أصول الفقه - ج ٥

آية الله الشيخ حسين الحلّي

أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

آية الله الشيخ حسين الحلّي


الموضوع : أصول الفقه
الطبعة: ٠
ISBN الدورة:
978-600-5213-23-2

الصفحات: ٤٧٠

الفاسق الخارج عن التعلّق بالعالم ، وينفرد المفهوم في بيت العالم.

وينبغي أن يعلم أنّ هذه الأمثلة هي من سنخ الأمثلة التي ذكرها شيخنا قدس‌سره لمفهوم الموافقة ممّا يكون فيه المنطوق بنفسه معارضا للدليل الآخر ، وقد تقدّم (١) الإشكال في ذلك ، وأنّه ينبغي أن تكون أمثلة ذلك مقصورة على المعارضة بين المفهوم والمنطوق لا بين المنطوقين نفسهما ، وحينئذ ينبغي لنا أن نمثّل لمفهوم المساواة بأمثلة مجرّدة أيضا من المعارضة بين المنطوقين بأن يقول أكرم النحويين لعلمهم ، فإنّ مفهوم المساواة فيه هو أنّ غير النحويين من العلماء يجب إكرامهم أيضا ، فإن قال لا تكرم الكاتب غير النحوي كان بين هذه الجملة ومفهوم الجملة الأولى عموم من وجه ، فيتعارضان في الصرفي الكاتب ، لكن لا يمكن الحكم فيه بعدم الاكرام ، بأن نقدّم منطوق الدليل المذكور على المفهوم ، لأنّ ذلك موجب للتفكيك في الحكم بين الصرفي والنحوي ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى رفع اليد عن منطوق أكرم النحوي من دون جهة تقتضيه ، هذا على تقدير تنزيل المثال على مفهوم المساواة ، وأنّ العلم واسطة في الثبوت.

أمّا لو نزّلناه على الواسطة في العروض ، بأن يكون قوله أكرم النحوي لعلمه عبارة أخرى عن قوله أكرم العالم سواء كان نحويا أو غيره ، وحينئذ تكون النسبة بينه وبين قوله لا تكرم الكاتب غير النحوي عموما من وجه ، لانفراد الأوّل في النحوي وانفراد الثاني في الكاتب غير العالم ، واجتماعهما في الكاتب العالم غير النحوي ، وحينئذ لنا أن نحكّم أيّا منهما شئنا في مورد الاجتماع ، من دون أن يلزم عليه التفكيك بين المتلازمين.

ومن ذلك يظهر الحال فيما لو كان الدليل المقابل أخصّ مطلقا من

__________________

(١) في الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٣٠٢.

٣٢١

المفهوم ، مثل أن يقول أكرم النحوي لعلمه في قبال قوله لا تكرم الصرفي مثلا ، فإنّه بناء على كون المسألة من باب مفهوم المساواة يشكل تقدّم هذا الخاصّ على المفهوم ، لأنّ حرمة إكرام الصرفي وعدم وجوب إكرامه لا تجتمع مع كون إكرام النحوي واجبا ، لاشتراكهما في علّة وجوب الاكرام وهي العلمية ، بخلاف ما لو قلنا بأنّ المسألة من باب الواسطة في العروض والكبرى الكلّية ، لأنّ محصّل أكرم النحوي لعلمه حينئذ هو وجوب إكرام كلّ عالم نحويا كان أو غيره ، وهذا الحكم الكبروي لا مانع من إخراج الصرفي منه ، إذ لا ملازمة عقلية بين عدم إكرامه وعدم إكرام النحوي.

لا يقال : لا فرق بين أخذ الاسكار موضوعا وواسطة في العروض وبين أخذه علّة وواسطة في الثبوت ، فإنّه بناء على الثاني لا بدّ أن يكون الحكم كبرويا ، لأنّ العلّة الواحدة يستحيل أن يكون معلولها متعدّدا ، فالاسكار لو قلنا إنّه علّة للحرمة لا يكون موجبا لأحكام متعدّدة على موضوعات متعدّدة هي الخمر والنبيذ والفقّاع والأفيون ، ويكون الاسكار علّة واحدة في جميع هذه الأحكام على تعدّدها وتباينها حسب تعدّد موضوعاتها وتباينها ، بل لا بدّ أن ترجع تلك الموضوعات إلى قدر جامع يجمعها يكون هو المحكوم عليه بالحرمة المعلولة للاسكار ، وحينئذ يكون الأمر بالأخرة راجعا إلى حكم كبروي على القدر الجامع بين تلك الموضوعات المتعدّدة صورة.

لأنّا نقول : إنّ الأمر وإن كان كذلك إلاّ أنّ الاسكار لا يكون هو موضوع الحكم المذكور ، بل هو علّة ذلك الحكم الوارد على القدر الجامع بين تلك الموضوعات ، وحيث إنّ الاسكار هو العلّة لتلك الكبرى الكلّية فيستحيل التفكيك بين صغرياتها باخراج بعض تلك الموضوعات عن تلك الكبرى ، لكونه

٣٢٢

موجبا للتفكيك بين المعلولات للعلّة الواحدة ، بخلاف ما لو قلنا إنّه واسطة في العروض لأنّ التفكيك بين الصغريات على هذا التقدير ممكن لا مانع منه.

هذا كلّه فيما لو كان بين المفهوم والدليل المقابل عموم من وجه ، أو كان الدليل المقابل أخصّ مطلقا من المفهوم ، وأمّا ما يكون فيه المفهوم أخصّ مطلقا من الدليل المقابل ، فهو مثل قوله أكرم النحوي لعلمه ، بالقياس إلى قوله لا تكرم الرجل غير النحوي ، فإنّ مفهوم الأوّل وهو أنّ غير النحوي من العلماء يجب إكرامه أخصّ مطلقا من قوله لا تكرم الرجل غير النحوي ، فيقدّم عليه ، هذا على تقدير كون المسألة من مفهوم المساواة.

وأمّا على كونها من باب عموم الموضوع ، بأن نقول إنّ العلم واسطة في العروض ، وأنّ محصّل قوله أكرم النحوي لعلمه ، هو وجوب إكرام العالم نحويا كان أو غيره ، فيكون بين الدليلين عموم من وجه ، ينفرد الأوّل في العالم النحوي وينفرد الثاني في الرجل الجاهل ، ويجتمعان في الرجل العالم غير النحوي.

قوله : وأمّا المخالف فالمستفاد من ظاهر كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) التفصيل بين ما إذا كان العموم ... الخ (٢).

لا يخفى أنّ مفهوم المخالفة قد يكون أخصّ مطلقا من الدليل المقابل كما في مفهوم آية النبأ (٣) أعني حجّية خبر العادل في قبال عموم التعليل أو في قبال

__________________

(١) راجع مطارح الأنظار ٢ : ٢١٥ ـ ٢١٦ ، وراجع أيضا فرائد الأصول ١ : ٢٥٨ وما بعدها.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٣ ـ ٣٨٤ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٣) الحجرات ٤٩ : ٦.

٣٢٣

النهي عن العمل بالظنّ ، وقد يكون الأمر بالعكس بأن [ يكون ] المفهوم أعمّ مطلقا من ذلك الدليل المقابل ، مثل أن يقول أكرم العلماء إن كانوا عدولا في قبال قوله أكرم فسّاق الفقهاء ، فإنّ مفهوم الأوّل هو أنّ الفسّاق من العلماء لا يجب إكرامهم ، سواء كانوا فقهاء أو كانوا نحويين أو غيرهم من العلماء الفسّاق ، وهو أعمّ مطلقا من قوله أكرم فسّاق الفقهاء ، وحيث إنّه لا يمكن رفع اليد عن المفهوم إلاّ بالتصرّف بالمنطوق ، نقول إنّ قوله أكرم العلماء إن كانوا عدولا وإن دلّ بظاهره على انحصار القيد بالعدالة ، إلاّ أنّ قوله أكرم فسّاق الفقهاء يكون موجبا لرفع اليد عن ظهوره في الانحصار ، لأنّه بمنزلة قولك أكرم العلماء إن كانوا فقهاء ، ويكون مقتضى الجمع هو أنّ الشرط يكون أحد الأمرين على سبيل منع الخلو أعني العدالة أو الفقاهة على ما مرّ تفصيل الكلام فيه في باب المفاهيم (١) ، فراجع.

ومنه يظهر الحال فيما لو كان بين مفهوم المخالفة والدليل المقابل عموم من وجه ، مثل قوله عليه‌السلام « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » (٢) في قبال قوله « الماء الجاري لا ينجّسه شيء » (٣) وتفصيل الضابط في هذه المعارضات هو ما كنّا حرّرناه سابقا بقولنا :

وأمّا مفهوم المخالفة فتحرير الكلام في بيان كونه معارضا للعام يتوقّف على تمهيد مقدّمة : وهي أنّ محلّ الكلام كما عرفت إنّما هو فيما لو كان الحكم الذي يتضمّنه الدليل العام غير مناف للمنطوق ، وإنّما محلّ الكلام هو كون حكم

__________________

(١) تقدّم ذلك في أوّل هذا المجلّد ، راجع حاشية المصنّف قدس‌سره المفصّلة في الصفحة : ١٧ وما بعدها.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ ، ٤ ، ٦ ( وفيه : إذا كان ... ).

(٣) مستدرك الوسائل ١ : ١٩٠ / أبواب الماء المطلق ب ٥ ح ١ ، ٤.

٣٢٤

العام منافيا للمفهوم المفروض كونه مخالفا للمنطوق ، وحيث إنّ مورد ذلك الحكم المخالف للمنطوق إنّما هو نقيض مورد الحكم في طرف المنطوق ، فينبغي أوّلا تنقيح حال مورد الحكم في طرف المنطوق ، وبيان النسبة بينه وبين مورد الحكم في الدليل العام ، وبذلك تعرف النسبة بين مورد الحكم في طرف المفهوم ومورد الحكم في الدليل العام.

فنقول : إنّ مورد الحكم في طرف المنطوق بالنسبة إلى مورد الحكم في طرف العام (١) لا يخلو من إحدى النسب الأربع : التساوي والتباين والعموم المطلق والعموم من وجه ، فتكون الصور أربعة :

الأولى : فيما لو كان مورد الحكم في طرف المنطوق مساويا لمورد الحكم في الدليل العام كأن يقول أكرم كلّ عادل ثمّ يقول أكرم الإنسان إن كان تاركا للكبائر والصغائر. وفي هذه الصورة لا يكون العام معارضا لشيء من المنطوق والمفهوم.

الثانية : فيما لو كان مورد الحكم في طرف المنطوق مباينا لمورد الحكم في الدليل العام ، فتارة يكونان من قبيل الضدّين اللذين لا ثالث لهما ، وأخرى يكونان من قبيل المتباينين اللذين لهما ثالث. مثال الأوّل أن يقول الماء القليل لا ينفعل ، ثمّ يقول إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء ، إذ لا يخلو الماء عن أحد الأمرين ، أعني القلّة والكثرة التي هي عبارة عن الكرّ. ومثال الثاني أن يقول تجب الزكاة في الغنم ، ثمّ يقول إذا كانت النعم من الإبل وجبت فيها الزكاة.

ففي المثال الأوّل يكون المفهوم معارضا للحكم العام معارضة التباين ، حيث إنّ عدم الكرّية المحكوم عليها في طرف المفهوم بالانفعال هي عين القلّة

__________________

(١) بيان : لا يخفى أنّ مرادنا بالدليل العام في هذه الكلمات هو الدليل الذي يكون بازاء مفهوم المخالفة وإن لم يكن أعمّ منه [ منه قدس‌سره ].

٣٢٥

التي حكم عليها في الدليل العام بعدم الانفعال ، لأنّ عدم أحد الضدّين اللذين لا ثالث لهما يكون عين وجود الآخر خارجا ، وإن خالفه مفهوما ، فلا بدّ من إعمال قواعد التعارض. ويمكن القول بأنّه ليس من معارضة العام للمفهوم بل هي من معارضته للمنطوق المستفاد منه انحصار علّة عدم الانفعال بالكرّية.

وفي المثال الثاني يكون مورد الحكم في طرف المفهوم أعمّ من مورد الحكم في طرف العام ، ضرورة كون غير الإبل أعمّ مطلقا من الغنم ، لأنّ نقيض أحد المتباينين أعمّ مطلقا من عين الآخر ، فيكون الحكم الذي تضمّنه العام أخصّ مطلقا من الحكم في ناحية المفهوم فيقدّم عليه سواء جعلناه من معارضة العام للمفهوم أو جعلناه من معارضة العام للمنطوق الدالّ على انحصار علّة وجوب الزكاة في الإبل ، فإنّه بناء عليه يكون ما دلّ على وجوب الزكاة في الغنم مخصّصا لهذا الانحصار.

الصورة الثالثة : فيما لو كان بين مورد الحكم في ناحية المنطوق ومورد الحكم في ناحية العام عموم مطلق ، فتارة يكون مورد الحكم في ناحية المنطوق هو الأخصّ ، وأخرى يكون الأمر بالعكس.

مثال الثاني أن يقول أكرم العالم العادل ثمّ يقول أكرم الشخص إن كان عالما. ولا يخفى أنّ المفهوم من هذه القضية لا يكون معارضا للعام وهو واضح ، لأنّ نقيض الأعمّ مطلقا مباين مع عين الأخصّ ، فلا يكون الحكم بعدم الوجوب في أحدهما منافيا للحكم بالوجوب في الآخر.

نعم ، إنّ نفس المنطوق وإن كان الحكم فيه موافقا للحكم في ناحية العام إلاّ أنّه لمّا كان مطلقا وكان دليل العام مقيّدا ، كان دليل العام حاكما عليه على ما هو الشأن في باب الاطلاق والتقييد.

٣٢٦

وأمّا الأوّل ، وهو ما كان فيه مورد الحكم في ناحية المنطوق أخصّ منه في ناحية الدليل العام ، فهو وإن كان مورد الحكم في طرف المفهوم منه نقيضا لمورد الحكم في طرف منطوقه ، وكان نقيض الأخصّ أعمّ من وجه من عين الأعمّ الذي هو مورد الحكم في ناحية الدليل العام ، إلاّ أنّ هذه المناقضة لمّا كانت في ظرف كون كلّ من المتناقضين مصداقا للعام ، لأنّها في مقام المفهوم الذي لا بدّ فيه من كون كلّ من نفس الشرط ونقيضه واردا على أمر واحد ، كان من الضروري هو كون مورد الحكم في ناحية المفهوم أخصّ مطلقا من مورد الحكم في الدليل العام ، مثال ذلك أن يقول : الماء لا ينفعل ، ثمّ يقول : إذا بلغ الماء كرّا لم ينفعل ، فإنّ مفهومه هو أنّ الماء إذا لم يبلغ كرّا ينفعل ، وهو أخصّ من مورد الحكم في ناحية العام الذي هو مطلق الماء ، فيكون مقدّما على العام بلا كلام.

نعم لو كان العنوان المأخوذ محفوظا في طرف المنطوق والمفهوم أعمّ مطلقا أو من وجه من العام ، وكان منطوق الشرط أخصّ من العام ، مثل أن يقول أكرم كلّ عالم ثمّ يقول أكرم كلّ رجل أو كلّ علوي إذا كان نحويا ، كان مورد المنطوق وهو الرجل النحوي أو العلوي النحوي (١) أخصّ مطلقا من العام الذي هو العالم ، مع كون المفهوم الذي هو الرجل أو العلوي غير النحوي أعمّ من وجه من العام. ولو لم يكن في البين عنوان محفوظ بل كان الحكم في المنطوق واردا على العنوان الخاصّ ، كان بين المفهوم والعام عموم من وجه ، لأنّ نقيض الأخصّ أعمّ من وجه من عين الأعمّ كما سيأتي (٢) إن شاء الله في شرح صحيحة إسماعيل ابن جابر.

__________________

(١) [ في الأصل : الرجل العلوي ، والصحيح ما أثبتناه ].

(٢) في الصفحة : ٣٣٧ ـ ٣٣٨.

٣٢٧

وينبغي مراجعة ما حرّرناه في ملحق ص ٩٩ (١) من مباحث الظنّ في التعرّض للإشكال على آية النبأ بعموم التعليل.

وينبغي أيضا أن يلاحظ ما حرّرناه في حواشي التقريرات المطبوعة في النجف في قاعدة التجاوز ص ٢٣٦ (٢) في رواية إسماعيل بن جابر من أنّ مفهوم التحديد في قوله عليه‌السلام « إن شكّ في السجود بعد ما قام » (٣) من جهة دلالته على أنّه لو شكّ في السجود عند ما نهض للقيام قبل أن يتمّ قيامه يلزمه الاعتناء ، يكون معارضا لعموم قوله عليه‌السلام في الذيل « كلّ شيء شكّ فيه وقد جاوزه إلى غيره ».

الصورة الرابعة : أن يكون بين مورد الحكم في ناحية المنطوق وبينه في ناحية العام عموم من وجه ، مثل قوله : الجاري لا ينفعل ، وقوله : إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء ، وحيث إنّ نقيض أحد الأمرين اللذين بينهما العموم من وجه يكون غالبا بينه وبين عين الآخر أيضا عموم من وجه ، كان المفهوم من ذلك معارضا للعام بالعموم من وجه ، فيجري عليه حكم ذلك التعارض. نعم لو كان مورد المنطوق نقيضا لما هو أخصّ من مورد العام كان بينه وبين مورد العام عموم من وجه ، وكان مورد مفهومه أخصّ من مورد العام.

لكن على الظاهر أنّه لا يتصوّر له مثال فيما نحن بصدده من مفهوم المخالفة الذي هو مفهوم الشرط ونحوه ممّا يكون المنطوق فيه موافقا للعام ، حيث إنّه إنّما

__________________

(١) الظاهر أنّ مراده قدس‌سره بذلك تحريراته المخطوطة عن شيخه النائيني قدس‌سره. وعلى أي حال راجع فوائد الأصول ٣ : ١٧٠ وما بعدها ، وتعليق المصنّف قدس‌سره على ذلك في المجلّد السادس من هذا الكتاب.

(٢) وهي الحواشي الآتية في المجلّد الحادي عشر على فوائد الأصول ٤ : ٦٣٤ وما بعدها.

(٣) وسائل الشيعة ٦ : ٣٦٩ / أبواب السجود ب ١٥ ح ٤ ( نقل بالمضمون ).

٣٢٨

يكون مع حفظ العام في ظرف وجود الشرط وعدمه ، وذلك مثل أن يقول : الماء ينفعل بملاقاة النجاسة ، ثمّ يقول : الماء ينفعل إذا لم يكن كرّا ، أو يقول : أكرم العالم ، ثمّ يقول : أكرم العالم إذا لم يكن فاسقا ، فإنّ المفهوم في كلّ منهما وإن كان أخصّ من مورد العام ، فإنّه في الأوّل عدم الانفعال إذا كان كرّا وفي الثاني عدم وجوب إكرام العالم إذا كان فاسقا ، وواضح أنّ الأوّل أخصّ من العام الذي هو انفعال مطلق الماء ، والثاني أيضا أخصّ من العام الذي هو وجوب إكرام العالم ، إلاّ أنّ المنطوق في كلّ منهما أخصّ مطلقا من العام ، فإنّ الماء الذي ليس بكرّ أخصّ مطلقا من مطلق الماء ، وكذلك العالم الذي ليس بفاسق أخصّ مطلقا من مطلق العالم.

نعم يتصوّر له مثال بعيد وهو ما لو كان العنوان المأخوذ محفوظا في طرف المنطوق والمفهوم أعمّ مطلقا أو من وجه من العام ، وكان منطوق الشرط نقيضا لما هو أخصّ مطلقا من العام ، مثل أن يقول : أكرم العلماء ، ثمّ يقول : أكرم كلّ رجل أو كلّ علوي إذا لم يكن نحويا ، فإنّ الرجل أو العلوي الذي ليس بنحوي أعمّ من وجه من العام الذي هو العالم ، مع أنّ المفهوم الذي هو الرجل النحوي أو العلوي النحوي أخصّ مطلقا من العالم.

ثمّ لا يخفى أنّ مفهوم الأولوية دائما يكون من الموافق ولا يتصوّر فيه مفهوم المخالفة ، أمّا ما يستفاد من الواسطة في العروض كما في مثل حرمة الخمر لأنّه مسكر ، أو الواسطة في الثبوت كما في مثل حرمة الخمر لعلّة الاسكار ، فكما يتصوّر فيه الموافق فينتقل إلى كلّ مسكر أو كلّ ما وجدت فيه علّة الاسكار ، فكذلك يمكن أن يتأتّى فيه المفهوم المخالف ، وهو أنّ الخمر إذا لم يكن مسكرا ولم يكن فيه علّة الاسكار فليس بحرام ، وذلك من جهة أنّ الواسطة في العروض وكذلك الواسطة في الثبوت مطردة ومنعكسة ، فمفهوم الموافقة يتولّد من الاطراد ومفهوم المخالفة يتولّد من الانعكاس.

٣٢٩

نعم ، لو كانت العلّة هي إسكار الخمر كما في التغيير الذي هو علّة لنجاسة الماء فإنّها خاصّة بالماء ، ففي مثل ذلك لا تكون العلّة مطردة فلا يكون له مفهوم موافقة ، لكنّها منعكسة فيتولّد منها مفهوم المخالفة ، ويكون الحال في ذلك كما هو الحال في مثل إن كان الماء كرّا لم يتنجّس في أنّه لا يستفاد منه مفهوم الموافقة ، إذ لا تكون الكرّية مانعة من النجاسة في غير الماء المطلق. نعم يكون له مفهوم المخالفة ، وهو أنّ الماء إن لم يكن كرّا تنجّس بالملاقاة. أمّا حكمة التشريع فلا مفهوم له إذ ليست هي مطردة ولا منعكسة.

ثمّ لا يخفى أنّ المفهوم إذا كان في قبال العموم المخالف له لا بدّ أن يكون المنطوق مخالفا لذلك العام حتّى في مثل « إذا بلغ الماء كرّا لم ينجّسه شيء » (١) في قبال « خلق الله الماء طهورا » (٢) ، وحتّى في مثل احترم بيوت العلماء الذي يكون مفهومه احترام العلماء في قبال لا تكرم الفسّاق ، ومن الواضح أنّ المفهوم هو في الرتبة الثانية من المنطوق ، ولا يمكن الأخذ بالمنطوق في الرتبة الأولى مع وجود مخالفه الذي هو العموم ، فلا بدّ أوّلا من الإصلاح بين المنطوق وذلك العام المخالف ، ثمّ بعد استراحة المنطوق من معارضه يتسنّى لنا الأخذ بمفهومه ، وحينئذ فالعملية تجري أوّلا بين المنطوق ومخالفه من إعمال قواعد التعارض ، وأنّ النسبة بين ذلك المنطوق وذلك المخالف له هل هي العموم المطلق أو العموم من وجه أو التباين ، وإجراء الجمع بينهما بالطرق المقرّرة.

وبالجملة : أنّ فرض كون المفهوم معارضا للعموم فرض صوري لا واقعية له ، وإن شئت [ فقل ] إنّ فرض وجود المفهوم كدليل مستقلّ فرض صوري ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ١٥٨ / أبواب الماء المطلق ب ٩ ح ١ ، ٤ ، ٦ ( وفيه : إذا كان ... ).

(٢) وسائل الشيعة ١ : ١٣٥ / أبواب الماء المطلق ب ١ ح ٩.

٣٣٠

وليس في البين إلاّ نفس المنطوق ، وإجراء الحساب معه دون نفس المفهوم ، فلاحظ وتدبّر.

قوله : وأمّا توهّم أنّ عموم العلّة تكون مانعة عن انعقاد ظهور الكلام في المفهوم ، لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية ، فمدفوع بأنّ الصلاحية للقرينية إنّما تتحقّق في غير موارد الحكومة ، وأمّا فيها فيستحيل ذلك ، فإنّ قرينيته إنّما تكون عند حفظ موضوعها ، والمفهوم رافع لموضوعه بالفرض ، فكيف يمكن أن يكون هو مانعا عن الظهور في المفهوم ... الخ (١).

ربما يقال إنّه يمكن التأمّل في ذلك ، فإنّ المفهوم لو كان أوّلا وبالذات يحكم بأنّ خبر العادل ليس من قبيل الظنّ ، لكان حاكما على عموم العلّة ونحوها ، أمّا لو كان رفعه للموضوع في طول إثباته حجّية الظنّ الحاصل من خبر العدل المفروض كون عموم العام مانعا من حجّيته ، فلا يمكن حكومته عليه ، فلا يكون المقدّم هو المفهوم ، إلاّ إذا التزمنا بطريقة التخصيص.

ثمّ إنّ الذي يظهر ممّا حرّرناه عنه قدس‌سره في مسألة حجّية خبر الواحد (٢) هو إبطال طريقة التخصيص ، لكون العام متّصلا بالخاصّ ، فيكون من قبيل احتمال قرينية الموجود ، وأنّه قدس‌سره لم يعتمد في تقديم المفهوم إلاّ على طريقة الحكومة.

نعم ، هو قدس‌سره التزم في صحيحة إسماعيل بن جابر (٣) في قاعدة التجاوز (٤) بتقدّم المفهوم على العام المتّصل ، كما أنّه قدس‌سره في هذا المقام أيّد هذا المعنى وشيّده.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٥ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) راجع المجلّد السادس من هذا الكتاب ، الحاشية على فوائد الأصول ٣ : ١٧١.

(٣) وسائل الشيعة ٦ : ٣٦٩ / أبواب السجود ب ١٥ ح ٤.

(٤) لاحظ فوائد الأصول ٤ : ٦٣٣ وما بعدها / المبحث الرابع. وحواشي المصنّف قدس‌سره عليه تأتي في المجلّد الحادي عشر.

٣٣١

قوله : وأمّا الثاني فلأنّ الحكم العمومي إنّما يكون ناظرا إلى إثبات الحكم لافراده ليس إلاّ ، وأين ذلك من إثبات العدل للشرط المذكور في القضية الشرطية ... الخ (١).

يمكن التأمّل في ذلك ، بأنّ من يدّعي تقدّم العام المتّصل على المفهوم لا يحتاج إلى إثبات صراحة العام بإثبات العدل ، بل يكفي في ثبوت العدل هو إثباته الحكم في جميع أفراده ، فيكون مقدّما على ما دلّ عليه المنطوق من الانحصار ، سيّما بعد فرض كون عموم العام وضعيا وكون الانحصار بالاطلاق ، وبعد فرض كون مرجع عدم الانحصار هو كون الشرط هو القدر الجامع بين الشرطين الذي هو مقتضى العموم.

وأمّا ما حاوله المحشّي (٢) من كون ذلك من قبيل تقدّم أصالة الظهور في القرينة ، سواء كانت متّصلة أو كانت منفصلة ، على أصالة الظهور في ذي القرينة ، فإنّ هذا المعنى وهو كون أصالة الظهور في القرينة ولو كان في غاية الضعف مقدّما وحاكما على أصالة الظهور في ذي القرينة ولو كان بمنتهى قوّة الظهور ، قد أسّسه وحقّقه شيخنا قدس‌سره في أوائل التعادل والتراجيح (٣) ـ وسيأتي منه قدس‌سره قوله : لما مرّ من أنّ الأصل الجاري في القرينة الخ (٤). وفي ص ٤١١ (٥) تعرّض لذلك تفصيلا ـ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٧ ـ ٣٨٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٨٦.

(٣) أجود التقريرات ٤ : ٢٨٥ ـ ٢٨٦ ، فوائد الأصول ٤ : ٧٢٠.

(٤) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٩ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٥) حسب الطبعة القديمة ، راجع أجود التقريرات ٢ : ٤٤٢ ، وسيأتي تعليق للمصنّف قدس‌سره على ذلك في الصفحة : ٤٥٧ من هذا المجلّد.

٣٣٢

وهناك (١) علّقنا عليه ما مفاده التأمّل في هذه القاعدة ، وأنّ نفس ظهور نفس القرينة ليس هو عبارة عن القرينية بل ليس ظهورها إلاّ في نفس معناها ، وأنّه لو قدّمناه لكان قرينة والتقديم منحصر في الأظهرية ، مثلا لو قال رأيت أسدا يرمي فلفظ الأسد ظاهر في حدّ نفسه في الحيوان المفترس ولفظ يرمي أيضا ظاهر في رمي النبال ، فكلّ منهما لو أبقيناه على ظاهره لكان موجبا للتصرّف في الآخر ، فيكون كلّ منهما صالحا للقرينية على الآخر.

وكذلك الحال فيما نحن فيه ، فإنّ كلا من العام في دلالته على العموم ، والمنطوق في دلالته على الانحصار ، صالح للتصرّف في الآخر ، فلا يتعيّن القرينية لأحدهما على الآخر إلاّ بالأظهرية ، فلا وجه للقول بأنّ ظهور المنطوق قرينة على التصرّف في العموم ، إذ ليس هو بأولى من العكس ، خصوصا لو كان العموم وضعيا ودلالة المنطوق على المفهوم بالاطلاق ومقدّمات الحكمة كما سيأتي في الحاشية الآتية (٢) من كون العموم الوضعي مقدّما على العموم الاطلاقي.

وبالجملة : ينبغي أن يكون المدار على الأظهرية حتّى لو كان الخاصّ والعام كلاهما وضعيين ، فما لم يكن الخاص في دلالته على الخصوص أقوى من دلالة العام على العموم لا يكون مقدّما على العام ، بل ربما كان الأمر بالعكس ، هذا.

ولكن لا يخفى أنّ تقديم العام على المفهوم المفروض كونه أخصّ منه بجعل الشرط أحد الأمرين غير ممكن ، لأنّ ذلك أعني كون الشرط هو أحد الأمرين إنّما يمكن فيما لا يكون الواقع منحصرا بالأمرين المذكورين ، بل كان

__________________

(١) في المجلّد الثاني عشر في الحاشية على فوائد الأصول ٤ : ٧٢٠.

(٢) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٨٨.

٣٣٣

وجود غيرهما ممكنا كما لو كان المفهوم أعمّ من وجه من العام ، مثل أخبار الكرّ بالنسبة [ إلى ] مثل قوله : « الماء الجاري لا ينجّسه شيء » (١) ، فإنّهما يتعارضان في الجاري القليل ، فلو قدّمنا أخبار الجاري على المفهوم ، وحكمنا بأنّ الجاري القليل لا يتنجّس ، فإنّه حينئذ يصحّ جعل الشرط أحد الأمرين من الكرّ والجاري ، ويتحقّق المفهوم بانتفائهما معا ، بأن يكون الماء ليس بكرّ ولا بجار وهو القليل المحقون ، فيثبت فيه الحكم بالانفعال.

وهكذا الحال فيما لو كان الدليل المقابل للمفهوم أخصّ منه مثل قوله : أكرم العلماء إن كانوا عدولا ، في قبال قوله : أكرم فسّاق الفقهاء ، فإنّ مفهوم الأوّل هو لا تكرم العلماء إن كانوا فسّاقا ، ويكون قوله أكرم فسّاق الفقهاء مخصّصا للمفهوم ، وتكون النتيجة حينئذ أكرم العلماء إن كانوا عدولا أو كانوا فقهاء ، بخلاف ما لو كان الواقع منحصرا بالأمرين المذكورين فإنّه حينئذ لو كان الشرط هو أحدهما كان اشتراطه لغوا صرفا ، إذ لا يخلو الواقع من أحدهما كما فيما نحن فيه من فرض كون المفهوم الذي هو نقيض المنطوق أخصّ من العام ، كما في قوله : « إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » بالقياس إلى قوله : « خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شيء » (٢) وكما في قوله : الخبر الواحد لا يكون حجّة إذا كان المخبر به فاسقا الذي هو المتحصّل من الآية الشريفة (٣) لو لم نقل بالحكومة ، فإنّ مقابله عموم المنع عن العمل بالظّن ، سواء كان هو عموم العلّة أو كان هو عموم قوله

__________________

(١) تقدّم استخراجه في الصفحة : ٣٢٤.

(٢) تقدّم استخراجه في الصفحة : ٣٣٠.

(٣) الحجرات ٤٩ : ٦.

٣٣٤

تعالى : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً )(١) فإنّ مفهوم تلك الجملة الشرطية هو أنّ الخبر يكون حجّة إن لم [ يكن ] المخبر فاسقا بل كان عادلا ، فهذا العموم في أمثال هذه الأمثلة لو قدّمناه على المفهوم تكون النتيجة أنّ الشرط هو أحد الأمرين من وجود الشيء الذي هو إخبار الفاسق أو كون الماء كرّا ، ونقيضه الذي هو عدم إخبار الفاسق أعني إخبار العادل ، أو هو عدم الكرّية أعني القلّة ، ومن الواضح أنّه لا معنى ولا محصّل لكون الشرط هو أحد الأمرين اللذين لا يخلو الواقع عنهما ، فإنّ القدر الجامع بين القلّة والكثرة هو مطلق الماء ، ولا معنى لقوله إنّ الماء لا ينفعل بشرط تحقّق القدر الجامع بين كونه كثيرا وكونه غير كثير ، إذ ليس القدر الجامع بينهما إلاّ مطلق الماء الذي هو عين الموضوع في القضية المتضمّنة للشرط. وكذا لا معنى لقوله إنّ خبر الواحد ليس بحجّة بشرط تحقّق أحد الأمرين من كون المخبر فاسقا أو كونه عادلا ، لأنّ مرجع ذلك إلى أنّ الشرط هو القدر الجامع بينهما ، وليس القدر الجامع بينهما إلاّ الخبر نفسه الذي هو موضوع الحكم في القضية المقيّدة بالشرط.

وبالجملة : أنّ من يريد تقديم العام في أمثال هذه الأمثلة لا يمكنه التصرّف في المنطوق بما هو مفاد لفظة أو على وجه يكون الشرط هو أحد الأمرين ، بل لا بدّ له أن يرفع اليد عن أصل مفاد الاشتراط ، وذلك في غاية البعد والركاكة. أمّا التصرّف في المنطوق بحمل الشرط على كونه قيدا في الموضوع بحيث يكون المتحصّل أنّ الماء الكرّ لا ينفعل ، أو الخبر الذي يكون مخبره فاسقا لا يقبل ، فهذا أيضا موجب للغوية التقييد ، إذ لو كان وجوده مساويا لعدمه لكان ذكره لغوا ، ولسنا نريد أنّ تقييد الموضوع يفيد الانتفاء عند الانتفاء ، بل نريد أنّ تقييد الماء

__________________

(١) النجم ٥٣ : ٢٨.

٣٣٥

الذي لا ينفعل بكونه كرّا لا يجتمع مع التصرّف فيه بأنّ القليل أيضا لا ينفعل ، لأنّ هذه التوسعة موجبة للغوية التقييد.

ومع قطع النظر عن ذلك نقول : إنّ ظهور الشرط في رجوعه إلى الحكم لا إلى الموضوع أقوى من ظهور العام في العموم ، فيكون هو المقدّم على العموم دون العكس. ثمّ لو سلّمنا رجوع القيد إلى الموضوع ليكون المتحصّل أنّ الماء الكرّ لا ينفعل ، لكان ذلك بالقياس إلى قوله الماء لا ينفعل من قبيل المقيّد بالنسبة إلى المطلق ، فيكون مقيّدا لذلك المطلق ، لأنّ ظهور التقييد في ضيق دائرة الموضوع أقوى من ظهور المطلق في توسعة الدائرة ، وإن لم نقل بحجّية مفهوم القيد والوصف.

ويحذو حذو هذه الوجوه التصرّف في أصل الشرط بجعله غير مسوق للشرطية ، ليكون على حذو قوله تعالى : ( إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً )(١) كما قيل في آية النبأ (٢) من التقييد بالفاسق تنبيها على فسق الوليد.

وأمّا ما أجاب به شيخنا قدس‌سره فيما حكي عنه (٣) من كون هذا الظهور وضعيّا ، ففيه تأمّل ، أمّا أوّلا : فلإمكان القول بأنّ مفاد لفظ الشرط ليس هو إلاّ الربط ، وكون المربوط به هو الحكم أو موضوع الحكم أمر آخر خارج عن وضع الأداة.

نعم هي ظاهرة في الرجوع إلى الحكم. بل قد يقال : إنّ رجوعها إلى الموضوع رجوع بالأخرة إلى الحكم ، إذ لا معنى لتقييد الموضوع إلاّ بلحاظ

__________________

(١) النور ٢٤ : ٣٣.

(٢) الحجرات ٤٩ : ٦.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٧.

٣٣٦

حكمه كما مرّ مشروحا في باب المفاهيم (١) ، فراجع.

وأمّا ثانيا : فلأنّ العام أيضا يمكن أن يكون ظهوره وضعيا ، فيتصادم الظهوران. نعم إنّ شيخنا قدس‌سره بنى على احتياج عموم العام إلى مقدّمات الحكمة على كلّ حال ولو بالقياس إلى مصبّ العموم.

وأمّا رواية إسماعيل بن جابر فهي المشتملة على قوله « قال عليه‌السلام إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (٢).

فإنّ مفهوم قوله عليه‌السلام : « بعد ما قام » وإن كان هو أنّ الشاكّ في السجود يعتني إذا لم يدخل في القيام ، إلاّ أنّ هذا المفهوم ليس أخصّ مطلقا من القضية العامّة المتّصلة به ، أعني قوله : « كلّ شيء شكّ فيه » الخ ، بل بينهما عموم من وجه ، لأنّ نقيض الخاصّ الذي هو الدخول بالقيام أعمّ من وجه من عين العام المستفاد من قوله عليه‌السلام « جاوزه ودخل في غيره » فإنّه بعد تطبيقه على السجود الذي هو أحد صغريات هذه الكبرى يكون المستفاد منه أنّ الشاكّ في السجود وقد دخل في غيره لا يعتني ، سواء كان ذلك الغير هو القيام ، أو كان هو النهوض إلى القيام ، وبينه وبين مفهوم قوله « بعد ما قام » وهو الشكّ في السجود إن لم يقم ، عموم من وجه ، لانفراد الثاني بصورة الشكّ في السجود قبل الدخول في شيء أصلا ، وانفراد الأوّل في صورة الشكّ في السجود بعد الدخول في القيام ، واجتماعهما في صورة الشكّ في السجود عند الدخول في النهوض ، لأنّه يصدق أنّه لم يقم ، وأنّه قد دخل في غير السجود.

__________________

(١) راجع الحاشية المتقدّمة في الصفحة : ٥٨ وما بعدها.

(٢) وسائل الشيعة ٦ : ٣٦٩ / أبواب السجود ب ١٥ ح ٤.

٣٣٧

لكن لا يمكن تقديم هذا العموم على المفهوم ليكون المتحصّل هو كون الشرط في المضي وعدم الاعتناء بالشكّ في السجود هو أحد الأمرين من الدخول في القيام أو الدخول في النهوض ، لأنّهما من قبيل الأقل والأكثر الذي هو الدخول في القيام ، ولا محصّل لكون الشرط هو أحد الأمرين اللذين يكون أحدهما هو الأقل والآخر هو الأكثر ، لأنّ ذكر الأكثر حينئذ يكون لغوا ، لعدم إمكان استناد الحكم إليه لكونه مسبوقا دائما بالأقل ، وحينئذ ففي مثل هذه الصورة يتعيّن تقديم المفهوم على الدليل المقابل وإن كان بينهما عموم من وجه.

والأولى أن يقال : إنّه يجمع بينهما بطريقة الواو ، فيكون المدار حينئذ على الأكثر وهو الدخول في القيام ، اللهمّ إلاّ أن يدّعى أنّ ذكر القيام من باب كونه الغالب ، وأنّ الشرط في الحقيقة هو الدخول في النهوض ، فتأمّل.

والفرق بين مثل هذه الرواية وبين ما تقدّم من مثل أخبار الكرّ بالقياس إلى قوله خلق الله الماء طهورا ، ومثل القضية الشرطية من آية النبأ بالقياس إلى عموم المنع عن العمل بالظنّ ، في كون نقيض الخاصّ أخصّ من العام في تلك الأمثلة ، وفي مثل هذه الرواية يكون نقيض الخاصّ أعمّ من وجه من العام ، هو ما تقدّمت (١) الاشارة إليه من كون العام في تلك الأمثلة محفوظا في كلّ من النقيضين ، المنطوق والمفهوم ، ولا ريب أنّ نقيض الخاصّ المحفوظ معه العام يكون أخصّ مطلقا من العام ، بخلاف الرواية المزبورة فإنّ العام فيها لم يؤخذ في منطوق القضية الشرطية ولا مفهومها ، وحينئذ تدخل في القاعدة القائلة إنّ نقيض الأخصّ أعمّ من وجه من عين الأعمّ ، فلاحظ وتأمّل.

__________________

(١) في الصفحة ٣٢٦ ـ ٣٢٧.

٣٣٨

قوله : فلا يكون لتقدّم أحدهما على الآخر وجه من دون مرجّح خارجي ... الخ (١).

كما مرّ (٢) في رواية إسماعيل بن جابر. وفي الحاشية أنّ من جملة المرجّحات كون أحد العامين وضعيا والآخر إطلاقيا ، قال : وذلك لما حقّقناه من عدم احتياج التمسّك بالعموم إلى إجراء مقدّمات الحكمة الخ (٣). حقّق ذلك شيخنا قدس‌سره في أوائل التعادل والتراجيح (٤) أنّ العموم الوضعي مقدّم على الاطلاقي ، وقد حصل لنا هناك تأمّل في ذلك (٥) ، فراجعه وراجع مسألة دوران رجوع القيد إلى المادّة ورجوعه إلى الهيئة في باب الأوامر ص ١٣٦ من هذا الكتاب (٦).

ولا يخفى أنّ مثل أكرم العلماء في قبال قوله أكرم الناس إن كانوا عدولا يكون النسبة بين المفهوم من الثانية والمنطوق من الأولى عموما من وجه. ويمكن الجمع بمفاد لفظة أو ، فلا يسقط وجوب الاكرام إلاّ عند انتفاء الوصفين العلم والعدالة. ويمكن الجمع بمفاد الواو فينحصر وجوب الاكرام بالعالم العادل. ولعلّ الأوّل أولى ، لأنّ الثاني يوجب حمل قوله أكرم الناس إن كانوا عدولا على ما هو بمنزلة الفرد النادر وهو الجامع لوصفي العلم والعدالة ، وذلك وإن كان كثيرا في حدّ نفسه ، إلاّ أنّه بالنسبة إلى مفاد أكرم العدول من الناس يكون قليلا نسبيا ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٨ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٢) في الصفحة : ٣٣٧.

(٣) أجود التقريرات ٢ ( الهامش ) : ٣٨٨.

(٤) فوائد الأصول ٤ : ٧٢٩ ـ ٧٣٠ ، أجود التقريرات ٤ : ٢٩٣.

(٥) راجع المجلّد الثاني عشر ، الحاشية على فوائد الأصول ٤ : ٧٣٠.

(٦) حسب الطبعة القديمة غير المحشاة ، راجع أجود التقريرات ١ : ٢٣٤ من الطبعة الحديثة.

٣٣٩

فلاحظ. ومثل ذلك قوله : الجاري لا ينفعل ، وقوله : الماء إذا بلغ كرّا لا ينفعل.

قوله : وأمّا المخالفة البدوية كمخالفة المقيد والمطلق أو العام والخاص فهي لا تعدّ مخالفة حتّى تشملها الأخبار المانعة ، كيف ونقطع بصدور كثير من الأخبار المخالفة بهذا المعنى منهم صلوات الله عليهم ، فكيف يصحّ قولهم عليهم‌السلام : لم نقله (١) أو زخرف (٢) أو باطل (٣) وغير ذلك (٤).

هذه العبارة لو ضممناها إلى سابقتها ، أعني قوله : فإنّ سيرة العلماء خلفا عن سلف قد جرت على العمل بالأخبار الموجودة في المجاميع المعتبرة ، مع أنّه لا يكون فيها خبر لا يكون على خلافه عموم كتابي ولو كان مثل عمومات الحل ونحوها الخ ، لحصل لنا القطع بأنّ مراده قدس‌سره من السابقة أعني قوله : لا يكون فيها خبر لا يكون على خلافه عموم كتابي الخ ، هو الكثرة المشار إليها بقوله في العبارة المتّصلة بها أعني قوله : كيف ونقطع بصدور كثير الخ. والذي حرّرته عنه قدس‌سره في هذا المبحث مختصر جدّا ، وهو مقصور على أنّ المخالفة بالاطلاق والتقييد والعموم والخصوص لا تعدّ مخالفة. وأخصر منه ما حرّره المرحوم الشيخ محمّد علي (٥) فراجع.

وعلى كلّ حال ، أنّ هذه الدعوى وهي كثرة الأخبار المخالفة لعموم الكتاب

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١١ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١٥ ( وفيه : فلم أقله ).

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٠ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ١٢ ، ١٤.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٣ / أبواب صفات القاضي ب ٩ ح ٤٨.

(٤) أجود التقريرات ٢ : ٣٩٠ ـ ٣٩١ [ المنقول هنا موافق للنسخة القديمة غير المحشاة ].

(٥) فوائد الأصول ١ ـ ٢ : ٥٦١.

٣٤٠