتعلّق في الأوّل وهو الوفاء لو أبقيناه على إطلاقه ولم نقيّده بالعموم الأزماني والوجود في كلّ زمان ، يكون ذلك الوجوب المتعلّق به لغواً ، لأنّه موجب لسقوطه بالوفاء آناً ما ، بخلاف المتعلّق في لا تشرب الخمر ، فإنّا لو أبقيناه على إطلاقه ولم نقيّده بالعموم الأزماني والوجود في كلّ زمان ، لكان مقتضاه هو انتفاء جميع الأفراد الطولية كالعرضية ، فلا يسقط بترك الشرب آناً ما ، فكان إطلاق المتعلّق هنا هو الرافع للغوية ، بخلاف إطلاق المتعلّق في باب الأوامر مثل يجب الوفاء ، فإنّه يكون محقّقاً للغوية.

والحاصل : أنّ لنا في باب النواهي أمراً آخر ندفع به لغوية الحكم ، غير أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق الذي هو عبارة أُخرى عن تقييد المتعلّق بالوقوع في كلّ زمان ، وغير أخذ ذلك العموم الأزماني في ناحية الحكم الذي هو

٣٩٩

عبارة عن الحكم عليه بأنّه موجود في كلّ زمان أو عن تقييده بالوجود في كلّ زمان وذلك الأمر الآخر الذي ندفع به اللغوية في باب النواهي هو التمسّك باطلاق متعلّقها الشامل للأفراد الطولية كالأفراد العرضية ، وذلك الأمر الآخر متوافق بالنتيجة مع أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق ، إلاّ أنّه بحسب الصناعة أمر آخر غير تقييد المتعلّق ، بل هو تمسّك بإطلاق المتعلّق ، فإنّه دافع للغوية ، بخلاف باب الأوامر مثل وجوب الوفاء ، فإنّ التمسّك باطلاق المتعلّق فيها يكون محقّقاً للغوية ، فتأمّل جيّداً.

ثمّ إنّ هذا الأمر الآخر لمّا كان بنفسه رافعاً للغوية الحكم كان موجباً للاستغناء عن أخذ العموم الأزماني في ناحية المتعلّق وفي ناحية الحكم ، فلا يكون في باب النواهي عموم أزماني كي نتكلّم عليه في أنّه راجع إلى المتعلّق أو أنّه راجع إلى الحكم ، وأنّه على الثاني لا يصحّ التمسّك به في مقام الشكّ بخلافه على الأوّل ، بل يكون هذا البحث في باب النواهي ساقطاً بالمرّة ، ويكون المرجع عند الشكّ في بعض الأزمنة هو إطلاق المتعلّق لا العموم الأزماني في ناحيته ، ولو فرض سقوط ذلك الاطلاق عن الحجّية في مورد الشكّ لجهة أوجبت سقوطه ، كان المرجع هو استصحاب الحرمة ، ولا وجه لمنعها إلاّكون العموم الأزماني مأخوذاً في ناحية المتعلّق ، وقد عرفت أنّه بناءً على هذا الوجه لا يكون في البين عموم أزماني ، لا في الحكم ولا في ناحية المتعلّق كي يكون أخذه في ناحية المتعلّق مانعاً من الاستصحاب ، وهذا العموم الذي ندّعيه ليس المنشأ فيه إلاّ وقوع الطبيعة في سياق النهي وهو وإن كان من صيغ العموم الأفرادي ، لما تقرّر في محلّه (١) من أنّ وقوع النكرة في سياق النفي أو النهي يفيد العموم الاستغراقي ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٩٩ ، وللمصنّف قدس‌سره حاشية على ذلك في المجلّد الخامس من هذا الكتاب ، الصفحة : ٩٤.

٤٠٠