الكافي - المقدمة

الكافي - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : الحديث وعلومه
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٢٢

١
٢

٣
٤

إرشادات وتوجيهات سماحة آية الله

السيد موسى الشبيري الزنجاني ( دامت بركاته )

بسم الله الرحمن الرحيم‌

قد سألني بعض المشرفين على تصحيح كتاب الكافي الشريف في مؤسسة دارالحديث عن المنهج الصحيح في تصحيح هذا الكتاب وكيفية نقل نسخه المختلفة ، فرأيت من المناسب الإشارة إلى نكت تنبغي مراعاتها في تصحيح الكتب الحديثيّة خصوصاً هذا الكتاب :

١. بعد اختيار النسخ المعتبرة ، من الضروري نقل جميع نسخ البدل التي يحتمل صحّتها حتى وإن لم يكن لها تأثير على المعنى على ما يبدو. نعم يتحاشى عن نقل النسخ الخاطئة التي يكون خطؤها واضحاً جليّاً ولا تترتّب فائدة على نقلها ، وأمّا الاختلافات الاخرى فاللازم نقلها لما يلي :

أ. قداسة كلام المعصومين عليهم‌السلام وأهميّته الفائقة تستدعي الحفاظ على ألفاظ الحديث قدر الإمكان ، ولهذا يلزم نقل كل ما يحتمل صدوره عن تلك الشخصيات العظيمة.

ب. نقل بعض النسخ دون غيرها ـ والذي يكون على أساس استنباط مصحّح الكتاب ـ يوجب الحطّ من قيمة الكتاب ، كما يسدّ الطريق على بقية الباحثين ، فمن الممكن أن يستظهر بعض الباحثين صحّة نسخة اخرى غير ما اوردت في المتن ، فمن دون نقل النسخ المعتبرة لا تتهيّأ الأرضية لأمثال هذه الأبحاث.

ج. النسخ التي تبدو أنّها غير مؤثّرة على المعنى لأوّل وهلة ، قد تكون مؤثّرة عليه عند البحث الدقيق.

٢. من المفيد ذكر بعض الأمثلة للاختلافات التي يبدو عدم تأثيرها على المعنى ، مع أنّ الواقع بخلافه :

أ. في كتابة اسم « محمّد بن علي بن الحنفية » ربما يغفل عن وجود الفرق بين كتابته بهذا الشكل أو بالشكل التالي : « محمّد بن علي ابن الحنفية » ( أي بالألف ) ، مع أنّ « ابن الحنفية » في العنوان الثاني وصف لمحمّد لا لعلي ، وبما أنّ « الحنفية » ليس اسماً لُامّ علي عليه‌السلام بل هو وصف لُامّ محمّد ، فالصحيح أن يكتب « محمّد بن علي ابن الحنفية » بالألف.

٥

وبهذا تتبيّن أهمّية ذكر الاختلافات في مثل ذلك فيما لو وردت كلتا العبارتين في النسخ المخطوطة.

ب. المثال الآخر شبيه بالمثال السابق وهو عنوان « أحمد بن محمّد بن سعيد ابن عقدة » فاللازم إثبات الف ابن ـ قبل عقدة ـ حيث أنّ « عقدة » لقب محمّد ( والد أحمد ) وليس اسماً لوالد سعيد كما يبدو لأوّل وهلة ، فلو حصلنا على نسخة لهذا العنوان مع إثبات الألف فاللازم الاهتمام بها.

ج. نقرأ في باب أصحاب الصادق من كتاب رجال الشيخ الطوسي ( ص ١٣٣ ، الرقم ١٣٧٦ / ٥٥ ) العبارة التالية : « الحجّاج بن أرطاة أبو أرطاة النخعي الكوفي ، مات بالري في زمن أبي جعفر » وقد نقله الشيخ المامقاني رحمه‌الله في تنقيح المقال ، ج ١٨ ، ص ١١ مضيفاً إلى أبي جعفر عبارة « عليه‌السلام » فاعترض عليه في قاموس الرجال ، ج ٣ ، ص ١١٠ بقوله : « ليس في رجال الشيخ رمز « عليه‌السلام » وكيف؟ والمراد بأبي جعفر فيه المنصور ، لا الباقر عليه‌السلام ... ».

ففي النظر البدوي قد يتصوّر عدم أهمّية نقل اختلافات النسخ في التحيات ، ولكن بالنظر الدقيق تظهر أهمّية نقلها ، ولهذا نلاحظ في إحدى نسخ الاستبصار ( التي تمّ مقابلتها على نسخة المؤلّف ) الخط على لفظة « عليه‌السلام » غالباً ؛ لعدم وجودها في النسخة الأصلية.

٣. يهتمّ الفقهاء والمحدّثون بذكر اختلاف النسخ ، حتى أنّهم قد يشيرون إلى اختلاف نسخ الحديث بالواو والفاء ( على سبيل المثال راجع : روضة المتقين ، ج ٣ ، ص ٢٧٧ ؛ وج ٤ ، ص ٥٤٦ ؛ مرآة العقول ، ج ٤ ، ص ٢٨٥ ؛ الرسائل الأحمدية ، ج ١ ، ص ١٨٧ ) ، بل ربما يبدون هذا الاهتمام في اختلاف نسخ الكتب الفقهية ( جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٥ ؛ وج ١١ ص ١٣٠ ؛ ومسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ٢٤٦ ؛ جواهر الكلام ، ج ١٩ ، ص ٣٢ ) ومن الثمرات المترتّبة على هذا الاختلاف في متن الحديث أنّ لفظ الحديث إذا كان بالفاء ربما أمكن استفادة الحكم العام من التعليل ، وإذا ما ابدلت الفاء واواً لم يبق ما يدلّ على ذلك.

٤. من مشاكل النقل في بعض الجوامع الحديثيّة هو عدم إشارتها إلى جميع اختلافات نسخ الحديث ومصادره ، ففي وسائل الشيعة لا تذكر غالباً اختلافات الكتب الأربعة في نقل الرواية فضلاً عن غيرها من الكتب ، وفي جامع أحاديث الشيعة تذكر خصوص اختلافات الكتب الأربعة في نقل الرواية دون غيرها من المصادر ، فالاعتماد على هذه الجوامع في نقل‌

٦

الرواية وعدم الرجوع إلى أصل المصدر ربما يصير سبباً لاستنتاج خاطئ ، فمثلاً وردت هذه الفقرة في الصحيحة الثانية لزرارة : « قلت : فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شي‌ء أن أنظر فيه؟ قال : لا ... » فربما استنتج منها عدم لزوم الفحص ـ حتى اليسير منه ـ في الشبهات الموضوعية ، إلاّ أنّ هذا الاستنتاج ـ على فرض صحّته ـ مبني على هذه النسخة ، مع أنّ الرواية وردت في علل الشرائع ، ج ٢ ، ص ٣٦١ ، وفيها بعد عبارة « أنظر فيه » زيادة قوله : « فاقلبه » ولا يصحّ الاستنتاج المتقدّم بناء على هذا النقل ، كما هو ظاهر.

راجع : وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ٤٦ ، ح ٤١٩٢ ، باب ٣٧ من أبواب النجاسات ، ح ١ ؛ جامع أحاديث الشيعة ، ج ٢ ، ص ١٦٥ ، ح ١٥٨٨ ، باب ٢٣ من أبواب النجاسات ، ح ٦.

٥. ربما كان الالتفات إلى النسخ الخاطئة نافعاً في معرفة أصل العبارة وكيفية تبديلها إلى النسخ الخاطئة الموجودة بالفعل ، وهذه الفائدة تظهر في أسماء الرواة بشكل أجلى ، وتوضيح ذلك خارج عن نطاق هذا المختصر ولهذا كان من اللازم التوسّع أكثر في بيان اختلاف النسخ فيما يخصّ الأسناد ؛ من أجل فتح الباب أكثر أمام الباحثين في هذا المجال.

٦. إذا أردنا عرض كتبنا الحديثة بشكل مناسب على المستوى العالمي فنظراً لاهتمام المستشرقين بنسخ البدل وما ورد في مخطوطات الكتب ، فإنّ استعراض نسخ البدل بشكل مفصّل سيكون ذا أهمّية بالغة وحيوية وستضفي على الكتاب قيمة أكثر ولا تحطّ من قيمته وأهمّيته تباتاً.

٧. ما ذكرناه من النقاط إنّما هو فيما يتعلّق بنشر الكتب الحديثيّة ك‍ الكافي لانتفاع الباحثين وأهل التحقيق بها ، وأمّا عامّة الناس فلا ينتفعون بنشرها بهذا الشكل ، ولهذا فمن المناسب أن يطبع الكافي بشكلين مختلفين : أحدهما مشتمل على بيان اختلاف النسخ كلّها إلاّ النسخ الواضحة الفساد التي لا يترتّب على نقلها فائدة. ثانيهما طبعة مقصورة على النسخة المختارة من النسخ.

أسأل الله أن يوفّقنا جميعاً لخدمة علوم أهل البيت عليهم‌السلام ونشر معارفهم القيّمة.

٧

٨

تقريظ سماحة آية الله الشيخ جعفر السبحاني ( دامت بركاته )

بسم الله الرحمن الرحيم‌

الحديث الشريف هو الحجة الثانية بعد كتاب الله العزيز في مجالَيْ العقيدة والشريعة ، وقد بذل علماء الإسلام جهوداً كبيرة في سبيل تلقيه وتدوينه وضبطه وتنقيحه ونقله إلى الآخرين ، وبذلك تركوا ثروة علمية قيّمة أضاءت الطريق للأجيال المتعاقبة.

وممن بذل جهوداً جبارة في تدوين حديث النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته الطاهرة عليهم‌السلام هو شيخ المحدثين وأوثقهم أبو جعفر محمد بن يعقوب ، المعروف بالكليني ( ٢٥٠ ـ ٣٢٩ هـ ) ، الّذي ترك أثراً خالداً لا يدانيه أيّ أثر في الشمولية والتنظيم والدقة ، وهو يكشف عن علوّ كعب مؤلّفه في هذا الفن ، ومكانته الرفيعة بين العلماء.

وإليك كلمة الرجاليّ النقّاد الشيخ النجاشي في شأن المؤلِّف ، وسِفره القيّم : شيخ أصحابنا في وقته بالريّ ووجههم ، وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم ، صنّف الكتاب الكبير المعروف الذي يسمّى الكافي في عشرين سنة. (١)

وقد أصبح هذا الكتاب منذ تدوينه ونشره وإلى يومنا هذا ، مرجعاً للعلما ، والفقهاء والمحدثين وغيرهم ، ومحلَّ اهتمامهم وعنايتهم الفائقة. ومن هنا آثرتْ لجنة التحقيق في دار الحديث أن تعدوَ في هذا الميدان ؛ لتحظى بوسام المشاركة فيه ، فأخذت على عاتقها تحقيق هذا الكتاب من جديد ومطابقته على أكثر من سبعين نسخة ، عثروا عليها في مكتبات مختلف البلدان ، وقد بذلت اللجنة كلّ ما في وسعها من جهود لإخراجه إخراجاً نقيّاً عن الغلط ومزداناً بتعاليق تزيل الصعاب من فم المتن ، وتوضِّح ما قد يتبادر فيه من اختلاف ، إلى غير ذلك من جلائل الأعمال وعظيم الجهود.

ونحن إذ نتقدّم إلى اللجنة العلمية في دار الحديث بالشكر والثناء ، ندعو الله سبحانه لهم بالتسديد في أعمالهم وتحقيقاتهم ، كما نبارك لهم هذه الخطوة الهامة الّتي هي باكورة خير لتحقيق سائر الآثار الحديثية للفرقة الناجية. والحمد لله‌رب العالمين‌

جعفر السبحاني‌

مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام

١٠ جمادى الآخرة ١٤٢٩ ه‌ـ

__________________

(١) النجاشي ، ج ٢ ، ص ٢٩٠ ، برقم ١٠٢٧.

٩
١٠

المدخل‌

١. حياة الشيخ الكليني‌

٢. كتاب الكافي‌

٣. عملنا في الكتاب‌

٤. نماذج مصوّرة من المخطوطات‌

١١
١٢

١. حياة الشيخ الكليني‌

١٣
١٤

الأوّل

الحياة السياسيّة والفكريّة في عصر الكلينيّ‌

عاش الكليني قدس‌سره في حقبة حاسمة من تاريخ العصر العبّاسي الثاني ( ٢٣٢ ـ ٣٣٤ هـ ) امتدّت من أوائل النصف الثاني من القرن الثالث الهجري وحتّى نهاية الربع الأوّل من القرن الرابع الهجري وزاد عليها بقليل ، وذلك في مكانين مختلفين ، أوّلهما : موطنه الأساس ( الريّ ) ، وثانيهما : عاصمة الدولة العبّاسيّة بغداد ، حيث أقام بها زهاء عشرين سنة ، الأمر الذي يعني ضرورة تسليط الضوء على أهمّ الجوانب السياسيّة والفكريّة في هاتين الحاضرتين دون غيرهما من الحواضر العلميّة الاخرى المنتشرة في ذلك الزمان في كثير من الأمصار الإسلاميّة والتي وصل الكليني إلى بعضها ، ونقل الحديث عن جملة من مشايخها.

وإذا ما علمنا أنّ الكليني قدس‌سره قد عاش ثلثي عمره تقريباً في الريّ ، والثلث الأخير في بغداد ، وعلمنا أيضاً موقع الريّ الريادي في المشرق الإسلامي يومذاك ، وموقع بغداد بالذات ، وثقلها السياسي والفكري كعاصمة للدولة ، اتّضح أنّ الحديث عنهما بأيّ صعيد كان هو الحديث عن غيرهما بذلك الصعيد نفسه ، ووجود بعض الفوارق الطفيفة لا يبرّر تناولها في عصره السياسي والفكري ، سيّما بعد حصر منابع ثقافته وتطلّعاته في موطنه ومكان إقامته ، وانطلاق شهرته إلى العالم الإسلامي منهما لا غير.

وبما أنّ الحياة السياسيّة والفكريّة لأيّ عصر مرتبطة بماضيها ، فسيكون طرح مرتكزاتها من الحسابات الفكريّة ، وإهمال جذورها التاريخيّة وخيماً على نتائج دراساتها ، ما لم يتمّ الكشف فيها عن نوع ذلك الارتباط ، وهو ما لوحظ باختصار في دراسة عصر الكليني سياسيّاً وفكريّاً في مبحثين :

١٥

المبحث الأوّل

الحياة السياسيّة والفكريّة في الريّ‌

المطلب الأوّل : الحياة السياسيّة في الريّ‌

تُعدّ الريّ من أوّل المدن التي بُنيت في زمان الأكاسرة بعد مدينة ( جيومَرْت ) ، ولمّا طال عليها الأمد جدّد بناءها الملك فيروز ، وسمّاها ( رام فيروز ) (١) ، ولكنّها تعرّضت ـ بعد الفتح الإسلامي ـ للهدم والبناء والتجديد.

ومن المعارك الحاسمة في تاريخها قبل الفتح الإسلامي المعركة التي دارت بين ولدي يزدجرد بالريّ : « فيروز » و « هرمز » (٢). وقد تعرّضت الرىّ لأوّل غزو من العرب قبل الإسلام على يد عمرو بن معدي‌كرب ، ثمّ انصرف منها ومات في كرمنشاه (٣).

هذا قبل فتحها إسلاميّاً ، وأمّا بعد فتحها فقد اختلف المؤرّخون في تاريخ دخول الإسلام بلاد الريّ ، تبعاً لاختلافهم في تاريخ فتحها. والمتحصّل من جميع الأقوال : أنّ تاريخ فتح الريّ مردّد ما بين الفترة من سنة ثمان عشرة وحتّى سنة ثلاث وعشرين.

وقد شهد قاضي الريّ يحيى بن الضريس بن يسار البجلي أبو زكريّا الرازي ( م ٢٠٣ هـ ) على انتقاض الريّ في زماني عمر وعثمان مرّات عديدة (٤). ولا شكّ أنّ انتقاضها وتمرّد أهلها خمس مرّات متعاقبة في أقلّ من عشر سنين يشير بوضوح إلى سوء تصرّف الفاتحين ، كتخريبهم المدينة وهدمها ، وإلاّفالإسلام الذي أبدل عنجهيّة قريش وغيّر من معالم جاهليّتها البغيضة قادر على اجتياح نفوس أهل الريّ بفتح سليم واحد. ولعلّ ما قام به أمير المؤمنين عليه‌السلام يشير إلى هذه الحقيقة ؛ إذ أوقف زحف الجيوش الإسلاميّة ريثما يستتبّ إصلاح الامّة من الداخل ، ومن هنا قام بعزل ولاة عثمان وعيّن ولاة جدداً آخرين مكانهم.

ولم يُؤْثَر عن أهل الريّ طيلة مدّة خلافة أمير المؤمنين الفعليّة وخلافة الحسن‌

__________________

(١) تاريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ٨٣ ؛ الأخبار الطوال ، ص ٣٨ و ٥٩ ؛ معجم البلدان ، ج ٣ ، ص ١١٦.

(٢) تاريخ الطبري ، ج ٢ ، ص ٨٢.

(٣) فتوح البلدان ، ص ٣١٢ ؛ تاريخ الطبري ، ج ٣ ، ص ٣١٢.

(٤) فتوح البلدان ، ص ٣١٠ ؛ البداية والنهاية ، ج ٧ ، ص ١٥٠ ، في حوادث سنة ٢٤ ه‍.

١٦

السبط عليهما‌السلام أيّ انفصال أو انتقاض أو تمرّد يذكر ، بخلاف ما كان عليه حالهم في زماني عمر وعثمان.

وحينما ظهرت دولة الطلقاء من بني اميّة امتدّ نفوذها إلى الريّ ، وَوَلِيَها لمعاوية كثير بن شهاب الحارثي (١).

ومن الحوادث السياسيّة المهمّة التي شهدتها الريّ في أوائل حكم الامويّين قوّة الخوارج المتنامية ، حيث اتّخذها من ارتثّ من الخوارج يوم النهروان موطناً كحيّان بن ظبيان السلمي وجماعته ، الذين شكّلوا فيما بعد حزباً سياسيّاً قويّاً تبادل النصر والهزيمة في معارك طاحنة مع الامويّين.

كما تعرّضت الريّ في أواخر العهد الاموي إلى ثورات الطالبييّن ، فظهر عليها سنة ( ١٢٧ هـ ) عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب ، وسيطر عليها (٢).

وكان آخر ولاة الامويّين على الريّ حبيب بن بديل النهشلي الذي خرج من الريّ ومن معه من أهل الشام خشية من جيوش العبّاسيّين بقيادة الحسن بن قحطبة بن شبيب ، فأخلاها له ولحق بالشام ودخلها ابن قحطبة ( سنة ١٣١ ه‍ ). وهكذا انتهت فترة حكم الامويّين على بلاد الريّ قبل قيام الدولة العبّاسيّة بسنة واحدة.

ثمّ نالت الريّ بعد ذلك اهتمام بني العبّاس ورعايتهم ؛ نظراً لموقعها الجغرافي المميّز ، ففي سنة ( ١٤١ هـ ) نزل المهدي العبّاسي بالريّ ومكث بها سنتين ، وأمر ببناء مدينة الريّ ، واكتملت عمارتها سنة ( ١٥٨ هـ ) وبها ولد له ابنه هارون الرشيد.

وفي سنة ( ١٨٩ هـ ) سار هارون الرشيد إلى الريّ وأقام بها أربعة أشهر ، وكان قد أعطى ولاية العهد لابنه محمّد الملقّب بالأمين وولاّه الريّ وخراسان وما اتّصل بذلك.

ومن الحوادث المهمّة التي شهدتها الريّ في العصر العبّاسي الأوّل انتصار طاهر بن الحسين قائد المأمون على جند أخيه الأمين بقيادة عليّ بن عيسى بن ماهان قرب الريّ سنة ( ١٩٥ ه‍ ). وقد كافأ المأمون أهل الريّ لوقوفهم معه ضدّ أخيه الأمين.

__________________

(١) فتوح البلدان ، ص ٣١٠ ؛ الإصابة في تمييز الصحابة ، ج ٥ ، ص ٤٢٧ ، الرقم ٧٤٩٣.

(٢) تاريخ الطبري ، ج ٧ ، ص ٣٠٣ و ٣٧١ ؛ الكامل في التاريخ ، ج ٥ ، ص ٧ ، في حوادث سنة ١٢٧ ه‍.

١٧

ثمّ لتعسّف السلطة العبّاسيّة تفجّرت الثورات العلويّة في أماكن شتّى ، واستجاب أهل الريّ لتلك الثورات ، وأسهموا فيها بشكل كبير ، ففي زمان المعتصم ( ٢١٨ ـ ٢٢٧ هـ ) استجاب أكثر أهل الريّ لثورة محمّد بن القاسم بن عليّ بن عمر بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام الذي ظهر في زمان المعتصم بطالقان.

وفي زمان المستعين ( ٢٤٨ ـ ٢٥٢ هـ ) أنشأ الحسن بن زيد العلوي الدولة العلويّة في طبرستان ، وسرعان ما امتدّ نفوذها إلى الريّ. ولم يدم الأمر هكذا ، إذ تمكّن قوّاد المعتزّ ( ٢٥٢ ـ ٢٥٥ هـ ) من الترك في أواخر عهده من السيطرة على الريّ في سنة ( ٢٥٥ هـ ) ، وخضعت الريّ إلى سلطة الأتراك وتعاقب ولاتهم عليها حتّى حدثت وقعة عظيمة في الريّ بين إسماعيل بن أحمد الساماني ومحمّد بن هارون في سنة ( ٢٨٩ هـ ) وانتهت بهزيمة ابن هارون ودخول السامانيّين إلى الريّ وبسط نفوذهم وسلطتهم عليها. وهكذا استمرّ حكم الريّ بيد السامانيّين ، ولم ينقطع حكمهم عليها إلاّفي فترات قليلة.

ولم يلبث حال الريّ عرضة للأطراف المتنازعة عليها إلى أن تمكّن أبو عليّ بن محمّد بن المظفّر صاحب جيوش خراسان للسامانيّين من دخول الريّ سنة ( ٣٢٩ ه‍ ).

ولم يستتب أمر الريّ بيدّ البويهيّين ؛ إذ نازعهم عليها الخراسانيّون من السامانيّين ، إلى أن تمكّن البويهيّون بقيادة ركن الدولة البويهي من الريّ ، فانتزعوها من أيدي السامانيّين في سنة ( ٣٣٥ هـ ) (١) ، أي بعد ستّ سنين على وفاة ثقة الإسلام الكليني ببغداد.

وبهذا نكون قد توفّرنا على الإطار السياسي الواضح الذي كان يلفّ الريّ منذ فتحها الإسلامي وإلى نهاية عصر الكليني الذي احتضن ثقة الإسلام زماناً ومكاناً.

المطلب الثاني : الحياة الثقافيّة والفكريّة في الريّ‌

امتازت الريّ عن غيرها من بلاد فارس بموقعها الجغرافي ، وأهمّيّتها الاقتصاديّة ، فهي كثيرة الخيرات ، وافرة الغلاّت ، عذبة الماء ، نقيّة الهواء ، مع بُعدها عن مركز الخلافة العبّاسيّة ببغداد ، زيادة على كونها بوّابة للشرق في حركات الفتح الإسلامي ، ومَتجراً مهمّاً في ذلك الحين.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ، ج ٧ ، ص ٢١٩ ؛ البداية والنهاية ، ج ١١ ، ص ٢٤٤.

١٨

ولشهرة الريّ وموقعها قصدها بعض الصحابة (١) وكبار التابعين وتابعيهم ، كسعيد بن جبير ، حيث كانت له رحلة شملت مدينة الريّ ، والتقى به الضحّاك ( م ١٠٥ هـ ) وكتب عنه التفسير في الريّ (٢). ووصل الشعبي ( م ١٠٣ هـ ) إلى الريّ ليدخل على الحجّاج يوم كان عاملاً لطاغية عصره عبدالملك بن مروان على الريّ (٣). كما دخلها سفيان الثوري ( م ١٦١ هـ ) (٤).

ومات في الريّ الكثير من الأعلام والفقهاء والمحدّثين والأدباء والشعراء والقوّاد ، كمحمّد بن الحسن الشيباني ، والكسائي النحوي ، والحجّاج بن أرطاة ، وغيرهم. وكان للشعراء والادباء حضور بارز في تلك المدينة.

المذاهب والاتّجاهات الفكريّة في الريّ :

ضمّت الريّ في تاريخها الإسلامي خليطاً من المذاهب والفرق والتيّارات الفكريّة المتعدّدة ، وكانت جذور هذا الخليط الواسع ممتدّة في تاريخ الريّ ، ممّا نجم عن ذلك ثقل ما وصل إلى زمان الكليني رحمه‌الله من التراث بكلّ مخلّفاته ، والذي ابتعد في كثير منه عن الإسلام روحاً ومعنىً ، ومعرفة كلّ هذا يفسّر لنا سبب طول الزمان الذي استغرقه ثقة الإسلام في تأليف الكافي الذي تقصّى فيه الحقائق ، ودرس الآراء السائدة في مجتمعه ، واستوعب اتّجاهاتها ، ومحّصها بدقّة ، حتّى جاء بالإجابة الشافية على جميع ما كان يحمله تراث الريّ من تساؤلات.

وفيما يأتي استعراض سريع لما شهدته الريّ من مذاهب وفرق وآراء ، وهي :

١ ـ الخوارج :

كان الطابع العام لمجتمع الريّ بعد فتحها الإسلامي هو الدخول التدريجي في الدين الجديد بمعناه الإسلامي العريض ؛ إذ لم تكن هناك مذاهب وفرق ، وإنّما انحصر الأمر في اعتناق الإسلام بإعلان الشهادتين ، ولا يمنع هذا من الميل إلى بعض الاتّجاهات الفكريّة المتطرّفة. ولا غرابة في ذلك ؛ لأنّ قرب العهد بالدين الجديد مع‌

__________________

(١) فتوح البلدان ، ص ٣١١.

(٢) فتوح البلدان ، ص ٣١٢.

(٣) مصنّف ابن أبي شيبة ، ج ٧ ، ص ٢٤٧ ، ح ٢ ؛ فتوح البلدان ، ص ٣١٢.

(٤) الجرح والتعديل ، ج ١ ، ص ١٠٣.

١٩

اختلاط أوراقه بين نظريّتين ، جعل إسلام الرازيّين ـ في ذلك الحين ـ غضّاً طريّاً قابلاً لأن يتأثّر بأيّ اتّجاه ويصطبغ بلونه ، ومن هنا كانت لبقية الخوارج الذين ارتثوا في معركة النهروان سنة ( ٤٠ هـ ) صوت يسمع في بلاد الريّ ، حيث اتّخذوها موطناً ، ومنها خرجت أنصارهم في معاركهم العديدة مع الامويّين.

٢ ـ النواصب :

انتقل النصب ـ وهو عداوة أهل البيت عليهم‌السلام ـ إلى الريّ منذ أن وطأت أقدام الامويّين السلطة بعد صلح الإمام الحسن السبط عليه‌السلام سنة ( ٤١ هـ ) ، حيث سنّ معاوية بدعته في سبّ أمير المؤمنين عليه‌السلام على منابر المسلمين ، وكان منبر الريّ واحداً منها!

ولا شكّ في أنّ بقاء بدعة سبّ الوصيّ عليه‌السلام زهاء ستّين عاماً كافية لأن تنشأ عليها أجيال لا تعرف من إسلامها شيئاً إلاّمن عصم الله.

ونتيجةً لوجود الهوى الاموي السفياني بين أهل الريّ فقد انتشرت في أوساطهم عقيدة الإرجاء ، واستمرّ وجودها إلى زمان ثقة الإسلام الكليني ، تلك العقيدة الخبيثة التي شجّعتها الامويّة ؛ لتكون غطاء شرعيّاً لعبثها في السلطة ، ومبرّراً لاستهتارها بمقدّرات الامّة ، واستباحتها لكلّ حرمة ، ونبذها كتاب الله والسنّة المطهّرة.

٣ ـ المعتزلة :

تأثّرت الريّ كغيرها من مدن الإسلام بآراء المدرستين الآتيتين ، وهما :

١ ـ المدرسة السلفيّة : وهي المدرسة التي كانت تهدف إلى إحياء المفاهيم السلفيّة الموروثة عن السلف وتحكيمها في مناحي الحياة ، ورفض المناظرة والجدل ، ويمثّل هذه المدرسة الفقهاء والمحدّثون من العامّة ، وقد بسطت هذه المدرسة نفوذها على مجمل الحركة الفكريّة في بلاد الإسلام ، إلاّفي فترات محصورة ومحدودة ترجّحت فيها كفّة المدرسة الثانية.

٢ ـ المدرسة العقليّة : وهي المدرسة التي استخدمت المنهج العقلي في فهم وتحليل جملة من النصوص التي تستدعي التوفيق بين أحكام الشرع وأحكام العقل ، وكان روّاد هذه المدرسة الشيعة والمعتزلة ، حيث اعتمدوا المنهج العقلي في تفسير ما لم يرد فيه أثر صحيح.

٢٠