الكافي - المقدمة

الكافي - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : الحديث وعلومه
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٢

وكان الصراع بين المدرستين يشتدّ تارة ويخفّ أو يتلاشى اخرى بحسب مواقف السلطة ومبتنياتها الفكريّة ، ولهذا نجد انتعاش المدرسة العقليّة في عهد المأمون ( ١٩٨ ـ ٢١٨ هـ ) لميله إليها ، وحتّى عهد الواثق ( ٢٢٧ ـ ٢٣٢ هـ ) ، ولمّا جاء المتوكّل ( ٢٣٢ ـ ٢٤٧ هـ ) أظهر ميله إلى المدرسة السلفيّة ، وأرغم الناس على التسليم والتقليد ، ونهاهم عن المناظرة والجدل ، وعمّم ذلك على جميع بلاد الإسلام (١) ، وسار على نهجه المعتمد والمعتضد (٢).

وممّن عرف من رجال المدرسة السلفيّة في بلاد الريّ الفضل بن غانم الخزاعي. ومن أنصار المعتزلة في الريّ قاضيها جعفر بن عيسى بن عبدالله بن الحسن بن أبي الحسن البصري ( م ٢١٩ هـ ) ، حيث كان يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن أيّام المحنة ببغداد.

ويكفي أنّ أشهر المعتزلة القاضي عبد الجبّار المعتزلي المولود بالريّ سنة ( ٣٢٥ هـ ) قبل وفاة ثقة الإسلام الكليني رحمه‌الله بأربع سنين قد تقلّد منصب قاضي القضاة في الريّ.

٤ ـ الزيديّة :

كان للزيديّة وجود في بلاد الريّ ، ويدلّ عليه دخول جماعة من أهل الريّ على الإمام أبي جعفر الجواد عليه‌السلام ببغداد ، وكان فيهم رجل زيديّ ، وجماعته لا يعلمون مذهبه ، فكشف لهم الإمام عليه‌السلام عن مذهبه (٣) ، ومن المستبعد أن يكون هو الزيدي الوحيد في تلك البلاد ، خصوصاً وأنّ الدولة العلويّة في طبرستان قد سيطرت على الريّ ، وفي قادتها من أعلام الزيديّة الكثير نظير عيسى بن محمّد العلوي أحد كبار العلماء في الريّ.

٥ ـ النجاريّة :

وهم أتباع الحسين بن محمّد النجار ، وقد افترقت بناحية الريّ إلى فرق كثيرة يكفّر بعضها بعضاً (٤) ، وقد عدّ المصنّفون في المقالات فرق النجاريّة من الجبريّة (٥) في حين‌

__________________

(١) راجع : تاريخ اليعقوبي ، ج ٢ ، ص ٤٨٤ ـ ٤٨٥ ؛ التنبيه والإشراف ، ص ٣١٤.

(٢) البداية والنهاية ، ج ١١ ، ص ٧٤ ؛ تاريخ الخلفاء ، ص ٢٩٤ و ٢٩٩.

(٣) الهداية الكبرى ، ص ٣٠٢ ؛ الخرائج والجرائح ، ج ٢ ، ص ٦٦٩ ، ح ١٢.

(٤) الفَرْقُ بين الفِرَق ، ص ٢٢.

(٥) الملل والنحل ، ج ١ ، ص ٩٥.

٢١

أنّهم وافقوا المعتزلة في كثير من المسائل.

وذكر الاسفراييني أنّ فرق النجاريّة في الريّ أكثر من عشر فرق ، إلاّ أنّه اكتفى بذكر أشهرها ، ومثله فعل الشهرستاني في الملل ، إذ ذكر ثلاث فرق فقط ، هي : « البرغوثيّة » و « الزعفرانيّة » و « المستدركة » (١).

٦ ـ المذاهب العامّيّة :

انحصر وجود المذاهب العامّيّة بالريّ في مذهبين ، وهما : المذهب الحنفي ، والشافعي. وأمّا المذهب المالكي فقد كان امتداده في المغرب الإسلامي بفضل تلامذة مالك بن أنس ، ولم يمتدّ إلى المشرق الإسلامي كثيراً ، وأمّا عن مذهب أحمد بن حنبل فهو أقلّ المذاهب الأربعة أتباعاً ، وآخرها نشأة ، ولم تكن له تلك القدرة العلميّة الكافية التي تسمح له بالامتداد خارج محيطه بغداد في عصر نشأته ، سيّما وأنّ أحمد بن حنبل لم يكن فقيهاً ، بل كان محدّثاً ؛ ولهذا أهمله الطبري ـ المعاصر لثقة الإسلام الكليني ـ في كتابه الشهير اختلاف الفقهاء ، الأمر الذي يفسّر لنا عدم امتداد فكر أتباعه في عصر الكليني إلى الريّ على الرغم من وقوف السلطة العبّاسيّة إلى جانب الحنابلة بكلّ قوة.

ومهما يكن فإنّ أغلب أهل الريّ كانوا من الحنفيّة والشافعيّة ، وأكثرهم من الأحناف ، كما صرّح به الحموي (٢). ثمّ انحسر الوجود العامّي في الريّ بعد سنة ( ٢٧٥ ه‍ ).

ونتيجة لهذا الخليط الواسع في الريّ ، من نواصب وزيديّة ومعتزلة وجبريّةوأحناف وشافعيّة ، فقد ظهر الكذّابون والمتروكون في تلك البلاد ، كما كثر المنجّمون في تلك البلاد بصورة واسعة.

٧ ـ المذهب الشيعي :

إنّ اتّفاق جميع من كتب في المقالات والفرق على أسبقيّة التشيّع على سائر المذاهب والفرق التي نشأت في الإسلام ، لهو دليل كافٍ على صدق ما تدّعيه الشيعة من عراقة مذهبها ، وكونه المعبّر الواقعي عن مضمون رسالة الإسلام ، ومن هنا حمل التشيّع عناصر‌

__________________

(١) راجع : فرق النجاريّة وآراءهم في كتاب الفَرق بين الفِرَق ، ص ٢٢ و ٢٥ و ٢٠٧ و ٢٠٨ و ٢٠٩ ؛ والملل والنحل ، ج ١ ، ص ٩٨ و ٩٩.

(٢) معجم البلدان ، ج ٣ ، ص ١١٧ و ١٢١.

٢٢

البقاء وأسباب الخلود على رغم العواصف العاتية التي وقفت حائلاً بوجه امتداده.

وهكذا كان للضغط السياسي المتواصل على الشيعة دورٌ في امتداد التشيّع خارج رقعته الجغرافيّة ، بحيث استطاع في الشرق أن يمصِّرَ مدناً ويبني دولة في الطالقان ، وأن يؤسّس في الغرب الإسلامي دولة كبرى لا زال أزهر مصر يشهد على فضلها وآثارها.

وبعد هذه المقدّمة الخاطفة لنرى كيف استطاع التشيّع أن يشقّ طريقه إلى الريّ بعد أن عرفنا نصبها وعداوتها لأهل البيت عليهم‌السلام ، فضلاً عمّا كان فيها من اتّجاهات مذهبيّة وطوائف مختلفة ، مضافاً لموقف السلطة المساند لهذا الإتّجاه أو ذاك ما خلا الشيعة؟

كانت الصفة الغالبة على أهل الريّ قبل عصر الكليني هي الامويّة السفيانيّة الناصبة ، مع تفشّي الآراء المتطرّفة والأفكار المنحرفة ، والفرق الكثيرة التي لا تدين بمذهب آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن لم يعدم الوجود الشيعي في الريّ ، وإنّما كان هناك بعض الشيعة من الرازيّين الذين اعتنقوا التشيّع تأثّراً بمبادئه ، وساعدهم على ذلك وجود بعض الموالي الشيعة من الفرس في الكوفة في زمان أمير المؤمنين عليه‌السلام ، مضافاً لمن سكن الريّ من شيعة العراق ، ومن استوطنها من أبناء وأحفاد أهل البيت عليهم‌السلام الذين جاؤوها هرباً من تعسّف السلطات. ويظهر من خلال بعض النصوص أنّ الشيعة فيها كانوا في تقيّة تامّة ، حتّى بلغ الأمر أنّ السيّد الجليل عبدالعظيم الحسني الذي سكن الريّ وكان من أجلاّء أصحاب الإمامين الهادي والعسكري عليهما‌السلام ، لم يعرفه أحد من شيعة الريّ إلى حين وفاته ، حيث وجدوا في جيبه ـ وهو على المغتسل ـ رقعة يذكر فيها اسمه ونسبه!

المبحث الثاني

بغداد سياسيّاً وفكريّاً في عصر الكليني‌

المطلب الأوّل : الحياة السياسيّة ببغداد‌

امتاز العصر العبّاسي الأوّل ( ١٣٢ ـ ٢٣٢ هـ ) بسيطرة العبّاسيّين على زمام الامور سيطرة محكمة ، وإدارة شؤون الدولة بحزم وقوّة ، بخلاف العصر العبّاسي الثاني الذي ابتدأ بمجي‌ء المتوكّل إلى السلطة وانتهى بدخول البويهيّين إلى بغداد سنة ( ٣٤٤ هـ ) حيث تدهورت فيه الأوضاع السياسيّة كثيراً ، لاسيّما في الفترة الأخيرة منه ، وهي التي‌

٢٣

عاشها الكليني ببغداد ، فلابدّ من إعطاء صورة واضحة للمؤثّرات السياسيّة والفكريّة التي أسهمت في تكوين رؤية الكليني للمجتمع الجديد وتساؤلاته التي حاول الإجابة عليها في كتابه الكافي ، فنقول :

يرجع تدهور الحياة السياسيّة ببغداد في عصر الكليني إلى أسباب كثيرة أدّت إلى سقوط هيبة الدولة من أعين الناس ، إليك أهمّها :

أوّلاً ـ نظام ولاية العهد :

وهو نظام سياسي عقيم ، وخلاصته : أن يعهد الخليفة بالخلافة لمن يأتي بعده مع أخذ البيعة له من الامّة كرهاً في حياته ، وهو بهذه الصورة يمثّل قمّة الاستبداد وإلغاء دور الامّة وغمط الحقوق السياسيّة لجميع أفرادها.

وممّا زاد الطين بلّة في العصر العبّاسي الثاني إعطاء ولاية العهد لثلاثة ، وهو ما فعله المتوكّل الذي قسّم الدولة على ثلاثة من أولاده ، وهم : المنتصر ، والمعتزّ ، والمؤيّد (١) ، ممّا فسح ـ بهذا ـ المجال أمامهم للتنافس ، ومحاولة كلّ واحد عزل الآخر من خلال جمع الأعوان والأنصار ، بحيث أدّى ذلك في بعض الأحيان إلى معارك طاحنة كما حصل بين الأمين والمأمون.

وهذا النظام وإن انتهى بعد قتل المتوكّل ، إلاّ أنّ البديل كان أشدّ عقماً ؛ إذ صار أمر تعيين الخليفة منوطاً بيد الأتراك لا بيد أهل الحلّ والعقد ، مع التزامهم بعدم خروج السلطة عن سلالة العبّاسيّين وإن لم يكن فيهم رجل رشيد.

ثانياً ـ عبث الخلفاء العبّاسيّين ولهوهم وسوء سيرتهم :

ممّا أدّى إلى تفاقم الأوضاع في هذا العصر انشغال الخلفاء العبّاسيّين بالعبث واللهو ، إلى حدّ الاستهتار بارتكاب المحرّمات علناً بلا حريجة من دين أو واعظ من ضمير.

وقد عُرِفَ عبثهم ومجونهم منذ عصرهم الأوّل ، فالمنصور العبّاسي ( ١٣٦ ـ ١٥٨ هـ ) مثلاً كان في معاقرته الخمر يحتجب عن ندمائه ؛ صوناً لمركزه ، في حين أعلن ولده المهدي ( ١٥٨ ـ ١٦٩ هـ ) ذلك ، وأبى الاحتجاب عن الندماء بل شاركهم (٢).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ، ج ٢ ، ص ٤٨٧ ؛ تاريخ الطبري ، ج ٩ ، ص ١٧٦ ، في حوادث سنة ٢٣٥ ه‍.

(٢) تاريخ الخلفاء ، ص ٢٢٢.

٢٤

وقد بلغ الأمر في العصر العبّاسي الأوّل أن ظهر من البيت الحاكم نفسه رجال ونساء عرفوا بالخلاعة والمجون والطرب والغناء ، كإبراهيم بن المهدي المطرب العبّاسي الشهير ، والمغنّية الشهيرة عُلَيَّة بنت المهدي العبّاسي واخت هارون اللارشيد. حتّى إذا ما أشرف عصرهم الأوّل على نهايته بالواثق ( ٢٢٧ ـ ٢٣٢ هـ ) تفشّى الغناء والطرب والمجون بين أرباب الدولة.

ثالثاً ـ مجي‌ء الصبيان إلى الحكم :

من آفات هذا العصر التي أدّت إلى انتكاسات سياسيّة خطيرة مجي‌ء الصبيان إلى السلطة حتّى صاروا العوبة بيد النساء والأتراك والوزراء والجند وغيرهم من رجال الدولة ، نظير المقتدر بالله ( ٢٩٥ ـ ٣٢٠ هـ ) الذي كان عمره يوم وُلي الخلافة ثلاث عشرة سنة (١) ؛ ولهذا استصباه الوزير العبّاس بن الحسن حتّى صار العوبة بيده ، وكان صبيّاً سفيهاً ، فرّق خزينة الدولة على حظاياه وأصحابه حتّى أنفدها (٢).

رابعاً ـ تدخّل النساء والخدم والجواري في السلطة :

يرجع تاريخ تدخّل النساء في شؤون الدولة العبّاسيّة إلى عصرها الأوّل ، وتحديداً إلى زمان الخيزران زوجة المهدي العبّاسي ( ١٥٨ ـ ١٦٩ هـ ) التي تدخّلت في شؤون دولته ، واستولت على زمام الامور في عهد ابنه الهادي ( ١٦٩ ـ ١٧٠ هـ ) (٣) ، وكذلك في هذا العصر حيث تدخّلت قبيحة امّ المعتزّ ( ٢٥٢ ـ ٢٥٥ هـ ) في شؤون الدولة (٤).

واستفحل أمر النساء والخدم في عهد المقتدر ( ٢٩٥ ـ ٣٢٠ هـ ) ، قال ابن الطقطقي : « كانت دولته تدور امورها على تدبير النساء والخدم ، وهو مشغول بلذّته ، فخربت الدنيا في أيّامه ، وخلت بيوت الأموال » (٥).

وذكر مسكويه ما كان لقهرمانات البلاط العبّاسي من دور كبير في رسم سياسة الدولة (٦).

__________________

(١) تاريخ الطبري ، ج ١٠ ، ص ١٢٩.

(٢) البداية والنهاية ، ج ١١ ، ص ١١٩.

(٣) تاريخ الطبري ، ج ٦ ، ص ٤٢١ ـ ٤٢٢ ؛ فتوح البلدان ، ج ٢ ، ص ٣٣٦.

(٤) تاريخ الطبري ، ج ٧ ، ص ٥٢٤ ، ٥٢٥ ، ٥٢٦ ، ٥٢٩ ، ٥٣٩ ، ٥٤٠.

(٥) الفخري في الآداب السلطانيّة ، ص ٢٦٢.

(٦) تجارب الامم ، ج ١ ، ص ٤٤.

٢٥

خامساً ـ تدخّل الأتراك في سياسة الدولة وتحكّمهم في مصير العبّاسيّين :

من الامور البارزة في تاريخ هذا العصر ظهور العنصر التركي وسيطرته على مقاليد الامور ، الأمر الذي يعبّر لنا عن ضعف السلطة المركزيّة وتدهورها ؛ لانشغالهم بلهوهم ومجونهم ، بحيث نتج عن هذا سيطرة الأتراك على الدولة وتدخّلهم المباشر في رسم سياستها ، ويرجع تاريخ تدخّلهم في ذلك إلى عهد المعتصم ( ٢١٨ ـ ٢٢٧ هـ ) ؛ لأنّه أوّل من جلبهم إلى الديوان ، ثمّ صار جلّ اعتماده عليهم في توطيد حكمه ، فانخرطوا في صفوف الجيش ، وترقّوا إلى الرتب والمناصب العالية ، فقويت شوكتهم إلى أن تفرّدوا بالأمر غير تاركين لسادتهم الخلفاء سوى سلطة اسميّة ، وأصبح الخليفة كالأسير بيد حرسه.

وقد عانى بنو العباس من العنصر التركي وبال ماجنته أيديهم ، وذاقوا منهم الأمرَّين ، حتّى صار أمر البلاد بأيديهم يقتلون ويعزلون وينصبون من شاؤوا.

وأمّا في عهد المستعين بالله ( ٢٤٧ ـ ٢٥٢ هـ ) ، غَلَب اوتامش ابن اخت بغا الكبير على التدبير والأمر والنهي (١) ، وكان المستعين العوبة بيد وصيف ، وبغا الكبير ، ثمّ خلعوه ، وبايعوا المعتزّ ، ثمّ بدا لهم قتل المستعين ، فذبحوه كما تذبح الشاة ، وحملوا رأسه إلى المعتزّ (٢). وكذا المعتزّ ( ٢٥٢ ـ ٢٥٥ هـ ) ، فقد غُلِب على الأمر في عهده ، وتفرّد بالتدبير صالح بن وصيف ، وهو الذي خلع المعتزّ وقتله حيث أمر الأتراك بالهجوم عليه (٣).

وأمّا المهتدي ( ٢٥٥ ـ ٢٥٦ هـ ) فقد خلعه الأتراك وهجموا على عسكره ، فأسروه وقتلوه. وأمّا المقتدر ( ٢٩٥ ـ ٣٢٠ هـ ) فقد بايعه الأتراك وعزلوه ، ثمّ أعادوه أكثر من مرّة.

وأما القاهر بالله ( ٣٢٠ ـ ٣٢٢ هـ ) فسرعان ما خلعوه من السلطة ، وسملوا عينيه بمسمار محمي حتّى سالتا على خدّيه. وكذا الراضي ( ٣٢٢ ـ ٣٢٩ هـ ) ومن جاء بعده كالمتّقي ( ٣٢٩ ـ ٣٣٣ هـ ) ، والمستكفي ( ٣٣٣ ـ ٣٣٤ هـ ) الذي دخل البويهيّون في زمانه إلى بغداد ، حيث سملت أعينهم جميعاً.

__________________

(١) التنبيه والإشراف ، ص ٣١٥.

(٢) تاريخ الطبري ، ج ٩ ، ص ٣٤٨ و ٣٦٣ و ٣٨٩ و ٣٩٠ ؛ تاريخ اليعقوبي ، ج ٢ ، ص ٤٩٩.

(٣) التنبيه والإشراف ، ص ٣١٦.

٢٦

سادساً ـ تدهور الوزارة :

مرّت الوزارة في ظلّ الدولة العبّاسيّة في هذا العصر بتجارب قاسية ، وثبت فشلها في عصر الكليني ببغداد ؛ إذ أخفق الوزراء في أعمالهم ، ولم يحسنوا القيام بأعباء وزاراتهم ، وكان همّهم الاستحواذ على أكبر قدر من الأموال ، غير آبهين بشؤون الدولة ، وأمن الناس ، بل كانوا إلباً مع الأتراك في معظم ما حصل من عزل وتنصيب! ويكفي مثالاً على ما وصلت إليه الوزارة في زمان ثقة الإسلام ببغداد ما ذكره الصابي بشأن وزراء المقتدر كأبي الحسن بن الفرات الذي ولي الوزارة ثلاث دفعات ( ٢٩٦ ، ٢٩٩ و ٣٠٦ هـ ) ، وكان يُعزل بعد كلّ مرّة ويُهان ويحبس ويؤتى بوزير جديد ، ثمّ يعزل الوزير الجديد ويهان ويحبس ، ويعاد ابن الفرات للوزارة من جديد ، وهكذا حتّى قتل بعد عزله للمرّة الثالثة وقطعوا رأسه ورأس ولده المحسن ورموا جسديهما في دجلة (١).

سابعاً ـ الثورات الملتزمة والحركات المتطرّفة التي أضعفت السلطة :

بما أنّ الحديث عن هذه الثورات والتي أحاطت بالدولة من كلّ مكان يخرجنا عن أصل الموضوع ، فسنشير إلى أهمّها كالآتي :

١ ـ الثورات العلويّة : وهي كثيرة لا سيّما في مطلع ذلك العصر التي امتدّت من الطالقان شرقاً ، في حدود سنة ( ٢٥٠ هـ ) ، وإلى الدولة الفاطميّة غرباً في سنة ( ٢٩٦ هـ ) (٢).

٢ ـ حركة الزنج : التي فتَّت عضد الدولة العبّاسيّة كثيراً وراح ضحيّتها الوف الناس (٣).

٣ ـ حركة القرامطة : وهي من أعنف الحركات وأكثرها خطورة لا على الحكومة العبّاسيّة فحسب ، بل على الإسلام ومثله العليا أيضاً ، ولهذا تجرّد ثقة الإسلام الكليني رحمه‌الله للردّ على هذه الحركة (٤).

٤ ـ ظهور الخوارج المارقة في الموصل (٥).

__________________

(١) تحفة الامراء في تاريخ الوزراء ، ص ٢٢ و ٢٦ و ٢٧ و ٢٩ و ٣٠ و ٥١.

(٢) تاريخ الخلفاء ، ص ٣٠٤.

(٣) راجع : نشأة تلك الحركة ونهايتها في تاريخ الطبري ، ج ٩ ، ص ٤٧٠ ـ ٤٨٨ و ٥٢٠ ـ ٥٢٩ و ٥٣٤ ـ ٥٤٤ و ٥٨٩ ـ ٥٩٩ و ٦٢٨ ـ ٦٣٠ و ٦٥٤ ـ ٦٦١.

(٤) راجع : نشأة تلك الحركة ونهايتها في التنبيه والإشراف ، ص ٣٢٢ ـ ٣٢٥.

(٥) البداية والنهاية ، ج ١١ ، ص ٨٤.

٢٧

ثامناً ـ انفصال الأقاليم واستقلال الأطراف :

بسبب ضعف السلطة المركزيّة ببغداد وتدهورها شهدت الدولة الإسلاميّة في عصر الكليني انفصالاً واسعاً لبعض الأقاليم ، واستقلالاً كلّيّاً لجملة من الأطراف ، كما هو حال الدولة الامويّة في الاندلس والفاطميّة في شمال أفريقيا وغيرها.

وصفوة القول : إنّ العصر العبّاسي الثاني الذي عاش الكليني أواخره ببغداد ، كان عصراً مليئاً بالمشاكل السياسيّة للأسباب المذكورة ، وكان من نتائج ذلك أنْ عمّ الفساد ، وانتشرت الرشوة ، وضاعت الأموال ، وابتعد الناس عن الإسلام لا سيّما خلفاء المسلمين وقادتهم ووزرائهم ، وهذا ما دفع حماة الشريعة إلى ذكر فضائحهم وعتوّهم كلّما سنحت لهم الفرصة ، كما فعل الكليني رحمه‌الله الذي بيّن في كتاب القضاء من الكافي تهافت اصول نظريّات الحكم الدخيلة على الفكر الإسلامي ، فضلاً عمّا بيّنه في كتاب الحجّة وغيره من كتب الكافي من انحراف القائمين على تلك النظريّات الفاسدة بأقوى دليل ، وأمتن حجّة ، وأصدق برهان.

المطلب الثاني : الحياة الثقافيّة والفكريّة ببغداد‌

أوّلاً ـ مركزيّة بغداد وشهرتها العلميّة :

استمرّت الحياة الثقافيّة والفكريّة في عصر الكليني ببغداد بسرعة حركتها أكثر بكثير ممّا كانت عليه في العصر العبّاسي الأوّل. وقد ساعد على ذلك ما امتازت به بغداد على غيرها من الحواضر العلميّة ، بتوفّر عوامل النهضة الثقافيّة والفكريّة فيها أكثر من غيرها بكثير ؛ فهي من جهةٍ عاصمة لأكبر دولة في عصر الكليني ، امتدّت حدودها من الصين شرقاً إلى مراكش غرباً ومن جهةٍ اخرى تمثّل دار الخلافة وبيت الوزارة والإمارة ، ومعسكر الجند ، ورئاسة القضاء ، وديوان الكتابة ، وفيها بيت المال ، وإليها يجبى الخراج.

وأمّا موقعها الجغرافي فليس له نظير ، ويكفي أنّ أكبر الأقاليم الإسلاميّة يوم ذاك أربعة : بلاد فارس ، والحجاز ، ومصر ، والشام ، وهي أشبه ما تكون بنقاط متناسبة البعد وموزّعة على محيط دائرة إسلاميّة مركزها بغداد.

٢٨

ومن جهةٍ اخرى فقد ضمّت بغداد قبري الإمامين موسى بن جعفر ، ومحمّد بن عليّ الجواد عليهما‌السلام ، ومن هنا فهي مهبط روحي للشيعة ، وعامل جذب للعلماء من كلّ مذهب ، فلا تكاد تجد فقيهاً ، أو مفسّراً ، أو محدّثاً ، أو أديباً من سائر المسلمين إلاّوقد شدّ ركابه إليها في عصر ثقة الإسلام.

ثانياً ـ أوجه النشاط الثقافي والفكري والمذهبي ببغداد :

الملاحظ في ذلك العصر هو اجتماع جميع المذاهب الإسلاميّة ببغداد ، من الشيعة الإماميّة ، والزيديّة ، والواقفة ، والمالكيّة ، والشافعيّة ، والحنبليّة ، والظاهريّة ، والطبريّة ، والمعتزلة ، مع بروز عدد كبير من فقهاء كلّ مذهب ، حتّى تألّق الفقة الإسلامي تألّقاً كبيراً في هذا العصر ، وممّن برز في هذا العصر جملة من أعلام وفقهاء سائر المذاهب الإسلاميّة ؛

فمن المالكيّة : إسماعيل بن إسحاق القاضي ، وأبو الفرج عمر بن محمّد المالكي.

ومن الأحناف : عبدالحميد بن عبدالعزيز ، وأحمد بن محمّد بن سلمة.

ومن الشافعيّة : محمّد بن عبدالله الصيرفي ، ومحمّد بن أحمد بن إبراهيم الشافعي.

ومن الحنابلة الحشويّة والمجسّمة : ابن الحربي ، وعبدالله بن أحمد بن حنبل.

ومن الظاهريّة : محمّد بن عليّ بن داود ، وابن المغلّس أبو الحسن عبدالله بن أحمد.

ومن الطبريّة : مؤسّس المذهب الطبري محمّد بن جرير المفسّر.

ومن الشيعة الزيديّة : عبدالعزيز بن إسحاق ، أبو القاسم الزيدي ، المعروف بابن البقّال.

ومن الواقفة : محمّد بن الحسن بن شمّون ، أبو جعفر البغدادي.

ومن المعتزلة : الجبائي المعتزلي ، وكان رأساً في الاعتزال.

وأمّا الحديث عن فقهاء وعلماء الشيعة الإماميّة ببغداد فسيأتي في مكان لاحق.

كما ازدهرت علوم اللغة العربيّة ، وبرز عدد كبير من النحاة ، والادباء ، والكتّاب ، والشعراء من البغداديّين أو الذين وصلوا إليها وأملوا علومهم على تلامذتها ، من أمثال المبرّد ، وثعلب ، والزجّاج ، وابن السرّاج. ومن الشعراء : البحتري وابن الرومي وغيرهم ممّن لا حصر لهم ولا تنضبط كثرتهم ببغداد في عدد.

كما شهد النثر نقلة جديدة في تاريخه في هذا العصر ببغداد ، وهو ما يعرف في الدراسات الأدبيّة المعاصرة بالنثر الفنّي.

٢٩

ومن خصائص هذا العصر التطوّر الكبير الذي شهده الخطّ العربي ، حيث استُبدِل الخطّ الكوفي المعقّد بخطّ النسخ الرشيق السهل ، ممّا ساعد على سرعة الكتابة والاستنساخ. كما نشط المؤلّفون في هذا العصر في علوم الشريعة الإسلاميّة وغيرها كالتفسير ، والتاريخ ، والجغرافية ، والطب ، والهندسة ، والرياضيّات ، والفلك ، والفلسفة.

ومن معالم النشاط الثقافي في هذا العصر ببغداد الاندفاع نحو ترجمة الكتب النفيسة من السريانيّة ، واليونانيّة ، والفارسيّة إلى اللغة العربيّة.

ونتيجة منطقيّة لهذه الحركة الواسعة من التأليف والترجمة طفحت حوانيت الورّاقين بالكتب ، وما أكثر الورّاقين ببغداد في ذلك العصر ، حتّى كانت لهم سوق ببغداد تعرف بسوق الكتب.

هذا ، وقد بلغ شغف العلماء بالكتب في عصر الكليني درجة تفوق الوصف ، بحيث أنّ قسماً منها كان يكتب بماء الذهب ، ومنها ما يبطن بالديباج والحرير ، ومنها ما يجلّد بالأدَم الجيّد ، وكانت مكتبة سابور بن أردشير ، وزير بهاء الدولة البويهي التي أنشأها بالكرخ من بغداد سنة ( ٣٨١ هـ ) تضمّ الآلاف من تلك الكتب القيّمة ، ولكن الطائفيّة البغيضة جنت على حضارة الامّة ، فأحرقت بهمجيّتها تراثها العتيد الذي شيّدته العقول الشيعيّة ببغداد.

٣٠

الثاني

الهويّة الشخصيّة للشيخ الكلينيّ‌

توطئة :

هناك الكثير من الامور الغامضة في الحياة الشخصيّة لعباقرة الشيعة ، لم تزل طرق البحث موصدة أمام اكتشافها ؛ لعدم وجود ما يدلّ على تفاصيل تلك الحياة ، خصوصاً بعد حرق مكتبات الشيعة في القرن الخامس الهجري.

ولا يفيدنا ـ في المقام ـ علم الرجال إلاّشذرات من هنا وهناك. وأمّا علم التراجم فعلى الرغم من تأخّر نشأته ، وضياع اصوله الاولى ، لا زال إلى اليوم يفتقر إلى الاسس الموضوعيّة التي لابدّ من مراعاتها ، ولا يكفي وصول بعض مؤلّفاتهم أو كلّها لإزالة ذلك الغموض ؛ لاختصاص كلّ كتاب بموضوعه ؛ فكتب الحديث ـ مثلاً ـ لا تدلّنا على أصل مؤلّفيها ، ولا توقفنا على عمود نِسَبِهم ، ولا تاريخ ولاداتهم ، أو نشأتهم ، وهكذا في امور كثيرة اخرى تتّصل بهويّتهم ، وإن أفادت كثيراً في معرفة ثقافتهم ، وفكرهم ، وتوجّههم. وانطلاقاً من هذه الحقائق المرّة سنحاول دراسة الهويّة الشخصيّة للكليني بتوظيف كلّ ما من شأنه أن يصوِّر لنا جانباً من تلك الهويّة ؛ لنأتي بعد ذلك على دراسة شخصيّته العلميّة وبيان ركائزها الأساسيّة ، كالآتي :

أولاً ـ اسمه :

هو محمّد بن يعقوب بن إسحاق ، بلا خلاف بين سائر مترجميه ، إلاّمن شذّ منهم من علماء العامّة ، كالوارد في الكامل في التاريخ في حوادث سنة ( ٣٢٨ هـ ) حيث قال : « وفيها تُوفّي محمّد بن يعقوب ، وقُتِل محمّد بن عليّ أبو جعفر الكليني ، وهو من أئمّة الإماميّة ، وعلمائهم » (١).

__________________

(١) الكامل في التاريخ ، ج ٨ ، ص ٣٦٤.

٣١

وفي هذا الكلام على قصره ثلاثة أخطاء ، وهي :

الأوّل : أنّه جعل وفاة الكليني في سنة ( ٣٢٨ هـ ) وهو أحد القولين في وفاته ، ولكنّ الصحيح هو الثاني ، وسيأتى الكلام عن هذا في وفاة الكليني.

الثاني : الظاهر وقوع التصحيف في لفظ « وقتل » وأنّ أصله « وقيل » ، ويدلّنا على ذلك امور وهي :

١ ـ سياق العبارة ؛ إذ لو كان أصل اللفظ « وقتل » فالمناسب أن يذكر الجهة أو المكان ، لا أن يعيد الاسم مع الاختلاف في اسم الأب.

٢ ـ لا يوجد من قال بقتل الكليني قط.

٣ ـ ما ذكره ابن عساكر ( م ٥٧١ هـ ) في ترجمة الكليني : « محمّد بن يعقوب ، ويقال محمّد بن عليّ أبوجعفر الكليني ». (١) وابن عساكر مات قبل ابن الأثير تسع وخمسين سنة.

الثالث : في تسمية الشيخ الكليني بمحمّد بن عليّ ، وهو خطأ ، ولعلّه اشتبه بمحمّد بن عليّ بن يعقوب بن إسحاق أحد مشايخ النجاشي ؛ (٢) لتشابه الاسمين.

ولعلّ من الطريف أنّي لم أجد من اسمه محمّد بن عليّ بن إسحاق ، أبو جعفر الكليني في جميع كتب الرجال لدى الفريقين ، لا في عصر الكليني ، ولا في غيره. ومنه يتبيّن غلط ابن عساكر وابن الأثير ، وفي المثل : « أهل مكّة أعرف بشعابها ».

ثانياً ـ كنيته :

يكنّى الكليني رحمه‌الله بأبي جعفر بالاتّفاق ، كما أنّ مؤلّفي أهمّ كتب الحديث عند الإماميّة ـ وهم المحمّدون الثلاثة ـ كلّهم يكنّى بأبي جعفر.

ثالثاً ـ ألقابه :

عُرِف قدس‌سره بألقاب كثيرة يمكن تصنيفها ـ بحسب ما دلّت عليه ـ إلى صنفين ، هما :

__________________

(١) تاريخ دمشق ، ج ٥٦ ، ص ٢٩٧ ، الرقم ٧١٢٦.

(٢) رجال النجاشى ، ص ٣٩٨ ، الرقم ١٠٦٦.

٣٢

الصنف الأوّل ـ الألقاب المكانيّة :

وهي أربعة ألقاب ، دلّ الأوّل والثاني منها على المكان الذي ولد فيه ونشأ وتربّى وأخذ العلم في ربوعه ، بينما دلّ الثالث والرابع على المكان الذي استقرَّ فيه إلى أن وافاه الأجل :

١ ـ الكليني :

هو نسبة إلى « كُلَيْن » ، قرية من قرى الريّ. وهذا اللقب من أشهر ألقابه المكانيّة قاطبة ، ومن شهرته أنّه غلب على اسمه ، ولا ينصرف إلى أحد ـ عند الإطلاق ـ إلاّ إليه ، على الرغم ممّن تلقّبوا به قبله أو بعده.

جدير بالذكر أنّ قرية كلين اختلف العلماء في ضبطها كثيراً ، كما اختلفوا في تحديد موقعها الجغرافي أيضاً ، الأمر الذي لابدّ من تناوله ، فنقول :

تقع قرية كُلَيْن جنوب مدينة الريّ التابعة لطهران ، وهي تابعة ـ حسب التقسيم الإداري حالياً ـ إلى مدينة حسن آباد الواقعة على طريق ( طهران ـ قم ) على يسار القادم من طهران ، ويبعد مدخلها عن طهران بمسافة (٣٥) كيلومتراً ، وعن قم (٩١) كيلومتراً. ومن مدخل المدينة إلى رأس هذا الشارع مسافة (٤) كيلومترات.

٢ ـ الرازيّ :

هو نسبة إلى الريّ ، المعروفة حالياً باسم ( شهر ريّ ) أي مدينة الريّ ، وهي من الأحياء الكبيرة في جنوب العاصمة طهران ، وحرف ( الزاي ) من زيادات النسب.

وسبب تلقيب الكليني رحمه‌الله بالرازيّ إنّما هو على أساس تبعيّة قرية كلين لمدينة الريّ ، مع أنّ الكليني قد سمع الحديث من مشايخ الريّ ، وروى عنهم كثيراً جدّاً في الكافي ، ممّا يشير إلى انتقاله إلى الريّ في بداية حياته العلميّة ، وبقائه فيها إلى أن بلغ ذروة شهرته ، حتّى قال النجاشي في ترجمته : « شيخ أصحابنا في وقته بالريّ ، ووجههم » (١).

٣ ـ البغدادي :

وهو نسبة إلى بغداد عاصمة الدولة العبّاسيّة ، وهذا اللقب والذي يليه هما من ألقابه‌

__________________

(١) رجال النجاشي ، ص ٣٧٧ ، الرقم ١٠٢٦.

٣٣

المكانيّة المعبّرة عن تحوّله من الريّ إلى بغداد ، حيث بقي فيها زهاء عشرين عاماً إلى أن وافاه أجله المحتوم.

٤ ـ السلسلي :

عرف الكليني رحمه‌الله بلقب ( السلسلي ) نسبة إلى درب السلسلة ببغداد ، حيث نزل في هذا الدرب واتّخذ له مسكناً هناك ، ويقع هذا الدرب في منطقة باب الكوفة ؛ أحد أبواب بغداد الأربعة ، وهي تقع في الجانب الشرقي من بغداد في محلّة الكرخ.

الصنف الثاني ـ الألقاب العلميّة :

هي الألقاب التي عبّرت عن شخصيّة الكليني العلميّة ، ويمكن تقسيمها إلى قسمين ، هما :

القسم الأوّل ـ الألقاب العلميّة التي أطلقها عليه علماء العامّة :

وُصِفَ الكليني على لسان الكثير من علماء العامّة بأوصاف علميّة لا تقلّ عمّا وصفه به علماء الإماميّة ، ومن تلك الألقاب الكثيرة لقب « المجدّد » يعني : مجدّد المذهب الإمامي على رأس المائة الثالثة.

القسم الثاني ـ الألقاب العلميّة التي أطلقها عليه علماء الإماميّة :

لمّا كان الكليني رحمه‌الله على حدّ تعبير العلماء هو : « ... في العلم ، والفقه ، والحديث ، والثقة ، والورع ، وجلالة الشأن ، وعظم القدر ، وعلوّ المنزلة ، وسموّ الرتبة ، أشهر من أن يحيط به قلم ، ويستوفيه رقم » (١) ، فلا غرو في أن يوصف بما يليق بشأنه ، ولكثرة تداول بعض تلك الأوصاف صارت علماً له ، مثل : « رئيس المحدّثين » الذي تردّد على لسان العلماء كثيراً ، إلاّ أنّ شهرة الشيخ الصدوق بهذا اللقب جعلته ينصرف إليه عند الإطلاق ، خصوصاً مع قلّة استعماله بحقّ الكليني في الكتابات المعاصرة من جهة ، وغلبة لقبه العلمي الآخر عليه من جهة اخرى ، وهو لقب « ثِقة الإسلام » الذي صار علماً للكليني رحمه‌الله دون من سواه من علماء المسلمين.

__________________

(١) تنقيح المقال ، ج ٣ ، ص ٢٠٢.

٣٤

رابعاً ـ ولادته :

وسنبحثها من جهتين ، وهما :

١ ـ تاريخها : لم يؤرّخ أحد ولادة الشيخ الكليني ، ولهذا يتعذّر علينا معرفة مدّة عمره بالضبط. نعم ، يمكن تلمّس القرائن التي تفيدنا ـ على نحو التقريب ـ في تقدير عمره ، ومن تلك القرائن :

أ ـ إنّه وُصِفَ من المجدّدين على رأس المائة الثالثة ، والمجدّد لا يكون مجدّداً دون سنّ الأربعين عادة ، وهذه القرينة تعني أنّ ولادته كانت في حدود سنة ( ٢٦٠ ه‍ ).

ب ـ إنّه حدّث في الكافي عن بعض المشايخ الذين ماتوا قبل سنة ( ٣٠٠ هـ ) ، كالصفّار ( م ٢٩٠ هـ ) ، وأبوالحسن الجواني ( م ٢٩١ هـ ) والهاشمي البغدادي ( م ٢٩١ هـ ) ، وهذه القرينة تساعد التقريب المذكور.

ج ـ إنّه كان ألمع شخصيّة إماميّة في بلاد الريّ قبل رحلته إلى بغداد ، كما يدلّ عليه قول النجاشي : « كان شيخ أصحابنا ـ في وقته ـ بالريّ ، ووجههم ». (١) مع كثرة علماء الشيعة بالريّ في عصر الكليني ، وإذا علمنا أنّه غادر الريّ إلى العراق قبل سنة ( ٣١٠ هـ ) ، أمكن تقدير عمره يوم مغادرته بنحو خمسين عاماً أو أقلّ منه بقليل ، وهو العمر الذي يؤهّله لزعامة الإماميّة في بلاد الريّ.

د ـ إنّ غرض الكليني من تأليف الكافي هو أن يكون مرجعاً للشيعة في معرفة اصول العقيدة وفروعها وآدابها ، بناء على طلب قُدِّم له في هذا الخصوص ، كما هو ظاهر من خطبة الكافي ، ومثل هذا الطلب لا يوجّه إلاّلمن صَلُبَ عوده في العلم ، وعرفت كفاءته ، وصار قطباً يعتمد عليه في مثل هذا الأمر الخطير. وعليه ، فإن قلنا بأنّ سنة ( ٢٩٠ هـ ) هي بداية الشروع في تأليف الكافي بناء على وفاة بعض مشايخه حدود هذا التاريخ ، فلا أقلّ من أن يكون عمره وقت التأليف ثلاثين عاماً إن لم يكن أكثر من ذلك ، وهذه القرينة تقوّي ما تقدّم في تقرير ولادته في حدود سنة ( ٢٦٠ هـ ) أيضا.

ويستفاد ممّا تقدّم أنّ ولادته كانت في أواخر حياة الإمام العسكري عليه‌السلام أو بعدها‌

__________________

(١) رجال النجاشي ، ص ٣٧٧ ، الرقم ١٠٢٦.

٣٥

بقليل ، وأنّ عمره الشريف كان بحدود سبعين عاماً.

٢ ـ مكانها : الظاهر أنّ مكان ولادة الشيخ الكليني رحمه‌الله هو قرية كُلَين ، وهناك جملة من القرائن القويّة الدالّة على ذلك ، هي :

أ ـ النسبة إلى كلين ، بلحاظ أنّ الرحلة لا تكون إلى القرى عادة ، بل غالباً ما تكون من القرى إلى حواضر العلم والدين المشهورة ، وعليه فنسبته إلى تلك القرية يشير إلى ولادته فيها ، ونشأته الاولى بين ربوعها لا إلى رحلته إليها كما هو واضح.

ب ـ إنّ قبر والده الشيخ يعقوب لا زال قائماً إلى اليوم في قرية كلين.

ج ـ أخو الشيخ الكليني منسوب إلى كلين ، وهو من مشايخ ثقة الإسلام الكليني.

د ـ امّ الشيخ الكليني وأخوها ، وأبوها ، وعمّها ، وجدّها من أهل تلك القرية كما سيأتي في بيان نشأته واسرته.

هـ ـ مشايخه الأوائل الذين تلقّى العلم عنهم كانوا من كلين ، كما سيأتي في مشايخه.

وكلّ هذا ينفي القول بولادته في مكان آخر ، ومنه يتبيّن خطأ الاستاذ عبدالواحد الأنصاري بقوله : « ولد الكليني ببغداد » (١) ، ولعلّه اشتبه بوفاته في بغداد.

خامساً ـ نشأته وتربيته ، وعقبه ، وأصله :

نشأ في قرية كُلَين الصغيرة ، وانتسب إليها ، فكان أشهر أعلامها في تاريخها القديم والمعاصر. وعاش طفولته في بيت جليل أباً وامّاً وإخوة وأخوالاً ، وتلقّى علومه الاولى من رجالات العلم والدين من أهل تلك القرية ، لا سيّما من اسرته.

ويبدو أنّ لتلك القرية ثقلاً علميّاً معروفاً في ذلك الحين ؛ إذ خرّجت عدداً من الأعلام لا زال ذكرهم يتردّد في كتب الحديث والرجال ، كإبراهيم بن عثمان الكليني ، وأبي رجاء الكليني ، وغيرهما.

وإذا ما وقفنا على من برز من اسرة الكليني وأخواله علمنا أنّه لم يفتح عينيه على محيط مغمور ثقافيّاً ، وإنّما توفّرت له في محيطه واسرته الأسباب الكافية لأن تكون له نشأة صالحة أهّلته في أوان شبابه لأن يتفوّق على أقرانه ، فأبوه الشيخ يعقوب بن‌

__________________

(١) أثر الشيعة الجعفريّة في تطوير الحركة الفكريّة ببغداد ، ص ٦٣.

٣٦

إسحاق الكليني رحمه‌الله من رجالات تلك القرية المشار لهم بالبنان (١). وأمّا امّه فهي امرأة جليلة فاضلة ؛ حيث تلقّت تربية حسنة ، وعاشت حياتها قبل زواجها في بيت من البيوتات المعروفة في تلك القرية ، وهو البيت المشهور ببيت علاّن.

وبمناسبة الحديث عن الاسرة التي احتضنت ثقة الإسلام نودّ التذكير بأمرين :

أحدهما : سؤالنا القديم الذي مضى على طرحه زهاء عشرين عاماً : « هل للكليني ولد »؟ ولم يزل إلى الآن بلا جواب محكم ، حيث لم أجد ـ رغم التتبّع الطويل الواسع ـ ما يشير إلى النفي أو الإثبات بشكل قاطع.

والآخر : في خصوص أصل الكليني ؛ إذ لا دليل على انحداره من اصول فارسيّة ، خصوصاً وأنّ اسم جدّه الأعلى ليس من أسماء الفرس ، فاسم جدّ البخاري صاحب الصحيح مثلاً هو « بردزبه » ، وهو من أسماء المجوسيّة ، ولا يكفي الانتساب إلى كلين والولادة فيها على تثبيت الأصل الفارسي. كما لا دليل على انحدار ثقة الإسلام من اصول عربيّة أيضاً ، وربّما قد يستفاد من الكافي نفسه ما يشير عن بعد إلى عدم فارسيّته ، فقد روى بسنده عن محمّد بن الفيض ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام بأنّ « النرجس من ريحان الأعاجم ». ثمّ قال معقّباً : « وأخبرني بعض أصحابنا أنّ الأعاجم كانت تشمّه إن صاموا ، وقالوا : إنّه يمسك الجوع » (٢) ، حيث إنّه لو كان من الأعاجم أصلاً لما احتاج إلى الرواية بنسبة شمّ الريحان إليهم ، بل يؤكّده بنفسه ؛ لعدم خفاء ذلك على من انحدر منهم ، ولكنّه دليل ضعيف.

سادساً ـ وفاته ، تاريخها ومكانها :

١ ـ تاريخ الوفاة :

اختلف العلماء في ضبط تاريخ وفاته على قولين ، هما :

الأوّل ـ تحديد تاريخ الوفاة بسنة ( ٣٢٨ هـ ) ، قال الشيخ الطوسي في الفهرست : « توفّي محمّد بن يعقوب سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ببغداد ، ودفن بباب الكوفة في‌

__________________

(١) روضات الجنّات ، ج ٦ ، ص ١٠٨ ؛ شرح اصول الكافي ، للمظفّر ، ج ١ ، ص ١٣.

(٢) الكافي ، كتاب الصيام ، باب الطيب والريحان للصائم ، ح ٦٤٣٣.

٣٧

مقبرتها » (١). وتابعه على ذلك السيّد ابن طاووس (٢) ، واختاره من العامّة ابن ماكولا (٣) ، وابن عساكر الدمشقي (٤) ، وغيرهما.

الثاني ـ تحديد تاريخ الوفاة بسنة ( ٣٢٩ هـ ) ، وهو القول الثاني للشيخ الطوسي ، قال في الرجال : « مات سنة تسع وعشرين وثلاثمائة في شعبان ببغداد ، ودفن بباب الكوفة » (٥). واختاره النجاشي ، قال : « ومات أبو جعفر الكليني رحمه‌الله ببغداد ، سنة تسع وعشرين وثلاثمائة سنة تناثر النجوم ، وصلّى عليه محمّد بن جعفر الحسني أبو قيراط » (٦). وذهب إلى هذا القول من العامّة أبو الفداء (٧) ، وإسماعيل باشا البغدادي (٨).

وهذا القول هو الراجح ؛ لجملة من الامور ، هي :

أ ـ إنّ أسبق مصادر القول الأوّل الذي حدّد وفاة الكليني رحمه‌الله بسنة ( ٣٢٨ هـ ) هو فهرست الشيخ الطوسي ، ولا يبعد أن يكون هو المصدر الأساس لبقية الكتب التي حدّدت الوفاة بتلك السنة ، سواءً كانت شيعيّة أو غيرها.

ب ـ المشهور هو أنّ الشيخ الطوسي ألّف كتاب الفهرست قبل كتاب الرجال ، وهذا يعني أنّ قوله في الرجال الموافق لقول النجاشي بمثابة الرجوع عن قوله السابق.

ج ـ توفّر القرينة الدالّة على صحّة سنة ( ٣٢٩ هـ ) ، وهي ذكر شهر الوفاة ، وهو شهر شعبان كما مرّ في كلام الشيخ الطوسي في رجاله ، في حين تفتقر سنة ( ٣٢٨ هـ ) إلى مثل هذا التحديد.

جدير بالذكر أنّ شهر شعبان من سنة ( ٣٢٩ ه‍. ق ) يصادف شهر مايس من سنة ٩٤١ م ، وشهر أرديبهشت من سنة ( ٣٢٢ ه‍. ش ).

__________________

(١) الفهرست للطوسي ، ص ١٣٥ ، الرقم ٥٩١.

(٢) كشف المحجّة لثمرة المهجة ، ص ١٥٩.

(٣) إكمال الأكمال ، ج ٧ ، ص ١٨٦.

(٤) تاريخ دمشق ، ج ٥٦ ، ص ٢٩٨ ، الرقم ٧١٢٦.

(٥) رجال الطوسي ، ص ٤٣٩ ، الرقم ٦٢٧٧.

(٦) رجال النجاشي ، ص ٣٧٧ ، الرقم ١٠٢٦.

(٧) تاريخ أبي الفداء ، ج ١ ، ص ٤١٩.

(٨) هدية العارفين في أسماء المؤلّفين وآثار المصنّفين ، ج ٦ ، ص ٣٥.

٣٨

٢ ـ مكان الوفاة :

اتّفق الكلّ على أنّ وفاته كانت ببغداد ، ولم أجد المخالف في هذا إلاّما كان من أحمد أمين المصري ( ١٣٧٣ هـ ) الذي زعم أنّ وفاة الكليني بالكوفة (١). والمعروف عن أحمد أمين أنّه لم يطّلع على كتب الشيعة في خصوص معرفة عقائدهم وأعلامهم.

وخرجت جموع الشيعة ببغداد في ذلك اليوم الحزين لتلقي نظرة الوداع الأخيرة إلى جثمان عالمها وفقيهها ومحدّثها الشيخ الكليني رحمه‌الله ، واحتشدت بخشوع ليؤمّها في الصلاة نقيب الطالبيّين ببغداد السيّد محمّد بن جعفر الحسني المعروف بأبي قيراط ، ثمّ نقلته بعد ذلك إلى مثواه الأخير.

جدير بالذكر ، أنّه قد شهدت بغداد وغيرها في سنة ( ٣٢٩ هـ ) وفيات عدد من أقطاب الإماميّة ، كالشيخ الصدوق الأوّل ، والسفير الرابع الشيخ عليّ بن محمّد السمري ، كما مات فيها عدد جمّ من علماء الطوائف والمذاهب الاخرى من فقهاء ومتكلّمين ومحدّثين ، حتّى سمّيت تلك السنة بسنة موت العلماء ، وحصل في تلك السنة من الأحداث ما لم يعهد مثله ، كتناثر النجوم فيما قاله النجاشي ، مع مطر عظيم ، ورعد هائل ، وبرق شديد فيما قاله الخطيب البغدادي (٢) ، ممّا يدلّ على شؤم تلك السنة.

٣ ـ قبره :

يُعلم ممّا تقدّم أنّ مكان قبر الكليني في الجانب الغربي من بغداد ؛ لتصريح الشيخ الطوسي وغيره بأنّه دفن ببغداد في مقبرة باب الكوفة ، قرب صراة الطائي ، وقد رأى الشيخ أحمد بن عبدالواحد المعروف بابن عبدون ( م ٤٢٣ هـ ) أحد مشايخ الشيخ الطوسي والنجاشي ، قبر الشيخ الكليني في صراة الطائي وعليه لوح مكتوب فيه اسمه واسم أبيه.

وصراة الطائي اسم لنهرين ببغداد وكلاهما في الجانب الغربي من بغداد ؛ أحدهما : يسمّى الصراة العظمى ، أو الصراة العليا. والآخر : يسمّى الصراة الصغرى ، أو الصراة‌

__________________

(١) ضحى الإسلام ، ج ٣ ، ص ٢٦٧.

(٢) تاريخ بغداد ، ج ١ ، ص ٩٣.

٣٩

السفلى ، ومنبعهما من نهر عيسى الأعظم الذي يأخذ ماءه من جنوب بغداد ، وتحديداً من المنطقة المسمّاة حالياً بجزيرة بغداد.

ولكنّ القبر المنسوب إلى الشيخ الكليني رحمه‌الله يقع اليوم في منطقة الرصافة على الضفّة الشرقيّة لنهر دجلة ، وبالضبط في جامع الصفويّة سابقاً ، والآصفيّة حالياً!! جنب المدرسة المستنصريّة على يمين العابر من الكرخ إلى الرصافة على جسر المأمون الحالي ، ولا يفصل هذا الجامع عن نهر دجلة إلاّبضعة أمتار ، وإلى جانبه قبر آخر في الجامع نفسه.

وقد تعرّض القبر المذكور إلى محاولة هدمه في زمان العثمانيّين ، وحُفر القبر في زمانهم ، فوجدوا الشيخ بكفنه وكأنّه دُفِن قبل ساعات ، ثمّ شُيِّد القبر وبُنيت عليه قبّة عالية. وتعرّض للهدم أيضاً في عهد الاحتلال الانجليزي للعراق ، فانتفض الشيعة تجاه تلك المحاولة الخسيسة.

٤٠